تفسير سورة الغاشية

فتح البيان
تفسير سورة سورة الغاشية من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة الغاشية
هي ست وعشرون آية وهي مكية بلا خلاف، وعن ابن عباس قال نزلت بمكة وعن ابن الزبير مثله، وقد تقدم حديث النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سبح اسم ربك الأعلى والغاشية في صلاة العيد ويوم الجمعة.

(هل أتاك حديث الغاشية) قال جماعة من المفسرين هل هنا بمعنى قد، وبه قال قطرب أي قد جاءك يا محمد، حديث الغاشية وهي القيامة لأنها تغشى الخلائق بأهوالها، وقيل أن بقاء (هل) على معناها الاستفهامي المتضمن للتعجب مما في حيزه والتشويق إلى استماعه أولى.
وقد ذهب إلى أن المراد بالغاشية هنا القيامة أكثر المفسرين، وقال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب الغاشية النار تغشى وجوه الكفار كما في قوله (وتغشى وجوههم النار) وقيل الغاشية أهل النار لأنهم يغشونها ويقتحمونها، والأول أولى.
قال الكلبي المعنى إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك قال ابن عباس: الغاشية من أسماء القيامة وعنه قال الغاشية الساعة، وفي المصباح الغشاء الغطاء ويقال أن الغشى يعطل القوى المحركة والأوردة الحساسة لضعف القلب بسبب وجع شديد أو برد أو جوع مفرط، وقيل الغشي هو الإغماء وقيل الإغماد امتلاء بطون الدماغ من بلغم بارد غليظ وقيل الإغماء سهو يلحق الإنسان مع فتور الأعضاء لعلة، وغشيته أغشاه من باب تعب أتيته، والاسم الغشيان بالكسر.
199
وجملة
200
(وجوه يومئذ خاشعة) مستأنفة جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما هو أو مستأنفة استئنافاً نحوياً لبيان ما تضمنته من كون ثم وجوه في ذلك اليوم متصفة بهذه الصفات المذكورة، ووجوه مرتفع على الابتداء وإن كان نكرة لوقوعه في مقام التفصيل، وقد تقدم مثل هذا في سورة القيامة وفي سورة النازعات.
والتنوين في يومئذ عوض عن المضاف إليه أي يوم غشيان الغاشية، والخاشعة الذليلة الخاضعة وكل متضائل ساكن يقال له خاشع، يقال خشع الصوت إذا خفي، وخشع في صلاته إذا تذلل ونكس رأسه، والمراد بالوجوه هنا أصحابها قال المحلي عبر بها عن الذوات في الموضعين أي بالجزء عن الكل، وخص الوجه لأنه أشرف أعضاء الإنسان ولأن الذل يظهر عليه أولاً دون غيره، قال مقاتل يعني الكفار لأنهم تكبروا عن عبادة الله، قال قتادة وابن زيد خاشعة في النار.
وقيل أراد وجوه اليهود والنصارى على الخصوص، والأول أولى، وفي البحر: الآية نزلت في القسيسين وعباد الأوثان، وفي كل مجتهد في كفر.
(عاملة) أي أنها تعمل عملاً شاقاً، قال أهل اللغة يقال للرجل إذا دأب في سيره عمل يعمل عملاً، ويقال للسحاب إذا دام برقه قد عمل يعمل عملاً، قيل وهذا العمل هو جر السلاسل والأغلال والخوض في النار والصعود والهبوط في تلالها ووهادها.
(ناصبة) أي تعبة يقال نصب بالكسر ينصب نصباً إذا تعب، والمعنى أنها في الآخرة تعبة لما تلاقيه من عذاب الله، وقيل أن قوله (عاملة) في الدنيا إذ لا عمل في الآخرة أي تعمل في الدنيا بالكفر والمعاصي، وتنصب في ذلك، وقيل إنها (عاملة) في الدنيا (ناصبة) في الآخرة، والأول أولى.
