ﰡ
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ ﴾ ؛ أي لِيُنْذِرَ العبدُ الذي أَنزل عليه الكتابُ بَأْساَ شَدِيداً ؛ أي لينذرَ الكفَّارَ عذاباً شديداً من عندِ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ﴾ أي ثَواباً حَسَناً في الجنة ؛ ﴿ مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ﴾ ؛ أي مُقيمين في ذلك الأجْرِ خالدين فيه.
ومعنى الآية : فَلعلَّكَ قاتلٌ نفسَكَ، يقال بَخَعَ الرجلُ نفسَهُ إذا قتلَها غيظاً من شدَّةِ حُزنه على الشيءِ أو وَجْدِهِ بالشيءِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ عَلَى آثَارِهِمْ ﴾ أي مِن بعدهم، يعني مِن بعدِ تولِّهم وإعراضهم عنكَ إن لَم يؤمنوا، ﴿ بِهَـاذَا الْحَدِيثِ ﴾ ؛ يعني القُرْآنَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَسَفاً ﴾ ؛ أي حُزناً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ ؛ أي لنأمرَهم فننظُرَ أيُّهُم أعملُ بطاعةِ الله هذا أم هذا. فال الحسنُ :(أيُّهُمْ أزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَأتْرَكُ لَهَا). وقال مقاتلُ :(أيُّهُمْ أصْلَحُ فِيْمَا أُوْتِيَ مِنَ الْمَالِ، وَيُحْسِنُ الْعَمَلَ، وَيَزْهَدُ فِي مَا زُيِّنَ لَهُ مِنَ الدُّنْيَا).
ثُم بيَّن اللهُ تعالى أنه يعني ذلكَ كلَّه ؛ فَقَالَ تَعَالَى :﴿ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً ﴾ ؛ أي يجعلُ ما عليها من الحيوانِ والنَّبات تُراباً يابساً مستوياً على الأرضِ، والْجُزُرُ الأرضُ التي لا ماءَ فيها ولا نباتَ، ويقالُ : سَنَةٌ جُزُراً إذا كانت حرَّة. قال عطاءُ :(يُرِيْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْعَلُ اللهُ الأَرْضَ جُزُراً لاَ مَاءَ فِيْهَا وَلاَ نَبَاتَ).
والكهفُ : الغَارُ فِي الْجَبَلِ، والرَّقِيْمُ : قِيْلَ : هو وادٍ دونَ فلسطين، وهو الوادي الذي فيه أصحابُ الكهفِ، وَقِيْلَ : الرقيمُ لوحٌ من حجارةٍ، وَقِيْلَ : من رصاصٍ كتبوا فيه أسماءَ أهلِ الكهف وقصَّتَهم ثُم وضعوهُ على باب الكهفِ وهو على هذا التأويل بمعنى الْمَرْقُومِ ؛ أي المكتوب، والرقيمُ : الْخَطُّ والعلامةُ، والرقيمُ : الكتابةُ.
قال ابنُ عبَّاس :(وَذلِكَ أنَّ قُرَيْشاً بَعَثُوا خَمْسَةَ رَهْطٍ إلَى الْيَهُودِ يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ أمْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالُوا لَهُمْ : إنَّهُ يَزْعُمُ أنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ وَاسْمُهُ مَحَمَّدٌ، وَهُوَ فَقِيرٌ يَتِيمٌ وَبَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمٌ، وَإنَّا نَزْعُمُ أنَّهُ يَتَعَلَّمُ مِنْ مُسَيْلَمَةَ، فَإنَّهُ يَقُولُ : أنَا مُرْسَلٌ مِنْ عِنْدِ الرَّحْمَنِ، وَنَحْنُ لاَ نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إلاَّ رَحْمَنَ الْيَمَامَةِ - يَعْنُونَ مُسَيْلَمَةَ -.
فَلَمَّا أتَى هَؤُلاَءِ الرَّهْطُ الْمَدِيْنَةَ، أتَوا أحْبَارَ الْيَهُودِ وَعُلَمَائَهُمْ فَسَأَلُوا عَنْهُ وَوَصَفُوا لَهُمْ صِفَتَهُ وَخَاتَمَهُ، قَالُوا : نَحْنُ نَجِدُهُ فِي التَّوْرَاةِ كَمَا وَصَفْتُمُوهُ، وَلَكِنْ سَلُوهُ عَنْ ثَلاَثِ خِصَالٍ، فَإنْ كَانَ نَبيّاً أخْبَرَكُمْ بِخصْلَتَيْنِ، وَلَمْ يُخْبرْكُمْ بالثَّالِثَةِ ؟ فَإنَّا سَأَلْنَا مُسَيْلَمَةَ عَنْ هَذِهِ الْخِصَالِ فَلَمْ يَدْرِ مَا هِيَ، وَأنْتُمُ سَلُوهُ عَنْ خَبَرِ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَعَنِ الرُّوحِ، وَعَنْ أصْحَاب الْكَهْفِ.
فَرَجَعُوا وَأخْبَرُوا قُرَيْشاً بذلِكَ، فَسَأَلُوا النَّبيَّ ﷺ فَقَالَ : سَأُخْبرُكُمْ غَداً، وَلَمْ يَقُلْ إنْ شَاءَ اللهُ. فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيْلُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، وَشُقَّ ذلِكَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، ثُمَّ نَزَلَ جِبْرِيْلُ بهَذِهِ الآيَةِ﴿ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ ﴾[الكهف : ٢٣-٢٤].
ثُم أخبرَهُ عن أصحاب الكهف وحديثِ ذي القرنين وخبرِ أمر الرُّوح، وحدَّثهُ أن مدينةً بالروم كان فيها ملكٌ كافر يدعو إلى عبادةِ الأوثان والنِّيران، ويقتلُ مَن خَالَفَهُ، وفي المدينةِ شابٌّ يدعو إلى الإسلامِ سرّاً، فتابعهُ فتيةٌ من أهلِ المدينة، فَفَطِنَ بهم الملكُ فأخذهم، ودفعَهم الى آبائهم يحفظونَهم، فمرُّوا بغلامٍ راع، فبايَعَهم ومعهُ كلبُهم حتى إذا أتَوا غاراً فدخلوهُ، وألقَى اللهُ عليهم النَّومَ سنين عدداً، والملكُ طالبٌ لَهم لَم يقِفْ على أمرِهم، وَعمِيَ عليه خبرُهم، فسدُّوا بابَ الكهف ليموتوا فيه إن كانوا هنالكَ.
