تفسير سورة هود

البسيط للواحدي
تفسير سورة سورة هود من كتاب التفسير البسيط المعروف بـالبسيط للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ

سورة هود

بسم الله الرحمن الرحيم

١ - ﴿الر﴾ قال ابن عباس (١): يريد أنا الله الرحمن. وذكرنا الكلام في تفسير هذا الحرف في فاتحة يونس (٢).
(١) الطبري ١١/ ٩١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٩٤، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٥٣٤، "زاد المسير" ٤/ ٤، ابن عطية ٧/ ٩٤.
(٢) مسألة الحروف المقطعة في أوائل سور القرآن من المسائل التي كثرت فيها أقوال العلماء فسأذكر أبرز أقوالهم بإيجاز، مع تعيين الراجح منها:
القول الأول: أنها من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.
الثاني: أنها حروف كل حرف يرمز إلى معنى، واختلفوا فيما يرمز إليه كل حرف.
الثالث: أنها للتنبيه ولفت نظر المشركين إلى القرآن وتدبره.
الرابع: أنها أسماء السور التي افتتحت بها.
الخامس: أنها من أسماء الله تعالى.
السادس: أنها أقسام أقسم الله بها.
السابع: أنها ذكرت بيانًا لإعجاز القرآن، فمع أن القرآن مركب من هذه الحروف التي يتخاطبون بها ومع ذلك فهم عاجزون عن معارضته بمثله. وهذا هو القول الراجح الذي ذهب إليه جمهور المحققين، ويدل عليه أن السور التي افتتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها دائما عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن، وبيان إعجازه، وأنه الحق الذي لا شك فيه. وممن قال بهذا القول: الفراء، وقطرب، والمبرد، وابن كثير، وابن تيمية، وأبو الحجاج المزي، والزمخشري، وغيرهم.
انظر: الطبري ١/ ٨٦ - ٩٦، البغوي ١/ ٥٨، ٤/ ١٥٩، "زاد المسير" ١/ ٢٠، ابن عطية ١/ ١٣٨ - ١٤١، ابن كثير ١/ ٣٨ - ٤١، الألوسي ١/ ٩٩، المنار ١/ ١٠٣، "أضواء البيان" ٣/ ٣، رسالة "الحروف المقطعة في القرآن"، دراسة ورأي عبد الجبار شرارة.
341
وقوله تعالى ﴿كِتَابٌ﴾، قال الفراء (١): رفعت بالهجاء الذي قبله. قال الزجاج (٢): وهذا غلط (٣)؛ لأنه جعل كتاب خبر ﴿الر﴾ و ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ ليس هو ﴿الر﴾ وحدها، قال الفراء: وإن شئت أضمرت له ما يرفعه، كأنك قلت: هذا كتاب، ووافقه الزجاج على هذا القول.
وقول تعالى: ﴿أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾، ذكرنا أن معنى الإحكام في اللغة منع الفعل من الفساد (٤)، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أحكمت آياته: أي لم تنسخ بكتاب كما نسخت الكتب والشرائع بها، وقال قتادة (٥) ومقاتل (٦): أحكمت آياته من الباطل.
قال ابن الأنباري (٧): فعلى قول الكلبي: المعنى أحكمت بعض آياته بأن جعل ناسخا غير منسوخ، وما نسخ من القرآن لا يدخل في هذا الإحكام، وأوقعت الآيات على بعضها على مذهب العرب في إيقاع اسم
(١) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣.
(٢) "معاني القرآن إعرابه" للزجاج ٣/ ٣٧.
(٣) وتعقب هذا القول أيضًا الطبري ١١/ ١٧٩ فقال: "فأما قول من زعم أن قوله ﴿الر﴾ مراد به سائر حروف المعجم التي نزل بها القرآن، وجعلت هذه الحروف دلالة على جميعها، وأن معنى الكلام: "هذه الحروف كتاب أحكمت آياته" فإن الكتاب على قوله ينبغي أن يكون مرفوعًا بقوله: ﴿الر﴾ اهـ.
(٤) انظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٨٨٦ (حكم)، "مقاييس اللغة" ٢/ ٩١، "لسان العرب" ٢/ ٩٥٢ (حكم).
(٥) الطبري ١١/ ١٨٠، وعبد الرزاق ٢/ ٣٠١، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٩٥، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٥٧٨، و"زاد المسير" ٤/ ٧٣، والبغوي ٤/ ١٥٩.
(٦) تفسير مقاتل ١٤٣ ب، الثعلبي ٧/ ٣٢ ب، "زاد المسير" ٤/ ٧٣.
(٧) انظر: "زاد المسير" ٤/ ٧٤.
342
الجنس علي النوع حين يقولون: أكلت طعام (١) زيد، يعنون بعض طعامه، وعلى قول قتادة تلخيص معنى الآية: أحكمت آياته بعجيب النظم، وبديع المعاني، ورصين اللفظ الذي يحسم طمع كل مفتر في التشبيه به، وآيات القرآن كلها معجزة غير مقدور على مثلها لبديع نظمها.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾ قال ابن عباس (٢) في رواية الكلبي: بينت بالأحكام من الحلال والحرام، وهو قول قتادة (٣).
وقال الحسن (٤): فصلت بالثواب والعقاب، وهو معنى قول أبي العالية (٥): بالوعد والوعيد.
قال أبو إسحاق (٦): المعنى -والله أعلم-: إن آياته أحكمت وفصلت بجميع ما يحتاج إليه من الدلالة على التوحيد وتثبيت نبوة الأنبياء وإقامة الشرائع.
وقوله تعالى: ﴿مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾، قال ابن عباس (٧): من عند حكيم في خلقه، خبير بمن يصدق نبيه ويوحده، وبمن يكذب نبيه ويتخذ
(١) في (ي): (الطعام).
(٢) "تنوير المقباس" ١٣٨، "زاد المسير" ٤/ ٧٤، البغوي ٤/ ١٥٩.
(٣) الطبري ١١/ ١٨٠، وابن أبي حاتم ٦/ ١٩٥٩، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٥٧٨.
(٤) الطبري ١١/ ١٧٩، الثعلبي ٧/ ٥٣٢، ابن أبي حاتم ٦/ ١٩٩٥، ابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٥٧٨، "زاد المسير" ٤/ ٧٤.
(٥) الثعلبي ٧/ ٣٢ ب، القرطبي ٩/ ٣.
(٦) "معانى القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٧.
(٧) "تنوير المقباس" ١٣٨ بمعناه.
343
معه إلهًا.
٢ - قوله تعالى: ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾، قال الزجاج (١): [المعنى أحكمت وفصلت لئلا تعبدوا إلا الله، وهو معنى قول الفراء (٢)، وقال الزجاج (٣)] (٤)، ويجوز أن يكون المعنى: أمركم ألا تعبدوا إلا الله، وموضع (أن) نصب على كل حال (٥).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّنِي لَكُمْ﴾، قال صاحب النظم (٦): هذا مضاف إلى النبي - ﷺ -، ولو كان الخطاب عن الله تعالى لقال إنه لكم، والتأويل في النظم: قل لهم يا محمد ﴿الر كِتَابٌ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾ إلي قوله: ﴿فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾، فهذا كله من كلام النبي - ﷺ - مأمورًا به أن يقوله، وقد قيل: إن نظمه مثل نظم قوله: ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ﴾ [إبراهيم: ١] الآية.. وعلى تأويل] (٧) ﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ﴾ ليقول للناس ويأمرهم ألا يعبدوا إلا الله.
٣ - قوله تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ﴾ الآية، (أن) هذه معطوفة على (أن) في قوله (أن لا تعبدوا)، وهي في محل النصب بإلقاء الخافض في
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٨.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٣.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٨.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٥) أي على القولين وأنها منصوبة.
(٦) هو: أبو علي الحسن بن يحيى بن نصر الجرجاني،
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
344
قول الفراء (١) والزجاج (٢).
وقال الكسائي (٣) في قوله ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا﴾: التقدير فيه (بأن لا تعبدوا) و (بأن استغفروا)، وعلى هذا الجار يتعلق بالنكرة الموصوفة وهي قوله ﴿كِتَابٌ﴾ كأنه قيل كتاب بهذا، وما بعد قوله ﴿كِتَابٌ﴾ إلى قوله ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا﴾ من صفة النكرة، ويعود التأويل إلى ما قاله الفراء (٤): كتاب فصلت آياته بأن لا تعبدوا، وبأن استغفروا ثم ألقى الخافض (٥).
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾، قال أهل المعاني (٦): إنما رتبت التوبة بعد الاستغفار؛ لأن المعنى اطلبوا المغفرة تم توصلوا إلى مطلوبكم بالتوبة (٧)، فالمغفرة أول في الطلب وآخر في السبب، وقيل: المعنى استغفروا ربكم من ذنوبكم السالفة، ثم توبوا من المستأنفة متى وقعت منكم المعصية. وحكي عن الفراء (٨) أنه قال: ﴿ثُمَّ﴾ هاهنا بمعنى الواو، ومعناه: وتوبوا إليه.
وقوله تعالى: ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾، قال ابن عباس (٩):
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٣.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٨.
(٣) "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٢٧٢.
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٣.
(٥) ما سبق موجود في الثعلبي ٧/ ٣٢ بمعناه.
(٦) القرطبي ٩/ ٣ بنحوه، "فتح القدير" ٢/ ٦٩٥.
(٧) في (ي): (بالمغفرة فالتوبة).
(٨) البغوي ٦/ ١٥٩، "زاد المسير" ٤/ ٧٥، الثعلبي ٧/ ٣٢.
(٩) "زاد الميسر" ٤/ ٧٥.
345
[في رواية عطاء] (١): يريد أن يتفضل عليكم بالرزق والسعة (٢) حلالًا طيبًا إلى أجل الموت، قال مقاتل (٣): فأبوا، فدعا عليهم رسول الله - ﷺ - (٤) وابتلوا بالقحط سبع سنين حتى أكلوا العظام المحرقة، والقد (٥)، والكلاب، والجيف.
وقال أبو إسحاق (٦) في قوله: ﴿يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا﴾: أي يبقكم ولا يستأصلكم بالعذاب كما استأصل أهل القرى الذين كفروا.
وقوله تعالى: ﴿وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾ قال قتادة (٧): يعني في
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
قال ابن حجر: "ومن طريق ابن جريج رضي الله عنه عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس لكن فيما يتعلق بالبقرة وآل عمران، وما عدا ذلك يكون عطاء -رضي الله عنه- هو الخراساني، وهو لم يسمع من ابن عباس رضي الله عنهما فيكون منقطعًا إلا إن صرح ابن جريج بأنه عطاء بن أبي رباح. "العجاب في بيان الأسباب" / ٥ أ. وانظر: "الدر" ٣/ ٥٧٨.
(٢) ساقط من (ي).
(٣) القرطبي ٩/ ٤، "تفسير مقاتل" ١٤٣ب.
(٤) أخرجه البخاري (٤٨٢١، ٤٨٢٢)، كتاب: تفسير سورة الدخان، باب: قوله: ﴿يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، باب: قوله: ﴿رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ﴾، وأحمد ١/ ٣٨١ بلفظ: "إنما كان هذا؛ لأن قريشا لما استعصت على النبي - ﷺ - دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهدوا حتى أكلوا العظام.. الحديث". وأخرجه البخاري بلفظ "اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف فأخذتهم السنة حتى حصت كل شيء حتى أكلوا العظام والجلود".
(٥) القد: الجلد. انظر: "تهذيب اللغة" (قدد) ٣/ ٢٨٩٥، "اللسان" (قدد) ٦/ ٣٥٤٣.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٨. وانظر: "التهذيب" (متع) ٤/ ٣٤٥٩.
(٧) الطبري ١٥/ ٢٣١، البغوي ٤/ ١٦٠، القرطبي ٩/ ٤، ابن أبي حاتم ١٦/ ١٩٩٧.
346
الآخرة، والمعنى: يعطي كل ذى عمل صالح أجره وثوابه، فسمى الجزاء باسم الابتداء (١) وأراد: ويؤت كل ذي فضل ثواب فضله أو جزاء فضله، فحذف المضاف، وهذا أقوى بما قال ابن عباس: يريد أن منازل الآخرة بعضها أفضل من بعض، كما أن صلاح الناس في الدنيا بعضهم أفضل من بعض، ونحو هذا قال أبو العالية (٢): من كثرت طاعاته في الدنيا زادت درجات في الجنة؛ لأن الدرجات تكون بالأعمال.
وقال أبو إسحاق (٣): أي من كان ذا فضل في دينه، فضله الله في الثواب، وفضله في المنزلة. وهذه الأقوال معناها واحد، والفضل معناه فضل الدين والصلاح وكثرة الطاعة.
وقال مجاهد (٤): هو ما يحتسبه الإنسان من كلام يقوله بلسانه، أو عمل يعمله بيده أو رجله، أو ما تطوع به من ماله؛ وعلى هذا، الفضل يعني به: ما تبرع به الإنسان من عمل صالح ببدنه أو بماله.
وقوله تعالى: ﴿فَضْلَهُ﴾ أي ثواب ذلك الفضل وجزاؤه. وقال ابن عباس (٥)، وابن مسعود (٦)، والكلبي (٧): ﴿وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ﴾ كل من فضلت حسناته على سيئاته ﴿فَضْلَهُ﴾ يعني الجنة، وهي فضل الله، والكناية
(١) العبارة السابقة من كلام الثعلبي ٧/ ٣٣ أ.
(٢) الثعلبي ٧/ ٣٣ أ، البغوي ٤/ ١٦٠.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٨.
(٤) الطبري ١١/ ١٨٢، الثعلبي ٧/ ٣٣ أ، القرطبي ٩/ ٤، ابن أبي حاتم ٦/ ١٩٩٨.
(٥) الثعلبي ٧/ ٣٣ أ، البغوي ٤/ ١٦٠.
(٦) الطبري ١١/ ١٨٢، الثعلبي ٧/ ٣٣أ، ابن عطية ٧/ ٢٣٦، ابن كثير ٢/ ٤٧٧.
(٧) "تنوير المقباس" ١٣٨.
347
في ﴿فَضْلَهُ﴾ على هذا تعود إلى الله تعالى ذكره. وهذا القول أحسن الأقوال وعليه المفسرون (١)، قال ابن عباس: من زادت حسناته على سيئاته دخل الجنة.
وقال ابن مسعود في هذه الآية: الحسنة بعشر، والسيئة واحدة، فويل لمن غلبت آحادُه أعشارَه. وهذا ترغيب في عمل الخير.
وقوله: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي﴾، قال ابن عباس (٢): يريد عن الإسلام، ﴿أَخَافُ عَلَيْكُمْ﴾ في الآخرة، ﴿عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾، وهو يوم القيامة.
٥ - قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾ الآية، قوله: ﴿يَثْنُونَ﴾ أصله من ثنيت الشيء إذا حنيته وعطفته وطويته، وانثوى (٣) صدره على البغضاء، أي انحنى وانطوى (٤).
وروي عن ابن عباس (٥): [أنه قرأ ﴿ثنوني صدورهم﴾ وكل شيء عطفته فقد ثنيه.
(١) الطبري ١١/ ١٨٢، الثعلبي ٧/ ٣٣ أ، القرطبي ٩/ ٤.
والقول الآخر هو: أن الكناية في ﴿فَضْلَهُ﴾ تعود على العبد، والمعنى: ويؤت كل من زاد في إحسانه وطاعاته ثواب ذلك الفضل الذي زاده". "زاد المسير" ٤/ ٧٥، ابن عطية ٧/ ٢٣٦.
(٢) "تنوير المقباس" ١٣٨ بمعناه، "زاد المسير" ٤/ ٧٦.
(٣) في (ي): (أثوى)، وفي "تهذيب اللغة" ١/ ٥٠٤: (اثنوني صدره..).
(٤) ما سبق من "تهذيب اللغة" ١/ ٥٠٤، وانظر: "اللسان" ١/ ٥١١ - ٥١٢.
(٥) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٣، "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٣/ ٣٩، "الطبري" ١١/ ١٨٥. ونسب ابن عطية هذه القراءة أيضًا إلى مجاهد، وابن يعمر، وابن بزي، ونصر بن عاصم، والجحدري، وابن إسحاق، وأبي رزين، وعلي بن الحسين، وأبي جعفر محمد بن علي، ويزيد بن علي، وجعفر بن محمد، والأسود، والضحاك. ابن عطية ٧/ ٢٣٩، البحر المحيط ٥/ ٢٠٢.
348
قال ابن عباس] (١) في رواية الكلبي: نزلت في الأخنس (٢) بن شريق؛ وكان رجلا حلو المنطق، يلقى رسول الله - ﷺ - بما يحب، وينطوي له (٣) على ما يكره، ويضمر في قلبه خلاف ما يظهر، واختار الفراء (٤) هذا القول وقال: "نزلت في بعض من كان يلقى النبي - ﷺ - بما يحب، وينطوي له على العداوة والبغض، فذلك الثني وهو الإخفاء، وبنحو من هذا قال الزجاج (٥)
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٢) الثعلبي ٧/ ٣٣ أ، "أسباب النزول" للواحدي ص ٢٧١، "زاد المسير" ٤/ ٧٦، "البحر المحيط" ٥/ ٢٠٢.
والقول بأنها نزلت في الأخنس بن شريق فيه نظر من وجوه:
أولاً: عدم ثبوت الرواية بذلك.
ثانيًا: قد صحت الرواية في سبب نزول الآية غير هذا، وهو ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: أناس كانوا يستحبون أن يتخلوا فيفضوا إلى السماء وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء، فنزل ذلك فيهم.
ثالثًا: أن الآية مكية، والنفاق ظهر في المدينة فكيف تكون الآية نازلة في المنافقين؟!
رابعًا: أن الأخنس في عداد الصحابة كما ذكر ابن حجر في "الإصابة" ١/ ٢٥ قال: "أسلم الأخنس فكان من المؤلفة، ثم شهد حنينا، ومات في أول خلافة عمر.. وذكر الذهلي في الزهريات بسند صحيح عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن أبا سفيان وأبا جهل والأخنس اجتمعوا ليلاً يسمعون القرآن سرًا فذكر القصة: وفيها أن الأخنس أتى أبا سفيان فقال: ما تقول؟ قال: أعرف وأنكر، قال أبو سفيان: فما تقول أنت؟ قال: أراه الحق" وقد عدّه في الصحابة: ابن شاهين، وابن فتحون عن الطبري ا. هـ.
انظر: "روح المعاني" للآلوسي١١/ ٢١١، "أضواء البيان" ٣/ ١٢.
(٣) ساقط من (ب).
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٣.
(٥) "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٣٨. وانظر: "تهذيب اللغة" (غشى) ٣/ ٢٩٦٩.
349
فقال: قيل إن طائفة من المشركين قالوا: إذا أغلقنا أبوابنا وأرخينا ستورنا، واستغشينا ثيابنا، وثنينا صدورنا على عداوة محمد، كيف يعلم بنا، فأنبأ الله -عز وجل- عما كتموه، ومعنى: ﴿يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ﴾ أي: يعطفونها ويطوونها على عداوة محمد - ﷺ -، وفي الآية محذوف تقديره: يثنون صدورهم على عداوته أو على بغضه؛ لأنَّ ثنَي الصدر عطفُه على ما أضمره.
وقوله تعالى: ﴿لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ﴾، أي ليتواروا عنه ويكتموا عداوته؛ لئلا يظهروا (١) بعداوته، والهاء تعود على محمد - ﷺ -.
وقال الحسن (٢) ومجاهد (٣): يعني من الله، وهذا جهل منهم بالله -عز وجل-، فقال الله تعالى: ﴿أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ قال قتادة (٤): وذلك أخفى ما يكون ابن آدم إذا حتى صدره واستغشى ثوبه وأضمر ما كنه في نفسه.
وقال ابن الأنباري (٥): أعلم الله أن سرائرهم يعلمها كما يعلم مظهراتهم، فإن الذي يسترونه ويغيبونه ظاهر عند الله غير غائب عنه، وفي الآية قولان آخران (٦):
(١) في (ب): يظهر.
(٢) الطبري ١١/ ١٨٤، القرطبي ٩/ ٥، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٠٠.
(٣) الطبري ١١/ ١٨٤، والثعلبي ٧/ ٣٣ ب، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٠٠، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٧٩، والبغوي ٤/ ١٦١، وابن عطية ٧/ ٢٤١.
(٤) الطبري ١١/ ١٨٤، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٠٠، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٨٠، والثعلبي ٧/ ٣٣ ب، و"زاد المسير" ٤/ ٧٨، والقرطبي ٩/ ٦، وعبد الرزاق ٢/ ٣٠١.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ٧٨. "البحر المحيط" ٥/ ٢٠٣.
(٦) ساقط من (ي).
350
أحدهما: أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا لشدة عداوتهم لرسول الله - ﷺ -[وبعدهم عن الحق إذا سمعوا رسول الله - ﷺ -]، (١) يقرأ القرآن حنوا صدورهم، ونكسوا رؤوسهم، وتغشوا ثيابهم ليبعد عنهم صوت رسول الله - ﷺ - ولا يدخل أسماعهم شيء من القرآن (٢)، فنعى الله عليهم هذا القبيح من فعلهم، وأعلم أنه يعرف معتقداتهم، ولا يخفى عليه مخبآتهم، ومن كان علمه بهم هذا العلم كان حقيقًا أن تتقى سطواته، وهذا معنى قول مقاتل (٣) وقتادة: كانوا ينكسون رؤوسهم على صدورهم كراهية لاستماع القرآن.
وقال قتادة (٤): يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله -عز وجل- ولا ذكره.
قال ابن الأنباري: فالهاء في هذا القول عائدة على رسول الله - ﷺ -، وعلى القول الأول احتمل أمرين.
القول الثاني -وهو قول عبد الله بن شداد (٥) - قال: نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مرَّ برسول الله - ﷺ - ثنى صدره وظهره، وطأطأ رأسه، وغطى وجهه لئلا يراه النبي - ﷺ - (٦)، وهذا القول هو الأليق بظاهر اللفظ،
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٢) من كلام ابن الأنباري. انظر: "زاد المسير" ٤/ ٧٧، "البحر" ٥/ ٢٠٣.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٤٣ ب.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٧٧، والطبري ١٥/ ٢٣٥، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٠٠، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٨٠.
(٥) هو: عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي أبو الوليد المدني، ولد على عهد النبي - ﷺ -، وذكره العجلي من كبار التابعين الثقات، وكان معدودًا في الفقهاء، قتل سنة ٨١، وقيل ٨٣ هـ. انظر: "التقريب" ص ٣٠٧ (٣٣٨٢)، "الكاشف" ١/ ٥٦١.
(٦) الطبري ١١/ ١٨٣، وسعيد بن منصور وابن المنذر وأبي حاتم ٦/ ١٩٩٩، =
351
ولا يحتاج معه إلى إضمار (١).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾، قال ابن عباس (٢): يريد بما (٣) في النفوس: يعني من الخير والشر. قال أبو بكر: معناه بحقيقة ما في القلوب من المضمرات؛ فتأنيث ﴿بذات﴾ لهذا المعنى.
قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ﴾ الآية، قال القرظي (٤) يعني (٥): ما من حيوان يدب، وأدخلت الهاء في الدابة؛ لأنه أريد به الجماعة التي تدب.
وقال أبو إسحاق (٦): الدابة اسم لكل حيوان مميز وغيره، وعلى هذا، الدابة: اسم من الدبيب، بني على هاء التأنيث وأطلق على كل حيوان ذي روح ذكر (٧) كان أو أنثى.
= وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٧٩، والبغوي ٤/ ١٦١، و"زاد المسير" ٤/ ٧٦، والقرطبي ٩/ ٥.
(١) قلت: بل الراجح بخلاف ذلك، فإن الهاء في (منه) تعود على اسم (الله) ولم يرد ذكر النبي - ﷺ -، ولذا أخبرهم جل وعلا أن استخفاءهم عن الله جهلٌ منهم فقال: ﴿أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾. وقد رجح هذا القول الطبري ١١/ ١٨٥، وابن عطية ٧/ ٢٤١ قال: "هذا هو الأفصح الأجزل في المعنى" وابن كثير ٢/ ٤٧٨.
(٢) "تنوير المقباس" ١٣٨.
(٣) بياض في (ب).
(٤) هذا القول ذكره البغوي ٤/ ١٦١، "زاد المسير" ٤/ ٧٨.
(٥) ساقط من (ب).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٥٠ عند قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ﴾ النور: ٤٥.
(٧) كذا في النسخ، والصحيح (ذكرًا) بالنصب.
352
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا﴾، قال المفسرون (١): فضلا لا وجوبا، والله تعالى تكفل بذلك بفضله، وذهب بعض أهل المعاني إلى أن ﴿عَلَى﴾ هاهنا بمعنى (من) كقول الشاعر (٢):
إذا رضيت عليَّ بنو قشير
أي: مني، ويدل على صحة هذه قول مجاهد (٣): ما جاءها من رزق فمن الله، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعًا.
وقوله تعالى: ﴿وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا﴾ أي: حيث تؤوي إليها، ﴿وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ حيث تموت، وهو قول ابن عباس (٤) والربيع (٥) واختيار الفراء (٦) والزجاج (٧) وابن الأنباري.
قال الفراء: ﴿وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ حيث تأوي ليلاً أو نهارًا، ومستودعها
(١) الثعبي ٧/ ٥٣٣، البغوي ٤/ ١٦١، "زاد المسير" ٤/ ٧٨، القرطبي ٩/ ٦.
(٢) هو: قحيف العقيلي، وعجزه:
لعمر الله أعجبني رضاها
وهو في "النوادر" ص٤٨١، "الكامل" ٢/ ١٩٠، "الخصائص" ٢/ ٣١١، ٣٨٩، "الهمع" ٤/ ١٧٦، "اللسان" ٣/ ١٦٦٣ (رضي)، "الخزانة" ١٠/ ١٣٢.
(٣) الطبري ١٢/ ١، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٠١، ابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٨٠. الثعلبي ٧/ ٣٣ ب، البغوي ٤/ ١٦١ - ١٦٢، "زاد المسير" ٤/ ٧٨، القرطبي ٩/ ٦.
(٤) الطبري ١٢/ ٢، عبد الرزاق ٢/ ٣٢٠، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٠١، ٢٠٠٣، ابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٨١، البغوي ٤/ ١٦٢، الثعلبي ٧/ ٣٤ أفي الهامش، القرطبي ٩/ ٨.
(٥) الثعلبي ٧/ ٣٤ أ، القرطبي ٩/ ٨، الطبري ١٢/ ٢، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٠٣.
(٦) "معانى القرآن" ٢/ ٤.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٩.
353
موضعها الذي تموت فيه أو تدفن، ونحو هذا قال الزجاج وأبو بكر، ومضى استقصاء تفسير المستقر والمستودع في سورة الأنعام (١).
قوله تعالى: ﴿كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾، قال ابن عباس (٢) والمفسرون (٣): اللوح المحفوظ.
قال الزجاج (٤): والمعنى أن ذلك ثابت في علم الله -عز وجل- ومثله قوله (٥): ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا﴾ [الحديد: ٢٢] وذكرنا قبل هذا فائدة إثبات ذلك في قوله: ﴿وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (٦).
٧ - قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ مضى تفسير هذا القدر من الآية في سورة "الأعراف" [٥٤].
وقوله تعالى: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ يعني قبل أن يخلق السماء والأرض، قال كعب (٧): خلق الله ياقوتة خضراء، ثم نظر إليها بالهيبة
(١) خلاصة ما ذكره في سورة الأنعام عند قوله تعالى: ﴿فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ﴾ أن المستقر في الرحم والمستودع في أصلاب الرجال.
(٢) "تنوير المقباس" ١٣٨.
(٣) الثعلبي ٧/ ٣٤ أ، البغوي ٤/ ١٦٢، "زاد المسير" ٤/ ٧٩، "تفسير مقاتل" ١٤٤ أ.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٩.
(٥) ساقط من (ب).
(٦) الأنعام: ٥٩. وقد نقل هنالك عن ابن الأنباري قوله: "وفائدة كتب الله ذلك في اللوح المحفوظ مع علمه، وأنه لا يفوته شيء، هو أنه -عز وجل- كتب هذه الأشياء وأحصاها قبل أن تكون؛ لتقف الملائكة على نفاذ علمه، وأنه لا يغيب عنه مما في السموات والأرض شيء، فيكون في ذلك عبرة للملائكة الموكلين باللوح؛ لأنهم يقابلون به ما يحدث من الأمور فيجدونه موافقًا له".
(٧) الثعلبي ٧/ ٣٤ أ، البغوي ٤/ ١٦٢، القرطبي ٩/ ٨. قلت: هذا من الإسرائيليات، ويؤيدها ما روى الطبري ١٢/ ٥، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٠٥ من طريق سعيد بن =
354
فصارت ماء يرتعد، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء.
وقال أهل المعاني: وفي وقوف العرش على الماء، والماء غير قرار أعظم الاعتبار لأهل الأفكار.
قال أبو إسحاق (١): وهذا يدل على أن العرش والماء كانا قبل السموات والأرض.
وقوله تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ قال ابن عباس (٢): أيكم أعمل بطاعة الله. قال أبو بكر: معناه: ليختبركم فيعلم وقوع الفعل منكم، الذي به تستحقون الثواب أو العقاب؛ وذلك أن الله تعالى لا يثيب ولا يعاقب بالسابق في علمه، لكنه يجازي بأفعال الفاعلين بعد وقوعها، فقال: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ وهو يعني [ليعلم] (٣) إحسان المحسن وإساءة المسيء بعد وقوعها، وهذا معنى قول أبي إسحاق (٤).
وقال آخر من أهل المعاني: ليعاملكم معاملة المختبر المبتلي مظاهرة في العدل؛ لئلا يتوهم أنه مجازي العباد بحسب ما في المعلوم أنه يكون منهم قبل أن يفعلوه.
= جبير قال: سئل ابن عباس عن قول الله: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾. قال: على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح. قال أحمد شاكر: رواه الحاكم في المستدرك ٢/ ٣٤١، وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٠.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٧٩، الثعلبي ٧/ ٣٤ أ، القرطبي ٩/ ٩.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٠.
355
قال أبو بكر: واللام في ﴿لِيَبْلُوَكُمْ﴾ متعلقة بالفعل الأول ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ يعني لكي يختبركم بالمصنوعات فيها من آياتها، فيثيب المطيع المعتبر بما يرى ويشاهد، ويعاقب أهل العناد للحق.
وقوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ﴾ إلى آخر الآية، قال أبو إسحاق (١): أعلمهم الله -عز وجل- أن القدرة على خلق [السموات والأرض] (٢) تدل على بعث الموتى، ومعنى هذا ما ذكره؛ أبو بكر؛ وهو أنه قال: إنما ذكر الله تعالى جحد أهل الكفر البعث بعد خلق السموات والأرض للابتلاء؛ لأن الكفار كانوا معترفين بابتداء خلق الله الأشياء وأنكروا البعث، فعجب من أنهم يجحدون من البعث ما ابتداء (٣) الخلق أعظم منه، فمن اعترف بالعظيم لزمه أن لا يجحد ما يصغر شأنه في جنب ما قد صدقه.
وقوله تعالى: ﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾، وليس هذا القول الذي ذكره الله -عز وجل- يوجب أن ينسب إلى السحر؛ لأن هذا خبر وليس بفعل ناقض للعادة، وقال أبو إسحاق (٤): السحر باطل عندهم، وكأنهم قالوا إن هذا إلا باطل بيّن، يعني هذا القول الذي يقول لنا: أنا نبعث بعد الموت. وقال صاحب النظم: معنى السحر هاهنا الخداع، ومن هذا قوله: ﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ (٥) أي مخدوعًا؛ لأن به سحرًا قد عمل به.
٨ - قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ﴾ الآية، اللام في
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٠.
(٢) في (ج): (الأشياء).
(٣) هكذا في (ب)، وفي (ي): يجحدون من البعث من ما ابتداء الخلق أعظم منه. اهـ.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٠.
(٥) الإسراء: ٤٧، الفرقان: ٨.
356
﴿وَلَئِنْ﴾ لام القسم، وقوله تعالى: ﴿إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ﴾: إلى أجل وحين معلوم، قاله ابن عباس (١)، ومجاهد (٢)، وأهل التفسير (٣).
قال ابن الأنباري (٤): والأمة هاهنا: المدة من أوقات الزمان. وفي قوله تعالى: ﴿مَعْدُودَةٍ﴾ [إشارة إلى القلة أو إلى العلم بتلك المدة؛ لأن الله تعالى قضى في سابق علمه لعذابهم وقتًا مؤقتًا وأمة معدودة] (٥). وذكرنا ما قيل في الأمة عند قوله ﴿أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ﴾ (٦).
وقوله تعالى: ﴿لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ﴾ أي: ما يحبس العذاب عنا؛ تكذيبًا واستهزاءًا وإنكارًا لوقوعه.
فقال الله -عز وجل-: ﴿أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ﴾ قال ابن عباس (٧):
(١) الطبري ١٢/ ٧، عبد الرزاق ٢/ ٣٠٢، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٠٧.
(٢) الطبري ١٢/ ٦، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٠٧.
(٣) الطبري ١٢/ ٦، الثعلبي ٧/ ٣٤ ب، البغوي ٤/ ١٦٣، القرطبي ٩/ ٩، "زاد المسير" ٤/ ٨٠.
وقد روي هذا القول عن قتادة والضحاك وغيرهما كما في: الطبري ١٢/ ٦.
(٤) "الزاهر" ١/ ١٥٠.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٦) البقرة: ١٢٨. وقال هناك: وقال الضحاك: "الأمة في اللغة تكون على وجوه: الأمة: الجماعة من كل شيء، من ذلك أمة محمد - ﷺ -، ويقال: فلان أمة وحده، أي يسد مسد جماعة، ويقال: فلان حسن الأمة، إذا مدح بالتمام واستجماع الخلق على الاستواء، ومنه قوله: ﴿وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾، بعد حين من الدهر وذلك لجماعة الشهور والأعوام.. ".
(٧) القرطبي ٩/ ١٠، وغيره، وراجع هذا القول في تفسير سورة الحجر: ٩٥، "البحر المحيط" ٥/ ٢٠٥.
357
وهو قتل جبريل المستهزئين، وقتل المؤمنين (١) المشركين يوم بدر. قال أبو بكر (٢): يريد: إذا أخذتهم سيوف محمد - ﷺ - وأصحابه [لم تغمد عنهم] (٣) حتى يباد أهل الكفر وتعلوا كلمة الإخلاص، قال أبو إسحاق (٤): ﴿يَوْمَ﴾ منصوب بمصروف، والمعنى: ليس العذاب مصروفًا عنهم يوم يأتيهم.
قوله تعالى: ﴿وَحَاقَ بِهِمْ﴾، قال ابن عباس (٥): حلّ بهم، وقال مقاتل (٦): دار بهم، وقال يمان (٧): أحاط بهم، وقال الأخفش (٨): نزل، [وقال الزجاج (٩): أحاط بهم العذاب الذي هو جزاء ما كسبوا، وكانوا به يستهزءون، فقوله: ﴿مَا﴾ المضاف إليه محذوف أي: جزاء ما كانوا به يستهزءون] (١٠) وهو العذاب؛ لأنهم كانوا يستهزءون وينكرون وقوع العذاب بهم.
٩ - قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً﴾، قال
(١) في (ي): (المستهزئين).
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٨٠.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٠.
(٥) ابن عطية ٧/ ٢٤٦ - ٢٤٧.
(٦) "تفسير مقاتل" ٤٤ أ.
(٧) ابن عطية ٧/ ٢٤٧، القرطبي ٩/ ١١١،"معاني القرآن للنحاس" ٣/ ٣٣٣.
(٨) البغوي ٤/ ١٦٣، "زاد المسير" ٤/ ٨٠، القرطبي ٩/ ١٠، "مجاز القرآن" ١/ ٢٨٥، الطبري ١٢/ ٧، "هو سعيد بن مسعدة مولى بني مجاشع يلقب بالراوية، أحذق أصحاب سيبويه توفي سنة ٢١٥ هـ. انظر: "تاريخ العلماء النحويين" ص ٨٥، الأعلام ٣/ ١٠٢.
(٩) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤١، "تهذيب اللغة" ١/ ٧٠٨ (حاق).
(١٠) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
المفسرون (١) يعني بهذا الوصف المذكور في هذه الآية والتي بعدها: الكافرين.
وقال الزجاج (٢): الرحمة هاهنا: الرزق، والإنسان اسم الجنس في معنى الناس، قال ابن عباس (٣): نزلت في الوليد بن المغيرة، وقال غيره (٤): في عبد الله بن أبي أمية المخزومي.
وقوله تعالى: ﴿لَيَئُوسٌ كَفُورٌ﴾، قال ابن عباس (٥): يريد يؤوسٌ (٦) من رحمته كافر بالنعمة.
وقال أهل المعاني: الآية صفة ذم؛ لأنه للجهل بسعة رحمة الله التي توجب قوة الأمل يستشعر اليأس (٧)، وبيان عما يوجبه الخلق السوء من القنوط من الرحمة عند نزول الشدة.
١٠ - قوله تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ﴾، قال ابن عباس (٨): يريد صحة وسعة في الرزق بعد مرض وفقر، وقال أهل المعاني: النعماء: إنعام يظهر أثره على صاحبه، والضراء مضرة تظهر الحال بها؛ لأنها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة من نحو (حمراء)
(١) "زاد المسير" ٤/ ٨٠ نسبة إلى ابن عباس. القرطبي ٩/ ١٠، "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٣٣٤، البغوي ٤/ ١٦٣، وضعف هذا القول ابن عطية ٧/ ٢٤٧ - ٢٤٨.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤١.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٨٠، "البحر المحيط" ٥/ ٢٠٦، والقرطبي ٩/ ١٠.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٨٠، القرطبي ٩/ ١٠.
(٥) رواه الطبري ١٢/ ٧ عن ابن جريج بنحوه. البغوي ٤/ ١٦٣، الثعلبي ٧/ ٣٤ ب.
(٦) في (ب): (مؤنس).
(٧) في (ب): (الناس).
(٨) "زاد المسير" ٤/ ٨٠، القرطبي ٩/ ١١، الطبري ١٢/ ٨ بمعناه.
و (عوراء)، وهذا فرق بين النعمة والنعماء.
وقوله تعالى: ﴿لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي﴾، يريد: الضُّرَّ والفقر، ومعنى السيئات: الخصال التي تسوء صاحبها.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾، قال ابن عباس (١): يريد يفاخر أوليائي بما وسعت عليه، وهذا بيان عما يوجبه بطر النعمة من تناسي حال الشدة، وترك الاعتراف بنعمة الله وحمده على ما صرف عنه من الضرّ مع المرح والتكبُّر على عباد الله.
١١ - قوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُو﴾ يعني (٢) أصحاب النبي - ﷺ -، والمؤمنين، مدحهم بالصبر على الشدة والمكاره، وهذا استثناء منقطع، وليس من الأول، ومعناه: لكن الذين صبروا، وهذا قول الأخفش (٣)، والزجاج (٤)، وابن الأنباري.
وقال الفراء (٥): هو استثناء متصل من قوله: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾؛ لأنه (٦) في تأويل جمع كما قال: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [العصر: ٢، ٣].
قال أبو بكر: هذا ضعيف؛ لأنه يوجب أن تحت "الإنسان" مؤمنين وكافرين، وقد بين الله اختصاص الكفر معه بقوله: {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ
(١) "زاد المسير" ٤/ ٨١.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٨١. ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٠٨ عن زيد بن أسلم.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٥٧٥.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤١.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٤.
(٦) في (ي): (الآية).
كَفُورٌ}، فإن ذهب ذاهب إلى أن المراد به كفر النعمة كان اتصال الاستثناء محتملا على ضعفه، وأهل العلم بالقرآن على الأول.
وقوله تعالى: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾، أي: في الشدة والنعمة.
١٢ - قوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ﴾ الآية، قال أهل التفسير (١): قال المشركون للنبي - ﷺ -: ائتنا بكتاب ليس فيه سب آلهتنا حتى نتبعك ونؤمن بكتابك. وقال له بعضهم: هلا ينزل عليك ملك يشهد لك بالصدق، أو تعطى كنزًا تستغني به أنت وأتباعك، قال مقاتل (٢): فَهَمَّ رسول الله - ﷺ - أن يدع سب آلهتهم، فأنزل الله هذه الآية.
ومعنى قوله: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾ أي أنه لعظيم ما يرد على قلبك من تخليطهم، تتوهم أنهم يزيلونك عن بعض ما أنت عليه من أمر ربك.
قال ابن الأنباري: وقد علم الله تعالى أن النبي - ﷺ - لا يترك شيئًا مما يوحى إليه إشفاقًا من موجدة أحد أو غضبه، ولكنه أكد عليه في متابعة الإبلاغ، كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ [المائدة: ٦٧] الآية، وقال ابن عباس: هذا أدب من الله لنبيه - ﷺ -، وتحريض على طاعته، والله من وراء ذلك له في العصمة.
قوله تعالى: ﴿وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾، الضائق بمعنى الضيق، والفرق
(١) الثعلبي ٧/ ٣٥ أ، البغوي ٤/ ١٦٤، "زاد المسير" ٤/ ٨٢، الرازي ١٧/ ١٩٣، "البحر المحيط" ٥/ ٢٠٧.
(٢) "تفسير مقاتل" ١٤٤ أبمعناه، "زاد المسير" ٤/ ٨٢، البغوي ٤/ ١٦٤، القرطبي ٩/ ١٢، ورد على هذا القول ابن عطية ٧/ ٢٤٩ قال: "فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه ولا ضاق صدره، وإنما ذكر ذلك للرد على أقوالهم".
361
بينهما أن الضائق يكون بضيق عارض خلاف اللازم وضائق هاهنا أحسن، من وجهين:
أحدهما: أنه عارض.
والآخر: أنه أشكل بـ (تارك).
وقوله تعالي: ﴿أَنْ يَقُولُوا﴾، قال الفراء (١): تقديره: مخافة أن يقولوا
وقال الزجاج (٢): كراهة أن يقولوا.
وقال غيرهما (٣): التقدير (بأن يقولوا) أو (لأن يقولوا)، والمعنى: لعلك تارك بعض ما يوحى إليك مخافة [هذا القول منهم، أو كراهة هذا القول، أو تارك إياه لهذا القول منهم (٤)، على ما ذكرنا من التقديرات، ومحل (أن) نصب؛ لأن الخافض ألقي فوصل الفعل، و (أن) من صلة قوله ﴿تَارِكٌ﴾؛ لأن هذا القول منهم هو الحامل على أن يترك بعض ما يوحى إليه] (٥)، والتأويل: قولهم (لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك) باعثك على أن نترك بعض ما يوحى إليك، والكناية في قوله ﴿وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ﴾ تعود إلى (ما) (٦) ﴿بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾ (٧)، وإنما يضيق صدرك؛ لأنه يخاف الله في كتمانه وترك إظهاره، ويخاف لائمتهم في الإظهار فيضيق صدره.
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٥.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤١.
(٣) الثعلبي ٧/ ٣٥ أ.
(٤) هنا زيادة: (أو لهذا القول منهم).
(٥) ما بين المعقوفين مكرر في (ي).
(٦) ساقط من (ي).
(٧) هكذا في جميع النسخ والأولى أن يقول: في قوله تعالى: ﴿بَعْضَ مَا يُوحَى﴾.
362
وقال ابن الأنباري: التأويل وضائق بإظهاره صدرك. قال: ويجوز أن تكون ﴿أَنَ﴾ في موضع خفض بالرد على الهاء في به، يراد: وضائق صدرك بأن يقولوا لولا أنزل عليه (١) كنز.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ﴾، قال الزجاج (٢): أي إنما عليك أن تنذرهم وتأتيهم من الآيات بما يوحى إليك، وليس عليك أن تأتيهم بشهواتهم في الاقتراح، ﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾، أي حافظ لكل شيء، وذكرنا بيان هذا عند قوله ﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ (٣) في آخر سورة يونس (٤).
١٣ - قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ﴾ يعني مثل القرآن في البلاغة؛ وذلك أن القرآن من البلاغة في أعلاها، وأعلى البلاغة معجز.
وقوله تعالى ﴿مُفْتَرَيَاتٍ﴾ أي: بزعمكم، أي إن أصبتم في تكذيب القرآن وقولكم فيه إنه مُفترى، يوجب عليكم أن تأتوا بالمعارضة، كما ادعيتم على النبي - ﷺ -، فقوله ﴿مُفْتَرَيَاتٍ﴾ للمقابلة لا لتحقيق وصف القرآن بأنه مفترى (٥) ﴿وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي إلى المعاونة على
(١) في (ي): (عليه).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤١.
(٣) في الأصل: (عند قوله.. ﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾) وهو خطأ.
(٤) قال عند قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ يونس: ١٠٨: "أي: في منعكم من اعتقاد الباطل، فانظروا لأنفسكم نظر من يطالب بعمله، من غير أن يطالب غيره بحفظه، كأنه قيل: بحفيظ من الهلاك، كما يحفظ الوكيل المتاع من الهلاك".
(٥) وهذا كثير في أسلوب القرآن، ومنه قوله تعالى: كلي وَ {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ =
363
المعارضة، وهذا أتمّ ما لِكون من التحدي (١) في المحاجة ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في قولكم افتراه. وتفسير مثل هذه الآية قد سبق في سورة يونس عند قوله: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾ [يونس: ٣٨].
قوله تعالى: ﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ﴾ [يعني المشركين، لم يستجيبوا لكم] (٢) إلى المعارضة، والخطاب في قوله ﴿لَكُمْ﴾ (٣) للنبي - ﷺ -[وأصحاب في قول مجاهد (٤)؛ لأنه قال: عني به أصحاب محمد - ﷺ -.
قال الفراء (٥): هذا كقوله: ﴿عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ﴾، [يونس: ٨٣] يريد أن خطاب النبي - ﷺ - في الآية الأولى كخطاب أصحاب النبي - ﷺ -]، (٦)، فكأنه قال: قولوا: فأتوا بعشر سور، كما قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [الطلاق: ١].
قال ابن الأنباري (٧): العرب قد تذكر الاسم موحدًا ثم ترجع إلى قوم الاسم وأهله وأصحابه فيجمعون، من ذلك قول الشاعر (٨):
دالت علينا (٩) يمينًا لا تكلمنا من غير (١٠) بأس ولا من ريبة حلفوا
= مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} النحل: ١٢٦، وقوله: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ الشوري: ٤٠.
(١) ساقط من (ب).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٣) ساقط من (ي).
(٤) الطبري ١٢/ ١٠، الثعلبي ٧/ ٣٥ أ، أبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٥٨٣.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٥.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٧) "زاد المسير" ٤/ ٨٣، القرطبي ٩/ ١٣، الثعلبي ٧/ ٣٥ أ، البغوي ٤/ ١٦٥.
(٨) لم أقف عليه، وهو من بحر البسيط.
(٩) في (ب): (عليها).
(١٠) في (أ، ب، ج): بزيادة (ما) وبها ينكسر البيت.
364
فجعل دالت لواحدة مؤنثة ثم رجع إليها وإلى قومها فجمع
وقوله تعالى: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ﴾، قال ابن الأنباري: هذا خطاب لأهل الكفر بإضمار قول قبله، يراد به: فقولوا لهم: اعلموا أنما أنزل بعلم الله، أي أنزل والله عز وجل عالم بإنزاله، وعالم أنه حق من عنده، ويجوز أن يكون معنى (بعلم الله) أي بما أنبأ الله به من غيب ودلَّ (١) على ما سيكون وما سلف مما لم (٢) يقرأ به النبي - ﷺ - كتاباً، والوجهان ذكرهما أبو إسحاق (٣).
وقال أبو بكر: اعلموا أنما أنزل بعلم الله الذي لكم فيه النفع والشفاء والرشد من أمره ونهيه ووعده ووعيده، وغير ذلك من تعليمه وتشديده، هذا الذي ذكرنا من أن قوله: ﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ﴾ خطاب للنبي - ﷺ - وأصحابه، مذهب المفسرين وأصحاب المعاني (٤) وقال بعضهم (٥): الخطاب فيه للمشركين؛ أي فإن لم يستجيبوا (٦) لكم من تدعونهم إلى المعاونة ولا تهيأ لكم المعارضة، فقد قامت عليه الحجة ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ﴾.
وقوله تعالى: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ استفهام (٧) معناه الأمر، وقد
(١) ساقط من (ب).
(٢) ساقط من (ي).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٢.
(٤) الثعلبي ٧/ ٣٥ أ، البغوي ٤/ ١٦٥، ابن عطية ٧/ ٢٥٢، "زاد المسير" ٤/ ٨٣، القرطبي ٩/ ١٣، ابن كثير ٢/ ٤٨١.
(٥) رجحه الطبري ١٢/ ١٠، واستبعد الأول، ابن عطية ٧/ ٢٥٢، القرطبي ٩/ ١٣، ورجحه الرازي ١٧/ ١٩٦، أبو حيان في "البحر" ٥/ ٢٠٩.
(٦) في (ب): (يستجيب).
(٧) ساقص من (ب).
365
ذكرنا ما فيه (١) عند قوله في تحريم الخمر: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ (٢)، والآية بيان عما يوجبه ترك المعارضة -مع التحدي بها، وتوفر الدواعي إليها- من ظهور المعجز المؤدي إلى العلم بصحة الأمر فيه.
١٥ - قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾، المعنى: من يريد الحياة الدنيا، و (كان) في تقدير الزيادة، ولذلك جزم جوابه، وهو قوله: ﴿نُوَفِّ إِلَيْهِمْ﴾، هذا معنى قول الفراء (٣)؛ لأن المعنى فيما بعد ﴿كَانَ﴾ (٤)؛ فكأن ﴿كَانَ﴾ تبطل في المعنى، وحكى الزجاج (٥) عن المبرد أن معنى ﴿كَانَ﴾ و (تكون) العبارة عن الأحوال فيما مضى وفيما يستقبل، و ﴿كَانَ﴾ تستعمل فيهما جميعًا، فعلى هذا معنى ﴿كَانَ﴾ في الشرط والاستقبال؛ لأن الشرط لا يقع بالماضي، والمعنى: من يكن يريد الحياة الدنيا كقول زهير:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
أي من يهبها، واختلفوا في نزول هذه الآية والتي بعدها، فقال ابن
(١) في (ب): قبله.
(٢) المائدة: ٩١. وقال هناك: "بين تحريم الخمر في قوله: ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ﴾ إذ كان معناه فانتهوا، قال الفراء: ردد عليّ أعرابي: هل أنت ساكت؟ هل أنت ساكت؟ وهو يريد: اسكت! اسكت!. وقال غيره: إنما جاز في صيغة الاستفهام أن تكون على معنى النهي؛ لأن الله تعالى ذم هذه الأفعال وأظهر قبحها، وإذا ظهر قبح الفعل للمخاطب، ثم استفهم عن تركه لم يسعه إلا الإقرار بالترك".
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٥.
(٤) في (ي): (قدكان).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٢. وانظر: "معاني الأخفش" ١/ ٤٥٥.
366
عباس (١) في رواية عطاء: من كان يريد تعجيل الدنيا فلا يؤمن بالبعث ولا بالثواب ولا (٢) بالعقاب، وهذا يدل على أن الآية نازلة في أهل الكفر.
وقال قتادة (٣): من كانت الدنيا همه وسدمه (٤) ونيته وطلبته، جازاه الله في الدنيا بحسناته، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يجازى بها، وأما المؤمن فيجازى في الدنيا بحسناته ويثاب عليها في الآخرة، واختار قوم (٥) هذا الوجه في النزول، وقالوا: الآية في الكفار بدليل الآية التي بعدها، وقالوا: المؤمن يريد الدنيا والآخرة، وإرادته الآخرة غالبة على إرادته الدنيا، وعلى هذا معنى الآية أن من أتى من الكافرين فعلاً حسناً من إطعام جائع، وكسوة عار، ونصرة مظلوم من المسلمين عجل له ثواب ذلك في دنياه؛ بالزيادة في ماله، والتوسعة عليه في الرزق، وإقرار العين فيما خول، وهذا معنى قول سعيد بن جبير (٦): ﴿نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا﴾، قال: ثواب ما عملوا من خير أعطوا في الدنيا، وليس له في الآخرة إلا النار، فإذا جاء هذا الكافر في الآخرة رد منها على عاجل الحسرة؛ إذ لا حسنة لها هناك.
(١) "زاد المسير" ٤/ ٨٤.
(٢) ساقط من (ب).
(٣) الطبري ١٢/ ١٢، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٥٨٥، والثعلبي ٧/ ٣٥ أ، وابن كثير ٢/ ٤٨١، ورواه الدارمي في المقدمة ١/ ٨١ عن الحسن.
(٤) السَّدَم -بفتحتين-: الولوع بالشيء واللهج به، وفي الحديث: "من كانت الدنيا همه وسدمه.. ". لسان العرب (سدم) ٤/ ١٩٧٦، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٦٠.
(٥) البغوي ٤/ ١٦٥، "زاد المسير" ٤/ ٨٤، الرازي ١٧/ ١٩٨، الثعلبي ٧/ ٣٥ ب.
(٦) الطبري ١٢/ ١١، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٥٨٤ - ٥٨٥، و"المحرر الوحيز" ٧/ ٢٥٤، و"زاد المسير" ٤/ ٨٤.
367
وقال ابن عباس (١) في رواية الكلبي عن أبي صالح عنه أنها نزلت في أهل القبلة، وقال مجاهد (٢): هم أهل الرياء.
وقال الضحاك (٣): من عمل عملًا صالحًا من أهل الإيمان من غير تقوى، عجل له ثواب عمله في الدنيا، واختار الفراء (٤) هذا القول وقال: يقول (٥): من أراد بعمله من أهل القبلة ثواب [الدنيا عجل له] (٦) ثوابه ولم يبخس أي لم ينقص في الدنيا، ويؤكد هذا ما يروى أن معاوية لما أخبر بحديث أبي هريرة (٧) عن النبي - ﷺ - في أهل الرياء من القراء وأصحاب الأموال والمقاتلين، إذا قيل لهم في الآخرة إنما فعلتم ليقال فلان قارئ، فلان سخي، وفلان جريء، فقد قيل ذلك، والحديث طويل، وفي آخره أن هؤلاء أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة، ولما أخبر معاوية بهذا بكى بكاء شديدًا، ثم قال: صدق الله ورسوله ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ﴾، وقرأ الآيتين.
(١) "زاد المسير" ٤/ ٨٤.
(٢) الطبري ١٢/ ١٢، الثعلبي ٧/ ٣٥ ب، "المحرر الوجيز" ٧/ ٢٥٣، البغوي ٤/ ١٦٥، "زاد المسير" ٤/ ٨٤، أبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٥٨٤.
(٣) الطبري ١٢/ ١٢، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠١١.
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٦.
(٥) ساقط من (ب).
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٧) أخرج الترمذي (٢٣٨٢) كتاب: الزهد، باب الرياء والسمعة، وأخرجه مسلم (١٩٠٥) كتاب: الإمارة، باب: من قاتل للرياء والسمعة استحق النار، "شرح النووي" بنحوه، والطبري ١٢/ ١٣، الثعلبي ٧/ ٣٥ ب.
368
قال ابن الأنباري: فعلى هذا القول، المعني [بهذا الوصف] (١) قوم من أهل الإسلام يعملون العمل الحسن لتستقيم به دنياهم، غير متفكرين في الآخرة وما ينقلبون إليه، فهؤلاء يعجل لهم جزاء حسناتهم في الدنيا، فإذا جاءت الآخرة كان جزاؤهم عليها النار، إذا لم يريدوا بها وجه الله، ولم يقصدوا التماس ثوابه وأجره، فإن قيل: على هذا القول الآية الثانية توجب تخليد المؤمن في النار؛ لأنه قال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ﴾، قيل: من مات على الإيمان [لم يخلد في النار] (٢) وظاهر هذه الآية يدل على أن من راءا بعمله ولم يلتمس ثواب الآخرة، ونوى بعمله الدنيا، بطل إيمانه عند الموافاة؛ لأن قوله تعالى ﴿وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ شامل للإيمان وفروعه.
وقال ابن الأنباري: إن القوم لا يخلدون في النار، إذ كان عموم التوحيد معهم، وإنما يحرقون بالنار بالذنوب السابقة، ثم يخرجون منها إلى الجنة (٣).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٣) مذهب أهل السنة والجماعة أن الموحد لا يخلد في النار وإن دخلها فإن مآله إلى الجنة، قال الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: فإن قيل الآية تقتضي تخليد المؤمن المريد بعمله الدنيا في النار، قيل: إن الله سبحانه ذكر جزاء من يريد بعمله الدنيا وزينتها وهو النار، وأخبر بحبوط عمله وبطلانه، فهذا أحبط ما ينجو به وبطل، لم يبق معه ما ينحيه، فإن كان معه إيمان لم يرد به الحياة الدنيا وزينتها بل أراد به الله والدار الآخرة لم يدخل هذا الإيمان في العمل الذي حبط وبطل، ونجاه هذا الإيمان من الخلود في النار، وإن دخلها بعمله الذي به النجاة المطلقة، فالإيمان إيمانان. إيمان يمنع دخول النار وهو الإيمان الباعث على أن =
369
١٧ - قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾، يعني بهذا النبي - ﷺ - في قول عامة المفسرين (١)، وأما البينة فقال ابن عباس (٢) في قوله ﴿عَلَى بَيِّنَةٍ﴾: يريد على يقين، وقال الكلبي (٣): البينة هاهنا الدين، وقال مقاتل ابن سليمان (٤): البينة البيان، وقيل (٥): يعني بها القرآن.
وقوله تعالى: ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾، أي ويتبعه، [والهاء تعود على (من)، (شاهد منه)؛ اختلفوا في هذا الشاهد] (٦)؛ فقال ابن عباس (٧) في رواية الضحاك: الشا هد جبريل عليه السلام، ونحو ذلك روى عكرمة (٨) عنه، وهذا قول علقمة (٩) وإبراهيم (١٠)، ومجاهد (١١)، وأبي صالح (١٢) وأبي
= تكون الأعمال لله وحده، وإيمان يمنع الخلود في النار، فإن كان مع المرائي شيء منه، وإلا كان من أهل الخلود، فالآية لها حكم نظائرها من آيات الوعيد. "تيسير العزيز الحميد" ص ٥٣٦.
(١) الثعلبي ٧/ ٣٦ أ، الطبري ١٢/ ١٤ - ١٥، "الدر المنثور" ٣/ ٥٨٦، "المحرر الوجيز" ٧/ ٢٥٧، "زاد المسير" ٤/ ٨٥.
(٢) انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" ٢/ ٢١٨، "البحر" ٥/ ٢٠١.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٨٥.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٨٥، "تفسير مقاتل" ١٤٤ ب.
(٥) ذكره ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠١٣ عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٧) الثعلبي ٧/ ٣٦ ب، والطبري ١٢/ ١٦، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠١٤، وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٨٧.
(٨) الثعلبي ٧/ ٣٦ ب، الطبري ١٢/ ١٦، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠١٤.
(٩) الثعلبي ٧/ ٣٦ ب.
(١٠) الثعلبي ٧/ ٣٦ ب، الطبري ١٥/ ٢٧٣.
(١١) الثعلبي ٧/ ٣٦ ب، الطبري ١٢/ ١٦.
(١٢) الثعلبى ٧/ ٣٦ ب، الطبري ١٢/ ١٦.
370
العالية (١)، واختيار الفراء (٢)، والزجاج (٣)، وابن قتيبة (٤).
قال ابن قتيبة: والشاهد من الله للنبي - ﷺ - جبريل؛ يريد أنه يتبعه ويؤيده ويسدده ويشهده.
وقال ابن عباس (٥) في رواية عطاء ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾ يريد: لسان النبي - ﷺ -، وهو قول الحسن (٦)، وقتادة (٧)، ورواية محمد بن الحنفية (٨) عن علي رضي الله عنه قال: قلت لأبي أنت التالي، قال: وما تعني بالتالي؟ قلت: قوله: ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾، قال: وددت أني هو، ولكن لسان الرسول - ﷺ -، وعلى هذا المعنى قال الزجاج (٩): ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ وكان معه من الفضل ما يبين تلك البينة، وعلى هذا الكناية في ﴿مَنْ﴾، تعود على ﴿مِّن﴾ وقيل: الشاهد هو: النبي - ﷺ -، وهو قول
(١) الثعلبي ٧/ ٣٦ ب، الطبري ١٢/ ١٦.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٦.
(٣) "معاني القرآن" ٣/ ٤٣.
(٤) "مشكل القرآن وغريبه" ١/ ٢٠٩.
(٥) "تفسير عطاء" / ١٠٦، وانظر: "الدر المصون" ٦/ ٣٠٠.
(٦) الطبري ١٢/ ١٤، الثعلبي ٢/ ٣٧٧، "زاد المسير" ٤/ ٨٥، "تفسير كتاب الله العزيز" ٢/ ٢١٨.
(٧) الطبري ١٢/ ١٥، الثعلبي ٧/ ٣٦، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠١٤، البغوي ٤/ ١٦٧، "زاد المسير" ٤/ ٨٥.
(٨) الطبري ١٢/ ١٤، والثعلبي ٧/ ٣٦ ب، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠١٤، والطبراني في "الأوسط" ٧/ ٢٢٤ برقم (٦٨٢٤). قال الهيثمي: وفيه خليد بن دعيج وهو متروك "المجمع" ٧/ ٣٧، وأبوالشيخ كما في "الدر" ٣/ ٥٨٦، "زاد المسير" ٤/ ٨٥.
(٩) "معاني القرآن" ٣/ ٤٣.
371
الحسين (١) بن علي رضي الله عنهما، وابن زيد (٢)، وعلى هذا أراد أن صورة النبي - ﷺ - ووجهه ومخائله كل ذلك يشهد له؛ لأن من نظر إليه بعقله علم أنه ليس بمجنون ولا كذاب ولا ساحر ولا كاهن، والكناية في ﴿مِنْهُ﴾ تعود على ﴿مَنْ﴾ ويراد به: النبي - ﷺ -.
وحكى ابن الأنباري أن بعض أهل العلم ذهب إلى أن الشاهد ما يشهد بإعجاز القرآن العالمين وإفحامِه أهلَ البلاغة، فالشاهد ما يشهد بأن القرآن غير مقدور على مثله وهو معنى تحت ألفاظ القرآن، وهذا قول الحسين بن الفضل (٣)، قال: هو نظم القرآن وإعجازه، وعلى هذا الكناية في (منه) تعود إلى معنى البينة، ومعناها البيان والبرهان، أي ويتلوه شاهد من ذلك البيان وهو نظمه وإعجازه، قال ابن قتيبة (٤): وهذا أعجب إليّ؛ لأنه يقول: ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى﴾ يعني التوراة قبل القرآن تشهد له بما قدم الله فيها من ذكره، قال أبو بكر: وذهب آخرون إلى أن الشاهد الإنجيل، ومعنى ﴿وَيَتْلُوهُ﴾ على هذا القول أي: ويتلو البينة التي معناها
(١) الطبري ١٢/ ١٥، الثعلبي ٧/ ٣٦ ب، "زاد المسير" ٤/ ٨٦، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠١٤.
وقد خطأ أحمد شاكر في تعليقه على الطبري ١٥/ ٢٧١ النسبة إلى الحسين؛ لأن في "التاريخ الكبير" للبخاري ٢/ ٢/ ٣١، "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم ٢/ ١/١٥٣ عند ترجمة سليمان العلاف الراوي هنا عن الحسين قالا: (إنه بلغه عن الحسن) والله أعلم.
(٢) الطبري ١٢/ ١٥، القرطبي ٩/ ١٧، ذكره الثعلبي ٧/ ٣٦ ب، ولم يعزه.
(٣) الثعلبي ٧/ ٣٦ ب، "زاد المسير" ٤/ ٨٦، البغوي ٤/ ١٦٧، القرطبي ٩/ ١٧.
(٤) "مشكل القرآن وغريبه" ١/ ٢٠٩.
372
القرآن [في التصديق] (١)، شاهد من الله وهو الإنجيل، قال الفراء (٢): ﴿وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾ يعني الإنجيل يتلو القرآن، وإن كان قد (٣) أنزل قبله، يذهب إلى أن يتلوه بالتصديق، فعلى هذا جعله الإنجيل تاليا للقرآن في تصديق محمد - ﷺ -. وقال ابن الأنباري (٤): معنى يتلوه على هذا القول هو: أن الله تعالى ذكر محمدًا في الإنجيل وأمر بالإيمان به، فهو تال لمحمد - ﷺ - لهذا المعنى، وإن كان نزوله قبل مولده وزمانه.
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً﴾، أي ومن قبل القرآن، أو من قبل محمد - ﷺ -، أو من قبل الإنجيل، وارتفع ﴿كِتَابُ مُوسَى﴾ بمضمر بعده، تأويله: ومن قبله كتاب موسى كذلك، أي تلاه في التصديق على ما ذكرنا في الإنجيل، قاله ابن الأنباري (٥)، قال: ويجوز أن يكون رفعًا على أنه فاعل، أي ويتلوه كتاب موسى في التصديق.