قال قتادة عاملة ناصبة تكبرت في الدنيا عن طاعة الله فأعملها الله
200
وأنصبها في النار بجر السلاسل الثقال، وحمل الأغلال، والوقوف حفاة عراة في العرصات (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة).
قال الحسن وسعيد بن جبير: لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب فاعملها وانصبها في جهنم، قال الكلبي: يجرون على وجوههم في جهنم، وقال أيضاًً يكلفون ارتقاء جبل من حديد في جهنم فينصبون فيها أشد ما يكون من النصب بمعالجة السلاسل والأغلال والخوض في النار كما تخوض الإبل في الوحل.
قال ابن عباس: (عاملة ناصبة) تعمل وتنصب، وعنه قال يعني اليهود والنصارى تخشع ولا ينفعها عملها، قرأ الجمهور (عاملة ناصبة) بالرفع فيهما على أنهما خبران آخران للمبتدأ أو على تقدير مبتدأ وهما خبران له، وقرىء بنصبهما على الحال أو على الذم.
وقوله
201
(تصلى ناراً حامية) خبر آخر للمبتدأ أي تدخل ناراً متناهية في الحر، يقال حمى النار وحمى التنور أي اشتد حرهما، قال الكسائي يقال اشتد حمى النهار وحموه بمعنى، والمعنى قد أحميت وأوقد عليها مدة طويلة، وفي الحديث " أحمى عليها ألف سنة حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف سنة حتى أبيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة ".
قرأ الجمهور تصلى بفتح التاء مبنياً للفاعل وقرىء بضمها مبنياً للمفعول وبضم التاء وفتح الصاد وتشديد اللام، والضمير راجع إلى الوجوه على جميع هذه القراآت السبعية، والمراد أصحابها كما تقدم.
وهكذا الضمير في
(تسقى من عين آنية) أي متناهية في الحر، والآني الذي قد انتهى حره من الإيناء بمعنى التأخر، يقال آناه يؤنيه إيناء أي أخره وحبسه، كما في قوله (يطوفون بينها وبين حميم آن) قال الواحدي
201
قال المفسرون لو وقعت منها قطرة على جبال الدنيا لذابت، قال ابن عباس هي التي قد طال أينها وقال أيضاً قد أنى غليانها، وعنه قال انتهى حرها.
ولما ذكر سبحانه شرابهم عقبه بذكر طعامهم فقال:
202
(ليس لهم طعام إلا من ضريع) هو نوع من الشوك لا ترعاه دابة لخبثه يقال له الشبرق في لسان قريش إذا كان رطباً فإذا يبس فهو الضريع، كذا قال مجاهد، وقتادة وغيرهما من المفسرين، قيل وهو سم قاتل، وإذا يبس لا تقربه دابة ولا ترعاه، وقيل هو شيء يرمى به البحر يسمى الضريع من أقوات الأنعام لا من أقوات الناس، فإذا رعت منه الإبل لا تشبع وتهلك هزالاً. قال الخليل الضريع نبات أخضر منتن الريح يرمى به البحر، وجمهور أهل اللغة والتفسير قالوا بالأول.
وقال سعيد بن جبير: الضريع الحجارة وقيل هو شجرة في نار جهنم، وقال الحسن: هو بعض ما أخفاه الله من العذاب. وقال ابن كيسان: هو طعام يضرعون عنده ويذلون ويتضرعون إلى الله بالخلاص منه، فسمي بذلك لأن آكله يتضرع إلى الله في أن يعفى عنه لكراهته وخشونته، قال النحاس: قد يكون مشتقاً من الضارع وهو الذليل أي من شربه تلحقه ضراعة وذلة، وقال الحسن أيضاًً هو الزقوم وقيل هو واد في جهنم.