ثُم عَمَدَ رجلٌ إلى لوحِ رصاص، فكتبَ فيه أسماءَهم وأسماءَ آبائهم ومدينتَهم، وأنَّهم خرجُوا فراراً من دِين ملكِهم في شهرِ كذا في سنة كذا وألزقَهُ بالسدِّ، وكان السدُّ في داخل الكهفِ، وذكر الفصةَ إلى آخرِها، فهذا اللوحُ الرصاص هو الرَّقِيْمُ. فأخبرَ النبيُّ ﷺ قُريشاً بذلك، فلما أتَوا النبيَّ ﷺ قولَ اليهودِ أخبرَهم بخصلَتين ولَم يخبرهم بالثالثةِ، قال كفارُ قريشٍ :
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ﴾ ؛ أي فمَنْ أظلمُ لنفسهِ ممن اختلقَ على اللهِ كَذِباَ بأن جعلَ معه شريكاً في العبادةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ ﴾ ؛ أي قال بعضُهم لبعضٍ، قيلَ : إن القائلَ بهذا يَمليخا وهو رئيسُ أصحاب الكهف ؛ قال لأصحابهِ : إذ فارقْتُموهم وتَنَحَّيْتُمْ عنهُم جانباً ؛ أي عن عبادةِ الأصنام ﴿ وَمَا يَعْبُدُونَ ﴾ ؛ وهذا آخرُ الكلام ثُم قال :﴿ إِلاَّ اللَّهَ ﴾ ؛ يعنِي إلاَّ الله فلا تعتزلوهُ أي فلا تعتزلوا عبادتَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ ﴾ ؛ أي فصيرُوا إلى الكهفِ، واجعلوهُ مأواكم ؛ ﴿ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم ﴾ ؛ أي يبسِطْ لكم ؛ ﴿ مِّن رَّحْمَتِهِ ﴾ ؛ نعمتهِ ؛ ﴿ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً ﴾ ؛ ما تَرْفِقُونَ به هناك في معايشِكم يكون مخلِّصاً لكم مِن ظُلم هؤلاء الكفَّار. قال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَاهُ : وَيُسَهِّلْ عَلَيْكُمْ مَا تَخَافُونَ مِنَ الْمَلِكِ وَظُلْمِهِ). يقال : فيه (مَرْفَقاً) بكسر الميم وفتح القاف، وفتحِ الميم وكسرِ الفاء، وكذلكَ في مِرفق اليدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذَاتَ الْيَمِينِ ﴾ ؛ أي ناحيةَ اليمين، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ﴾ ؛ أي تَعْدِلُ عنهم. قال الكلبيُّ :(إذا طَلَعَتْ مَالَتْ عَنْ كَهْفِهْمْ ذاتَ يَمِيْنِ الْكَهْفِ، وَإذا غَرَبَتْ تَمُرُّ بهِمْ ذاتَ الشِّمَالِ يَعْنِي شِمَالَ الْكَهْفِ لاَ تُصِيْبُهُ، وكَانَ كَهْفُهُمْ فِي أرْضِ الرُّومِ، أعْلَمَ اللهُ أنَّهُ يُمِيْلُ عَنْهُمْ الشَّمْسَ طَالِعَةً وَغَاربَةً، لاَ تَدْخُلُ عَلَيْهِمْ فَتُؤْذِيَهُمْ بحَرِّهَا وَتُغَيِّرَ ألْوَانَهُمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ﴾ ؛ أي في مُتَّسَعٍ من الكهفِ، هَيَّأَ اللهُ لَهم مكاناً واسعاً لا يصيبُهم فيه حَرٌّ ولا سَمومٌ، ولا يتغيرُ لَهم ثوبٌ ولا لون ولا رائحةٌ، ولكن كان ينالُهم فيه نسيمُ الرِّيح وبردُها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ ﴾ القَرْضُ من قولِهم : قَرَضْتُهُ بالْمِقْرَاضِ ؛ إذا قَطَعْتُهُ، كأنهُ قال : تقطعُهم ذاتَ الشمالِ. وَقِيْلَ : تعطيهم اليسيرَ مِن شُعاعها عند الغروب، كأنه شبَّهَهُ بقرضِ الدراهم التي تُعطى ثُم تستردُّ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ ذلِكَ ﴾ ؛ أي إبقاؤُهم طولَ السنين التي ذكرَها اللهُ نياماً لا يستطيعون يستيقظون من دون طعامٍ ولا شَراب، ﴿ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ﴾. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً ﴾ ظاهر المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ﴾ ؛ قرا الحسنُ (وَنُقْلِبُهُمْ) بالنخفيفِ، والمعنى نقلبُهم تارةً عن اليمين إلى الشمال ؛ وتارةً عن الشمالِ إلى اليمين، كما نقلبُ النائمُ ؛ لئَلاَّ تأكُلَ الأرضُ أجسامَهم. ذكرَ قتادةُ :(أنَّ لَهُمْ فِي عَامٍ تَقْلِيْبَيْنِ)، وعن ابنِ عبَّاس :(فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ ﴾ ؛ أي على باب الفجوة أنامَهُ الله كذلكَ، والوَصِيْدُ مِن قولِهم : أوْصَدْتُ البَابَ، وَأصَدْتُهُ إذا أغلقتهُ، وقد يقالُ لذلكَ الأصِيْدُ أيضاً، وَقِيْلَ : الوَصِيْدُ فناءُ الكهفِ. وقال سعيدُ بن جُبير :(الْوَصِيْدُ : التُّرَابُ). وقال السديُّ :(الْوَصِيْدُ : الْبَابُ). وقال عطاءُ :(عَتَبَةُ الْبَاب).
وكان لونُ الكلب أحمرَ، كذا قال ابنُ عبَّاس، وقال مقاتلُ :(كَانَ أصْفَرَ يَضْرِبُ إلَى الْحُمْرَةِ) وَقِيْلَ : كان كلونِ الحجَرِ، وَقِيْلَ : كلونِ السَّماء. قال عليٌّ رضي الله عنه :(كَانَ اسْمُهُ رَيَّان). وقال ابنُ عبَّاس :(قِطَمِيْرُ). وقال سفيانُ :(اسْمُهُ حِمْرَانُ). وقال عبدُالله بن سلام :(لسْمُهُ نَشِيْطٌ). روي عن بعضِهم أنه مما أخذ على الكلب أن لا يضرَّ بأحدٍ يقرأُ : وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالْوَصِيدِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً ﴾ ؛ أي لو اطَّلَعْتَ عليهم يا مُحَمَّدُ لَوَلَّيْتَ منهم فِراراً لِما ألبَسَهم اللهُ تعالى من الْهَيْبَةِ حتى لا يصلَ إليهم أحدٌ حتى يبلغَ الكتابُ أجَلَهُ فيهم وينتبهوا من رقدتِهم. وَقِيْلَ : لأنَّهم كانوا في مكانِ مُوحِشٍ من الكهفِ، وَقِيْلَ : لأن أعيُنَهم مفتحةً كالمستيقظ الذي يريدُ أن يتكلَّمَ وهم نيامٌ.
وعن ابنِ عبَّاس قال :(غَزَوْنَا مَعَ مُعَاوِيَةَ نَحْوَ الرُّومِ فَمَرَرْنَا بالْكَهْفِ الَّذِي فِيهِ أصْحَابُ الْكَهْفِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : لَوْ كَشَفَ لَنَا عَنْ هَؤُلاَءِ فَنَظَرْنَا إلَيْهِمْ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَيْسَ لَكَ ؛ قَدْ مَنَعَ اللهُ ذلِكَ عَنْ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكَ، فَقَالَ : لَوْ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً ؛ ﴿ وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ﴾ ؛ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ : لاَ أنْتَهِي حَتَّى أعْلَمَ عِلْمَهُمْ، فَبَعَثَ أُنَاساً فَقَالَ : اذْهَبُوا وَانْظُرُواْ، فَفَعَلُوا فَلَمَّا دَخَلُواْ الْكَهْفَ بَعَثَ اللهُ عَلَيْهِمْ ريْحاً فَأَخْرَجَتْهُمُ مِنَ الْكَهْفِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـاذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ ﴾ ؛ أي فابعثوا يَمليخا، والوَرقُ الفِضَّةُ مضروبةً كانت أو غيرَ مضروبةٍ، وأما المدينةُ فهي أفسوس، وَقِيْلَ : طرسوسُ، كان اسْمُها في الجاهلية : أقسوس، فلما جاءَ الإسلامُ سَمَّوها طرسوسُ. ومعنى الآيةِ : فابعثُوا أحدُكم بدراهمكم هذه إلى السُّوق ؛ ﴿ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَاماً ﴾ ؛ أي أحَلَّ ذِبْحَةً ؛ لأن عامَّتَهم كانوا مَجُوساً، وفيهم مؤمنون يُخفون إيْمانَهم، وَقِيْلَ : أطيبَ خُبزاً وأبعدَ عن الشُّبهة، لأن مَلِكَهم كان يظلمُ الناسَ في طعامهم، وكانوا يحسبون أن ملكَهم دقيانوس الكافرُ. وقال عكرمةُ معناه :(أكْثَرَ وَأفْضَلَ) في معنى أنَّ الزكاةَ هو الزيادةُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ ﴾ ؛ أي بقُوتٍ وطعام. وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلْيَتَلَطَّفْ ﴾ ؛ أي يتوقَّف في الذهاب والْمَجيءِ، وفي دخولِه المدينة حتى لا تعرفَهُ الكفارُ ؛ ﴿ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ﴾ ؛ أي لا يخبرنَ أحدٌ من أهلِ المدينة بمكانكم.