وذكر أبو إسحاق (٦) أيضًا هذا الوجه فقال: ويكون ﴿كِتَابُ مُوسَى﴾ عطفًا على قوله ﴿شَاهِدٌ مِنْهُ﴾ أي: وكان يتلوه ﴿كِتَابُ مُوسَى﴾؛ لأن النبي - ﷺ - بشر به موسى وعيسى في التوراة والإنجيل. قال: ويجوز أن يكون المعنى: وكان من قبل هذا كتاب موسى دليلًا على أمر النبي - ﷺ -، قال: ونصب ﴿إِمَامًا﴾ على الحال لأن كتاب موسى معرفة.
(١) ساقط من (ب).
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٦.
(٣) ساقط من (ي).
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٨٦.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ٨٧
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٣/ ٤٤.
373
وقوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ وما اتصل به إلى قوله: ﴿إِمَامًا وَرَحْمَةً﴾ يقتضي جوابًا بحرف التشبيه وضد معناه، كما قال في موضع آخر: ﴿أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا﴾ [السجدة: ١٨] وهاهنا ترك الجواب.
قال أبو إسحاق (١): والتقدير أفمن هذه حاله كان هو وغيره ممن ليس على (٢) بينة سواء، فترك ذكر المضاد له؛ لأن فيما بعده دليلًا عليه وهو قوله: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ﴾ [هود: ٢٤] الآية، ونحو هذا قال الفراء (٣) فقال: ربما تركت العرب (٤) جواب الشيء المعروف معناه، كما قال الشاعر (٥):
فأقسم لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعًا
ومثل هذا من التنزيل قوله: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ [الزمر: ٩] الآية. ولم يؤت له بجواب، اكتفاء بما بعده من قوله: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾؛ فالقانتون آناء الليل والنهار الذين يعلمون،
(١) "معاني القرآن" ٣/ ٤٣ بنحوه.
(٢) ساقط من (ب).
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٦.
(٤) ساقط من (ب).
(٥) هو امرؤ القيس يريد: لو شيء أتانا رسوله سواك دفعناه بدليل قوله: "ولكن لم نجد لك مدفعًا". وفي الديوان ٢٤٢ (أجدك لو شيء..).
"الخزانة" ٤/ ٢٢٧، الطبري ١٢/ ١٨، "تهذيب اللغة" ٣/ ٣٨٤٥ (وحد)، "معاني القرآن" ٢/ ٧، "شرح المفصل" ٩/ ٧، ٩٤، كتاب "الصناعتين" / ١٨٢، "اللسان" (وحد) ٨/ ٤٧٨٣.
374
[وأضدادهم الذين لا يعملون] (١)، فاكتفى من الجواب بما تأخر من القول إذ كان فيه دليل عليه.
وقال ابن قتيبة (٢): هذا كلام مردود على ما قبله، محذوف منه الجواب للاختصار، وذلك أن الله تعالى ذكر قبل هذا الكلام قومًا ركنوا إلى الدنيا، ورضوا بها عوضًا من الآخرة فقال (٣): ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ [هود: ١٥] الآية. ثم قايس بين هؤلاء وبين النبي - ﷺ -، وصحابته فقال: ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ﴾ [هود: ١٧] كهذا الذي يريد الحياة الدنيا وزينتها، فاكتفى من الجواب بما تقدم، إذ كان فيه دليل عليه، وفي ذكر النبي - ﷺ - ذكر لأصحابه ولمن آمن واتبعه، ألا ترى أنه قال ﴿أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾، قال ابن عباس (٤) في رواية عطاء: يريد الذين صدقوا النبي - ﷺ - من أهل الكتاب، فمن قال بهذا القول قال: يعني أصحاب موسى وعيسى من كان منهم على الطريقة المثلى، واستقام على المنهاج، آمن بمحمد - ﷺ -.
وقال عبد الله بن مسلم (٥): يعني أصحاب محمد - ﷺ -.
قال ابن الأنباري (٦) قوله: ﴿أُولَئِكَ﴾ هو إشارة إلى أهل الحق والمتمسكين بالصواب من أمم موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام، وذلك أنه عز وعلا لما وصف محمدًا بما فضله به؛ من تمسكه بالهدى،
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٢) "مشكل القرآن وغريبه" ١/ ٢٠٨، وفيه اختلاف يسير.
(٣) ساقط من (جـ).
(٤) "تنوير المقباس" /١٣٩، الثعلبي ٧/ ٣٧ ب.
(٥) هو ابن قتيبة، ذكره في "مشكل القرآن وغريبه" ١/ ٢٠٩.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٨٨.
375
وشهادة التوراة والإنجيل بصدقه، أشار إلى المؤمنين به، المتمسكين بما يوجد في التوراة والإنجيل والقرآن من صدقه ووضوح أمره، فكانت الإشارة إلى القوم الذين دلَّ ما تقدم على ذكرهم، والكناية في ﴿بِهِ﴾ تعود إلى محمد - ﷺ -.
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ﴾، قال ابن عباس (١): يريد الذين كذبوا الأنبياء. والأحزاب: الفرق الذين كذبوا الأنبياء، سموا أحزابًا لأنهم تحزبوا على مخالفة أنبيائهم أي اجتمعوا.
وقال الفراء (٢): من الأحزاب أي من أصناف الكفار، فيدخل فيهم اليهود، والنصارى، والمجوس.
وقال قتادة (٣): هم اليهود والنصارى؛ يدلّ على صحة هذا ما روى سعيد بن جبير عن أبي موسى أن النبي - ﷺ - قال: "لا يسمع بي يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي، إلا كان من أهل النار" (٤)، قال أبو موسى: فقلت في
(١) روي من طرق عن سعيد بن جبير. انظر: "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٠٣، الطبري ١٢/ ١٩.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٨.
(٣) الطبري ١٢/ ٢٠، و"زاد المسير" ٤/ ٨٨، وأخرجه أبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٨٧، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠١٦.
(٤) أخرجه أحمد ٤/ ٣٩٦، وأخرجه الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٨/ ٢٦١، ٢٦٢، وقال: رواه الطبراني واللفظ له، وأحمد بنحوه، ورجال أحمد رجال الصحيح، والبزار أيضًا باختصار. وأخرجه النسائي في "التفسير" ١/ ٥٨٥. وأخرجه الحاكم ٢/ ٣٤٢ من حديث ابن عباس مرفوعًا وصححه ووافقه الذهبي. وأخرجه مسلم (١٥٣) كتاب: الإيمان، باب: وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد - ﷺ - إلى جميع الناس ونسخ الملل بملته من حديث أبي هريرة، والطبري ١٢/ ١٩ من طرق.
376
نفسي: إن النبي - ﷺ - لا يقول مثل هذا إلا عن (١) القرآن، فوجدت الله يقول: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾. قال صاحب النظم: لما قال: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ دل ذلك على أن من يؤمن به فهو في الجنة؛ لأنه إذا أوجد الشيء بصفة وجب أن يوجد بضد تلك الصفة ضد ذلك الشيء.
وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾، قال مقاتل بن سليمان (٢): الهاءان تعودان على القرآن، والمعنى فلا تك في مرية من القرآن إنه من الله، إن القرآن هو الحق من ربك [لا كما يقول المشركون من أنك تأتي به من قبل نفسك، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (٣): فلا تك في مرية من أن موعد الكافر النار، إن ذلك هو الحق من ربك] (٤).
قال أبو بكر: فمن بني على هذا التأويل أعاد الهاءين على التعذيب؛ لأن قوله ﴿فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ﴾ معناه: فهو معذب، فرجعت الهاء على معنى الكلام، وكان تلخيصها (فلا تك في مرية من تعذيبه؛ إن تعذيبه الحق من ربك)، ولا يستنكر رجوع الهاء على حرف غير مذكور إذا كان المذكور يدلّ عليه. وقال ابن قتيبة (٥): الخطاب في قوله: ﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ﴾ للنبي - ﷺ - والمراد به غيره.
(١) في (ب): (علي).
(٢) "تفسير مقاتل" ١٤٤ ب، "زاد المسير" ٤/ ٨٩.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٨٩، "تنوير المقباس" ١٣٩.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٥) "تأويل مشكل القرآن" ٣٩٦.
377
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ يعني أهل مكة (١).
١٨ - وقوله تعالي: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ معناه لا أحد أظلم منه، إلا أنه خرج مخرج الاستفهام، مبالغة في أنه أظلم لنفسه من كل ظالم، إذ لا يصح الجواب عمن هو أظلم منه، قال ابن عباس: يريد كذب على الله، مثل قولهم: هؤلاء شفعاؤنا عند الله، وذكرنا ما في هذا في سورة الأنعام (٢).
وقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ﴾، ذكرنا معنى العرض عند قوله: ﴿ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ﴾ (٣)، قال أبو إسحاق (٤): والخلق كلهم يعرضون على ربهم، وذكر عرض هؤلاء، توكيدًا لما لهم في الانتقام منهم.
قال ابن الأنباري: ومعناه أن العذاب نازل بهم غير مندفع (٥) عنهم، فذكر عرضهم تصحيحًا لتعذيبهم، وتحقيقًا لما ينزل بهم، فوقع الاختصاص في الآية لما كان المعنى: أولىك لا يفوتون الله ولا يسبقون (٦) عذابه.
(١) "زاد المسير" ٤/ ٨٩.
(٢) آية: ٢١. وقد نقل هنالك عن ابن عباس قوله: "ومن أكفر ممن اختلق على الله كذبًا فأشرك به الآلهة"، وقال أهل المعاني: (هذا الاستفهام معناه الجحد، أي لا أحد أظلم منه؛ لأنه جوابه كذلك فاكتفى من الجواب بما يدل عليه).
(٣) البقرة: ٣١. قال هنالك: "ومعنى العرض في اللغة: الإظهار، ومنه عرض الجارية وعرض الجند، الليث: ويقال أعرض الشيء، أي بدا وظهر".
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٤.
(٥) في (ي): (منتفع).
(٦) في (ب): (يشفعون).
378
وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾، الأشهاد: يجوز أن يكون جمع شاهد، مثل صاحب وأصحاب، وناصر وأنصار، ويجوز أن يكون جمع شهيد مثل: شريف وأشراف (١)، قال أبو علي: وهذا كأنه أرجح؛ لأن ما جاء من ذلك في التنزيل جاء على (فعيل) كقوله: ﴿وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ [البقرة: ١٤٣] و ﴿وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ﴾ [النحل: ٨٩].
قال ابن عباس (٢): يريد الأنبياء والملائكة، وقال مجاهد والأعمش (٣): هم الملائكة الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا.
وقال قتادة (٤): يعني الخلائق، ونحو هذا قال مقاتل بن سليمان (٥): الأشهاد: الناس؛ كما يقال على رؤوس [الأشهاد، يعني على رؤوس] (٦) الناس، فالأشهاد على هذه الأقوال: الأنبياء والملائكة والمؤمنون.
قال ابن الأنباري (٧): والفائدة في إخبار الأشهاد بما الله يعلمه، تعظيم الأمر على المشهود عليه، وحسم طمعه من أن يجد سبيلا إلى
(١) ما سبق من كلام أبي عبيدة. "مجاز القرآن" ١/ ٢٨٦.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٨٩، والبغوي ٤/ ١٦٨، و"القرطبي" ٩/ ١٨، وهو قول الطبري ١٢/ ٢٠.
(٣) الطبري ١٢/ ٢٠ - ٢١ عن مجاهد والأعمش وغيرهم.
وانظر: "زاد المسير" ٤/ ٨٩، والبغوي ٤/ ١٦٨، والقرطبي ٩/ ١٨.
(٤) "تفسير عبد الرزاق" ٢/ ٣٠٤، وابن أبي حاتم ٤/ ١٥٨ ب.
(٥) "تفسير مقاتل" ١٤٤ ب، "زاد المسير" ٤/ ٨٩.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٧) "زاد المسير" ٤/ ٨٩.
379
التخلص، بمجاحدة أو مدافعة. وقال غيره: هو توبيخ لهم من الشهداء، وهتك سترهم، وإظهار فضيحتهم.
وقوله تعالى: ﴿هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ﴾، قال ابن عباس: زعموا أن لله ولدًا وشريكًا، ﴿أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ قال: يريد المشركين، قال الزجاج (١): ومعنى لعنة الله: إبعاده من رحمته وعفوه (٢).
١٩ - قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا﴾ مضى تفسيره مشبعًا في سورة آل عمران (٣).
قوله تعالى: ﴿وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾، قال الزجاج (٤): ذكر ﴿هُمْ﴾ ثانية على جهة التوكيد لشأنهم في الكفر.
٢٠ - قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾، معنى الإعجاز: الامتناع من المراد بما لا يمكن معه إيقاعه؛ يقال: أعجزني فلان: أي امتنع عن مرادي فيه، ومعنى ﴿مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ فائتين هربًا فيها، كما يهرب الهارب من عدو قد جدّ في طلبه، هذا معنى قول المفسرين في (معجزين)، فإن ابن عباس قال (٥): سابقين.
(١) في (ي): (الحجاج).
(٢) "معاني القرآن" ٣/ ٤٤.
(٣) آل عمران: ٩٩، وخلاصة ما ذكره هنالك ما نقله عن أهل المعاني "تأويل الآية: يطلبون أن يعوجوا سبيل الله، وأن يكون فيها عوج؛ لأن معنى ﴿سَبِيلِ اللهِ﴾ الطريق التي هي الوصلة إلى رضا الله، فهم يطلبون أن يعوجوا هذا الطريق، حتى لا يصل إلى رضا الله من سلكها.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٥.
(٥) ابن أبي حاتم ٨/ ٢٠.
380
وقال مقاتل (١): فائتين، وقال قتادة: هُرَّابا (٢).
قال ابن الأنباري (٣): خصّ الله الأرض بالذكر، وهم لا يخرجون عن قبضته في كل موضع، على عادة العرب في قولهم: لا مهرب لك مني، ولا وزر (٤) ولا نفق يعصمانك من عقابي، يعنون بالوزر الجبل، وبالنفق السَّرَب، وكلاهما من الأرض يلجأ إليه الخائف المطلوب، أعلم الله أن هؤلاء الكافرين لا يسبقونه هربًا، ولا يجدون ما يحجز بينهم وبين عذابه من جميع ما يستر من جبال الأرضين وغوامض أمكنتها، وقد قال عطاء عن ابن عباس (٥) في هذه الآية: يريد لم يعجزوني أن آمر الأرض فتخسف بهم.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾، قال ابن عباس (٦): يريد ممن يعبدون فتمنعهم مني.
وقال أبو إسحاق (٧) في هذه الآية: أخبر الله أنه لا يعجزه انتقام في دار الدنيا، وأنه لا وَليّ لهم يمنعهم من انتقام الله عز وجل.
(١) "تفسير مقاتل" ١٤٥ أ.
(٢) ما سيق ذكره عنهم الثعلبي ٧/ ٣٨ أ، وقال به مقاتل بن حيان، ولم أجده في تفسير مقاتل بن سليمان. وانظر: ابن عطية ٧/ ٢٦٤، "زاد المسير" ٤/ ٩٠، القرطبي ٩/ ١٩، ابن كثير ٢/ ٤٨٣.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٩٠ بنحوه.
(٤) الوزر هو: الجبل المنيع عند أهل اللغة. انظر: "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٨٣، اللسان (وزر) ٨/ ٤٨٢٣ - ٤٨٢٤.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ٩٠، القرطبي ٩/ ١٩.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٩٠، وهو قول الطبري ١٢/ ٢٢ - ٢٣.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٥ بنحوه.
381
قال ابن الأنباري (١): وهذا يقتضي محذوفًا تلخيصه: من أولياء يمنعونهم من عذاب الله، ويحاولون نصرتهم، فحذف عند شهرة المعنى، ثم استأنف فقال: ﴿يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ﴾، قال ابن عباس: يعني يوم القيامة، وقال الزجاج (٢): وصف مضاعفة العذاب على قدر ما وصف من عظيم كفرهم بنبيه - ﷺ - وبالبعث والنشور، وقال أبو بكر (٣): استحقوا مضاعفة العذاب لإضلالهم الأتباع، واقتداء غيرهم بهم (٤).
وقوله تعالى: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ﴾، قال عطاء عن ابن عباس: ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا شيئًا من عظمتي وجبروتي، يريد: أني حلت بينهم وبين الإيمان (٥). وقال قتادة (٦): هم صم عن الحق فلا يسمعون، وعمي فلا يبصرون ولا يهتدون، وقال الوالبي عن ابن عباس (٧): حال الله بين أهل الكفر وبين أهل الطاعة في الدنيا والآخرة، فأما في الدنيا ففي قوله: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾، وأما في الآخرة ففي قوله: ﴿وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ [القلم: ٤٢]، وهذا مذهب المفسرين في هذه الآية، ذكره الفراء وابن الأنباري.
(١) "زاد المسير" ٤/ ٩٠.
(٢) "معاني القرآن" ٣/ ٤٥.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٩٠، والبغوي ٤/ ١٦٩.
(٤) في (ب): (به).
(٥) الطبري ١٢/ ٢٢ - ٢٣، الثعلبي ٧/ ٣٨ أ، صحيفة علي بن أبي طلحة / ٢٨٤، "زاد المسير" ٤/ ٩١، البغوي ٤/ ١٦٩.
(٦) الطبري ١٢/ ٢٢، الثعالبي ٧/ ٣٨ أ، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠١٨.
(٧) الطبري ١٢/ ٢٢، الثعلبي ٧/ ٣٨ أ، البغوي ٤/ ١٦٩، ونصه: "أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة... إلخ ".
382
قال الفراء (١): ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾ أي أضلهم الله عن ذلك في اللوح المحفوظ.
وقال ابن الأنباري: ما كانوا يستطيعون السمع للحق والإبصار إليه لما سبق لهم عند الله من الشقاء.
وذكر الفراء (٢) وجها آخرًا فقال: فسره بعض المفسرين: يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع ولا يفعلون، ثم حذفت الباء، ومثله في الكلام: لأخزينك بما عملت وما عملت، قال أبو بكر (٣): وموضع (ما) (٤) على هذا الجواب نصب بسقوط الخافض، والناصب لها ﴿يُضَاعَفُ﴾؛ كما يقولون: تعلقت بعبد الله، وتعلقت عبد الله، قال الشاعر (٥):
نغالي اللحم للأضياف نيا ونبذله إذا نضج القدور
وذكر أبو إسحاق (٦) وجهًا آخر: أي من شدة كفرهم وعداوتهم للنبي - ﷺ - ما كانوا يستطيعون أن يتفهموا ما يقوله.
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٨.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٨.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٩١.
(٤) ساقط من (ي).
(٥) البيت لرجل من قيس في "جمهرة اللغة" ٣/ ١٣١٧، و"أساس البلاغة" (غلو)، ومعناه: نشتريه غاليًا ثم نبذله ونطعمه إذا نضج في قدورنا. وبلا نسبة في: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٨٥، ٣/ ٢٦٨٢، "اللسان" مادة (رخص) ٣/ ١٦١٦، "زاد المسير" ٣/ ٣٩٨، "معاني الفراء" ٢/ ٣٨٣، "تاج العروس" ٩/ ٢٨٨ (رخص)، (غلا)، "ديوان الأدب" ٤/ ١٢١.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٥.
383
قال أبو بكر (١): ومعنى هذا: ما كانوا يستمعون الحق ولا يبصرون ما فيه لهم (٢) الرشد؛ لعنادهم وشدة عداوتهم، فصاروا لملازمتهم الإعراض عن الخير بمنزلة من لا يستطيعه، وإن كان مستطيعًا له في الحقيقة، كما تقول للرجل: ما تستطيع أن تنظر إلى من شدة العداوة، أي أنت بإيثارك الإعراض عني، بمنزلة من لا يستطيع النظر إلى، ومعلوم أنه لو شاء أن ينظر إليه لنظر.
ثم بين جل وعز أن ضرر ذلك راجع عليهم، فقال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ﴾، قال ابن عباس: أي صاروا إلى النار، وخسران النفس أعظم الخسران؛ لأنه ليس منها عوض.
وقوله تعالى: ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ أي: بطل افتراؤهم في الدنيا فلم ينفعهم في الآخرة شيئًا (٣)، قال الحسن (٤): ذهبت عنهم الأوثان التي كانوا يؤملون بها الانتفاع.
٢٢ - قوله تعالى: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾ [اختلفوا في معنى "لا جرم"؛ فقال ابن عباس (٥): يقول: حقا إنهم في الآخرة هم الأخسرون] (٦)، وكذلك قال أكثر (٧) المفسرين.
(١) "زاد المسير" ١/ ٣٤٦، "البحر" ٢/ ٧٦٦.
(٢) ساقط من (ي).
(٣) انظر: "البحر المحيط" ٥/ ٢١٢، ابن كثير ٢/ ٤٨٣، القرطبي ٩/ ٢٠، ابن عطية ٧/ ٢٦٦.
(٤) انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" ٢/ ٢٢١.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ٩١.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٧) ساقط من (ي).
384
قال الفراء (١): "لا جرم" كلمة كانت في الأصل بمنزلة (٢) (لا بد) و (لا محالة)، فكثر استعمالها حتى صارت بمنزلة (حقا)، ألا ترى أن العرب يقول: لا جرم لآتينك، فتراها بمنزلة اليمين، وكذلك فسرها المفسرون (٣) في قوله تعالى: ﴿لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ﴾ حقا (٤)، انتهى كلامه، وعلى هذا معنى ﴿لَا جَرَمَ﴾ أي لا قطع قاطع عن أنهم في الآخرة هم الأخسرون، إلا أنه كثر حتى صار كالمثل، فإذا قالوا: لا جرم، فكأنهم قالوا: حقًا، والأصل مما ذكرنا، ووضع موضع القسم في قولهم: لا جرم لأفعلن كذا، كما قالوا: حقًا لأفعلن، إذ جعلوه بدلاً من اليمين، وهذا قول في هذه الكلمة.
وقال الزجاج (٥): معنى لا جرمِ: (لا) نفي لما ظنوا أنه ينفعهم، كأن المعنى: لا ينفعهم ذلك، ﴿جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾ أي: كسب ذلك الفعل لهم الخسران، وذكرنا ﴿جَرَمَ﴾ هو بمعنى كسب في قوله: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ (٦).
قال الأزهري (٧): وهذا من أحسن ما قيل فيه.
قال ابن الأنباري: (جرم) على هذا القول فعل ماض، وفاعله مضمر
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٨.
(٢) ساقط من (ي).
(٣) انظر: الطبري ١٢/ ٢٣، البغوي ٤/ ١٦٩، ابن عطية ٧/ ٢٦٦ - ٢٦٨، "البحر المحيط" ٥/ ٢١٢، الرازي ١٧/ ٢٠٨، القرطبي ٩/ ٢٠.
(٤) ساقط من (ب).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٦.
(٦) المائدة: ٢. قال هنالك: وأكثر أهل اللغة والمعاني يقولون: لا يكسبنكم، ونقل ذلك عن جماعة منهم الفراء وابن الأنباري وأبو علي الفارسي وغيرهم.
(٧) "تهذيب اللغة" ١/ ٥٨٧ - ٥٨٨ (جرم)، قال: "وهذا من أبين ما قيل فيه".
385
فيه (١) من ذكر الكفر، و (أنَّ) منصوبة بـ (جرم) كما يقول القائل: كسب جفاؤك زيدًا غضبه عليك، وقد قال الأزهري: [وقد قيل] (٢): (لا) صلة في ﴿لَا جَرَمَ﴾ والمعنى: كسب لهم عملهم الندامة، وقال قوم: (لا) رد على أهل الكفر كما ذكرنا، وجرم معناه أحق صحيح، والتأويل: حق كفرهم ووقوع العذاب والخسران بهم، وهذا مذهب الأخفش (٣)، وسيبويه (٤)، واحتجوا بقول الشاعر (٥):
ولقد طعنت أبا عيينة طعنة جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا
أراد: أحقت الطعنة فزارة الغضب، ورواه بعضهم فزارةُ بالرفع يعني: حققت فزارة الغضب، وأنكر الفراء وأبو العباس هذا القول، قال الفراء (٦): جرمت فزاره بالنصب، والمعنى جرمتهم الطعنة أن يغضبوا.
(١) ساقط من (ي).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٤٥٩.
(٤) "الكتاب" ٣/ ١٣٨، "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٨٤ - ٨٥.
(٥) هو: أبو أسماء بن الضريبة، أو عطية بن عفيف، كما في "مجاز القرآن" ١/ ٣٥٨، وقد ورد في "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٤٥٩، و"معاني القرآن" للفراء ٢/ ٩، والزجاج ٢/ ٤٥، والخزانة ٤/ ٣١٠، والكتاب ٣/ ١٣٨.
وقبله:
يا كرز إنك قد قتلت بفارس بطل إذا هاب الكماة وجببوا
كان كرز قد طعن أبا عيينة حصن بن حذيفة الفزاري في يوم الحاجر فقتل به فرثاه الشاعر، وقوله "جببوا" أي فروا.
وانظر: "اللسان" (جرم) ١/ ٦٠٥، "تهذيب اللغة" للأزهري ١/ ٥٨٨، (جرم).
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٩.
386
٢٣ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ﴾، معنى الإخبات في اللغة: الخشوع والتواضع والطمأنينة، وأصله من الخبت وهو ما تطامن من الأرض، قال العدوي (١): الخبت الخفي المطمئن، وخبت ذكره أي خفي، ومنه المخبت من الناس. أخبت إلى ربه أي اطمأن إليه، وقال الفراء (٢): ومعنى الإخبات الخشوع.
وقال غيره: هو سكون الجوارح على جهة الخصوع لله، هذا معناه في اللغة.
فأما التفسير فقال مجاهد (٣) فيما روى عنه ابن جريج وابن أبي نجيح (٤): اطمأنوا، قال ابن الأنباري: ولهذا المعنى عدي بـ"إلى"؛ لأنه أريد بالإخبات الطمأنينة، والطمأنينة (٥) تصحبها (إلى)، والإخبات يستعمل مع اللام يقال: قد أخبت فلان لفلان.
(١) "تهذيب اللغة" ١/ ٩٧٣، مادة (خبت)، و"اللسان" ٢/ ١٠٨٧ (خبت)، والعدوي هو: أبو النضر سعيد بن أبي عروبة مهران العدوي البصري، محدث، ثقة، حافظ، توفي سنة ١٥٥هـ أو سنة ست أو سبع. انظر: العبر ١/ ٢٢٥، "التهذيب" ٢/ ٣٣ - ٣٥، "تاريخ العلماء النحويين" /٩٦.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ١٠.
(٣) "الطبري" ١٢/ ٢٤، والثعلبي ٧/ ٣٨ ب، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٥٩٠، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠١٩، والبغوي ٤/ ١٧٠، و"زاد المسير" ٤/ ٩٣.
(٤) هو: أبو يسار عبد الله بن أبي نجيح المكي الثقفي بالولاء، ثقة رمي بالقدر والاعتزال ربما دلس، توفي ١٣١هـ. انظر: "الميزان" ٢/ ٥١٥، "التقريب" ص ٣٢٦ (٣٦٦٢).
(٥) زيادة من (ي).
وقال قتادة (١): تابوا إلى ربهم، ودخلت (إلى) على هذا القول لمعنى التوبة (٢).
وقال مقاتل بن سليمان (٣): أخلصوا إلى ربهم، ودخلت (إلى) علي هذا القول؛ لأنه محمول على: وجهوا إخلاصهم إلى ربهم.
وقال عطاء عن ابن عباس (٤) خشعوا، وهو اختيار الفراء (٥)، وعلى هذا جعلت (إلى) بدلاً من اللام لتضارعهما في قولك: هديته للموضع وإلى الموضع، ذكره الفراء.
قال أبو بكر (٦): ويصلح أن يقال (إلى) (٧) مصروفة إلى معنى وجهوا خشوعهم إلى ربهم.
٢٤ - قوله تعالى: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ﴾ الآية، قال المفسرون (٨): قوله ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ﴾ إلى قوله ﴿هُمُ الْأَخْسَرُونَ﴾ نزل في المستهزئين ورؤساء المشركين، ثم نزل في أصحاب رسول الله - ﷺ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الآية، ثم نزلت هذه الآية مثلا جامعًا للفريقين
(١) الطبري ١٢/ ٢٤، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٢٠، الثعلبي ٧/ ٣٨ ب، البغوي ٤/ ١٧٠، "زاد المسير" ٤/ ٩٢، وكلهم نقلوا عنه: أنابوا إلى ربهم.
(٢) في (ي): (التوحيد).
(٣) "تفسير مقاتل" ١٤٥ أ، "زاد المسير" ٤/ ٩٣.
(٤) رواه الطبري عن قتادة ١٥/ ٢٩٠، وعبد الرزاق ٢/ ٣٠٤، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٥٩٠، وهو في "تنوير المقباس" / ١٣٩.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ١٠.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٩٣، والقرطبي ٩/ ٢٢.
(٧) في (ي): (أن).
(٨) "زاد المسير" ٤/ ٩٣.
388
فقال: ﴿مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ﴾ أي مثل (١) فريق الكافرين وفريق المسلمين. والفريق: الطائفة من الناس.
﴿كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ﴾ ذكرنا معناه في قوله: ﴿مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ﴾ [هود: ٢٠]، قال قتادة (٢): هو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر؛ فأما الكافر فصمّ عن الحق فلا يسمعه، وعمي عنه فلا يبصره، وأما المؤمن فسمع الحق فانتفع به، وأبصره فوعاه قلبه وعمل به.
وقوله تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا﴾، قال الفراء (٣): كان حقه هل يستوون، ولكن الأعمى والأصم [والبصير والسميع] (٤) كأنهما واحد؛ لأنهما من وصف المؤمن والكافر (٥)، وشرح ابن الأنباري (٦) هذا الجواب فقال: الأعمى والأصم صفتان لكافر، والبصير والسميع لمؤمن، فرد الفعل إلى الموصوفين بالأوصاف الأربعة، وليس بمحظور (٧) عطف النعوت بعضها على بعض بحرف العطف والموصوف واحد، وقد ذكرنا هذا عند قوله: ﴿وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ﴾ (٨)
(١) ساقط من (ب).
(٢) الطبري ١٢/ ٢٥، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٢٠، "زاد المسير" ٤/ ٩٣، القرطبي ٩/ ٢١.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٧.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٥) ساقط من (ي).
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٩٤، وانظر: الطبري ١٢/ ٢٥، وابن عطية ٧/ ٢٦٨.
(٧) في (ب): (بمخصوص).
(٨) البقرة: ٥٣. وفي الأصل: (وآتينا موسى..) وهو خطأ. وقد ذكر عند هذه الآية ما ملخصه: أن الكتاب هو الفرقان، والعرت تكرر الشيء إذا اختلفت ألفاظه. ويمكن أن يراد بالفرقان انفراق البحر، ويمكن أن يكون الفرقان نعتًا للكتاب، يريد: وإذ =
389
وأنشد (١):
يظن سعيد وابن عمرو بأنني إذا سامني ذلا أكون به أرضى
فنسق ابن عمرو على سعيد في المعنى، وهذا أعرب من الأول، إذا (٢) نسق نعتًا (٣) على اسم، ونسق النعت [على النعت] (٤) أبعد من اللبس.
وقوله تعالى: ﴿مَثَلًا﴾ نصب على التفسير، ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ قال ابن عباس (٥): أفلا تتعظون يا أهل مكة.
٢٥ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي﴾ ويقرأ بكسر الألف، فمن فتح (٦) حمل على أرسلنا، أي أرسلناه بأني لكم نذير، وكان الوجه بأنه لهم نذير، ولكنه على الرجوع من الغيبة إلى خطاب (٧) نوح قومه كما قال: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ﴾ [الأعراف: ١٤٥] ثم قال: {فَخُذْهَا
= آتينا موسى الكتاب الفرقان، أي الفارق بين الحلال والحرام، زيدت الواو كما تزاد في النعوت، فيقال: فلان حسن طويل وسخي. ولعل هذا القول هو المناسب لإيراده هنا.
(١) البيت من الطويل، ولم ينسبه الواحدي، وهو بلا نسبة في "زاد المسير" ٤/ ٧٨، والمخاطب بهذا البيت هو سعيد بن عمرو بن عثمان بن عفان.
(٢) كذا في النسخ ولعله (إذْ).
(٣) ساقط من (ب).
(٤) ساقط من (ب).
(٥) "تنوير المقباس" /١٣٩، البغوي ٤/ ١٧٠.
(٦) وبها قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي، انظر: "السبعة" ٣٣٢، "التبصرة" ٥/ ٥٣٧، "الكشف عن وجوه القراءات السبع" لمكي ١/ ٥٢٥، "الحجة" ٤/ ٣١٥، الثعلبي ٧/ ٣٨ ب.
(٧) في (ي): (الخطاب).
بِقُوَّةٍ}، ذكره أبو علي (١)، ومن كسر (٢) حمله على القول المضمر؛ لأنه مما قد أضمر كثيرًا في القرآن، والتقدير: فقال لهم: إني نذير مبين، والكلام في هذا على وجهه ولم يرجع إلى الخطاب بعد الغيبة.
٢٦ - قوله تعالى: ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾، حمل أبو إسحاق قوله ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا﴾ على معنى نذير مبين؛ فقال (٣): المعنى: لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه بالإنذار ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ﴾ أي (٤) أنذركم لتوحدوا الله وتتركوا عبادة غيره، وحمل أبو علي (٥) ﴿أَنْ لَا تَعْبُدُوا﴾ على الإرسال، كما حمل ﴿إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ كأنه قال نوح: أرسلت بأني لكم نذير مبين، وبأن لا تعبدوا إلا الله، ومن قرأ "إني" بكسر الألف (٦) كان قوله: ﴿إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ اعتراضًا بين الفعل والمفعول، هذا معنى كلامه، وقول أبي إسحاق أظهر.
وقوله تعالى: ﴿إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾، قال الزجاج (٧): إنما وصف اليوم بالأليم؛ لأن الإيلام فيه يقع، والمعنى عذاب يوم مؤلم.
(١) "الحجة" ٤/ ٣١٥.
(٢) سيأتي تخريج القراءة بعدُ.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٦.
(٤) في (ي): (أني).
(٥) "الحجة" ٤/ ٣١٦.
(٦) بها قرأ نافع وابن عامر وحمزة. انظر: "السبعة" ٣٣٢، "التبصرة" ٥٣٨، "الكشف عن وجوه القراءات السبع" لمكى ١/ ٥٢٥، "الحجة" ٤/ ٣١٥، الثعلبي ٧/ ٣٨ ب.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٦، وعبارته (إنما وصف اليوم بالألم؛ لأن الألم فيه يقع، والمعنى عذاب يوم مؤلم أي: موجع).
٢٧ - قوله تعالى: ﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ﴾، قال ابن عباس (١) والمفسرون (٢): يعني: الأشراف ورؤساء القوم وكبراءهم ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا﴾ لا فضل لك علينا ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾ أي لم يتبعك الملأ منا وإنما اتبعك أخساؤنا، قال ابن عباس (٣): يريد: المساكين الذين لا عقول لهم ولا شرف ولا مال، وهذا كقوله في الشعراء: ﴿أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ﴾ [الشعراء: ١١١].
قال الزجاج (٤): نسبوهم إلى الحياكة، والصناعات لا تضر في باب الديانات، والرذل (٥) الدون من كل شيء في منظره وحالاته، ورجل رذل الثياب، والفعل رذل يرذل رذالة، وأرذل الشيء جعله رذلًا؛ يقال: أرذل فلان دراهمي، فالأراذل (٦) يجوز أن تكون جمع الجمع، والواحد رذل والجمع أرذل (٧) ثم يجمع على أراذل، كقولك: كلب وأكلب وأكالب، ويجوز أن يكون جمع الأرذل إذا جعلته اسمًا كالأساود في جمع الأسود من الحيات، هذا قول بعضهم، قال: الأصل فيه هو أرذل من كذا ثم كثر حتى قالوا هو الأرذل، فصارت الألف واللام عوضًا من الإضافة.
(١) "تنوير المقباس" ١٤٠.
(٢) البغوي ٤/ ١٧١، ابن عطية ٧/ ٢٧٠، ابن كثير ٢/ ٤٨٤، الرازي ١٧/ ٢١١، "معاني القرآن" للزجاج ٣/ ٤٧، "تفسير مقاتل" ١٤٥ أ.
(٣) القرطبي ٩/ ٢٣.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٤/ ٩٥، القرطبي ٩/ ٢٣، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٣٩٧ (رذل).
(٥) في (ب): (الرذال).
(٦) في (ب): (فالأرذال).
(٧) في (ب): (أرذال).
392
وقوله تعالى: ﴿مَا نَرَاكَ﴾، ﴿نَرَاكَ﴾ عند الفراء (١) لغو اعترض به وكأنه قيل: وما اتبعك، قال أبو علي (٢): لا يجوز أن يكون "نراك" اعتراضًا؛ لأنه قد تعدى إلى المفعول فلا يحسن الاعتراض به، ولو لم يتعد لحسن، كما تقول: زيد ظننت منطلق، ولو ألغيته وقد عديته إلى مفعول لم يجز، فإن قلت فقد قال الشاعر (٣):
وما أراها تزال ظالمة تحدث لي قرحة وتنكأها
فعدى أرى إلى الضمير، وجعل أراها اعتراضًا، قيل: إن الضمير في قوله (أراها) كناية عن المصدر [فلا يقتضي مفعولًا ثانيًا، وفي قوله "نراك" المفعول للخطاب، والخطاب لا يكون كناية عن المصدر] (٤)، فلا تكون الآية في قياس البيت.
وقوله تعالى: ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾، البادي (٥): الظاهر، من قولك: بدا
(١) "معاني القرآن" ٢/ ١١، ولم يقل الفراء بأنها لغو، وإنما قال: "كأنه حذف (نراك)، وقال ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا﴾.
(٢) "الحجة" ٤/ ٣٢٠.
(٣) ابن هرمة. هو: أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن سلمة بن عامر بن هرمة القرشي من الخلج وهم من قيس بن الحارث بن فهر. سكن المدينة وهو من آخر الشعراء الذين يحتج بشعرهم، مات سنة ١٥٠هـ تقريبًا. انظر: "طبقات الشعراء" ٢٠، و"تاريخ بغداد" ٦/ ١٢٧.
والبيت في "ديوانه" (٥٦) وفيه: تظهر لي قرحة وتنكؤها، وانظر: السيوطي ٢٧٧، ٢٧٩، "تاج العروس" (اقط) ١٩/ ١٣٤، أساس البلاغة /٤٠٢ (لبأ)، الدرر ١/ ٨١، ٢٠٧، وهو بلا نسبة في الهمع ١/ ١١١، ٢٤٨، "تهذيب اللغة" ١٥/ ٤٨٣، "اللسان" (أنف) ٩/ ١٤.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥) "تهذيب اللغة" (بدا) ١/ ٢٨٧ - ٢٨٨.
393
الشيء إذا ظهر، ومنه يقال للبرية: بادية لظهورها وبروزها للناظر، واختلفوا في معنى ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ فذكر أبو إسحاق (١) فيه وجهين:
أحدهما: اتبعوك في الظاهر، وباطنهم على خلاف ذلك.
قال: ويجوز أن يكون: اتبعوك في ظاهر الرأي، ولم يتدبروا ما قلت ولم يتفكروا.
والوجه الأول روى معناه عطاء الخراساني عن ابن عباس (٢): في قوله ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ قال: فيما ظهر لنا.
وذكر ابن الأنباري (٣) وجهًا آخر، فقال: معناه اتبعك سفلتنا أو سقطاؤنا، فيما يظهر من أمرهم لنا ولغيرنا، أي الذي وصفناهم به من الانتقاص لهم والازدراء بهم ظاهر لجميع من يراهم، وليس ذلك أمرًا يغيب ويغمض فيخالفنا فيه غيرنا.
قال: وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل بن سليمان (٤)، و ﴿الرَّأْيِ﴾ على هذا من رأي العين، لا من رأي القلب، وكذلك في الوجه الأول الذي ذكره الزجاج، ويؤكد ما ذكره ابن الأنباري من مذهب مقاتل بن سليمان: ما رواه عبد الوهاب بن مجاهد (٥)، عن أبيه (٦) قال: معناه إلا الذين هم أراذلنا رأي
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٧، وانظر: "تهذيب اللغة" (بدا) ١/ ٢٨٧ - ٢٨٨.
(٢) الطبري ١٢/ ٢٨، وابن المنذر كما في "الدر" ٣/ ٥٩٠.
(٣) " الزاهر" ١/ ٢٢٦، "زاد المسير" ٤/ ٩٦.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٩٦، "تنوير المقباس" ١٤٥ أ.
(٥) هو: عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر، روي عن أبيه، كذبه الثوري وضعفه وكيع وأحمد وابن معين وأبو حاتم، وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه.
انظر: "طبقات ابن سعد" ٥/ ٤٩٦، "تهذيب التهذيب" ٢/ ٦٤٠.
(٦) في (ب): (مجاهد).
394
العين (١).
هذا كله على قراءة من قرأ (بادي) من غير همز (٢)، ومن قرأ بادئ بالهمز (٣) فقال أبو عليّ الفارسي (٤): هاتان الكلمتان يعني: بادي وبادئ متقاربتان في المعنى؛ لأن الهمز فيها بمعنى: ابتداء الشيء وأوله، واللام إذا كانت واوًا كان المعنى: الظهور، وابتداء الشيء يكون ظهورًا، وإن كان الظهور قد يكون ابتداء وغير ابتداء، ولذلك ما (٥) تستعمل كل واحدة من الكلمتين في موضع الأخرى كقولهم: أما بادي بدء فإني أحمد الله، وأما بادئ باد فإني أحمد الله.
وأما المعنى على هذه القراءة، فقال أبو إسحاق (٦) والزجاج (٧): اتبعوك ابتداء الرأي، أي حين ابتدأوا ينظرون، ولو فكروا [لم يتبعوك، ونحو هذا قال ابن الأنباري (٨): أي ابتدءوك أول ما ابتدؤوا ينظرون، ولو فكروا] (٩) لم يعدلوا عن موافقتنا في تكذيبك.
(١) البغوي ٤/ ١٧١، الثعلبي ٧/ ٣٩ أ.
(٢) وقرأ بها السبعة غير أبي عمرو، "السبعة" ص ٣٣٢، "التبصرة" ص ٥٣٨، "الكشف" ١/ ٥٢٦، "الحجة" ٤/ ٣١٦.
(٣) وقرأ بها أبو عمرو، "السبعة" ٣٣٢، "التبصرة" ص ٥٣٨، "الكشف" ١/ ٥٢٦، "الحجة" ٤/ ٣١٦.
(٤) "الحجة" ٤/ ٣١٧.
(٥) هكذا في النسخ، ولعل الصواب: ولذلك كثيرًا ما تستعمل. "الحجة" ٤/ ٣١٧.
(٦) هو الثعلبي ٧/ ٣٩ أ.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٧.
(٨) "تهذيب اللغة" (بدا) ١/ ٢٨٧ - ٢٨٨، "زاد المسير" ٤/ ٩٦.
(٩) ما بين القوسين، ساقط من (ب) و (ج).
395
ونحوه قال أبو علي (١): أراد اتبعوك في أول الأمر من غير أن يتبعوا الرأي بفكر وروية فيه.
وهذه الأقوال معناها واحد، وذكرتها لزيادة البيان، قال غير هؤلاء: معنى قوله: ﴿أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ أول ما نراهم نزدريهم ونسترذلهم.
قال ابن الأنباري (٢): ويجوز لمن ترك الهمز في بادي أن ينوي اصطحاب الهمز ويحتج بأن الهمز مُلَيَّن ومعناه مطلوب، وبنحو من هذا قال أبو علي (٣)، وقد يجوز في قول من همز أن يخفف ويقول: بادي، فتقلب الهمزة ياء لانكسار ما قبلها، فيكون كقولهم (٤): (مِيَر) في جمع ميرة، و (ذِيَب) في جمع ذيبة.
قال أبو بكر: وانتصاب المهموز وغير المهموز بالاتباع على مذهب المصدر، أي اتبعوك اتباعًا ظاهرًا أو اتباعًا مبتدأ.
وقال أبو إسحاق (٥): فأما نصب ﴿بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ فعلى اتبعوك في ظاهر الرأي، وعلى ظاهر الرأي، ومن قال: بادي فعلى ذلك نصبه. وهذا الذي قاله أبو إسحاق مخالف لما قاله أبو بكر، وشرح أبو علي (٦) قولة أبي إسحاق، وذلك أنه لما قال: في ظاهر الرأي، وعلى ظاهر الرأي جعله ظرفًا فقال أبو علي: اسم الفاعل جاز أن يكون ظرفًا كما جاز في (فعيل)
(١) "الحجة" ٤/ ٣١٧.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ٩٦.
(٣) "الحجة" ٤/ ٣١٨ بنحوه.
(٤) في (ب): (قولهم من غير كاف).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٧.
(٦) "الحجة" ٤/ ٣١٨ بتصرف.
396
نحو قريب ومليء؛ لأن (فاعلًا) و (فعيلاً) يتعاقبان على المعنى، نحو عالم وعليم وشاهد وشهيد ووالي وولي، قال: والعامل في هذا الظرف هو قولى: "اتبعك"، التقدير: ما اتبعك في أول رأيهم، أو في ما ظهر من رأيهم، إلا أراذلنا، فأخّر الظرف، وأوقع بعد (إلا) ولو كان بدل الظرف غيره لم يجز، ألا ترى أنك لو قلت: ما أعطيت أحدًا إلا زيدًا درهمًا، فأوقعت بعد (إلا) اسمين لم يجز؛ لأن الفعل أو معنى الفعل في الاستثناء يصل إلى ما انتصب بتوسط الحرف [ولا يصل الفعل بتوسط الحرف] (١) إلى أكثر من مفعول، ألا ترى أنك لو قلت: استوى الماء والخشبة، فنصبت الخشبة لم يجز أن تتبعه اسمًا آخر ينصبه، كذلك المستثنى إذا لحقته (إلا) وأوقعت بعدها اسمًا مفردًا لم يجز أن تتبعه آخر، وجاز ذلك في الظرف لأن الظرف قد اتسع فيه في مواضع، ألا ترى أنهم قالوا: كم في الدار رجلاً ففصلوا بينهما في الكلام (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ﴾، قال ابن عباس (٣): يريد التكذيب له ولما جاء به من النبوة، وهل الفضل كله إلا بالنبوة، ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ﴾ يريد ليس هذا من الله.
قال ابن الأنباري (٤): وجمعت الكاف في خطاب نوح بعد توحيدها
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٢) إلى هنا انتهى النقل من "الحجة" ٤/ ٣١٩.
(٣) لم أجده عن ابن عباس، وهو قول الطبري ١٢/ ٢٧، ابن عطية ٧/ ٢٧٣، القرطبي ٩/ ٢٤.
(٤) الطبري ١٢/ ٢٧ - ٢٨.
397
في أول الآية؛ لأنه ذهب إلى مخاطبة نوح وأصحابه، كما قال عزت أسماؤه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ [الطلاق: ١] فجمع بعد التوحيد.
٢٨ - قوله تعالى: ﴿قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾، قال ابن عباس: يريد على يقين من ربوبية ربي (١) وعظمته، وروي عنه: على بصيرة ومعرفة (٢).
وقال أهل المعاني: عني بالبينة هاهنا: البرهان من جهة المعجزة التي تشهد بصحة النبوة، وخصهم بهذا في المناظرة؛ إذ هو طريق العلم بالحق، لا ما التمسوا من (٣) اختلاف الخلق في قولهم ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا﴾.
قال ابن الأنباري (٤): ودخول الشرط في قوله ﴿إِن كُنتُ﴾ لا يوجب شكًا لحق النبي في أمره، لكن الشك لاحق للمخاطبين، وتلخيص الكلام: قل أرأيتم إن كنت على بينة من ربي عندكم، وفيما يصح من عقولكم وتقبله أفهامكم، فدخل الشرط في كلام (٥) النبي - ﷺ - لهذا الترتيب.
وقوله تعالى: ﴿وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ﴾، قال ابن عباس (٦): يريد النبوة، قال أبو بكر: وإنما جعلت رحمة؛ لأن الله عز وجل ينتاش (٧) بها الخلق
(١) ساقط من (ي).
(٢) البغوي ٤/ ١٧١، "زاد المسير" ٤/ ٩٦، الطبري ١٢/ ٢٨، "مشكل القرآن وغريبه" ص ٢١٠.
(٣) في (ي): (أما).
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٩٦.
(٥) ساقط من (ب).
(٦) "تنوير المقباس" /١٤٠، "زاد المسير" ٤/ ٩٧، القرطبي ٩/ ٢٥، ابن كثير ٢/ ٤٨٥.
(٧) في (ي): (ساتين). ومعنى ينتاش، من نوش، ومن التناوش أي التناول. مختار =
398
من العطب والهلكة، وقال بعض أهل المعاني (١): وذكر الرحمة هاهنا نقضًا عليهم فيما ادّعوه من أنه ليس عليهم (٢) فضل، فبين ذلك بالنبوة والهداية إلى الحق من جهة البرهان المؤدي إلى العلم.
وقوله تعالى: ﴿فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ﴾، ذكر ابن الأنباري (٣)، وأبو علي (٤) وغيرهما، فيه وجهين:
أحدهما: أن معناه: فخفيت عليكم؛ لأن الله عز وجل سلبكم علمها ومنعكم معرفتها لعنادكم الحق، وأنشد أبو علي قول رؤبة (٥):
ومهمه أطرافه في مهمه أعمى الهدى في الحائرين العمه
أي خفي الهدى. ألا ترى أن الهدى ليس بذي جارحة تلحقها هذه الآفة، قال: ومن هذا قيل للسحاب العما؛ لإخفائه ما يخفيه كما قيل له الغمام.
الوجه الثاني: أن يكون عموا هم عنها، ألا ترى أن الرحمة لا تعمى وإنما يُعمى عنها، فيكون هذا كقولهم: أدخلت القلنسوة في رأسي، ونحو
= الصحاح ٦٨٥. ومنه قوله تعالى: ﴿وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ سبأ: ٥٢.
(١) "زاد المسير" ٤/ ٩٧.
(٢) في (ب): تكرار (فيما ادعوه من أنه ليس عليهم). وقوله: (ليس عليهم فضل) كذا في جميع النسخ ولعل فيه سقط هنا (له) فيكون: ليس له عليهم فضل.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ٩٧.
(٤) "الحجة" ٤/ ٣٢٢.
(٥) البيت لرؤبة بن العجاج، من أرجوزة يصف بها نفسه، برواية "الجاهلين" بدلاً من "الحائرين" في ديوانه، والرجل العمه: المتردد في رأيه أو أعمى القلب. انظر: ديوانه / ١٦٦، و"اللسان" ٥/ ٣١١٤، (عمه)، و"شرح شواهد الشافية" ٢٠٢، و"شرح شواهد العيني" ٣/ ٣٤٥.
399
ذلك مما يقلب إذ لم يكن فيها إشكال، وفي التنزيل: ﴿فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ (١)، قال الشاعر (٢):
ترى الثور فيها مدخل الظل رأسه وسائره باد إلى الشمس أجمع
وهذا مذهب الفراء (٣)، والوجه الأول معناه (٤): خفيت عليكم بإخفاء الله تعالى؛ لأنكم لم تسلكوا الطريق المؤدي إليها، والوجه الثاني معناه القلب، وهو تصرف في الكلام من غير إخلال بالمعنى (٥)، إذ هو ظاهر للأفهام، وهذا قراءة عامة القراء (٦)، ويؤكده إجماعهم على قوله ﴿فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ﴾ (٧) أنه بالتخفيف.
وقرأ أهل الكوفة (٨) ﴿فَعَمِيَتْ﴾ مشددة مضمومة العين، قال أبو
(١) إبراهيم: ٤٧.
(٢) من شواهد سيبويه، أراد مدخل رأسه الظل، الكتاب ١/ ٩٢، أمالي المرتضى ١/ ٥٥، "تأويل مشكل القرآن" /١٩٤، "معاني القرآن" ٢/ ٨٠، السيرافي ١/ ٢٤٥، "الدرر" ٢/ ١٥٦، الهمع ٢/ ١٢٣.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ١٢.
(٤) ساقط من (ي).
(٥) ساقط من (ب).
(٦) قرأ بها ابن كثير وأبو عمرو ونافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر، (فعميت) بتخفيف الميم وفتح العين، "السبعة" /٣٣٢، "الحجة" ٤/ ٣٢١، "التبصرة" / ٥٣٨، "الكشف" ١/ ٥٢٧، إتحاف ص ٢٥٥ - ٢٥٦، النشر ٣/ ١١٤.
(٧) القصص / ٦٦، وقد قرئت بالتخفيف بإجماع القراء. انظر: "التبصرة" ٥/ ٥٣٨، "الكشف" ١/ ٥٢٧، "إتحاف فضلاء البشر" ص ٢٥٥ - ٢٥٦، "النشر" ٣/ ١١٤.
(٨) قرأ بها حمزة والكسائي وحفص عن عاصم، السبعة / ٣٣٢، "الحجة" ٤/ ٣٢٢، "التبصرة" / ٥٣٨، "الكشف" ١/ ٥٢٧، "إتحاف" ص ٢٥٥ - ٢٥٦، "النشر" ٣/ ١١٤.
400
بكر (١): معناه: فعماها الله تعالى عليكم؛ إذ كنتم ممن حكم عليه بالشقاء، يؤكد هذا التأويل وهذه القراءة: قراءة أبي "فعماها عليكم" (٢)؛ يعني: الله؛ لأنه اتصل بذكره جل وعز، قال أبو إسحاق (٣): هذا ما أجابهم به من قولهم: إن الذين اتبعوك إنما اتبعوك غير محققين، [فأعلمهم أنهم محققون] (٤) بهذا القول؛ لأنه إذا كان على بينة فمن آمن به فعالم بصير، ومن لم يفهم البينة فقد عمي عليه الصواب.
قوله تعالى: ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾، قال أبو بكر (٥): الهاء تعود على الرحمة والمعنى: أنلزمكم قبولها، قال: وإلي هذا المعنى ذهب مقاتل بن سليمان
قال المفسرون وأهل المعاني (٦): يقول: لا نقدر أن نلزمكم من ذات أنفسنا ما أنتم له كارهون، والدليل على صحة هذا التأويل قراءة ابن عباس "أنلزمكموها من شطر أنفسنا" (٧) يعني من تلقاء أنفسنا، وهذا استفهام معناه الإنكار، يعني لا نقدر على ذلك، والذي عليّ أن أدل بالبينة، وليس عليّ
(١) "زاد المسير" ٤/ ٩٧.
(٢) ذكرها مكي في كتاب الكشف ١/ ٥٢٧، وعزاها للأعمش، وعزاها في الإتحاف ص ٢٥٥ - ٢٥٦ لأبي والأعمش، وعزاها القرطبي ٩/ ٢٥، لأبي، وعزاها الطبري ١٢/ ٢٨ لابن مسعود.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٧.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٥) "زاد المسير" ٤/ ٩٧.
(٦) الطبري ١٢/ ٢٨، "زاد المسير" ٤/ ٩٧، القرطبي ٩/ ٢٥، ابن عطية ٧/ ٢٧٦، "مشكل القرآن وغريبه" ١/ ٢١٠، "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٣٤٣.
(٧) الطبري ١٢/ ٢٨، ٢٩، وذكر أيضًا أنها قراءة أبي، ابن عطية ٧/ ٢٧٦، "الدر المنثور" ٣/ ٥٩١.
401
أن أضطركم إلى المعرفة إذ كرهتم.
وروى سعيد عن قتادة (١) قال: والله لو استطاع نبي الله لألزمها قومه، ولكنه لم يملك ذلك ولم يملكه (٢)، وفي ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا﴾ ثلاث مضمرات: ضمير المتكلم، وضمير المخاطب، وضمير الغائب، وأجاز الفراء (٣) إسكان الميم الأولى، وروى ذلك عن أبي عمرو؛ قال: وذلك أن الحركات توالت فسكنت الميم، وهي أيضًا مرفوعة وقبلها كسرة، وتستثقل كسرة بعدها ضمة، أو ضمة بعدها كسرة، قال الزجاج (٤): وجميع النحويين البصريين لا يجيزون إسكان حرف الإعراب إلا في اضطرار الشعر، فأما ما يروى عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه الفراء (٥)، وروى عنه سيبويه أنه كان يخفف الحركة ويختلسها، وهذا هو الحق، وإنما يجوز الإسكان في الشعر كقوله (٦):
(١) الطبري ١٢/ ٢٩ وفيه (ولكن لم يستطع ذلك ولم يملكه)، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٢٣.
وانظر البغوي ٤/ ١٧١، "زاد المسير" ٤/ ٩٧، القرطبي ٩/ ٢٦، "الدر المنثور" ٣/ ٥٩١.
(٢) في (ي): (لم يهلك ذلك ولم يملكه).
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ١٢.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٨، وعبارته: "وسيبويه والخليل لا يجدان إسكان حرف الإعراب إلا في اضطرار، فأما ما روي عن أبي عمرو من الإسكان فلم يضبط ذلك عنه".
(٥) الصحيح (القراء). انظر: "البحر المحيط" ٥/ ٢١٧.
(٦) البيت لامرئ القيس، عجزه:
إثما من الله ولا واغل
وفي "ديوانه" ص ١٢٢:
(فاليوم أسقي..)، وانظر: "الكتاب" ٢/ ٢٩٧، "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٨٧، =
402
فاليوم أشربْ غير مستحقب
٢٩ - قوله تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْه﴾، قال ابن الأنباري (١): الكناية تعود (٢) على معنى الرحمة في قوله: ﴿وَآتَانِي رَحْمَةً﴾، وهي معنى الهدى والإيمان. وقال غيره (٣): الهاء (٤) كناية عن تبليغ الرسالة، وقد سبق معناه فاستدل عليه وكنى عنه، وكذا قال المفسرون: لا أسألكم جعلاً على تبليغ الرسالة، وقال عطاء: يريد على ما أدعوكم إليه.
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾، قال ابن جريج (٥): إنهم سألوه طرد الذين آمنوا به ليؤمنوا به؛ أنفة من أن يكونوا معهم على سواء.
وقال أبو إسحاق (٦): هذا يدل على أنهم سألوه أن يطردهم.
وقال ابن الأنباري: سألوه (٧) طرد المؤمنين عنه، الذين هم سفلة عندهم، [فقال: لا يجوز لي طردهم إذ كانوا يلقون ربهم فيجزيهم بإيمانهم] (٨)، ويأخذ لهم ممن ظلمهم وصغر شؤونهم، وهذا معنى قول أبي
= واحتقب الإثم واستحقبه احتمله، ومعناه: "حلت لي الخمر فلا آثم بشربها إذ قد وفيت بنذري فيها. وكان قد نذر ألا بشربها حتى يدرك ثأر أبيه" القرطبي ٩/ ٢٦ وانظر: "معاني القرآن وإعرابه" للزجاج ٤/ ٢٧٥.
(١) "زاد المسير" ٤/ ٩٧.
(٢) في (ي): (تفرد).
(٣) الثعلبي ٧/ ٣٩ أ، الطبري ١٢/ ٢٩، البغوي ٤/ ١٧١، القرطبي ٩/ ٢٦.
(٤) في (ي): (إنها).
(٥) الطبري ١٢/ ٢٩ - ٣٠، "زاد المسير" ٤/ ٩٨.
(٦) كذا في جميع النسخ ولعله ابن إسحاق. البغوي ٤/ ١٧١، ابن عطية ٧/ ٢٧٦.
(٧) في (ب): (ساموه).
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
إسحاق (١) في قوله ﴿إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ﴾، قال ابن عباس:
يريد: تجهلون ربوبية ربكم وعظمته (٢)، وقال أهل المعاني: تجهلون أن هؤلاء خير منكم لإيمانهم بربهم وكفركم به.
٣٠ - قوله تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ﴾، قال الفراء (٣): يقول: من يمنعني من عذاب الله، وكذلك ما في القرآن منه (٤)، والنصر من كذا: المنع منه، ومعنى الآية إذا طردت المؤمنين كان ذلك ذنبًا ارتكبته، فمن يدفع عني عذاب الله، وهذا دليل على أن العالم يلزمه مصابرة المتعلم، ولا يجوز له طرده والامتناع عما يطلب من العلم، ولو لم يصبر كان تعرض للعقوبة.
٣١ - قوله تعالى: ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ﴾، ذكرنا معنى الخزائن في مثل هذه الآية في سورة الأنعام (٥)، قال ابن عباس في هذه الآية: يريد مفاتيح الغيب. قال أبو بكر (٦): الخزائن هاهنا يعني بها غيوب
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٨.
(٢) الطبري ١٢/ ٣٥، "زاد المسير" ٤/ ٩٨.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ١٣، وفيه "من يمنعني من الله".
(٤) يعني: ما جاء في القرآن بهذا اللفظ فهو بالمعنى الذي ذكره.
(٥) وهو قوله: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ﴾ [الأنعام: ٥٠]. قال: "الخزائن جمع الخزانة، وهي اسم المكان الذي يخزن فيه الشيء، وخزن الشيء: إحرازه بحيث لا تناله الأيدي. والخزانة أيضاً: عمل الخازن" اهـ.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ٩٨، والبغوي ٤/ ١٧٢، "تهذيب اللغة" للأزهري ١/ ١٠٢٧، (خزن).
404
الله وما هو مطوي عن الخلق، وإنما وجب أن يكون هذا جوابًا من نوح عليه السلام لهم لما قالوا: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ﴾ الآية، فادَّعوا أن هؤلاء المؤمنين اتبعوه في ظاهر ما يرى منهم، وهم في الحقيقة غير متبعين له، فقال مجيبًا لهم: ﴿وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ﴾ غيوب الله التي يعلم منها ما ينطوي عليه الناس ويضمرونه، ولا أعلم ما يغيب عني مما يسترونه في نفوسهم؛ فسبيلي قبول إيمانهم الذي يظهر لي، ومضمراتهم لا يعلمها إلا الله، فقيل للغيوب: خزائن لغموضها على الناس واستتارها عنهم، كما يقال: خزن المال: إذا غيبه.
[وقوله: ﴿وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾، هذا جواب لقولهم: ﴿مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا﴾ أي: لا ينبغي أن تحتجوا عليّ بأمر لا أدعيه] (١).
وقوله تعالى: ﴿وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ﴾، قال أبو إسحاق (٢): ﴿تَزْدَرِي﴾ تستقل وتستبخس (٣)، يقال: أزريت على (٤) الرجل: إذا عبت عليه وخسست فعله، وأصل تزدري: تزتري، إلا أن هذه التاء تبدل بعد الزاي دالاً؛ لأن التاء من حروف الهمس، وحروف الهمس خفية، والتاء بعد الزاي تخفى فأبدل منها الدال لجهرها، وكذلك (يفتعل) من الزينة والزيادة (٥).
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٨ بنحوه.
(٣) في (ب): (تستحسن)، وهو وهم من الناسخ.
(٤) في (ب): (في).
(٥) يعني: تزدان، وتزداد.
405
وقال ابن عباس (١): ﴿لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ﴾ يريد: تحتقر وتستصغر، يعني المؤمنين.
﴿لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا﴾ [وذلك أنهم قالوا: هم أراذلنا، فقال نوح: لا أقول إن الله لا يؤتيهم خيرًا] (٢)، ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ﴾، قال الزجاج (٣): أي إن كنتم تزعمون أنهم إنما اتبعوني في ظاهر الرأي، فليس علي أن أطلع على ما في نفوسهم، فإذا رأيت من يوحد الله عملت على ظاهره، ورددت علم ما في نفوسهم إلى الله.
وقوله تعالى: ﴿إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾، قال ابن الأنباري (٤): أي إن طردتهم تكذيبًا لظاهرهم ومبطلاً لإيمانهم.
٣٤ - قوله تعالى: ﴿إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾، قال ابن عباس (٥) في رواية عطاء: يريد أن يضلكم، وقال الحسن (٦): يهلككم، وهو معنى وليس بتفسير؛ وذلك أنه لما كان يؤدي إلى الإهلاك فسر به.
وقال ابن الأنباري (٧): في قوله تعالى: ﴿أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ ثلاثة أجوبة للمفسرين وأهل اللغة: منها أن يوقع الغي في قلوبكم لما سبق لكم من
(١) قال به الطبري ١٢/ ٣٠، "زاد المسير" ٤/ ٩٩، البغوي ٤/ ١٧٢، القرطبي ٩/ ٢٧.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٩ بمعناه.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ٩٩.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ١٠٠، البغوي ٤/ ١٧٢، ابن عطية ٧/ ٢٨١، القرطبي ٩/ ٢٨.
(٦) قال به الطبري ١٢/ ٣٢، وانظر: ابن عطية ٧/ ٢٨١، "زاد المسير" ٤/ ١٠٠، القرطبي ٩/ ٢٨.
(٧) "زاد المسير" ٤/ ١٠٠، "البحر المحيط" ٥/ ٢١٩.
الشقاء، وقال بعضهم: أن يهلككم، قال: وهذا الجواب مرغوب عنه؛ لأنه يخالف الآثار، ومذاهب الأئمة، ولا يعرف الصادقون من أهل اللغة هذا من كلام العرب؛ إذ المعروف عندهم: أغويت فلانًا إذا أضللته بشر دعوته إليه وحسنته له، وغوي هو إذا ضل، [ويروى عن غير واحد من الصحابة أنه فسر يغويكم: يضلكم، هذا كلامه] (١).
قال أصحابنا: فبان بهذه الآية أن الإغواء بإرادة الله تعالى، وأنه إذا أغوى فلا هادي لذلك الغاوي (٢).