وقد تقدم في سورة الحاقة (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (٣٥) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) والغسلين غير الضريع كما تقدم، وجمع بين الآيتين بأن النار دركات، والعذاب ألوان والمعذبون طبقات، فمنهم من طعامه الضريع، ومنهم من طعامه الغسلين، ومنهم من طعامه الزقوم، فلا تناقض بين هذه الآيات.
قال ابن عباس الضريع الشبرق، وقال أيضاًً شجر من نار، وعنه قال الشبرق اليابس.
202
لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (١٠) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (١١) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (١٢) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥)
ثم وصف سبحانه الضريع فقال:
203
(لا يسمن ولا يغني من جوع) أي لا يسمن الضريع آكله ولا يدفع عنه ما به من الجوع يعني هما منفعتا الغذاء وكلاهما منتفيان عنه.
قال المفسرون: لما نزلت ليس لهم طعام الخ قال المشركون إن إبلنا تسمن من الضريع فنزلت (لا يسمن ولا يغني من جوع) وكذبوا في قولهم هذا فإن الإبل لا تأكل الضريع ولا تقربه، وقيل اشتبه عليهم أمره فظنوه كغيره من النبات النافع.
قال أبو السعود وتحقيق ذلك أن جوعهم وعطشهم ليسا من قبيل ما هو المعهود منهما في هذه النشأة من حالة عارضة للإِنسان عند استدعاء الطبيعة إلى المطعوم والمشروب بحيث يلتذ بهما عند الأكل والشرب، ويستغنى بهما عن غيرهما عند استقرارهما في المعدة ويستفيد منهما قوة وسمناً عند انهضامهما، بل جوعهم عبارة عن اضطرارهم عند إضرام النار في أحشائهم إلى إدخال شيء كثيف يملؤها ويخرج ما فيها من اللهب، وأما أن يكون لهم شوق إلى مطعوم ما أو التذاذ به عند الأكل واستغناء به عن الغير أو استفادة قوة فهيهات.
وكذا عطشهم عبارة عن اضطرارهم عند أكل الضريع والتهابه في بطونهم إلى شيء مائع بارد يطفئه من غير أن يكون لهم التذاذ بشربه أو استفادة قوة في الجملة، وهو المعنى بما روي أنه تعالى يسلط عليهم الجوع بحيث يضطرهم
203
إلى أكل الضريع. فإذا أكلوه يسلط عليهم العطش فيضطرهم إلى شرب الحميم فيشوي وجوههم ويقطع أمعاءهم.
وتنكير الجوع للتحقير أي لا يغني من جوع ما.
ثم شرع سبحانه في بيان حال أهل الجنة بعد الفراغ من بيان حال أهل النار فقال
204
(وجوه يومئذ ناعمة) أي ذات نعمة وبهجة في لين العيش، وهي وجوه المؤمنين صارت ناعمة لما شاهدوا من عاقبة أمرهم وما أعده الله لهم من الخير الذي يفوق الوصف، ومثله قوله (تعرف في وجوههم نضرة النعيم) والمراد بالوجوه هنا أصحابها كما تقدم.
ثم قال
(لسعيها راضية) أي لعملها الذي عملته في الدنيا راضية لأنها قد أعطيت من الأجر ما أرضاها وقرت به عيونها.
(في جنة عالية) أي عالية المكان مرتفعة على غيرها من الأمكنة أو عالية القدر لأن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
(لا تسمع فيها لاغية) قرأ الجمهور بفتح الفوقية ونصب لاغية أي لا تسمع أنت أيها المخاطب أو لا تسمع تلك الوجوه وقرىء بضم التحتية مبنياً للمفعول ورفع لاغية، وقرىء بالفوقية مضمومة ورفع لاغية وقرىء بفتح التحتية مبنياً للفاعل ونصب لاغية. واللغو الكلام الساقط.