فإن قيلَ : أليسَ لو أكرهوهم، وأظهَرُوا الكفرَ لَم يكن في ذلك مَضَرَّةً عليهم ؟ قِيْلَ : يجوزُ أنه لَم يكن في شريعةِ الإسلام جوازُ إظهار كلمة الكفر على وجه التُّقيةِ.
فحملَهُ إلى الملكِ فلم يجِدْ بُداً من أن يذكرَ للملكِ قصَّتَهم، فجاءَ الناسُ معهُ إلى باب الكهف، فدخل هُوَ قَبْلَهم، وأخبَرَ أصحابَهُ بأنَّ الملِكَ أتاهُم إذ ظهرَ القومُ عليهم فسألوهُ عن أمرِهم، فقَصُّوا عليهم قصَّتَهم، فَنَظَرُوا فإذا اللوحُ الرَّصاصُ وفيه أسماؤُهم وفرارُهم من دقيانوسِ.
فقالَ الملكُ : هؤلاء قومٌ هلَكُوا في زمانِ الكافرِ، فأحياهُم اللهُ في زمانِي، وحَسَبُوا المدَّةَ، فوجدُوها ثلاثَمائة سنةٍ وتسعَ سنين، فبينا هم كذلكَ يحدِّثونَهم إذ دخلُوا المكانَ، وقد ضربَ اللهُ على آذانِهم بالنَّومِ، هكذا رويَ عنِ ابن عبَّاس.
وذهبَ عكرمةُ إلى أنَّ القومَ دخلُوا المكانَ وقد ضربَ اللهُ على آذانِهم، فهذا معنى قولهِ ﴿ وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ وقولهِ تعالَى :﴿ لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ﴾ أي ليعلَمَ الملكُ وقومه وغيرُهم أن البعثَ بعد الموتِ كائنٌ، ﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ ﴾ ؛ القيامة، ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهَا ﴾ ؛ لا شك فيها.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ﴾ ؛ قِيْلَ : كان التنازعُ في أنْ قالَ بعضُهم لبعضٍ إنَّهم قد ماتوا في الكهفِ، وقال بعضُهم : بل ناموا كما نامُوا مِن قبلُ، وسيوقظُهم اللهُ من بعد.
وَقِيْلَ : كانوا يتنازعون في البنَاءِ كما قالَ تعالَى :﴿ فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً ﴾ ؛ أي قال بعضُهم : نَبْنِي عليهم بُنياناً كما تُبْنَى المقابرُ ؛ كي يستُرُوهم عن الناسِ، وقال بعضُهم : بل نَبْنِي في هذا الموضعِ مَسْجِداً يُعْبَدُ اللهُ فيه، وهو قولُ الذين غَلَبُوا على أمرِهم وهم رؤساؤُهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً ﴾ ؛ أي أعْلَمُ بلَبْثِهِمْ ورُقادِهم وأحوالِهم ؛ لأنَّ قومَ الملكِ تنازَعُوا في قدر مَكْثِهم في الكهفِ، وفي عددهم وفي ما يفعلونَ بعدَ ذلك.
وقال بعضُهم : هذه الواوُ واو الثَّمانية، وذلك أن العربَ تقولُ : واحدٌ اثنانِ ثلاثةً أربعة ستَّة سبعة وثَمانية ؛ لأن العددَ عندهم سبعةٌ، كما هو اليومُ عندنا عشرة، ونظيرهُ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ﴾[التوبة : ١١٢] إلى قولهِ﴿ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ ﴾[التوبة : ١١٢] وقولهُ في صفةِ أهلِ الجنَّة﴿ وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا ﴾[الزمر : ٧٣] وقولهُ في أزواجِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم﴿ وَأَبْكَاراً ﴾[التحريم : ٥].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم ﴾ ؛ أي قُل ربي أعلمُ كَمْ كان عددهُم، وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً ﴾ ؛ عَنَى به رسولَ اللهِ ﷺ ؛ لأنه تعالَى أخبرَهُ بعدَّتِهم، وأمرَهُ أن لا يُمَارِ في معرفةِ مَن أدَّعى عددَهم إلاّ بأن بيَّن لهُ أنه يقولهُ بغيرِ حُجَّةٍ، ولا خبرَ عنده من اللهِ، فإنَّ هذا العلمَ ليس عند أهلِ الكتاب، وهذا هو المرادُ الظاهر.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً ﴾ ؛ أي لا تَسْتَفْتِ في أصحاب الكهف من اليهود وأهل الكتاب أحداً، فالخطابُ للنبيِّ ﷺ، والمرادُ به أُمَّتُهُ، فإنهُ مستغنياً بإخبارِ الله إياه عن أن يستَفْتِيهم. وعن ابنِ عبَّاس أنهُ قال :(أنَا مِنَ الْقَلِيْلِ الَّذِي يَعْلَمُ عَدَدَهُمْ كَانُوا سَبْعَةً وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ)، وَإْنَّمَا عَرَفَهُ سَمَاعاً مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
قال المفسِّرون : لَمَّا سألَ اليهودُ النبيَّ ﷺ عن خبرِ الفِتْيَةِ وَعَدِهُمْ أن يُخبرَهُمْ غداً، ولَم يقُلْ إن شاءَ اللهُ، فحُبسَ عنه الوحيُ حتى شُقَّ عليه، وأنزل هذه الآية يأمرهُ بالاستثناءِ بمشيئة اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ ﴾ ؛ قال ابنُ عبَّاس ومجاهدُ :(مَعْنَاهُ إذا نَسِيْتَ الاسْتِثْنَاءَ ثُمَّ ذكَرْتَهُ فَاسْتَثْنِ)، وقال سعيدُ بن جبير :(إذا قُلْتَ لِشَيْءٍ : إنِّي فَاعِلُهُ غَداً ؛ وَنَسِيْتَ الاسْتِثْنَاءَ بمَشِيْئَةِ اللهِ، ثُمَّ تَذكَّرْتَ، فَقُلْ : إنْ شَاءَ اللهُ، وَإنْ كَانَ بَعْدَ يَوْمٍ أوْ بَعْدَ شَهْرٍ أوْ سَنَةٍ).
وعن ابنِ عبَّاس :(مَعْنَاهُ : إذا حَلَفْتَ عَلَى شَيْءٍ وَنَسِيْتَ الاسْتِثْنَاءَ، ثُمَّ ذكَرْتَ فَاسْتَثْنِ مَكَانَكَ وَقُلْ : إنْ شَاءَ اللهُ وَلَوْ كَانَ إلَى سَنَةٍ مَا لَمْ تَحْنَثْ). وقال الحسنُ :(لَهُ أنْ يَسْتَثْنِيَ فِي الْيَمِيْنَ مَا لَمْ يَقُمْ مِنَ الْمَجْلِسِ).
وقال إبراهيمُ وعطاء والشعبيُّ :(لاَ يَصِحُّ الاسْتِثْنَاءُ إلاَّ مَوْصُولاً بالْكَلاَمِ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذا الْقَوْلِ : وَإذا ذكَرْتَ إذا نَسِيْتَ شَيْئاً فَادْعُ اللهَ حَتَّى يُذكِّرُكَ). وقال عكرمةُ :(مَعْنَاهُ : وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذا غَضِبْتَ).
قال وهبُ :(مكتوبٌ في الإنجيلِ : يا ابنَ آدمَ اذكرونِي حين تغضبُ أذكُركَ حين أغضبُ). وقال الضحَّاك والسُّدي :(هَذا فِي الصَّلاَةِ لِقَوْلِهِ ﷺ :" مَنْ نَسِيَ صَلاَةً أوْ نَامَ عَنْهَا ؛ فَلْيُصَلِّهَا إذا ذكَرَهَا " ).