ثم ذكر نوح عليه السلام دليل المسألة فقال: ﴿هُوَ رَبُّكُمْ﴾، قال ابن عباس: يريد: هو إلهكم وسيدكم وخالقكم، وتأويله: أنه إنما يتصرف في ملكه فله التصرف كيف شاء (٣).
٣٥ - قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾، هذا من الاستفهام المتوسط (٤)، وقد ذكرناه في مواضع، ومعنى ﴿افْتَرَيْتُهُ﴾ اختلقه وافتعله
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٢) لا شك أن الهداية والضلال من الله تعالى كما قال عز وجل: ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ﴾ [الأعراف: ١٨٦]، وقال: ﴿مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: ٣٩]، ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ﴾ [النحل: ٣٧]، ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾ [الإسراء: ٩٧]، فالهداية من الله، والاهتداء من العبد، فالاهتداء الذي هو فعل العبد هو أثر فعله سبحانه، فهو الهادي والعبد المهتدي. انظر: "شفاء العليل" لابن القيم ص ١٧٠.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ١٠٠.
(٤) قلت: المراد بالاستفهام المتوسط أن يكون معنى الآية: أيكتفون بما أوحيت إليك من القرآن، أم يقولون إنه ليس من عند الله. قاله ابن القشيري. انظر: "البحر المحيط" ٥/ ٢٠٨، "الدر المصون" ٤/ ٨٣.
407
وجاء به من عند نفسه، والهاء تعود إلى الوحي الذي أتاهم به.
وقوله تعالى: ﴿فَعَلَيَّ إِجْرَامِي﴾، الإجرام: اقتراف السيئة واكتسابها. قال الزجاج (١): ويقال جرم في معنى أجرم، ورجل مجرم وجارم، وهذا من باب حذف المضاف؛ لأن المعنى فعليّ إثم إجرامي أو عقوبة إجرامي. قاله أبو علي (٢) وغيره.
وقال أهل المعاني (٣): في الآية محذوف دل عليه الكلام، وهو أن المعنى إن كنت افتريته فعلي عقاب إجرامي، وإن كانت الأخرى فعليكم عقاب تكذيبي، فحذف ما حذف لدلالة الباقي عليه، كقوله: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ﴾ [الزمر: ٩]، ولم يذكر المشبه به.
وقوله تعالى: ﴿وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ﴾ أي: من الكفر والتكذيب، والمعنى: أنه ليس علي من إجرامكم عائدُ ضرر، وإنما عائد الضرر عليكم، فاعملوا على تذكر هذا المعنى، وأكثر المفسرين (٤) على أن هذا من محاورة نوح قومه. وقال مقاتل (٥): ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ يعني (٦) محمدًا - ﷺ -، يقول المشركون: افترى القرآن، وهذه الآية معترضة بين قصة نوح عليه السلام.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٤٩ بنحوه.
(٢) انظر:"الحجة" ٣/ ١٩٧.
(٣) القرطبي ٩/ ٢٩، البغوي ٤/ ١٧٣.
(٤) البغوي ٤/ ١٧٣، القرطبي ٩/ ٢٩، ابن عطية ٧/ ٢٨٣.
(٥) "تفسير مقاتل" ١٤٥ب، البغوي ٤/ ١٧٣، القرطبي ٩/ ٢٩، وبه قال الطبري ١٢/ ٣٢، ابن عطية ٧/ ٢٨٢.
(٦) ساقط من (ي).
408
٣٦ - قوله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ﴾، قال ابن عباس (١) وغيره: لما جاءه هذا من عند الله دعا على قومه، فقال: ﴿لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح: ٢٦] الآية وما بعدها.
وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَبْتَئِسْ﴾، قال الفراء (٢) والزجاج (٣): لا تحزن ولا تستكن، قال ابن عباس (٤): يريد فلا تُغم، وقال أبو زيد (٥): ابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه، وأنشد أبو عبيد (٦):
ما يُقْسِمِ الله أَقْبَلَ غير مبتئسٍ منه وأقعُدْ كريمًا ناعم البال
أي غير حزين ولا كاره، قال المفسرون (٧): يقول لا تحزن فإني مهلكهم ومنقذك، وهذا تسلية من الله عز وجل لنوح عن قومه بما أعلمه (٨) من حالهم.
(١) رواه الطبري ١٢/ ٣٣ عن الضحاك، وأحمد في "الزهد"، وابن المنذر وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٥٩٢ عن الحسن، والبغوي ٤/ ١٧٣، و"زاد المسير" ٤/ ١٠٠، وابن عطية ٧/ ٢٨٤، والقرطبي ٩/ ٢٩.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ١٣.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٠.
(٤) الطبري عن ابن عباس "فلا تحزن" ١٢/ ٣٢، وكذا عن مجاهد أيضًا وقتادة. وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٢٥ في الحاشية.
(٥) "تهذيب اللغة" ١/ ٤١١ (بئس).
(٦) "تهذيب اللغة" ١/ ٤١١ (بئس).
والبيت لحسان كما في "ديوانه" ص ١٨٩، اللسان (بأس) ١/ ٢٠٠، "التنبيه والإيضاح" ٢/ ٢٦١، "تاج العروس" (بأس) ٨/ ١٩٦، "أساس البلاغة" (بأس)، وبلا نسبة في "مقاييس اللغة" ١/ ٣٣٨، و"المخصص" ١٢/ ٣١٧.
(٧) الثعلبي ٧/ ٣٩ ب، والطبري ١٢/ ٣٣.
(٨) في (ي): (أعلمهم).
٣٧ - قوله تعالى: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾، قال ابن عباس (١): بمرأى منا، وقال الضحاك (٢): بمنظر منا، وقال الربيع (٣): بحفظنا، وقال الزجاج (٤): بإبصارنا إياك وحفظنا لك. هذا كلامهم، والمعنى بحيث نراها، فكنى عن يرى بأعين على طريق البلاغة، وتأويله: بحفظنا إياك حفظ من يراك، ويملك (٥) دفع السوء عنك، وقيل (٦): بأعين أوليائنا من الملائكة (٧) الموكلين بك، وحكى ابن الأنباري عن بعض المفسرين بأبصارنا إليك، وهذا معنى ما ذكرنا، هذا (٨) طريقة المحققين، وهي موافقة لما حكينا من أقوال أئمة المفسرين.
وقال أبو بكر (٩): جمع العين هاهنا على مذهب العرب في إيقاعها الجمع على الواحد، وهذا قول أصحاب الأثر والنقل يقولون الأعين يُعنى بها العين، وعين الله لا تفسر بأكثر من ظاهرها، ولا يسع أحدًا أن يقول: كيف هي أو ما صفتها، وهذه طريقة السلف (١٠).
(١) البغوي ٤/ ١٧٣، "زاد المسير" ٤/ ١٠١، "تنوير المقباس" / ١٤٠، الثعلبي ٧/ ٤٠أ، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٢٦ عنه قال: بعين الله.
(٢) الثعلبي ٧/ ٤٠ أ.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ١٠١، البغوي ٤/ ١٧٣، القرطبي ٩/ ٣٠، الثعلبي ٧/ ٤٠ أ.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٠.
(٥) في (ي): (يعلم).
(٦) القرطبي ٩/ ٣٠، "البحر المحيط" ٥/ ٢٢٠.
(٧) ساقط من (ي).
(٨) هكذا في النسخ.
(٩) "تهذيب اللغة" (عان) ٣/ ٢٢٩٣، "زاد المسير" ٤/ ١٠١.
(١٠) انظر: "اللسان" ٥/ ٣١٩٦ (عين)، ومذهب السلف في هذه الصفه وغيرها =
410
وقوله تعالى: ﴿وَوَحْيِنَا﴾، قال ابن عباس (١): وذلك أنه (٢) لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها على مثل جؤجؤ الطائر، فعلى هذا المعنى اصنعها على ما أوحينا إليك من صفتها وحالها، ويجوز أن يكون المعنى بوحينا إليك أن اصنعها.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي﴾، قال الخليل (٣): الخطاب مراجعة الكلام، يقال: خاطبته خطابًا. فجعل الخطاب اسمًا لما يتردد بين المتكلمين من ابتداء وجواب، والكلام إذا تضمن المسألة قيل فيه خاطب، ومنه قوله: ﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي﴾ أي لا تسألني في معناهم (٤)، قال ابن عباس (٥):
= من الصفات هو الإثبات، أعني إثبات الصفة وتفويض الكيفية إلى الله تعالى، على ما قال الإمام مالك رحمه الله: الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة، أما تفويض الصفة والكيف فهو مذهب المبتدعة الذين لا يثبتون الصفة بل يفوضونها، وما نقله المؤلف هنا ظاهره الحق، ولكنه لا يتسق مع مذهبه الأشعري فلعله فهم منه التفويض والله أعلم. انظر: "التوحيد" لابن خزيمة ص ٤٢، "الإبانة" لأبي الحسن ٥٣، "شرح أصول اعتقاد أهل السنة" لللالكائي ٢/ ٤١٢، "الاعتقاد" للبيهقي ٤١، "شرح الواسطية" ٦٧.
(١) الطبري ١٢/ ٣٤، الثعلبي ٧/ ٤٠ أ، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٢٥ - ٢٠٢٦، وانظر: "الدر" ٣/ ٥٩٢.
(٢) في (ي): (أنهم).
(٣) "العين"٤/ ٢٢٢، "تهذيب اللغة" ١/ ١٠٥٣، (خطب)، "اللسان" ٢/ ١١٩٤. عن الليث.
(٤) هكذا في النسخ والمعنى غير واضح.
(٥) رواه الطبري ١٢/ ٣٤ عن ابن جريج، وأبو الشيخ عن ابن جريج أيضًا كما في "الدر" ٣/ ٥٩٢، وأخرج ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٢٦، وأبو الشيخ عن قتادة نحوه. "الدر المنثور" ٣/ ٥٩٢.
411
يريد: لا تراجعني ولا تحاورني ولا تسألني.
وقوله تعالى: ﴿فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾، قال الزجاج (١) وأبو بكر: في إمهال الذين ظلموا، أو في تأخير العذاب عنهم، ويراد بالذين ظلموا قومه، قال ابن الأنباري: فدعا نوح بعد هذا القول طاعة لله واتباعًا لأمره علي قومه، فقال: ﴿رَبِّ لَا تَذَرْ﴾ [نوح: ٢٦] الآية، وقيل: المراد بالذين ظلموا امرأته وابنه كنعان (٢).
٣٨ - قوله تعالى: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ﴾، قال أبو علي الجرجاني: معناه: وأقبل يصنع فاقتصر على قوله: ﴿وَيَصْنَعُ﴾.
وقوله تعالى: ﴿وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ﴾، قال محمد بن إسحاق (٣): قالوا: يا نوح صرت بعد النبوة نجارًا؟ وقال عامة المفسرين (٤): إنهم رأوه ينجر الخشب، ويبني شبه البيت العظيم، فإذا سألوه عن ذلك قال: أعمل سفينة تجري في الماء، ولم يكونوا رأوا قبل ذلك السفينة، ولا ماء هناك يحمل مثلها، فكانوا يتضاحكون ويتعجبون من عمله لها، فقال نوح: ﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ﴾، قال أبو إسحاق (٥): إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم كما تستجهلون. وقال ابن الأنباري (٦): إن تسخروا منا لما ترون من صنعة الفلك فإنا نعجب من
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٠.
(٢) البغوي ٤/ ١٧٤، "البحر المحيط" ٥/ ١٢١.
(٣) الطبري ١٢/ ٣٦، "زاد المسير" ٤/ ١٠٣، البغوي ٤/ ١٧٥، ابن عطية ٧/ ٢٩٠.
(٤) البغوي ٤/ ١٧٥، "زاد المسير" ٤/ ١٠٣، القرطبي ٩/ ٣٢.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٠ بمعناه.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ١٠٣.
غفلتكم عما قد أظلكم من العذاب.
وقال بعض المفسرين (١). إن تسخروا منا الساعة، فإنا نسخر منكم بعد الغرق، ووقوع البوار بكم. وقال أهل المعاني (٢): سمى الثاني سخرية، [وليس بسخرية] (٣) في الحقيقة؛ ليتفق اللفظان فيكون اتفاقهما أخف على اللسان، وقد مضى لهذا نظائر.
٣٩ - قوله تعالى: ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾ الآية، قال ابن عباس (٤): هذا وعيد وتهديد، وقال الزجاج (٥): أعلمهم ما يكون عاقبة أمرهم، أي فسوف تعلمون من أحق بالخزي ومن هو أحمد عاقبة.
وفي قوله: ﴿مَنْ يَأْتِيهِ﴾ وجهان:
أحدهما: أن يكون استفهامًا بمعنى (أي)، كأنه قيل: فسوف تعلمون أينا يأتيه عذاب، وعلى هذا محله رفع بالابتداء.
والثاني: أن يكون بمعنى (الذي) ويكون في محل النصب.
وقوله تعالى: ﴿وَيَحِلُّ عَلَيْهِ﴾ أي: يجب عليه وينزل به، وسنذكر استقصاء هذا الحرف عند قوله: ﴿فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي﴾ في سورة طه [٨١] إن شاء الله.
وقوله تعالى: ﴿عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ يعني عذاب الآخرة.
(١) البغوي ٤/ ١٧٥، "زاد المسير" ٤/ ١٠٣، القرطبي ٩/ ٣٣، "تفسير مقاتل" ١٤٦ أ.
(٢) البغوي ٤/ ١٧٥، "زاد المسير" ٤/ ١٠٣.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٤) انظر: ابن عطية ٧/ ٢٩٠، "زاد المسير" ٤/ ١٠٤، القرطبي ٩/ ٣٣، "البحر المحيط" ٥/ ٢٢٢، ابن كثير ٢/ ٤٨٧.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٠.
٤٠ - قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا﴾ أي: أمرنا بعذابهم وإهلاكهم.
وقوله تعالى: ﴿وَفَارَ التَّنُّورُ﴾، اختلفوا في معنى التنور؛ فقال ابن عباس (١) في رواية الضحاك: ظهر الماء على وجه الأرض، وقيل لنوح عليه السلام: إذا رأيت الماء على وجه الأرض، فاركب أنت وأصحابك، وهذا قول عكرمة والزهري وابن عيينة (٢)، ورواية الوالبي أيضاً عن ابن عباس (٣).
وقال قتادة (٤): ذكر لنا (٥) أنه أرفع الأرض وأشرفها، جعل ذلك علامة بين نوح عليه السلام وبين ربه عز وجل.
قال أبو بكر (٦): والمعنى على هذا: ونبع الماء من أعالي الأرض ومن الأمكنة المرتفعة، فشبهت لعلوها بالتنانير.
روي عن علي (٧) رضي الله عنه أنه قال: هو تنوير الصبح، ومعناه: طلع الفجر، قال أبو بكر: ومن ذهب إلى هذا قال: المعنى وبرز النور
(١) الطبري ١٢/ ٣٨، الثعلبي ٧/ ٤١ ب، وأخرجه أيضًا سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٢٩، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٥٩٦، ابن عطية ٧/ ٢٩١.
(٢) رواه عنهم الطبري ١٢/ ٣٨، الثعلبي ٧/ ٤١ ب، "زاد المسير" ٤/ ١٠٥، البغوي ٤/ ١٧٦.
(٣) ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٢٩.
(٤) الطبري ١٢/ ٣٩، الثعلبي ٧/ ٤١ ب، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٥٩٦، وروي هذا القول عبد بن حميد وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٢٩، وأبو الشيخ عن ابن عباس كما في "الدر" ٣/ ٥٩٦.
(٥) في (ي): (له).
(٦) "زاد المسير" ٤/ ١٠٥.
(٧) الطبري ١٢/ ٣٩، الثعلبي ٧/ ٤١ ب، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٢٩، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٥٩٦.
414
وظهر الضوء، وتقضى الليل، فشبه تتابع الأضواء والأنوار بخروج النار من التنور.
وقال ابن عباس (١) في رواية عطية وعطاء: يريد التنور الذي يخبز فيه، قال الحسن (٢): وكان تنورًا من حجارة، وكان لآدم وحواء حتى صار إلى نوح، وقيل له: إذا رأيت الماء يفور من التنور فاركب أنت وأصحابك.
وقال مقاتل بن سليمان (٣) عن عدة من أهل التفسير: فار التنور من أقصى دار نوح بعين وردة من أرض الشام.
وقال مجاهد (٤): نبع الماء من التنور فعلمت به امرأته فأخبرته، وكان ذلك بناحية الكوفة، وهو قول الشعبي (٥) واختيار الفراء (٦)، قال: هو تنور الخابز، ونحو هذا قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس (٧).
قال أبو بكر (٨): والقول الذي يذهب إليه: هو أن التنور تنور الخبز؛
(١) الطبري ١٢/ ٣٩، الثعلبي ٧/ ٤٢ أ، "زاد المسير" ٤/ ١٠٥، البغوي ٤/ ١٧٦، ابن عطية ٧/ ٢٩١.
(٢) الطبري ١٢/ ٤٠، الثعلبي ٧/ ٤١ ب، البغوي ٤/ ١٧٦، وذكره ابن الجوزي عن ابن عباس. انظر: "زاد المسير" ٤/ ١٠٥.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٤٦ أ، "زاد المسير" ٤/ ١٠٦، البغوي ٤/ ١٧٦.
(٤) الطبري ١٢/ ٤٠، الثعلبي ٧/ ٤٢ أ، "زاد المسير" ٤/ ١٠٥، البغوي ٤/ ١٧٦.
(٥) الطبري ١٢/ ٤٠، الثعلبي ٧/ ٤٢ أ، البغوي ٤/ ١٧٦، "زاد المسير" ٤/ ١٠٥.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ١٤.
(٧) "زاد المسير" ٤/ ١٠٥.
(٨) ما ذكره عن ابن الأنباري هو الذي رجحه الطبري ١٢/ ٤٠، وهو قول أكثر المفسرين كما قال البغوي ٤/ ١٧٦، وقال ابن كثير ٢/ ٤٨٨: هذا قول جمهور السلف وعلماء الخلف.
415
لأن الحمل على الظاهر الذي (١) هو حقيقة أولى من العمل على المجاز، والتمثيل. وأما التنور في اللغة (٢)؛ فقال الليث (٣): التنور عمت بكل لسان وصاحبه تنار (٤).
قال الأزهري: وهذا يدل على أن الاسم أعجمي فعربته العرب [فصار عربيًا] (٥) علي بناء فعول، والدليل على ذلك أن أصل بنائه تنر، ولا يعرف في كلام العرب نون قبل راء، وهو نظير ما دخل من كلام العجم في كلام العرب، مثل الديباج والدينار والسندس والاستبرق ولما تكلمت بها العرب صارت عربية.
وقوله تعالى: ﴿قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾، قال أبو الحسن الأخفش (٦): يقال للاثنين هما زوجان، قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ [الذاريات: ٤٩] قال الحسن (٧): السماء زوج، والأرض زوج، والشتاء زوج، والصيف زوج، والليل زوج، والنهار زوج، حتى يصير الأمر إلى الله جل جلاله الفرد الذي لا يشبهه شيء، ويقال للمرأة هي
(١) ساقط من (ب).
(٢) هذا النقل إلى نهايته من "تهذيب اللغة" للأزهري ١/ ٤٥٦ (تنر).
(٣) الليث هو: ابن نصر بن سيار الخراساني، ويقال ابن المظفر بن نصر، إمام لغوي، من أصحاب الخليل، ويقال هو صاحب (العين). انظر: "تهديب اللغة" ١/ ٤٧، "معجم الأدباء" ١٧/ ٤٣.
(٤) ساقط من (ي).
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٦) "معاني القرآن" للأخفش ١/ ٣٢٧، "الحجة" ٤/ ٣٢٤.
(٧) ذكره الطبري ١٢/ ٤١ من غير إسناد.
416
زوج، وللرجل (١) هو زوجها، وقال تعا لي: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا﴾ [النساء: ١] [يعني المرأة، فالواحد يقال له زوج كما ذكرنا، وقد يقال للاثنين هما زوج] (٢)؛ قال لبيد (٣):
زوج عليه كِلَّة وقِرامُها
ففسر الزوج بشيئين، ويدل على أن الزوج يقع على الواحد قوله تعالى: ﴿ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (١٤٣) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ﴾ (٤) فالزوجان في قوله: ﴿مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ﴾ يراد بهما الشياع، وليس يراد بذلك الناقص عن الثلاثة، قال ابن عباس (٥) في قوله: ﴿احْمِلْ فِيهَا﴾ يريد في السفينة ﴿مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ﴾؛ الذكر زوج والأنثى زوج، وهو قول الحسن (٦) ومجاهد (٧)
(١) ساقط من (ب).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٣) من معلقته، وصدره:
من كل محفوف يُظلُ عصيه
المحفوف: الهودج الذي ستر بالثياب، عصيه: عصى الهودج، والزوج: النمط الواحد من الثياب، والكلة من الستور: ما خيط فصار كالبيت، القرام: الغطاء، وهو الستر المرسل على جانب الهودج، انظر: "ديوانه" ص ٩٦، "شرح المعلقات السبع" ص ٥٣١، "اللسان" ٣/ ١٨٨٦ (زوج)، "معاني القرآن" للأخفش ١/ ٣٢٨، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٥٧٤.
(٤) الأنعام: ١٤٣، ١٤٤، ومن هنا بدأ النقل عن "الحجة" ٤/ ٣٢٧.
(٥) البغوي ٤/ ١٧٦، "زاد المسير" ٤/ ١٠٦، الطبري ١٢/ ٤٠.
(٦) انظر: الرازي ١٧/ ٢٢٦.
(٧) الطبري ١٢/ ٤٠، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٣٠ وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٦٠١.
417
وقتادة (١) والضحاك (٢)، قالوا ذكرا وأنثى.
وقرأ حفص (٣) ﴿مِن كُلٍّ﴾ بالتنوين أراد من كل شيء، ومن كل زوج زوجين اثنين، فحذف المضاف إليه، ويكون انتصاب اثنين على أنه صفة لزوجين، أتي به للتأكيد، كما قال: ﴿لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ [النحل: ٥١] وقد جاء في غير هذا من الصفات ما مصرفه إلى التأكيد، كقولهم: نعجة أنثى، وأمس الدابر، وقوله: ﴿نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ﴾ (٤)، وعلى قراءة العامة نصب اثنين بالحمل، وليس صفة لزوجين (٥).
وقوله تعالى: ﴿وَأَهْلَكَ﴾، أي احمل أهلك، قال المفسرون (٦): يعني ولده وعياله، ﴿إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ﴾، قال ابن عباس: يريد من كان في علمي أنه يغرق بفعله وكفره، قالوا (٧): يعني: امرأته واعلة، وابنه كنعان، ﴿وَمَنْ آمَنَ﴾، يريد واحمل من صدقك، ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾، قال ابن عباس (٨): ثمانون إنسانًا وكان فيهم ثلاثة من بنيه: سام وحام ويافث،
(١) الطبري ١٢/ ٤١.
(٢) الطبري ١٢/ ٤١.
(٣) "التبصرة" / ٥٣٨، "السبعة" ٣٣٣، "النشر" ٣/ ١١٤، "إتحاف" ٢/ ١٢٥، "الحجة" ٤/ ٣٢٤.
(٤) الحاقة: ١٣. وفي (ي): (نعجة)، وهي في سورة ص: الآية ٢٣.
(٥) إلى هنا انتهى النقل عن "الحجة" ٤/ ٣٢٨ بتصرف.
(٦) الطبري ١٢/ ٤١، الثعلبي ٧/ ٤٢ ب، البغوي ٤/ ١٧٦، "زاد المسير" ٤/ ١٠٦.
(٧) الثعلبي ٧/ ٤٢ ب، البغوي ٤/ ١٧٦ - ١٧٧، "زاد المسير" ٤/ ١٠٦، القرطبي ٩/ ٣٥.
(٨) الطبري ١٢/ ٤٣، الثعلبي ٧/ ٤٢ ب، البغوي ٤/ ١٧٧، "زاد المسير" ٤/ ١٠٧، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٣٢، وأبو الشيخ كما في "الدر المنثور" ٣/ ٦٠١، القرطبي ٩/ ٣٥.
418
وثلاث كنائن له، ونحو ذلك قال مقاتل بن سليمان (١) وغيره، وقالوا: قرية الثمانين (٢) بناحية الموصل، إنما سميت لأن هؤلاء لما خرجوا من السفينة بوها، فسميت بهم، وعلى هذا سمى الله ثمانين قليلاً.
قال أبو إسحاق: لأن ثمانين (٣) قليل في جملة أمة نوح.
قال ابن الأنباري: ووحد القليل؛ لأنه لفظ مبني للجمع لما كان الواحد لا يوصف (٤) به ولا الاثنين، فلما كان مبناه للجمع استغنى عن علامة الجمع، وجمع في قوله: ﴿لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ﴾ [الشعراء: ٥٤] استيثاقًا من الجمع، لما كان (قليل) لفظه لفظ الواحد، كما جمعت العرب البيوت وهي جمع؛ للاستيثاق فقالوا: بيوتات، قال: ويجوز أن يقال في توحيد القليل إنه وصف لجمع خرج على تقطيع الواحد، تقديره وما آمن معه إلا نفر قليل، وقيل: أراد الجمع فاكتفى بالواحد منه، كقوله (٥):
(١) الثعلبي ٧/ ٤٢ ب، البغوي ٤/ ١٧٧، "زاد المسير" ٤/ ١٠٧.
(٢) قال ياقوت الحموي: بُليدة عند جبل الجودي، قرب جزيرة ابن عمر التغلبي فوق الموصل، كان أول من نزله نوح -عليه السلام -، لما خرج من السفينة ومعه ثمانون إنسانًا، فبنوا لهم مساكن بهذا الموضع وأقاموا به، فسمي الموضع بهم، "معجم البلدان" ٢/ ٨٤.
(٣) في جميع النسخ (ثمانون) والصواب ما ذكرته، كما هو في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٢.
(٤) في (ب): (يصف).
(٥) البيت لجرير من قصيدة له في هجاء تيم بن قيس من بكر بن وائل، وصدره:
الواردون وتيم في ذرى سبأ
والشاهد أنه قال: جلد ولم يقل جلود. انظر: ديوانه ص٢٥٢، "معاني القرآن" ١/ ٣٠٨، ومعني البيت أن تيم يحتمون بسبأ ويمتنعون بها، ولا عصمة لهم من =
419
قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وقد مرَّ.
٤١ - قوله تعالى: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا﴾، يعني قال نوخ لقومه الذين أمر بحملهم: "اركبوا"، والركوب العلو على ظهر الشيء، فمنه ركوب الدابة، وركوب السفينة، وركوب البر، وركوب البحر، وكل شيء علا شيئاً فقد ركبه، وركبه الدين، قال الليث: وتسمي العرب من يركب السفينة ركاب السفينة، وأما الرُّكْبَانُ والأرْكوب والرَّكب فراكبو الدّواب والإبل، قال الأزهري (١): وقد جعل ابن أحمر ركاب السفينة ركباناً فقال (٢):
يهل بالفرقد ركبانها كما يُهِلُّ الراكب المعتمر
وقوله تعالى: ﴿فِيهَا﴾ لا يجوز أن تكون (في) من صلة الركوب؛ لأنه يقال: ركبت السفينة، ولا يقال: ركبت في السفينة، والوجه هاهنا أن يقال: مفعول (اركبوا) محذوف على تقدير: اركبوا الماء في السفينة، فيكون
= أنفسهم. "الخزانة" ٣/ ٣٧٢، "الطبري" ١٤/ ١١٧، "اللسان" ٥/ ٢٥٩٠، "المخصص" ١/ ٣١، ٤/ ٤١.
(١) "تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٥٦ (ركب).
(٢) قائل البيت هو ابن أحمر، عمرو بن أحمر الباهلي، كان من شعراء الجاهلية، وأدرك الإسلام فأسلم ومدح عمر فمن بعده إلى عبد الملك بن مروان. وقيل: توفي في خلافة عثمان. انظر: "طبقات فحول الشعراء" ٢/ ٥٧١، ٥٨٠، "خزانة الأدب" ٦/ ٢٥٦.
والبيت يعني قومًا ركبوا سفينة فغمت السماء ولم يهتدوا، فلما طلع الفرقد كبروا لأنهم اهتدوا للسمت الذي يؤمونه، انظر: "ديوانه" ص ٦٦، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٤٥٦، مادة (ركب)، اللسان ٣/ ١٧١٤، "جمهرة اللغة" ص ٧٧٢، "ديوان الأدب" ٣/ ١٦٤، "تاج العروس" ٢/ ٣٥ (ركب)، "أساس البلاغة" (هلل)، وبلا نسبة في "اللسان" (هلل) ٨/ ٤٦٨٩، و"تاج العروس" (هلل).
420
قوله: ﴿فِيهَا﴾ حالاً من الضمير في (اركبوا)، ويجوز أن يقال المعنى: اركبوها أي الفلك، وزاد (في) للتأكيد كقوله: ﴿لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾ [يوسف: ٤٣]، وفائدة هذه الزيادة أنه أمرهم أن يكونوا [في جوف الفلك لا على ظهرها، فلو قال: (اركبوها) لتوهموا أنه أمرهم أن يكونوا] (١) على ظهر السفينة.
وقوله: ﴿وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾ المُجرى: مصدر كالإجراء، ومثله قوله: ﴿مُنْزَلًا مُبَارَكًا﴾ [المؤمنون: ٢٩]، و ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ (٢)، وقرئ ﴿مَجْراها﴾ (٣) بفتح الميم وهو أيضًا مصدر مثل الجري، واحتج صاحب هذه القراءة بقوله: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ﴾ [هود: ٤٢] ولو كان (مُجراها) لكان (وهي تُجرَى بهم)، فكأنه قال: (وهي تجريهم) (٤).
وأما المرْسَى: فهو أيضًا مصدر كالإرساء يقال: وما الشيء يرسو: إذا ثبت، وأرساه غيره، قال الله تعالى: ﴿وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا﴾ [النازعات: ٣٢]. قال ابن عباس (٥) في رواية عطاء: يريد تجرى باسم الله وقدرته، وقال الضحاك (٦): كان إذا أراد أن تجري قال: باسم الله فجرت، وإذا أراد أن
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٢) الإسراء: ٨٠. في الأصل (وأدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق) وهو خطأ.
(٣) قرأ بها حمزة والكسائي وحفصر عن عاصم وخلف، "السبعة" ٣٣٣، "التبصرة" ٥٣٨، "النشر" ٣/ ١١٤، "إتحاف" ص ٢٥٦.
(٤) "الحجة" لأبي على ٤/ ٣٣١، وأيّد هذا الوجه الطبري ١٢/ ٤٣ - ٤٤.
(٥) روى الطبري ١٢/ ٤٤ نحوه عن مجاهد.
(٦) الطبري ١٢/ ٤٤ - ٤٥، الثعلبي ٧/ ٤٣ ب، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٣٣.
421
ترسو قال: (باسم الله) فرست (١).
قال أبو إسحاق (٢): أي بالله تجري وبه تستقر، ومعنى قولنا: باسم الله أي بالله، وهذه الأقوال معناها واحد، وأما تقدير الإعراب فقال الفراء (٣): إن شئت جعلت (مجراها) و (مرساها) في موضع رفع بالباء، كما يقال: إجراؤها وإرساؤها باسم الله، وبأمر الله، وإن شئت جعلت (باسم الله) ابتداء مكتفيًا بنفسه، كقول القائل عند المأكل: بسم الله، ويكون (مجراها) و (مرساها) في موضع نصب، يريد: بسم الله في مجراهما ومرساها، وزاد ابن الأنباري لهذا بيانًا فقال: في هذه الآية (٤) قولان:
أحدهما: أن يرتفع المجرى بالباء الزائدة، وتفتقر الباء إلى المجرى؛ لأنها خبره ورافعته، والتقدير: إجراؤها باسم الله، وموضع الباء نصب لخلافها المجرى، إذ المجرى اسم، والباء ليست باسم، إنما هي حرف معنى ملحق بالمَحَالّ، يريد أن التقدير: إجراؤها يقع باسم الله، أو يحصل باسم الله، فالباء في محل النصب بهذا التقدير وهي في الظاهر رفع لخبر المبتدأ، وليس هذا كقولهم: زيد قائم؛ لأن قائمًا هو زيد، وليس بمخالف (٥) له، وهذا كقوله: زيد عندك، هذا معنى قول أبي بكر لخلافها المجرى المفصل.
القول الثاني: أن يكون المجرى في موضع نصب على مذهب الوقت
(١) في (ب): عكس الجملتين.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٢.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ١٤.
(٤) ساقط من (ب).
(٥) في (ب): (المخالف).
422
ومنهاج المحل، تلخيصه باسم الله في مجراها ومرساها، فإذا سقط الخافض قضى على ما بعده بالنصب، كما تقول: أتيتك يوم الخميس، هزان القولان هما قولا الفراء (١) وشرحهما.
وقال أحمد بن يحيى: الباء منصوبة بفعل محذوف يدل عليه ويكنى (٢) منه، والمجرى مرفوع بالباء التي خلفت الفعل الذي لو ظهر لكان هو الرافع للمجرى، وتمثيله: يقع باسم الله مجراها ومرساها، فكان افتقار الباء إلى المجرى كافتقار الفعل لو ظهر إلى فاعله.
قال أبو علي الفارسي (٣): قوله تعالى: ﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ يجوز أن يكون حالاً من الضمير في (اركبوا)، على حد قولك: ركب في سلاحه، وخرج بثيابه، والمعنى ركب مستعدًا بسلاحه، وملتبسا بثيابه، وفي التنزيل: ﴿وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ﴾ [المائدة: ٦١]، فكان المعنى: اركبوا متبركين باسم الله ومتمسكين بذكر اسم الله، والمجرى والمرسى على هذا ظرف، بنحو (مَقْدَمَ الحاج)، و (خُفُوقَ النجم)، كأنه: متبركين بهذا الاسم، أو متمسكين في وقت الجري والإجراء على حسب الخلاف بين القراء فيه، ولا يكون الظرف متعلقًا باركبوا؛ لأن المعنى ليس (٤) عليه، ألا ترى أنه لا يراد اركبوا فيها في وقت الجري، والثبات، إنما المعنى اركبوا الآن متبركين باسم الله في الوقتين الذي لا ينفك الراكبون فيها منهما، فموضع مجراها
(١) "معاني القرآن" ٢/ ١٤.
(٢) في (ي): (يكفى).
(٣) "الحجة" ٤/ ٣٣٠ باختصار وتصرف.
(٤) في (ب): (يسمى).
423
نصب على هذا الوجه بأنه ظرف عمل فيه المعنى (١)، وهذا الوجه الذي ذكره أبو علي وجه آخر في التفسير سوى ما ذكرنا عن ابن عباس والضحاك.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾، قال ابن عباس (٢): يريد غفور لأصحاب السفينة رحيم بهم، قال أهل المعاني: اتصال هذا بما قبله اتصال المعنى بما يشاكله؛ لأنه لما ذكرت النجاة بالركوب في السفينة، ذكرت النعمة بالمغفرة والرحمة لتجتلب بالطاعة (٣) كما اجتلبت النجاة.
٤٢ - قوله تعالى: ﴿وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ﴾ [هود: ٤٢] أي الفلك ﴿فِي مَوْجٍ﴾ جمع موجة، وهي قطعة عظيمة ترتفع عن جملة الماء الكثير، وأعظم ما يكون ذلك إذا اشتدت (٤) الريح وماج البحر، وتموج: إذا اضطربت أمواجه وتحركت، ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ﴾، قال محمد بن إسحاق (٥): كان كافرًا واسمه يام، وقال الكلبي ومقاتل (٦): اسمه كنعان.
﴿وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ﴾، قال أبو إسحاق (٧) وابن الأنباري: أي من دين نوح؛ لأنه كان كافرًا مخالفاً عن نوح، خارجا عن (٨) جمعه أهل دينه، قالا: ويجوز أن يكون في معزل من السفينة، قال أبو بكر: وهذا أشبه
(١) إلى هنا انتهى النقل من أبي على الفارسي، "الحجة" ٤/ ٣٣١.
(٢) القرطبي ٩/ ٣٧، "البحر المحيط" ٥/ ٢٢٥.
(٣) في (ب): (باتصال).
(٤) ساقط من (ب).
(٥) "زاد المسير" ٤/ ١٠٩، القرطبي ٩/ ٣٨، ابن كثير ٢/ ٤٨٩، الطبري ١٢/ ٤٥.
(٦) "تفسير مقاتل" ١٤٦ أ، البغوي ٤/ ١٧٨، "زاد المسير" ٤/ ١٠٩، القرطبي ٩/ ٣٨، الثعلبي ٧/ ٤٣ ب.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٤.
(٨) في (ب): (من).
424
بظاهر القرآن، لأنه اعتزل السفينة وهو يظن أن الجبل يمنعه من الغرق، والمعزل في اللغة معناه: موضع منقطع عن غيره، وأصله من العزل وهو التنحية والإبعاد. يقال: كنت بمعزل عن كذا، أي بموضع قد عزل منه.
وقوله تعالى: ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا﴾، وقرئ (١) بفتح الياء، قال أبو علي (٢): الوجه الكسر، وذلك أن اللام من ابن "ياء" (٣) أو "واو"، فإذا حقرت ألحقت ياء التحقير، فلزم أن ترد اللام التي حذفت؛ لأنك لو لم تردها لوجب أن تحرك ياء التحقير بحركات الإعراب، وتعاقبها عليها، وهي لا تحرك أبدًا بحركة الإعراب ولا غيرها؛ لأنها لو حركت للزم أن تنقلب كما تنقلب سائر حروف اللين، إذا كانت حرف إعراب نحو: عصا وقفا، ولو انقلبت بطلت دلالتها على التحقير، فلهذا ردت اللام، فإذا رددتها وأضفت إلى نفسك اجتمعت ثلاث ياآت: الأولى منها للتحقير، والثانية لام الفعل، والثالثة التي للإضافة، تقول: (هذا بني)، فإذا ناديته جاز فيه وجهان: إثبات الياء وحذفها، والاختيار حذف الياء التي للإضافة وإبقاء الكسرة دلالة عليه نحو: يا غلامِ، وهذا الوجه هو الجيد عنهم؛ وذلك أن الياء ينبغي أن تحذف في هذا الموضع لمشابهتها التنوين، وذاك من أجل ما بينهما من المقاربة، ومن ثم أدغم في الواو والياء وهو على
(١) اختلف القراء في (يا بني) فقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وحمزة وابن عامر والكسائي (يا بُني) مضافة بكسر الياء. وقرأ حفص عن عاصم (يا بنيَّ) بالفتح في كل القرآن، ووافقه في هذا الموضع فقط أبو بكر عن عاصم. "السبعة" ٣٣٤، "التبصرة" ٥٣٩، "النشر" ٣/ ١١٥، "إتحاف" ص ٢٥٦، "الحجة" ٤/ ٣٣٣.
(٢) "الحجة" ٤/ ٣٣٣ - ٣٤١ باختصار وتصرف.
(٣) ساقط من (ي).
425
حرف، كما أن التنوين كذلك، فأجريت الياء مجرى التنوين في حذفها من المنادى، ومن قرأ (يا بنيَّ) بفتح الباء فإنه أراد الإضافة (١) أيضاً كما أرادها من قرأ بالكسر، لكنه أبدل من الكسرة الفتحة ومن الياء الألف فصار يا بنيا كما قال (٢):
يا ابنة عما لا تلومي واهجعي
ثم حذف الألف كما تحذف الياء في ياء بني، وقد حذفت الياء التي للإضافة إذا أبدلت الألف منها، أنشد أبو الحسن (٣):
فلست بمدرك ما فات مني بـ (لهف) ولابـ (ليت) ولا (لو اني)
قال: قوله بلهف إنما هو بلهفا فحذف الألف، والألف بدل عن ياء الإضافة.
(١) في (ي): (إضافته).
(٢) القائل هو: أبو النجم العجلي في أرجوزة له يخاطب امرأته أم الخيار. وهي ابنة عمه، ولها يقول:
قد أصبحت أم الخيار تدعي عليّ ذنبًا كله لم أصنع
وقوله: (واهجعي) أي: اسكني أو نامي. انظر: سيبويه ١/ ٣١٨، "المحتسب" ٤/ ٢٣٨، "شرح أبيات المغني" ٦/ ١٥٩ - ١٦١، "الحجة" ٤/ ٩١.
"تهذيب اللغة" (هجع) ٤/ ٣٧٢٠، "اللسان" (هجع) ٨/ ٤٦٢١، "خزانة الأدب" ١/ ٣٦٤، "الدرر" ٥/ ٥٨، اللسان (عمم) ٥/ ٣١١١، "المقاصد النحوية" ٤/ ٢٢٤، "نوادر أبى زيد" ١٩.
(٣) البيت لم ينسب، وهو من شواهد "الخصائص" ٣/ ١٣٥، "المحتسب" ١/ ٢٧٧، ٣٢٣، الخزانة ١/ ٦٣، "اللسان" ٧/ ٤٠٨٧، (لهف)، وانظر: "معاني القرآن" للأخفش ١/ ٢٤١، "الأشباه والنظائر" ٢/ ٦٣، ١٧٩، "الإنصاف" ص ٣٣٠، "أوضح المسالك" ٤/ ٣٧، "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٥٢١، "المقاصد النحوية" ٤/ ٢٤٨.
426
وقال أبو عثمان (١): وضع الألف مكان الياء في الإضافة مطرد، وأجاز: يا زيدا أقبل إذا أردت الإضافة، قال: وعلى هذا قراءة من قرأ: (يا أبت) بالفتح، وأنشد (٢):
لقد زَعَموا أنّي جَزعتُ عَليهما وهل جزعٌ أن قلتُ وابأبا هما (٣)
وكل ما ذكرنا هاهنا معنى كلام أبي إسحاق (٤) وزاد فقال: يجوز أن يكون حذف ياء الإضافة في قول من كسر؛ لسكونها وسكون الراء في ﴿أرْكَب﴾، والآية بيان عن حال ما عظم شأنه، وتفاقم أمره، من سفينة تجري في موج كالجبال، بماء قد طبق الأرض وعمّ الخلق إلا من نجاه الله، ومع ذلك فابن نوح يرى هذا كله فلا يؤمن ويقول: ﴿سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾
٤٣ - قوله تعالى: ﴿قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ﴾، قال ابن عباس (٥): يريد أنضم إلى جبل يعصمني من الماء، يريد: يمنعني من الماء فلا أغرق، والعصمة: المنع من الآفة، قال الزجاج (٦): والمعنى
(١) " الخصائص" لابن جني ٣/ ١٣٥.
(٢) البيت لعمرة الخثعمية في "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي / ١٠٨٢، ولها أو لدرنا بنت عبعبة في "المقاصد النحوية" ٣/ ٤٧٢، البيت مع آخر بعده في "النوادر" ٣٦٥، نسبهما لامرأة من بني سعد جاهلية، وفي "اللسان" ١/ ١٧ مادة (أبي) ونسبهما إلى درني بنت سيار بن ضبرة ترثي أخويها، ويقال لعمرة الخيثمية، وقولها (وابأبا هما) تريد: وإبأبي هما. وبلا نسبة في "شرح المفصل" ٢/ ١٢.
(٣) إلى هنا انتهى النقل عن أبي علي من "الحجة" ٤/ ٣٣٣ - ٣٤١، باختصار وتصرف.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٤.
(٥) قال به الطبري ١٢/ ٤٥، البغوي ٤/ ١٨٧، "زاد المسير" ٤/ ١١٠، القرطبي ٩/ ٣٩.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٤.
427
يمنعني من تغريق الماء. قال نوح: ﴿لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ لا مانع اليوم من عذاب الله ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾ استثناء منقطع، المعنى: لكن من رحم الله فإنه معصوم، وعلى هذا محل ﴿مَن﴾ نصب كقوله (١):
إلا أوّاري.......................
وهذا قول الفراء والزجاج، قال الفراء (٢): ومن أجاز في الاستثناء المنقطع أن يكون رفعًا نحو:
.................. إلا اليعافير (٣)
لم يجز له الرفع في (من)؛ لأن الذي قال إلا اليعافير جعل أنيس البر
(١) جزء من بيت للنابغة، والبيت هو:
إلا أواريّ لأيًا ما أبينها... والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
وقبل هذا البيت بيتان هما:
يا دار ميّة بالعلياء فالسند... أقوت وطال عليها سالف الأبد
وقفت فيها أصيلانا أسائلها... عيَّت جوابًا وما بالربع من أحد
وهذه الأبيات مقدمة قصيدة، قالها في مدح النعمان بن المنذر، ويعتذر إليه مما بلغه عنه، وفي الديوان (إلا الأواري). انظر: ديوانه ص ١٤ تحقيق الطاهر بن عاشور، "الخزانة" ٢/ ١٢٥، "معاني القرآن" ١/ ٤٨٠، "المقتضب" ٤/ ٤١٤، "شرح شواهد المغني" ٢٧.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ١٥.
(٣) قطعة من الرجز لعامر بن الحارث المعروف بجران العود، والبيت:
وبلدة ليس بها أنيس... إلا اليعافير وإلا العيس
انظر: "ديوانه" / ٩٧، "خزانة الأدب" ١٠/ ١٥ - ١٨، "الدرر" ٣/ ١٦٢، "شرح أبيات سيبويه" ٢/ ١٤٠، "شرح المفصل" ٢/ ٢٧١، "المقاصد النحوية" ٣/ ١٧٠، وبلا نسبة في "الأشباه والنظائر" ٢/ ٩١، "الإنصاف" ص ٢٣٤، "تهذيب اللغة" ١/ ١٧٧١ (إلا)، اللسان (كنس) ٧/ ٣٩٣٨، أوضح المسالك ٢/ ٢٦١.
428
اليعافير والوحوش، فيكون الاستثناء كالمتصل ولا يجوز هاهنا أن يكون المعصوم عاصما، هذا وجه في الاستثناء.
قال أبو إسحاق (١): ويجوز (٢) أن يكون ﴿عَاصِمَ﴾ في معنى معصوم ويكن معنى ﴿لَا عَاصِمَ﴾ هو: لا ذا عصمة، كما قالوا: (عيشة راضية) على جهة النسب، أي ذات رضا، ويكون ﴿مَنْ﴾ هو على هذا التفسير في موضع رفع ويكون المعنى: لا معصوم إلا المرحوم، ونحو هذا قال الفراء (٣) وقال: لا ينكرون أن يخرج المفعول على فاعل، ألا ترى قوله: ﴿مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾ [الطارق: ٦] معناه: مدفوق، وقوله: ﴿فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٢١] معناها: مرضية، وقال (٤):
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعمُ الكاسي
ومعناه: المكسو، فعلى قول الفراء يجوز أن يكون الفاعل بمعنى المفعول على ما ذكر، وقال علماء البصرة (٥): ﴿مَاءٍ دَافِقٍ﴾ بمعنى مدفوق، باطل من الكلام؛ لأن الفرق بين بناء الفاعل وبناء المفعول واجب، وهذا عند سيبويه وأصحابه يكون على طريق النسب، من غير أن يعتبر فيه فعل، فهو فاعل نحو: رامح، ولابن، وتامر، وتارس، ومعناه: ذو رمح، وذو
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٤.
(٢) ساقط من (ي).
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ١٦، "تهذيب اللغة" (عصم) ٣/ ٢٤٦٥.
(٤) القائل هو الحطيئة، والبيت من قصيدة يهجو فيها الزبرقان بن بدر التميمي، "ديوانه" ٥٤، "معاني القرآن" للفراء ٢/ ١٦، "الأغاني" ٢/ ٥٥، الطبري ١٢/ ٤٦، "اللسان" (ذرق) ٣/ ١٤٩٩، "خزانة الأدب" ٦/ ٢٩٩، "شرح المفصل" ٦/ ١٥، "الشعر والشعراء" ص ٢٠٣، "شرح شواهد المغني" ٢/ ٩١٦.
(٥) "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٣٥٣، و"الدر المصون" ٣/ ١٠١، ١٠٢.
429
لبن، كذلك هاهنا "عاصم" بمعنى ذو عصمة من قبل الله تعالى، ليس أنه عصم فهو عاصم بمعنى معصوم على الإطلاق الذي ذكره الفراء، وقوله تعالى: ﴿وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ﴾، قال الفراء (١): حال بين ابن نوح وبين الجبل ﴿فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾.
٤٤ - قوله تعالى: ﴿وَقِيلَ﴾ بعد ما تناهي أمر الطوفان: ﴿يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ﴾، يقال: بلع الماء يبلعه بلعًا: إذا شرب، وابتلع الطعام ابتلاعًا: إذا لم يمضغه.
وقال أهل اللغة: الفصيح بلع بكسر اللام يبلع بفتحها، ونحو ذلك روى أبو عبيد (٢) عن الكسائي، وقال الفراء (٣): يقال: بلِعت وبلَعت.
وقوله تعالى: ﴿وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي﴾، يقال: أقلع الرجل عن عمله: إذا كف عنه، وأقلعت السماء بعدما أمطرت إذا أمسكت.
قال ابن الأنباري (٤): أي عن إنزال الماء، فلما تقدم ذكر الماء لم يعد هاهنا.
وقوله تعالى: ﴿وَغِيضَ الْمَاءُ﴾، يقال: غاض الماء يغيض غيضًا ومغاضًا: إذا نقص، وغضته أنا، وهذا من باب فعل الشيء وفعلته أنا، ومثله جبر العظم وجبرته، وفغر الفم وفغرته، ودلغ اللسان ودلغته، ومد النهر ومده نهر آخر، وسرح المال إلى المرعى وسرحته، ونقص الشيء ونقصته، قال المفسرون: ونقص الماء، وما بقي مما نزل من السماء فهي
(١) "معاني القرآن" ٢/ ١٧.
(٢) "تهذيب اللغة" ١/ ٣٨٦ (بلع).
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ١٧.
(٤) "زاد الضمير" ٤/ ١١١.
430
هذه البحار المالحة.
وقوله تعالى: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾، قال أبو بكر (١) وغيره: معناه: وأحكم هلاك قوم نوح، ومعنى القضاء الأحكام وإتمام الأمر والفراغ منه، كأنه قيل (٢): أوقع الهلاك بقوم نوح على تمام وإحكام، وفرغ من ذلك.
قال مجاهد (٣) في قوله: ﴿وَقُضِيَ الْأَمْرُ﴾: أهلك قوم نوح، قال كثير من المفسرين (٤): إن الله تعالى أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة، فلم يغرق إلا ابن أربعين، فعلى هذا لم يهلك الله بالغرق طفلًا ولا وليدًا لم تقم عليه الحجة.
وقال ابن جرير (٥): هلك الولدان بالطوفان، كما هلك الطير والسباع، وافق الغرق آجالهم، فذهب إلى أن الغرق لم يكن عقوبة للولدان، وإنما كان سببا للموت عند حضور الأجل، والله أعلم، ويؤكد هلاك الولدان ما روي في الخبر: أن امرأة أتت بصبي لها إلى جبل، فلما رهقها الماء رفعته، فلما كثر الماء رفعته رقة له، حتى غرقت وغرق الصبي، فلو رحم الله أحدًا من قوم نوح [من المشركين] (٦) لرحم أم (٧) ذلك
(١) "زاد المسير" ٤/ ١١٢، "البحر المحيط" ٥/ ٢٢٨.
(٢) ساقط من (ي).
(٣) الطبري ١٢/ ٤٧، "زاد المسير" ٤/ ١١١، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٣٧، أبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٦٠٥.
(٤) الرازي ١٧/ ٢٣٥، القرطبي ٩/ ٤١.
(٥) رواه الطبرى ١٢/ ٤٩ عن الضحاك.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٧) ساقط من (ي).
431
الصبي (١).
وقوله تعالى: ﴿وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ﴾، قال ابن عباس (٢) وعامة المفسرين (٣): استوت السفينة على جبل بالجزيرة يقال له الجودي، قال أبو بكر (٤): كان استواؤها عليه دلالة على نفاد الماء وانقطاع ما يزيل عنها الاستواء بتحريكه وتنحيته ومنعه من الثبات في موضع واحد، وفي الحديث (٥): "أن نوحًا ركب السفينة في رجب، فجرت بهم ستة أشهر، ومرت بالبيت فطافت به سبعاً، وقد رفعه الله من الغرق، وأرسيت على الجودي يوم عاشوراء، فصام نوح، وأمر جميع من معه فصاموا شكرًا لله".
وقوله تعالى: ﴿وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾، قال ابن عباس (٦): يريد
(١) أخرجه ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٣٦ من حديث عائشة عن النبي - ﷺ -. والطبري ١٢/ ٣٥، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٣٤٢ وقال: على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وخالفه الذهبي في التلخيص، وقال: إسناده مظلم بسبب موسى بن يعقوب الزمعي وليس بذاك، قال فيه ابن المديني: ضعيف منكر الحديث. انظر: "تهذيب التهذيب" ٤/ ١٩٢.
(٢) الطبري ١٢/ ٤٨.
(٣) أخرجه الطبري ١٢/ ٤٨ عن مجاهد وسفيان وقتادة والضحاك. وانظر: البغوي ٤/ ١٧٩، "زاد المسير" ٤/ ١١٢، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٣٧.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ١١٢.
(٥) أخرجه الطبري ١٢/ ٤٧ عن عبد العزيز بن عبد الغفور عن أبيه مرفوعًا، وقد علق عليه أحمد شاكر بقوله: (وهذا خبر هالك من نواحيه جميعًا وقال: وأما عبد العزيز ابن عبد الغفور، فهذا اسم مقلوب، وإنما هو (عبد الغفور بن عبد العزيز) ويقال: عبد الغفار، ويروي عنه عثمان بن مطر وهو كذاب خبيث كان يضع الحديث.
انظر: "تعليقه على الطبري" ١٥/ ٣٣٥.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ١١٢.
432
بعدًا من رحمة الله للقوم المتخذين من دونه إلها، قال أهل المعاني: معناه أبعدهم الله من الخير بعدًا على جهة الدعاء، ويجوز أن يكون [الله قال لهم ذلك] (١)، ويجوز أن يكون من قول المؤمنين، وهو منصوب على المصدر.
٤٥ - قوله: ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾، اختلف المفسرون في قوله: ﴿إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾؛ فقال عكرمة عن ابن عباس (٢): إنه لَابنُه ولكنه خالفه في النية والعمل، فذلك الذي فرق بينهما، ونحو هذا قال محمد بن إسحاق (٣)، والكلبي (٤) ومقاتل (٥): قالوا هو وابنه من صلبه.
وروى ابن عيينة عن عمار الدهني قال: قلت لسعيد بن جبير كان ابنه؟ فقال: يا بني إن الله لا يكذب (٦)، ﴿وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ﴾، وذهب طائفة إلى أن هذا الذي خالف نوحًا كان ابن امرأته، ولم يكن ابن صلبه (٧).
روي عن علي رضي الله عنه أنه قرأ (٨): (ونادى نوح ابنها وكان في معزل) وروى إسرائيل عن جابر عن ابن جعفر الباقر (٩) في قوله ﴿إِنَّ ابْنِي﴾
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٢) الطبري ١٢/ ٥١، الثعلبي ٧/ ٤٥ أ، ورجحه البغوي ١٨١، "زاد المسير" ٤/ ١١٣، القرطبي ٩/ ٤٥ ورجحه. وابن كثير ٢/ ٤٨٩ ورجحه وعبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٣٩، وسعيد بن منصور كما في "الدر" ٣/ ٦٠٣.
(٣) "الوسيط" ٢/ ٥٧٥، "البداية والنهاية" ١/ ١١٣.
(٤) "الوسيط" ٢/ ٥٧٥.
(٥) "تفسير مقاتل" ١٤٦ أ.
(٦) "تفسير سفيان بن عيينة" ٢٦٨.
(٧) الطبري ١٢/ ٤٩، الثعلبي ٧/ ٤٥ أ، البغوي ٤/ ١٨١، "زاد المسير" ٤/ ١١٣.
(٨) أخرجه ابن الأنباري في "المصاحف" وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٦٠٣.
(٩) الطبري ١٢/ ٥٠، والرواية عن أبي جعفر الباقر، الثعلبي ٧/ ٤٤ ب، البغوي =
433
قال: هذا بلغة طيء لم يكن ابنه، إنما كان ابن امرأته.
[ونحو ذلك قال الهيثم بن عدي الطائي (١)، وقال مجاهد (٢) أيضًا: كان ابن امرأته] (٣).
وقال قتادة (٤): سألت عنه الحسن فقال: والله ما كان ابنه، [قلت إن الله حكى عنه أنه قال: ﴿إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾ وأنت تقول لم يكن ابنه] (٥)، وإن أهل الكتابين لا يختلفون في أنه كان ابنه، فقال الحسن: ومن يأخذ دينه من أهل الكتاب، واستدل على صحة ما قال يقول (٦): نوح: ﴿إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾، ولم يقل مني (٧).
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ﴾، قال ابن عباس (٨): يريد الذي وعدتني أنك تنجيني وأهلي، وفي هذا سؤال النجاة لابنه، أي فأنجه من الغرق على ميعادك من إنجاء أهلي، ﴿وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ﴾ قال ابن
= ٤/ ١٨١، ابن كثير ٢/ ٤٩٠، وابن المنذر، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٣٩، وأبو الشيخ عن أبي جعفر محمد بن علي كما في "الدر" ٣/ ٦٠٣.
(١) هو: الهيثم بن عدي بن عبد الرحمن أبو عبد الرحمن الطائي، الكوفي المؤرخ، قال ابن معين وأبو داود: كذاب، قال البخاري: سكتوا عنه، والنسائي: متروك الحديث، توفي سنة ٢٠٧ هـ. انظر: "سير أعلام النبلاء" ١٠/ ١٠٣، "الجرح والتعديل" ٩/ ٨٥.
(٢) الطبري ١٢/ ٥٠، الثعلبي ٧/ ٤٤ ب، البغوي ٤/ ١٨١، "زاد المسير" ٤/ ١١٣.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) الطبري ١٢/ ٥٠، الثعلبي ٧/ ٤٤ ب، البغوي ٤/ ١٨١، "زاد المسير" ٤/ ١١٣.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٦) ساقط من (ي).
(٧) البغوي ٤/ ١٨١، الثعلبي ٧/ ٤٤ ب.
(٨) ابن كثير ٢/ ٤٩٠.
434
عباس (١): يريد: أعدل العادلين.
٤٦ - قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾، [من قال: إن هذا الابن كان ابن نوح لصلبه، قال: معنى قوله: ﴿لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾] (٢) أي: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك، كذا قال ابن عباس (٣) فيها روى عنه الضحاك، وروى هشيم (٤) قال: سألت أبا بشر (٥) عن هذه الآية فقال (٦): معناه: ليس من أهل دينك.
والقولان ذكرهما الزجاج (٧)، وحكاهما أبو علي (٨)، وقال في القول الأول: بعَّد المخالفة، في الدين قربَ النسب الذي بينهما، كما تقرب الموالاة في الدين بعد النسب، قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠] وهذا إطلاع من الله تعالى نوحًا على باطن أمره، كما أطلع رسوله محمدًا - ﷺ - ما استبطنه المنافقون، وقال في القول الثاني: إنه من باب حذف المضاف، وعلى هذا كان سؤال نوح إنجاءه؛ لأنه كان يظن أنه
(١) "زاد المسير" ٤/ ١١٣.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٣) الطبري ١٢/ ٥١، الثعلبي ٧/ ٤٤ ب.
(٤) هشيم هو: ابن بشير بن أبي خازم، الإمام شيخ الإسلام، محدث بغداد وحافظها، أبو معاوية السلمي مولاهم، الواسطي، ثقة ثبت، توفي سنة ١٨٣ هـ. انظر: "التقريب" ص ٥٧٤ (٧٣١٢)، "السير" ٨/ ٢٨٧.
(٥) هو: جعفر بن أبي وحشية إياس اليشكري أبو بشر، أحد الأئمة والحفاظ، ثقة، من أثبت الناس في سعيد بن جبير. توفي سنة ١٢٥هـ، وقيل: ١٢٦هـ. انظر: "التقريب" ص ١٣٩ (٩٣٠)، "السير" ٥/ ٤٦٥.
(٦) الطبري ١٢/ ٥١.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٥.
(٨) "الحجة" ٤/ ٣٤٢ بتصرف.
435
على دينه، فقد روي أنه كان منافقًا يظهر الإيمان ويسر الكفر، وكذا يقول من قال إنه ابن امرأته، وذهب جماعة إلى أنه ولد على فراش نوح، وكان ولد خبثه، وكان يظن نوح أنه ابنه، حتى أخبره الله تعالى أنه ليس ابنه، بقوله: ﴿إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ﴾، وهذا قول ابن جرير (١)، والحسن (٢)، قال الحسن: إن امرأته فجرت.
وقال الشعبي (٣): لم يكن ابنه، إن امرأته خانته، واحتج هؤلاء بقوله تعالى: ﴿فَخَانتاهُمَا﴾ [التحريم: ١٠] (٤)، والعلماء على أنه كان ابنه، وعليه ابن عباس فقد روى الضحاك عنه أنه قال (٥): ما بغت امرأة نبي قط.
وروى سليمان بن قتة (٦) أن ابن عباس سئل: ما كانت خيانة امرأة نوح وامرأة لوط؟ فقال (٧): كانت امرأة نوح تقول: زوجي مجنون، وكانت امرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزل به، وروى عكرمة عنه (٨) أنه قال: لم
(١) لعله ابن جريج كما في الطبري ١٢/ ٥٠، أما ابن جرير فيقول بخلاف ذلك. انظر: الطبري ١٢/ ٥١.
(٢) الطبري ١٢/ ٤٩ - ٥٠، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٤٠، "زاد المسير" ٤/ ١١٣.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ١١٣.
(٤) من هنا يبدأ السقط في (ب).
(٥) الطبري ١٢/ ٥١، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٤٠، "زاد المسير" ٨/ ٣١٥.
(٦) هو: سليمان بن قتة التيمي، مولاهم البصري، المقرئ من فحول الشعراء، وثّقه ابن معين وقتة هي أمه، ولم تذكر سنة وفاته. انظر: "سير أعلام النبلاء" ٤/ ٥٩٦، "غاية النهاية" ١/ ٣١٤.
(٧) الطبري ١٢/ ٥١، عبد الرزاق ٢/ ٣١٠، القرطبي ٩/ ٤٧، "زاد المسير" ٨/ ٣١٥، "الدر المنثور" ٦/ ٣٧٧.
(٨) أخرج ابن عدي والبيهقي في شعب الإيمان وابن عساكر عن الضحاك نحوه كما في "الدر" ٦/ ٣٧٧.
436
يكن الله ليجعل خائنة الفرج لأحد من أنبيائه، وإنما خيانتهما الكفر، قال أبو بكر ابن الأنباري: وهذا أولى من الأخذ بتأويلٍ فيه رميُ زوج نبي بالفاحشة، ومتى وجدنا سبيلا إلى تطهير حرم الأنبياء لم نعدل عن ذلك إلى وصفهن بما يسمج، وهذا أيضًا مذهب ابن مسعود (١): فقد قال: إنه ابنه، ولم يبتل الله -عزوجل - نبيا في أهله بمثل هذه البلوى.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾، يجوز أن تكون الهاء راجعة على السؤال، والمعنى: إن سؤالك إياي أنجي كافرًا، عمل غير صالح؛ لأنه قد تقدم دليل السؤال في قوله: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي﴾، ويجوز أن تكون الهاء راجعة على ابن نوح، ويكون التقدير: إن ابنك ذو عمل أو صاحب عمل غير صالح، فحذف المضاف كما قالت الخنساء:
..... فإنما هي إقبال وإدبار (٢)
وهذا الذي ذكرنا قول أبي إسحاق (٣)، وأبي بكر (٤)، وأبي علي (٥)؛ قال أبو علي: ويجوز أن يكون ابن نوح جعل عملًا غير صالح، كما يجعل الشيء لكثرة ذلك منه، كقولهم: الشعر زهير، فعلى هذا لا حذف، ومن ذهب إلى أنه كان لزنية، قال: معنى قوله: ﴿إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ﴾ أنه ولد زنى (٦)، والمفسرون على القول الأول؛ أن المعنى أن سؤالك ما ليس لك
(١) لم أجده في مظانه.
(٢) تقدم تخريج البيت في سورة البقرة: ١٧٧.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٥.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ١١٤.
(٥) "الحجة" ٤/ ٣٤٢.
(٦) وممن قال بهذا الحسن كما في الطبري ١٢/ ٥٣، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٤٠.
437
به علم عمل غير صالح (١)، وهو قول الكلبي وقتادة، وقال عطاء عن ابن عباس: سؤالك (٢) إياي عمل غير صالح، وقرأ الكسائي (٣): "إنه عَمِلَ غيرِ صالح"، وهذه القراءة قراءة النبي - ﷺ - (٤)؛ روى ذلك عنه عائشة وأسماء بنت يزيد (٥) وأم سلمة (٦)، ومعناه أن الابن عمل عملًا غير صالح، يعني الشرك،
(١) رواه الطبري ١٢/ ٥٣ عن إبراهيم، وقتادة، وابن عباس، ومجاهد، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٤٠ عن ابن عباس.
(٢) في (ي): (مسألتك).
(٣) ويعقوب من العشرة، انظر: "السبعة" / ٣٣٤، "الكشف" ١/ ٥٣١، "النشر" ٣/ ١١٥، "إتحاف" ص ٢٥٦، وقرأ بها ابن عباس كما في الطبري ١٢/ ٥٣، والأخفش كما في "معاني القرآن" ٢/ ٥٧٨.