قال الفراء والأخفش: أي لا تسمع فيها كلمة لغو قيل المراد بذلك الكذب والبهتان والكفر، قاله قتادة وقال مجاهد أي الشتم، وقال الفراء لا تسمع فيها حالفاً يحلف بكذب، قال الكلبي لا تسمع في الجنة حالفاً بيمين برة ولا فاجرة، وقال الفراء أيضاً لا تسمع في كلام أهل الجنة كلمة تلغى لأنهم لا يتكلمون إلا بالحكمة وحمد الله تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم، وهذا أرجح الأقوال لأن النكرة في سياق النفي من صيغ العموم ولا وجه لتخصيص هذا بنوع من اللغو خاص إلا بمخصص يصلح للتخصيص.
ولاغية إما صفة موصوف محذوف أي كلمة لاغية أو جماعة لاغية أو
204
نفس لاغية أو مصدر أي لا تسمع فيها لغواً قال ابن عباس لا تسمع أذى ولا باطلاً.
205
(فيها عين جارية) قد تقدم في سورة الإنسان أن فيها عيوناً، والعين هنا بمعنى العيون كما في قوله (علمت نفس) ومعنى جري العين أنها تجري مياهها على وجه الأرض في غير أخدود تتدفق بأنواع الأشربة المستلذة لا ينقطع جريها أبداً، قال الكلبي لا أدري بماء أو بغيره.
(فيها سرر مرفوعة) أي عالية مرتفعة السمك أو عالية القدر أو شريفة الذات قال ابن عباس بعضها فوق بعض.
(وأكواب موضوعة) قد تقدم أن الأكواب جمع كوب وأنه القدح الذي لا عروة له ولا خرطوم أي أنها موضوعة بين أيديهم يشربون منها أو معدة لأهلها أو موضوعة على حافات العين الجارية أو موضوعة عن حد الكبر أي هي أوساط بين الكبر والصغر كقوله (قدروها تقديراً).
(ونمارق مصفوفة) هي الوسائد قال الواحدي في قول الجميع واحدتها نمرقة بضم النون وزاد الفراء سماعاً عن العرب نمرقة بكسرها وهما لغتان أشهرهما الأولى، قال الكلبي وسائد مصفوفة بعضها إلى بعض، ومنه قول الشاعر:
كهول وشبان حسان وجوههم على سرر مصفوفة ونمارق
قال في الصحاح: النمرق والنمرقة وسادة صغيرة وكذلك النمرقة بالكسر لغة حكاها يعقوب وقال ابن عباس: نمارق مجالس، وعنه قال: مرافق، وقيل مساند ومطارح أينما أراد أن يجلس جلس على موسدة واستند إلى الأخرى، قال الواحدي مصفوفة أي فوق الطنافس.
205
وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (٢٦)
206
(وزرابي مبثوثة) يعني البسط العراض الفاخرة واحدها زربى وزربية قال أبو عبيدة والفراء الزرابي الطنافس التي لها خمل رقيق واحدها زربية، وفي القاموس الزرابي النمارق والبسط أو كل ما يبسط ويتكأ عليها: الواحد زربى بالكسر ويضم والمبثوثة المبسوطة قاله قتادة وقال عكرمة بعضها فوق بعض.
قال الواحدي ويجوز أن يكون المعنى أنها متفرقة في المجالس، وبه قال القتيبي، وقال الفراء مبثوثة كثيرة، والظاهر أن معنى البث التفريق مع كثره ومنه (وبث فيها من كل دابة) قال القرطبي وغيره هذا أصح.
(أفلا ينظرون إلى الإِبل كيف خلقت) الاستفهام للتقريع والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر كما في نظائره مما مر غير مرة، والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير أمر البعث والاستدلال عليه، وكذا ما بعدها، وقيل الجملة في محل جر على أنها بدل اشتمال من الإِبل.
والمعنى ينكرون أمر البعث ويستبعدون وقوعه أفلا ينظرون إلى الإِبل التي هي غالب مواشيهم وأكثر ما يشاهدونه من المخلوقات كيف خلقت معدولاً عن سنن خلق سائر أنواع الحيوانات على ما هي عليه من الخلق البديع من عظم جثتها ومزيد قوتها وبديع أوصافها.