قَوْلُهُ :﴿ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـاذَا رَشَداً ﴾ ؛ أي قُلْ عسى أن يعطيَنِي ربي مِن الآيات والدلالاتِ على النبوَّة ما يكونُ أقربَ في الرَّشد، وأدلَّ من قصَّة أصحاب الكهف.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ ﴾ ؛ أي ما لأهلِ السَّموات والأرضِ مِن دون اللهِ مِن ولِيٍّ ولا ناصرٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾ ؛ أي لا يشركُ في حُكمهِ أحداً غيرَهُ. وقرأ ابنُ عامرٍ :(وَلاَ تُشْرَكُ) على المخاطبةِ : أي لا تُشْرِكْ أيُّها الإنسانُ على النَّهي.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ﴾ ؛ أي لا تَصْرِفْ بصرَكَ عنهم لفقرهِم إلى غيرِهم من ذوي الهيئاتِ والزِّينة. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ ؛ أي مجالسةِ أهل الشَّرف والغِنَى (تريدُ) ههنا في موضعِ الحال أي مُريداً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾ ؛ يريدُ عُيَيْنةَ وأبناءَهُ، أي لا تطِعْهم في تنحيةِ الفُقراءِ عنكَ ليجلسوا إليك، ومعنى :﴿ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا ﴾ أي جعلنَاهُ غافلاً عن القُرْآنِ والإسلام. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾ أي ضَيَاعاً ونَدَماً، وَقِيْلَ : هلاكاً، وَقِيْلَ : مُخالفاً للحق، وَقِيْلَ : بَاطلاً، وَقِيْلَ : معناه : ضَيَّعَ أمرَهُ وبطلَ أيامه.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾ ؛ تَهديدٌ بلفظِ الخبر، والمعنى : فمَن شاءَ فيؤمن، ومن شاء فيكفرُ، ﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ﴾ ؛ فقد أعدَّ لكم ناراً على كُفركم أحاطَ بكم سرادقها ؛ قال ابنُ عبَّاس :(السُّرَادِقُ : حَائِطٌ مِنَ النَّار يُحِيْطُ بهِمْ).
وَقِيْلَ : دخانٌ يحيطُ بهِمْ قَبْلَ أن يَصِلْوا إلى النار. وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ قال :(سُرَادِقُ النَّارِ أرْبَعَةُ جُدُرٍ، غِلَظُ كُلِّ جِدَارٍ مَسِيْرَةُ أرْبَعِيْنَ سَنَةَ، فَهَذِهِ الْجُدُرُ مُحِيْطَةٌ بهِمْ). وقال ابنُ عبَّاس :(مَعْنَى الآيَةِ : فَمَنْ شَاءَ اللهُ لَهُ الإيْمَانَ آمَنَ، وَمَنْ شَاءَ لَهُ الْكُفْرَ كَفَرَ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ ﴾ ؛ معناهُ : وإنْ يستَغيثُوا من شدَّة الحرارةِ يُغاثوا بماءٍ كَعَكَرِ الزَّيت أسودَ غليظ، وَقِيْلَ : إن الْمُهْلَ هو الصُّفُرُ المذابُ، ويقالُ : هو القيحُ والدم. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَشْوِي الْوجُوهَ ﴾ ؛ أي إذا قَرُبَ البشر منه أنضجَ الوجهَ بحرارتهِ، وأسقطَ فَرْوَةَ وجههِ ولحمَهُ فيه، ﴿ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ ﴾ ؛ النارُ ؛ ﴿ مُرْتَفَقاً ﴾ ؛ أي ساءَتْ مُتَّكَأً لَهم، مأخوذٌ من المرْفَقِ ؛ لأنَّهم يتَّكِؤنَ على مرافِقِهم، وَقِيْلَ : معناهُ : وساءَتْ مَنْزلاً ومَقَرّاً، وَقِيْلَ : مُجتمعاً مأخوذٌ من المرافقةِ.
ثُم ذكرَ جَزَاءَهُمُ فقالَ :﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ ﴾ ؛ أي بساتينُ إقامةٍ، وقد ذكرَنا صفات جنَّات عَدْنٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ ﴾ ؛ أي يُلْبَسُونَ في الجِنَانِ ذلك.
قال الزجَّاج :(أسَاوِرُ : جَمْعُ أسْوِرَةٍ، وَأسْوِرَةٌ جَمْعُ سِوَارٍ) ؛ وَهُوَ زيْنَةٌ يُلْبَسُ فِي الزَّنْدِ مِنَ الْيَدِ، مِنْ زيْنَةَ الْمُلُوكِ يُسَوُّرُ فِي الْيَدِ وَيُتَوَّجُ عَلَى الرَّأسِ. قال ابنُ جبير :(عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَلاَثَةٌ مِنَ الأَسَاوِر، وَاحِدٌ مِنْ فِضَّةٍ وَوَاحِدٌ مِنْ ذهَبٍ وَوَاحِدٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ وَيَاقُوتٍ).
وعن النبيِّ ﷺ أنهُ قال :" لَوْ أنَّ أدْنَى أهْلِ الْجَنَّةِ حِلْيَةً عُدِلَتْ حِلْيَتُهُ بحِلْيَةِ أهْلِ الدُّنْيَا جَمِيْعِهَا لَكَانَ مَا يُحَلِّيهْ اللهُ بهِ فِي الآخِرَةِ أفْضَلَ مِنْ حِلْيَةً أهْلِ الدُّنْياَ جَمِيْعِهَا ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ﴾ ؛ الْخُضَرُ : جمعُ أخضرَ، وهو أحسنُ ما يكون من الثِّياب، والسُّنْدُسُ : الدِّيْبَاجُ الرقيقُ الفاخر، وَقِيْلَ : هو الحريرُ ؛ وواحدُ السُّندس سُنْدُسَةٌ، والاسْتَبْرَقُ الدِّيباجُ الغليظُ الذي له بريقٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا ﴾ ؛ أي في الجِنَانِ ؛ ﴿ عَلَى الأَرَآئِكِ ﴾ ؛ أي على السُّرُرِ في الْحِجَالِ وهي من ذهَبٍ مكَلَّلٍ بالدُّرِّ والياقوتِ ؛ ﴿ نِعْمَ الثَّوَابُ ﴾ ؛ جزاءُ أعمالِهم ؛ ﴿ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ﴾ ؛ أي مُتَّكَأً.