(٤) هذا الكلام فيه إيهام بأن ما عدا هذه القراءة ليس قراءة للنبي - ﷺ - وهذا غير مراد، وإنما المراد أنها قراءة ثابتة عن النبي- ﷺ -.
(٥) هي: الصحابية أم سلمة، أسماء بنت يزيد بن السكن بن رافع الأنصارية وقيل كنيتها أم عامر، شهدت اليرموك وعاشت بعدها دهرًا. انظر: "الإصابة" ص ٢٣٤ - ٢٣٥، "التقريب" ص ٧٤٣ (٨٥٣٢).
(٦) هذا الحديث رواه أحمد في "مسنده" من حديث أسماء بنت يزيد في ثلاثة مواضع ٦/ ٤٥٤، ٤٥٩، ٤٦٠، وعنها أيضًا، أبو داود (٣٩٨٢)، والطيالسي في مسنده ص ٢٥٦ ح ١٦٣١، وأبو نعيم في "الحلية" ٨/ ٣٠١، عن أم سلمة أم المؤمنين، والحاكم في "المستدرك" ٢/ ٢٤٩، وأحمد عن أم سلمة ٦/ ٢٩٤، ٣٢٢، وأيضاً الطيالسي ٢٢٣ برقم ١٥٩٤، قال الترمذي بعد أن ساق الخبر: "سمعت عبد بن حميد يقول: أسماء بنت يزيد هي أم سلمة الأنصارية، كلا الحديثين عندي واحد" وذهب أحمد شاكر في تعليقه على الطبري إلى أنهما حديثان ١٥/ ٣٥٠، وأن شهر ابن حوشب يروي عن أسماء بنت يزيد الأنصارية التي تكنى بأم سلمة، ويروى عن أم المؤمنين أم سلمة، وأما حديث عائشة الموافق لحديث أم سلمة فقد رواه البخاري في "الكبير" ١/ ١/ ٢٨٦، ٢٨٧، ورواه الحاكم في "المستدرك"، وقال الذهبي تعليقًا عليه: "إسناده مظلم".
438
فحذف الموصوف وأقيمت الصفة التي هي "غير" مقامه.
وقوله تعالى: ﴿فَلَا (١) تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾، قال أبو بكر: سأل نوح ربه من نجاته وانصراف الغرق عنه ما يسأله الوالد، وهو لا يعلم أن ذلك محظور عليه مع إصراره على الكفر، حتى أعلمه ذلك، وكأن المعنى: ما ليس لك علم بجواز مسألته.
وقال أبو علي (٢): قوله "به" يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه مقدم يراد به التأخير أي ما ليس لك علم به (٣) فيكون كقوله تعالى: ﴿وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ [يوسف: ٢٠]، و ﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: ٢١]، و ﴿وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٥٦]، وزعم أبو الحسن (٤) أن ما يكون من هذا القبيل يتعلق بمضمر، يفسره هذا الذي ظهر بعد، وإن كان لا يجوز تسلط هذا الظاهر عليه قال: ومثل ذلك قوله: ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى﴾ [الفرقان: ٢٢] فانتصب ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ﴾ بما دلَّ عليه ﴿لَا بُشْرَى﴾، ولا يجوز لما بعد ﴿لَا﴾ هذه أن تتسلط على ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ﴾، وكذلك ﴿إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: ٢١] يتعلق بما يدل عليه النصح المظهر، وإن لم يتسلط عليه، والتقدير: إني ناصح لكما من الناصحين، وكذلك "ما ليس لي به علم" يتعلق بما يدل عليه قوله علم الظاهر، وإن لم يجز أن يعمل فيه، قال أبو علي: ويجوز فيه وجه آخر،
(١) في النسخ: (٩ ولا).
(٢) "الحجة" ٤/ ٣٤٣.
(٣) في (ي): (به علم).
(٤) هو أبو الحسن الأخفش.
439
وهو أن تكون الباء متعلقًا بما دل عليه قوله "ليس لك" والمعنى ليس لك (١) أن يستقر لك به علم، كتعلق الظرف بالمعاني، والعلم هاهنا يراد به العلم المتيقن الذي يعلم به الشيء على حقيقته (٢)، ليس العلم الذي يعلم به الشيء على ظاهره كالذي في قوله: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ﴾ [الممتحنة: ١٠] ونحو ما يعلمه الحاكم من شهادة الشاهدين (٣).
وقوله تعالى: ﴿إِنِّي أَعِظُكَ﴾، قال ابن عباس (٤): يريد: إني أنهاك. ﴿أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾، [قال: يريد الآثمين؛ لأن عمل المؤمنين وذنوبهم جهل ليس بكفر، كما قال موسى: ﴿أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [البقرة: ٦٧]] (٥)، وقال الله تعالى ﴿يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ﴾ [النساء: ١٧] وجهل المؤمن ذنب وليس بكفر.
٤٧ - قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ﴾، قال ابن عباس (٦): يريد أنك علام الغيوب، وأنا لا أعلم ما غاب عني.
وقال ابن الأنباري: لما أعلمه الله أنه لا يجوز له أن يسأل ما لا علم له بجواز مسألته تلك (٧) اعتذر أجمل اعتذار بقوله: {أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ
(١) ساقط من (جـ).
(٢) في (جـ): (على ظاهره).
(٣) إلى هنا انتهى النقل عن "الحجة" ٤/ ٣٤٤ (بتصرف).
(٤) القرطبي ٩/ ٤٨، "تنوير المقباس" ١٤١.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (جـ).
(٦) قال به الطبري ١٢/ ٥٤.
(٧) ساقط من (ي).
مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ}. وقال أهل المعاني: لما كان السؤال منه ما يحسن ومنه ما يقبح، وجب ألا يسأل إلا عما يعلم أنه يحسن. ﴿وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي﴾، قال ابن عباس: يريد جهلي ﴿وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، وهذه الآية تدل على جواز وقوع الصغيرة من الأنبياء عليهم السلام (١)؛ لأن المغفرة لا تكون للطاعة وإنما تكون للمعصية.
٤٨ - قوله تعالى: ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ﴾، قال ابن عباس (٢): يريد من السفينة إلى الأرض ﴿بِسَلَامٍ مِنَّا﴾، قالوا: بسلامة منا، وقالوا: بتحية منا ﴿وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ﴾، معنى البركة في اللغة: ثبوت الخير حالاً بعد حال، وأصله الثبوت، ومنه البروك، والبركة لثبوت الماء فيها، وبراكاء للقتال في قول الشاعر (٣):
(١) هذا القول هو قول أهل السنة، بل قول أكثر علماء الإسلام، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "القول بأن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر، هو قول أكثر علماء الإسلام وجميع الطوائف، حتى إنه قول أكثر أهل الكلام، كما ذكر أبو الحسن الآمدي أن هذا قول أكثر الأشعرية، وهو أيضًا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول"."مجموع فتاوى ابن تيمية" ٤/ ٣١٩.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١١٥، وقال به الطبري ١٢/ ٥٤، والثعلبي ٧/ ٤٥ أ، والبغوي ٤/ ١٨١، والقرطبي ٩/ ٤٨.
(٣) البيت لبشر بن أبي خازم، وصدره:
ولا ينجي من الغمرات إلا
والبراكاء: الثبات في الحروب. انظر: "ديوانه" ص ٧٩، و"اللسان" (برك) ١/ ٢٦٧، "الخزانة" ٣/ ٣٥٩، "تهذيب اللغة" ١/ ٣١٩، "الدر المصون" ٥/ ٤١، "جمهرة اللغة" /٣٢٥، "شرح التصريح" ٢/ ٢٩١، "شرح المفصل" ٤/ ٥٠.
441
بَراكاءُ (١) القِتالِ أَوِ الفِرارُ
الثبوت للقتال، وتبارك الله: ثبت تعظيمه، قال المفسرون (٢): معنى البركات على نوح أنه صار أب البشر والأنبياء؛ لأن جميع من بقي كانوا من نسله، قال ابن عباس (٣): يريد أنك آدم الأصغر، فعلى هذا قالوا: لما خرج نوح من السفينة مات كل من كان معه ممن لم يكن من ذريته، ولم يتناسل إلا من كان من ذريته، فالخلق كلهم من نسله، وهذا معنى قوله: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ [الصافات: ٧٧]، وقال جماعة من المفسرين (٤): لم يكن مع نوح في السفينة من الناس إلا من كان من ذريته.
وقوله تعالى: ﴿وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ﴾، قال ابن عباس (٥): يريد من ولدك. قال أبو بكر (٦): معناه من ذراري من معك، ولذلك قال (على أمم) ولم يكن الذين كانوا مع نوح أمما.
قال المفسرون (٧): وهم المؤمنون وأهل السعادة، وقال القرظي (٨): دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة.
وقوله تعالى: ﴿وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ﴾ [الآية، قال المفسرون: يعني الأمم
(١) في (جـ): (براك).
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١١٥.
(٣) القرطبي ٩/ ٤٨، "البحر المحيط" ٥/ ٢٣١.
(٤) البغوي ٤/ ١٨٢، القرطبي ٩/ ٤٨.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ١١٥.
(٦) المرجع السابق.
(٧) الطبري ١٢/ ٥٥، الثعلبي ٧/ ٤٥ أ، البغوي ٤/ ١٨٢، القرطبي ٩/ ٤٨.
(٨) الطبري ١٢/ ٥٥، الثعلبي ٧/ ٤٥ أ، البغوي ٤/ ١٨٢، القرطبي ٩/ ٤٨.
442
الكافرة من ذريته إلى يوم القيامة، كما قال القرظي: دخل في السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، ودخل في المتاع والعذاب كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.
قال ابن الأنباري (١): والأمم يرتفعون بإضمار "مَنْ" تقديره: وفي مَنْ نَصِفُ لك وفي مَنْ نقُصُّ عليك أمره أمم سنمتعهم] (٢).
٤٩ - قوله تعالى: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾، الإشارة بتلك إلى الأنباء، كأنه قيل تلك الأنباء من أنباء الغيب؛ لأنه قد تقدم ذكرها، واتصلت ببيان عنها، وقال أبو بكر (٣): ﴿تِلْكَ﴾ إشارة إلى آيات القرآن، وقال في هذه السورة (٤): ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى﴾ [هود: ١٠٠]، فأشار بذلك إلى الخبر والحديث، وقال غيره (٥): الإشارة بتلك إلى القصة.
وقوله: ﴿مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ﴾، أي من أخبار ما غاب عن جميع الخلق؛ لأنه لم يشاهد هذه القصص النبي - ﷺ -، ولا أحد من قومه، ولا من الناس كلهم في ذلك الوقت.
وقوله تعالى: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾، أي كما صبر نوح على أذى قومه، فإن آخر الأمر بالظفر والنصرة والتمكين لك ولقومك، كما كان لمؤمني قوم نوح، هذا قول عامة المفسرين (٦).
(١) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٥٧٨.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ج).
(٣) "زاد المسير" ٤/ ١١٦، "البحر المحيط" ٥/ ٢٣٢.
(٤) ساقط من (ي).
(٥) "زاد المسير" ٤/ ١١٦، ابن كثير ٢/ ٤٩٢، الطبري ١٢/ ٥٦، ابن عطية ٧/ ٣١٧.
(٦) الطبري ١٢/ ٥٦، الثعلبي ٧/ ٤٥ ب، البغوي ٤/ ١٨٢، "زاد المسير" ٤/ ١١٧، القرطبي ٩/ ٤٩، ابن عطية ٧/ ٣١٧، ابن كثير ٢/ ٤٩٢، الرازي ١٨/ ٨.
وقال مقاتل (١) وجماعة معناه: أن الجنة لمن اجتنب الفواحش والآثام.
٥٠ - وقوله تعالى: ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا﴾، هذا عطف على قوله: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ﴾، فكأنه قيل: وأرسلنا إلى عاد أخاهم، قال المفسرون (٢): كان هودٌ أخاهم في النسب لا في الدين، قال ابن عباس: يريد ابن أبيهم.
وقوله تعالى: ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ﴾، قال: يريد: فيما تعبدون من دونه، يعني ما أنتم إلا كاذبون في إشراككم معه الأوثان.
٥١ - قوله تعالى: ﴿يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ الآية، قد مضى نظير هذه الآية في قصة نوح في هذه السورة، وبينا ما فيه.
٥٢ - قوله تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾، مضى الكلام في هذا في أول السورة.
وقوله تعالى: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾، قال المفسرون (٣): إن الله تعالى كان قد حبس عنهم المطر ثلاث سنين، وأعقم أرحام نسائهم، فقال لهم هود: إن آمنتم أحيا الله بلادكم، ورزقكم الماء والولد، فذلك قوله تعالى: ﴿يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا﴾، والمعنى يرسل المطر وماء السماء، والمدرار: الكثير الدر وهو من أبنية المبالغة.
(١) "تفسير مقاتل" ١/ ١٧٣ ب نسخة أخرى من المخطوط محفوظة بجامعة الإمام تحت رقم ٤٨٦/ ف، "تنوير المقباس" ١٤١.
(٢) الثعلبي ٧/ ٤٥ ب، البغوي ٤/ ١٨٢، ابن عطية ٧/ ٣١٨.
(٣) الثعلبي ٧/ ٤٦ أ، الطبري ١٢/ ٥٨ عن ابن زيد، "زاد المسير" ٤/ ١١٧، البغوي ٤/ ١٨٢ - ١٨٣.
قال أبو بكر (١): وهو من النعوت التي انعدلت عن منهاج الفعل فيستوي فيه التذكير والتأنيث، وجرى في وصف المؤنث مجرى ما يستغني بقيام معنى التأنيث فمِه عن العلامة، كالنعل والفأس، ونصبها على الحال، وذكرنا هذا في أول سورة الأنعام [آية: ٦].
وقوله تعالى: ﴿وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ﴾، فسرت القوة هاهنا بالمال والولد والشدة، وكل هذا مما يتقوى به الإنسان، ذكر ذلك الفراء (٢)، والزجاج (٣)، وابن الأنباري، وقال مقاتل (٤): يعني العدد وكثرة الأولاد، وهو قول ابن عباس في رواية الكلبي، وذهب مجاهد (٥) إلى الشدة.
٥٣ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ﴾ أي بحجة واضحة نفصل بها الحق من الباطل. وهذا بهت منهم وطغيان ودفع للاستدلال.
وقوله تعالى ﴿وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ﴾ أي بقولك، و (الباء) و (عن) تتعاقبان كقوله: ﴿كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا﴾ [الأعراف: ١٨٧] أي بها، وقد مرَّ، وكقوله: ﴿فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ [الفرقان: ٥٩] أي عنه.
٥٤ - قوله تعالى: ﴿إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ﴾، يقال: عراه أمر كذا يعروه، واعتراه يعتريه، وعرَّه واعتره كل ذلك إذا غشيه
(١) "زاد المسير" ٣/ ٦.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ١٩.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٧.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٤٦ ب، ابن عطية ٧/ ٣٢١ - ٣٢٢، "زاد المسير" ٤/ ١١٧، القرطبي ٩/ ٥١.
(٥) الطبري ٥٨٨٢، الثعلبي ٧/ ٤٦ أ، "زاد المسير" ٤/ ١١٧، البغوي ٤/ ١٨٢ - ١٨٣، القرطبي ٩/ ٥١.
445
وأصابه، قال ابن الأعرابي: إذا أتيت رجلا تطلب منه حاجة فقد عروته وعررته واعتريته واعتررته (١).
وقال المفسرون وأهل المعاني (٢) في قوله تعالى: ﴿اعْتَرَاكَ﴾: أصابك ومسك، والمعنى: أنهم قالوا لهود: ما نقول في سبب مخالفتك إيانا إلا أن بعض آلهتنا أصابك بجنون، فأفسد عقلك وأجنك وخبلك، فالذي تُظهِر من عيبها وطعنها لما لحق عقلَك من التغير، هذا قول عامة أهل التأويل؛ ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة (٣) وغيرهم، فقال نبي الله عند ذلك: ﴿إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ﴾ الآية، يعني إن كانت عندكم عاقبتني لطعني كان (٤) عليها، فإني الآن أزيد في الطعن أي إني متيقن بطلان ما تقولون؛ لبصيرتي في البراءة منها والعيب لها والإنكار لعبادتها.
وقوله تعالى: ﴿وَاشْهَدُوا﴾، قال أهل المعاني (٥): أشهدهم وليسوا أهلًا للشهادة؛ ليقيم (٦) عليهم الحجة لا لتقوم بهم؛ لأنهم كفرة، فقيل لهم هذا القول للإعذار والإنذار.
وقال أبو علي (٧): قوله: ﴿أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ﴾ على إعمال
(١) ما سبق من "تهذيب اللغة" للأزهري ٣/ ٢٣٧٣ (عرا).
(٢) "معاني الفراء" ٢/ ١٩، "معاني الزجاج" ٣/ ٥٧، "تهذيب اللغة" (عرا) ٣/ ٢٣٧٣.
(٣) رواه عنهم الطبري ١٢/ ٥٩ - ٦٠، وانظر: الثعلبي ٧/ ٤٦ أ، البغوي ٤/ ١٨٣، ابن عطية ٧/ ٣٢٣، القرطبي ٩/ ٥١، "الدر المنثور" ٣/ ٦١٠، عبد الرزاق ٢/ ٣٠٤، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٤٦.
(٤) هكذا في النسخ التي بين يدي، ولعل (كان) زائدة.
(٥) القرطبي ٩/ ٥١.
(٦) في (ي): (لتقوم).
(٧) "الحجة" ٥/ ١٧٨.
446
الثاني كما أن قولى تعالى: ﴿آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا﴾ [الكهف: ٩٦] كذلك، والتقدير: أشهد الله أني بريء وأشهدوا الله أني بريء، فحذف الأول على حد ضربت وضربني زيد، وحذف حرف الجر مع (١) أنّ؛ لأنه يقال: أشهد بكذا وعلى كذا ولكن حرف الجر يحذف مع (أن) و (أنّ).
٥٥ - وقوله تعالى: ﴿فَكِيدُونِي جَمِيعًا﴾، أي احتالوا أنتم وأوثانكم في عداوتي وغيظي وضربي، ﴿ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ﴾ لا تمهلون، في قول ابن عباس (٢) وقال الضحاك (٣): لا تؤجلون.
قال أبو إسحاق (٤) وغيره من أهل المعاني: هذا من أعظم آيات الأنبياء أن يقبل النبي على قومه مع كثرة عددهم واجتماع كلمتهم على عداوته، فيقول لهم هذا القول، وهذا للثقة بنصر الله تعالى إياه، وأنهم لا (٥) يصلون إليه، وكذلك قال نوح لقومه: ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ﴾ إلى قوله: ﴿وَلَا تُنْظِرُونِ﴾ [يونس: ٧١].
٥٦ - قوله تعالى: ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾، قال الليث (٦): الناصية هي: قصاص الشعر في مقدمة الرأس، وقال الفراء (٧): الناصية: مقدم الرأس.
(١) في (جـ): بحذف مع أن.
(٢) البغوي ٤/ ١٨٣، "زاد المسير" ٤/ ١١٨.
(٣) الطبري ١٢/ ٥٩، القرطبي ٩/ ٥٢، ابن عطية ٧/ ٣٢٣.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٨، "معاني القرآن" للنحاس ٣/ ٣٥٨، ابن عطية ٧/ ٣٢٣.
(٥) ساقط من (جـ).
(٦) "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٨٠، من هنا يبدأ النقل بتصرف مادة: (نصا).
(٧) "معاني القرآن" ٣/ ٢٧٩.
447
قال الأزهري: الناصية عند العرب: منبت الشعر في مقدمة الرأس، ويسمى الشعر الثابت هناك: ناصية باسم منبته؛ يقال: نصوت الرجل أنصوه، إذا مددت ناصيته. وناصيته إذا جاذبته وأخذ كل واحد منكما بناصية صاحبه، ومنه قول عمرو بن معدي كرب (١):
أعباسُ لو كانت شيارًا جيادُنا بتثليثَ ما ناصيتَ بعدي الأحامسا
ومعنى ﴿إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ أي: هي في قبضته وتنالها بما شاء قدرته.
قال أبو إسحاق (٢)، وهذا معنى هذا الكلام، وإن اختلفت العبارات في تفسيره، والأصل فيه ما ذكره ابن جرير (٣) فقال: العرب إذا وصفت إنسانًا بالذلة والخضوع قالوا: (ما ناصية فلان إلا بيد فلان)، أي أنه: مطيع له يصرفه كيف شاء؛ لأن من أخذت بناصيته فقد قهرته، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه، جزوا ناصيته ليعتدوا بذلك فخرا عليه، ويكون علامة لقهره (٤) إياه، فخوطبوا بما يعرفون في كلامهم، وأخبروا أن
(١) هو: أبو ثور الزبيدي من مذحج باليمن، من فرسان العرب المشهورين، أدرك الإسلام ووفد على النبي - ﷺ - وأسلم ثم ارتد ثم أسلم واستشهد في فتح نهاوند سنة ٢١ هـ. انظر: "الشعر والشعراء" ٢٣٥، "معجم الشعراء" ٢٠٨، "الإصابة" ٤/ ١٨. والبيت في "ديوانه" ١٢٥، و"ديوان الأدب" ٣/ ٣٧٥، و"تاج العروس" (حمس) ٨/ ٢٤٩. والبيت في "اللسان" (شور) ٤/ ٢٣٥٧، وفي "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٥٨٠ (نصا). وشيار أي: سمان حسان يقال: جاءت الإبل شيارًا أي: سمانًا حسانًا.
(٢) لعل العبارة (قاله أبو إسحاق) وهي في "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٨، ونصها: "أي هي في قبضته، وتنالها بما تشاء قدرته".
(٣) الطبري ١٢/ ٦٠ بتصرف، ولعله نقله عن الثعلبي ٧/ ٤٦ أ.
(٤) كذا في النسخ ولعل الصواب: (لقهرهم).
448
كل دابة بهذه المنزلة في الذلة والانقياد لله عز وجل.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾، [قال أبو إسحاق (١): أي: هو وإن كانت قدرته تنالهم بما شاء فهو لا يشاء إلا العدل، وزاد ابن الأنباري (٢) لهذا بيانًا فقال: لما قال ﴿إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ كان في معنى: لا يخرج عن قبضته، لكنه قاهر بعظيم سلطانه كل دابة، فأتبع قوله ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾] (٣) [أي أنه وان كان قادرًا عليهم فهو لا يظلمهم ولا يلحقهم بقدرته عليهم - إلا ما يوجب الحق وقوعه بهم، وهذا معنى قول مجاهد ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾] (٤) قال: على الحق (٥)، وهذا نحو كلام العرب إذا وصفوا رجلاً بحسن السيرة والعدل والإحسان، قالوا: فلان على طريقة حسنة وليس ثم طريق.
وذكر وجهًا آخر قال: لما ذكر أن سلطانه قد قهر كل دابة، أتبع هذا قوله ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ أي أنه لا يخفى عليه مستتر، ولا يعدل عنه هارب، فذلك الصراط المستقيم، وهو يعني به الطريق الذي لا يكون لأحد مسلك إلا عليه؛ كما قال ﴿إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ﴾ [الفجر: ١٤] وقال عطاء عن ابن عباس (٦) في هذه الآية يريد أن الذي بعثني الله به دين مستقيم.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٨.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١١٩.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (جـ).
(٥) الطبري ١٢/ ٦٠ - ٦١، "زاد المسير" ٤/ ١١٨.
(٦) البغوي ٤/ ١٨٤.
449
وقال الكلبي (١): ﴿إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ يقول: قائم دائم، وهو الإسلام والطريق عليه، فمن شاء هداه إلى الإسلام.
فعلى هذين القولين المراد بالصراط المستقيم: دين الإسلام، ومعناه: إنَّ ربي أمر بذلك، ودعا إلى ذلك؛ كما يقول الإنسان لمن دعا غيره إلى أمر: أنا على هذه الطريقة، ولهذا المعنى ذهب بعض أهل المعاني (٢) إلى إضمار في الآية، فقال: معناه: إن ربي على صراط مستقيم أو (٣) يحث أو يحملكم على الدعاء إليه. وقال بعضهم (٤): هذا من باب حذف المضاف؛ على معنى أن أمر ربي وتدبيره لخلقه، على صراط مستقيم لا خلل فيه.
٥٧ - وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾، أي إن تتولوا، بمعنى تعرضوا عما دعوتكم إليه من الإيمان بالله وعبادته ﴿فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ﴾، قال أبو إسحاق (٥) وابن الأنباري: معناه قد ثبتت الحجة عليكم، وأثبت فساد مذهبكم، فليس توليكم بعد هذا لتقصير في الإبلاغ، وإنما هو لسوء اختياركم في الإعراض عن النصح، وذهب مقاتل بن سليمان (٦) وجماعة معه أن ﴿تَوَلَّوْا﴾ هاهنا فعل ماض، بمعنى أعرضوا، ويكون المعنى على هذا: فإن أعرضوا فقل لهم قد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم.
(١) "تنوير المقباس" ١٤٢.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١١٨، البغوي ٤/ ١٨٤.
(٣) هكذا في النسخ ولعل الصواب: (أي).
(٤) ابن عطية ٣٢٤/ ٧.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٨.
(٦) "تفسير مقاتل" ١٤٧ أ، "زاد المسير" ٤/ ١١٩.
وقوله تعالى: ﴿وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ﴾، قال ابن عباس (١): يريد ويخلق بعدكم من هو أطوع لله منكم ﴿وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا﴾ بتوليكم وإعراضكم إنما تضرون أنفسكم؛ لأن ضرر كفركم عائد عليكم.
وقوله: ﴿إنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾، قال أكثر أهل المعاني (٢): حفيظ لأعمال العباد حتى يجازيهم عليها، وقيل معناه (٣): يحفظني عن أن تنالوني بسوء (٤)، وقيل (٥): حفيظ على كل شيء، يحفظه من الهلاك إذا شاء، ويهلكه إذا شاء.
٥٨ - قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾، أي بهلاك عاد ﴿نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا﴾، ذكر أبو إسحاق (٦) فيه وجهين:
أحدهما: أن يريد بالرحمة ما أراهم من الهدى والبيان الذي هو رحمة.
والثاني: أنه أراد لا ينجو أحد وإن اجتهد إلا برحمة منا (٧). والأول
(١) قال به الطبري ١٢/ ٦١، والبغوي ٤/ ١٨٤، القرطبي ٩/ ٥٣، ابن عطية ٧/ ٣٢٥، الثعلبي ٧/ ٤٦ أ.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١٢٠.
(٣) "تفسير البغوي" ٤/ ١٨٤، "زاد المسير" ٤/ ١٢٠، "القرطبي" ٩/ ٥٣، "البحر المحيط" ٥/ ٢٣٥، "الثعلبى" ٧/ ٤٦ أ.
(٤) في (ي): (بشر).
(٥) الرازي ١٨/ ١٤.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٨.
(٧) في (ي): (الله). ويشهد لهذا المعنى قول النبي - ﷺ - "لن بدخل الجنة أحدٌ منكم بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله. قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته" أخرجه البخاري رقم (٥٦٧٣)، كتاب: المرضى، باب: نهى تمني المريض الموت، ومسلم رقم (٢٨١٨) كتاب: صفة الجنة والنار، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله بل برحمة الله تعالى.
هو قول ابن عباس (١)؛ لأنه قال: يريد حيث هديتهم للإيمان وعصمتهم من أن يكفروا بي.
وقوله تعالى: ﴿وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾، قال ابن عباس (٢): يريد الذي عذبت (٣) به الذين كفروا، وقال بعضهم (٤): يعني عذاب القيامة، وهذا أحسن؛ لأن الإنجاء من عذاب الدنيا قد سبق، كما نجيناهم في الدنيا من العذاب كذلك نجيناهم في الآخرة من العذاب.
٥٩ - قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا﴾، قال ابن عباس (٥) يعني القبيل، يريد: أن التأنيث في تلك إنما كان لأجل القبيل ﴿جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ﴾. قال: يريد كذبوا أنبياء الله، ﴿وَعَصَوْا رُسُلَهُ﴾، قال: يريد (٦) هودًا وحده.
قال أهل المعاني: وإنما جمع؛ لأن من كذب رسولا واحداً فقد كذب (٧) بجميع الرسل.
(١) "زاد المسير" ٤/ ١٢٠، الرازي ١٨/ ١٥.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١٢٠، القرطبي ٩/ ٥٤.
(٣) كذا في النسخ ولعل الصواب: (الذي عذب) بدون تاء.
(٤) الطبري ١٢/ ٦١، الثعلبي ٧/ ٤٦ ب، البغوي ٤/ ١٨٤، القرطبي ٩/ ٥٤، الرازي ١٨/ ١٥.
(٥) قال به الثعلبي ٧/ ٤٧ أ، البغوي ٤/ ١٨٤، "زاد المسير" ٤/ ١٢٠، القرطبي ٩/ ٥٤. ويعني بالقبيل: القبيلة.
(٦) البغوي ٤/ ١٨٤، "زاد المسير" ٤/ ١٢١، القرطبي ٩/ ٥٤، الزاري ١٨/ ١٥، الثعلبي ٧/ ٤٧ أ.
(٧) في (جـ): (كفر).
وقوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾، قال أبو بكر (١): معناه: واتبع السفلة والسقاط الرؤساء وأُولي المقدار عندهم، فقلدوهم الكفر. فقوله: ﴿وَأُتْبِعُوا﴾ خبر عامٌّ، معناه في الباطن التخصيص، قال المفسرون: قال الرؤساء للسفلة -يعنون هودًا- ﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ الآيتان (٢)، ومضى الكلام في معنى الجبار من الناس عند قوله: ﴿إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ﴾ (٣) والعنيد: الذي لا يقبل الحق، ولا يذعن له، من قولهم: عَنَدَ الرجل يَعْنُدُ عُنُودًا وعانَدَ مُعاندة، إذا أبى أن يقبل الشيء وإن عرفه، وقال أبو عبيد: العنيد والعنود والعاند: المعاند المعارض لك بالخلاف (٤) وأظن أن هذا مما تقدم الكلام فيه.
٦٠ - قوله تعالى: ﴿وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً﴾ أي (٥): أردفوا لعنة تلحقهم وتنصرف معهم، هذا معنى الإتباع، وهو أن يتبع الثاني الأول، ليتصرف معه بتصرفه، ومعنى اللعنة (٦): الإبعاد من رحمة الله ومن كل خير.
وقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ [أي وفي يوم القيامة] (٧) كما قال: ﴿لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾، ﴿أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ﴾؛ قيل: أراد الباء
(١) البغوي ٤/ ١٨٤، "زاد المسير" ٤/ ١٢١، القرطبي ٩/ ٥٤، الرازي ١٨/ ١٥.
(٢) المؤمنون: ٣٣، ٣٤.
(٣) المائدة: ٢٢. وخلاصة ما ذكره قال: وللجبار معنيان، أحدهما: أراد الطول والقوة والعظم. والثاني: من أجبره على الأمر إذا أكرهه عليه".
(٤) ما سبق نقل عن الثعلبي ٧/ ٤٧ أ، وانظر: البغوي ٤/ ١٨٤، "مشكل القرآن وغريبه" ١/ ٢١١، القرطبي ٩/ ٥٤.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ١٢٢، البغوي ٤/ ١٨٤.
(٦) البغوي ٢/ ٣٩٠.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
فحذف الجار فوصل الفعل، وقيل: هو من باب حذف المضاف أي: كفروا نعمة ربهم، وهو معنى قول ابن عباس: يريد: كفروا بما كانوا فيه من نعيم ربهم، وذكر الفراء (١) الوجهين جميعًا. ﴿أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ﴾، قال: يريد بعدوا من رحمة الله.
قال الزجاج (٢): و ﴿بُعْدًا﴾ منصوب على معنى (أبعدهم الله فبَعُدُوا بعدًا)، ومثله قوله: ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا﴾ [نوح: ١٧] فأما الكلام في تكرير هذه القصة، وقد ذكرت في سورة الأعراف (٣) وكذلك سائر القصص المكررة [في القرآن] (٤): قال أهل المعاني: إن تصريف المعنى في الوجوه المختلفة بالألفاظ المتباينة، في الدرج العالية من البلاغة والإعجاز، ومنها تستبط الدلالة على حقيقة الإعجاز؛ لأن الله تعالى أنزل قصصًا مكررة، بعبارات مختلفة، وأنزل قصة واحدة ولم يكررها، وهي قصة يوسف [فلا يمكن لأحد من الملحدين أن يعارض لا قصة موسى المكررة ولا قصة يوسف] (٥) التي لم تكرر، وفي تكرارها أيضًا تجديد تسلية رسول الله - ﷺ - وتصبيره على أذى المشركين.
٦١ - قوله تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ قال ابن عباس (٦): يريد:
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٢٠.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٥٩.
(٣) من الآية ٦٥ حتى الآية ٧٢.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (جـ).
(٦) "تنوير المقباس" ١٤٢، الطبري ١٢/ ٦٢، الثعلبي ٧/ ٤٧ أ، البغوي ٤/ ١٨٥ ابن عطية ٧/ ٣٢٩ "زاد المسير" ٤/ ١٢٣، القرطبي ٩/ ٥٦، ابن كثير ٢/ ٤٩٣، "البحر المحيط" ٥/ ٢٣٨، الرازي ١٨/ ١٧.
من صلب آدم، يعني أن آدم خلق من تراب الأرض وكلهم لآدم.
وقوله تعالى: ﴿وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾، قال ابن عباس في رواية عطاء (١): يريد جعلكم عمارًا لها، وهذا اختيار أبي عبيدة (٢)، وأكثر أهل اللغة قالوا معناه: جعلكم عمار الأرض، قال ابن الأنباري: ومعناه: أن الله تعالى تابع النعم عندهم حتى صاروا بها عمرة الأرض وخلفاء الماضين الذين سبقوهم إلى سكناها، فكأن المعنى: أورثكم الأرض، وقال مجاهد (٣) أي أعمركم بأن جعلها لكم طول أعماركم. قال أبو بكر: وهذا (استفعل) بمعنى (أفعل) مثل (استجاب) بمعنى (أجاب) و (استو قد) و (أوقد).
وروي عن ابن عباس (٤): أعاشكم فيها، ونحوه قال الضحاك (٥): أطال عمركم؛ فعلى القول الأول هو من العِمَارة، وعلى الثاني من العُمْرى، وعلى الثالث من العُمُر الذي هو الحياة.
٦٢ - قوله تعالى: ﴿يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا﴾، قال المفسرون (٦): كان صالح -عليه السلام - يعدل عن دين قومه ويشنأ (٧) أصنامهم،
(١) قال به الطبري ١٢/ ٦٣، الثعلبي ٧/ ٤٧ ب، البغوي ٤/ ١٨٥ وغيرهم.
(٢) "مجاز القرآن" ١/ ٢٩١.
(٣) الطبري ١٢/ ٦٣، الثعلبي ٧/ ٤٧ ب، البغوي ٤/ ١٨٥، "زاد المسير" ٤/ ١٢٣، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٤٨، أبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٦١١.
(٤) الثعلبي ٧/ ٤٧ ب، القرطبي ٩/ ٥٦.
(٥) الثعلبي ٧/ ٤٧ ب، البغوي ٤/ ١٨٥، "زاد المسير" ٤/ ١٢٣.
(٦) الثعلبي ٧/ ٤٧ ب، البغوي ٤/ ١٨٥، "زاد المسير" ٤/ ١٢٣، القرطبي ٩/ ٥٩.
(٧) شنأ يشنأ معناه أبغض يبغض ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ﴾ [الكوثر: ٣] أي مبغضك. انظر: "تهذيب اللغة" ٢/ ١٩٤٠ (شنأ).
455
وكانوا يرجون رجوعه إلى دين أبيه وعشيرته، فلما أظهر ما أظهر من دعائهم إلى الله، وترك عبادة الأصنام، زعموا أن رجاءهم انقطع منه، ويئسوا من دخوله في ملتهم.
وقال آخرون (١): قالوا: كنا نرجو أن تكون فينا سيدًا؛ لما كنت عليه من الأحوال الجميلة، فالآن أيسنا منك إذ أظهرت خلافنا.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ﴾، وقال في سورة إبراهيم [٩]: ﴿وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ﴾، قال الفراء (٢): من قال: (إننا) أخرج الحرف على أصله؛ لأن كناية المنصوبين المتكلمين (نا) (٣) فاجتمعت ثلاث نونات نونا (إن) والنون المضمومة إلى الألف، ومن قال ﴿إِنَّا﴾ استثقل الجمع بين ثلاث نونات فأسقط الثالثة وأبقى الأوليين، وكذلك يقال أني وأنني وقال هاهنا: ﴿تَدْعُونَا﴾؛ لأن الخطاب لواحد وهو صالح، وفي إبراهيم [: ٩] ﴿تَدْعُونَنَا﴾ لأن الخطاب للرسل.
(٤) وقوله ﴿لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ ذكرنا الكلام في معنى المريب عند قوله ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ (٥).
(١) الطبري ١٢/ ٦٣، الثعلبي ٧/ ٤٧ ب، البغوي ٤/ ١٨٥، "زاد المسير" ٤/ ١٢٣، القرطبي ٩/ ٥٩.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١٢٤.
(٣) ساقط من (ي).
(٤) من هنا بدأت مراجعة النسخة (ب).
(٥) البقرة: ٢. وملخص ما ذكره: أن الريب بمعنى الشك، وذكر الخلاف في الفرق بين (راب) و (أراب) ورجح التفريق بين المعنيين بحيث يكون راب بمعنى علمت منه الريبة وتيقنتها، وأراب: توهمت الريبة ولم أتحقق منها.
456
٦٣ - قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾ مفعول (أرأيتم) هاهنا لا يظهر في التفصيل؛ لأنه دخل على جملة قائمة بنفسها لو لم يذكر ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾، إلا أنه يتعلق بمعناها كقولك: رأيتُ لَزَيْدٌ خيرٌ منك، ومعنى ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾: أعلمتم، وجواب ﴿إنْ﴾ الأولى في قوله ﴿فَمَنْ يَنْصُرُنِي﴾، وقد قام مقام ﴿إنْ﴾ الثانية في المعنى؛ لأن التقدير: فمن ينصرني إن عصيته، فاستغنى بجواب الأولى عن الثانية، ومعنى الآية: أعلمتم من ينصرني من الله إن عصيتُه بعد بينة من ربي ونعمة، وأكثر تفسير هذه الآية قد مضى في هذه السورة في نظير هذه الآية في قصة نوح (١).
وقوله تعالى: ﴿فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾، قال الفراء (٢): التخسير: التضليل.
وقال ابن الأعرابي (٣): هو الإبعاد من الخير، وأكثر أهل العلم على أن هذا التخسير لقوم صالح.
قال ابن عباس (٤): أي غير بَصَارَةٍ في خسارتكم (٥). وهذا مذهب مجاهد (٦) واختيار الفراء وابن الأعرابي [والحسين بن الفضل (٧)، قال
(١) آية: ٢٨.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٢٠.
(٣) "تهذيب اللغة" (خسر) ١/ ١٠٢٩، "زاد المسير" ٤/ ١٢٤.
(٤) الئعبي ٧/ ٤٧ ب، البغوي ٤/ ١٨٦،"زاد المسير" ٤/ ١٢٤، القرطبي ٩/ ٦٠.
(٥) في حاشية (ي) زيادة نصها: (والمعنى على هذا ما تزيدونني باحتجاجكم بعبادة آبائكم الأصنام إلا بصيرة في خسارتكم).
(٦) الطبري ١٢/ ٦٤.
(٧) الثعلبي ٧/ ٤٧ ب، البغوي ٤/ ١٨٦.
الفراء: يريد غير تضليل لكم، أي: كلما اعتذرتم بشيء زادكم تخسيرًا، قال: هو كقولك للرجل: ما تزيدني إلا غضبًا، أي غضبًا عليك.
وقال ابن الأعرابي] (١): أي تخسيرًا لكم لا لي، وشرح الحسن (٢) فقال: لم يكن صالح في خسارة حين قال لهم: ﴿فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾، وإنما المعنى: ما تزيدونني بما تقولون حين قولهم: ﴿أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ إلا نسبتي إياكم إلى الخسارة، والتخسير مثل التفسيق والتفجير، وأجاز قوم (٣) أن يكون التخسير مضافًا إلى صالح، وهو مذهب ابن عباس في رواية عطاء والحسن، قال عطاء: ما تزيدوني إلا الهوان والذل. فعلى هذا الإضافة إلى صالح بمعنى لا ناصر لي إن عصيته، وإن كنتم أنصارى لم تزيدونني غير تخسير، وتقدير الكلام (فما تزيدونني غير تخسير إن كنتم أنصاري)، فحذف ما حذف لدلالة الباقي عليه، وهو قوله: ﴿فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ﴾، ومعنى قول الحسن: إن أجبتكم إلى ما تدعونني إليه وعصيت ربي كنت بمنزلة من يزداد الخسران.
٦٤ - قوله تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ﴾ إلى آخر الآية، مفسر ومشروح في سورة الأعراف (٤)، إلا أن (٥) في هذه الآية {فَيَأْخُذَكُمْ
(١) ما بين المعقوفين ساقط من: (أ)، (ب). وانظر: "تهذيب اللغة" (خسر) ١/ ١٠٢٩، "زاد المسير" ٤/ ١٢٤.
(٢) الثعلبي ٧/ ٤٧ ب، البغوي ٤/ ١٨٦.
(٣) ذكر هذا القول "زاد المسير" ٤/ ١٢٥، الرازي ١٨/ ١٨ "البحر المحيط" ٥/ ٢٣٩.
(٤) آية: ٧٣. وقد ذكر هناك وجه كونها آية حيث خرجت من حجر صلد، وحيث أنها ترد الماء يومًا فتشربه وتبدلهم به لبنًا لم يشرب مثله قط ألذ ولا أحلى بحيث ترويهم، وآية لانفرادها عن غيرها من النوق بهذا الأمر الذي لم يشاهد مثله في غيرها.
(٥) ساقط من (ي).
عَذَابٌ قَرِيبٌ}، قال ابن عباس (١): يريد: اليوم الثالث، وهو قوله: ﴿تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾.
٦٥ - قوله تعالى ﴿فَعَقَرُوهَا﴾، ذكرنا معنى العقر في سورة الأعراف (٢).
وقوله تعالى: ﴿تَمَتَّعُوا﴾، قال المفسرون (٣): عيشوا، ومعنى التمتع التلذذ بالمنافع والملاذ التي تدرك بالحواس، ولما كان التمتع للحي عبر به عن الحياة؛ لأن الميت لا يتمتع.
وقوله تعالى: ﴿فِي دَارِكُمْ﴾ أي في بلدكم، وسُمِّيَ دارًا لأنه يجمعهم كما تجمع الدار أهلها، وقيل: يعني في دنياكم يريد دار الدنيا.
وقوله تعالى: ﴿ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ﴾، قال المفسرون: لما عقرت الناقة صعد فصيلها الجبل وبكى حتى سألت دموعه، ثم رغا رغوة (٤) ثلاثا، فقال صالح: لكل رغوة أجل يوم، فتمتعوا في داركم ثلاثة أيام (٥)، ﴿ذَلِكَ وَعْدٌ﴾ أي للعذاب ﴿غَيْرُ مَكْذُوبٍ﴾ أي: غير كذب، والمصدر قد يرد بلفظ المفعول كالمجلود والمعقول و ﴿بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ﴾ [القلم: ٦] وقيل: غير
(١) "تنوير المقباس" ١٤٢.
(٢) آية: ٧٧. ونقل عن الأزهري قوله: "العقر عند العرب: كشف عرقوب البعير، ثم يجعل النحر عقرًا؛ لأن العقر سبب النحر، وناحر البعير يعقره ثم ينحره، هذا هو الأصل، ثم جعل النحر عقرًا وإن لم يكن هناك قطع للعرقوب". وانظر: "تهذيب اللغة" ٣/ ٢٥١٣ مادة: (عقر).
(٣) الثعلبي ٧/ ٤٨ أ، الطبري ١٢/ ٦٤، البغوي ٤/ ١٨٦، "زاد المسير" ٤/ ١٢٥، القرطبي ٩/ ٦٠.
(٤) الرُّغاء صوت ذوات الخف، رغا البعير والناقة ترغو رغاءً، انظر: "تهذيب اللغة" (رغا) ٢/ ١٤٣١، اللسان (رغا) ٣/ ١٦٨٤.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ١٢٥، "القرطبي" ٩/ ٦٠، "الطبري" ١٢/ ٦٤.
مكذوب فيه.
٦٦ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾، قال ابن عباس: عذابنا ﴿نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا﴾ قد مضى مثل الآية في قصة عاد (١).
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ﴾، قال ابن الأنباري (٢): نسقت الواو (مِنْ) على محذوف قبلها تأويله: نجينا صالحًا والذين آمنوا معه برحمة منا، من العذاب الذي أهلك قومه، ومن الخزي الذي لزمهم، وبقي العار فيه مأثورًا عنهم منسوبًا إليهم؛ لأن معنى الخزي: العيب الذي تظهر فضيحته، ويستحيى من مثله، فحذف ما حذف اعتمادًا على دلالة ما بقي عليه، قال: ويجوز أن تكون الواو دخلت لفعل مضمر تأويله: ونجيناهم من خزي يومئذ. أو من خزي يومئذ نجيناهم، فقدر فعل مع الواو، قال: ويجوز أن تكون الواو مقحمة زائدة، وهذا قول صاحب النظم.
قال أبو بكر: والعرب (٣) ما زادت الواو قط إلا مع (لما) و (حتى)، وهذا الذي قاله أبو بكر إنما يجوز عند الكوفيين، وعند البصريين لا يجوز زيادة الواو في موضع قط، وقد ذكرنا هذا.
واختلفوا في قوله ﴿يَوْمِئِذٍ﴾، فقرئ بفتح الميم وكسرها (٤) و (يوم) (٥)
(١) ساقط من (ب)، وانظر: آية ٥٨ من هذه السورة.
(٢) "المذكر والمؤنث" ٦١٩، "زاد المسير" ٤/ ١٢٦، الرازي ١٨/ ٢١.
(٣) ساقط من (ي).
(٤) قرأ نافع والكسائي وأبو جعفر بفتح الميم، وبقية القراء بكسرها. "إتحاف" ص ٢٥٧، "السبعة" ص ٣٣٦، "الكشف" ١/ ٥٣٢، "الحجة" ٤/ ٣٤٦.
(٥) من هنا ابتدأ النقل عن أبي علي الفارسي عن "الحجة" ٤/ ٣٤٧ - ٣٥٢ بتصرف.
460
من قوله ﴿يَوْمِئِذٍ﴾ ظرف كَسَرْتَ أو فَتَحْتَ في المعنى، إلا أنه اتسع (١) فيه فجعل اسما كما اتسع (٢) في قوله ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [سبأ: ٣٣] فأضيف المكر إليهما [وإنما هو فيهما] (٣)، فكذلك العذاب والخزي والفزع أضفن إلى اليوم والمعنى على أن ذلك كله في اليوم، فمن كسر الميم فلأن (يوما) اسم معرب فانجر با لإضافة ولم يُبْنَ، وإن كان مضافًا إلى مبني؛ لأن الأضافة لا تلزم، ألا ترى أنك تقول ثوب خز ودار زيد، فلا يجوز في المضاف إلا إعرابه، وإن كان الاسمان عملا على معنى الحرف، ولا يلزمها البناء كما يلزم ما لا ينفك عنه معنى الحرف [نحو أين] (٤) وكيف ومتى، فكما لم يبن المضاف وإن كان قد عمل في المضاف إليه بمعنى اللام أو بمعنى (من) حيث كان غير لازم، كذلك لم يبن (يوم) للإضافة إلى (إذ)؛ لأن إضافته (٥) لا تلزم، ومن فتح الميم مع أنه في موضع جر، فلأنه على مضاف إلى مبني غير متمكن، والمضاف إلى المبني يجوز بناؤه كقول النابغة (٦):
على حينَ عاتبتُ المشيبَ على الصبا وقلتُ ألمَّا أصحُ والشيبُ وازعُ
(١) في (ب): (أشبع).
(٢) في (ب): (أشبع).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٥) في (ي): (الإضافة).
(٦) البيت في "ديوانه" ص ٥٣، "الخزانة" ٣/ ١٥١، "الكامل" ١/ ١٨٥، "اللسان" (وزع) ٤/ ٤٨٢٥، السيوطي ٢٧٦، ٢٩٨، "مجاز القرآن" ٢/ ٩٣ "معاني القرآن" ١/ ٣٢٧، ٣/ ٢٤٥.
461
وكذلك قول جرير (١):
على حينَ ألهى الناسَ جلُّ أمورهم فندلًا زريقُ المالَ ندلَ الثعالبِ
وكذلك قول آخر:
على حينَ لم (٢) تلبث عليه ذَنوبُه يَرِثْ شِرْبُهُ إذ في اليقام تراثر (٣)
فلما بنيت هذه الأشياء من حيث كانت مضافة إلى مبني، فكذلك بني (يوم) لإضافته إلى (إذ) المبنية، والعلة في ذلك أن المضاف يكتسي من المضاف إليه [التعريف والتنكير، ومعنى الاستفهام والجزاء، فلما كان يكتسي منه هذه] (٤) الأشياء اكتسى منه البناء أيضًا، إذا كان المضاف من الأسماء الشائعة نحو (يوم) و (حين) و (مثل)، وشبه، ومن ذلك قوله: ﴿إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ﴾ [الذاريات: ٢٣] فـ (مثل) في موضع رفع في قول سيبويه، وقد أجري وصفا على النكرة، إلا أنه فتح للإضافة إلى (أنَّ)، فأما
(١) البيت اختلف في نسبته فنسب لأعشى همدان، وأخرى للأحوص، وأخرى لجرير. وهو في "الحماسة البصرية" ٢٠٩، "الكامل" ١/ ١٨٥، العيني ٣/ ٤٦، ٥٢٣، سيبويه والشنتمري ١/ ٥٩، "المقاصد النحوية" ٣/ ٤٦، ملحق ديوان جرير ١٠٢١، وزريق وابن عامر بن زريق، ولي البحرين، فقال هذا البيت.
(٢) في (ي): (من).
(٣) البيت للبيد، (تدابر) بالباء، وهو في ديوانه ٢١٧، سيبويه والشنتمري ١/ ٤٤١، "الإنصاف" ٢٥١، الخزانة ٣/ ٦٤٩، "همع الهوامع" ٢/ ٦٢، "الدرر" ١/ ٧٧. وهو في وصف مقام فاخر فيه غيره، وكثرت المخاصمة فيه والمحاجة، الذنوب: الدلو مملوءة ماء، ضربه مثلا لما يدلى به من الحجة، الريث: الإبطاء، الشرب: الحظ من الماء المقام: المجلس، يريد مجلس الخصام والمفاخرة، التداثر: التزاحم والتكاثر.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
462
الكسر في (إذ) فلالتقاء الساكنين؛ وذلك أن (إذ) من حكمها أن تضاف إلى الجملة من المبتدأ (١) والخبر، فلما اقتطعت عنها الإضافة نونت، ليدل التنوين على أن المضاف [إليه قد حذف، فصار التنوين هنا يدل على قطع الإضافة من المضاف] (٢)، كما صار يدل على انقضاء البيت في قول من نون في الإسناد أواخر البيت فقال (٣):
يا صاح ما هاج الدموعَ الذُّرَّفَنْ
أقلي اللوم عاذل والعتابَنْ
يا أبتا علك أو عساكَنْ
(١) في (جـ): (الابتداء).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (جـ).
(٣) هذه أبيات مختلفة، فالأول: مطلع أرجوزة للعجاج وبعده:
من طلل أمسى تخال المُصْحفا
وهو في "ديوانه" ٢/ ٢١٩، "خزانة الأدب" ٣/ ٤٤٣، سيبويه ٢/ ٢٩٩، "شرح الأشموني" لألفيه ابن مالك ٤/ ٢٢٠، "الكتاب" ٤/ ٢٠٧، "المقاصد النحوية" ١/ ٢٦.
والثاني: صدر بيت لجرير. وعجزه:
وقولي إن أصبت لقد أصابن
"ديوانه" ٥٨، ويروى (العتابا) (أصابا). "خزانة الأدب" ١/ ٦٩، "الخصائص" ٢/ ٦٠، الدرر ٥/ ١٧٦، "شرح أبيات سيبويه" ٢/ ٣٤٩، سر صناعة الإعراب ٢/ ٤٨١، "شرح شواهد المغني" ٢/ ٧٦٢، "شرح المفصل" ٩/ ٢٩، "الكتاب" ٤/ ٢٠٥.
والثالث: عجز بيت لرؤبة وصدره:
تقول بنتي قد أنى أناكا
وهو في "ديوانه" ص ١٨١، سبيويه ١/ ٣٨٨، "الخصائص" ٢/ ٩٦، "المقتضب" ٣/ ٧١، "الإنصاف" ١٨١، "الخزانة" ٢/ ٤٤١.
463
فكما دل التنوين في هذه الأواخر على انقطاع الإضافة عن المضافة إليه، كذلك يدل في (يومئذ) و (حينئذ) على ذلك، فكسرت الدال لسكونها وسكون التنوين (١).
قوله تعالى: ﴿وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ﴾، قال ابن الأنباري (٢): إنما ذكَّر ﴿وَأَخَذَ﴾ لأن الصيحة محمولة على الصياح؛ ولأنه قد فصل بين الفعل والاسم المؤنث بفاصل، فكان الفصل كالعوض من تاء التأنيث، وقد سبق لهذا نظائر.
قال المفسرون (٣): لما أصبحوا اليوم الرابع أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة، وصوت كل شيء في الأرض، فتقطعت قلوبهم في صدورهم، ﴿فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾، ومضى تفسير ﴿جَاثِمِينَ﴾ في سورة الأعراف (٤).
٦٨ - قوله تعالى: ﴿كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا﴾ مشروح المعنى في سورة الأعراف (٥). ﴿أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ﴾؛ قرئ ثمودا (٦) بالإجراء
(١) إلى هنا انتهى النقل عن "الحجة" ٤/ ٣٤٧ - ٣٥٢ بتصرف.
(٢) "تهذيب اللغة" (صاح) ٢/ ١٩٥٨، "زاد المسير" ٤/ ١٢٦.
(٣) الطبري ١٢/ ٦٨، "زاد المسير" ٤/ ١٢٥، البغوي ٤/ ١٨٧.
(٤) عند قوله تعالى ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾ آية ٧٨. وخلاصة ما ذكره ما أن جثم بمعنى برك وخمد وهمد من أثر العذاب.
(٥) آية: ٩٢. قال هناك ما نصه: (إبانة عن سوء حال المكذب نبيًا من أنبياء الله، في أنه بمنزلة من لم يستمتع بالدنيا إذ حصل في العذاب وصار إلى الخسران).
(٦) في هذا الموضع قرأ حفص وحمزة ويعقوب من غير تنوين، وقرأ الباقون بالتنوين، "إتحاف" ٢/ ١٢٩، "السبعة" ٣٣٧، "الكشف" ١/ ٥٣٣ "الحجة" ٤/ ٣٥٤.
464
وتركه، فمن أجراه قال: هو اسم مذكر أريد به الحي وهو مذكر فصار كثقيف وقريش، ومن ترك إجراءه قال هو اسم للقبيلة فلا ينصرف، قال أبو علي (١): فإذا استوى في ثمود أن تكون مرة للقبيلة ومرة للحي، ولم يكن لحمله على أحد الوجهين مزية فمن صرف كان حسنًا، ومن لم يصرف فكذلك، ومثل هذا (يهود) و (مجوس)، قال الشاعر (٢):
فَرَّتْ يَهُودُ وأَسْلَمَتْ جِيرانها.... صَمَّي لِما فَعَلَتْ يَهُودُ صَمامِ
وكذلك في الحديث "تقسم يهود" (٣)، فبهذا النحو علم أن هذا الاسم أريد به القبيلة، وقال آخر (٤):
كنار (٥) مجوسَ تستعر استعارا
ألا ترى أن هذا الاسم لو كان للحي دون القبيلة لانصرف ولم يكن
(١) "الحجة" ٤/ ٣٥٥ باختصار وتصرف. وانظر: "معاني الأخفش" ٢/ ٥٧٨، ٥٧٩.
(٢) القائل الأسود بن يعفر، والبيت في: ديوانه ٦١، العيني ٤/ ١١٢ راجع: "الحجة" ٣/ ٣٤٢، "مجالس ثعلب" ٥٨٩، "اللسان" (صمم) ٤/ ٢٥٠٢، "المقاصد النحوية" ٤/ ١١٢.
(٣) الحديث لم أجده بهذا اللفظ، وهو كما ترى قد نقله عن أبي علي الفارسي في كتاب "الحجة" ٤/ ٣٥٨، وقد أخرج أصل حديث القسامة البخاري (٦١٤٢)، (٦١٤٣)، كتاب الأدب، باب إكرام الكبير ويبدأ الأكبر بالكلام والسؤال. وأخرجه مسلم (١٦٦٩)، كتاب القسامة المحاربين باب القسامة ح ١٦٦٩ (٣/ ١٢٩١).
(٤) القائل امرؤ القيس، وصدره:
أحار أريك برقًا هب وهنا
(كنار بالنون) انظر "ديوانه" ص ١٤٧، "اللسان" (مجس) ٧/ ٤١٤٠، سيبويه والشنتمري ٢/ ٢٨، "شرح شواهد الإيضاح" ٤٣٨، "الكتاب" ٣/ ٢٥٤.
(٥) في (ب): (كفار).
465
فيه مانع من الصرف، و (يهود) لو كان للحي لانصرف.
٦٩ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى﴾ الآية، قال أهل المعاني: دخلت "قد" هاهنا لأن السامع لقصص الأنبياء عليهم السلام يتوقع قصة بعد قصة، و"قد" للتوقع، ودخلت اللام في ﴿لَقَدْ﴾ لتأكيد الخبر، والمراد بالرسل هاهنا الملائكة الذين أتوه على صورة الآدميين، وظنهم أضيافا، قال ابن عباس (١): وهم جبريل ومكائيل وإسرافيل، وهم الذين ذكرهم الله في الذاريات ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الذاريات: ٢٤]، وفي الحجر ﴿وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾ [الحجر: ٥١].
وقال الضحاك (٢): كانوا تسعة.
وقال السدي (٣): كانوا أحد عشر ملكًا على صورة الغلمان الوضاء.
وقوله تعالى: ﴿بِالْبُشْرَى﴾، قال الزجاج (٤): أي بالبشرى بالولد، وقد ذكر بعد هذه الآية بأيش (٥) بشروه.
وقوله تعالى: ﴿قَالُوا سَلَامًا﴾، قال ابن الأنباري (٦): نصب (سلامًا) بوقوع القول عليه؛ لأنه قول مقول فصار كقولك: (قلت: خيرًا أو شرًّا)، ويخالف هذا قوله: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ﴾ [الكهف: ٢٢]؛ من أجل أن الثلاثة
(١) الثعلبي ٧/ ٤٨ أ، البغوي ٤/ ١٨٧، "زاد المسير" ٤/ ١٢٧.
(٢) البغوي ٤/ ١٨٧، الثعلبي ٧/ ٤٨ أ، "زاد المسير" ٤/ ١٢٧.
(٣) البغوي ٤/ ١٨٧، الثعلبي ٧/ ٤٨ أ، "زاد المسير" ٤/ ١٢٧ قال: (الوضاء وجوههم) بزيادة وجوههم وهي زيادة مهمة.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٦٠.
(٥) هكذا وهو مختصر من: أي شيء، وهو صحيح لغة.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ١٢٧.
466
اسم غير قول مقول، وأما قوله: ﴿قَالَ سَلَامٌ﴾ فمرفوع بإضمار (عليكم سلام)، ولو نصبا جميعًا أو رفعا جاز في العربية، هذا كلامه، وهو قول الفراء في رفع الثاني وأنشد (١):
فقلنا السلام فاتقت من أميرها فما كان إلا ومؤها بالحواجب
وقال أبو علي (٢): أما انتصاب قوله: ﴿سَلَامٌ﴾ فلأنه لم يحك شيئًا تكلموا به فيحكى كما تحكى الجمل، ولكن هو معنى ما تكلمت به الرسل، كما أن القائل إذا قال: (لا إله إلا الله) فقلت (حقًّا) أو قلت (صدقًا)، أعملت القول في المصدرين؛ لأنك ذكرت معنى ما قال ولم تحك نفس الكلام الذي هو جملة تحكى، وأما قوله: ﴿قَالَ سَلَامٌ﴾ التقدير فيه: سلام عليكم، فحذف الخبر كما حذف من قوله: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ (٣) [أي صبر جميل] (٤) أمثل، أو يكون المعنى أمري سلام وشأني سلام، كما أن قوله: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ يصلح أن يكون المحذوف منه المبتدأ، ومثل ذلك قوله: ﴿فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ﴾ [الزخرف: ٨٩] على حذف الخبر أو المبتدأ الذي سلام خبره، قال: وأكثر ما يستعمل سلام بغير ألف ولام، وذلك أنه في معنى الدعاء، فهو مثل قولهم: خير بين يديك، وأمت (٥) في حجر (٦)
(١) انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٢١، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٩٥٨، اللسان (ومأ) ٨/ ٤٩٢٦ "البحر المحيط" ٢/ ٤٥٢.
(٢) "الحجة" ٤/ ٣٦٠.
(٣) يوسف: ١٨، ٨٣.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٥) في (ي): (أمه).
(٦) ساقط من (ي).
467
لاقيك، لما كان في معنى المنصوب استجيز فيه الابتداء بالنكرة، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي﴾ [مريم: ٤٧]، وقوله: ﴿مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ﴾ [الرعد: ٢٣ - ٢٤]، وقوله: ﴿سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ﴾ [الصافات: ٧٩]، وقد جاء بالألف واللام، قال: ﴿وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى﴾ [طه: ٤٧]،
قال الأخفش (١): من العرب من يقول: سلامٌ عليكم، ومنهم من يقول: السلام عليكم؛ فالذين ألحقوا الألف واللام حملوه على المعهود، والذين لم يلحقوا (٢) حملوه على غير المعهود. وزعم أن منهم من يقول: سلامُ عليكم، فلا ينون، وحمل ذلك على وجهين، أحدهما: أنه [حذف الزيادة من الكلمة كما تحذف الأصل من نحو: لم يك، ولا أدر، والآخر: أنه] (٣) لما كثر استعمال هذه الكلمة فيها الألف واللام حذفا منه لكثرة الاستعمال، كما حذف من (اللهم) فقالوا: (لاهم)، وذكرنا معنى السلام في التحية عند قوله: ﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ﴾ [الأنعام: ٥٤] (٤)، [وقرأ
حمزة والكسائي هاهنا (وقال سِلْم) بكسر السين (٥)، قال الفراء (٦): وهو في
(١) ذكره نقلاً عن "الحجة" ٤/ ٣٦٣.
(٢) في (ي): (يلحقوه).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) الأنعام: ٥٤. وخلاصة ما ذكره أنه يحتمل وجهن، أحدهما: أن يكون مصدر سلمت تسليمًا وسلامًا أي دعوت له بأن يسلم من الآفات في دينه ونفسه، الثاني: أن يكون السلام جمع السلامة بمعنى قولك: السلام عليكم أي السلامة عليكم.
(٥) قرأ حمزة والكسائي (قال سلم) بغير ألف بكسر السين وتسكين اللام، والباقون بفتح السين وألف. انظرت "السبعة" ٣٣٨، "إتحاف" ٢٥٨، "الكشف" ١/ ٥٣٤، "الحجة" ٤/ ٣٦٤.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٢١.
468
المعنى سلام] (١)؛ كما قالوا: حِلّ وحلال، وحِرْم وحرام؛ لأن التفسير جاء: سلموا عليه فرد عليهم، وأنشد (٢):
مررنا فقلنا إيه سلم فسلمت كما اكتلى (٣) بالبرق الغمام اللوايح
فهذا دليل على أنهم سلموا فردت عليهم، فعلى هذا: القراءتان
بمعنى واحد، وإن اختلف اللفظان، قال أبو علي (٤): ويحتمل أن يكون: سلم، خلاف العدو والحرب، كأنهم قالوا لما كفوا عن تناول ما قدمه إليهم فنكرهم وأوجس منهم خفية قال: أنا سلم ولست بحرب ولا عدو، فلا تمتنعوا عن تناول طعامي، كما يُمتنع من تناول طعام العدو.
وقوله تعالى: ﴿فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ﴾، قال عبيد بن عمير: مكث إبراهيم خمس عشرة (٥) ليلة لا يأتيه ضيف، فاغتم لذلك، فلما جاءته الملائكة فرأى أضيافًا لم ير مثلهم عجل (٦) فجاءهم بعجل حنيذ، فذلك قوله: ﴿فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ﴾، قال الفراء (٧): ﴿أَن﴾ في موضع نصب؛ لوقوع ﴿لَبِثَ﴾ عليها كأنك قلت: فما أبطأ عن مجيئه بعجل، فلما ألقيت الصفة وقع الفعل عليها، قال: وقد يكون رفعا بـ (لبث) وتقديرها المصدر، أي فما لبث مجيئه
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٢) لم أهتد إلى قائله. انظر: "معاني القرآن" ٢/ ٢١، اللسان (كل)، اكتل السحاب عن البرق أي لمع به، واللوائح التي لاح برقها أي: لمع وظهر. الطبري ١٢/ ٦٩، "البحر المحيط" ٥/ ٢٤١، ابن عطية ٦/ ٣٤٠، "الدر المصون" ٦/ ٣٥٢.