قال أبو عمرو بن العلاء إنما خص الإِبل لأنها من ذوات الأربع تبرك
206
فتحمل عليها الحمولة، وغيرها من ذوات الأربع لا يحمل عليه إلا وهو قائم.
قال الزجاج نبههم على عظيم من خلقه قد ذلله للصغير يقوده وينيخه، وينهضه ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك فينهض بثقل حمله، وليس ذلك في شيء من الحوامل غيره فأراهم عظيماً من خلقه ليدل بذلك على توحيده.
وسئل الحسن عن هذه الآية وقيل له الفيل أعظم في الأعجوبة فقال أما الفيل فالعرب بعيدة العهد به، ثم هو خنزير لا يركب ظهره ولا يؤكل لحمه ولا يحلب دره، والإبل من أعز مال العرب وأنفسه يأكل النوى والقت ويخرج اللبن ويأخذ الصبي بزمامها فيذهب بها حيث شاء مع عظمها في نفسها.
وقال المبرد: الإبل هنا هي القطع العظيمة من السحاب، وهو خلاف ما ذكره أهل التفسير واللغة.
وروي عن الأصمعي أنه قال: من قرأ خلقت بالتخفيف عنى به البعير، ومن قرأ بالتشديد عنى به السحاب.
قال أبو السعود: بدأ بالإبل لكثرة منافعها كأكل لحمها وشرب لبنها والحمل عليها والتنقل عليها إلى البلاد البعيدة، وعيشها بأي نبات أكلته كالشجر والشوك وصبرها على العطش عشرة أيام فأكثر، وطواعيتها لكل من قادها ولو صبياً صغيراً ونهوضها وهي باركة بالأحمال الثقيلة وتأثرها بالصوت الحسن مع غلظ أكبادها ولا شيء من الحيوان جمع هذه الأشياء غيرها ولكونها أفضل ما عند العرب جعلوها دية القتل.
والإبل اسم جمع لا واحد له من لفظه وإنما واحده بعير وناقة وجمل.
207
(وإلى السماء كيف رفعت) فوق الأرض بلا عمد على وجه لا يناله الفهم ولا يدركه العقل وقيل رفعت فلا ينالها شيء.
(وإلى الجبال كيف نصبت) على وجه الأرض مرساة راسخة لا تميد
207
ولا تميل ولا تزول
208
(وإلى الأرض كيف سطحت) أي بسطت، والسطح بسط الشيء يقال لظهر البيت إذا كان مستويا سطح، قرأ الجمهور مبنياً للمفعول مخففاً، وقرأ الحسن: مشدداً، وقرأ علي بن أبي طالب وغيره خلقت ورفعت ونصبت وسطحت على البناء للفاعل وضم التاء فيها كلها.
قال المحلي قوله سطحت ظاهر في أن الأرض سطح، وعليه علماء الشرع لا كرة كما قاله أهل الهيئة وإن لم ينقض ركناً من أركان الشرع.
قال الكرخي هي كرة بطبعها وحقيقتها لكن الله أخرجها عن طبعها بفضله وكرمه بتسطيح بعضها لإقامة الحيوانات عليها فأخرجها عما يقتضيه طبعها انتهى.
وفي التكميل للشيخ رفيع الدين ابن ولي الله الدهلوي رحمه الله: أهل الشرائع يفهمون من مثل قوله تعالى (الْأَرْضَ فِرَاشًا)، و (دَحَاهَا)، و (سُطِحَتْ) أنها سطح مستو، والحكماء يثبتون كرويتها بالأدلة الصحيحة فيتوهم الخلاف، ويدفع بأن القدر المحسوس منها في كل بقعة سطح مستو، فإن الدائرة كلما عظمت قل انجذاب أجزائها فاستواؤها باعتبار محسوسية، أجزائها، وكرويتها باعتبار معقولية جملتها انتهى.