قال ابنُ عبَّاس :(كَانُوا أخَوَيْنِ فِي بَنِي إسْرَائِيْلَ ؛ تُوُفِّيَ أبُوهُمَا وَتَرَكَ ثَمَانِيَةَ آلافِ دِيْنَارٍ، وَكَانَ أحَدُهُمَا مُسْلِماً وَالآخَرُ كَافِراً، وَأصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أرْبَعَةَ آلاَفِ دِينَارٍ، فاَلْمُسْلِمُ أنْفَقَهَا فِي سَبيْلٍ حَتَّى أنْفَدَهَا فَأَوْجَبَ اللهُ لَهُ الْجَنَّةَ، وَالْكَافِرُ اشْتَرَى بهَا بَسَاتِيْنَ، فَاحْتَاجَ الْمُسْلِمُ إلَيْهِ فَأَتَاهُ يَتَعَرَّضُ إلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ : أيْنَ مَالُكَ ؟ فَقَالَ لَهُ : أنْفَقْتُهُ فِي سَبيْلِ اللهِ، فَقَالَ لَهُ الْكَافِرُ : لاَ أُعْطِيْكَ حَتَّى تَتَّبعَ دِيْنِي، ثُمَّ أخَذ بيَدِ أخِيْهِ فَأَدْخَلَهُ بَسَاتِيْنَهُ، وَجَعَلَ يَطُوفُ بهِ فِيْهَا وَيَقُولُ لَهُ : مَا أظُنُّ أنْ تَبيدَ هَذِهِ أبَداً، فَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ ﴾ أي جعلَ للكافرِ منهُما بساتينَ من كُرُومٍ، وجعلَ حَوْلَ البساتينِ نَخيلاً وجعلنا بينَ البساتينِ زَرْعاً ؛ أي يزرعهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً ﴾ ؛ أي فجَّرنا وسطَ البساتين نَهراً نَسقيها، ﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ ﴾ ؛ أي كان لِهذا الكافرِ ذهبٌ وفضة ومن كل المال، وقيل : من قرأ :(ثُمُرٌ) بضم الثاء، فمعناه صنوف من الأموال : الذهب والفضة وغيرهما، يقالُ : أثْمَرَ الرجلُ إذا كَثُرَ مالهُ. ومن قرأ بنصب الثَّاء كان معناهُ ثَمرة البساتينِ، والأولُ هو الأقربُ لأن قولَهُ ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا ﴾ يدلُّ على الثِّمار، فاقتضَى أن يكون الثمرُ غير ذلك.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ ﴾ ؛ أي لأخيهِ المسلم ؛ ﴿ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ ﴾ ؛ أي يراجعهُ بالكلامِ ويفاخرهُ :﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ﴾ ؛ يعني خَدَماً وحَشَماً وولداً، يتطاولُ بذلك على أخيهِ، ورأى تلك النعمةَ مِن قِبَلِ نفسهِ لا من قِبَلِ اللهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً ﴾ ؛ يعني لَئِنْ كان البعثُ حقّاً، ورُدِدْتُ إلَى ربي على زعمِكَ لأجدنَّ في الآخرةِ خيراً منها مرجِعاً ومنْزِلاً، ولَم يعني اللهُ هذه في الدُّنيا إلاّ ولي عنده أفضلُ منها لكرامتِي عليه، فمعناه الجنَّتين التي تقدَّم ذِكرُهما، وفي هذا بيانُ أن هذا الكافرَ لَم يكن قاطعاً لنْفِي الْمَعَادِ ولكن كان شَاكّاً فيه، والشاكُّ في الْمَعَادِ كافرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّاكِنَّاْ هُوَ اللَّهُ رَبِّي ﴾ ؛ معناهُ : أمَّا أنا فلا أكفرُ بربي، لكن هو اللهُ ربي ؛ تقديرهُ : لَكِنْ أنَا هو اللهُ ربي، وَقِيْلَ : فيه تقديمٌ وتأخير تقديرهُ : لكنَّ اللهَ هو ربي ؛ أعلَمَ بذلك أخاهُ الكافر بأنه مُوَحِّدٌ مسلمٌ.
ومن قرأ :(لَّكِنَّا) فالمعنى لكِنْ أنا ؛ إلاَّ أنهُ حُذفت الهمزةُ، وأُبقيت حركتها على السَّاكن الذي قبلَها، فالتقى نُونانِ فأُدغمت إحداهُما في الأُخرى. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ﴾ ؛ ظاهرُ المرادِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً ﴾ ؛ معناهُ : أن المسلمَ قال للكافرِ : إن كنتُ أنا أقلَّ منك مالاً وعشيرةً فأنا راضٍ بما قُسِمَ لِي، قَوْلُهُ تَعَالَى :(أقَلَّ) منصوبٌ ؛ لأنه مفعولُ (تَرَنِي). وَقَوْلُهُ تَعَالَى :(أنَا) عمادٌ، ومَن قرأ (أقَلُّ) بالرفع فعلَى معنى (أنَا) مبتدأ و(أقَلُّ) خبرٌ في موضعِ المفعول.
وقال النضرُ بن شميل :(الْحُسْبَانُ الْمَرَامِي) أي يرسلُ عليها مَرَامِي عذابهِ إما بردٌ، وإما حجارةٌ وغيرهما بما شاء مِن أنواعِ العذاب، ﴿ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً ﴾ ؛ أي أرْضاً ملساءَ لا نباتَ عليها. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً ﴾ ؛ أي غَائِراً في الأرضِ يعني النهرَ الذي في خلالِها، ﴿ فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ﴾ ؛ أي لا يَبْقَى لهُ أثرٌ يطلبهُ بوجهٍ من الوجوه، لا تنالهُ الأيدي ولا الأرشيةَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً ﴾ ؛ أي خيرُ مَن أثابَ وجازى على العملِ ؛ ﴿ وَخَيْرٌ عُقْباً ﴾ ؛ أي خيرُ مَن أعقبَ عاقبةً، وَقِيْلَ : عاقبةُ طاعتهِ خيرٌ من عاقبةِ غيره. قال ابنُ عبَّاس :(هَذانِ الرَّجُلاَنِ ذكَرَهُمَا اللهُ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إن﴿ لِي قَرِينٌ ﴾[الصافات : ٥١] إلَى قولهِ تعالَى﴿ فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الْجَحِيمِ ﴾[الصافات : ٥٥].
وقال ابنُ عبَّاس وعكرمةُ ومجاهد :(هِيَ قَوْلُ الْعَبْدِ : سُبْحَانَ اللهِ ؛ وَالْحَمْدُ للهِ ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَاللهُ أكْبَرُ). يدلُ عليه ما رُويَ عن أبي الدَّرداءِ :" أنَّ رسولَ اللهِ ﷺ أخَذ غُصْناً فحرَّكَهُ حتى سقطَ ورَقهُ، فقالَ :" إنَّ الْمُسْلِمَ إذا قَالَ : سُبْحَانَ اللهِ ؛ وَالْحَمْدُ للهِ ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَاللهُ أكْبَرُ، تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُ كَمَا تَحَاتَّ هَذا، خُذْهُنَّ إلَيْكَ يَا أبَا الدَّرْدَاءِ قَبْلَ أنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُنَّ، فإنَّهنَّ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ".
وعن أنسٍ رضي الله عنه : أنَّ النبيَّ ﷺ قالَ :" خُذُوا حَسْبَكُمْ مِنَ النَّارِ، قُولُوا : سُبْحَانَ اللهِ ؛ وَالْحَمْدُ للهِ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَاللهُ أكْبَرُ ؛ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ، فَإنَّهُنَّ الْمُقَدِّمَاتُ ؛ وَهُنْ الْمُنْجِيَاتُ ؛ وَهُنَّ الْمُعَقِّبَاتُ ؛ وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ". وقال عثمانُ بن عفَّان وابنُ عمرَ وسعيدُ بن المسيَّب :(هُنَّ : سُبْحَانَ اللهِ ؛ وَالْحَمْدُ للهِ ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَاللهُ أكْبَرُ ؛ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيْمِ).
وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ قالَ : قالَ رسولُ اللهِ ﷺ :" " اسْتَكْثِرُواْ مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ " قِيْلَ : مَا هِيَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ :" التَّكْبيْرُ ؛ وَالتَّهْلِيْلُ ؛ وَالتَّسْبيْحُ ؛ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ باللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيْمِ ". وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ : قالَ رسولُ اللهِ ﷺ :" إنْ عَجْزْتُمْ عَنِ اللَّيْلِ أنْ تُكَابدُوهُ، وَعَنِ الْعَدُوِّ أنْ تُجَاهِدُوهُ، فَلاَ تَعْجَزُواْ عَنْ قَوْلِ : سُبْحَانَ اللهِ ؛ وَالْحَمْدُ للهِ ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ ؛ وَاللهُ أكْبَرُ. فإنَّهَا مِنَ الْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ ".
وَقِيْلَ : هِيَ كلُّ عملٍ صالح يُثاب عليه. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾ أي أفضلُ ثواباً، وأفضلُ أملاً من المالِ والبنين.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ ؛ أي أعدنَاكم كما خلقنَاكم أوَّلَ مرة. وقال ابنُ عبَّاس : معناه (حُفَاةٌ عُرَاةٌ لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ مِمَّ اكْتَسَبُوهُ فِي الدُّنْيَا كَمَا فِي أوَّلِ الْخَلْقِ).