(٣) في (جـ): (أكل)، وفي (ص): (اكبلى)، وفي الفراء ٢/ ٢١: (كما اكتل).
(٤) "الحجة" ٤/ ٣٦٤.
(٥) في (ي): (خمسة عشر).
(٦) ساقط من (ي).
(٧) "معاني القرآن" ٢/ ٢١.
469
بعجل، أي ما أبطأ ذلك المجيء.
وقوله تعالى: ﴿حَنِيذٍ﴾، قال الليث (١): الحنذ: اشتواء اللحم بالحجارة المسخنة، تقول حنذته حنذًا.
وقوله تعالى: ﴿بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾ محنوذ مشوي، وقال الفراء (٢): ما حفرت له في الأرض ثم غممته، وهو من فعل أهل البادية معروف، وهو محنوذ في الأصل، كما قيل: طبيخ ومطبوخ، وقال (٣) في كتاب "المصادر": والخيل تحنذ إذا ألقيت عليها الجلال بعضها على بعض لتعرق.
وقال أبو عبيدة (٤): الحنيذ: المشوي، قال: ويقال قد حنذت الفرس إذا سخنته وعرقته.
وأنشد للعجاج (٥):
ورهبًا من حنذه أن يهرجا
قال ابن عباس في رواية (٦) ابن جريج: الحنيذ النضيج، وهو قول
(١) "تهذيب اللغة" (حنذ) ١/ ٩٣٨، "اللسان" (حنذ) ٢/ ١٠٢١.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٢١.
(٣) نقله الطبري ١٢/ ٦٩، الثعلبي ٧/ ٤٨ ب، "تهذيب اللغة" (حنذ) ١/ ٩٣٨، اللسان (حنذ) ٢/ ١٠٢١.
(٤) "مجاز القرآن" ١/ ٢٩٢.
(٥) انظر: "ديوانه" ص ٩، و"مجاز القرآن" لأبي عبيدة ١/ ٢٩٢، "اللسان" (حنذ) ٢/ ١٠٢١، "الطبري" ١٢/ ٦٩، والحنذ شدة الحر وإحراقه، أهرج البعير: تحير وسدد من شدة الحر. "تهذيب اللغة" ١/ ٩٣٨ (حنذ). "التنبيه والإيضاح" ١/ ٢١٥، "تاج العروس" ٥/ ٣٦١، كتاب "العين" ٦/ ١٠٦.
(٦) الطبري ١٢/ ٦٩، "زاد المسير" ٤/ ١٢٨، القرطبي ٩/ ٦٤، ابن المنذر كما في "الدر" ٤/ ٤٤٦.
470
مجاهد وقتادة (١).
وقال في رواية عطاء: هو الذي نتف شعره وشوي.
وقال عبد الله بن مسلم (٢): هو المشوي في خد من الأرض بالرضف (٣) وهي الحجارة المحماة، ومنه الحديث: "أنه أتي بضب محنوذ" (٤).
٧٠ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ﴾ أي: إلى العجل، وقال الفراء (٥): إلى الطعام وهو العجل؛ لأنه طعام، ﴿نَكِرَهُمْ﴾ أي: أنكرهم (٦)، يقال: نكرته وأنكرته واستنكرته، قال الأعشى (٧):
وأنكرتني وما كان الذي نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا
قال الليث (٨): النكرة: إنكارك الشيء، وهو نقيض المعرفة (٩)، ويقال: أنكرت الشيء إنكارًا ونكرته مثله، قال: ولا يستعمل في غابر ولا
(١) الطبري ١٢/ ٦٩، الثعلبي ٧/ ٤٨ ب، "زاد المسير" ٤/ ١٢٨.
(٢) "مشكل القرآن وغريبه" ص ٢١١، الثعلبي ٧/ ٤٨ ب.
(٣) ساقط من (ب).
(٤) أخرجه البيهقي في "السنن الكبرى" ٩/ ٣٢٣.
(٥) "معاني القرآن" ٢/ ٢١.
(٦) ساقط من (ي).
(٧) البيت في "ديوانه" ص ١٠٥، "الخصائص" ٣/ ٣١٠، "المحتسب" ١/ ٣٤٧، "شرح المفصل" ٣/ ١٣، "مجاز القرآن" ١/ ٢٩٣. وقال أبو عبيدة: قال يونس: قال أبو عمرو: أنا الذي زدت هذا البيت في شعر الأعشى إلى آخره فذهب، فأتوب إلى الله منه، وهو في الطبري ١٢/ ٧١، والثعلبي ٧/ ٤٨ ب، "البحر المحيط" ٥/ ٢٤٢، "الدر المصون" ٦/ ٣٥٣، "اللسان" (نكر) ٨/ ٤٥٣٩.
(٨) "تهذيب اللغة" (نكر) ٤/ ٣٦٦٠.
(٩) في (ي): (المعروف).
471
أمر ولا نهي ولا مصدر. قال المفسرون: كان امتناعهم من الطعام لأنهم ملائكة، والملائكة لا تأكل ولا تشرب، وإنما أتوه في صورة الأضياف؛ ليكونوا على صفة يحبها، وهو كان يقري الضيوف، هذا معنى قول الحسن، وقيل: أروه معجزًا من مقدور الله في صورتهم.
قوله تعالى: ﴿وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً﴾ أي: أضمر منهم خوفًا، قاله أبو عبيدة (١) والزجاج (٢) وابن قتيبة (٣) وهو قول أبي روق عن الضحاك (٤).
وقال ابن عباس (٥): أحس.
وقال الفراء (٦): استشعر.
وقال الأخفش (٧): خامره.
قال الليث (٨): الوجس: فزعة القلب، يقال أوجس القلب فزعًا وتوجست الأذن: إذا سمعت فزعًا، فالوجس: الفزع يقع في القلب أو في السمع؛ من صوت، أو غير ذلك، ومنه قول ذي الرمة (٩):
(١) في (ي): أبو عبيد. وهو في "مجاز القرآن" ١/ ٢٩٣.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٦١.
(٣) "مشكل القرآن وغريبه" ص ٢١١.
(٤) الثعلبي ٧/ ٤٨ ب، "زاد المسير" ٤/ ١٢٩، القرطبي ٩/ ٦٥.
(٥) الثعلبي ٧/ ٤٨ ب، القرطبي ٩/ ٦٥.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٢١، الثعلبي ٧/ ٤٨ ب.
(٧) ذكره الثعلبي ٧/ ٤٨ ب، "الدر المصون" ٤/ ١١٣.
(٨) "تهذيب اللغة" (وجس) ٨/ ٤٧٧٢، "الدر المصون" ٤/ ١١٣.
(٩) البيت في "ديوانه" ١/ ٤٤٩ كالتالي: (إذا توجس قرعًا من سنابكها أو كان صاحب أرض أو به المؤم) القرع: الوقع، ويُروى (ركزًا) وهو الحسُّ، "توجس": تسع، يعني: الصائد (قرعًا من سنابكها) يعني: قرع حوافرها، (السنبك) طرف الحافر، أو كان صاحب أرض (رعدة)، (الموم): مرض شبه الجدري، المعنى: من خشية =
472
إذا توجس ركزًا (١) في سنابكها أو كان صاحب أرض أوشكت صدعًا
وقال عامة المفسرين (٢): لما رآهم إبراهيم شبابًا أقوياء، ولم يتحرموا بطعامه لم يأمن أن يكونوا جاءوا لبلاء، وذلك أن سنتهم كانت في ذلك الدهر إذا ورد عليهم القوم فأتوا بالطعام فلم يمسوه ظنوا أنهم عدو أو لصوص، فهنالك أوجس في نفسه فزعًا، ورأوا علامه ذلك في وجهه، وفقالوا له: لا تخف فإنَّا ملائكة الله أرسلنا إلى قوم لوط، فذلك قوله تعالى: ﴿أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ﴾.
قال ابن الأنباري (٣): ومعناها أرسلنا بالعذاب إلى قوم [لوط، فأضمر؛ لقيام الدليل عليه بذكر الله ذلك في قوله في سورة أخرى: ﴿قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ] (٤) مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ﴾ [الذاريات: ٣٢، ٣٣] ونحو هذا قال أبو إسحاق (٥) سواء.
٧١ - قوله تعالى: ﴿وَامْرَأَتُهُ﴾، قال المفسرون (٦): يعني سارة بنت هاران بن ناحور ابنة عم إبراهيم.
= الإخطاء يُحم، والبيت من قصيدته في خرقاء يتثمبب بها، انظر: "اللسان" (وجس) ٨/ ٤٧٧٢، (أرض) ١/ ٦٢، (فوم) ٦/ ٣٤٩١ "تهذيب اللغة" ١/ ١٤٨ (أرض)، ٤/ ٣٤٦٨ (ميا)، "جمهرة اللغة" ١١٢٠،"تاج العروس" ٩/ ٢٨، (وجس) ١٠/ ٦ (أرض).
(١) في (ي): (ذكرًا).
(٢) هذا قول قتادة. انظر: الطبري ١٢/ ٧١، الثعلبي ٧/ ٤٩، البغوي ٤/ ١٨٨.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ١٢٩.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٦١.
(٦) الثعلبي ٧/ ٤٩ أ، الطبري ١٢/ ٧١١، البغوي ٤/ ١٨٨.
473
وقوله تعالى: ﴿قَائِمَةٌ﴾، قيل: كانت قائمة من وراء الستر تتسمع إلى الرسل، وقيل: كانت قائمة تخدم الأضياف، وإبراهيم جالس معهم، ويؤكد هذا التأويل قراءة ابن مسعود (١) (وامرأته قائمة وهو قاعد فضحكت) واختلفوا في معنى الضحك هاهنا وفي سببه، فرُوي عن ابن عباس (٢) أنه قال: ضحكت أي: عجبت من فزع إبراهيم، وهذا قول مقاتل (٣) والكلبي (٤) قالا: ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة وهو (٥) فيما بين حشمه وخدمه، فقيل لها: يا أيتها الضاحكة ستلدين غلامًا، فذلك قوله: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ﴾، فعلى هذا القول ضحكت للتعجب (٦) ففسر ضحكت: تعجبت لما كان بسبب العجب.
وروى سعيد عن قتادة (٧) قال: ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، وحكى الفراء (٨) في هذه الآية قولين:
أحدهما: أنها (٩) ضحكت سرورًا بما زال عنها من الخوف؛ لأنها قد
(١) ساقط من (ب)، والقراءة ذكرها الطبري ١٢/ ٧٢، والثعلبي ٧/ ٤٩ أ، والقرطبي ٩/ ٦٦.
(٢) أخرجه إسحاق بن بشر وابن عساكر في "الدر" ٢/ ٦١٣، "زاد المسير" ٤/ ١٣٠.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٤٧ ب، الثعلبي ٧/ ٤٩ ب، البغوي ٤/ ١٨٨، القرطبي ٩/ ٦٧، "زاد المسير" ٤/ ١٣٠.
(٤) الطبري ١٢/ ٧٢، الثعلبي ٧/ ٤٩ ب، البغوي ٤/ ١٨٩.
(٥) ساقط من (ب).
(٦) في (ب): (للتعجب).
(٧) الطبري ١٢/ ٧٢، الثعلبي ٧/ ٤٩ ب، عبد الرزاق ٢/ ٣٠٦، وابن المنذر، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٥٤، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٦١٦، البغوي ٤/ ١٨٩، ورجح هذا القول الطبري ١٢/ ٧٤.
(٨) "معاني القرآن" ٢/ ٢٢.
(٩) في (ب): (أنه).
474
كانت خافت كما خاف إبراهيم، فلما قالوا إنَّا أرسلنا إلى قوم لوط زال عنهما جميعًا الخوف فضحكت سرورًا بالأمن.
الثاني: أن هذا على التقديم والتأخير، بتقدير: وامرأته قائمة فبشرناها بإسحاق فضحكت سرورًا بالتبشير، فقدم الضحك ومعناه التأخير، وعلى هذا التقدير يحمل أيضاً ما روي عن ابن عباس (١) ووهب (٢) أنهما قالا: ضحكت تعجبًا من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها.
وحكى أبو إسحاق (٣) قولاً آخر؛ وهو أن سارة قالت لإبراهيم: اضمم إليك ابن أخيك لوطًا، فإن العذاب سينزل بقومه، فلما قالت الرسل: إنا أرسلنا إلى قوم لوط، ضحكت سرورًا بموافقتها الصواب لما أتى الأمر على ما توهمت.
وقال مجاهد (٤) وعكرمة (٥): فضحكت أي: حاضت عند فرحها بالسلامة من الخوف، وجعل حيضها علامة لقرب وقت المولود الذي تبشر به، قال الفراء (٦): ضحكت: [حاضت لم يسمعه من ثقة، وقال الزجاج (٧):
(١) الثعلبي ٧/ ٤٩ ب، "زاد المسير" ٤/ ١٣٠، البغوي ٤/ ١٨٩.
(٢) الطبري ١٢/ ٧٢، الثعلبي ٧/ ٤٩ ب، وابن المنذر كما في "الدر" ٣/ ٦١٦، "زاد المسير" ٤/ ١٣٠، البغوي ٢/ ٣٩٣.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٦١.
(٤) الطبري ١٢/ ٧٣، الثعلبي ٧/ ٤٩ ب، البغوي ٤/ ١٨٨، "زاد المسير" ٤/ ١٣٠، ابن عطية ٧/ ٣٤٥، القرطبي ٩/ ٦٦.
(٥) الثعلبي ٧/ ٤٩ ب، البغوي ٤/ ١٨٨، "زاد المسير" ٤/ ١٣٠، القرطبي ٩/ ٦٦.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٢٢.
(٧) "معانى القرآن وإعرابه" ٣/ ٦٢.
475
ليس بشيء ضحكت: حاضت] (١).
قال ابن الأنباري (٢): قد أنكر الفراء (٣) وأبو عبيد (٤)، وأبو عبيدة (٥) أن تكون ضحكت بمعنى (٦) حاضت، وعرفه غيرهم وأنشد (٧):
يضحك الضبع (٨) لقتلى هذيل وترى الذئب لها يستهل
قال: أراد تحيض فرحًا، وحكى الليث (٩) في هذه الآية. فضحكت طمثت، وحكى الأزهري (١٠) أن أصله ضحاك الطلعة إذا انشقت، قال. وقال الأخطل (١١) فيه بمعنى الحيض:
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١٣٠.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٢٢، "تهذيب اللغة" (ضحك) ٣/ ٢٠٩٩.
(٤) "الدر المصون" ٤/ ١١٤.
(٥) لم أجده في "مجاز القرآن" في موضعه ١/ ٢٩٣.
(٦) ساقط من (ب).
(٧) القائل: تأبط شرًّا، والبيت في "المحتسب" ١/ ٣٢٤، "جمهرة ابن دريد" ٢/ ١٦٧، "اللسان" (ضحك) ٥/ ٢٥٥٨، "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي ص ٨٣٧، "تهذيب اللغة" (ضحك) ٣/ ٢٠٩٩، "المعاني الكبير" ١/ ٢١٤، وينسب البيت أيضًا للشنفرى، ولابن أخت تأبط شرًّا أو لخلف الأحمر، انظر: "ديوان الشنفرى" ٨٤، و"الأغاني" ٦/ ٨٣، ولخلف الأحمر في "ديوان الحماسة" ٢/ ٨٣٧، و"شرح الحماسة" للتبريزي ٢/ ١٦٤.
(٨) في (ي): (الذئب).
(٩) "تهذيب اللغة" (ضحك) ٣/ ٢٠٩٩.
(١٠) "تهذيب اللغة" (ضحك) ٣/ ٢٠٩٩.
(١١) البيت في "تهذيب اللغة" (ضحك) ٣/ ٢٠٩٩، "اللسان" (ضحك) ٥/ ٢٥٥٨،"تاج العروس" (ضحك) ١٣/ ٦٠٣.
476
تضحك الضبع من دماء سليم إذ رأتها على الحداب تمور
قال الكميت:
وأضحكت الضباع سيوف سعد بقتلى ما دفن ولا ورينا
وقال أبو عمرو (١):
سمعت أبا موسى الحامض (٢) قال: سُئل ثعلب عن قوله ﴿فَضَحِكَتْ﴾ أي: حاضت، وقيل: إنه جاء في الخبر، فقال ثعلب: ليس في كلام العرب، والتفسير مسلم لأهل التفسير، فقيل له: فأنت أنشدتنا:
تضحك "الضبع" لقتلى هذيل
فقال ثعلب: تضحك هاهنا تكشر، وذلك أن الذئب ينازعها على القتلى فتكشر في وجهه وعيدًا، فيتركها ويمر.
وقوله تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ﴾، قال المفسرون (٣): كان إبراهيم قد ولد له من هاجر إسماعيل وكبر وشب، فتمنت سارة أن يكون لها ابن، وأيست من ذلك لكبر سنها، فبشرت على كبر السن بولد يكون نبيًا، ويلد نبيًا وهو قوله: ﴿وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾.
(١) البيت في: "شرح هاشميات الكميت" ٢٨٦، "الطبري" ١٢/ ٧٤، "اللسان" (ضحك) ٥/ ٢٥٥٨.
(٢) أبو موسى الحامض هو: سليمان بن محمد بن أحمد، نحوي، من العلماء باللغة والشعر، تلميذ ثعلب روى عنه أبو عمر الزاهد، من أهل بعداد، كان ضيق الصدر سيء الخلق، فلقب بالحامض، توفي سنة ٣٠٥ هـ. انظر: "وفيات الأعيان" ١/ ٢١٤، "إنباه الرواة" ٢/ ٢١، "الأعلام" ٣/ ١٣٢، "تاريخ بغداد" ٩/ ٦١.
(٣) القرطبي ٩/ ٦٩.
477
قال أبو إسحاق (١): بشروها بأنها تلد إسحاق وأنها تعيش إلى أن ترى ولد ولده. ﴿وَرَاءِ﴾ هنا تُفسر تفسيرين، أحدهما بمعنى: بعد، وهو قول ابن عباس (٢) في رواية الكلبي ومقاتل (٣)؛ قالوا: ومن بعد إسحاق يعقوب.
وروى حيان بن أبحر (٤) قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل من هذيل فقال له: ما فعل فلان؟ لرجل منهم، قال: مات وترك أربعة من الولد وثلاثة من الوراء، قال الله تعالى: ﴿فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ يعني: ولد الولد، وهو قول الشعبي (٥) في هذه الآية، ورُوي أنه أقبل ومعه ابن ابن له، فقيل له: هذا ابنك؟ فقال: هذا ابني من الوراء، ونحو هذا قال قتادة، فإن قيل يعقوب ولد إسحاق لصلبه فكيف يكون وراء له وإنما هو وراء للجد، كما قال الشعبي لولد ولده هذ ابن ي من الوراء [ونحو هذا] (٦).
قال ابن الأنباري (٧): معناه من الوراء المنسوب إلى إسحاق يعقوب؛
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٦٢.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١٣١، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٥٦.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ١٣١، ولم أجده في "تفسير مقاتل".
(٤) ذكره في "الدر" ٣/ ٦١٦ عن ابن الأنباري في الوقف والابتداء. وقال عن حسان، وانظر: الثعلبي ٧/ ٤٩ ب، الطبري ١٢/ ٧٥.
(٥) أخرجه ابن الأنباري في "الوقف والابتداء". انظر: "الدر" ٣/ ٦١٦، وانظر: الثعلبي ٧/ ٤٩ ب، الطبري ١٢/ ٧٥.
(٦) ساقط من (ي).
(٧) "الأضداد" ٦٩، "زاد المسير" ٤/ ١٣١، "اللسان" (ورى) ٨/ ٤٨٢١.
478
لأنه قد كان الوراء لإبراهيم -عليه السلام -، من جهة إسحاق وإسماعيل عليهما السلام، فلو قال من الوراء يعقوب لم يعلم أهذا الوراء منسوب إلى إسحاق أم إلى إسماعيل، فأضيف إلى إسحاق لينكشف المعنى، ومثل هذا من الإضافة قوله -عز وجل-: ﴿أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [القصص: ٧٤، ٦٢]. يريد أين الشركاء المنسوبون إليّ بزعمكم، قال: ومن حمل وراء على (بعد) (١) لزم ظاهر العربية، إذ العرب تقول: ليس وراء هذا شيء أي بعده قال النابعة (٢):
حلفتُ فلم أتركْ لنفسكَ ريبةً.... وليس وراءَ الله للمرء مذهبُ
يعني: بعد الله، قال ورُفع يعقوب بـ (من) لأن المعنى فبشرناها [بإسحاق وبشرناها من وراء إسحاق] (٣) بيعقوب، فلما لم يظهر التبشير ثانيًا ولم يعد معه باء غلَّب الظاهر فرفع يعقوب بمن، وهو داخل بالتبشير في المعنى، كما تقول العرب: أمرت لزيد بإبل ولأخيه غنم، فيرفعون الغنم باللام والمعنى وأمرت لأخيه بغنم، فلما لم يعد الأمر مع الباء غلب الظاهر فرفعت الغنم بلام الصفة، وذلك منوي مراد.
وقال أبو إسحاق (٤): رفعه على ضربين؛ أحدهما: ابتداء مؤخر معناه التقديم، المعنى: ويعقوب يحدث لها من وراء إسحاق، وهذا هو القول الذي ذكره أبو بكر؛ لأن من رفعه بـ (من) جعله ابتداء مؤخرًا، كما تقول
(١) في (ي): (البعد).
(٢) النابغة الذبياني "ديوانه" ص ٢٧، وفي معاهد التنصيص ٧/ ٢ (مطلب) بدل (مذهب). "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٧٨.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٤) "معانى القرآن وإعرابه" ٣/ ٦٣.
479
(في الدار زيد). الثاني مما ذكره أبو إسحاق أنه مرفوع بالفعل الذي يعمل في (١) ﴿مِنْ وَرَاءِ﴾؛ كأنه قال: ويثبت لها من وراء إسحاق يعقوب، وقرأ ابن عامر وحمزة ﴿يَعْقُوبَ﴾ (٢) بفتح الباء، قال [الفراء (٣): من قرأ ذلك نوى به الخفض يريد: ومن وراء] (٤) إسحاق بيعقوب قال: ولايجوز هذا إلا بإظهار الباء.
قال أبو بكر (٥): من قال: إن (يعقوب) على قراءة حمزة في موضع خفض بالباء فقد غلط عند الفراء (٦) وسيبويه (٧)؛ لأن واو النسق لا يفصل بينها وبين المنسوق بالصفات ولا غيرها، فلا يقال: مررت بأخيك ومن بعده أبيك؛ لأن الواو مع الأب بمنزلة الشيء الواحد فلا تدخل بينهما الصفة، ولا يجوز أن يضمر بعد الواو في الآية تبشير آخر معه باء؛ لأنه لا يصلح ضمير شيئين على هذه الشريطة، ولا تعمل الباء مضمرة إذا كانت صلة لفعل يتصل به ضمير، كما لا تعمل إلا مظهرة حتى يظهر الفعل معها، ألا ترى أن الذي يقول مررت أبيك لا يضمر الباء هاهنا ويخفض بها، فامتناعها هناك من أن تظهر وتعمل كامتناعها هاهنا، قال: والصحيح في
(١) ساقط من (ي).
(٢) قرأ حفص وابن عامر وحمزة بفتح الباء، والباقون بالرفع، انظر: "السبعة" ص ٣٣٨، "إتحاف" ٢٥٨، "الكشف" ١/ ٥٣٤، "الحجة" ٤/ ٣٦٤.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٢٢.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٥) "تهذيب اللغة" (عقب) ٣/ ٢٥٠٨، "اللسان" (عقب) ٥/ ٣٠٣٠.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٢٢.
(٧) "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ١٠١، وانظر: "الكتاب" ١/ ٤٨ - ٤٩.
480
إعراب ﴿يَعْقُوبَ﴾ النصب بفعل مضمر يشاكل معناه معنى (١) التبشير على تقدير: ومن وراء إسحاق وهبنا لها يعقوب، كما تقول العرب: مررت بأخيك وأباك، يريدون بـ (مررت) (جُزْت) كأنه قيل: جزت أخاك وأباك وكما قال جرير (٢):
جئني بمثل بني بدر لقومهم أو مثل أسرة منظور بن سيار
أو عامرَ بن طفيل في مركبة أو جارنا يوم نادى القوم يا جار
أراد: أعطني مثل بني بدر أو مثل (٣) أسرة. وقال آخر (٤):
لو جئت بالتمر له ميسرًا
والبيضَ مطبوخًا معًا والسكرا
لم يرضه ذلك حتى يسكرا
أراد لو أطعمته التمر والبيض. قال رؤبة (٥):
(١) ساقط من (ب).
(٢) القائل جرير في هجاء الأخطل، والبيت في "ديوانه" ص١٦٣، سيبويه والشنتمري ١/ ٤٨، ٨٦، "المقتضب" ٤/ ١٥٣، وهو بلا نسبة في الطبري ١٢/ ٧٥، "المحتسب" ٢/ ٧٨، "معاني القرآن" ٢/ ٢١، ٣/ ١٢٤، وهو في هذه القصيدة يفخر ببني قيس عيلان بن مضر بن نزار جميعًا علي بني ربيعة بن نزار وهم قوم الأخطل التغلبي، فذكر "بني بدر" الفزاريين من قيس عيلان، و"منظور بن سيار الفزاري" العبسي و"عامر بن الطفل" من بني جعفر بن كلاب، انظر: تعليق محمود شاكر على الطبري ١٥/ ٣٩٦ - ٣٩٧.
(٣) ساقط من (ي).
(٤) "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٢ قال: أنشدني بعض بني باهلة.
(٥) من أرجوزة له. انظر: "ملحق ديوانه" ص ١٩٠، "أساس البلاغة" (فسق)، وينسب للعجاج كما في سيبويه والشنتمري ١/ ٤٩، وليس في ديوانه، وبلا نسبة في "شرح شذور الذهب" ٤٠٢، "المحتسب" ٢/ ٤٣، "الخصائص" ٢/ ٤٣٢، "شرح التصريح" ١/ ٢٨٨.
481
يهوين في نجد وغورا غائرًا فواسقا عن قصدها جوائرا
أراد: يدخلن نجدًا. وكل ما ذكره أبو بكر من ردّ وجه الخفض وتوجيه النصب هو قول الفراء والزجاج وشرح كلامهما. وذكر أبو علي (١) أن قومًا ذهبوا في قراءة حمزة إلى العمل على موضع الجار (٢) والمجرور كقوله (٣):
إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدًا
وقوله (٤):
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
كذلك هاهنا قوله: ﴿إِسْحَاقَ﴾ الجار والمجرور في موضع النصب فحمل عليه قوله: ﴿وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾ بالعطف، قال أبو علي: وهذا الوجه في الفتح كوجه قول من جعل يعقوب في موضع الخفض، وذلك أن الفصل في هذا بين واو العطف والحرف المعطوف بالظرف قبيح، سواء
(١) "الحجة" ٤/ ٣٦٤ - ٣٦٧ بتصرف.
(٢) ساقط من (ب).
(٣) عجز بيت لكعب بن جعيل، وصدره:
ألا حيّ ندماني عُمْيدَ بن عامرٍ
انظر: سيبويه والشنتمري ١/ ٣٤ - ٣٥، ابن السيرافي ص ٢٥٣، وبلا نسبة في "الإنصاف" ٢٨٥، و"المقتضب" ٤/ ١١٢، ١٥٤، و"المحتسب" ٢/ ٣٦٢.
(٤) عجز بيت لعقيبة الأسدي، أو لعبد الله بن الزبير، وصدره:
معاوي إننا بشر فأسجح
انظر: سيبويه ١/ ٣٤، ٣٥٢، "الخزانة" ١/ ٣٤٣، ٢/ ١٤٣، "شرح المفصل" ٢/ ١٠٩، "شرح أبيات المغني" ٧/ ٥٣، "الإنصاف" ٢٨٤، "سر صناعة الإعراب" ١/ ٢٩٤، ١٣١، "سمط الآلئ" /١٤٨، "نسبه في الأزمنة والأمكنة" ٢١/ ٣١٧ لعمرو بن أبي ربيعة.
482
عطفت على المرفوع أو المنصوب أو المجرور، وذلك أن الفعل [يصل بحرف العطف، وحرف العطف هو الذي يشرك في الفعل وبه] (١) يصل الفعل إلى المفعول به، كما يصل بحرف الجر إذا قلت (مررت يزيد) (٢)، ولا يجوز الفصل بين الباء وزيد، كذلك لا يجوز الفصل في قولك ضربت زيدًا وعمرًا بين الواو وعمرو؛ لأن الحرف العاطف مثل الجار في أنه يشرك في الفعل، كما يوصل الجار الفعل وليس نفس الفعل العامل في الموضعين جميعًا وإذا كان كذلك قبح الفصل بالظرف في العطف، وقد جاء (٣) ذلك في الشعر، قال ابن أحمر (٤):
أبو حنش يؤرقنا وطلق وعبّادٌ وآونةً أثالُ
ففصل بالظرف في العطف على المرفوع. وقال الأعشى:
يوما تراها كشبه أرديه الـ ـعصب ويومًا أديمها نغلا (٥)
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٢) قائمًا كما في "الحجة" ٤/ ٣٦٥.
(٣) في (ب): (جاز)، والصحيح ما أثبتهُ كما في "الحجة" ٤/ ٣٦٦.
(٤) من قصيدة يذكر فيها جماعة من قومه لحقوا بالشام فصار يراهم في النوم إذا أتى الليل، انظر: "ديوانه" ص ١٢٩، "الحماسة البصرية" ١/ ٢٦٢، " أمالي ابن الشجري" ١/ ١٩٢، "الخصائص" ٢/ ٣٧٨، "الإنصاف" ٢٩٩، المذكور (أثالا). "الكتاب" ٢/ ٢٧٠، "شرح أبيات سيبويه" ١/ ٤٨٧، "اللسان" (حنش) ٢/ ١٠٢٣، "المقاصد النحوية" ٢/ ٤٢١.
(٥) البيت من قصيدة له يمدح فيها سلامة ذا فائش، في "ديوانه" ص ١٧٠ (أردية الخمس)، والعصب: ضرب من البرود، ونغل الأديم: فسد في الدباغ. وانظر: "شرح أبيات المغني" ٢/ ١٦٣ - ١٦٤، "اللسان" (نغل) ٨/ ٤٤٩٠، وبلا نسبة من "الخصائص" ٢/ ٣٩٥، "الإيضاح" / ١٤٨.
483
ففصل بالظرف بين المشرك في النصب وما أشركه فيه، فإذا قبح هذا فالوجه أن تحمل قراءة حمزة ﴿يَعْقُوبَ﴾ بالنصب على فعل آخر مضمر يدل عليه (بشرنا) كما تقدم، ولا يحل على الوجهين الآخرين لاستوائهما في القبح (١).
٧٢ - قوله تعالى: ﴿قَالَتْ يَا وَيْلَتَى﴾. قال أبو إسحاق (٢): الأصل فيه يا ويلتي فأبدل من الياء والكسرة [الألف؛ لأن الألف أخف من الياء والكسرة] (٣)، وقد ذكرنا مثل هذا في قراءة من قرأ ﴿يَا بُنَيَّ ارْكَبْ﴾ [هود: ٤٢] بفتح الياء، قال (٤): والاختيار في الكلام إن وقف عليه بالهاء "يا ويلتاه" فأما المصحف فلا يخالف، ويوقف إذا (٥) اضطر واقف بغير هاء، وذكرنا معنى هذا النداء في قوله تعالى: ﴿يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ﴾ [المائدة: ٣١] (٦)، وهذه الكلمة إنما تقال عند الإيذان بورود الأمر الفظيع.
وقوله تعالى: ﴿أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ﴾، قال الليث (٧): العجوز المرأة الشيخة والجميع العجز والعجائز، والفعل عجزت تعجز عجزًا، وعجّزت
(١) إلى هنا انتهى النقل من "الحجة" ٤/ ٣٦٤ - ٣٦٧ بتصرف.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٦٣.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٤) القائل أبو إسحاق الزجاج في الموضع السابق ٣/ ٦٣.
(٥) في (ي): (إن).
(٦) وقد نقل هناك عن الزجاج قوله: المعنى يا ويلتا تعالى، فإنه من إبّانك، أي: قد لزمني الويل، قال: والوقف في غير القرآن: يا ويلتاه. اهـ. وانظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٢/ ١٦٧.
(٧) "تهذيب اللعة" (عجز) ٣/ ٢٣٣٧.
484
تعجِّز تعجيزًا فهي مُعَجِّزة والتشديد أكثر، قال يونس (١): امرأة مُعجِّزة: طعنت في السن، ويقال للمرأة [اتقي الله في شبيبتك وعجزك.
قال ابن الأعرابي (٢): ويقال للمرأة] (٣) عجوزة بالهاء أيضًا.
قال ابن إسحاق (٤): كانت (٥) ابنة تسعين سنة، وقال عطاء ومجاهد (٦): تسع وتسعين سنة، جعل الله -عز وجل- الولد على تلك الحال معجزًا لنبيه إبراهيم -عليه السلام -، وإنما تعجبت من مقدور الله تعالى -مع إيمانها- بطبع البشرية إذا ورد مثلُ هذا على النفس من غير فكر ولا روية، كما ولى موسى عليه السلام مدبرًا حتى قيل له: ﴿أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ﴾ [القصص: ٣١].
وقوله تعالى: ﴿وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا﴾، ذكرنا معنى البعل والبعولة في سورة البقرة (٧) والنساء (٨)، وقال عطاء ومجاهد (٩): كان إبراهيم عليه السلام في ذلك الوقت ابن مائة سنة.
(١) "تهذيب اللغة" (عجز) ٣/ ٢٣٣٧.
(٢) "تهذيب اللغة" (عجز) ٣/ ٢٣٣٧.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) الطبري ١٢/ ٧٧، الثعلبي ٧/ ٤٩ ب، البغوي ٤/ ١٨٩، "زاد المسير" ٤/ ١٣٣، القرطبي ٩/ ٧٠.
(٥) ساقط من (ي).
(٦) الثعلبي ٧/ ٤٩ ب، البغوي ٤/ ١٨٩، "زاد المسير" ٤/ ١٣٢، القرطبي ٩/ ٧٠.
(٧) البقرة: ٢٢٨.
(٨) النساء: ١٢٨. وخلاصة ما ذكره أن المراد بالبعل الزوج، وإنما سمي بذلك لأحد أمرين: إما لأنه مستبعل لها وقد غلطه الأزهري، وإما لأنه سيدها ومالكها. وانظر: "تهذيب اللغة" ١/ ٣٦٣ (بعل).
(٩) الثعلبي ٧/ ٥٠ أ، البغوي ٤/ ١٨٩، "زاد المسير" ٤/ ١٣٢.
485
وقال ابن إسحاق (١): ابن عشرين ومائة سنة. وقال الكلبي (٢): ابن تسع وتسعين سنة.
قال أبو إسحاق (٣): (شيخا) منصوب على الحال، والحال هاهنا نصبه من لطيف النحو وغامضه، وذلك أنك إذا قلت: هذا زيد قائمًا، فإذا كنت تقصد أن تخبر من لم يعرف زيدًا أنه زيد لم يجز هذا؛ لأنه لا يكون زيدًا ما دام قائمًا فإذا زال عن القيام فليس يزيد، وإنما تقول للذي يعرف زيدًا هذا زيد قائمًا فيعمل في الحال التنبيه، المعنى (٤): انتبه لزيد في حال قيامه أو أشير لك إلى زيد في حال قيامه. قال ابن الأنباري (٥): وهذا إنما وقعت الإشارة معه إلى الشيخوخة، أي: تنبهوا على شيخوخة بعلي، كما يقول القائل: هذا الله لطيفًا كريمًا. يريد تنبهوا على لطفه وكرمه، وما يجهله -عز وجل- ذو عقل وتمييز.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾، العجيب بمعنى المُعْجِب يقال: أعجبني الشيء فهو معجب وعجيب، قال ابن عباس (٦): يريد أن يولد لابن مائة سنة ولكبرها وأنها حرمت الولد في شبابها وأعطيته في كبرها.
(١) الطبري ١٢/ ٧٦، الثعلبي ٧/ ٥٠ أ، البغوي ٤/ ١٨٩، "زاد المسير" ٤/ ١٣٣.
(٢) "تنوير المقباس" ص ١٤٣، "زاد المسير" ٤/ ١٣٢.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٦٣، وانظر: "تهذيب اللغة" (بعل) ١/ ٣٦٢.
(٤) ساقط من (ب).
(٥) "زاد المسير" ٤/ ١٣٢.
(٦) قال به الطبري ١٢/ ٧٧، "زاد المسير" ٤/ ١٣٣، القرطبي ٩/ ٧٠.
486
٧٣ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾، قال ابن عباس (١): يريد من قضاء الله وقدرته؟ وقال أهل المعاني: أنكرت الملائكة عليها لما تعجبت من ولادتها على كبر السن؛ لأن ما عرف سببه لا يتعجب منه، والله تعالى قادر لا يعجزه شيء.
قوله تعالى: ﴿رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ﴾ يحتمل أن يكون هذا دعاء من الملائكة لهم بالرحمة والبركة، ويحتمل أن يكون إخبارًا عن ثبوت ذلك لهم فيكون تذكيرًا بالنعمة عليهم، قال المفسرون (٢): ومن هذه البركات أن الأسباط وجميع الأنبياء كانوا من إبراهيم وسارة.
وقوله تعالى: ﴿أَهْلَ الْبَيْتِ﴾ يعني: بيت إبراهيم، قالوا: وفي هذا دليل على أن أزواج النبي - ﷺ - من أهل بيته تكذيبًا لمن أنكر ذلك؛ لأن الملائكة خاطبوا سارة بأهل البيت، وسموها أهل بيت إبراهيم.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ حَمِيدٌ﴾، الحميد الذي تحمد فعالُه، وهو بمعنى المحمود، والله تعالى الحميد المحمود والمستحمد إلى عباده، والمجيد: الماجد وهو ذو الشرف والكرم، يقال مجد الرجل يمجد مجدًا ومجادة، ومجُد يمجُد لغتان. قال الحسن والكلبي (٣): المجيد: الكريم، وهو قول أبي إسحاق (٤)، وقال ابن الأعرابي (٥): المجيد: الرفيع، وقال أهل المعاني: المجيد: الكامل الشرف والرفعة والكرم والصفات
(١) قال به الطبري ١٢/ ٧٧، "زاد المسير" ٤/ ١٣٣، القرطبي ٩/ ٧٠.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١٣٣.
(٣) البغوي ٤/ ١٩٠، "تنوير المقباس" ص ١٤٣.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٥/ ٣٠٨.
(٥) "تهذيب اللغة" (مجد) ٤/ ٣٣٤٥.
487
المحمودة، وأصله من قولهم: مجدت الدابة إذا أكثرت علفها، رواه أبوه عبيد عن أبي عبيدة (١)، وقال النضر (٢): مجدت الإبل تمجد مجدًا إذا شبعت، وقال الأصمعي (٣): أمجدتُ الدبة علفًا أكثرت لها ذلك، وقال أبو حية (٤):
تزيد على صواحبها وليست بماجدة الطعام ولا الشراب
أي: ليست بكثيرة الطعام ولا الشراب، وقال الليث (٥): أمجد فلان عطاءه ومجده إذا كثره، واستمجد المرخ والعفار (٦) أي: استكثر من العفار [أي: استكثر من النار] (٧).
(١) "تهذيب اللغة" (مجد) ٤/ ٣٣٤٥.
(٢) "تهذيب اللغة" (مجد) ٥/ ٣٣٤٤، وهو النضر بن شميل.
(٣) "تهذيب اللغة" (مجد) ٤/ ٣٣٤٥.
(٤) أبو حية النميري هو: الهيثم بن الربيع بن كثير، من شعراء الدولتين الأموية والعباسية، شاعر مجيد متقدم، يروي عن الفرزدق وكان كذابًا بخيلاً. توفي سنة ١٨٣هـ. انظر: "الشعر والشعراء" ص ٥٢٢، "الأغاني" ١٢/ ٦١.
والبيت قاله في وصف امرأة. "ديوانه" ص ١٢٣، وانظر: "البحر المحيط" ٥/ ٢٣٧، "الدر المصون" ٦/ ٣٥٩، "اللسان" (مجد) ٤/ ٣٣٤٥.
(٥) "تهذيب اللغة" (مجد) ١٠/ ٦٨٣.
(٦) هما شجرتان في الحجاز يستوقد منهما النار.
والمثل هو (في كل الشجر نار، واستمجد المرخ والعفار) أي: استكثرا من النار فصلحا للاقتداء بهما، شبها بمن يكثر من االعطاء طلبًا للمجد، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٣٤٥.
(٧) ما بين المعقوفين ساقط من (أي).
488
٧٤ - قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ﴾ الآية، الروع: الإفزاع، يقال: راعه يروعه روعًا (١) إذا أفزعه، قال عنترة (٢):
ما راعني إلا حمولةُ أهلها وسْط الديار تَسَفُّ حب الخمخم (٣)
والرُّوع النفس وهو موضع الرَّوْع، قال ابن عباس (٤): يريد الفزع؛ قال الزجاج (٥): يعني ارتياعه لما أنكرهم حين لم يأكلوا العجل.
قال تعالى: ﴿وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى﴾، قال ابن عباس (٦): يريد بإسحاق ويعقوب.
وقوله تعالى: ﴿يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ﴾، (لمَّا) (٧) تصحبها الأفعال الماضية؛ لأنها جعلت في الكلام لما قد وقع بوقوع غيره، تقول: (لَمَّا جاء زيد جاء عمرو)، وهاهنا قيل: (يجادلنا) على لفظ المستقبل، وذلك أن (لما) لما كانت شرطًا للماضي جاز أن يقع بعدها المستقبل بمعنى الماضي، كما أن (إنْ) (٨) لما كانت شرطًا للمستقبل، جاز أن يقع بعدها الماضي بمعنى
(١) ساقط من (ي).
(٢) البيت من معلقته المشهورة، انظر: "ديوانه" ص ١٢٣، والخمخم، بقلة لها حب أسود، وذلك أنهم كانوا مجتمعين في الربيع، فلما يبس البقل، سفت حب الخمخم، فكان ذلك نذيرًا بوشك فراقهم. وانظر: الطبري ١٢/ ٧٨، "اللسان" (حمم) ٣/ ١٢٧٠، (خمم) ٣/ ١٢٧٠، "ديوان الأدب" ٣/ ١٠٥، "كتاب العين" ٣/ ٤٣، "تاج العروس" (خمم)، وبلا نسبة في "تهذيب اللغة" ١/ ١١٠٦.
(٣) في حاشية (ب): (والحمحم أيضًا بالحاء والخاء).
(٤) "زاد المسير" ٤/ ١٣٤، الطبري ١٢/ ٧٨.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٦٤.
(٦) رواه الطبري عن ابن إسحاق ١٥/ ٤٠١، البغوي ٢/ ٣٩٤، القرطبي ٩/ ٧٢.
(٧) في (ي): (إلى)،
(٨) ساقط من (ي).
489
المستقبل، نحو: إن جاء زيد، حيث قال الله تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ﴾ [الفرقان: ١٠].
وفيه وجه آخر وهو أن يكون قوله: ﴿يُجَادِلُنَا﴾ [حكاية لحال قد مضت، المعنى: لما ذهب عنه الروع أخذ يجادلنا] (١) وأقبل يجادلنا، فأضمر هذا الفعل قبل المستقبل؛ لأن (لما) تقتضيه، وفي كل كلام يخاطب به معنى (أخذ) و (أقبل) إذا أردت حكايته حال، والوجهان ذكرهما الزجاج (٢) وابن الأنباري.
قال الزجاج: والوجه الثاني هو الذي أختاره، ومعنى يجادلنا: يجادل رسلنا من الملائكة في قول جميع المفسرين (٣)؛ قالوا جميعًا: إن الرسل لما قالوا لإبراهيم: ﴿إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ﴾، قال لهم: أرأيتم إن كان فيهم خمسون من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا. قال: [فأربعون؟ قالوا: لا. قال:] (٤) فثلاثون؟ قالوا: لا. فما زال ينقص، فيقولون: لا، حتى قال: فواحد؟ قالوا: لا، فاحتج عليهم بلوط وقال: إن فيها لوطًا؛ فقالوا: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ﴾، وهذا معنى جدال إبراهيم في قوم لوط.
وقال أهل المعاني (٥): معنى (يجادلنا) يسألنا ويكلمنا فيهم ويراجعنا
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٩٤ بتصرف.
(٣) الطبري ١٢/ ٧٨، الثعلبي ٧/ ٥٠ أ، البغوي ٤/ ١٩٠، ابن عطية ٧/ ٣٥٤، "زاد المسير" ٤/ ١٣٤، القرطبي ٩/ ٧٢، ابن كثير ٢/ ٤٩٥.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥) ذكر هذا القول الطبري ١٢/ ٧٩ ورده، والثعلبي ٧/ ٥٠ أ.
490
في ذلك، إلا أنه استعير لفظ يجادل؛ لأنه كان يحرص في السؤال حرص المجادل، والآية الثانية ذكرنا تفسيرها في سورة التوبة (١).
٧٦ - قوله تعالى: ﴿يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا﴾. قال الزجاج: المعنى: فقلنا يا إبراهيم، وقال المفسرون: قالت الرسل عند ذلك يا إبراهيم أعرض عن هذا، وأشير بـ (هذا) إلى الجدال.
٧٧ - قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ﴾، قال ابن عباس (٢) في رواية الكلبي: لما قفلت الرسل من عند إبراهيم إلى لوط، توضأ إبراهيم وقام يصلي، وكان بين قريته وقرية لوط أربعة فراسخ، فانتهوا إلى قرية لوط، فبصرت ابنتا لوط -وهما يستقيان- بالملائكة فرأتا هيئة حسنة، قالتا: ما شأنكم؟ ومن أين أقبلتم؟ وأين تريدون؟ قالوا: من موضع كذا، نريد هذه القرية، قالتا: فإن أهلها يفعلون كذا وكذا. فقالوا: أبها من يضيفنا؟ قالتا: نعم، هذا الشيخ وأشارتا إلى لوط، فلما جاؤوه ورأى هيئتهم خاف قومه عليهم فسيء بهم وضاق بهم ذرعًا، وقال: هذا يوم عصيب، ومعنى سِيء بهم ساءه مجيؤهم، وساء يسوء فعل لازم ومجاوز، يقال: سؤته فسيء مثل شغلته فشغل، وسررته فسر.
قال أبو إسحاق (٣): أصله سُوِءَ بهم إلا أن الواو أسكنت ونقلت
(١) عند قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [آية: ١١٤]. وخلاصة ما ذكره أن الأوّاه كما قال أبو عبيدة: المتأوّه شفقًا وفرقًا، المتضرع يقينًا ولزومًا للطاعة. والحليم، قال ابن عباس: لم يعاقب أحدًا إلا لله، ولم ينتصر من أحدٍ إلا لله.
(٢) انظر: القرطبي ٩/ ٧٣.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٦٦.
491
كسرتها إلى السين، قال عامة أهل التأويل (١): إنما سيء بهم لوط؛ لأنه لما نظر من حسن وجوههم، وطيب روائحهم، أشفق عليهم من قومه أن يقصدوهم بما يقصدون به غيرهم من المطالبة بالفعل الخبيث، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عن (٢) أضيافه.
وقوله تعالى: ﴿وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا﴾، قال الأزهري (٣): الذرع يوضع موضع الطاقة، والأصل فيه أن يذرع البعير بيديه في سيرة ذرعًا على قدر سعة خطوه، فإذا حمل على أكثر من طوقه ضاق ذَرْعُهُ عن ذلك فضعف ومد عنقه، فجُعِلَ ضيق الذرع عبارةً عن ضيق الوسع والطاقة، ، فيقال: ما لي به ذرع ولا ذراع، أي: ما لي به طاقة، الدليل على صحة هذا أنهم يجعلون الذراع في موضع الذرع فيقولون ضقت بالأمر ذراعًا، قال القطامي (٤):
إذا التَّيَّازُ ذو العضلات قُلْنا إليكَ إليكَ ضاق بها ذراعًا
فمعنى ضاق بهم ذرعا: ضاق صبره وعظم المكروه عليه، وقال أبو إسحاق (٥) يقال: ضاق زيد بأمره ذرعًا: إذا لم يجد من المكروه في ذلك الأمر مخلصًا، ولم أر أحدًا ذكر في أصل الذرع أحسن مما ذكره الأزهري، وغيره (٦) يقول: ضاق ذرعًا أي: ضاق بهم صدرًا، وليس يعرف
(١) الطبري ١٢/ ٨١، البغوي ٤/ ١٩٠، ابن عطية ٧/ ٣٥٧، "زاد المسير" ٤/ ١٣٥.
(٢) في (ب): (علي).
(٣) "تهذيب اللغة" (ذرع) ٢/ ١٢٧٨.
(٤) "ديوانه" ص ٤٤، و"معاني القرآن" للفراء ١/ ٢٥٦، و"اللسان" (ت ى ز).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٦٦.
(٦) القرطبي ٩/ ٧٤، الثعلبي ٧/ ٥٠ ب.
492
أصله، وذكر ابن الأنباري (١) قولين: أحدهما: أصله (من ذرع فلان القيء) إذا غلبه وسبقه، ومعنى ضاق ذرعه: ضاق حبس المكروه في نفسه، وهذا ليس بظاهر، والقول الثاني (٢): أن الذرع كناية عن الوسع؛ لأن الذراع من اليد، والعرب تقول ليس هذا في يدي يعنون ليس في وسعي، وهذا قريب مما قاله الأزهري، ولكن لم يبين بيانه.
وقال الفراء (٣): الأصل فيه (وضاق ذرعٌ بهم)، فنقل الفعل عن الذرع إلى ضمير لوط (٤)، ونصب الذرع بتحول الفعل عنه، كما قال ﴿وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ [مريم: ٤]. وقد ذكرنا نظير هذا في قوله: ﴿سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ [البقرة: ١٣٠].
وقوله تعالى: ﴿وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾. قال المفسرون وجميع أهل المعاني (٥): يوم شديد، قال أبو بكر: قال الكسائي (٦): العصيب: الشديد يقال منه عصب اليوم يعصب عصابة.
وقال الفراء (٧) والزجاج (٨) وأبو عبيدة (٩): العصيب الشديد، وأنشد
(١) "زاد المسير" ٤/ ١٣٦. وذكر قولًا ثالثًا عنه هو أن معناه: وقع به مكروه عظيم لا يصل إلى دفعه عن نفسه.
(٢) ساقط من (ب).
(٣) "معاني القرآن" ١/ ٧٩، "زاد المسير" ٤/ ١٣٦.
(٤) في (ي): (لفظ).
(٥) الطبري ١٢/ ٨٢، البغوي ٤/ ١٩٠، الرازي ١٨/ ٣١، "البحر المحيط" ٥/ ٢٤٦، "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٦٧.
(٦) "تهذيب اللغة" (عصب) ٣/ ٢٤٥٤.
(٧) "تهذيب اللغة" (عصب) ٣/ ٢٤٥٣.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٧.
(٩) "مجاز القرآن" ١/ ٢٩٣.
493
أبو عبيدة قول هانئ العنبري (١):
يوم عصيب يعصب الأبطالا
عصبَ القوي السُّلَّم الطوالا
قال أبو عبيدة: وإنما قيل له عصيب؛ لأنه يعصب الناس بالشر، وأنشد لعدي بن زيد (٢):
وكنتُ لِزازَ خصمِك لم أعرِّدْ وقد سلكوك في يوم عصيب
٧٨ - وقوله تعالى: ﴿وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ﴾ الآية. قال المفسرون (٣): لما أضافهم لوط مضت امرأته عجوز السوء، فقالت لقومه: إنه استضاف لوطًا قوم لم أر أحسن وجوهًا ولا أنظف ثيابًا ولا أطيب رائحة منهم، فجاءه قومه ليراودوه عن ضيفه؛ فذلك قوله: ﴿وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ﴾. قال عامة المفسرين وأهل المعاني: يهرعون: يسرعون، قال الكسائي (٤) وأبو زيد (٥): أهرع الرجل إهراعًا إذا أسرع في رعدة (٦).
(١) بيتان من الرجز وقد نسبهما الواحدي هنا إلى هانئ العنبري، وبلا نسبة في: "مجاز القرآن" ١/ ٢٩٤، الطبري ١٢/ ٨٢، القرطبي ٩/ ٧٤، "زاد المسير" ٤/ ١٠٧، "مجمع البيان" ٥/ ٢٧٧.
(٢) هذا البيت من قصيدة قالها وهو في حبس النعمان بن المنذر، و (لزاز الخصم) الشديد المعاند ذو البأس في الملمات، و (عرد عن خصمه) أحجم ونكص، انظر: "ديوانه" ص ٣٩، "مجاز القرآن" ١/ ٢٩٤، "الأغاني" ٢/ ١١١، الطبري ١٢/ ٨٢، "اللسان" (سلك) ٤/ ٢٠٧٣، "كتاب الجيم" ٣/ ٢٠٨.
(٣) الطبري ١٢/ ٨٣، الثعلبي ٧/ ٥١ أ، "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٦٧، البغوي ٤/ ١٩١، "زاد المسير" ٤/ ١٣٧.
(٤) "تهذيب اللغة" (هرع) ٤/ ٣٧٥١، القرطبي ٩/ ٧٤، "اللسان" (هرع) ٨/ ٤٦٥٣.
(٥) "تهذيب اللغة" (هرع) ٤/ ٣٧٥١.
(٦) في النسخ (عدوه) وفي (ب) ما أثبته وهو الصحيح. انظر: "زاد المسير" ٤/ ١٣٧.
494
قال أهل اللغة: وهذا من الفعل الذي خرج الاسم معه مقدرًا تقدير المفعول (١)، وهو صاحب الفعل [لا يُعرف له فاعلٌ غيره، نحو: أولع فلان بالأمر؛ جعلوه مفعولًا وهو صاحب الفعل]، ومثله: أرعد زيد وزُهي عمرو، من الزهو، ونُخي بكر من النخوة، وذكر أبو عبيد (٢): المهرع: الحريص في باب ما جاء في لفظ مفعول بمعنى فاعل، وحكى أبو بكر (٣) عن بعض النحويين قال: لا يجوز للفعل أن يجعل فاعله مفعولًا، وهذه الأفعال حذف فاعلوها، فتأويل أرعد الرجل أرعده غضبه، وأولع زيدٌ معناه أولعه طبعه، وزُهي عمرو معناه: جعله ماله أو جهلُه زاهيًا، وكذلك نُخِيَ وأهْرع معناه [أهرعه خوفُه، أو حرصه، ويؤكد هذا ما ذكره أبو عبيدة (٤) في تفسير قوله: ﴿يُهْرَعُونَ﴾ قال: معناه] (٥): يستحثون إليه، وأنشد (٦):
بمعجلات نحوه مهارع
فعلى هذا، الفعل واقع على القوم من المستحثين، ودل عليه ما أنشده؛ لأنه قال: بمعجلات وهن اللاتي [أُعْجِلْنَ أي] (٧) أعجلهن غيرهن،
(١) في (ي): (الفعل).
(٢) "تهذيب اللغة" (هرع) ٤/ ٣٧٥١، "اللسان" (هرع) ٨/ ٤٦٥٣ - ٤٦٥٤.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ١٣٧.
(٤) "مجاز القرآن" ١/ ٢٩٤.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٦) بيت من الرجز، وهو بلا نسبة في: "مجاز القرآن" ١/ ٢٩٤، الطبري ١٢/ ٨٣ (العلمية)، القرطبي ٩/ ٧٥.
(٧) ساقط من (ب).
495
كذلك المهارع اللاتي أهرعهن غيرهن، ويدل على هذا قول مهلهل:
فجاءوا يُهرعون وهم أسارى نقودهم على رغم الأنوف
فقوله: يُهرعون، معناه: يساقون ويعجلون، لا أنهم يسرعون من عند أنفسهم؛ لأنه قال: وهم أسارى، أي: يقودهم، فبيَّن أنهم محمولون على ذلك الإسراع لا من عند أنفسهم، غير أن أكثر أهل اللغة على أن أُهْرعَ الرجل بمعنى أسرع على لفظ فعل لم يسم فاعله، ولا يعرفون أَهْرَعَ.
وقوله تعالى: ﴿وَمِنْ قَبْلُ﴾ أي: من قبل مجيئهم إلى لوط ﴿كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾، قال عطاء: يريد الشرك، وقال آخرون (١): يعني: فعلهم المنكر.
وقوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي﴾. قال أكثر المفسرين (٢): يعني: بنتيه زيتا (٣) وزعورا، وعلى هذا سمي الاثنان بالجمع كقوله: ﴿فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ﴾ [النساء: ١١]. وقوله: ﴿وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ﴾ [الأنبياء: ٧٨]، يعني: حكم داود وسليمان، ومن المفسرين من ذهب إلى أنه كان له أكثر من بنتين، وعلى هذا سهل الأمر.
وقوله تعالى: ﴿هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾. قال المفسرون: أراد: أنا أزوجكموهن فهن أطهر لكم من نكاح الرجال، قال ابن عباس (٤) وغيره: كان رؤساء من قومه خطبوا إليه فلم يزوجهم قبل ذلك فلما راودوه عن
(١) الطبري ١٢/ ٨٤ رواه عن ابن جريج، الثعلبي ٧/ ٥١ أ، البغوي ٤/ ١٩١، "زاد المسير" ٤/ ١٣٧.
(٢) الثعلبي ٧/ ٥١ ب، البغوي ٤/ ١٩١، "زاد المسير" ٤/ ١٣٧، القرطبي ٩/ ٧٦.
(٣) في الطبري ١٢/ ٨٤ "رثيا" و"زغرتا"، وفي الثعلبي ٧/ ٥١ ب (زعورا) و (ريثا).
(٤) الثعلبي ٧/ ٥١ ب، القرطبي ٧/ ٥١ أ.
496
ضيفه أراد أن يقي أضيافه ببناته فعرضهن عليهم شريطة الإسلام قبل عقد النكاح.
وقال الحسن (١): كان يجوز في شريعة لوط تزويج المسلمة من الكافر، وكذلك كان في صدر الإسلام؛ فقد زوج النبي - ﷺ - ابنتيه من عتبة ابن أبي لهب (٢)، وأبي العاص بن الربيع (٣).
وقال مجاهد (٤): لم يكنَّ بناته كُنَّ من أمته، وكل نبي أبو أمته. وقال سعيد بن جبير (٥): دعاهم إلى نسائهم؛ يعني: أن قوله: ﴿هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ أي: نساؤكم، فجعلهن بناته؛ لأنه نبيهم، وكل نبي أبو أمته؛ كما روي في بعض القراءة: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم) [الأحزاب: ٦] (٦).
وروي عن الحسن وعيسى بن عمر (٧) أنهما قرأ: ﴿هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾
(١) " زاد المسير" ٤/ ١٣٨، الثعلبي ٧/ ٥١ أ.
(٢) هو: عتة بن أبي لهب بن عبد المطلب القرشي ابن عم النبي - ﷺ -، أسلم في الفتح وشهد حنينًا. انظر: "الإصابة" ٢/ ٤٥٥، "الاستيعاب" ٣/ ١٤٩.
(٣) هو: أبو العاص بن الربيع بن عبد العز بن العبسي، زوج بنت النبي - ﷺ - زينب، أسلم بعد الهجرة، توفي سنة ١٢هـ على خلاف في ذلك. انظر: "الإصابة" ٤/ ١٢١، "سير أعلام النبلاء" ١/ ٣٣٠.
(٤) الطبري ١٢/ ٨٤، الثعلبي ٧/ ٥١ أ، البغوي ٤/ ١٩١ "زاد المسير" ٤/ ١٣٨، القرطبي ٩/ ٧٦.
(٥) الطبري ١٢/ ٨٤، الثعلبي ٧/ ٥١ أ، البغوي ٤/ ١٩٢، "زاد المسير" ٤/ ١٣٨، القرطبي ٩/ ٧٦.
(٦) انظر: "معاني القرآن" للفراء ٢/ ٢٣.
(٧) الطبري ١٢/ ٨٥، الثعلبي ٧/ ٥١ ب، القرطبي ٩/ ٧٦.
497
بالنصب على الحال كما ذكرنا في قوله: ﴿وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا﴾ [هود: ٧٢] إلا (١) أن أكثر النحويين (٢) على أن هذا خطأ؛ لامتناع أن يجوز كون ﴿هُنَّ﴾ هاهنا عمادًا، وأجاز الكسائي (٣) ذلك وقال: من نصب جعلهن عمادًا كما يقال كان الهندات هن أفضل من غيرهن.
قال الفراء (٤): ﴿هُنَّ أَطْهَرُ﴾ بالنصب خطأ؛ لأن هذا وهؤلاء في باب التقريب لا يدخل معه العماد، فلا يقال (هذا عبد الله هو أفضلَ منك)؛ لأن هذا اسم (٥) جامد لا يتصرف تصرف (كان)، وزاد ابن الأنباري بيانًا، فقال: هذا الأولى به والغالب عليه؛ أن يكون اسمًا للمشار إليه غير مقرب خبرًا، فلما نقل إلى التقريب ونصب الخبر معه نحو: ﴿وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا﴾ [هود: ٧٢] منع العماد ولم يجر مجرى (كان) في هذا الباب، كما لم يجر مجراها في توسيط الخبر وتقديمه، لا يجوز (هذا قائمًا زيد) ولا (قائمًا هذا زيد) كما يجوز في (كان)، ولو قيل: (هؤلاء بناتي أطهرَ لَكُم) بالنصب جاز من غير عماد، وجميع البصريين ينكرون هذه القراءة ولا يجيزونها، وذكر الزجاج (٦) ذلك على قريب مما ذكرنا.
(١) ساقط من (ب).
(٢) كالخليل وسيبويه والأخفش، انظر: "القرطبي" ٩/ ٧٦، "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ١٠٢، "البحر المحيط" ٥/ ٢٤٧، "مشكل إعراب القرآن" ١/ ٤١٢، "الطبري" ١٢/ ٨٥.
(٣) "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ١٠٤.
(٤) لم أجده في مظانه.
(٥) في (ي): (الاسم).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٦٧.
498
وقال سيبويه (١): ولكن الفصل يدخل على الأخبار ولا يدخل على الحال، لا يجوز: (قام زيد هو مسرعًا). وليس الشرط أن أذكر قراءة غير مشهورة، إلا أن النصب في ﴿أطهرَ﴾ هاهنا اشتهر ذكره، فأردت أن أذكر ما قيل فيه. والألف في قوله: ﴿أطهر﴾ ليس لتفضيل (٢) نكاح البنات على نكاح الرجال في الطهارة (٣)؛ لأنه لا طهارة في نكاح الرجال البتة، ولكن هذا كقولنا: الله أكبر ولم يكابر الله أحد، وكقول النبي - ﷺ - لعمر لما قال أبو سفيان يوم أحد: اعلُ (٤) هبل، قال: الله أعلى وأجل (٥)، ولا مقارنة بين الله وبين الصنم، ولهذا نظائر كثيرة.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي﴾، قال الكلبي عن ابن عباس (٦): لا تفضحون في أضيافي (٧)، يريد: أنهم إذا هجموا على أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحة، وقال بعض المفسرين (٨): ﴿وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي﴾ أراد لا
(١) انظر: "الكتاب" ٢/ ٣٩٧، "البحر المحيط" ٥/ ٢٤٧، "الدر المصون" ٤/ ١١٧ - ١١٨، "إملاء ما منَّ به الرحمن" ٢/ ٤٣.
(٢) هذا النص منقول عن الثعلبي ٧/ ٥١ ب.
(٣) ساقط من (ي).
(٤) في (ب): (أعلى).
(٥) أخرجه البخاري (٤٠٤٣) في المغازي، باب غزوة أحد: لما انكشف المسلمون، وظن المشركون أن النبي - ﷺ - قتل وفيه نداء أبي سفيان وإجابة عمر له، فقال أبو سفيان: اعل هبل. فقال - ﷺ -: أجيبوه، قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: فذكره، وأحمد ١/ ٤٦٣، ٤/ ٢٩٣.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ١٣٨.
(٧) ساقط من (ي).
(٨) الثعلبي ٧/ ٥١ ب، البغوي ٤/ ١٩٢.
499
تسوؤون (١) فيهم.
قال أبو بكر (٢): ومعنى هذا لا تفعلوا بأضيافي فعلا يلزمني الاستحياء منه؛ لأن مُضَيِّف الضيف يلزم الاستحياء من كل فعل قبيح يوصل إلى ضيفه، فتخزوني من باب الاستحياء؛ من قولهم: خزي الرجل خزاية إذا استحيا، والضيف هاهنا نائب عن الأضياف، كما ناب الطفل عن الأطفال في قوله: ﴿أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا﴾ [النور: ٣١]، ويجوز أن يكون الضيف مصدرًا مستغنى عن جمعه؛ كقولهم: رجال صوم، وسنذكر اشتقاق الضيف وفعله عند قوله: ﴿فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا﴾ [الكهف: ٧٧] إن شاء الله.
وقوله تعالى: ﴿أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ﴾، قال الكلبي (٣) وابن إسحاق (٤): [يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهو معنى قول ابن عباس (٥): رجل رشيد] (٦): يقول الحق ويرد هؤلاء عن أضيافي، وعلى هذا: (رشيد) بمعنى (مرشد)، قال أبو بكر (٧): ويجوز أن يكون (رشيد) بمعنى (مرشد) أي: أليس فيكم رجل مرشد قد أسعده (٨) الله بما منحه من
(١) في (ب): (تشوروني).