ثم لما ذكر تعالى دليل توحيده ولم يعتبروا ولم يتفكروا فيها خاطب نبيه وأمره بأن يذكرهم فقال
(فذكر) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي فعظهم يا محمد وخوفهم، ثم علل الأمر بالتذكير فقال (إنما أنت مذكر) أي ليس عليك إلا ذلك و
(لست عليهم بمصيطر) حتى تكرههم على الإيمان، ومصيطر بالصاد والسين المسلط على الشيء ليشرف عليه ويتعهد أحواله، كذا في الصحاح قال ابن عباس أي بجبار، وعنه قال ثم نسخ ذلك فقال (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم).
(إلا من تولى وكفر) استثناء منقطع من الهاء في عليهم أي لكن من تولى عن الوعظ والتذكير
(فيعذبه الله العذاب الأكبر) وهو عذاب جهنم
208
الدائم، وقيل هو استثناء متصل من قوله (فذكر) أي فذكر كل أحد إلا من انقطع طمعك عن إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر، والأول أولى، وإنما قال الأكبر لأنهم قد عذبوا في الدنيا بالجوع والقحط والقتل والأسر.
وقرأ ابن مسعود (فإنه يعذبه الله) وقرأ ابن عباس وقتادة (ألا من تولى) على أنها ألا التي للتنبيه والاستفتاح.
209
(إن إلينا إيابهم) أي رجوعهم بعد الموت بالبعث لا إلى أحد سوانا لا استقلالاً ولا اشتراكاً وفائدة تقديم الظرف التشديد في الوعيد وأن إيابهم ليس إلا إلى الجبار المقتدر على الانتقام، وقال ابن عباس أي مرجعهم يقال آب يؤوب إذا رجع، قرأ الجمهور إيابهم بالتخفيف وقرىء بالتشديد، قال أبو حاتم لا يجوز التشديد ولو جاز لجاز مثله في الصيام والقيام، وقيل هما لغتان بمعنى، قال الواحدي وأما إيابهم بتشديد الياء فإنه شاذ لم يجزه أحد غير الزجاج.
(ثم إن علينا حسابهم) يعني جزاءهم بعد رجوعهم إلينا بالبعث في المحشر لا على غيرنا وثم للتراخي في الرتبة لا في الزمان لبعد منزلة الحساب في الشدة عن منزلة الإِياب، وعلى لتأكيد الوعيد لا للوجوب إذ لا يجب على الله شيء، وجمع الضمير في إيابهم وحسابهم باعتبار معنى من كما أن أفراده في يعذبه باعتبار لفظها، وفي تصدير الجملتين بإن وتقديم خبرها وعطف الثانية على الأولى بكلمة ثم المفيدة لبعد منزلة الحساب في الشدة من الإنباء عن غاية السخط الموجب لتشديد العذاب ما لا يخفى.
209
سورة الفجر
هي ثلاثون آية وقيل تسع وعشرون وهي مكيّة بلا خلاف في قول الجمهور قال ابن عباس نزلت بمكة وعن ابن الزبير وعائشة مثله، ومدنية في قول علي بن أبي طلحة.
أخرج النسائي عن جابر قال صلى معاذ صلاة فجاء رجل فصلى معه فطول، فصلى في ناحية المسجد ثم انصرف، فبلغ ذلك معاذاً فقال منافق، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، فقال يا رسول الله جئت أصلي معه فطول عليّ فانصرف فصليت في ناحية المسجد، فعلفت ناضحي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: " أفتان أنت يا معاذ، أين أنت من سبح اسم ربك الأعلى والشمس وضحاها والفجر والليل إذا يغشى ".
211

بسم الله الرحمن الرحيم

وَالْفَجْرِ (١) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (٤)
213
Icon