قال ﷺ :" يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قٌُبُورِهِمْ حُفَاةٌ عُرَاةٌ غُرْلاً " فَقَالَتْ عَائِشَةُ : وَاسَوْأتَاهُ يَا رَسُولَ اللهِ! أمَا يَسْتَحْيي بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ؟ فَقَالَ ﷺ :" لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيْهِ ". قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً ﴾ ؛ أي بل زعمتُم في الدُّنيا أن لن نجعلَ لكُم أجَلاً للبعثِ، وهذا خطابٌ لِمنكري البعثِ خاصَّة.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً ﴾ ؛ أي وجدُوا جُزْءَ ما عملُوا مكتوباً مثبَّتاً في الكتاب، ﴿ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾ ؛ أي لا ينقصُ من حسناتِ أحدٍ، ولا يزيدُ في سيِّئات أحدٍ، ولا يعاقبُ بغير جُرْمٍ. وروي أنَّ الفضيلَ بن عيَاضٍ كان إذا قرأ هذه الآيةَ قال :(صَحَوا واللهِ مِنَ الصِّغَارِ قَبْلَ الْكِبَارِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَذُرِّيَّتَهُ ﴾. قال قتادةُ والحسن :(يَعْنِي أوْلاَدَ إبْلِيْسَ ؛ وَهُمْ يَتَوَالَدُونَ، كَمَا يَتَوَالَدُ بَنُو آدَمَ)، قال مجاهدُ :(فَمِنْ ذُرِّيَّةِ إبْلِيْسَ وَلْهَانُ ؛ وَهُوَ صَاحِبُ الطَّهَارَةِ وَالصَّلاَةِ، وَزَلْيَِنُورُ صَاحِبُ رَايَةِ إبْليْسَ لِكُلِّ سُوقٍ، وَدِثِّيْرُ صَاحِبُ الْمَصَائِب يَأْمُرُ بضَرْب الْوَجْهِ وَالدُّعَاءِ بالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ وَغَيْرِ ذلِكَ، وَالأَعْوَرُ وَهُوَ صَاحِبُ أبْوَاب الزِّيَادَةِ، وَمَنْيُوطُ وَهُوَ صَاحِبُ الأَخْبَارِ يَأْتِي بهَا فَيُلْقِيَهَا فِي أفْوَاهِ النَّاسِ فَلاَ يُوجَدُ لَهَا أصْلٌ، وَدَاسِمُ هُوَ الَّذِي إذا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ فَلَمْ يُسَلِّمْ وَلَمْ يَذْكِرِ اسْمَ اللهِ ضَرَّهُ فِي الْمَتَاعِ مَا لَمْ يُرْفَعُ وَلَمْ يُوضَعْ فِي مَوْضِعِهِ، وَإذا أكَلَ وَلَمْ يَذْكِرِ اسْمَ اللهِ أكَلَ مَعَهُ. وَمِنْ أوْلاَدِ إبْلِيْسَ الْهَفَّافُ وَمُرَّةُ، وَبهِ كَانَ يُكْنَى أبَا مُرَّةَ). وقال ابنُ زيدٍ :(إنَّ إبْلِيْسَ أبُو الْْجِنِّ، كَمَا أنَّ آدَمَ أبُو الإنْسِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى لإبْلِيْسَ : إنِّي لاَ أخْلُقُ لآدَمَ ذُرِّيَّةً إلاَّ جَعَلْتُ لَكَ مِثْلَهَا، فَلَيْسَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ أحَدٌ إلاَّ بشَيْطَانٍ قُرِنَ بهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ﴾ ؛ أي ما كنتُ مُتَّخِذ الشياطينِ الذين يُضِلُونَ الناسَ أعواناً يعضِدُونني. ومَن قرأ (وَمَا كُنْتَ) بالفتحِ، فالمعنى : وما كنتَ يا مُحَمَّدُ لِتَتَّخِذ المضلِّين أنصاراً.
قال عبدُالله بنُ عمرَ :(هُوَ وَادٍ فِي جَنَهَّمَ مِنَ الصَّدِيْدِ وَالْقَيْحِ وَالدَّمِ، يُفَرِّقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ لاَ إلَهَ إلاَّ اللهِ وَمَنْ سِوَاهُمْ). وقال عكرمةُ :(هُوَ نَهْرٌ مِنَ النَّارِ يَسِيْلُ نَاراً، عَلَى حَافَّتَيْهِ حَيَّاتٌ مِثْلَ الْبغَالِ). وقال الضحَّاكُ :(مَعْنَاهُ : وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَهْلِكاً)، وقال الحسنُ :(عَدَاوَةً)، ويقالُ : أوْبَقَهُ اللهُ ؛ أي أهْلَكَهُ، وَوَبقَ أي هَلَكَ. قرأ حمزةُ (وَيَوْمَ نَقُولُ) بالنُّونِ.
فقال : تأخذُ معكَ حُوتاً وتَمضي إلى شَاطِئ البحرِ، فحيث ما فقدتَ الحوتَ فهو ثَمَّ، فأخذ حوتاً من السَّمكِ، وجعلهُ في مكتلٍ وانطلقَ معه بفتاهُ يوشعَ بن نون إلى شاطئ البحرِ، فأَوَيَا إلى صخرةٍ عندَها ماءً يسمى ماءُ عينِ الحياة، فجلسَ يوشعُ يتوضَّأُ من تلكَ العينِ، فانتضحَ من ذلك الماءِ على الحوتِ فحَييَ، فوثبَ في الماءِ، وَاتَّخَذ سَبيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ؛ أي اتخذ الحوتُ طريقاً في البحرِ مسْلَكاً يَابساً).
وَقِيْلَ : معنى قولهِ (سَرَباً) أي ذاهِباً، فقامَ يوشعُ حين رأى ذلك مِن الحوت، وذهبَ إلى موسى ليخبرَهُ بذلكَ، وذهبَا يومَهُما ذلكَ حتى صلَّيا الظهرَ مِن الغدِ، فتَعِبَ موسى، فقَالَ لِفَتَاهُ : آتِنَا غَدَاءَنَا لَقْدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذا نَصَباً ؛ أي تَعَباً.
ومعنى الآية : وإذ قالَ موسى لفتاهُ لا أزالُ أمضِي حتى أبلُغَ مجمع البحرين الموضعَ الذي يلتقِي فيه بحرُ فارسَ والرومِ أو أمضِيَ سنينَ كثيرة، والْحُقَبُ جمعُ أحْقَابٍ، والأحقابُ جمع الحِقْبِ، والْحِقْبُ ثَمَانُونَ سنةً، وَقِيْلَ : سبعونَ سنةً بلُغة قريشٍ، وسُمي يوشعُ فَتَاهُ ؛ لأنه كان يخدمهُ ويلازمهُ في الْحَضَرِ والسَّفرِ للتعلُّم منه.
فلما انتهيَا إلى الصخرةِ، قال موسَى لفتاهُ : امْكُثْ هنا، وانطلقَ لحاجتهِ فحرى الحوتُ في البحرِ، فقال فتاهُ : إذا جاء نبيُّ اللهِ أخبرتهُ بذلكَ، فأنساهُ الشيطان، فذلكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ نَسِيَا حُوتَهُمَا ﴾ ؛ وإنَّما نَسِيَ يوشعُ أن يذكرَ قصَّتَهُ لِموسى، وأضافَ النسيانَ إليهما توسُّعاً لأنَّهما تزوَّدا، فصارَ كما يقالُ : نسيَ القومُ زادَهم، وإنَّما نسيَهُ أحدُهم.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ﴾ ؛ أي جعلَ الحوتُ يضرِبُ بذنبهِ في البحرِ فلا يضربُ شيئاً وهو ذاهبٌ إلاّ يَبسَ موضعهُ كهيأة السَّرَب. قال قتادةُ :(جَعَلَ لاَ يَسْلِكَ فِيهِ طَرِيْقاً إلاَّ صَارَ الْمَاءُ جَامِداً)، وقال الربيعُ :(انْجَابَ الْمَاءُ عَلَى مَسْلَكِ الْحُوتِ فِي الْمَاءِ فَصَارَ كُوَّةً لَمْ يَلْتَمَّ).