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١٣٨.
(٣) "تنوير المقباس" ص ١٤٣.
(٤) الطبري ١٢/ ٨٦، البغوي ٤/ ١٩٢، وقد روى هذا القول عن ابن عباس وأبي مالك كما في "الدر" ٤/ ٤٥٨، "زاد المسير" ٤/ ١٣٩.
(٥) الثعلبي ٧/ ٥١ ب، البغوي ٤/ ١٩٢.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٧) "زاد المسير" ٤/ ١٣٩.
(٨) في (ب): (أستعده).
500
الرشاد يصرفكم عن هذه الخزية؟ فيكون ﴿رَشِيدٌ﴾ هاهنا كالحكيم، في قوله: ﴿الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ [يونس: ١] بمعنى المحكم، والقول الأول عليه أهل التفسير.
٧٩ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ﴾، قال عطاء عن ابن عباس (١): يريد من شهوة، وقال الكلبي (٢): من حاجة. جعلوا تناول ما لا حاجة لهم فيه بمنزلة تناول ما لا حق لهم فيه.
وقال ابن (٣) إسحاق: لسن لنا بأزواج فنستحقهن، وهذا القول أولى؛ لأنه رد على ظاهر اللفظ حين قال لهم: ﴿هَؤُلَاءِ بَنَاتِي﴾. فقالوا: لسن لنا بأزواج، وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾. قال عطاء (٤): وإنك تعلم أنا نريد الرجال لا النساء، وقال الكلبي (٥): يريدون عملهم الخبيث.
٨٠ - وقوله تعالى: ﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً﴾. قال المفسرون (٦): أغلق لوط بابه والملائكة معه في الدار، وهو يناظرهم ويناشدهم من وراء الباب، وهم يعالجون تسور الجدار، فقال لوط: ﴿لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً﴾، قال
(١) البغوي ٤/ ١٩٢.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١٣٩، البغوي ٤/ ١٩٢.
(٣) في (ي): (أبو) والصحيح ما أثبته، وانظر: "زاد المسير" ٤/ ١٣٩، البغوي ٤/ ١٩٢، الثعلبي ٧/ ٥١ ب، الطبري ١٢/ ٨٦.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ١٣٩، ونقله الطبري عن السدي ١٢/ ٨٦، الثعلبي ٧/ ٥١ ب، البغوي ٤/ ١٩٢.
(٥) "تنوير المقباس" ص ١٤٣.
(٦) الثعلبي ٧/ ٥٢ أ، البغوي ٤/ ١٩٢، "زاد المسير" ٤/ ١٤٠، القرطبي ٩/ ٧٨.
501
ابن عباس (١) في رواية عطاء: لو أن معي جماعة أقوى بها عليكم، وقال في رواية الكلبي (٢): القوة: الولد وولد الولد، وعلى هذا جعل ما يتقوى به قوة، كما سمى العدة من السلاح قوة في قوله: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: ٦٠].
وقال آخرون: أراد بالقوة: القدرة على دفعهم ومنعهم، هذا معني قول مقاتل (٣)، قال: القوة البطش.
وقوله تعالى: ﴿أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ﴾، [قال ابن الأنباري] (٤): عطف آوي على القوة؛ لأن القوة مصدر، والمصدر يتأول بـ (أن) وتكون (أن) بمعناه (٥) فيقال: يعجبني قيامك ويعجبني أن تقوم، فنسق ﴿آوِي﴾ على القوة؛ لأن معه (أن) مُقدرة وتلخيصه: لو أن لي أتقوى أو أن آوي، فلما فقد المستقبل (أن) وقع بالزيادة التي في أوله ومثله (٦):
للبس عباءة وتقر عيني أحب إلى من لبس الشفوف
على تقدير لأن (٧) ألبس وأن (٨) تقر عيني، ومعنى ﴿آوِي﴾ أرجع
(١) "زاد المسير" ٤/ ١٣٩، البغوي ٤/ ١٩٢.
(٢) "تنوير المقباس" ص ١٤٣.
(٣) "تفسير مقاتل" ١٤٨ أ.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٥) في (ب): (معناه).
(٦) القائل ميسون بنت بحدل الكلبية، والبيت في: "الخزانة" ٣/ ٥٩٣، ٦٢١، السيوطي ص ٢٢٤، "الدر" ٢/ ١٠٠، "المحتسب" ١/ ٢٣٦، "شرح شذور الذهب" ص ٣٨١، "سر صناعة الإعراب" ١/ ٢٧٣، "شرح شواهد الإيضاح" ص ٢٥٠، "اللسان" (مسن) ٦/ ٤٢٠٥، "المقاصد النحوية" ٤/ ٣٩٧.
(٧) في (ي): (لا أن).
(٨) ساقط من (ي).
502
وأضم؛ يقال: فلان يأوي إلى قوة وإلى ثروة.
وقوله تعالى: ﴿إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾، الركن: كل ناحية قوية من نواحي الجبل والدار والقصر ونحو ذلك، وركن الرجل قوته وعُدده الذين يعتز بهم، وهو المراد في هذه الآية. قال ابن عباس (١) في قوله: ﴿إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾: يريد (٢): من العشيرة أو مؤمنين معي.
وقال ابن إسحاق (٣): شيعة تمنعني وعشيرة تنصرني، وهذا قول جميع المفسرين وأهل التأويل: أن المراد بالركن الشديد هاهنا العشيرة، قال قتادة (٤): وذكر لنا أن الله لم يبعث نبيًا بعد لوط إلا في عز من قومه ومنعة من عشيرته، وقد رُوي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "يرحم الله لوطًا لقد كان يأوي إلى ركن شديد، ولكنه -عليه السلام- عني العشيرة" (٥).
قال أبو بكر: أراد رسول الله - ﷺ - ما كان يرجع إليه لوط من عون الله له ودفع المكروه عنه، وروى الأثرم (٦) عن أبي عبيدة (٧) في قوله: ﴿إِلَى رُكْنٍ
(١) هذا القول رواه الطبري ١٢/ ٨٧ عن قتادة، وذكره البغوي ٢/ ١٩٢، وأخرجه ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٦٤ عن ابن عباس. وانظر: "الدر" ٣/ ٦٢١.
(٢) ساقط من (ب).
(٣) الطبري ١٢/ ٨٧، الثعلبي ٧/ ٥٢ أ.
(٤) الطبري ١٢/ ٨٧.
(٥) أخرجه البخاري (٣٢٧٢) كتاب: الأنبياء، باب: قول الله -عز وجل-: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ﴾ "الفتح" ٦/ ٤٧٣، وأخرجه مسلم رقم (١٥١) كتاب: الإيمان، باب: زيادة طمأنية القلب بتظاهر الأدلة، وفي الفضائل ح (١٥٢) ٤/ ١٨٣٩، والترمذي (٣١١٦) كتاب: التفسير، باب: ومن سورة يوسف. وقال حديث حسن، والطبري ١٢/ ٨٧ - ٨٨، والحاكم ٢/ ٥٦١. وقال: حديث صحيح على شرط مسلم.
(٦) هو: أبو بكر الأثرم صاحب الإمام أحمد.
(٧) "مجاز القرآن" ١/ ٢٩٤.
503
شَدِيدٍ}. قال: إلى عشيرة عزيزة (١) كثيرة منيعة وأنشد (٢):
أو (٣) آوي (٤) إلى رُكْنٍ مِنَ الأَرْكَانِ في عدد طَيسٍ ومجدٍ ثان
الطيس الكثير، والثاني المقيم. وجواب (لو) محذوف. قال محمد بن إسحاق (٥): لو أن لي بكم قوة معناه: لحُلْتُ بينكم وبين المعصية. وحذف الجواب هاهنا أبلغ (٦)؛ لأنه يحضر النفس ضروب المنع، واستقصاء هذا قد سبق في قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ﴾ [الأنعام: ٢٧] (٧). وهذه الآية بيان عن حال المحق إذا رأى منكرًا لا يمكنه إزالته من التحسير على قوة أو معين على دفعه لحرصه على طاعة ربه وجزعه من معصيته.
٨١ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ﴾. قال المفسرون (٨): لما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب والنصب بسبب الدفع عنهم، قالوا:
(١) في (ب): (شديدة).
(٢) بيتان من الرجز وهما بلا نسبة. انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٩٤، الطبري ١٢/ ٨٨، "زاد المسير" ٤/ ١٠٩، وهو فيها جميعًا هكذا (يأوي) وهو الصواب حتى لا ينكسر البيت.
(٣) ساقط من (ي).
(٤) في (ي): (يأوى).
(٥) "زاد المسير" ٤/ ١٣٩.
(٦) ساقط من (ي).
(٧) قال: وقد حذف الجواب تفخيمًا للأمر وتعظيمًا. وجاز حذفه لعلم المخاطب بما يقتضي. ونقل عن ابن جني ما يبين أن هذا أبلغ في اللغة من إظهار الجواب. انظر: "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٦٤٩.
(٨) الطبري ١٢/ ٩٠، الثعلبي ٧/ ٥٢ أ، البغوي ٤/ ١٩٢ - ١٩٣، "زاد المسير" ٤/ ١٤٠.
504
يا لوط إن ركنك لشديد، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود، وإنَّا رسل ربك لن يصلوا إليك، فافتح الباب ودعنا وإياهم، ففتح الباب فدخلوا، فضرب جبريل بجناحه وجوههم، فطمس أعينهم وأعماهم فصاروا لا يعرفون الطريق، ولا يهتدون إلى بيوتهم، وذلك قوله [تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ﴾ [القمر: ٣٧]، ومعنى] (١) ﴿لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ﴾ أي: بسوء ومكروه فإنَّا نحول بينهم وبين ذلك، وقالوا له: ﴿فَاسْرِ بِأَهْلِكَ﴾ وقرئ (٢) بقطع الألف وهما لغتان، يقال: سريت بالليل وأسريت.
وأنشد أبو عبيد لحسان (٣):
أسرت إليك ولم تكن تسري
فجاء باللغتين، وجاء بيت النابغة (٤):
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٢) قرأ ابن كثير ونافع ﴿فاسر بأهلك﴾ من سريت، بغير همز، وقرأ أبو عمرو وعاصم، وابن عامر وحمزة والكسائي ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ﴾ من أسريت. انظر: "السبعة" ص ٣٣٨، "إتحاف" ص ٢٥٩، "الكشف" ١/ ٥٣٥، "الحجة" ٤/ ٣٦٧، الطبري ١٢/ ٨٠، الثعلبي ٧/ ٥٢ ب.
(٣) عجز بيت، وصدره:
إن النضيرة ربة الخدر
"ديوانه" ص ٩٦، "اللسان" (سرا) ٤/ ٢٠٠٣، "المخصص" ٩/ ٤٨، ١٤/ ٢٤٠، "تاج العروس" (سرا) وبلا نسبة في "مقاييس اللغة" ٣/ ١٥٤.
(٤) صدر بيت للنابغة الذبياني، وعجزه:
تزجي الشمالُ عليه جامد البرد
وسرت إذا أمطرت، وقوله: (من الجوزاء سارية) كقولك: سقينا بنوء كذا وكذا، أي. أصابة المطر ليلًا، و (تزجي) تسوق وتدفع على الثور جامد البرد، انظر: =
505
سرت إليه من الجوزاء سارية
يروى بالوجهين سرت وأسرت.
قال الأزهري: وهذا ما لا أعلم فيه بين أهل اللغة اختلافًا، فمن قرأ بقطع الألف فحجته قوله: ﴿أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: ١] ومن قرأ بوصل الألف (١) فحجته قوله تعالى: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ﴾ [الفجر: ٤].
وقوله تعالى: ﴿بِأَهْلِكَ﴾، روى السدي عن (٢) أبي مالك: لم يؤمن بلوط إلا ابنتاه، الكبرى اسمها ربه والصغرى اسمها عروبة، فالأهل على هذا ابنتاه.
وقوله تعالى: ﴿بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ﴾، ذكرنا معنى القطع في سورة يونس (٣)، قال عطاء عن ابن (٤) عباس: [يريد: في ظلمة الليل.
وقال نافع بن الأزرق (٥) لعبد الله بن عباس] (٦): أخبرني عن قول
= "ديوانه" ص ١١ "شرح ابن السكيت"، "مجاز القرآن" ١/ ٢٩٥، "مختار الشعر الجاهلي" ١/ ١٥٠، "اللسان" (سرت) ٤/ ٢٠٠٣، القرطبي ٩/ ٧٩، "مجمل اللغة" ٣/ ٤٧٩.
(١) في (ب): ومن قرأ بالوصل.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١٤١، وذكر أن اسم الكبرى (ريَّة) بالياء المثناة.
(٣) عند قوله تعالى: ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا﴾ [الآية ٢٧]. وقال هناك: "القِطْع: اسم لما قطع فسقط، ويراد به هاهنا بعض من الليل".
(٤) الطبري ١٢/ ٩٣، عن ابن عباس قال: جوف الليل، وفي رواية أخرى: بطائفة من الليل. وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٦٥، وذكره عنهما السيوطي في "الدر" ٣/ ٦٢٣ وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
(٥) هو: نافع بن الأزرق بن قيس الحنفي، رأس الأزارقة وهي فرقة من الخوارج، كان أمير قومه وفقيههم صحب أول أمره ابن عباس وله معه أسئلة مشهورة. انظر: "تاريخ الطبري" ٥/ ٦١٣، "الأعلام" ٧/ ٣٥١.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
506
الله -عز وجل- (بقطع من الليل)، قال: هو آخر (١) الليل، بسحر (٢).
وقال قتادة (٣): بعد طائفة من الليل.
وقال بعض أهل المعاني: هو نصف الليل؛ فإنه قطع بنصفين.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ﴾، نهى من معه من الالتفات إذا خرجوا من قريتهم، قال مجاهد (٤): لا ينظروا وراءهم كأنهم تعبدوا بذلك.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا امْرَأَتَكَ﴾، قرئ بالنصب (٥) والرفع؛ فمن قرأ بالنصب -وهو الاختيار- جعلها مستثناة من الإهلال على معنى فأسر بأهلك إلا امرأتك، والذي يشهد بصحة هذه القراءة أن في قراءة (٦) عبد الله (فأسر بأهلك إلا امرأتك) وليس بينهما ﴿وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ﴾، ومن رفع المرأة حمله على (ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك)، فإن قيل: على هذا هذه القراءة توجب أنها أمرت بالالتفات؛ لأن القائل إذا قال: لا يقم
(١) ابن الأنباري في "الوقف والابتداء" ١/ ٨٥، وانظر: "الدر" ٣/ ٦٢٣، "زاد المسير" ٤/ ١٤٢، مسائل نافع بن الأزرق في "الإتقان" ١/ ١٦٧.
(٢) في (ي): (سحرًا).
(٣) الطبري ١٢/ ٩٣، عبد الرزاق ٢/ ٣٠٩.
(٤) الطبري ١٢/ ٩٣، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٦٥، وابن المنذر كما في "الدر" ٣/ ٦٢٣، "زاد المسير" ٤/ ١٤٢.
(٥) قرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالنصب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالرفع، انظر: "السبعة" ص ٣٣٨، "الكشف" ١/ ٥٣٦، "إتحاف" ص ٢٥٩، الطبري ١٢/ ٨٠، الثعلبي ٧/ ٥٢ ب.
(٦) الطبري ١٢/ ٨٩، الثعلبي ٧/ ٥٢ ب، البغوي ٤/ ١٩٣، القرطبي ٩/ ٨٠، "الدر المنثور" ٣/ ٦٢٣.
507
منكم أحد إلا زيد، كان أمر زيدًا بالقيام.
قال أبو بكر (١): معنى (٢) ﴿إِلَّا﴾ هاهنا الاستثناء المنقطع على معنى ولا يلتفت منكم أحد لكن امرأتك تلتفت، فيصيبها ما أصابهم، فإذا كان الاستثناء منقطعًا كان التفاتها بمعصية منها لله -عز وجل-، ويؤيد هذه القراءة ما قال قتادة (٣): ذكر لنا أنها كانت مع لوط حين خرج من القرية، فلما سمعت [هدة العذاب] (٤) التفتت وقالت: يا قوماه، فأصابها حجر فأهلكها. وقال مقاتل بن سليمان (٥): ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك فإنها تلتفت وهذا يدل على أنه خرج بامرأته ثم التفتت، ويقوى وجه الرفع؛ لأن من نصب لا يُجوِّز أن تكون خارجة (٦) مع أهله؛ لأن الاستثناء يكون من الأهل، كأنه أمر لوط بأن يخرج بأهله ويترك هذه المرأة فإنها هالكة في جملة من يهلك.
قال أبو بكر: والاختيار النصب؛ لأن الناصبين أخرجوا المرأة من الأهل، فكان الاستثناء متصلًا، والرافعين جعلوا الاستثناء منقطعًا، والاتصال أولى من الانقطاع.
(١) "زاد المسير" ٤/ ١٤٢.
(٢) في (ي): (معناه).
(٣) "زاد المسير" ٤/ ١٤٢، الطبري ١٢/ ٩٠ - ٩١.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٥) "تفسير مقاتل" ٤٨ أ، الطبري ١٢/ ٨٩، الثعلبي ٧/ ٥٢ ب، البغوي ٤/ ١٩٣، "زاد المسير" ٤/ ١٤٢.
(٦) في (ي): حاله.
508
قال أبو علي (١): ويجوز في قول من نصب أن يكون الاستثناء من ﴿وَلَا يَلْتَفِتْ﴾ على قول من قال (ما جاءني أحد إلا زيدًا) وقد بينا هذا في قوله: ﴿مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ﴾ في قراءة من قرأ: ﴿قَلِيلًا﴾ (٢)، وإن جعلت الاستثناء من ﴿فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ﴾ لم يكن إلا النصب، ووجه التفسير في قراءة من قرأ بالنصب ما قاله المفسرون (٣): أن الملائكة قالوا للوط فأسر بأهلك إلا امرأتك فلا تسر بها وخلفها مع قومها فإنَّ هواها إليهم.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ﴾، الكناية في قوله: ﴿إِنَّهُ﴾ كناية عن الشأن والأمر، تأويلها فإنَّ الأمر مصيبها ما أصابهم.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ﴾، [أي: للعذاب. قال عامة المفسرين (٤): لما قالوا للوط إن موعدهم الصبح] (٥)، قال: أريد أعجل من ذلك بل الساعة يا جبريل، فقال (٦) له: أليس الصبح بقريب، قالوا: فخرج لوط بأهله عند طلوع الفجر، فلما طلع الفجر احتمل جبريل مدينتهم حتى أدناها من السماء بما فيها ثم نكسوا على رءوسهم وأتبعهم الله الحجارة.
٨٢ - فذلك قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا﴾. قال ابن عباس (٧):
(١) "الحجة" ٤/ ٣٧٠.
(٢) قرأ بهذه القراءة ابن عامر، انظر: "السبعة" ص ٢٣٥، "الكشف" ١/ ٣٩٢.
(٣) الثعلبي ٧/ ٥٢ ب، الطبري ١٢/ ٨٩ ورجحه، البغوي ٤/ ١٩٣.
(٤) الثعلبي ٧/ ٥٢ ب، "زاد المسير" ٤/ ١٤٢، البغوي ٤/ ١٩٣، القرطبي ٩/ ٨١.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٦) في (ي): (فقالوا).
(٧) الثعلبي ٧/ ٥٢ ب، "زاد المسير" ٤/ ١٤٣، البغوي ٤/ ١٩٣، القرطبي ٩/ ٨١.
509
عذابنا، وعلى هذا يكون الأمر نفس الإهلاك.
وقال آخرون (١): يعني: جاء أمرنا الملائكة بالعذاب. ﴿جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا﴾، قال ابن عباس وعامة المفسرين (٢): أدخل جبريل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط حتى قلعها وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير، ونباح الكلاب، وصياح الديوك، لم ينكفئ لهم جرة، ولا ينكسر لهم إناء، ثم غشاها بالجناح الآخر بالحجارة، فذلك قوله تعالى: ﴿وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى﴾ [النجم: ٥٣]، يريد: أهوى بها جبريل ﴿فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى﴾ [النجم: ٥٤]، يريد غشاها جبريل بالحجرة وكانت خمس مدائن فدمرت وقلبت ظهرًا لبطن إلا (زغر) (٣) وحدها تركها الله فضالا منه لعيال لوط، والكناية ﴿عَالِيَهَا﴾ تعود إلى المؤتفكة والمؤتفكات وهي مذكورة في موضع من القرآن وإن لم تذكر هنا، فإذا ذكرت قصتهم وأعيدت الكناية إليها عرف ذلك ويستغنى عن إعادتها.
وقوله تعالى: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا﴾، الإمطار: إحدار المطر من السماء، وأنزلت الحجارة على هؤلاء بدل المطر، والكناية في عليها يجوز أن تعود على القرية (٤) كما عادت في ﴿عَالِيَهَا﴾، ويجوز أن تعود على قوم لوط؛ لأن العرب تُعيد الهاء والألف على جميع الذكران إذا كان غير مختص
(١) الطبري ١٢/ ٨٩، "زاد المسير" ٤/ ١٤٣.
(٢) الثعلبي ٧/ ٥٢ ب، البغوي ٤/ ١٩٣، ابن عطية ٧/ ٣٦٩، "زاد المسير" ٤/ ١٤٣، القرطبي ٩/ ٨١.
(٣) زُغَر بوزن: زُفَر، قرية بمشارف الشام، وقيل: زُغَر اسم بنت لوط -عليه السلام-، نزلت بهذه القرية فسميت باسمها. انظر: "معجم البلدان" ٣/ ١٤٢، ١٤٣.
(٤) في (ي): (قوم لوط).
510
بالواو والنون، و [الياء والنون] (١)، تقول: الرجال لقيتها والقوم حضرتها، قال الله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ [الشعراء: ١٠٥]. فأنث الفعل، ويؤكد هذا الوجه قوله في الحجر: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ﴾ [آية: ٧٤] فكنى عنهم بالهاء والميم.
وقوله تعالى: ﴿حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ﴾؛ اختلفوا في السجيل، والذي عليه أعظم أهل التفسير أنه معرب عن (سنك كل) (٢) وهو قول ابن عباس (٣) وقتادة (٤) وسعيد بن جبير (٥).
قال أهل اللغة (٦): هذا فارسي، والعرب لا تعرف هذا.
قال أبو إسحاق (٧): والذي عندي في هذا التفسير أنه فارسي أعرب، ومن كلام الفرس ما لا يحصى مما قد أعربته العرب نحو جاموس وديباج، ولا ينكر أن يكون هذا مما أعرب.
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٢) وضع على الكاف من كلا الكلمتين ثلاث نقط وذلك علامة على أن الكاف تنطق كالجيم القاهرية في اللغة الفارسية. انظر كتاب: "كيف تتعلم الفارسية".
(٣) أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر كما في "الدر" ٣/ ٦٢٤، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٦٨، والثعلبي ٧/ ٥٣ أ، البغوي ٤/ ١٩٤، القرطبي ٩/ ٨٢.
(٤) المروي عن قتادة قوله السجيل: الطين، انظر: الطبري ١٢/ ٩٤، عبد الرزاق ٢/ ٣٠٩، وأبا الشيخ كما في "الدر" ٤/ ٣٦٤، البغوي ٤/ ١٩٤، القرطبي ٩/ ٨٢، الثعلبي ٧/ ٥٣ أ.
(٥) الطبري ١٢/ ٩٤، الثعلبي ٧/ ٥٣ أ، "زاد المسير" ٤/ ١٤٤، البغوي ٤/ ١٩٤، القرطبي ٩/ ٨٢.
(٦) "تهذيب اللغة" (سجل) ٢/ ١٦٣٤.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٠.
511
وقد أعاد الله تعالى ذكر هذه الحجارة فقال: ﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ﴾ فقد سمَّى للعرب ما عني بسجيل، وهذا القول اختيار الفراء (١)، وابن قتيبة (٢) قالا: ﴿مِنْ سِجِّيلٍ﴾ من طين قد طبخ حتى صار كالآجر فهو (سنك كل) بالفارسية، ونحو هذا قال الليث (٣) في تفسير السجيل: إنه حجارة كالمدر وهو دخيل معرب، وقال الضحاك (٤): يعني: الآجر.
وقال الحسن (٥): كأن أصل الحجارة طينًا، فشددت. وهذه الأقوال كلها سواء.
وقال ابن زيد (٦): ﴿مِنْ سِجِّيلٍ﴾ أي: من السماء الدنيا وهي تسمى سجيل.
وقال عكرمة (٧): هو بحر في الهواء معلق بين الأرض والسماء منه أنزلت الحجارة.
وحكى الزجاج (٨) عن بعضهم (٩) أنه فعيل من أسجلته أي: أرسلته،
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٢٤.
(٢) "مشكل القرآن وغريبه" ١/ ٢١٢.
(٣) "اللسان" (سجل) ٤/ ١٩٤٦.
(٤) الثعلبي ٧/ ٥٣ أ، "زاد المسير" ٤/ ١٤٤، البغوي ٤/ ١٩٤، القرطبي ٩/ ٨٢.
(٥) الطبري ١٢/ ٩٥، الثعلبي ٧/ ٥٣ أ، البغوي ٤/ ١٩٤، القرطبي ٩/ ٨٢.
(٦) الطبري ١٢/ ٩٤، الثعلبي ٧/ ٥٣ أ، "زاد المسير" ٤/ ١٤٤، البغوي ٤/ ١٩٤، القرطبي ٩/ ٨٢.
(٧) الثعلبي ٧/ ٥٣ أ، "زاد المسير" ٤/ ١٤٤، القرطبي ٩/ ٨٢.
(٨) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧١.
(٩) ساقط من (ي).
512
وكأنها (١) مرسلة عليهم، قال: وقيل سجيل: كقولك من سجل أي: مما كتب لهم أن يعذبوا بها، قال: وهذا القول أحسن الأقوال عندي.
وقال أبو عبيدة (٢): السجيل عند العرب: الشديد، وأنشد لابن مقبل (٣):
ضربًا تواصى به الأبطال سجينًا
ورد هذا القول عليه من وجهين: أحدهما: قوله ﴿مِنْ سِجِّيلٍ﴾، ولو كان معناه ما ذكر لقيل حجارة سجيلا، والآخر: ما ذكره ابن قتيبة (٤)، فقال: لست أدرى ما (سجيل) من (سجين) وذلك باللام وهذا بالنون، وإنما سجين في بيت ابن مقبل فعيل من سجنت أي: حبست، كأنه ضربٌ يثبت صاحبه بمكانه أي: يحبسه مقتولا، وفعيل يأتي لمن دام منه الفعل، نحو فسيق وسكيت كذلك سجين ضرب يدوم منه الإثبات والحبس.
وأما ابن الأعرابي (٥) فإنه رواه سخينًا أي: سخنًا يعني: حارًّا.
(١) في (ب): (وكأنه).
(٢) "مجاز القرآن" ١/ ٢٩٦.
(٣) عجز بيت لابن مقبل، وصدره:
وَرَجلة يضربون البَيْض عن عُرُض
رجلة: جمع رجل، البيض: جمع بيضة، هو الحديد الذي يلبس للوقاية في الحرب، وفي العجز "تواصت" انظر: "ديوانه" ص ٣٣٣، "مجاز القرآن" ١/ ٢٩٦، الطبري ١٢/ ٩٤، "اللسان" (سجل) ٤/ ١٩٤٦، "جمهرة أشعار العرب" ص ٣١٠، "منتهى الطالب" ص ٤٤، "المعاني الكبير" ص ٩٩١، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٦٣٤، ٢/ ١٦٣٦، "جمهرة اللغة" ص ٤٦٤، ١١٩٢، "مقاييس اللغة" ٣/ ١٣٧، "مجمل اللغة" ٢/ ٤٨٧.
(٤) "مشكل القرآن وغريبه" ص ٢١١.
(٥) "تهذيب اللغة" (سجن) ٢/ ١٦٣٦.
513
قال أبو بكر بن الأنباري (١): وهذا الإلزام لا يفسد قوله، أما زيادة (من)، فإن سجيلا وصف لموصوف مضمر معناه حجارة من عذاب سجيل، فلا ينكر على هذا دخول (من) ويجوز أن تدخل (من) في الكلام زيادة للتوكيد، كقوله تعالى: ﴿وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾ [محمد: ١٥]، وقوله تعالى: ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ [الأحقاف: ٣١]، وقوله: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ﴾ [النور: ٣٠]، وأما إنكار ابن قتيبة عليه فقد فسر أبو عمرو (٢) السجين في بيت ابن مقبل بأنه الشديد، فإذا صح الشديد في معنى السجين لم ينكر إبدال النون باللام كقول الشاعر (٣):
بكل مُدجَّج كالليث يسموا على أوصال ذيَّال رِفَنِّ
أردا: رفل فأبدل اللام بالنون (٤).
وقوله تعالى: ﴿مَنْضُودٍ﴾ هو مفعول من النضد، وهو وضع الشيء بعضه على بعض، ومعناه في قول أكثر المفسرين: الذي يتلو بعضه بعضًا عليهم، فذلك نضده، ونحو هذا قال الزجاج (٥)، وقال قتادة (٦):
(١) هذا القول ذكره النحاس في "معاني القرآن" ٣/ ٣٧٠.
(٢) "تهذيب اللغة" (سجل) ٢/ ١٦٣٤.
(٣) النابغة الذبياني في "ديوانه" ص ١٣٨، وبلا نسبة في "ديوان الأدب" ٢/ ٣، ونسبه في "اللسان" (رفن) ٣/ ١٦٩٧ إلى الجعدي وهو في "ديوانه" ٢٤٩، "تهذيب اللغة" ١٤٤٦ (زمن)، "مقاييس اللغة" ٢/ ٣٦٦، قال البطليوسي في "الاقتضاب" ص ٣٣٩: هذا البيت للنابغة الجعدي، وهو من الشعر المنحول له.
(٤) ساقط من (ي).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٢.
(٦) الطبري ١٢/ ٩٥، الثعلبي ٧/ ٥٣ ب، "زاد المسير" ٤/ ١٤٥، القرطبي ٩/ ٨٣، عبد الرزاق ٢/ ٣٠٩.
514
﴿مَنْضُودٍ﴾ المصفوف، وهذا القول كالقول الأول. وقال الربيع (١): هو الذي نضد بعضه على بعض، يعني: حتى صار حجرًا، يريد: أنه قد جمع أجزاؤه، ونحو هذا قال مقاتل بن سليمان (٢)، ﴿مَنْضُودٍ﴾: الملزق بعضه ببعض، وقال أبو بكر الهذلي (٣): معناه مُعَدّ للظَّلَمة. فقد حصل في المنضود ثلاثة أقوال:
أحدها: أن الحجارة بعضها فوق بعض في النزول تأتي تباعًا.
الثاني: أن كل حجر منضود بجمع أجزائه، حتى صار بالقدر الذي أراد الله أن يكون على ذلك القدر.
الثالث: أنها حجارة من سجيل منضود بعضه فوق بعض في السماء، مخلوق للظلمة، معد لهم، والذي أمطر (٤) على قوم لوط كان من جملة تلك الحجارة المعدة التي نضد بعضها فوق بعض، وفي قوله ﴿مَنْضُودٍ﴾ دليل على صحة القول الأول في سجيل، وهو قول أكثر المفسرين؛ لأن المنضود من صفة السجيل، وإنما يصح أن يكون وصفًا له إذا كان السجيل مُعَرَّبًا من (سك كل) وعلى سائر الأقوال لا يصح أن يكون المنضود من
(١) الطبري ١٢/ ٩٥، الثعلبي ٧/ ٥٣ ب، "زاد المسير" ٤/ ١٤٥، القرطبي ٩/ ٨٣، عبد الرزاق ٩/ ٢٠٥.
(٢) "تفسير مقاتل" ١٤٨ أ.
(٣) الطبري ١٢/ ٩٥، الثعلبي ٧/ ٥٣ ب، القرطبي ٩/ ٨٣.
وأبو بكر الهذلي هو: البصري، اسمه سُلمى بن عبد الله، وقيل: اسمه روح، روى عن الحسن وابن سيرين والشعبي وعكرمة وهو ضعيف الحديث. توفي سنة ١٦٧ هـ. انظر: "ميزان الاعتدال" ٦/ ١٠٠٥، "تهذيب التهذيب" ٤/ ٤٩٨.
(٤) في (ي): (أمطرنا).
515
نعت السجيل، إلا أن يقال على بُعد إنَّ المنضود من نعت قوله حجارة ولكن أجرِي في اللفظ والإعراب على سجيل بحق الجوار، كقولهم (١):
حُجْر ضَبٍّ خَرِبٍ.
وكقوله (٢):
كبيرُ أناسٍ في بجادٍ مزمَّلِ
٨٣ - قوله تعالى: ﴿مُسَوَّمَةً﴾ هي من نعت قوله: ﴿حِجَارَةً﴾ ومعناها المعلمة، ومضى الكلام في مثلها عند قوله: ﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾ [آل عمران: ١٢٥] (٣). وقوله: (مسومين) (٤).
واختلفوا في كيفية تلك العلامة، فقال الحسن (٥) والسدي (٦):
(١) الشاهد أنهم أجروا خرب على ضب، وهو في الحقيقة صفة للحجر؛ لأن الضب لا يوصف بالخراب. انظر: "الإنصاف" لابن الأنباري ص ٨٣.
(٢) عجز بيت لامرئ القيس، وصدره:
كأن ثبيرًا في عرانين وَبْله
انظر: "ديوانه" ص ١٢٢، السيوطي ص ٢٩٨، "الخزانة" ٢/ ٣٢٧، ٣/ ٦٣٩، "الخصائص" ١/ ١٩٢، ٣/ ٢٢١، "المحتسب" ٢/ ١٣٥، "أمالي ابن الشجري" ١/ ١٣٤، "تذكرة النحاة" ص ٣٠٨، "اللسان" (زمل) ٣/ ١٨٦٤، "مغني اللبيب" ٢/ ٥١٥.
(٣) وذكر هنا أقوالًا في معنى (المسومة):
١ - الواعية.
٢ - المعلمة.
٣ - الحسان.
(٤) قال في هذا الموضع: أي معلمين، قد سوَّموا فهم مسوّمين، والسُّومة العلامة يفرق بها الشيء من غيره.
(٥) الثعلبي ٧/ ٥٣ ب، البغوي ٤/ ١٩٤.
(٦) الطبري ١٢/ ٩٦، الثعلبي ٧/ ٥٣ ب، البغوي ٤/ ١٩٤.
516
مختومة، وهو اختيار أبي عبيدة (١)، والقتبي (٢) قالا: كان عليها أمثال الخواتيم.
وقال قتادة وعكرمة (٣): كان بها نضح من حمرة، وهو قول أبي صالح (٤)، والحسن (٥)، واختيار الفراء (٦)؛ قال أبو صالح: رأيت منها عند أم هانئ، وهي حجارة فيها خطوط (٧) حمر على هيئة الجَزْع.
قال الحسن: كانت معلمة ببياض وحمرة، وقال الفراء: زعموا أنها كانت مخططة بحمرة في بياض، وذلك تسويمها، وأجمل ابن جريج (٨) القول في تلك العلامة ولم يذكر كيفيتها فقال: كانت (٩) عليها سيما لا تشاكل (١٠) حجارة الأرض، واختاره الزجاج (١١) قال: مسومة بعلامة يعلم بها أنها ليست من حجارة أهل الدنيا.
(١) في (ب): (عبيد)، انظر: "مجاز القرآن" ١/ ٢٩٧.
(٢) هو ابن قتيبة، انظر: "مشكل القرآن وغريبه" ص ٢١٣.
(٣) الطبري ١٢/ ٩٥، عبد الرزاق ٢/ ٣٠٩، أبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٦٢٥، "زاد المسير" ٤/ ١٤٥.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ١٤٥.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ١٤٥.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٢٤.
(٧) في (ب): (خطط).
(٨) الطبري ١٢/ ٩٥، الثعلبي ٧/ ٥٣ ب، "زاد المسير" ٤/ ١٤٦، البغوي ٤/ ١٩٤ وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٦٢٥.
(٩) ساقط من (ج).
(١٠) ساقط من (ي).
(١١) "معانى القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٢.
517
قال أهل المعاني: جعل فيها علامات تدل على أنها معدة للعذاب، وذلك أملأ للنفوس وأهول في الصدور، وقال الربيع (١): مكتوب على كل حجر اسم من رمي به.
وقوله تعالى: ﴿عِنْدَ رَبِّكَ﴾ أي: في خزائنه التي لا يُتصرف في شيء منها إلا بإذنه (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ﴾، يعني: كفار قريش، قال مجاهد (٣): يرهبهم بها، وقال قوم (٤): يعني كل ظالم وكافر من ذلك الوقت إلى يوم القيامة، قال قتادة (٥): والله ما أجار الله منها ظالمًا بعد قوم لوط، وحكى الفراء (٦): يعني: قوم لوط، أي أنها لم تكن لتخطئهم.
قال ابن الأنباري على هذا القول: وإنما ذكر هذا بعد تبيين الله تعالى نزول العذاب بهم توكيدًا للمعنى السابق، كما قال: ﴿الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: ٤٦]، والأكثرون على أن المراد به من ظالمي هذه الأمة
(١) الثعلبي ٧/ ٥٣ ب وعزاه السيوطي لابن جرير وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٦٩، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٦٢٥، وفي الطبري ١٢/ ٩٦ عن الربيع قال: عليها سيما خطوط. وكذا عند ابن أبي حاتم.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١٤٦.
(٣) الطبري ١٢/ ٩٦، الثعلبي ٧/ ٥٣ ب، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٦٩، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٦٢٥.
(٤) رُوي عن عكرمة أيضًا كما في الطبري ١٢/ ٩٦، والربيع أخرجه ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٧٠، وأبو الشيخ عنه كما في "الدر" ٣/ ٦٢٥، وغيرهم. البغوي ٤/ ١٩٤.
(٥) الطبري ١٢/ ٩٦، الثعلبي ٧/ ٥٣ ب، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٧٠، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٦٢٦، والبغوي ٤/ ١٩٤، و"زاد المسير" ٤/ ١٤٦.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٢٥.
518
وهم كفارها، روي عن أنس أنه قال: سأل رسول الله - ﷺ - جبريل (١) عن هذا فقال: يعني ظالمي أمتك، ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة (٢).
٨٤ - قوله تعالى: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ﴾ الآية، قد ذكرنا في سورة [الأعراف: ٨٥] أن (مدين) اسم لابن إبراهيم (٣)، ثم صار اسمًا للقبيلة، وكثير من المفسرين يذهب إلى أن (مدين) اسم مدينة بناها مدين بن إبراهيم. قال ابن الأنباري: وإلى هذا المعنى ذهب الفراء (٤) وأنشد (٥):
رهبان مدينَ لو رأوك تنزلوا والعُصْمُ من شَعَفِ العقول الفارد
قال الزجاج (٦): والمعنى على هذا: وأرسل إلى أهل مدين فحذف الأهل.
(١) ساقط من (ب).
(٢) أخرجه الطبري عن قتادة ١٢/ ٩٦، كما سبق، وأخرجه أيضًا عن أبي بكر الهذلي قال: يقول: "وما هي من الظالمين ببعيد" فلا يأمنها منهم ظالم، ١٥/ ٤٤٠ رقم (١٨٤٤٧).
(٣) في (ي): (ابن إبراهيم).
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٣٠٤، ومدين مدينة على بحر القُلزُم محاذية لتبوك على نحو من ست مراحل. انظر: "معجم البلدان" ٥/ ٧٧.
(٥) القائل هو كثير، و (العُصْمُ) جمع الأعصم وهو الوعل، و (العقول) جمع عقل وهو الملجأ وشعف العقول رءوسها وأعاليها، والفارد: الوعل المسن أو الشاب، "معجم البلدان" (مدين) ٥/ ٧٧، "معاني القرآن" ٢/ ٣٠٤، وينسب لجرير وهو في "ديوانه" ص ٣٠٨، "اللسان" (رهب) ٣/ ١٧٤٨، "تاج العروس" (رهب) ٢/ ٤٢، وقافيته (الفادر).
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٢.
519
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾، نهاهم عن التطفيف وبخس الحق في المكيال، وهو ما يكال به، والميزان وهو ما يوزن به، ونقص المكيال أن يجعله على حد هو أنقص مما هو المحدود والمعهود فيما بينهم، ونقص الميزان أن يجعل السنجات (١) التي يوزن بها أخف، وما يوزن به فهو ميزان، والسنجات يوزن بها (٢)، ولا يتصور نقص الميزان في الكفتين.
وقوله تعالى: ﴿إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾. قال عامة المفسرين (٣): يعني النعمة والخصب وكثرة المال وزينة الدنيا، ومعنى قوله: ﴿إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ﴾ بعد نهيهم (٤) عن التطفيف يحتمل وجهين:
أحدهما: ما قال المفسرون (٥) أنه حذرهم غلاء السعر وزوال النعمة [إن لم يتوبوا فكأنه قال: لا تطففوا فيحل بكم العذاب وزوال النعمة] (٦).
والآخر: ما ذكره الفراء (٧) قال: أراد: لا تنقصوا المكيال وأموالكم كثيرة يعني بعد أن أنعم الله عليكم برخص السعر وكثرة المال، فأي حاجة
(١) السنجات التي توضع في "الميزان" لتبين قدر الموزون، ولقال: صنجة بالصاد وبالسين أفصح، فارسي معرب. انظر: "تهذيب اللغة" (سنج) ٢/ ١٧٦٨، "اللسان" (سنج) ٤/ ٢١١٢.
(٢) ساقط من (ي).
(٣) الطبري ١٢/ ٩٩، الثعلبي ٧/ ٥٤ أ، "زاد المسير" ٤/ ١٤٧.
(٤) في (ي): (نهيكم).
(٥) روى الطبري ١٢/ ٩٨ - ٩٩ هذا القول عن ابن عباس والحسن، البغوي ٤/ ١٩٥، "زاد المسير" ٤/ ١٤٧.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٧) "معاني القرآن" ٢/ ٢٥.
520
بكم إلى التطفيف وسوء الكيل والوزن؟
وقوله تعالى: ﴿وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ﴾، توعدهم بعذاب يحيط بهم، فلا يفلت منهم أحد، والمحيط من صفة اليوم في الظاهر، وهو في المعنى من صفة (١) العذاب (٢)، وذلك أن يوم العذاب إذا أحاط بهم [فقد أحاط بهم] (٣) العذاب (٤).
٨٥ - قوله تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ﴾ أي: أتموها بالعدل، والإيفاء: الإتمام، والوفاء: التمام، وكل شيء بلغ التمام فقد وفي، وهذا يدل على صحة التفسير الذي ذكرنا في قوله: ﴿وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ﴾؛ لأنه قال أوفوا المكيال والميزان، ولو أراد إيفاء المكيل والموزون لقال: أوفوا بالمكيال والميزان.
٨٦ - قوله تعالى: ﴿بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ﴾. قال ابن عباس (٥): ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير من البخس والتطفيف، يعني: من تعجيل النفع بالبخس في المكيال والميزان، والمعنى على هذا القول: الذي يبقيه الله لكم من الحلال عند إعراضكم عن الحرام: أبقى (٦) لأموالكم في الدنيا وأصلح لأحوالكم في الآخرة.
(١) في (ي): (الموصوف).
(٢) ساقط من (ي).
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) الطبري ١٢/ ١٠١ نحوه.
(٥) ذكره الطبري ١٢/ ١٠١ ثم قال: وهذا قول رُوي عن ابن عباس بإسناد غير مرتضى عند أهل النقل، الثعلبي ٧/ ٥٤ أ، البغوي ٤/ ١٩٥، "زاد المسير" ٤/ ١٤٨.
(٦) في (ي): (أنمى).
521
وقال الحسن (١) ومجاهد (٢): بقية الله: طاعة الله، وعلى هذا معني البقية: الطاعة والمسارعة إلى الخيرات؛ وذلك لأنه يبقى ثوابها أبدًا. وقال قتادة (٣): حظكم من ربكم خير لكم.
قال ابن الأنباري: وتفسير البقية على هذا التأويل حظهم من الله وما يجب عليهم من تطلب (٤) رضاه بما يتعبدهم به، سميت بقية؛ لأنها تبقى ولا تبيد.
وقوله تعالى: ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾، قال أهل المعاني (٥): شرط الإيمان في كونه خيرًا لهم؛ لأنهم (٦) إن كانوا مؤمنين بالله عرفوا صحة ما يقول، وأيضًا فإنه يكون خيرًا لهم إذا كانوا مؤمنين.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾، ذهب بعضهم أنه قال هذا؛ لأنه لم يؤمر بقتالهم وإكراههم (٧) على الإيمان، وقد أحكمنا شرح هذا في
(١) المروي عن الحسن هو قوله: (رزق الله خير لكم من بخسكم الناس) أخرجه أبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٦٢٧، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٧٢.
(٢) الطبري ١٢/ ١٠٠، الثعلبي ٧/ ٥٤ أ، البغوي ٤/ ١٩٥، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٧٢.
(٣) الطبري ١٢/ ١٠١، عبد الرزاق ٢/ ٣١١، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٧٢، وأبو الشيخ، كما في "الدر" ٣/ ٦٢٦، "زاد المسير" ٤/ ١٤٩.
(٤) في (ي): (التطلب).
(٥) "زاد المسير" ٤/ ١٤٩.
(٦) ساقط من (ي).
(٧) يفهم من هذا أن من الأنبياء من أمر أن يكره قومه على الإيمان، ونصوص الكتاب والسنة بخلاف ذلك، قال تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: ٢٥٦]. وقال: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ٩٩]. وقال: ﴿أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾ [هود: ٢٨]. فالدين ليس فيه إكراه لأنه يلزم فيه الإختيار، فلو آمن ظاهرًا خوفًا أو طمعًا فلا يصح إيمانه. انظر: الطبرى ١٢/ ٢٨ - ٢٩، ١٠١.
522
سورة الأنعام في قوله: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الأنعام: ١٠٤] (١)، في آخر هذه الآية قال بعض أهل المعاني: إن شعيبًا دعاهم إلى حفظ النعمة بترك المعصية، ثم قال: ﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ أي: لا يحفظ النعمة عليكم إلا الله -عز وجل-، ولست الذي أحفظها عليكم فاتقوه بطاعته يحفظها عليكم.
٨٧ - وقوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾، وتقرأ (أصلاتك) على واحدة، وتوجيه القراءتين (٢) ذكرناه في سورة براءة (٣)، قال عطاء عن ابن عباس (٤): يريدون دينك يأمرك، وعلى
(١) وخلاصة ما ذكره أنه قد جاءهم الحق الواضح البيّن الذي لا يحتاج معه إلى إكراه لأن مهمته البلاغ.
(٢) قرأ حفص وحمزة والكسائي بالتوحيد، وقرأ الباقون بالجمع، وحجة من وحّد أن (الصلاة) بمعنى الدعاء، والدعاء صنف واحد وهي مصدر والمصدر يقع للقليل والكثير بلفظه، وحجة من جمع أنه قدر أن الدعاء مختلف أجناسه وأنواعه فجمع المصدر لذلك، انظر: "الكشف" ١/ ٥٠٧، "السبعة" ص ٣١٧، "إتحاف" ص ٢٥٩.
(٣) عند قوله تعالى: ﴿إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾ [براءة: ١٠٣]. ونقل في توجيه القراءة ما ذكره أبو علي حيث قال: "الصلاة مصدر يقع على الجميع والمفرد بلفظ واحد، كقوله سبحانه: ﴿لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ [لقمان: ١٩]، فإذا اختلفت جاز أن يجمع، لاختلاف ضروبه، كما قال: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾. ومن المفرد الذي يراد به الجمع قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً﴾ [الأنفال: ٣٥]، وقوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ [البقرة: ٤٣]، والمصدر إذا سمي به صار بالتسمية وكثرة الاستعمال كالخارج عن حكم المصادر، وإذا جمعت المصادر إذا اختلفت نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ﴾ فأنْ يُجْمَع ما صار بالتسمية كالخارج عن حكم المصادر أجدر.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ١٤٩ عن عطاء.
523
هذا كنى عن الدين بالصلوات؛ لأنها من الدين مما كانوا يرونه يفعلها تدينًا، والمعنى: أفي دينك الأمر بذا؟ وهو معنى قول الحسن (١)، ورُوي عن ابن عباس (٢) أيضًا أنه قال: كان شعيب كثير الصلاة (٣) لذلك قالوا هذا.
وقوله تعالى: ﴿أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾. قال الزجاج (٤): وهذا دليل (٥) على أنهم كانوا يعبدون غير الله -عز وجل-. قال صاحب النظم: قوله: ﴿أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ﴾ وليس للصلاة أمر ولا نهي، وهذا يحمل على أن تكون الصلاة (٦) سببًا للفعل المتصل بها، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ [العنكبوت: ٤٥] من أجل صلاته؛ لأن الصلاة من الإيمان والإيمان مانع منهما، فقد صارت الصلاة سببًا للامتناع منهما، فيصح على هذا الترتيب أن يقال: الصلاة مانعة من ذلك وآمرة به، وكذلك قوله: ﴿أَصَلَاتُكَ﴾ أي: من أجل أنك تصلي تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا، أي: صلاتك تحملك على ذلك؟ فلذلك جاز أن يضاف الأمر إليها، فأما قوله: ﴿تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ﴾ أوقع الأمر على شعيب وهو في المعنى واقع على قومه، والتأويل: أصلاتك تأمرك أن تأمرنا أن نترك، فلما ذكر معنى الأمر أولًا اقتصر عليه ولم يُعد ذكره.
(١) القرطبي ٩/ ٨٧.
(٢) الثعلبي ٧/ ٥٤ أ، البغوي ٤/ ١٩٥، "زاد المسير" ٤/ ١٤٩، القرطبي ٩/ ٨٧.
(٣) في (ي): (الصلوات).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٢.
(٥) ساقط من (ب).
(٦) ساقط من (ب).
524
وقوله تعالى: ﴿مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا﴾ وقد خلوا وماتوا وجاءت الحكاية عن فعلهم على وزن الاستقبال، والتأويل: إن شاء الله أن نترك ما كان يعبد آباؤنا، ومثله قوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ﴾ [البقرة: ١٠٢] أي كانت تتلوا.
وقوله تعالى: ﴿أَوْ أَنْ نَفْعَلَ﴾، قال ابن الأنباري (١): (أن) منسوقة على (ما) في قوله ﴿مَا يَعْبُدُ﴾ على تقدير أو نترك أن نفعل وهذا قول الفراء (٢) والزجاج (٣)، وزاد الفراء قولًا آخر شرحه أبو بكر، وهو: أن تكون (أن) منصوبة بفعل مضمر يراد به تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا وتنهانا أن نفعل، فدل الأمر على النهي، فحذف كما حذف البرد لما دل عليه الحر في قوله ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ﴾ (٤)، ومعنى قوله ﴿أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ﴾ قال الكلبي (٥): أي من البخس والظلم ونقص المكيال والميزان، وهو اختيار الزجاج (٦)؛ قال: المعنى: إنا قد تراضينا بالبخس فيما بيننا.
وقال ابن عباس (٧) في رواية عطاء: يريد قطع الدنانير والدراهم، وهو
(١) في (ي): (ابن عباس)، وانظر: "زاد المسير" ٤/ ١٥٠.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٥٢.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٣.
(٤) النحل: ٨١.
(٥) نقله ابن الجوزي عن ابن عباس، "زاد المسير" ٤/ ١٥٠، وانظر: "تنوير المقباس" ١٤٤.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٣.
(٧) "البحر المحيط" ٥/ ٢٥٣ عن ابن المسيب.
525
قول القرظي (١) وزيد بن أسلم (٢)؛ قالوا: كان ينهاهم عن ذلك.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ﴾، قال ابن عباس (٣). يريدون: السفيه الجاهل، وعلى هذا كنوا بالحليم الرشيد عن السفيه الجاهل.
قال أبو بكر: وهذا التفسير مشاكل للغة (٤)؛ لأن العربي يقول لمخاطبه إذا استحمقه: يا عاقل من يقول هذا غيرك؟ يريد يا أحمق، ويقول لمن يستجهله: يا حليم فكر (٥) فيما تسمع، يعني يا جاهل.
قال الشاعر (٦):
فقلت لسيدنا يا حليم إنك لم تأس أسواء (٧) رفيقًا
فآخر البيت يدل على أنه استجهله وخاطبه بالحلم كانيا عن غيره، وهذا قول مقاتل بن سليمان (٨) قال: معناه: إنك لأنت السفيه الضال، وقال الحسن وابن جريج (٩) والكلبي وابن زيد وأكثر أهل التأويل: هذا
(١) الطبري ١٢/ ١٠٢، "زاد المسير" ٤/ ١٥٠، وابن المنذر كما في "الدر" ٣/ ٦٢٧، "البحر المحيط" ٥/ ٢٥٣.
(٢) الطبري ١٢/ ١٠٢، "زاد المسير" ٤/ ١٥٠، القرطبي ٩/ ٨٨، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٦٢٧.
(٣) الثعلبي ٧/ ٥٤ ب، البغوي ٤/ ١٩٥، "زاد المسير" ٤/ ١٥٠.
(٤) في (ب): (اللغة).
(٥) ساقط من (ب).
(٦) البيت لشييم بن خويلد كما في "اللسان" (خفق) ٢/ ١٢١٤.
(٧) في (ب): (تأسوا سواء).
(٨) "تفسير مقاتل" ١٤٨ ب.
(٩) الطبري ١٢/ ١٠٣.
526
على طريق الاستهزاء بشعيب.
وقال ابن كيسان (١): هذا على طريق الصحة، قالوا له: إنك فينا حليم رشيد فليس يليق بك شق عصا قومك ومخالفة دينهم.
٨٨ - قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾، مضى هذا في موضعين من هذه السورة (٢).
وقوله تعالى: ﴿وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا﴾، قال ابن عباس وأكثر المفسرين (٣): يعني حلالا، وروى الكلبي (٤): أن شعيبًا كان كثير المال، قال ابن الأنباري: اعتد بكثرة المال نعمة من الله تعالى لما كان حلالاً سليمًا من التبعات، وقال جماعة من المفسرين: الرزق الحسن هاهنا: الهدى والتوفيق للرشد.
قال أبو إسحاق (٥) وغيره: جواب (إن) هاهنا محذوف لعلم المخاطب، المعنى: إنْ كنت على بينة من ربي ورزقني المال الحلال، [أتّبع الضلال فأبخس وأطفف، يريد أن الله قد أغناه بالمال الحلال] (٦) وذكرنا معنى هذا الشرط في قصة نوح (٧).
(١) الثعلبي ٧/ ٥٤ ب، "زاد المسير" ٤/ ١٥٠، ورجحه القرطبي ٩/ ٨٧.
(٢) هود ٢٨، ٦٣.
(٣) انظر: الطبري ١٢/ ١٠٣، البغوي ٤/ ١٩٦، "زاد المسير" ٤/ ١٥١، القرطبي ٩/ ٨٩، "البحر المحيط" ٥/ ٢٥٤.
(٤) ذكره في "زاد المسير" ٤/ ١٥١ وعزاه لابن عباس، وذكره البغوي ٤/ ١٩٦ ولم يعزه.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٣٣، وانظر الثعلبي ٧/ ٥٤ ب، "زاد المسير" ٤/ ١٥١ البغوي ٤/ ١٩٦.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٧) عند قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي﴾ [هود: ٢٨].
527
قوله تعالى: ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾، [قال ابن عباس (١): يريد وما أريد أن أفعل ما أنهاكم عنه] (٢)، وقال قتادة (٣): لم أكن لأنهاكم عن أمر ثم أرتكبه، ومعنى هذا القول أنه يقول: لا أنهى عن قبيح وأفعله كمن ليس مستنظرًا (٤) فيه، قال أبو إسحاق (٥): أي لست أنهاكم عن شيء وأدخل فيه، وإنما أختار لكم ما أختار لنفسي، وتلخيص معنى اللفظ: وما أخالفكم بالقصد إلى [ما أنهاكم عنه؛ يقال: خالفه إلى] (٦) ذلك الأمر إذا أتاه (٧) مخالفًا له.
وقال أبو بكر: بَيَّنَ أن الذي يدعوهم إليه من اتباع طاعة الله، وترك البخس والتطفيف، هو مما يرتضيه لنفسه ولا ينطوي إلا عليه، فكان بهذا ماحضًا لهم النصيحة، إذ اختار لهم ما اختاره لنفسه.
وقوله تعالى: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ﴾ أي ما أريد إلا الإصلاح فيما بيني وبينكم بأن تعبدوا الله وحده وتفعلوا كما يفعل من يخاف الله، قاله ابن عباس.
قوله تعالى: ﴿مَا اسْتَطَعْتُ﴾، مفعول الاستطاعة محذوف تقديره ما استطعته، أي ما استطعت الإصلاح، واستطاعة الإصلاح هو الإبلاغ
(١) "تنوير المقباس" ص ١٤٤.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٣) الطبري ١٢/ ١٠٣، البغوي ٤/ ١٩٦، "زاد المسير" ٤/ ١٥١، الثعلبي ٧/ ٥٤ ب، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٧٤، أبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٦٢٧.
(٤) في (ي): (مستنصرًا)، ولعل الصواب "مستبصرًا".
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٣.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٧) في (ب): (أراه).
528
والإنذار فقط، ولا يستطيع إجبارهم على الطاعة، وهذا معنى قول أبي إسحاق (١)؛ لأنه قال في قوله ﴿مَا اسْتَطَعْتُ﴾: أي بقدر طاقتي، [وقدر طاقتي] (٢) إبلاغكم وإنذاركم، ولست قادرًا على إجباركم على الطاعة، ثم أعلم أنه لا يقدر هو ولا غيره على الطاعة إلا بتوفيق الله جل وعز، فقال: ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾، أي أرجع إليه في المعاد في قول ابن عباس (٣) ومجاهد (٤).
وقال الحسن (٥): إليه أرجع بعملي ونيتي، وروي أن رسول الله - ﷺ - كان إذا ذكر شعيبًا قال: "ذاك خطيب الأنبياء" (٦) لحسن مراجعته قومه.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٣.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٣) الثعلبي ٧/ ٥٤ ب، البغوي ٤/ ١٩٦، القرطبي ٩/ ٩٠.
(٤) الطبري ١٢/ ١٠٣، والبغوي ٤/ ١٩٦، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٧٤، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٦٢٨.
(٥) انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" ٢/ ٢٤٤.
(٦) أخرجه الحاكم في "المستدرك" ٢/ ٦٢٠ عن محمد بن إسحاق قال: "وشعيب بن ميكائيل النبي - ﷺ -، بعثه الله نبيًا، فكان من خبره، وخبر قومه ما ذكر الله في القرآن. وكان رسول الله - ﷺ - إذا ذكره قال: "ذاك خطيب الأنبياء لمراجعته قومه" سكت عنه الذهبي في "التلخيص"، وفيه سلمة بن الفضل بن الأبرش، قال في "الميزان": ٢/ ١٩٢: (ضعفه ابن راهويه، وقال البخاري: في حديثه بعض المناكير، وقال ابن معين: كتبنا عنه وليس في المغازي أتم من كتابه، وقال النسائي: ضعيف، وقال أبو حاتم: لا يحتج به).
والحديث ذكره السيوطي في "الدر" ٣/ ٥٠٤ وقال: أخرجه ابن أبي حاتم والحاكم عن ابن إسحاق قال ذكر لي يعقوب بن أبي سلمة أن رسول الله - ﷺ - كان إذا ذكر شعيبًا =
529
٨٩ - قوله تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي﴾، قال ابن عباس (١) والحسن (٢) وقتادة (٣): لا يحملنكم، وقال الفراء (٤) والزجاج (٥): لا يكسبنكم، وقد مرَّ في سورة المائدة (٦).
قوله تعالى: ﴿شِقَاقِي﴾ أي خلافي وعداوتي.
وقوله تعالى: ﴿أَنْ يُصِيبَكُمْ﴾، (أن) في محل النصب؛ لأنه المفعول الثاني لقوله: ﴿يَجْرِمَنَّكُمْ﴾.
ومعنى الآية (٧): لا تكسبنكم معاداتكم إياي أن يصيبكم عذاب العاجلة ﴿مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ﴾ من الغرق ﴿أَوْ قَوْمَ هُودٍ﴾ من الريح العقيم ﴿أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ﴾ من الرجفة والصيحة.
﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ﴾، قال ابن عباس (٨): يريد (٩): قد كنتم
= قال: "ذاك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه فيما يرادهم به، فلما كذبوه وتوعدوه بالرجم والنفي من بلاده، وعتوا على الله، أخذهم عذاب يوم الظلة... إلخ".
(١) ذكر هذا القول من غير عزو الثعلبي ٧/ ٥٤ ب، البغوي ٤/ ١٩٦.
(٢) القرطبي ٩/ ٩٠.
(٣) الطبري ١٢/ ١٠٤، والقرطبي ٩/ ٩٠، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٧٤، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٦٢٨.
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٢٦.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٤.
(٦) عند قوله تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ﴾ [آية: ٢].
(٧) ساقط من (ي).
(٨) إسحاق بن بشر، وابن عساكر كما في "الدر" ٣/ ٦٢٨ - ٦٢٩.
(٩) ساقط من (ي).
530
لهم جيرانا وقرابة، وقد رأيتم ما أصيبوا به وما صاروا إليه من سخط الله وعذابه، فعلى هذا أراد: ليسوا ببعيد في الدار والنسب.
وقال قتادة (١): ﴿وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ﴾ في الزمان الذي بينكم وبينهم، واختاره الزجاج فقال (٢): كان إهلاك قوم لوط أقرب الإهلاكات التي عرفوها، فكأنه قال لهم: العظة في قوم لوط قريبة منكم.
قال ابن الأنباري: فعلى القول الأول (٣) كأنه يقول (٤): إنكم للعذاب الواقع بهم أذكر وأحفظ منكم لما لحق الأمم السالفة؛ لأن دارهم أقرب إلى داركم، فبحفظكم ذلك يلزمكم الإشفاق والحذر من مثل مصرعهم، وعلى القول الثاني كأنه يقول: إن وقتهم أقرب إليكم من أوقات من مضى من المهلكين، ولقرب وقتهم منكم ما يجب أن تراعوا وتحاذروا، ووحد البعيد (٥) على القول الأول؛ لأنه أراد: وما قوم لوط منكم بمكان بعيد، ويجوز أن يكون وَحَّده على لفظ القوم؛ لأنه على لفظ الواحد، وأنشد (٦):
لو أن قومي حين تدعوهم حمل
على الجبال الصم لارفض الجبل
ولم يقل حملوا.
(١) الطبري ١٢/ ١٠٤، عبد الرزاق ٢/ ٣١١، "الدر" ٣/ ٦٢٩، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٧٥ بنحوه.
(٢) ساقط من (ي)، وانظر: "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٤.
(٣) ساقط من (ي).
(٤) في (ب): (قال).
(٥) قاله ابن الأنباري انظر: "زاد المسير" ٤/ ١٥١
(٦) بيتان من الرجز لم أهتد إلى قائلهما. انظر: "شرح المفصل" ٩/ ٨٠.
531
٩٠ - قوله تعالى: ﴿وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ﴾، قال أهل المعاني: معناه: اطلبوا المغفرة بأن تكون غرضكم، ثم توصلوا إليه بالتوبة، وهو ترتيب حسن وقد مرَّ هذا في أول السورة (١).
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ﴾، قال ابن عباس (٢): بأوليائه ومن صدق أنبياءه.
﴿وَدُودٌ﴾ (٣)، قال الفراء (٤): يقال (٥): ودِدت أوَد هذا أفضل الكلام وقال بعضهم وددت و (يفعل) منها يود لا غير، قال الكسائي (٦): وسمعت ودَدت بالفتح وهي قليلة، وأنكر البصريون ودَدت وهو لحن عندهم.
قال الزجاج (٧): قد علمنا أن الكسائي لم يحك وددت إلا وقد سمعه، [ولكنه سمعه] (٨) ممن لا يكون قوله حجة.
قال ابن الأنباري (٩): الودود في أسماء الله المجيب لعباده، من قولهم: وددت الرجل أوده وَدا ووُدا ووَدادا ووِدادًا ووِدادة ووَدادة.
(١) آية: ٤.
(٢) "تنوير المقباس" ص ١٤٤.
(٣) ساقط من (ي).
(٤) "تهذيب اللغة" (ود) ٤/ ٣٨٥٧.
(٥) ساقط من (ي).
(٦) "تهذيب اللغة" (ود) ٤/ ٣٨٥٧ ولم أجده من كلام الكسائي بل هو من كلام الفراء.
(٧) "تهذيب اللغة" (ود) ٤/ ٣٨٥٧.
(٨) ساقط من (ي).
(٩) "الزاهر" ١/ ٨٨، ٨٩، "زاد المسير" ٤/ ١٥٢، "تهذيب اللغة" ٤/ ٣٨٥٨، "لسان العرب" (ود) ٨/ ٤٧٩٤، وفيها (المحب لعبادة).
وقال الأزهري (١) من كتاب "شرح أسماء الله": قال بعض أهل اللغة: يجوز أن يكون ودودٌ فعولًا بمعنى مفعول، كركوب وحلوب (٢) ومعناه: أن عباده الصالحين يودونه ويحبونه؛ لما (٣) عرفوا من فضله ولما سبغ عليهم من نعمائه، وكلتا الصفتين مدح؛ لأنه جل ذكره إنْ أحب عباده المطيعين فهو فضل منه، وإنْ أحبه عباده العارفون فلما تقرر عندهم من إحسانه.
٩١ - قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ﴾ الآية، معنى الفقه في اللغة (٤): فهم الكلام بما تضمن من المعنى، وقد صار اسمًا لضرب من علوم الدين، فمعنى الفقه في اللغة الفهم، يقال: أوتي فلانٌ فقهًا في الدين، أي فهما، وقوله - ﷺ -: "فقهه في الدين" (٥) (٦) أي فقهه تأويله،
(١) الكتاب مفقود، ذكره ياقوت "معجم الأدباء" ١٧/ ١٦٤، وأورده الداودي في طبقات المفسرين (٢/ ٦٥) بلفظ تفسير الأسماء الحسنى، وسماه صاحب "كشف الظنون" ٢/ ٥٠: "شرح أسماء الله الحسنى".
(٢) في (ي): (حمول).
(٣) في (ي): (بما).
(٤) "تهذيب اللغة" (فقه) ٥/ ٤٠٤، ٤٠٥.
(٥) في (ي): التأويل.
(٦) أخرجه البخاري (١٤٣) كتاب: الوضوء، باب: وضع الماء عند الخلاء، بلفظ "اللهم فقهه في الدين" وأخرجه أحمد في أربعة مواضع بلفظ (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل) ٤/ ١٢٧ برقم ٢٣٩٧، و٤/ ٣١٥ برقم ٢٨٨١، و٥/ ١٥ برقم ٣٠٣٣، و٥/ ٤١ برقم ٣١٠٢، وصححه أحمد شاكر في جميع المواضع السابقة، وأخرجه بلفظ (اللهم فقهه في الدين) دون زيادة (وعلمه التأويل) ٥/ ١٢ برقم ٣٠٢٣، وصححه أحمد شاكر.
وأخرجه الطبراني في الكبير ١٠/ ٢٩١ بلفظ (اللهم أعطه الحكمة، وعلمه التأويل) =
533
ونحو هذا قال ابن عباس والمفسرون (١) في قوله ﴿مَا نَفْقَهُ﴾: ما نفهم.
فإن قيل: إن شعيبا كان يخاطبهم بلسانهم فلم قالوا ما نفقه؟
قال أبو بكر (٢): فيه جوابان: أحدهما (٣): ما نفقه صحة كثير مما تقول، يعنون ما يذكر من التوحيد والبعث والنشور، وما يلزم من الزكاة، ويحظر من التطفيف، فزعموا أن هذا مما لا يفهمون صحته إذ كانوا منكرين دين شعيب، فحذفت الصحة وقام "كثير" مقامها، والثاني: أنهم كانوا يستثقلون سمع بعض (٤) ما يأتي به عن ربه تعالى من ذم الكفار وعيب ما يرتكبون، فكانوا كأنهم لا يفقهونه، كما تقول لمن تكره كلامه: ما أفهم ما تقول، وما أستطيع أن أسمع كلامك، وأنت [في الحقيقة] (٥) تفهم وتستطيع، إلا أن هذا باب من المجاز، استعملته العرب وعرف في خطابها.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا﴾، قال سعيد بن جبير (٦) وقتادة (٧): أعمى.
= قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" ٩/ ٤٥٠: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه. ورواه الطبراني في موضع آخر ١٠/ ٢٩٣ بلفظ (اللهم علمه التأويل وفقهه في الدين).
(١) البغوي ٤/ ١٩٧، القرطبي ٩/ ٩١، ابن عطية ٧/ ٣٨٤.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١٥٢.
(٣) ساقط من (ي).
(٤) ساقط من (ي).
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٦) الطبري ١٢/ ١٠٥، وأبو الشيخ وابن عساكر كما في "الدر" ٣/ ٦٢٩، و"زاد المسير" ٤/ ١٥٢، والقرطبي ٩/ ٩١، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٧٦.
(٧) "زاد المسير" ٤/ ١٥٢، القرطبي ٩/ ٩١ وروي هذا القول ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٧٦ عن سعيد بن جبير، والحاكم ٢/ ٥٦٨ وصححه والخطيب وابن عساكر عن ابن عباس، "الدر" ٣/ ٦٢٩.
534
وقال سفيان (١): كان ضعيف البصر، وقال الزجاج (٢): حمير تسمي الضرير ضعيفًا؛ لأنه قد ضعف بذهاب بصره.
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ﴾، قال أبو عبيد (٣) عن أبي زيد: النفر والرهط [ما دون العشرة من الرجال، وقال أبو العباس (٤): المعشر والنفر والقوم والرهط] (٥) معناهم الجمع لا واحد لهم من لفظهم، وهذا (٦) للرجال دون النساء، وقال الليث (٧): الرهط عدد يجمع من ثلاثة إلى عشرة، قال المفسرون (٨): لولا عشيرتك.
وقوله تعالى: ﴿لَرَجَمْنَاكَ﴾، قال الأزهري (٩): الرجم القتل، وقد جاء في غير موضع من كتاب الله تعالى، وإنما قيل للقتل رجم؛ لأنهم كانوا (١٠) إذا قتلوا إنسانًا رموه بالحجارة حتى يموت، ثم قيل لكل قتل رجم، والرجم السب والشتم؛ ومنه قوله تعالى ﴿لَأَرْجُمَنَّكَ﴾ [مريم: ٤٦] أي
(١) الطبري ١٢/ ١٠٥، والثعلبي ٧/ ٥٥ أ، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ١٢٩ بلفظ قال: كان أعمى، والقرطبي ٩/ ٩١. وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٧٦ بلفظ كان ضعيفًا.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٤.
(٣) "تهذيب اللغة" (رهط) ٢/ ١٤٨٨.
(٤) "تهذيب اللغة" (رهط) ٢/ ١٤٨٨.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٦) في (ي): (وهو).
(٧) "تهذيب اللغة" (رهط) ٢/ ١٤٨٨.
(٨) الطبري ١٢/ ١٠٦، الثعلبي ٧/ ٥٥ أ، الزجاج ٣/ ٧٤، البغوي ٤/ ١٩٧، القرطبي ٩/ ٩١، ابن عطية ٧/ ٣٨٥.
(٩) "تهذيب اللغة" (رجم) ٢/ ١٣٧٥.
(١٠) في (ي): (قالوا).
535
لأسبنك ولأشتمنك، والرجم: القول بالظن، ومنه قوله: ﴿رَجْمًا بِالْغَيْبِ﴾ [الكهف: ٢٢] والرجم اللعن، والشيطان الرجيم من هذا.
قال ابن عباس (١) في قوله: ﴿لَرَجَمْنَاكَ﴾: لقتلناك.
قال الزجاج (٢): والرجم من شر القتلات، وقال قوم من المفسرين (٣): لشتمناك وسببناك وطعنا عليك.
قال أبو إسحاق (٤): وكان رهطه من أهل ملتهم؛ فلذلك أظهروا الميل إليهم، والإكرام لهم.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾، قال ابن عباس: يريد (٥): ما أنت علينا بمنيع.
٩٢ - وقوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ﴾، قال ابن عباس (٦): يريد أمنع عليكم من الله، المنيع القوي، قال الزجاج (٧): وتأويله: أنتم تزعمون أنكم تتركون قتلي إكرامًا لرهطي، والله -عز وجل- أولى بأن يتبع أمره، كأنه يقول: حفظكم إياي في الله أولى منه في رهطي.
(١) أخرجه إسحاق بن بشر وابن عساكر كما في "الدر" ٣/ ٦٢٨، الثعلبي ٧/ ٥٥ أ، البغوي ٤/ ١٩٧.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٤.
(٣) رجحه الطبري ١٢/ ١٠٦، "زاد المسير" ٤/ ١٥٣، القرطبي ٩/ ٩١، ابن عطية ٧/ ٣٨٥.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٤.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ١٥٣، القرطبي ٩/ ٩١ من غير نسبه.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ١٥٣ بنحوه.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٤.
536
وقوله تعالى: ﴿وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا﴾، قال الليث (١): الظهري الشيء الذي تنساه وتغفل عنه، قال ابن عباس (٢): يريد ألقيتموه خلف ظهوركم وامتنعتم من قتلي مخافة قومي، والله أعز وأكبر من جميع خلقه.
قال الفراء (٣): يقول رميتم أمر الله وراء ظهوركم، يعني تعظمون أمر رهطي، وتتركون أن تعظموا الله وتخافوه.
وقال ابن الأنباري (٤): الظهري يقصد به هاهنا إلى الإهمال [والاطّراح تقول العرب: سألت فلانا حاجة فظهر بها] (٥)، وسألته حاجة فجعلها ظهرية، أهملها وطرحها (٦) ولم يلتفت إليها. وأنشد للفرزدق:
تميمَ بنَ زيد لا تكونَنَّ حاجتي بظهر فلا يخفى عليّ جوابُها
قال: معناه: لا تكون مهملة مطرحة، وقال قتادة (٧) في هذه الآية:
أعززتم قومكم وظهرتم بربكم، قال أبو بكر: يريد بقوله ظهرتم: أهملتم وأعرضتم عن طاعته، وجميع أهل (٨) المعاني قالوا: الكناية في قوله: ﴿وَاتَّخَذْتُمُوهُ﴾ تعود إلى أمر الله، وما جاءهم به شعيب من الله تعالى، وهو في الظاهر يعود على اسم الله تعالى، ولكنه يعرف بالمعنى أن المراد منه
(١) "تهذيب اللغة" (ظهر) ٣/ ٢٢٥٥.
(٢) الطبري ١٢/ ١٠٦.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٢٦.
(٤) "الأضداد" ٢٥٥.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٦) ساقط من (ي).
(٧) الطبري ١٢/ ١٠٦ - ١٠٧.
(٨) "معاني الفراء" ٢/ ٢٦، "مجاز القرآن" لأبي عبيدة ١/ ٢٩٨، "معاني الزجاج" ٣/ ٧٥، "معانى النحاس" ٣/ ٣٧٧.
537
الأمر، كما تقول العرب: جعلتني خلف ظهرك ودبر أذنك، يريدون: جعلت أمري وحاجتي وكلامي.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ أي خبير بأعمال العباد حتى يجازيهم، في قول جميع المفسرين (١).
٩٣ - قوله تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾، المكانة الحال التي يتمكن بها صاحبها من عمله، قال ابن عباس: يريد اعملوا ما أنتم عاملون، وذكرنا هذا مستقصى في سورة الأنعام (٢). قال أهل المعاني: هذا تهديدٌ بصيغة الأمر، يقول: اعملوا على ما أنتم عليه، إني عامل على ما أنا عليه من طاعة الله، وسترون منزلتكم من منزلتي، وهذا معنى قوله: ﴿سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾، وأسقط الفاء هاهنا من ﴿سَوْفَ﴾، وفي سورتي الأنعام [آية ١٣٥] والزمر [آية ٣٩] فسوف.
قال ابن الأنباري (٣): وهما مذهبان معروفان للعرب وكلاهما صواب في القياس، إذا دخلت الفاء دلت على اتصال ما بعدها بما قبلها، وإذا سقطت بني الكلام على التمام، والذي بعده على الابتداء؛ كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا﴾ [البقرة: ٦٧] معناه: (فقالوا)، فحذفت (٤) الفاء بناء على تمام (٥) ما قبلها واستئناف ما بعدها، وإنما يمكن هذا في القرآن والشعر؛ لتطاول القصص والأخبار فيهما، فأما الألفاظ
(١) الطبري ١٢/ ١٠٨، "زاد المسير" ٤/ ١٥٣، ابن عطية ٧/ ٣٨٧.
(٢) آية ١٣٥. وخلاصة ما ذكره ما نقله ابن عباس هنا.
(٣) "زاد المسير" ٤/ ١٥٣.
(٤) في (ي): حذفت.
(٥) في (ي): إتمام.
538
القصار فلا يصلح سقوط الفاء كقول القائل: (قد قلت القبيح فيّ فستعلم عاقبته)، لا يجوز أن تسقط الفاء هاهنا؛ لأنه كلام قصير لا يتم فيه الأول ويستأنف الثاني، و (منْ) في محل النصب بقوله: ﴿تَعْلَمُونَ﴾.
وقوله تعالى: ﴿عَذَابٌ يُخْزِيهِ﴾ أي يفضحه ويذله، وذلك أن العذاب يقع على وجهين؛ عذاب (١) فاضح وعذاب غير فاضح فالفاضح، أشد.
وقوله تعالى: ﴿وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ﴾، قال الفراء (٢): إنما أدخلت العرب (هو) في قوله ﴿وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ﴾ لأنهم لا يقولون (من قائم) ولا (من قاعد)، إنما كلامهم: (من يقوم) و (من قام) أو (من القائم)، فلما كان قوله ﴿كَاذِبٌ﴾ غير معرفة ولا فعل أدخلوا (هو)، قال: وقد يجوز في الشعر (مَنْ قائم) وأنشد (٣):
مَنْ شاربٌ مُرتجٌ بالكأس نادمني لا بالحَصور ولا فيها بسوَّار
وقوله تعالى: ﴿وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾، معنى الارتقاب: الانتظار، وهو طلب ما يأتي بتعليق النفس به، رقبه يرقبه رقوبًا، وارتقب ارتقابًا، وترقبه ترقبًا، قال ابن عباس (٤) يريد: ارتقبوا العذاب إني مرتقب من الله الرحمة والثواب.
(١) في (ي): هذا عذاب.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٢٦.
(٣) القائل هو الأخطل، والحصور: البخيل الممسك، والسوار: الذي تسور الخمرة في رأسه سريعًا، فهو يعربد ويثب على من يشاربه. "ديوانه" ١٦٨، "معاني الفراء" ٢/ ٢٦، "المحتسب" ٢/ ٢٤١، "اللسان" (حصر) ٢/ ٨٩٦، (سور) ٤/ ٢١٤٧، "إصلاح المنطق" ١٤٢، "بغية الوعاة" ١/ ١٠٥، وبلا نسبة في "تذكرة النحاة" ٣٣٢، و"مجالس ثعلب" ١/ ٥٧٧.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ١٥٤، القرطبي ٩/ ٩٢.
539
٩٤ - وقوله تعالى: ﴿وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ﴾، قال المفسرون (١): صاح بهم جبريل صيحة فماتوا في أمكنتهم.
٩٥ - وقوله تعالى: ﴿أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ﴾، قال الزجاج (٢): المعني أنهم قد بعدوا من رحمة الله، قال: وهو منصوب على المصدر، المعنى: أبعدهم الله فبعدوا بعدًا.
وقوله تعالى: ﴿كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾، يقال: بعِد يبعَد إذا بعد في الهلاك ولا تستعمل في الحي، وبعُد يبعُد ضد قرب وتستعمل في الحي، والمصدر فيهما جميعًا البُعْد، ويقال في مصدر بعد يبعد: بَعَدًا.
وقوله تعالى: ﴿أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ﴾ دليل على أن (٣) مصدره البُعْد، وكذلك قول الشاعر (٤):
يقولون لا تَبْعَدْ وهم يدفنونني وأين مكان البُعْد إلا مكانيا
قال ابن الأنباري (٥): العرب تقول: بعُد الطريق يبعُد وبعِد الميت يبعَد، ومنهم من يسوي بينهما، والأكثر هو الأول، وروى الكلبي عن ابن عباس (٦) قال: لم يعذب الله تعالى أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم
(١) الطبري ١٢/ ١٠٨، الثعلبي ٧/ ٥٥ ب، البغوي ٤/ ١٩٧، "زاد المسير" ٤/ ١٥٤، "معاني الزجاج" ٣/ ٧٥.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٦.
(٣) ساقط من (ب).
(٤) القائل هو مالك بن الريب.
انظر: "ديوانه" ٩٣، "الخزانة" ١/ ٣١٩، "اللسان" (بعد) ١/ ٣١٠، "شرح شواهد المغني" ٢/ ٦٣٠.
(٥) "البحر المحيط" ٦/ ٢٠٤.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ١٥٣.
صالح، فأما (١) قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وقوم شعيب أخذتهم من فوقهم.
٩٦ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا﴾، قال ابن عباس (٢): يريد التوراة وما أنزل الله فيها من الفرائض والأحكام، قال الزجاج (٣): أي بعلاماتنا التي تدل على صحة نبوته.
وقوله تعالى: ﴿وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ﴾ حجة بينة وبرهان يتسلط به على إبطال قول من خالفه، مخلص من التلبيس والتمويه. قال ابن عباس (٤): يعني عصاه التي جعل الله فيها عذابا ونقمة؛ ليس يقوم لها جميع الخلائق، ولا يقوى عليها أحد.
قوله تعالى: ﴿فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ﴾، أي أمرهم بعبادته واتخاذه إلها فاتبعوا ما أمرهم به، ﴿وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾، أي بمرشد إلى خير. قال ابن عباس (٥): يريد لم يرشد قومه ولا من اتبعه.
قوله تعالى: ﴿يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، يقال: قَدَمَ فلانٌ فلانًا يَقْدُمُه قَدمًا، وزاد الزجاج (٦): قدومًا، ويقدم وأقدم واستقدم بمعنى واحد، والمعني: أنه (٧) يقدمهم إلى النار، يدل على هذا قوله: ﴿فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ﴾
(١) ساقط من (ي).
(٢) القرطبي ٩/ ٩٣.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٦.
(٤) القرطبي ٩/ ٩٣ ولم ينسبه.
(٥) انظر الطبري ١٢/ ٢٠٩، "زاد المسير" ٤/ ١٥٥
(٦) "معاني القرآن وإعرابه " ٣/ ٧٦.
(٧) في (جـ): (أنهم).
541
أي أدخلهم النار، والمعنى (فيوردهم)، وذكر بلفظ الماضي لتحققه وتأكد وجوده كأنه قد مضى، قال ابن عباس: يريد كما تَقَدَّم قومه في الدنيا [إلى البحر] (١) فأغرقهم، وقوله تعالى: ﴿وَبِئْسَ﴾ أي النار.
قال أبو بكر (٢): وذكَّر (بئس النار) لتذكير الوِرْد كما تقول: نعم المنزل دارك (٣)، ونعمت المنزل دارك، من ذكّر غلب المنزل، ومن أنث بني على تأنيث الدار، ويقال أيضًا: نعمت الدار منزلك، [ونعم الدار منزلك] (٤).
وقوله تعالى: ﴿الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ﴾ قال الكلبي (٥) ومقاتل (٦) والمفسرون (٧): المدخل المدخول.
قال ابن السكيت (٨): الوِرْد وُرُود القوم الماء، [والوِرْد الماء] (٩) الذي يورد، والورد الإبل الواردة، فعلى هذا الورد يجوز أن يكون مصدرًا بمعنى الورود (١٠) كقول الشاعر (١١):
(١) في (ي): (في الغرق).
(٢) ساقط من (ي) وانظر: "زاد المسير"٤/ ١٥٥.
(٣) ساقط من (ب).
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥) "تنوير المقباس" ١٤٤.
(٦) "تفسير مقاتل" ١٤٩ أ.
(٧) الطبري ١٢/ ١١٠، الثعلبي ٧/ ٥٥ ب، البغوي ٤/ ١٩٨، "زاد المسير" ٤/ ١٥٥.
(٨) "تهذيب اللغة" (ورد) ٤/ ٣٨٦٩.
(٩) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(١٠) في (ي): (الورد).
(١١) لم أقف عليه، وهو من الطويل.
542
إذا القوم قالوا وردهن ضحى غدا تواهفن حتى وردهن طروق
يصف إبلا قدّر أنها ترد الماء في وقت الضحى فوردته (١) قبل ذلك ليلاً لقوتهن وفضل نشاطهن، ويجوز أن يكون في ﴿الْوِرْدُ﴾ (٢) بمعنى الموضع والشيء الذي يورد عليه كالماء وغيره، والذي في هذه الآية يراد به الموضع الذي يورد، وهو بمعنى المفعول، ويجوز أن يكون بمعنى الفاعلين كقوله: ﴿وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا﴾ [مريم: ٨٦] أي واردين، وهو في الأصل مصدر ثم يُسمى به المفعول والفاعل.
قال ابن الأنباري (٣): الورد مصدر معناه: الورود تجعله العرب بمعنى الموضع المورود كالذي في هذه الآية، وتلخيص المعنى (٤) (بئس الشيء الذي يورد النار).
٩٩ - قوله تعالى ﴿وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً﴾ يعني في الدنيا، في قول الجميع، قال الكلبي (٥) ومقاتل (٦) والمفسرون (٧): لعنة الدنيا الغرق، ولعنة الآخرة عذاب جهنم، وقال أهل المعاني (٨): اللعنة في الدنيا يعني بها لعن المسلمين والصالحين إياهم في حياتهم، واللعنة في
(١) في (ي): (ردته).
(٢) في (ب): (الورود).
(٣) "زاد المسير" ٤/ ١٥٥.
(٤) في (ي): الآية.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ١٥٦، القرطبي ٩/ ٩٤.
(٦) "تفسير مقاتل" /١٤٩ أ، "زاد المسير" ٤/ ١٥٦
(٧) الطبري ١٢/ ١١٠، "الدر" ٣/ ٦٣١، البغوي ١/ ١٩٨، ابن عطية ٧/ ٣٩٢.
(٨) "زاد الميسر" ٤/ ١٥٦.
543
الآخرة ما يَقْدَمون عليه من عذاب الله، وقوله تعالى ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾، وذكر أبو علي (١) في انتصابه وجهين (٢) أحدهما: أن يكون التقدير: ولعنة (٣) يوم القيامة، فحذف المصدر وأقيم اليوم مقامه فانتصب انتصاب المفعول به، والآخر: أن يكون ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ محمولًا على موضع في ﴿هَذِهِ﴾ كما قال (٤):
إذا ما تلاقينا من اليوم أو غدًا
ومثل هذه الآية قوله تعالى في القصص: ﴿وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ﴾ [القصص: ٤٢] ونذكرها في موضعها إن شاء الله.
وقوله تعالى: ﴿بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ﴾، الرفد معناه في اللغة (٥): العطاء والمعونة، وكل شيء أعنت به غيرك فهو رفد، يقال: [رفد يرفده] (٦) رَفْدًا ورِفْدًا بفتح الراء وكسرها، ويقال: الرفد بالكسر اسم وبالفتح مصدر، وسميت اللعنة هاهنا رفدًا؛ لأنه جعل بدلا منها، كما يقال عتابك السيف وتحيتك الشتم، يذهب إلى أنه بدل منه وواقع موقعه.
قال أبو عبيدة (٧) في قوله ﴿بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ﴾: بئس العون المعان.
(١) "الحجة" ١/ ٢٧، ٢٨.
(٢) في (ي): (على وجهين).
(٣) في (ي): ولكنه.
(٤) سبق تخريجه.
(٥) انظر: "تهذيب اللغة" (رفد) ٣/ ١٤٣٧.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٧) "مجاز القرآن" ١/ ٢٩٨.
544
وقال قتادة (١) في تفسير هذه الآية: ترافدت عليهم لعنتان من الله، لعنة الدنيا ولعنة الآخرة.
وقال مجاهد (٢). رُفِدوا يوم القيامة بلعنة أخرى زيدوها، فتانِك لعنتان.
وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس عن قوله: ﴿بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ﴾، فقال (٣): هو اللعنة بعد اللعنة، قال الزجاج (٤): وكل شيء جعلته عونا لشيء فقد رفدته به، فعلى هذه الأقوال معنى الرفد هاهنا: اللعنة التي لعنوا بها في الدنيا، ثم وصف هذا الرفد بأنه مرفود أي مشفوع معانٌ بلعنة الآخرة (٥).
١٠٠ - قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى﴾، قال أهل المعاني (٦): الإشارة بقوله ﴿ذَلِكَ﴾ تعود إلى النبأ الذي تقدم، وقد ذكرنا في مواضع من هذا الكتاب أن (ذلك) يشار به إلى الواحد والاثنين والجماعة، كقوله تعالى: ﴿لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٦٨].
وقوله تعالى: ﴿مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ﴾، أراد: ومنها حصيد؛ لأن
(١) الطبري ١٢/ ١١١، البغوي ٤/ ١٩٨، عبد الرزاق ٢/ ٣١٢، ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٨١.
(٢) الطبري ١٢/ ١١٠، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٨١. وانظر: "الدر" ٣/ ٦٣١.
(٣) أخرجه ابن الأنباري في "الوقف والابتداء"، والطسي عن ابن عباس كما في "الدر" ٣/ ٦٣١.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٧.
(٥) في (ي): (أخري).
(٦) الطبري ١٢/ ١١٢، "زاد المسير" ٤/ ١٥٦
الحصيد غير القائم. قال أبو إسحاق (١): أي من القرى التي أهلكت: (قائم) أي: بقيت حيطانه، ﴿وَحَصِيدٌ﴾: مخسوف وما قد محي أثره، وعلى نحو هذا دار كلام المفسرين.
قال ابن عباس (٢): ﴿قَائِمٌ﴾: ينظرون إليه وإلى ما بقي من أثره، و (حصيد) قد خرب ولم يبق له أثر. قال ابن الأنباري: الحصيد هاهنا عني به الاستئصال بالهلكة ويعقبه الأثر، كالزرع إذا حصد وأزيل عن موضعه، ومن هذا قوله تعالى: ﴿حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ﴾ [الأنبياء: ١٥].
١٠١ - قوله تعالى: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾، قال المفسرون (٣): وما ظلمناهم بالعذاب والإهلاك، ولكن ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية.
وقال عطاء عن ابن عباس: يريد وما نقصناهم في الدنيا من النعيم ولا من الرزق، ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفوا بحقوق الله، وقوله تعالى: ﴿فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ﴾ أي ما نفعتهم (٤) وما دفعت عنهم (٥)، ﴿الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أي التي يعبدون سوى الله وغيره.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾، ابن عباس (٦) وغيره من
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٧.
(٢) الطبري ١٢/ ١١٢، الثعلبي ٧/ ٥٥ ب، البغوي ٤/ ١٩٨، القرطبي ٩/ ٩٥.
(٣) الطبري ١٢/ ١١٣، الثعلبى ٧/ ٥٦ أ، ابن عطية ٧/ ٣٩٤.
(٤) في (ي): (ولا).
(٥) ساقط من (ي).
(٦) روي هذا القول الطبرى ١٢/ ١١٣ عن ابن عمر ومجاهد وقتادة. وذكره في "زاد المسير" ٤/ ١٥٦ عن ابن عباس "تنوير المقباس" ص ١٤٥.
المفسرين (١) يقولون: غير تخسير، وأبو عبيدة (٢) وأهل اللغة يقولون: هو الإهلاك، والتباب الهلاك، وأحدهما قريب من الآخر، وذكرنا معنى التخسير في هذه السورة (٣).
قال ابن الأنباري (٤): في قوله تعالى: ﴿وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾ قولان؛ أحدهما: (وما زادتهم عبادتها غير تتبيب) فحذفت العبادة على حذف المضاف، والآخر: أن الآلهة زادتهم بلاءً، وإن كانت من الموات؛ لأنهم ادعوا أن عبادتهم إياها [تنفعهم عند الله، فلما جرى الأمر بخلاف ما قدروا] (٥) وصفها الله بأنها زادتهم بلاءً وهلاكًا وخسارًا (٦).
١٠٢ - قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ﴾، أي وكما ذكر من إهلاك الأمم وأخذهم بالعقاب أخذ ربك إذا أخذ القرى، ومعنى أخذ الله نقلهم إلى جهة عقابه. ﴿وَهِيَ ظَالِمَةٌ﴾ من صفة القرى وهي في الحقيقة لأهلها ومن كان يسكنها، ونحو هذا قوله تعالى: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً﴾ [الأنبياء: ١١] وقوله تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا﴾، [القصص: ٥٨] يعني أن أهلها بطروا المعيشة، ويكون هذا من باب حذف المضاف.
١٠٣ - قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾، يعني: ما ذكر من عذاب الأمم
(١) في (ي): (قال ابن عباس والمفسرون).
(٢) "مجاز القرآن" ١/ ٣٣٩.
(٣) عند قوله تعالى ﴿فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾ [هود: ٦٣].
(٤) انظر: "الزاهر" ١/ ٤٦٦.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ي)
(٦) ساقط من (ي).
الخالية وإهلاكهم ﴿لَآيَةً﴾ (١)، قال ابن عباس (٢): لعبرة وعظة ﴿لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ﴾ ﴿ذَلِكَ﴾ يعني يوم القيامة، وقد سبق ذكره [في قوله تعالى] (٣): ﴿وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ﴾ [هود: ٩٩] ﴿يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ﴾؛ لأن الخلق كلهم يحشرون ويجمعون لذلك اليوم.
﴿وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾، قال ابن عباس (٤): يشهده البر والفاجر، وقال آخرون (٥): يشهده أهل السماء وأهل الأرض، قال أبو إسحاق (٦): أعلم الله أنه يحيي الخلق ويبعثهم في ذلك اليوم ويشهدون.
١٠٤ - قوله تعالى: ﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ﴾، قال المفسرون (٧): وما نؤخر ذلك اليوم فلا نقيمه عليكم إلا لوقت معلوم لا يعلمه أحد غير الله، وقال أبو علي (٨): أي ما نؤخر إحداثه، وهو كما قال؛ لأن ذلك اليوم لم يحدثه الله (٩) بعدُ، فتأخيره (١٠) تأخير إحداثه.
(١) ساقط من (ي).
(٢) الطبري ١٢/ ١١٤، الثعلبي ٧/ ٥٦ أ، البغوي ٤/ ١٩٩، "زاد المسير" ٤/ ١٥٧، القرطبي ٩/ ٩٦ من غير نسبة.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٤) "زاد المسير" ٤/ ١٥٦، القرطبي ٩/ ٦٩.
(٥) أخرجه الطبري ١٢/ ١١٥ عن الضحاك، الثعلبي ٧/ ٢٥٦، البغوي ٤/ ١٩٩، "زاد المسير" ٤/ ١٥٧ القرطبي ٩/ ٦٩.
(٦) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٧.
(٧) الطبري ١٢/ ١١٥، الثعلبي ٧/ ٥٦ أ، البغوي ٤/ ١٩٩، "زاد المسير" ٤/ ١٥٧، ابن عطية ٧/ ٤٩٧ القرطبى ٩/ ٩٦.
(٨) "الحجة" ٤/ ٧٥.
(٩) ساقط من (ي).
(١٠) في (ي): (تأخيره).
١٠٥ - وقوله تعالى: (يوم يأتي) ويقرأ ﴿يَأْتِ﴾ (١) بحذف الياء، قال الفراء (٢): كل ياء أو واو يسكنان وما قبل [الواو مضموم وما قبل] (٣) الياء مكسور، فإن الحرب تحذفها وتجتزئ بالضمة من الواو وبالكسرة من الياء، وأنشد (٤):
كفاك كفٌّ لا تُلِيقُ درهمًا جودًا وأخرى تُعْطِ بالسيف الدما
وقال الزجاج (٥): هذيل تستعمل حذف هذه الياءات كثيراً، وقد حكى سيبويه والخليل أن العرب تقول: لا أدر فتحذف الياء وتجتزئ بالكسرة.
قال أبو علي الفارسي (٦): قوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِ﴾، فاعل يأتي لا يخلو من أن يكون اليوم الذي أضيف (٧) إلى يأتي، أو اليوم المتقدم ذكره، فلا يجوز
(١) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والكسائي "بياء" في الوصل ويحذفونها في الوقف، غير ابن كثير فإنه يثبت الياء في الوصل والوقف، وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة بغير "ياء" لا في وصل ولا وقف. انظر: "السبعة" ٣٣٨، "الإتحاف" ص ٢٦١، "الحجة" ٤/ ٣٧٣، الطبري ٢/ ١١٥.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٢٧.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) الشاهد بلا نسبة في: "الإنصاف" ٣٢٩، "اللسان" (ليق) / ٤١١٥، "الأشباه والنظائر" ١/ ٢٣ "أمالي ابن الشجري" ٢/ ٢٢٨، "الخصائص" ٣/ ٩٠، ١٣٣، "معاني القرآن" ٢/ ٢٧، ١١٨، ٣/ ٢٦٠، الطبري ١٢/ ١١٦، وقوله "لا تليق" يقال: ألاقه أي حبسه، يصفه بالجود والغلظة على عدوه.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٧.
(٦) "الحجة" ٤/ ٣٧٣ - ٣٧٨ بتصرف.
(٧) في (ي): (إليه).
549
أن يكون فاعله اليوم الذي أضيف إلى يأتي؛ لأن اليوم هو الفاعل، فلا يجوز أن يضاف إلى فعل نفسه، ألا ترى أنك لا تقول: جئتك يوم يسرك، على أن يكون فاعل السرور اليوم، ويجوز أن يكون جئتك يوم يخرج زيد؛ لأن المعنى فيه: يوم خروج زيد، فتضيف المصدر إلى الفاعل فيتعرف اليوم بفعل مضاف إلى فاعل غير اليوم.
وإذا قلت: (يوم يسرك) يكون معناه وتقديره: (يوم سروره إياك)، ويصير كأنك عرفت اليوم بنفسه؛ لأن الفعل يعرفه الفاعل، واليوم مضاف إلى الفعل المعروف باليوم، وحدُّ جواز هذا أن يكون الظرف مضافا إلى فعل معرف [بفاعل نحو قولك: يوم يخرج زيد، فاليوم معرف] (١) بالفعل، والفعل معرف بالفاعل، وإذا قدرت الظرف فاعلاً يعرف به الفعل، والفعل هو الذي يعرف الظرف، كأنك إنما عرفت الظرف بنفسه؛ لأنك أضفته إلى الفعل المعرف به (٢) فصار هذا نظير قولك: هذا يوم حره، تريد: حر اليوم، ويوم برده، فلا يصح أن يعرف اليوم بشيء مضاف إلى اليوم، وليس هذا (٣) مثل سيد قومه، فتضيفه إلى ما هو مضاف إليه؛ لأن قومه وما أشبه ذلك شيء معروف يقصد إليه، وقولك يوم سروره زيدًا ويوم يسرك إنما هو مضاف إلى فعل، وإنما يقوم الفعل بفاعله، ليس أن الفعل شيء منفصل يقصد إليه في نفسه، و (واحد أمه)، و (عبد بطنه)، مضافان إلى الأم والبطن، وكل واحد منهما ظاهر يقوم بنفسه، وكذلك لا يجوز أن [تضيف الظرف إلى جملة معرف
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٢) ساقط من (ي).
(٣) ساقط من (ي).
550
يضمره (١) وإن كانت ابتداءً وخبرًا؛ لا يجوز أن] (٢) تقول: (آتيك يومَ ضحوتُه باردة)، ولا (ليلةَ أولها مطير)، فإن نوّنت في هذا وفي الأول حتى يخرج من حد (٣) الإضافة جاز، فقلت: آتيك يومًا ضحوته باردة، وآتيك يومًا يسرك. وهذا قول أبي عثمان، فإذا لم يجز أن يكون (يوم) في قوله ﴿يَوْمَ يَأْتِ﴾ [فاعل يأتي] (٤) ثبت أن في (يأتي) ضمير اليوم المتقدم ذكره في قوله: ﴿لِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ﴾، وتقديره: يوم يأتي هذا اليوم الذي تقدم ذكره ﴿لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ﴾، واليوم في قوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِ﴾ هو المراد به الحين والبرهة، ليس (٥) وضح النهار.
فأما قوله: ﴿يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ يحتمل ضربين:
أحدهما: أن يكون حالاً من الذكر الذي في ﴿يَأْتِ﴾، ونقدر فيه ضميرًا يرجع إلى ذي الحال، وتقديره: يوم يأتي ذلك اليوم غير متكلم فيه نفس، ومن قدَّر هذا التقدير كان أجدر بأن يحذف الياء من ﴿يَأْتِ﴾؛ لأنه كلام مستقل (٦) فيشبه (٧) -من أجل ذلك- الفواصل وإن لم يكن فاصلة، كما أن حذف الياء من قوله: ﴿ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ﴾ [الكهف: ٦٤] لما كان كلامًا
(١) كذا في الأصل، ولعل الصواب (معرفة بضميره) أي معرفة بضمير عائد على الظرف. حتى يستقيم السياق.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٣) في (ي): (وجه).
(٤) ساقط من (ب).
(٥) في (في): (بإضافة على).
(٦) في (ب): (مستقبل).
(٧) ساقط من (ي).
551
تامًّا أشبه الفواصل فحسن الحذف له.
الضرب الثاني: أن يكون قوله: ﴿لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ﴾ صفة اليوم المضاف إلى ﴿يَأْتِ﴾؛ لأن اليوم في (يوم يأتي) مضاف إلى الفعل، والفعل نكرة، فإذا كان كذلك لم يمتنع أن يوسف به اليوم، كما يوسف النكرة بالجملة من الفعل والفاعل، والمعنى: لا تكلم فيه نفس، فحذف فيه أو حذف الحرف وأوصل الفعل إلى المفعول به، ثم حذف الضمير من الفعل الذي هو صفته، كما يحذف من الصلة، ومثل ذلك قولهم: الناس رجلان رجل أكرمت ورجل أهنت.
وعلى هذا أيضًا لا يمتنع حذف الياء من في ﴿يَأْتِ﴾؛ لأن الصفة قد يستغني عنها الموصوف كما أن الحال كذلك، إلا أن من الصفات ما لا يحسن أن يحذف فيصير لذلك أشبه بغير الكلام التام، فأما إثبات الياء في الوصل والوقف وإسقاطها؛ فمن أثبتها في الوصل فهو القياس البين؛ لأنه لا شيء يوجب حذف الياء إذا وصل، وأما من حذف في الوقف فلأنها -وإن لم تكن فاصلة- أمكن أن تشبه بالفاصلة قياسا عليها؛ لأن هذه الياء تشبه الحركة؛ لأن الجازم يسقطها كما يسقط الحركة، فكما أن الحركة تحذف في الوقف، فكذلك ما أشبهها، ومن وقف بالياء فهو حسن؛ لأنها أكثر من الحركة في الصوت، فلا ينبغي إذا حذفت الحركة للوقف أن تحذف الياء له، كما لا تحذف سائر الحروف، ويدل على أن الياء (١) تنزل عندهم منزلة سائر الحروف تقديرُهم الحركة فيها في نحو (٢):
(١) في (ب): (تترك).
(٢) صدر بيت لقيس بن زهير العبسي، وعجزه: =
552
ألم يأتيك والأنباء (١) تنمي
فكأنهم قدروا أنها (٢) كانت متحركة ثم سكنت للجزم كسائر الحروف، وتحريكهم لها في الشعر يدل أيضًا على (٣) أنها عندهم بمنزلة سائر الحروف، وذلك نحو قول الشاعر (٤):
فيومًا يوافين الهوى غير ماضِيٍ
وأما من حذف في الوصل والوقف، فلأنه جعلها بمنزلة ما استعمل محذوفًا مما لم يكن ينبغي في القياس أن يحذف، نحو ولم يكُ ولا أدر (٥).
= بما لاقت لبون بني زياد
قالها في إبل للربيع بن زياد العبسي، استاقها قيس وباعها بمكة؛ لأن الربيع كان قد أخذ منه درعًا ولم يردها عليه.
انظر: "شعره" ٢٩، "الكتاب" ٢/ ٣٢، "حاشية النوادر" ص ٥٢٣، "سر صناعة الإعراب" ٧٨، ٦٣١، "الإيضاح" للفارسي ص ٢٣٣، "الإنصاف" ص ٢٢، "الدر المصون" ٦/ ٣٩٧، "الخصائص" ١/ ٣٣٣، "شرح شواهد الشافية" ص ٤٨، "الحجة" ١/ ٩٣.
(١) في (ب): (ألم تأتيك الأنباء).
(٢) ساقط من (ي).
(٣) ساقط من (ي).
(٤) صدر بيت لجرير من قصيدة هجا بها الأخطل، وعجزه:
ويومًا ترى منهن غُولًا تَغَوَّلُ
ويُروى (ماضيًا) مكان ماض أي من غير ميل منهن إليَّ، وتغول: تتلون. انظر: "الديون" ٤٥٥، "النوادر" ٢٠٣، "الحجة" ١/ ٣٢٥، "الكتاب" ٣/ ٣١٤، "المقتضب" ١/ ١٤٤، "خزانة الأدب" ٨/ ٣٥٨، "الخصائص" ٣/ ١٥٩، "شرح المفصل" ١٠/ ١٠١، "اللسان" (غو) ٦/ ٣٣١٨، (مضى) ٧/ ٤٢٢٢.
(٥) نهاية النقل عن "الحجة" ٤/ ٣٧٣ - ٣٧٨ بتصرف.
553
وقوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ﴾ أي من الأنفس في ذلك اليوم؛ لأن النفس في قوله: ﴿لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ﴾ لم يرد به واحداً، فصار كقوله: ﴿فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ﴾ [الحاقة: ٤٧] وقوله تعالى: (شقي) يقال: شقي (١)، يشقى، شقاء، وشقاوة، وشِقْوة، وأصل معنى الشقاء في اللغة: الشدة والعسرة يقال: شاقيت فلانا مشاقاة (٢): إذا عاسرته وعاسرك قال (٣):
إذا تشاقى الصابرات لم يرث
يعني: جملاً يصابر جمالًا على شدة المشي والتعب، قال ابن عباس (٤): ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ﴾ كتبت عليه الشقاوة، ﴿وَسَعِيدٌ﴾ كتبت عليه السعادة.
١٠٦ - قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِير﴾، قال الليث (٥): الزفر والزفير أن يملأ الرجل صدره غمًا ثم هو يزفر به، فالزفير إخراج النفس، والشهيق رد النفس. يقال شهق يشهق، وبعضهم يقول: شهوقًا، ونحو هذا روى أبو عبيد (٦) عن أبي زيد، وهو قول جميع أهل اللغة، والإنسان إذا زفر فمد نفسه للإخراج ارتفع صدره وانتفخ جنباه، ومن هذا يقال للفرس: إنه عظيم الزفرة، أي عظيم الجوف.
(١) "تهذيب اللغة" (شقو) ٢/ ١٩٠٨، "اللسان" (شقى) ٤/ ٢٣٠٤.
(٢) في (ب): (مشاقة).
(٣) الرجز بلا نسبة في اللسان (شقا) ٤/ ٢٣٠٤، "تهذيب اللغة" ٨/ ١٩٠٢، "أساس البلاغة" (شقو)، "تاج العروس" (شقي) وبعده:
يكاد من ضعف القوى لا ينبعث
(٤) الثعلبي ٧/ ٥٦ ب، "زاد المسير" ٤/ ١٥٨.
(٥) "تهذيب اللغة" (زفر) ٢/ ١٥٣٧، (شهق) ٢/ ١٩٤٦.
(٦) "تهذيب اللغة" (زفر) ٢/ ١٥٣٧ (شهق) ٢/ ١٩٤٦.
554
وأنشد للجعدي (١):
خِيطَ على زَفْرَةٍ فتمَّ ولم يَرْجع إلى دِقةٍ ولا هَضَمِ
يقول: كأنه زافر أبدًا من عظم جوفه، فكأنه زفر فخيط على ذلك، وقال ابن السكيت (٢) في قول الراعي (٣):
حوزيَّة طويت على زفراتها طي القناطر قد نَزَلن نُزُولًا
يريد كأنها زفرت ثم خَلِقتْ على ذلك.
وقال أبو إسحاق (٤): هما من أصوات المكروبين المحزونين، وحكي عن أهل اللغة جميعًا أن الزفير بمنزلة ابتداء صوت الحمار بالنهيق، والشهيق بمنزلة آخر صوته، ونحو هذا قال المفسرون. قال الضحاك (٥) ومقاتل (٦): الزفير أول نهيق الحمار، والشهيق آخره حين يفرغ من صوته (٧)
(١) البيت في "ديوانه" ٣٧، "الخصائص" ٢/ ١٦٨، "اللسان" (هضم) ٨/ ٤٦٧٣، "شرح شواهد الشافية" للبغدادي/ ٤٨، "شرح ديوان الحماسة" للمرزوقي/ ١٦٥، "تهذيب اللغة" (زفر) ٢/ ١٥٣٨.
(٢) "تهذيب اللغة" (زفر) ٢/ ١٥٣٨.
(٣) أبو جندل، تقدمت ترجمته. والبيت في "ديوانه" ٢١٨، "تهذيب اللغة" (زفر) ٢/ ١٥٣٨، "تاج العروس" (زفر)، و"أساس البلاغة" (زفر)، و"المعاني الكبير" ١٤٠، و"اللسان" (زفر) ٣/ ١٨٤١، وينسب للأعشى في اللسان (حوز) ٢/ ١٠٤٦، و"تاج العروس" (حوز) ٨/ ٥٧، وليس في ديوانه. وبلا نسبة في "جمهرة اللغة" ٩١٨.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٩ بمعناه، و"تهذيب اللغة" (شهق) ٢/ ١٩٤٦.
(٥) الثعلبي ٧/ ٥٦ ب، البغوي ٤/ ٢٠٠، "زاد المسير" ٤/ ١٥٨.
(٦) "تفسير مقاتل" ١٤٩ ب، وفيه (زفير: آخر نهيق الحمار، شهيق في الصدر أول نهيق الحمار)، الثعلبي ٧/ ٥٦ ب، البغوي ٤/ ٢٠٠، "زاد المسير" ٤/ ١٥٨.
(٧) في (ف): (والشهيق آخر صوته حين يفرغ).
555
إذا ردده في الجوف، وقال أبو العالية (١): الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر، ويبين هذا قول رؤبة (٢):
حَشْرَجَ في الجوفِ صهيلا أو شَهقْ حتى (٣) يقالَ ناهقٌ وما نَهَقْ
وكلام ابن عباس قريب مما قاله أهل اللغة والمفسرون، فإنه قال (٤): الزفير الصوت الشديد، والشهيق الصوت الضعيف.
وقال في رواية عطاء في قوله: ﴿لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾ يريد: ندامة ونفسا عاليًا (٥) وبكاء لا ينقطع.
١٠٧ - قوله تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾، الأكثرون من أهل المعاني والتفسير على أن قوله: ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ للتأبيد (٦) والمراد به خالدين فيها أبدًا.
(١) الطبري ١٢/ ١١٦، الثعلبي ٧/ ٥٦ ب، البغوي ٤/ ٢٠٠، "زاد المسير" ٤/ ١٥٩، وفي "تهذيب اللغة" (شهق) ٢/ ١٩٤٦ عن الربيع.
(٢) البيت من قصيدة له يصف فيها حمار الوحش، وفيه (سحيلاً) وليس "صهيلًا"، و"حشرج" ردد الصوت في حلقة ولم يخرجه، و"السحيل" الصوت الذي يدور في صدر الحمار في نهيقه، قاله في "اللسان".
انظر: "ديوانه" ص ١٠٦، "اللسان" (حشرج) ٢/ ٨٨٤، الطبري ١٥/ ٤٧٩، القرطبي ٩/ ٩٨، "البحر المحيط" ٥/ ٢٥١، "الدر المصون" ٦/ ٣٩٠، "تاج العروس" (حشرج) ٣/ ٣٢٦.
(٣) ساقط من (ب).
(٤) الطبري ١٢/ ١١٦، الثعلبي ٧/ ٥٦ ب، البغوي ٤/ ٢٠٠، "زاد المسير" ٤/ ١٥٩.
(٥) ساقط من (ب).
(٦) الطبري ١٢/ ١١٧، البغوي ٤/ ٢٠٠، "زاد المسير" ٤/ ١٥٩، ابن عطية ٧/ ٤٠١، القرطبي ٩/ ٩٩.
556
قال الضحاك (١): ما دامت سموات الجنة والنار وأرضهما، وكل ما علاك وأظلك فهو سماء، وكل ما استقرت عليه قدمك وثبت فهو أرض.
وقال الحسن (٢) أراد: ما دامت الآخرة كدوام السماء والأرض في الدنيا.
وقال ابن قتيبه (٣): للعرب في معنى الأبد ألفاظ يستعملونها في كلامهم، يقولون: لا أفعل ذلك ما اختلف الليل والنهار، وما طما البحر، وما أقام الجبل، وما دامت السماء والأرض، في أشباه كثيرة لهذا، يريدون: لا أفعله أبدًا، فخاطبهم الله بما يستعملون.
وقال ابن الأنباري (٤): إن الله تعالى خاطب العرب على ما تعقل، ومن ألفاظهم في التأبيد أن يقولوا: لا أفعل ذلك ما دامت السموات والأرض، وما أن السماء سماء، وما بلَّ بحر صوفة (٥)، وما ناحت الحمام وتغنت، وما أطت الإبل، وما اجترت الناب (٦)، وما لألأت الفور (٧) فلما
(١) الثعلبي ٧/ ٥٦ ب، البغوي ٤/ ٢٠٠، القرطبي ٩/ ٩٩.
(٢) الثعلبي ٧/ ٥٦ ب. وأخرج ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٨٦، وأبو الشيخ عن الحسن قال: "تبدل سماء غير هذه السماء وأرض غير هذه الأرض، فما دامت تلك السموات وتلك الأرض" "الدر" ٣/ ٦٣٤.
(٣) "مشكل القرآن وغريبه" ١/ ٢١٣.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ١٥٩.
(٥) "البيان والتبيين" ٣/ ٧.
(٦) في (ب): (النار).
(٧) في الثعلبي ٧/ ٥٧ أ "وما لألأت العُفْر بأذنابها". ويقال "ما لألأت الفوز بأذنابها" أي لا أفعل ذلك ما حركت الظباء أذنابها. انظر: "جمهرة الأمثال" ٢/ ٢٨١، "اللسان" (لأ لأ، فور)، "سمط اللآلئ" ص ٥، وفيه (ما لألأت العفر).
557
كانوا يستعملون هذه الألفاظ ظنًّا منهم أن هذه الأشياء لا تتغير، خاطبهم الله على سبيل ذلك فقال تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ عندكم وليست عندنا دائمة، كما قال -يعني أبا جهل-: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ﴾ [الدخان: ٤٩] أي عند نفسك، فأما عندنا فلا.
فعلى هذا القول معنى الاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾؛ قال الفراء: (١) هذا استثناء استثناه الله تعالى ولا يفعله، كقولك: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وعزيمتك على ضربه، فكذلك قال: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ﴾، ولا يشاؤه.
هذا كلامه وزاده أبو بكر بيانا فقال: يجوز أن يكون الاستثناء ذكره الله تعالى وهو لا يريد أن ينقصهم من الخلود شيئًا، كما يقول الرجل لغلامه: والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك، وهو لا ينوي إلا ضربه، فمعنى الاستثناء منه أني لو شئت أني لا أضربك لقدرت، غير أني مجمع على ضربك، وكذلك معنى الآية خالدين فيها أبدًا إلا أن يشاء ربك، وهو لا يشاء إلا تخليدهم، فوقع الاستثناء على معنى لو شاء أن لا يخلدهم لقدر، والدليل على أن الاستثناء هاهنا لا يعود إلى (٢) نقص الخلود أن الله تعالى بين في مواضع من كتابه أنه يخلد الكافرين في النار، والمؤمنين في الجنة، فإذا ذكر في هذه الآية الاستثناء، كان ذلك استثناء لا يكون ولا يوجد، فجرى مجرى قول العرب: والله لأهجرنك أبدًا (٣) إلا أن يشيب
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٢٨.
(٢) في (ي): (على).
(٣) ساقط من (ب).
558
الغراب (١)، وهذا الاستثناء لا يفيد نقص شيء من التأبيد؛ لأن الغراب لا يشيب، كذلك الله تعالى [لا يريد أن ينقصهم من الخلود شيئًا بعد أن أخبر به.
وهذا القول ذكره أبو إسحاق (٢) في أحد قولي أهل اللغة، وحكى قولا آخر، قال بعضهم]: (٣) الاستثناء وقع من الخلود بمقدار موقفهم للحساب، المعنى: خالدين فيها أبدًا إلا مقدار موقفهم للحساب.
وقال ابن كيسان: الاستثناء وقع بمقدار تعميرهم في الدنيا قبل مصيرهم إلى الجنة والنار، واختاره ابن قتيبة (٤) فقال: خالدين في النار إلا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك.
وقيل: الاستثناء يعود إلى حبس الفريقين في البرزخ، وهذه الأقوال قريبة من السواء؛ لأنه يمكنك الجمع بينها فتقول: خالدين فيها أبدًا إلا مقدار مكثهم في الدنيا والبرزخ والوقوف للحساب، ثم يصيرون إلى النار أبدًا أو إلى الجنة أبدًا.
وقال جماعة (٥) من المفسرين: هذا الاستثناء يعود إلى إخراج أهل
(١) هذا المثل يضرب في الاستحالة، انظر: "المستقصى" ٢/ ٥٩، "فصل المقال" ٤٧٤، ٤٨٢، "تمثال الأمثال" ٤٢٢.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٩.
(٣) ما بين المعقوفين مطموس في (ب).
(٤) "مشكل القرآن وغريبه" (١/ ٢١٤، "تأويل مشكل القرآن" / ٧٦.
(٥) ذكره الطبري ١٢/ ١٢٠ عن قتادة وأبي سنان، والضحاك، وخالد بن معدان. الثعلبي ٧/ ٥٧ أ، البغوي ٤/ ٢٥٠، "زاد المسير" ٤/ ١٦٠ وعزاه لابن عباس والضحاك.
559
التوحيد [من النار] (١) وقدر مدة إدخال مذنبي المسلمين النار، وكأنه قال: خالدين في النار أبدًا إلا ما شاء ربك من [إخراج المذنبين إلى الجنة، وخالدين في الجنة أبدًا إلا ما شاء ربك من] (٢) إدخال المذنبين النار مدة من المدد ثم يصيرون إلى الجنة، وهذا معنى قول ابن عباس (٣)، وعلى هذا الاستثناء وقع من الخلود، ولهذا قال: ﴿مَا شَاءَ﴾ ولم يقل من شاء؛ لأن المذنبين من المؤمنين لا يكونون أشقياء، والأشقياء هم الكافرون.
قال أبو إسحاق (٤): ويجوز أن يكون الاستثناء من الزفير والشهيق على أن لهم فيها زفيرًا وشهيقًا إلا ما شاء ربك [من أنواع العذاب الذي لم يذكر، وكذلك لأهل الجنة نعيم مما ذكر ولهم ما لم يذكر ما شاء ربك] (٥). هذا كله إذا قلنا إن المراد بقوله ما دامت السموات والأرض التأبيد، [فإذا قلنا ليس المراد به التأبيد، وهو قول ابن عباس؛ لأنه قال في قوله ﴿مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ (٦): من ابتداء كونهما إلى وقت فنائهما (٧)، وهذا لا يدل على التأبيد، لكنه يتبين بما قد حصل طول مدته وتصورت حالة مشاهدته، فكأنه قال: خالدين فيها مدة العالم، وسَهُلَ أمر الاستثناء لأن
(١) ساقط من (ي).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٣) الثعلبي ٧/ ٥٧ أ، وأخرجه ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٨٦، وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس كما في "الدر" ٦/ ٦٣٤، "زاد المسير" ٤/ ١٦٠.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨٠.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٧) "تنوير المقباس" ص ١٤٥، والثعلبي ٧/ ٥٦ ب.
560
للسموات والأرضِ وقتا تتغيران فيه عن هيئتهما، يقول الله تعالى: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ﴾ [إبراهيم: ٤٨]، فأراد أنهم خالدون فيها مدة العالم، إلا ما شاء ربك من الزيادة المضاعفة لا إلى نهاية، و (إلا) هاهنا تكون بمعنى سوى أو (الواو) كما تقول في الكلام: لك عندي ألف إلا ألفين؛ أي سوى الألفين الذين لك عندي، والمعنى على هذا: خالدين فيها مقدار دوام السموات والأرض سوى ما شاء ربك أن يزيدهم من الخلود على مدة العالم، وهذا أحد قولي الفراء (١)، واحد قولي أهل اللغة فيما حكاه الزجاج (٢)، وذكرنا في مواضع من هذا الكتاب كون (إلا) بمعنى الواو وبمعنى سوى (٣).
(١) "معاني القرآن" ٢/ ٢٨.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٧٩.
(٣) ذهب الكوفيون وعلى رأسهم الفراء وثعلب -كما ذكر أبو حيان- ومن تبعهم كأبي عبيدة والأخفش والهروي وابن فارس والجرجاني وبعض أصحاب المعاجم كالجوهري وابن منظور والفيروزآبادي إلى أن (إلا) تأتي بمعنى الواو العاطفة، واحتجوا بكثرة مجيئه في كتاب الله وكلام العرب. وذهب البصريون ومن تبعهم كالطبري ومكي القيسي وأبي البركات الأنباري وابن مالك والمالقي والمرادي وابن عقيل وابن القيم إلى أن (إلا) لا تأتي بمعنى الواو، وعللوا صحة ما ذهبوا إليه بأمرين:
أحدهما: أن الأصل أن ينفرد كل حرف بمعنى، ولا يقع حرف بمعنيين؛ لما في ذلك من الاشتراك الملبس، وما صح منه عن العرب يقتصر عليه، ولا يقاس.
الثاني: أن (إلا) للاستثناء، وهو إخراج الثاني من حكم الأول، والواو للجميع، وهو يقتضي إدخال الثاني في حكم الأول، فلا يكون أحدهما بمعنى الآخر؛ لأن المعنيين متباينان. وأجابوا عما احتج به الكوفيون من الآيات والأبيات بأنها جميعًا محمولة على الاستثناء المنقطع. =
561
قال النحويون: إذا استثنينا (١) زائدًا من ناقص لحق بالأول، كما لو قال: لك عندي ألف إلا الألفين، فقد أقر بثلاثة الآلاف لأنه استثنى زائدًا من ناقص، ومعنى (إلا) هاهنا كمعنى الواو، وكذلك في الآية، الذي يشاؤه (٢) الله من الخلود أكثر من مدة كون السموات والأرض، وكأن المعنى ما دامت السموات والأرض وما شاء ربك مما يريد إلى ما لا يتناهى (٣)، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾، قال ابن عباس في رواية عطاء: يريد من إخراج أهل التوحيد من النار.
١٠٨ - قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا﴾، يقال (٤) سَعِدَ فلان يَسْعَدُ سعادة وسَعْدًا فهو سعيد نقيض شقي، وقرأ أهل الكوفة ﴿سُعِدُوا﴾ بضم
= ورجح أبو حيان مذهب البصريين، قال: وإثبات (إلا) بمعنى الواو لا يقوم عليه دليل والاستثناء سائغ فيما ادُّعي فيه أن (إلا) بمعنى (الواو).
راجع: "الإنصاف" ١/ ٢٦٦ - ٢٧٢، "البيان في غريب إعراب القرآن" ٢/ ٢١٩،
"معاني القرآن" للفراء ١/ ٨٩ - ٩٠، ٢/ ٢٨٧ - ٢٨٨، "مجاز القرآن" ١/ ٦٠، "البحر المحيط" ١/ ٤٤٢، "معاني القرآن" للأخفش ١/ ١٥٢، "التبيين" ٤٠٣، "الصحاح" (إلا) ٦/ ٢٥٤٥، "لسان العرب" (إلا) ١/ ١٠٤، "القاموس المحيط" (إلا) ٩٦٢، "معاني الحروف" / ١٢٨، "سر صناعة الإعراب" ١/ ٣٠٣، "بدائع الفوائد" ٣/ ٧٠ - ٧١.
(١) في (ي): (استثنى).
(٢) في (ب): (يشاء).
(٣) قال القرافي -بعد أن ذكر الأقوال الذي الاستثناء في هذه الآية-: وهذه كلها أقوال لا حاجة إليها ولا ضرورة، بل الاستثناء صحيح على بابه لمقتضى ظاهر اللفظ، وأنه ما تقدم من الدوام قبل الدخول هذا كله إذا قلنا سموات الدنيا وأرضها، وإن قلنا سموات الجنة وأرضها وسماء النار وأرضها فهي تدوم لا إشكاك في الدوام. أ. هـ "الاستغناء في معنى الاستثناء" /٤٢٠.
(٤) "تهذيب اللغة" (سعد) ٢/ ١٦٩٠، اللسان (سعد) ٤/ ٢٠١٢.
562
السين (١). وسيبويه والمحققون من أهل اللغة على أن كلام العرب (أسعده الله) وأنه لا يبني في الثلاثة من هذا للمفعول به، فلا يقال (سُعِدَ) كما لا يقال (شُقِي)؛ لأن السعادة مصدر لا يتعدي فعله، وقالوا في هذه القراءة: إنها لغة خارجة عن القياس، أو تكون من باب (فَعَلَ وفَعَلْتُه)، نحو: غاض الماء وغِضْتُه، وحَزَن وحَزَنْته، كذلك يقال سَعَد وسَعَدْتُه، فإن احتج صاحب هذه القراءة بقولهم (مسعود) وهو على (سعد)، فلا دلالة قاطعة في هذا؛ لأنه يجوز أن يكون مثل (أجنه الله فهو مجنون)، و (أحبه الله فهو محبوب)، جاء المفعول في نحو هذا على حذف الزيادة، كما جاء الفاعل بحذف الزيادة من نحو:
[يكشف عن] (٢) جمَّاته دلو الدالْ (٣)
وإنما هو المدلي، وكذلك قوله (٤):
ومَهْمَهِ هالك من تعرجا
(١) قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر (سَعِدوا) بفتح السين وقرأ حمزة والكسائي، وحفص عن عاصم (سُعِدوا) بضم السين، "السبعة" ٣٣٩ "الكشف" ١/ ٥٣٦ "إتحاف" ص ٢٦٠، الطبري ١٢/ ١١٩.
(٢) ساقط من (ي).
(٣) من رجز ينسب للعجاج وبعده:
عباءة غبراء من أجن طال
انظر: "ديوانه" ٣٢١/ ٢ الملحقات، "اللسان" (دلا) ٣/ ١٤١٧، "أدب الكاتب" / ٦١٢، "تاج العروس" ٧/ ١٩٣ (غثر)، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٢١٣.
(٤) القائل العجاج وقبله:
عصرًا وخُضْنا عيشَهُ المعُدْلَجا
والمعنى: من أقام بهذا المهمه فقد هلك: "ديوانه": ٢/ ٤٣، "الخصائص" ٢/ ٢١٠، "المحتسب" ١/ ٩٢ "المخصص" ٦/ ١٢٧ "المقتضب" ٤/ ١٨٠.
563
في أحد القولين، والقول الآخر: أن تميمًا تقول: هلكني زيد، ومن الحذف قوله (١):
يخرجن من أجواز ليل غاض
يريد: مُغْض، وكذلك قوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ [الحجر: ٢٢] وهي تلقح الشجر فإذا لقحتها وجب أن يكون الجمع: ملاقح: فجاء على حذف الزيادة، [وكذلك (مسعود) يجوز أن يكون على حذف الزيادة] (٢)، ثم يمكن أن يقال: ﴿سُعِدُوا﴾ أيضًا من أسعده الله، وقد جاء على حذف الزيادة كما ذكرنا في مسعود، هذا كلام المحققين من أهل اللغة (٣)، والمتأخرون أجازوا: سعده الله وأسعده، فقد ذكر الزجاج (٤) في باب الوفاق: سَعَدَ الله جَدَّه، فهو مسعود، وأسعد جده فهو مُسْعَد، وذكر الفارابي: السعد معنى (٥) الإسعاد في باب فَعَلَ يَفْعَل (٦)، وأجاز
(١) من أرجوزة لرؤبة يمدح فيها بلال بن أبي بردة، وبعده:
نضو قداح النايل النواضي
انظر: "ديوانه" ٨٢، "المقتضب" ٤/ ١٧٩، "المحتسب" ٢/ ٢٤٢، "اللسان" (غضا).
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٣) ما سبق نقله بتصرف عن أبي علي الفارسي في كتابه "الحجة" ٤/ ٣٧٨ - ٣٨٠.
(٤) باب الوفاق هو من كتاب "فعلت وأفعلت" للزجاج، وهو مرتب على الحروف فيذكر ما ورد على صيغة (فعلت وأفعلت) في كل حرف ويقسمه إلى قسمين: الوفاق: وهو ما اتفق في المعنى، والخلاف: ما اختلف في المعنى. انظر: الإحالة هنا في كتاب "فعلت وأفعلت" ص ٢١.
(٥) كذا في جميع النسخ ولعل الصواب (بمعنى) بالباء.
(٦) في (ي): (معنى الإسعاد في باب الفعل فعل يفعل). وينظر: "ديوان الأدب" للفارابي ٢/ ٢٠١.
564
الأزهري (١) أيضًا: سعد وأسعد، ولعل هؤلاء ذهبوا في هذا الذي أجازوه إلى هذه القراءة، وقال الفراء (٢): كلام العرب سعد الرجل وأسعده الله، إلا هذيلًا فإنهم يقولون: سُعد الرجل بالضم، وبذلك قرأ أصحاب (٣) عبد الله، وقال الكسائي (٤): سُعدوا وأسعدوا لغتان.
وقوله تعالى: ﴿عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾، انتصب (عطاء) على المصدر بما دل عليه الأول، كأنه قيل: إعطاهم النعيم عطاءً غير مجذوذ، ويكون العطاء اسما أقيم مقام المصدر، كقول القطامي (٥):
وبعد عطائك المائة الرتاعا
والمجذوذ: المقطوع في قول المفسرين (٦) كلهم، يقال: جذه يجذه جذًّا، وجذ الله دابرهم. وقال النابغة (٧):
(١) "تهذيب اللغة" (سعد) ٢/ ١٦٩٠.
(٢) "الدر المصون" ٤/ ١٣١.