والسَّرْبُ في اللُّغة : الْمَحْفُورُ في الأرضِ، وعن أُبَيِّ بنِ كعبٍ قالَ : قال رسولُ اللهِ ﷺ :" انْجَابَ الْمَاءُ عَنْ مَسْلَكِ الْحُوتِ، فَصَارَ كُوَّةً لَمْ يَلْتَمَّ، فَدَخَلَ مُوسَى الْكُوَّةَ عَلَى إثرِ الْحُوتِ، فَإذا بالْخَضِرِ ". وَقَالَ ابنُ عبَّاس :(جَعَلَ الْحُوتُ لاَ يَمَسُّ شَيْئاً مِنَ الْمَاءِ إلاَّ يَبسَ حَتَّى صَارَ صَخْرَةً).
وإنَّما سُمي الْخَضِرُ ؛ لأنَّهُ إذا صلَّى في مكانٍ أخْضَرَّ ما حولهُ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا ﴾ ؛ أي أكرَمْناه بالنبوَّةِ، ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ﴾ ببواطنِ الأمُور. قال ابنُ عبَّاس :(أعْطَاهُ عِلْماً مِنْ عِلْمِ الْغَيْب).
قِيْلَ : إنهُ قَلَعَ لوحين مما يلِي الماءَ، فحشَاهما موسى بثوبهِ و ﴿ قَالَ ﴾ ؛ منكراً عليهِ :﴿ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ﴾ ؛ أي مُنْكَراً، ثم تَنَحَّى موسى فجلسَ، وقالَ : ما أصنعُ في اتِّباع هذا الرجلِ الذي يظلمُ الناسَ؟! كنتُ في بني اسرائيلَ أقرأُ عليهم التوراةَ بُكْرَةً وعشيَّة ويقبَلُون منِّي، فتركتُ ذلكَ وصَحِبْتُ هذا الظالِمَ...
فقال له الخضرُ بعد ما أخرجَ أهلُ السفينةِ متاعهم إلى الساحل : أتدري ما تحدث به نفسك ؟ قال : ما هو ؟ فأخبره بما حدَّث به نفسه، ثُم ﴿ قَالَ ﴾ ؛ له الخضرُ :﴿ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ﴾ ؛ أي لِمَا تركتُ من عهدِك ووصيَّتِك، وَقِيْلَ : أرادَ به النسيانَ الذي هو ضدُّ الذِّكر.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ﴾ أي لا تُكلِّفْني مشقَّةً، وعامِلني باليُسْرِ لا بالعسرِ، ولا تضيِّقْ عليَّ في صُحبتِي إياكَ. وأصلُ الرَّهَقِ : الْغَشَيَانُ، يقالُ : رَهَقَ الفارسُ فلاناً إذا غَشِيَهُ فأدركَهُ.
وَقِيْلَ : إنهُ اجتذبَ رأسَهُ فقلعَهُ، وَقِيْلَ : نزعَ رأسَهُ من جسدهِ، وَقِيْلَ : رفصَهُ برجلهِ فقتلَهُ، وَقِيْلَ : ضربَ رأسَهُ فقتلَهُ، وكان اسمُ الغلامِ خشيود، وَقِيْلَ : جيشور. و ﴿ قَالَ ﴾ لهُ موسى حين رأى ذلكَ منهُ :﴿ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ ﴾ ؛ أي أقَتَلْتَ نفساً بريئةً من الذُّنوب، لَم تجب ما يوجبُ قتلَها. ومن قرأ (زَاكِيَةً) فمعناهُ : طاهرةً من الذُّنوب لَم تبلغِ الْحُلُمَ، ﴿ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ﴾ ؛ أي قَطِيعاً مُنْكَراً لا يعرفُ في شَرْعٍ.
وقد اختلفُوا في هذا الغلامِ أنَّهُ كان بالِغاً أم لَم يكن بالغاً، إلاّ أن قولَهُ (بغيرِ نفسٍ) فيه دليلٌ على أنه بالغاً، لأن غيرَ البالغِ لا يُقْتَلُ، وإن قَتَلَ غيرَهُ، وكان هذا الغلامُ يقطعُ الطريقَ، ويلجأُ إلى أبويهِ فيحلفان دونَهُ، وعن رسولِ الله ﷺ أنه قالَ :" إنَّ الْغُلاَمَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبعَ كَافِراً ".
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ﴾ أي مُنْكَراً عظيماً. قال القتيبي :(النُّكُرُ أبْلَغُ مِنَ الإمْرِ فِي الإنْكَارِ ؛ لأَنَّ قَتْلَ النَّفْسِ أشَدُّ مِنْ خَرْقِ السَّفِيْنَةِ)، وقالَ الزجَّاجُ :(الإمْرُ أبْلَغُ فِي الإنْكَارِ ؛ لأَنَّ خَرْقَ السَّفِيْنَةِ يُوجِبُ غَرْقَ أهْلِهَا، وَذلِكَ أعْظَمُ مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ). قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ ؛ ظاهرُ المعنى.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مِن لَّدُنِّي ﴾ قرأ العامَّةُ بتشديدِ النونِ وهو الأجودُ ؛ لأنَّ أصلَ (لَدُنْ) الإسكانُ، فإذا أضفتَها إلى نفسِكَ رُدَّتْ نوناً ليسلمَ سكونُ النون الأُولَى، كما يقولُ عن زيدٍ وَعَنِّي. ومَن قرأ بتخفيفِها قال (لَدُنِ) اسمٌ غير متمكّن، فيجوزُ حذفُ النونِ منه.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ ﴾ ؛ أي جِدَاراً مَائِلاً مُشْرِفاً على الانْهِدامِ يكادُ يسقطُ بسرعةٍ. قال وهبُ :(كان جِداراً طولهُ في السَّماءِ مائةُ ذراعٍ) وأمَّا قولهُ ﴿ يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ ﴾ هذا من مَجَازِ كلام العرب ؛ لأن الجدارَ لا إرادةَ لهُ، وإنَّما معناه : قَرُبَ وَدَنَا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَقَامَهُ ﴾. قال ابنُ عبَّاس :(هَدَمَهُ ثُمَّ أعَادَ بنَاءَهُ). وقال ابنُ جبير :(مَسَحَ الْجِدَارَ وَرَفَعَهُ بيَدِهِ فَاسْتَقَامَ). وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا ﴾ قرأ أبو رجاءٍ (يُضِيْفُوهُمَا) مخفَّفة.
وعن رسول الله ﷺ أنه قال :" كَانُوا أهْلَ قَرْيَةٍ لِئَاماً "، وقال قتادةُ في هذه الآية :(شَرُّ الْقُرَى الَّتِي لا تُضَيِّفُ الضَّيْفَ، وَلاَ تَعْرِفُ لابْنِ السَّبيْلِ حَقَّهُ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ ؛ أي قالَ لهُ موسى : لاتَّخذتَ على إقامتِكَ للجدار جُعلاً. وقُرِئَ (لتَخِذْتَ) ومعناهُ معنى الأول.
وعن ابنِ عبَّاس :(أنه كانَ لَوحاً من ذهبٍ وفيه : بسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ ؛ لاَ إلَهَ إلاّ اللهُ ؛ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ، عَجِبْتُ لِمن أيقنَ بالموتِ كيف يفرحُ، ولِمن أيقنَ بالنارِ كيف يضحكُ، وعجبْتُ لِمن أيقنَ بالقَدَر كيف يحزنُ، وعجبتُ لِمن يرى الدُّنيا وتقلُّبَها بأهلِها كيف يطمئنُّ إليها). وَقِيْلَ : كان ذهباً وفضَّةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ﴾ ؛ أي كان ذا أمانةٍ، كان يقالُ له : كاشح، وَقِيْلَ : إنه مِن الأنبياءِ. قال سعيدُ بن جُبير عن ابنِ عبَّاس :(حُفِظا بصَلاَحِ أبيهِمَا وَلَمْ يَذْكُرْ مِنْهُمَا صَلاَحاً). قال جعفرُ بن محمَّد :(كَانَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الأَب الصَّالِحِ سَبْعَةُ آبَاءٍ).