(٣) "البحر" ٥/ ٢٦٤، وهي قراءة حمزة والكسائي وحفص، وابن مسعود وطلحة بن مصرف وابن وثاب والأعمش.
(٤) "البحر" ٥/ ٢٦٤، "الدر المصون" ٤/ ١٣١.
(٥) القطامي وصدره:
أكفرًا بعد رد الموت عني
انظر: "ديوانه" / ٣٧، "الخزانة" ١/ ٣٩١ "شرح الشواهد" للعيني ٣/ ٥٠٥، "اللسان" (عطا) ٥/ ٣٠٠١، السيوطي / ٢٨٧، "الدرر" ١/ ١٦١، ٢/ ١٢٧، "تذكرة النحاة" ص ٤٥٦، "معاهد التنصيص" ١/ ١٧٩، "المقاصد النحوية" ٣/ ٥٠٥.
(٦) رواه الطبري ١٥/ ٤٩٠ عن الضحاك وقتادة وابن عباس ومجاهد وأبي العالية وابن زيد، وانظر: الثعلبي ٧/ ٥٨ أ، البغوي ٤/ ٢٠١، "زاد المسير" ٤/ ١٦٢، القرطبي ٩/ ١٠٣ ابن كثير ٢/ ٥٠٤.
(٧) النابغة الذبياني من قصيدته المشهورة في مدح عمرو بن الحارث الأعرج يقول في وصف سيوف الغسانين، و (السلوقي) الدروع منسوبة إلى سلوق مدينة باليمن،=
565
تَخُذّ السَّلُوقيَّ المضاعف نَسجُهُ ويوقدن بالصفاح نار الحباحب
والآية تدل على أن نعيم أهل الجنة لا ينقطع أبدًا.
١٠٩ - قوله تعالى: ﴿فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ﴾: و ﴿لَا تَكُ﴾ أصلها: لا تكن، وإنما حذفت النون عند سيبويه لكثرة استعمال هذا الحرف.
قال أبو إسحاق (١) في قوله ﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (٢): ذكر الجلة من البصريين أنه اجتمع فيها كثرة الاستعمال، ومع ذلك أشبهت النون حروف اللين بأنها تكون علامة كما تكون حروف اللين علامة، وأنها غنة تخرج من الأنف فلذلك احتملت الحذف.
وقال أبو الفتح الموصلي (٣): أشبه الحروف الصحيحة بحروف المد: النون؛ لأنها ضارعت بالمخرج والزيادة والغنة والسكون في (لا تكن) حروفَ المد، فحذفت كما يحذفن إذا وقعن طرفًا.
وقوله تعالى: ﴿مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ﴾ يعني المشركين، قال أبو بكر الأنباري: قوله تعالى: ﴿مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ﴾ ليس على ظاهره؛ لأنه لا حجة ولا طعن عليهم بمعرفة أعيان معبوداتهم، ولكنه من باب حذف المضاف، تلخيصه: ولا تك في شك من حال ما يعبدون في أنها لا تضر ولا تنفع.
وقوله تعالى: ﴿مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ﴾ أي إلا كعبادة
= "الصفاح": الحجارة العراض، "الحباحب" الشرر الذي يسقط من الزناد، وانظر: "ديوانه" ص ٣٢ "أمالي ابن الشجري" ٢/ ٢٦٩، "اللسان" (سلق)، "تهذيب اللغة" ٢/ ١٧٣٧، الطبري ١٥/ ٤٨٩، الزجاج ٣/ ٨٠ والقرطبي ٩/ ١٠٣.
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٢٢٢.
(٢) النحل: ١٢٠.
(٣) "سر صناعة الإعراب" ٢/ ٢٣٨ باختصار.
آبائهم من قبل، ﴿مَا﴾ (١) مع الفعل بمنزلة المصدر؛ يريد: أنهم على طريق (٢) التقليد يعبدون الأوثان كعبادة آبائهم.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ﴾، أي من العذاب في قول ابن عباس (٣) وغيره.
١١٠ - قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ﴾، قال ابن عباس (٤): يعزّي النبي - ﷺ -، يعني أن هذا تسلية للنبي - ﷺ - بالحال التي تعم من التكذيب، أي إنْ كذبوا بالكتاب الذي [آتيناك، فقد كذب من قبلهم بالكتاب الذي] (٥) آتينا موسى.
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾، قال ابن عباس (٦): يريد أني أخرت أمتك إلى الموت أو إلى يوم (٧) القيامة، ولولا ذلك لعجلت عقاب من كذبك، قال ابن الأنباري (٨): أعلم الله أنه لولا ما تقدم من حكمه بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة، لكان الذي يستحقونه عند عظيم كفرهم إنزال عاجل العذاب بهم، لكن المتقدم من
(١) ساقط من (ي).
(٢) في (ي): (تقدير).
(٣) هذا القول مروي عن ابن زيد كما في الطبري ١٢/ ١٢٣، والمروي عن ابن عباس هو "ما وعدوا فيه من خير أو شر" كما في الطبري ١٢/ ١٢٢، "زاد المسير" ٤/ ١٦٢.
(٤) الثعلبي ٧/ ٥٨ ب، البغوي ٤/ ٢٠٢، "زاد المسير" ٤/ ١٦٢، ابن عطية ٧/ ٤٠٧.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٦) "زاد المسير" ٤/ ١٦٢، الطبري ١٢/ ٢٣٢ من غير نسبة.
(٧) ساقط من (ي).
(٨) الرازي ١٨/ ٦٩.
قضائه أخر ذلك عنهم في دنياهم، فابن عباس والكلبي (١) وأكثر أهل التفسير على أن هذا في كفار مكة، وقال مقاتل بن سليمان (٢): يُعني بهذا قوم من أصحاب موسى، والظاهر هو الأول؛ لأن الذين كذبوا بالتوراة أهلكوا في الدنيا عاجلًا، ولم تؤخر عقوبتهم إلى الآخرة.
وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ﴾ يعني من القرآن، وفي قول مقاتل (٣): من كتاب موسى، ﴿مُرِيبٍ﴾ هو موقع للريبة.
١١١ - قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ﴾ الآية، اختلف القراء (٤) في تشديد ﴿إِنَّ﴾ و ﴿لمَّا﴾ وتخفيفهما؛ فقرأ أبو عمرو والكسائي: ﴿وَإِنَّ﴾ مشددة النون ﴿لمَا﴾ خفيفة، قال الزجاج (٥): تخفيف ﴿لمَا﴾ هو الوجه والقياس، ولام ﴿لمَا﴾ لام ﴿إِنَّ﴾ و (ما) زائدة مؤكدة لم تغير المعنى ولا العمل.
وقال أبو علي (٦): هذه القراءة وجهها بين، ومثاله من الكلام (إن
(١) "تنوير المقباس" ص ١٤٥.
(٢) "تفسير مقاتل" ١٤٩ ب.
(٣) ساقط من (ي).
(٤) قرأ ابن كثير ونافع بالتخفيف فيهما، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر تخفيف النون وتشديد الميم، وقرأ حمزة والكسائي بتشديد النون، واختلفا في الميم فشددها حمزة وخففها الكسائي. وقرأ أبو عمرو مثل قراءة الكسائي، وقرأ ابن عامر مثل قراءة حمزة، وقرأ ابن عامر مثل قراءة حمزة، وقرأ حفص عن عاصم بالشديد فيهما مثل حمزة وابن عامر. انظر: "السبعة" ٣٣٩، الطبري ١٢/ ٢٣٢ - ١٢٤، "إتحاف" ص ٢٦٠، "الكشف" ١/ ٥٣٦.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨١.
(٦) "الحجة" ٤/ ٣٨١ - ٣٨٦ بتصرف واخصار.
568
زيدًا [لما لينطلقن)]، (١)، فاللام في (لما) هي اللام التي تقتضيه (إنَّ)، و (إنَّ) تقتضي أن يدخل على خبرها أو اسمها لام كقوله ﴿إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (٢) [النحل: ١٨]، ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾ [الحجر: ٧٧]، واللام الأخرى هي التي لتلقّي القسم، نحو: (والله لتفعلن)، ودخلت (ما) لتفصل بين اللامين؛ لأنه إذا كره أن تجتمع "اللام" و"أن" مع اختلاف لفظيهما لاتفاقهما في معنى التأكيد ففصل بينهما فأنْ يفصل بين اللامين مع اتفاق اللفظين أجدر، فقوله ﴿وَإِنَّ كُلًّا﴾، نصب ﴿كُلًّا﴾ بـ (أن) ودخلت اللام -وهي لام الابتداء- على خبر "إن" وهو قوله ﴿لمَّا﴾، وقد دخلت في الخبر لام أخرى وهي التي يتلقى (٣) بها القسم، وتختص بالدخول على الفعل ويلزمها في أكثر (٤) الأمر أحد النونين، فلما اجتمعت اللامان فصل بينهما بـ (ما) كما فصل بين "أن" و"اللام"، فدخلت (ما) لهذا المعنى -وإن كانت زائدة- لتفصل.
وقال الفراء (٥) في وجه هذه القراءة: جعل (ما) اسما للناس؛ كما قال تعالى: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ﴾ [النساء: ٣] ثم جعل اللام التي فيها جوابًا لـ (إنَّ)، وجعل اللام التي في ﴿لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ لامًا دخلت على نية يمين فيما بين "ما" وصلتها، كما تقول: (هذا مَنْ لَيَذْهَبَنَّ)، و (عندي ما
(١) ما بين المعقوفين بياض في (ب).
(٢) ساقط من (ي).
(٣) ساقط من (ي).
(٤) ساقط من (ب).
(٥) "معانى القرآن" ٢/ ٢٨.
569
لَغَيْرُهُ خيرٌ منه)، ومثله ﴿وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ﴾ [النساء: ٧٢]، وهذا القول كالأول إلا أنه أجاز أن تكون "ما" هاهنا اسمًا بمعنى "مَنْ"، وعند الزجاج (١) والبصريين (ما) صلة زائدة كما ذكرنا، وقرأ ابن كثير ونافع ﴿وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا﴾ مخففتين. ووجه هذه القراءة ما ذكره سيبويه (٢)، وهو أنه قال: حدثنا من نثق به أنه سمع من العرب من يقول: (إنْ عمروًا (٣) لمنطلق)، قال: وأهل المدينة يقرؤون ﴿وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا﴾ يخففون وينصبون.
قال الأزهري (٤): أخبرني المنذري عن أبي طالب النحوي أنه قال: أهل البصرة أعني به سيبويه وذويه يقولون العرب تخفف (أنّ) الشديدة وتعملها وأنشدوا (٥):
ووجه حسن النحر... كأنْ ثدييه حقان
أراد (كأنّ) فخفف وأعمل، قال أبو علي (٦): ووجه النصب بها مع
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨١.
(٢) "الحجة" ٤/ ٣٨٦.
(٣) في (أ)، (ب): (إن عمرًا).
(٤) "تهذيب اللغة" (إن) ١/ ٢٢٣، وفيه "وقال أبو طالب النحوي، فيما روى عنه المنذري، قال: أهل البصرة غير سيبويه وذويه يقولون: إن العرب تخفف (إن) الشديدة وتعملها.. " والصحيح ما أثبته كما في "الكتاب" ١/ ٢٨٣.
(٥) في رواية (ووجه مشرق النحر) وهو من شواهد سيبويه التي لم تنسب، والنقل مع الشاهد في "الكتاب" ٢/ ١٣٥، وانظر: "الخزانة" ٤/ ٣٥٨، ابن الشجري ١/ ٣٦٢، الطبري ١٢/ ١٢٥، "تهذيب اللغة" (إن) ١/ ٢٢٣، "الإنصاف" ص ١٦٦، "أوضح المسالك" ١/ ٣٧٨، "تلخيص الشواهد" ص ٣٨٩، "شرح المفصل" ٨/ ٨٢، "اللسان" (أنن) ١/ ١٩، "المقاصد النحوية" ٢/ ٣٠٥.
(٦) "الحجة" ٤/ ٣٨٦.
570
التخفيف من القياس أن (أنَّ) مشبهة في نصبها بالفعل، والفعل يعمل محذوفًا كما يعمل غير محذوف (١)، وذلك في نحو: (لم يك زيد منطلقًا)، وكذلك (لا أدر).
قال الفراء (٢): لم نسمع العرب تخفف (أنَّ) وتعملها إلا مع المكني؛ لأنه لا يتبين فيه إعراب، نحو قوله (٣):
فلو أنْكِ في يوم الرخاء سألتني فراقكِ لم أبخل وأنتِ صديق
فأما مع الظاهر فلا، لكن إذا خففوها رفعوا، قال: ومن قرأ ﴿وَإِنَّ كُلًّا﴾ فإنهم نصبوا (كلًا) بـ ﴿لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ كأنه قال: وإن ليوفينهم كلا. قال: وهذا وجه لا أشتهيه؛ لأن اللام لا يقع الفعل الذي بعدها (٤) على شيء قبله، وقرأ حمزة وابن عامر وحفص ﴿وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا﴾ مشددتان.
والكلام في تخفيف "إنَّ" وتشديدها قد ذكرناه، وبقي الكلام في تشديد ﴿لَمَّا﴾ هاهنا.
قال أبو إسحاق (٥): زعم بعض النحويين أن معناه (لمن ما) ثم قلبت
(١) في (ي): (كما يعمل في غير محذوف).
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٢٩.
(٣) البيت لم أعثر على قائله وهو في "الإنصاف" ١٦٩، "شرح المفصل" لابن يعيش ٨/ ٧١، ٧٣ "خزانة الأدب" ٢/ ٤٦٥، ٤/ ٤٥٢، "شرح الشواهد" للسيوطي ص ٣١، "همع الهوامع" ٢/ ١٨٧، "الدر" ١/ ١٢٠، "الإنصاف" ١/ ٢٠٥، "الجنى الداني" / ٢١٨، "شرح ابن عقيل" ١/ ٣٨٤، "اللسان" (حرر) ٢/ ٨٣٠، "المقاصد النحوية" ١/ ٣١١.
(٤) ساقط من (ب).
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨١.
571
النون ميمًا، فاجتمعت ثلاث ميمات، فحذفت إحداها وهي الوسطى فبقيت (لمّا). قال: وهذا القول ليس بشيء؛ لأن (من) لا يجوز حذفها لأنها اسم على حرفين، ولكن التشديد فيه قولان: أحدهما يروى عن المازني (١) زعم أن أصلها "لَمَا" ثم شددت الميم. قال: وهذا القول ليس بشيء أيضًا (٢)؛ لأن الحروف نحو: (ربّ) وما أشبهها تُخفف، ولسنا نثقل ما كان على حرفين.
قال: وقال بعضهم قولا (٣) لا يجوز غيره والله أعلم، أن (لما) في معنى (إلا) كما تقول: سألتك لما فعلت وإلا فعلت، ومثله ﴿إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ﴾ [الطارق: ٤] معناها إلا عليها.
وقال الفراء (٤): أما من شدد (لما) فإنه والله أعلم أراد لمن (٥) ما ليوفينهم، فلما اجتمعت ثلاث ميمات حذفت واحدة فبقيت ثنتان فأدغمت في صاحبتها كما قال (٦):
واني لمما (٧) أصدر الأمر وجهه إذا هو أعيا بالسبيل مصادره
قال: وربما تحذف بعض الحروف إذا اجتمعت كما أنشد
(١) "تهذيب اللغة" (لم) ٤/ ٣٢٩٥.
(٢) في (جـ)، (ي): (أصلا).
(٣) ساقط من (ي).
(٤) "معاني القرآن" ٢/ ٢٩.
(٥) في (ي): لما.
(٦) لم أهتد إلى قائله، وانظر: "معاني القرآن" ٢/ ٢٩، الطبري ١٢/ ١٢٣ - ١٢٤ القرطبي ٩/ ١٠٥، "الدر المصون" ٦/ ٤٠٣.
(٧) في (ب): (فلما).
572
الكسائي (١):
وأشمتَّ العداة بنا فأضحوا لَدَيَّ تباشرون بما لقينا
معناه لَدَيَّ يتباشرون فحذف لاجتماع الياءات، ومثله (٢):
كأن من آخرها إلقادمِ مَخْرِمَ نجدِ فارع المخارمِ
أراد (إلى القادم)، فحذف اللام عند اللام، قال: وأما من جعل (لما) بمنزلة (إلا) فإنه وجه لا نعرفه، وقد قالت العرب: بالله لما قمت عنا، وإلا قمت عنا وأما (لما) بمعنى (إلا) في الاستثناء فلم يقولوه في شعر ولا غيره؛ لا يجوز: ذهب الناس لما زيد بمعنى (٣) إلا، هذا كلامه، ومعنى (ما) في قوله "لمن ما" معنى (من)، وقد أنكر ما أجازه الزجاج.
قال أبو علي (٤): من قرأ ﴿وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا﴾ بالتشديد [فيهما (٥) فقراءته مشكلة، وكذلك قراءة أبي بكر عن عاصم: ﴿وإن كُلا﴾ بالتخفيف، ﴿لمَّا﴾ بالتشديد] (٦) وذلك أن ﴿إِنَّ﴾ إذا نصب بها وإن كانت مخففة كانت بمنزلتها مثقلة، و ﴿لمَّا﴾ إذا شددت كانت بمنزلة إلا، فكما لا يحسن [(إن زيدًا إلا منطلق) كذلك لا يحسن] (٧) تثقيل ﴿إِنَّ﴾ وتثقيل ﴿لَمَّا﴾، فأما
(١) لم أهتد إلى قائله. وانظر: "معاني القرآن" ٢/ ٢٩، الطبري ١٢/ ١٢٤، "الدر المصون" ٦/ ٤٠٣.
(٢) لم أهتد إلى قائله. وانظر: "معاني القرآن" ٢/ ٢٩، "اللسان" (قدم) ٦/ ٣٥٥٤، الطبري ١٥/ ٤٩٥، "الدر المصون" ٦/ ٤٠٤.
(٣) في (ب): (المعنى).
(٤) "الحجة" ٤/ ٣٨٧.
(٥) ساقط من (ي).
(٦) و (٧) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
573
مجيء ﴿لَمَّا﴾ هو في قولك: نشدتك الله لما فعلمت وإلا فعلت؛ فقال الخليل: الوجه لتفعلن كما تقول أقسمت عليك لتفعلن، وأما دخول إلا ولما فلأن المعنى الطلب، فكأنه أراد ما أسألك إلا فعل كذا فلم يذكر حرف النفي في اللفظ وإن كان مرادًا [كما كان مرادًا] (١) في قولهم (٢) شرٌّ ما أَهَرَّ ذا ناب، أي ما أهره إلا شرٌ، وليس في الآية معنى نفي ولا طلب، وهذا إنما كان يحسن ﴿إِنَّ﴾ لو خففت فخفف ﴿إِنَّ﴾ ورفع ﴿كُلًّا﴾ بعدها ثم ثقل ﴿لَمَّا﴾، فكان يجوز تثقيل ﴿لَمَّا﴾ على أن يكون المعنى: ما كل إلا ليوفينهم، فيكون ذلك كقوله ﴿وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الزخرف: ٣٥] فأما تثقل ﴿لمَّا﴾ مع النصب في (كل) فلا وجه له.
وهذا كله في إبطال ما أجازه الزجاج في تشديد ﴿لمَّا﴾؛ قال (٣): وأما قول الفراء: المعنى (لمن ما) فادعم النون في الميم بعد ما قلبها ميمًا ثم حذفت إحدى (٤) الميمات، فإن ذلك لا يسوغ، ألا ترى أن في هذه السورة مميات أكثر مما اجتمعن في (لمن ما) ولم يحذف منها شيء، وذلك في قوله ﴿وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ﴾ [هود: ٤٨] فإذا لم يحذف شيء من هذا فلأن لا تحذف ثَمَّ أجدر، وقد قرئ ﴿وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا﴾ بالتنوين، والمعنى (٥) أن كلا جميعًا ليوفينهم، ومعنى اللم: الجمع فوصف بالمصدر
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٢) مثل عربي، انظر: "الإيضاح في علوم البلاغة" للخطيب القزويني ٢/ ٤٨، "المستقصى في أمثال العرب" للزمخشري ٢/ ١٣٠.
(٣) أي: أبو علي؛ انظر: "الحجة" ٤/ ٣٨٧، بتصرف.
(٤) ساقط من (ب).
(٥) في (ب). (ومعنى).
574
كقوله ﴿أَكْلًا لَمًّا﴾ [الفجر: ١٩].
فإن قال قائل: إن (لما) فيمن ثقل أنها هي ﴿لمًّا﴾ هذه ووقف عليها بالألف تم أجري الوصل مجرى الوقف فذلك مما يجوز في الشعر.
قال الكسائي (١): من شدد ﴿إِنَّ﴾ وشدد ﴿لمَّا﴾ فالله أعلم بذلك ليس لي به علم، ولا من خفف "إنّ" ثم نصب (كلاّ) أيضًا وشدد "لمّا" فلست أدري أيضًا، قال أبو علي: ولم يبعد الكسائي فيما قال (٢). وقوله تعالى ﴿رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ﴾، قال ابن عباس (٣): يريد جزاء بما عملوا، وعلى هذا هو من باب حذف المضاف؛ لأن المعنى: ليوفينهم ربك جزاء أعمالهم.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾، خبير قال: يريد بطاعة أوليائه وخبير بمعصية أعدائه.
١١٢ - قوله تعالى: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾، الاستقامة: الاستمرار في جهة واحدة، وذلك خلاف الأخذ في جهات اليمين والشمال، قال المفسرون (٤): معناه فاستقم على العمل بأمر ربك والدعاء إليه في ﴿كَمَا أُمِرْتَ﴾ في القرآن.
وقال ابن عباس (٥)،
(١) "مشكل إعراب القرآن" ص ٤١٦.
(٢) انتهى النقل عن "الحجة" ٤/ ٣٨٧ - ٣٨٨، بتصرف.
(٣) الطبري ١٢/ ١٢٦، البغوي ٤/ ٢٠٣، "زاد المسير" ٤/ ١٦٤، القرطبي ٩/ ١٠٤ من غير نسبة.
(٤) الطبري ١٢/ ١٢٦، الثعلبي ٧/ ٥٩ أ، البغوي ٤/ ٢٠٣.
(٥) قلت: بل المروي عن ابن عباس خلاف هذا حيث قال: ما نزلت على رسول الله - ﷺ - آية هي أشد عليه من هذه الآية، ولذلك قال: "شيبتني هود وأخواتها" البغوي ٢/ ٤٠٤، القرطبي ٩/ ١٠٧. قال في "كشف الخفاء" ٢/ ٢٠، رواه ابن مردويه في "تفسيره". وانظر: "المقاصد الحسنة" للسخاوي ٢٥٥، ٢٥٦، والترمذي (٣٢٩٧) =
والسدي (١): الخطاب له والمراد منه أمته.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾ (مَنْ) في محل الرفع من وجوه؛ أحدها: أن تكون عطفا على الضمير في ﴿فَاسْتَقِمْ﴾، أي فاستقم أنت وهم، والثاني: أن تكون عطفا على الضمير في ﴿أُمِرْتَ﴾، والثالث: أن تكون ابتداء على تقدير ومن تاب معك فليستقم، ومعنى ﴿وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾، قال ابن عباس (٢): يريد أصحابه الذين تابوا من الشرك.
وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَطْغَوْا﴾، معنى الطغيان تجاوز المقدار، قال ابن عباس (٣): يريد تواضعوا لله ولا تَجَبَّروا على أحد.
وقال الكلبي (٤): ولا تطغوا في القرآن فتحلوا أو تحرموا ما لم يأمركم به الله، وقيل (٥): لا تجاوزوا أمري ﴿إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾، قال ابن عباس: لا تخفى عليه أعمال بني آدم، علم قبل أن يعملوا ما هم عاملون.
١١٣ - قوله تعالى: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا﴾، يقال: ركِن يركَن ركونا، ومعنى الركون السكون إلى الشيء والميل إليه بالمحبة، ونقيضه النفور عنه، ولغة
= كتاب: التفسير، باب: ومن سورة الواقعة، ويؤيد هذا المعنى قوله تعالى بعد: ﴿وَمَنْ تَابَ مَعَكَ﴾.
(١) الثعلبي ٧/ ٥٩ أ، القرطبي ٩/ ١٠٧.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١٦٤.
(٣) الرازي ١٨/ ٧١.
(٤) "زاد المسير" ٤/ ١٦٤ ونسبه إلى ابن عباس.
(٥) أخرجه الطبري ١٢/ ١٢٦ عن ابن زيد، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٨٩، وانظر. "الدر" ٣/ ٦٣٦، و"زاد المسير" ٤/ ١٦٤، والثعلبي ٧/ ٥٩ أ.
576
أخرى ركَن يركُن. قال الأزهري (١): وليست بفصيحة، وكان أبو عمرو أجاز ركَن يركَن بفتح [الكاف من الماضي والغابر، وهو خلاف ما عليه الأبنية في السالم.
وقال الكسائي (٢): قريش تقول: ركِن يركَن وأهل نجد يقولون: ركَن يركُن؛ ومنه قراءة (٣) طلحة بن مصرف ﴿وَلَا تَرْكَنُوا﴾ بضم الكاف.
قال ابن عباس (٤) في قوله: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾، قال: لا تميلوا؛ يريد في المحبة ولين الكلام والمودة.
وقال السدي وابن زيد (٥): لا تداهنوا الظلمة.
وقال أبو العالية (٦): لا ترضوا بأعمالهم] (٧).
(١) "تهذيب اللغة" (ركن) ٢/ ١٤٦٣.
(٢) "البحر" ٥/ ٢٦٩، "الدر المصون" ٤/ ١٤٤.
(٣) قراءة "تركُنوا"، بضم الكاف، قرأ بها عبد الوارث عن أبي عمرو، وهي قراءة قتادة وطلحة بن مصرِّف. انظر: "زاد المسير" ٤/ ١٦٥، القرطبي ٩/ ١٠٨ وطلحة بن مصرف هو: طلحة بن مصرف بن عمرو الهمداني ثقة حجة، أحد القراء الكبار، وأقرأ أهل زمانه، أدرك أنسًا ولم يسمع منه. توفي ١٢ اهـ. انظر: "الجرح والتعديل" ٤/ ٤٧٣، "تهذيب التهذيب" ٢/ ٢٤٣، "غاية النهاية" ١/ ٣٤٣.
(٤) رواه الطبري بمعناه عن بعض المفسرين ١٢/ ١٧٢، الثعلبي ٤/ ١٠٣، البغوي ٢/ ٤٠٤، "زاد المسير" ٤/ ١٦٥.
(٥) روى عنهما الثعلبي ٧/ ٥٩ ب، "زاد المسير" ٤/ ١٦٥، وانظر: البغوي ٢/ ٣٠٤ عن السدي، والطبري ١٢/ ١٢٧ عن ابن زيد، وكذا القرطبي ٩/ ١٠٨.
(٦) الطبري ١٢/ ١٢٧، الثعلبي ٧/ ٥٩ ب، البغوي ٢/ ٢٠٤، "زاد المسير" ٤/ ١٦٥، القرطبي ٩/ ١٠٨.
(٧) ما بين المعقوفين غير مقروء في (ب)
577
وقال قتادة (١): لا تلحقوا بالمشركين.
وقوله تعالى: ﴿فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾، قال ابن عباس: هو أدب للمؤمنين ليس كمثل عقوبة الكفار، يريد أن قوله: ﴿فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ﴾ (٢) يتضمن عذابًا دون عذاب الكفار؛ لأنهم مخلدون في النار، وفي هذا دليل على أن المؤمن لا يخلد في النار، ودليل أيضاً على المنع من مصادقة المشركين وموالاة الظالمين، والميل إليهم بالمحبة والسكون.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾، قال ابن عباس (٣): يريد من مانع يمنعكم من عذاب الله.
وقوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ استئناف كقوله: ﴿يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ﴾ (٤).
١١٤ - قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾ الآية، قال عامة المفسرين (٥): نزلت في رجل أتى النبي - ﷺ - فقال: ما تقول في رجل أصاب من امرأة لا تحل له ما يصيبه الرجل من امرأته غير الجماع؟ فقال له النبي - ﷺ -: "توضأ وضوءًا حسنًا ثم قم فصل"، وأنزل الله تعالى هذه الآية فقيل للنبي - ﷺ -، أهي له خاصة أم للناس عامة؟ [فقال: "بل هي للناس
(١) الطبري ١٢/ ١٢٧، قال: لا تلحقوا بالشرك، الثعلبي ٧/ ٥٩ ب، "زاد المسير" ٤/ ١٦٥.
(٢) ساقط من (ي).
(٣) الثعلبي ٧/ ٥٩ ب، البغوي ٢/ ٢٠٤، "زاد المسير" ٤/ ١٦٥، من غير نسبة.
(٤) آل عمران/ ١١١.
(٥) الطبري ١٢/ ١٣٤ - ١٣٨، الثعلبي ٧/ ٦٠ أ، البغوي ٢/ ٢٠٤، "زاد المسير" ٤/ ١٦٥، ابن عطية ٤/ ٤١٥، القرطبي ٩/ ١١٠، ابن كثير ٢/ ٥٠٦.
578
عامة"] (١) (٢).
قال ابن عباس (٣) في رواية عطاء في قوله ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾ يريد الصبح والظهر والعصر، وهو قول مجاهد (٤) في رواية منصور
(١) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٢) الحديث أخرجه الطبري ١٢/ ١٣٦، ورواه الترمذي (٣١١٣) كتاب: التفسير، باب: ومن سورة هود من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل، وقال: هذا حديث ليس إسناده بمتصل، عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يسمع من معاذ، ومعاذ بن جبل مات في خلافة عمر، وقتل عمر وعبد الرحمن بن أبي ليلى غلام صغير ابن ست. وقد وردت أحاديث بمعنى هذا الحديث ومنها ما أخرجه البخاري (٤٦٨٧) كتاب: التفسير، باب: قوله ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾، ومسلم (٢٧٦٣) كتاب: التوبة، باب: قوله تعالى ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾ وأحمد ١/ ٣٨٥ والترمذي (٣١١٤) كتاب التفسير، باب ومن سورة هود، والطبري ١٥/ ٥١٩ من حديث ابن مسعود: أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة فأتى رسول الله - ﷺ - فذكر ذلك له فنزلت هذه الآية، فقال الرجل: ألي هذه الآية؟ فقال: "لمن عمل بها من أمتي".
والآخر ما أخرجه مسلم (٢٧٦٣/ ٤٢) كتاب: التوبة، باب: قوله تعالى ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾، والترمذي (٣١١٢) كتاب: التفسير، باب: ومن سورة هود، والطبري ١٥/ ٥١٦ عن ابن مسعود أن رجلاً قال للنبي - ﷺ -: إني أخذت امرأة في البستان فقبلتها وضممتها إليَّ، وباشرتها، وفعلت بها كل شيء، غير أني لم أجامعها، فسكت النبي - ﷺ -، فأنزل الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ﴾ الآية، فدعا الرجل فقرأها عليه، فقال عمر: أهي له خاصة أم للناس كافة؟ قال: "لا، بل للناس كافة".
(٣) المروي عن ابن عباس أنه قال. صلاة الغداة وصلاة المغرب، انظر الثعلبي ٧/ ٥٩ ب، البغوي ٢٠٤، "زاد المسير" ٤/ ١٦٧، الطبري ١٢/ ١٢٨.
(٤) الطبري ١٢/ ١٢٧، الثعلبي ٧/ ٥٩ ب، البغوي ٤/ ٢٠٤، "زاد المسير" ٤/ ١٦٧.
579
والقرظي (١)، واختيار الفراء (٢) والزجاج (٣)، قال الزجاج: وصلاة طرفي النهار: الغداة والظهر والعصر، وزاد مقاتل (٤): المغرب، وقال: صلاة الفجر والظهر طرف وصلاة العصر والمغرب طرف، والصحيح ما ذكره الزجاج، وذلك أن أحد طرفي النهار صلاة الصبح والآخر فيه صلاتا (٥) العشاء، وهما الظهر والعصر، والمغرب من صلاة الليل لا من صلاة النهار.
ويروى عن ابن عباس ومجاهد (٦) أنهما قالا: صلاة طرفي النهار الفجر والمغرب، وهو قول الحسن (٧) وابن زيد (٨)، وظاهر الكلام يدل على هذا، وحذف ذكر الظهر والعصر لظهور أمرهما في صلاة النهار؛ لأنهما أفردا بالذكر في قوله: ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ [الإسراء: ٧٨] ودلوكها زوالها.
وقوله تعالى: ﴿وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ﴾، قال الليث (٩): زلفة من أول الليل
(١) الطبري ١٢/ ٢٨٢، الثعلبي ٧/ ٥٩ ب، "زاد المسير" ٤/ ١٦٧.
(٢) "معاني القرآن" ٢/ ٣٠، ولم يذكر الفجر في طرفي النهار.
(٣) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨٢.
(٤) "تفسير مقاتل" ١٤٩ ب، الثعلبي ٧/ ٥٩ ب.
وفيه (وزلفا من الليل يعني صلاة المغرب والعشاء) ولم يجعل المغرب في طرفي النهار.
(٥) في (ي): (صلاة).
(٦) انظر: الطبري ١٢/ ١٢٧ - ١٢٨ قال مجاهد: صلاة الفجر وصلاتي العشى، يعني الظهر والعصر، وعند ابن أبي حاتم بلفظ: صلاة الفجر وصلاة العشاء ٦/ ٢٠٩١.
(٧) الطبري ١٢/ ١٢٨. وعند ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٩١ أن الحسن قال: الغداة: الظهر والعصر.
(٨) الطبري ١٢/ ١٢٨.
(٩) انظر: "الدر المصون" ٤/ ١٤٥.
580
طائفة والجميع الزلف، وروى أبو عمرو عن أبي العباس في هذه الآية قال: الزلف أول ساعات الليل واحدتها زلفة (١).
وقال أبو عبيدة (٢) والأخفش (٣) وابن قتيبة (٤): الزلف ساعات الليل وآناؤه، وكل ساعة زلفة، ومعنى (زلفًا من الليل) أي ساعة بعد ساعة، وأنشدوا (٥):
ناج طواه الليل مما وجفا طى الليالي زلفا فزلفا
سماوة الهلال حتى احقوقفا
ونحو هذا قال الفراء (٦). وقال ابن عباس (٧): يريد المغرب والعشاء قرب أول الليل (٨)؛ لأن الزلف القرب، وهذا قول عامة المفسرين (٩) غير
(١) "تهذيب اللغة" (زلف) ١٣/ ٢١٤.
(٢) "مجاز القرآن" ١/ ٣٠٠.
(٣) "معاني القرآن" للأخفش ٢/ ٥٨٥، الثعلبي ٧/ ٥٩ ب.
(٤) "مشكل القرآن وغريبه" ص ٢١٥.
(٥) الرجز للعجاج، وفيه (ناج طواه الأين) وليس الليل، والأين: التعب، و (وجفا) من الوجيف: سرعة السير، "سماوة الهلال": شخصه إذا ارتفع في الأفق شيئاً، "احقوقف": اعوج، وانظر: ديوانه / ٨٤، "مجاز القرآن" ١/ ٣٠٠، الطبري ١٢/ ١٢٩ اللسان (حقف) ٢/ ٩٣٩، "الكامل" للمبرد ٣/ ٩٩، سيبويه ١/ ١٨٠، "تهذيب اللغة" (زلف) ٢/ ١٥٤٩، "ديوان الأدب" ٢/ ٤٩٢، "تاج العروس" (زلف) ١٢/ ٢٥٦، "مجمل اللغة" ٢/ ٢٤٦، "كتاب العين" ٧/ ٣١٩.
(٦) "معاني القرآن" ٢/ ٣٠.
(٧) المروي عن ابن عباس أنه قال: العشاء، الطبري ١٢/ ١٣٠.
(٨) ساقط من (ب).
(٩) رواه الطبري ١٢/ ١٣٠ - ١٣١ عن الحسن ومجاهد والقرظي والضحاك، وانظر: الثعلبي ٧/ ٥٩ ب، البغوي ٤/ ٢٠٤.
581
مقاتل (١) فإنه يقول: هو صلاة العشاء؛ لأنه أدخل المغرب في طرفي النهار، [وقال أبو إسحاق (٢): هو منصوب على الظرف، كما تقول: جئت (٣) طرفي النهار] (٤) وأول الليل، قال: ومعنى زلفًا من الليل: الصلاة القريبة من أول الليل، وأصل الكلمة من الزلفة والزلفى، وهي القربة، يقال: أزلفته فازدلف أي قربته فاقترب.
وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾، قال ابن عباس والمفسرون (٥): يريد [إن الصلوات الخمس] (٦) تكفر ما بينها من الذنوب إذا اجتنبت الكبائر، وروى ليث عن مجاهد (٧) قال: هي قول العبد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ﴾، قال ابن عباس: يريد: هذا موعظة فـ (ذلك) عنده بمعنى (هذا)، وذكرنا وجهه في قوله: ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ (٨)
(١) "تفسير مقاتل" /١٥٠ أ، البغوي ٤/ ٢٠٤.
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨٢.
(٣) ساقط من (ي) في الزجاج "كما تقول حينا طرفي النهار.. ".
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥) الطبري ١٢/ ١٣٢، الثعلبي ٧/ ٥٩ ب، البغوي ٤/ ٢٠٤، "زاد المسير" ٤/ ١٦٨، ابن عطية ٧/ ٤١٦ - ٤١٧. وفي الحديث "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهنّ" أخرجه مسلم (ح ٢٣٣) في الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات.. عن أبي هريرة.
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٧) الطبري ١٢/ ١٣٣ رواه منصور عن مجاهد، الثعلبي ٧/ ٥٩ ب، ابن عطية ٧/ ٤١٧، "زاد المسير" ٤/ ١٦٨.
(٨) البقره: ٢. وخلاصة مما ذكره: "أنه إنما يجوز ذلك بمعنى هذا لما مضى وقرب وقت تقضيه أو تقضى ذكره".
582
وقال غيره (١): ﴿ذَلِكَ ذِكْرَى﴾ يعني القرآن عظة لمن ذكره، والكلام في (ذلك) وأن الإشارة بها إلى الجملة جائزة قد مضى في عدة مواضع، وقال أبو علي الفارسي: الذكرى مصدر جاء بألف التأنيث، كما جاء على فَعْلى نحو العدوى والدعوى والطغوى وتترى فيمن لم يصرف، وعلى فُعْلى نحو شورى، [وقالوا في الجمع (للذِّكَر) فجعلوه بمنزلة (سدرة وسدر)، كما جعلوا (العُلَى) مثل (الظُّلَم)، وقالوا: الذكر بالدال حكاه سيبويه (٢) وكذلك روي بيت ابن مقبل (٣):
من بعد ما يعتري قلبي من الدكر
وذلك لما كثر تصرف الكلمة بالدال نحو ﴿وَادَّكَرَ﴾ [يوسف: ٤٥]، ﴿فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (٤) أشبهت تقوى، وتقية، وتقاة.
١١٥ - قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ﴾ قيل (٥) على الصلاة، كقوله ﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ] (٦) عَلَيْهَا﴾ [طه: ١٣٢]، {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ
(١) الثعلبي ٧/ ٦٠ أ، البغوي ٤/ ٢٠٥، "زاد المسير" ٤/ ١٦٩.
(٢) انظر: "إعراب القرآن" للنحاس ٢/ ٣٣١.
(٣) لابن مقبل، وصدره:
يا ليت لي سلوة تشفى النفوس بها
وفيه (من بعض) بدل (من بعد) هنا، انظر: "ديوانه" ٨١، "الخصائص" ١/ ٣٥١، "المقرب" ٢/ ١٦٦، "سر صناعة الإعراب" ١/ ١٨٨، "الممتع في التصريف" ١/ ٣٥٩، "المنصف" ٣/ ١٤٠.
(٤) في النسخ: (وهل).
(٥) الثعلبي ٧/ ٦٠ أ، البغوي ٤/ ٢٠٥، "زاد المسير" ٤/ ١٧٠.
(٦) ما بين المعقوفتين: بياض في (ب).
الْمُحْسِنِينَ}، قال ابن عباس (١): يعني المصلين.
١١٦ - قوله تعالى ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾، يعني القرون المهلَكة، ومعنى (لولا) هاهنا نفي عند المفسرين، وهو قول ابن عباس (٢): يريد ما كان من القرون من قبلكم، وهذا مثل قوله: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ﴾ [يونس: ٩٨] وقد استقصينا الكلام هناك، ونحو هذا قال الفراء (٣) في هذه الآية: لم يكن منهم أحد كذلك.
ومن الناس (٤) من يقول: (لولا) هاهنا على ظاهره، بمعنى (هَلَّا كان)، و (لم لا كان)، وهو تعجب وتوبيخ للكفار الذين سلكوا سبيل من قبلهم في (٥) الفساد.
وقوله تعالى: ﴿أُولُو بَقِيَّةٍ﴾، [قال ابن عباس (٦): يريد: أولو دين، قال الزجاج (٧): ﴿أُولُو بَقِيَّةٍ﴾] (٨) معناه أولو تمييز، ويجوز أولو طاعة، قال: ومعنى البقية إذا قلت (في فلان بقية) فمعناه فيه فضل فيما يمدح به،
(١) الثعلبي ٧/ ٦٠ أ، البغوي ٤/ ٢٠٥، "زاد المسير" ٤/ ١٧٠، القرطبي ٩/ ١١٣.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١٧٠، ورواه الطبري ١٢/ ١٣٩ - ١٤٠ عن قتادة، ورجحه، وانظر الثعلبي ٧/ ٦٠ ب، البغوي ٤/ ٢٠٦، القرطبي ٩/ ١١٣.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٣٠.
(٤) ابن قتيبة في "مشكل القرآن وغريبه" ٢١٦، الثعلبي ٧/ ٦٠ أ، "زاد المسير" ٤/ ١٧٠، القرطبي ٩/ ١١٣، "معاني الأخفش" ١/ ٢٩٤.
(٥) في (ي): (من).
(٦) "زاد المسير" ٤/ ١٧٠.
(٧) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨٣.
(٨) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
584
وقال القتبي (١) ﴿أُولُو بَقِيَّةٍ﴾ أي [أولو بقية] (٢) من دين، يقال (قوم لهم بقية) و (فيهم بقية) إذا كانت فيهم مسكة وخير.
وقوله تعالى ﴿يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ﴾، قال ابن عباس: يريد عن الشرك والاعتداء في حقوق الله والمعصية.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ﴾، قال الفراء (٣) والزجاج (٤): هو استثناء على الانقطاع مما قبله؛ المعنى: لكن قليلاً ممن نجينا منهم نهوا عن الفساد، كما قال: ﴿إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ﴾ [يونس: ٩٨] قال المفسرون (٥): وهم أتباع الأنبياء وأهل الحق.
وقوله تعالى ﴿وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ﴾، الترفة النعمة وصبي مترف (٦) إذا كان منعم البدن، والمترف الذي أبطرته النعمة وسعة العيش (٧).
قال الفراء (٨): يقول اتبعوا في دنياهم ما عودوا من النعيم وإيثار اللذات على أمر الآخرة وركنوا إلى الدنيا والأموال وما أعطوا من نعيمها.
(١) "مشكل القرآن وغريبه" ص ٢١٦، وفيه: (إذا كانت فيهم مسكة وفيهم خير)، وانظر: "تهذيب اللغة" (بقي) ١/ ٣٧٤.
(٢) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٣٠.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨٣
(٥) الطبري ١٢/ ١٣٩، الثعلبي ٧/ ٦٠ ب، البغوي ٤/ ٢٠٦.
(٦) في (ب)، (جـ): (متروف).
(٧) انظر: "تهذيب اللغة" (ترف) ١/ ٤٣٦.
(٨) "معانى القرآن" ٢/ ٣١.
585
قال عطاء عن ابن عباس (١) يريد: اتبعوا (٢) ما وسعت عليهم وأنعمت، وروي (٣) عنه نعموا وأبطروا أيضًا.
١١٧ - قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ﴾، قال أبو بكر الأنباري: أراد بالقرى أهلها وسكنها وكان ذكره الأهل بعدها في قوله ﴿وَأَهْلُهَا﴾ تبيينا لما تتضمنه.
وذكر المفسرون (٤) وأهل المعاني كلهم في هذه الآية قولين:
أحدهما: وما كان الله ليهلك [أهل] (٥) القرى وهم مسلمون [صالحون] (٦)، فيكون ذلك منه ظلمًا لهم.
الثاني: وهو قول أهل السنة (٧) (وما كان ربك ليهلك أهل القرى بشركهم وظلمهم لأنفسهم، وهم مصلحون يتعاطون الحق بينهم)، أي ليس من سبيل الكفار -إذا قصدوا الحق في المعاملة وتنكبوا الظلم- أن ينزل الله بهم عذابا يجتاحهم.
(١) انظر: الطبري ١٢/ ١٣٩ - ١٤٠ روى كلامً بنحوه، وابن المنذر وابن أبي حاتم ٤/ ١٩٤ ب عن مجاهد وقتادة، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٦٤٤.
(٢) ساقط من (ي).
(٣) الثعلبي ٧/ ٦٠ ب.
(٤) الطبري ١٢/ ١٤٠ كأنه يميل إلى الأول، الثعلبي ٧/ ٦٠ ب، البغوي ٤/ ٢٠٦، "زاد المسير" ٤/ ١٧١، ابن عطية ٧/ ٤٢٣ ورجح الأول، القرطبي ٩/ ١١٤، "معاني القرآن للفراء" ٢/ ٣١، "معاني الزجاج" ٣/ ٨٣.
(٥) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٦) ما بين المعقوفين ساقط من (ي).
(٧) ذكر هذا القول الطبري ١٢/ ١٤٠، والبغوي ٤/ ٢٠٦.
وهذا معنى قول ابن عباس (١)، فقد قال الذي رواية عطاء: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى﴾، يريد الرجال، (بظلم) يريد بشرك، و (أهلها مصلحون): يريد فيما بينهم، كقوم لوط عذبهم الله باللواط، وقال فيهم: ﴿وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ﴾ [هود: ٧٨] يريد الشرك، وكذلك قوم شعيب عذبوا ببخس الكيل. وهذا التفسير يدل على أن الاجتراء على أنواع المعاصي أقرب إلى عذاب الاستئصال في الدنيا من الشرك.
١١٨ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾، [قال ابن عباس (٢): يريد على دينك الذي بعثت به.
وقال قتادة (٣): لجعل الناس أمة واحدة] (٤): أن يجعلهم مسلمين، وهذا دليل على تكذيب القدرية حيث قالوا: ما بقي في مقدوره من اللطف في أن يجعل الخلق مؤمنين إلا وقد فعل، قالوا: ولو قدر فلم يفعل (٥) لم يجز في الحكمة (٦).
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾، قال مجاهد وقتادة وعطاء والأعمش (٧): أي في الأديان من بين يهودي ونصراني ومجوسي وغير ذلك
(١) روي عن جرير نحوه، قال الهيثمي في "المجمع" ٧/ ٣٩: وفيه عبيد بن القاسم الكُوفي وهو متروك.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١٧١.
(٣) الطبري ١٢/ ١٤١، القرطبي عن سعيد بن جبير ٩/ ١١٤، ابن عطية ٧/ ٤٢٣.
(٤) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٥) في (ي): (ولو قدره لم يفعله).
(٦) انظر: "شفاء العليل" لابن القيم ١/ ١٨، ١٩.
(٧) روى ذلك عنهم الطبري ١٢/ ١٤١ - ١٤٢، وابن أي حاتم ٦/ ٢٠٩٣ - ٢٠٩٤.
من اختلاف (١) الملل.
١١٩ - وقوله تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾، قال أبو إسحاق (٢) ﴿مَنْ﴾ استثناء على معنى (لكن مَنْ رحم ربك فإنه غير مخالف).
وقال الفراء (٣): ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾: يعني أهل الباطل، ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾: أهل الحق، وهذا قول مجاهد (٤) نفسه.
وقال ابن عباس (٥): هما فريقان: فريق اختلف فلم يرحم، وفريق رحم فلم يختلف، وهو كقوله: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود: ١٠٥].
وقال عكرمة (٦): ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ يعني أهل الأهواء والبدع ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾: أهل السنة والجماعة.
وقوله تعالى ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، قال ابن عباس والضحاك ومجاهد وقتادة (٧): وللرحمة خلقهم، يعني الذين رحمهم.
قال أبو بكر: وعلى هذا أشير إلى الرحمة بقوله: ﴿ذَلِكَ﴾؛ لأن تأنيثها ليس تأنيثا حقيقيًا، فحملت على معنى الفضل والغفران، كقوله -عز وجل-:
(١) ساقط من (ي).
(٢) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨٣.
(٣) "معاني القرآن" ٣١/ ٢.
(٤) الطبري ١٢/ ١٤١، وأخرجه ابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٩٤ عن ابن عباس.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ١٧٢، القرطبي ٩/ ١١٥، عبد الرزاق ٢/ ٣١٦.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ١٧٢.
(٧) روى ذلك عنهم جميعًا الطبري ١٢/ ١٤٣ - ١٤٤، والثعلبي ٧/ ٦١ أ، والبغوي ٤/ ٢٠٦، و"زاد المسير" ٤/ ١٧٢، والقرطبي ٩/ ١١٥، وابن كثير ٢/ ٥٠٩.
588
﴿هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي﴾ [الكهف: ٩٨] أي فضل، وقالت الخنساء (١):
فذلك يا هند الرزية فاعلمي ونيران حرب شب وقودها
أرادت فذلك الرزء، قال: ويجوز أن يكون المراد بالرحمة: التوحيد، فأشير إليها بالتذكير لهذا المعنى، وقد بينا جواز تذكير الرحمة بأبلغ (٢) من هذا عند قوله: ﴿إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (٣).
وقال الحسن (٤) ومقاتل بن حيان (٥) ويمان (٦) وعطاء (٧): وللاختلاف خلقهم، يعنون المختلفين.
وفي الآية قول ثالث وهو الاختيار، قال ابن عباس (٨) في رواية عطاء في قوله: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ يريد: خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل
(١) "ديوانها" ٤٤، برواية: (ونيران حرب حين شب وقودها) بزيادة حين، وبه يستقيم الوزن.
(٢) في (ي): (أبلغ).
(٣) الأعراف: ٥٦. وذكر هنالك ما خلاصته: أنه ذهب أهل الكوفة إلى أن التذكير هنا بناءً على تقدير المكان، أي: في مكان قريب، وأما مذهب البصريين فقال الزجاج: "إنما قيل قريب؛ لأن الرحمة والغفران والعفو في معنى واحد، وكذلك كل تأنيث ليس بحقيقي".
(٤) الطبري ١٢/ ١٤٣، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٩٦، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٦٤٥، والثعلبي ٧/ ٦٠ ب والبغوي ٤/ ٢٠٦، والقرطبي ٩/ ١١٥.
(٥) الثعلبي ٧/ ٦٠ ب، القرطبي ٩/ ١١٥.
(٦) الثعلبي ٧/ ٦٠ ب، القرطبي ٩/ ١١٥.
(٧) الثعلبي ٧/ ٥٦٠ ب، القرطبي ٩/ ١١٤، البغوي ٤/ ٢٠٦.
(٨) "زاد المسير" ٤/ ١٧٢، وأخرجه الطبري ١٤٣/ ١٢ بمعناه، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٩٥، وانظر: "الدر" ٣/ ٦٤٥، "تنوير المقباس" ١٤٦.
589
الاختلاف للاختلاف، وقال الكلبي عن أبي صالح عنه (١): خلق الله أهل الرحمة لئلا يختلفوا، وأهل العذاب لأن يختلفوا، وخلق الجنة وخلق لها أهلا، وخلق النار وخلق لها أهلًا.
وروى منصور بن عبد الرحمن الغُدَّاني عن الحسن (٢) ﴿وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾ قال: الناس مختلفون في الأديان، إلا من رحم ربك فإنه غير مختلف، قال: فقلتُ له: فقوله: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، قال: خلق هؤلاء لرحمته، وخلق هؤلاء لعذابه، وخلق هؤلاء للجنة، وخلق هؤلاء للنار، فعلى هذا الإشارة بقوله (ولذلك) تعود إلى الاختلاف والرحمة، ثم يعبر عنهما بالشقاء والسعادة، فيقال: ولذلك خلقهم أي خلقهم للسعادة والشقاء، وهو قول الفراء (٣) والزجاج (٤).
قال أبو بكر: من ذهب إلى أن ﴿ذَلِكَ﴾ هو إشارة إلى الشقاء والسعادة قال: إنهما يرجعان إلى معنى واحد تقديره: وللامتحان خلقهم، على أنَّا ذكرنا في مواضع أن الإشارة بلفظ (ذلك) إلى شيئين متضادين يجوز، قال أبو عبيد (٥): الذي أختاره في تفسير الآية قول من قال خلق فريقًا لرحمته
(١) الرازي ١٢/ ١٤١، القرطبي ٩/ ١١٥، "زاد المسير" ٤/ ١٧٢.
(٢) الطبري ١٢/ ١٤١، وعنده وابن أبي حاتم بلفظ قال: خلق هؤلاء لجنته، وهؤلاء للنار وخلق هؤلاء للنار وخلق هؤلاء لرحمته وهؤلاء لرحمته وهؤلاء للعذاب، والغداني، وهو: منصور بن عبد الرحمن الغُدَّاني الأشل النضري وثقة ابن معبن وأبو داود، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به. انظر: "تهذيب التهذيب" ٤/ ١٥٨، "تهذيب الكمال" ٢٨/ ٥٤١.
(٣) "معاني القرآن" ٢/ ٣١.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨٤.
(٥) البغوي ٤/ ٢٠٧، وقال أبو عبيدة.
590
وفريقًا لعذابه لأنه موافق للسُّنة.
وقال أبو إسحاق (١): ويدل على صحة هذا القول. قوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾، قال الكلبي (٢): يريد من كفار الجن وكفار الإنس.
وقال الفراء (٣): صار قوله ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ يمينًا، كما تقول: حَلِفي لأضربنك، وبدا لي لأضربنك، قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ﴾ [يوسف: ٣٥] ولو كان (أن يسجنوه كان صوابًا).
١٢٠ - قوله تعالى: ﴿وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ﴾، قال الزجاج (٤): ﴿كُلًّا﴾ منصوب بـ (نقص)، المعنى: وكل الذي تحتاج إليه من أنباء الرسل نقص عليك، و ﴿مَاَ﴾ منصوبة بدلا من (كل)، المعنى نقص عليك ﴿مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ﴾ قال ابن عباس (٥): يريد لنزيدك يقينا، وفسر التثبيت هاهنا بالتشديد (٦) عن ابن عباس (٧)، وبالتقوية عن الضحاك (٨) والتصبير عن ابن جريج (٩)، وهو الأقرب؛ لأن ما يقص عليه من أنباء الرسل إنما هو للاعتبار بها؛ لما فيها من حسن صبرهم على أممهم، واجتهادهم في دعائهم إلى عبادة الله، فإذا سمعها
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨٤.
(٢) "زاد المسير" ٤/ ١٧٢، "القرطبي" ٩/ ١١٥.
(٣) "معاني القرآن للفراء" ٢/ ٣١.
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨٤.
(٥) البغوي ٤/ ٢٠٧.
(٦) في (ي): (التشديد).
(٧) الثعلبي ٧/ ٦١ أ، القرطبي ٩/ ١١٦.
(٨) الثعلبي ٧/ ٦١ أ.
(٩) الثعلبي ٧/ ٦١ أ، القرطبي ٩/ ١١٦.
591
النبي - ﷺ - كان في ذلك تقوية لقلبه على الصبر على أذى قومه.
وقال الزجاج (١): وتثبيت الفؤاد وتسكين القلب هاهنا ليس للشك، ولكن كما كانت الدلالة والبرهان أكثر كان القلب أثبت، قال إبراهيم عليه السلام: ﴿وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: ٢٦٠]، وهذا الذي قال الزجاج معنى قول ابن عباس: لنزيدك يقينا.
وقوله تعالى: ﴿وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ﴾، قال ابن عباس (٢) والحسن (٣) ومجاهد (٤) والأكثرون: يعني في هذه السورة.
قال أبو إسحاق (٥) وابن الأنباري (٦): وخصّت هذه السورة؛ لأن فيها أقاصيص الأنبياء ومواعظ، وذكر ما في الجنة والنار.
وقيل (٧): وجاءك في هذه الآيات التي ذكرت قبل هذا الموضع؛ وهو قوله: ﴿وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ﴾ [هود: ١٠٩] وقوله: ﴿وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ﴾ [هود: ١١١] وقوله: ﴿فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾ [هود: ١٠٥] الآيات، ويعني بالحق ما ذكر من أن الخلق يجازون بأنصبائهم، وأن بعضهم يصير إلى النار بشقائه، وبعضهم يصير إلى الجنة بسعادته، وخصت
(١) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨٤، وانظر: "تهذيب اللغة" (ثبت) ١/ ٤٧٠.
(٢) الطبري ١٢/ ١٤٦، عبد الرزاق ٢/ ٣١٦، والفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٩٦، وأبو الشيخ وابن مردويه، كما في "الدر" ٣/ ٦٤٦، القرطبي ٩/ ١١٦.
(٣) الطبري ١٢/ ١٤٦، "زاد المسير" ٤/ ١٧٣.
(٤) الطبري ١٢/ ١٤٦، "زاد المسير" ٤/ ١٧٣.
(٥) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨٤.
(٦) "زاد المسير" ٤/ ١٧٤.
(٧) ساقط من (ب)، ذكر هذا القول الزجاج في معانيه ٣/ ٨٤.
592
هذه السورة أو هذه الآيات بمجيء الحق فيها -وإن كان جميع ما أنزله الله حقا- تشريفًا للسورة ورفعًا لمنزلتها، وغيرها من السور غير منتقص الفضل بما لحق هذه السورة (١) من الاختصاص (٢)، كقوله تعالى: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى﴾ [البقرة: ٢٣٨] [فاختصاص الوسطى] (٣) لا يزيل عن غيرها معنى التشريف ووجوب المحافظة عليها، ومثله كثير، وهذا الذي ذكرنا معنى قول أبي إسحاق (٤) وابن الأنباري (٥). وقال الحسن (٦) وقتادة (٧): وجاءك في هذه الحق: في الدنيا.
وقوله تعالى: ﴿وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، يريد أنهم يتعظون إذا سمعوا هذه السورة بما نزل بالأمم لما كذبوا أنبياءهم، فتلين قلوبهم لسلوك طريق الحق، ويتذكرون بها الخير والشر، وما يدعو إليه كل واحد منهما من عاقبة النفع والضر، كما دعا إليه الأمم المكذبة الكافرة، والمصدقة المؤمنة.
قوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ تهديد ووعيد، يقول ما أنتم عاملون ﴿إِنَّا عَامِلُونَ﴾ وستعلمون عاقبة أمركم ﴿وَانْتَظِرُوا﴾ ما يعدكم
(١) ساقط من (ي).
(٢) انظر: "زاد المسير" ٤/ ١٧٤، "القرطبي" ٩/ ١١٦.
(٣) ما بين المعقوفين ساقط من (ب).
(٤) "معاني القرآن وإعرابه" ٣/ ٨٤.
(٥) "زاد المسير" ٤/ ١٧٤.
(٦) الطبري ١٢/ ١٤٧، الثعلبي ٧/ ٦١ أ، "زاد المسير" ٤/ ١٧٣، البغوي ٤/ ٢٠٧، القرطبي ٩/ ١١٦.
(٧) الطبري ١٢/ ١٤٧، الثعلبي ٧/ ٦١ أ، "زاد المسير" ٤/ ١٧٣، البغوي ٤/ ٢٠٧، وابن أبي حاتم ٦/ ٢٠٩٦، أبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٦٤٦، القرطبي ٩/ ١١٦.
593
الشيطان ﴿إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ ما يعدنا ربنا من النصر والعلو، عن ابن جريج (١).
وقال ابن إسحاق (٢) ﴿وَانْتَظِرُوا﴾ ما يحل بكم من العذاب ﴿إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ لذلك.
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ قال أبو علي (٣): الغيب مصدر مضاف إلى المفعول على الاتساع وحذف حرف الجر؛ لأنك تقول (غبت في الأرض)، و (غبت ببلد كذا) فتعديه بحرف الجر، فحذف وأضيف المصدر إلى المفعول به في المعنى، نحو: ﴿مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ﴾ [فصلت: ٤٩] و ﴿بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ﴾، [ص: ٢٤] ويحتمل وجهين: أحدهما: ذو (٤) غيب السموات والأرض، أي ما غاب فيهما من أولي العلم، والآخر: أن يكون المعنى: ولله علم (٥) غيب السموات والأرض، ويدل على هذا قوله: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ﴾ [الأنعام: ٧٣].
قال ابن عباس (٦) في رواية الوالبي: يعني خزائن السموات والأرض، وقال الضحاك (٧): يعني جميع ما غاب عن العباد.
وقوله تعالى: ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ في المعاد حتى لا يكون
(١) الطبري ١٢/ ١٤٨، وأبو الشيخ كما في "الدر" ٣/ ٦٤٦.
(٢) انظر: "تفسير كتاب الله العزيز" ٢/ ٢٥٥.
(٣) القرطبي ٩/ ١١٧.
(٤) في (ي)، (جـ): (ذوو).
(٥) ساقط من (ي).
(٦) الثعلبي ٧/ ٦١ أ، القرطبي ٩/ ١١٧.
(٧) الثعلبي ٧/ ٦١ أ، البغوي ٢/ ٤٠٧، القرطبي ٩/ ١١٧، "زاد المسير" ٤/ ١٧٥.
594
للخلق أمركما يكون في الدنيا للفقهاء والأمراء، وقرئ ﴿يَرجع﴾ (١)، وذكرنا هذا مستقصى في المعنى والتوجيه عند قوله: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ (٢) في سورة البقرة.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾، أي أنه يجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، والمعنى في قوله: ﴿يَعْمَلُونَ﴾ ينصرف إلى جميع الناس مؤمنهم وكافرهم، وقرئ (٣) (تعملون) بالتاء على معنى قل لهم: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
(١) قرأ نافع وحفص عن عاصم (يُرجَع) بضم الياء وفتح الجيم، وقرأ الباقون وأبو بكر عن عاصم (يَرجعُ) بفتح الياء وكسر الجيم، انظر: "السبعة" ص ٣٤٠، "الكشف" ١/ ٥٣٨، "إتحاف" ٢/ ١٣٧.
(٢) البقرة: ٢١٠. قال هنالك: ﴿وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ أي من الجزاء ومن الثواب والعقاب، وذلك أن العباد في الدنيا لا يجازون على أعمالهم، ثم إليه يصيرون، فيعذب من يشاء ويرحم من يشاء.. ويكون المعنى على أن الله ملّك عبيده في الدنيا الأموال والتصرف فيها، ثم يرجع الأمر في ذلك كله إلى الله تعالى في الآخرة فلا يملك أحد شيئًا".
(٣) قرأ نافع وابن عامر وحفص عن عاصم بالتاء، وقرأ الباقون بالياء. انظر: "السبعة" ص ٣٤٠، "الكشف" ١/ ٥٣٨، "إتحاف" ٢/ ١٣٧.
595
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
عمادة البحث العلمي
سلسلة الرسائل الجامعية
- ١٠٧، ١٠٨ -
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
من أول سورة يوسف إلى آخر سورة الرعد
تحقيق
د. عبد الله بن إبراهيم الريس
من أول سورة إبراهيم إلى آخر سورة الحجر
تحقيق
د. عبد الرحمن بن عبد الجبار بن صالح هوساوي
أشرف على طباعته وإخراجه
د. عبد العزيز بن سطام آل سعود أ. د. تركي بن سهو العتيبي
الجزء الثاني عشر
1
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
[١٢]
2
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ١٤٣٠هـ
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
الواحدي، علي بن أحمد
التفسير البسيط لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨هـ)./ علي بن أحمد الواحدي، عبد الله بن إبراهيم الريس؛
عبد الرحمن بن عبد الجبار بن صالح هوساوي، الرياض ١٤٣٠ هـ.
٢٥ مج. (سلسلة الرسائل الجامعية)
ردمك: ٤ - ٨٥٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (مجموعة)
٧ - ٨٦٩ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (ج١٢)
١ - القرآن تفسير... ٢ - الواحدي، علي بن أحمد
أ- العنوان... ب- السلسلة
ديوي ٢٢٧. ٣... ٨٦٨/ ١٤٣٠
رقم الإيداع: ٨٦٨/ ١٤٣٠ هـ
ردمك: ٤ - ٨٥٧ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (مجموعة)
٧ - ٨٦٩ - ٠٤ - ٩٩٦٠ - ٩٧٨ (ج ١٢)
3
المملكة العربية السعودية
وزارة التعليم العالي
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
عمادة البحث العلمي
سلسلة الرسائل الجامعيه
-١٧٠، ١٠٨ -
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
من أول سورة يوسف إلى آخر سورة الرعد
تحقيق
د. عبد الله بن إبراهيم الريس
من أول سورة إبراهيم إلى آخر سورة الحجر
تحقيق
د. عبد الرحمن بن عبد الجبار بن صالح هوساوي
أشرف على طباعته وإخراجه
د. عبد العزيز بن سطام آل سعود أ. د. تركي بن سهو العتيبي
الجزء الثاني عشر
4

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

5
التَّفْسِيرُ البَسِيْط
لأبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الواحدي
(ت ٤٦٨ هـ)
من أول سورة يوسف إلى آخر سورة الرعد
تحقيق
د. عبد الله بن إبراهيم الريس
6
Icon