وعن محمَّد بنِ المنكدرِ قال :(إنَّ اللهَ تَعَالَى لَيَحْفَظُ بالرَّجُلِ الصَّالِحِ وَلَدَهُ وَوَلَدَ وَلَدِهِ وَأهْلَ دُوَيْرَتِهِ، وَأهْلَ دُوَيْرَاتٍ حَوْلَهُ وَأُسْرَتِهِ الَّتِي هُوَ فِيْهَا، فَمَا يَزَالُونَ فِي حِفْظِ اللهِ مَا دَامَ فِيْهِمْ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا ﴾ ؛ أي فأرادَ ربُّكَ بالأمرِ تسويةِ الجدار إلى أن يَكْبُرَا ويعقلاَ، ﴿ وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً ﴾ ؛ أي نعمةً ؛ ﴿ مِّن رَّبِّكَ ﴾ ؛ وهذا نُصِبَ على المصدريَّة ؛ أي رَحِمَهما اللهُ بذلك رحمةً.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾ ؛ وإنَّما فعلتهُ بأمرِ الله تعالى، ﴿ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾ ؛ وأصلهُ تَسْتَطِعْ ؛ إلاّ أن الطاءَ والتاء من مخرجٍ واحد، فحذفَ التاء لَمَّا اجتمعا لتخفيفِ اللفظ.
وروَي أن الخضرَ لَمَّا أرادَ أن يُفارقَ موسى أوصاهُ، قال يا موسَى : أفْرِغ عن اللَّجَاجَةِ ولا تَمشِ في غيرِ حاجة، ولا تضحَكْ من غير عجبٍ، ولا تعيِّرِ المذنبين بخطاياهم، وابْكِ على خطيئتك يا ابنَ عمرانَ.
واختلفُوا في تسميتهِ بذِي القرنَين، فقال بعضُهم : أنه مَلَكَ فارسَ والرُّوم، وَقِيْلَ : لأنه دَعَا قومَهُ إلى التوحيدِ، فضربوهُ على قرنهِ الأيسر، وَقِيْلَ : على قَرْنَيْهِ، وَقِيْلَ : لنه دخلَ النورَ والظلمة، وَقِيْلَ : لأنه بَلَغَ قُطْرَي الأرضِ، وكان اسمهُ اسْكَنْدَرُ.
وتقرأ (حَامِيَةٍ) أي حارَّةٍ، وهي قراءةُ العبادلةِ الثلاثةِ - عَبْدُاللهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَبْدُاللهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَعَبْدُاللهِ بْنُ عُمَرَ - وابنُ عامرٍ وأهلُ الكوفةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً ﴾ ؛ أي عند العينِ، ﴿ قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ ﴾ ؛ قِيْلَ : في هذا دليلٌ أن ذا القرنين كان نبيّاً ؛ لأن الانسانَ لا يعلمُ أمرَ الله إلاّ بالوحيِ، ولا يجوزُ الوحيُ إلاّ إلى الأنبياءِ، وَقِيْلَ : كان معه نبيٌّ، فأوحَى اللهُ إلى ذلك النبيِّ، وفي الجملةِ لا يُمكن إثباتُ النبوَّة إلاّ بدليلٍ مقطوع به.
ورويَ " عن النبيِّ ﷺ أنه سُئِلَ عن ذي القرنينِ قال :" هُوَ مَلِكٌ يَسِيْحُ فِي الأَرْضِ ". قال ابنُ الأنباريِّ :(إنَّهُ كَانَ نَبيّاً، فَإنَّ اللهَ قَالَ لَهُ كَمَا قَالَ لِلأنْبيَاءِ، إمَّا بتَكْلِيْمٍ أوْ بوَحْيٍ، وَمَنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ نَبيّاً، قَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ ألْهَمْنَا كقولهِ﴿ وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى ﴾[القصص : ٧] أي ألْهَمْنَاها.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ﴾ ؛ أي قُلنا له إما أن تَقْتُلَهُمْ على الكفرِ إن أبَوا الإسلامَ، وإما أن تأسِرَهم فتعلِّمَهم الهدى وتبصِّرَهم الرشادَ.
قرأ ابنُ كثير وأبو عمرٍو :(السَّدَّيْنِ) بفتحِ السِّين، وقرأ الباقون بضمِّها، وهما لُغتان، ﴿ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا ﴾ ؛ الجبلينِ، ﴿ قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ﴾ ؛ أي لا يكادون يفقهونَ قولَ غيرِهم، ولا يعرفون لُغة غيرهم.
قرأ حمزةُ والكسائيُ وخلف (يُفْقَهُونَ) بضمِّ الياء وكسر القاف، ومعناهُ : لا يكادون يفقهونَ أحداً قولاً. قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا :(لاَ يَفْقَهُونَ كَلاَمَ أحَدٍ، وَلاَ أحَدٌ يَفْهَمُ كَلاَمَهُمْ).
" وعن عبدِالله قالَ : سَأَلْتُ النَّبيَّ ﷺ عَنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، قَالَ :" يَأْجُوجُ أُمَّةٌ وَمَأْجُوجُ أُمَّةٌ، كُلُّ أُمَّةٍ أرْبَعُمِائَةِ ألْفٍ، لاَ يَمُوتُ أحَدُهُمْ حَتَّى يَنْظُرَ إلَى ألْفِ ذكَرِ مِنْ صُلْبهِ كُلُّهُمْ قَدْ حَمَلَ السِّلاَحَ " قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللهِ! صِفْهُمْ لَنَا ؟ قَالَ :" هُمْ ثَلاَثَةُ أصْنَافٍ : صِنْفٌ مِنْهُمْ طُولُ الرَّجُلِ مِنْهُمْ مِائَةٌ وَعُشْرُونَ ذِرَاعاً، وَصِنْفٌ طُولُهُ وَعِرْضُهُ سَوَاءٌ عُشْرُونَ وَمِائَةُ ذِرَاعٍ أيْضاً، وَهُمُ الَّذِيْنَ لاَ يَقُومُ لَهُمْ جَبَلٌ وَلاَ يَمُرُّونَ بفِيْلٍ وَلاَ جَمَلٍ وَلاَ وَحْشٍ وَلاَ خِنْزِيْرٍ إلاَّ أكْلُوهُ، لَهُمْ مَخَالِبُ فِي أيْدِيْهِمْ وَأضْرَاسٌ كَأَضْرَاسِ السِّبَاعِ، وَأنْيَابٌ يُسْمَعُ لَهَا حَرَكَةٌ كَحَرَكَةِ الْجَرَسِ فِي حُلُوقِ الإبلِ، وَلَهُمْ مِنَ الشَّعْرِ فِي أجْسَادِهِمْ مَا يُوَارِيْهِمْ، وَمَا يُتَّقَى مِنْهُ الْحَرُّ وَالْبَرْدُ، يَعْوُونَ عَوِيَّ الذِّئَاب، وَيَتَسَافَدُونَ كَتَسَافُدِ الْبَهَائِمِ إذا الْتَقَوْا ".
قال وهبُ :(يَشْرَبُونَ مَاءَ الْبَحْرِ وَيَأْكُلُونَ دَوَابَّهَا، وَيَأْكُلُونَ الْخَشَبَ وَالشَّجَرَ، وَمَنْ ظَفَرُواْ بهِ مِنَ النَّاسِ أكَلُوهُ). وقال كعبٌ :(هُمْ زيَادَةٌ فِي وَلِدِ آدَمَ، وَذلِكَ أنَّ آدَمَ احْتَلَمَ ذاتَ يَوْمٍ فَامْتَزَجَتْ نُطْفَتُهُ فِي التُّرَاب، فَخَلَقَ اللهُ مِنْ ذلِكَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ، فَهُمْ مُتَّصِلُونَ بنَا مِنْ جِهَةِ الأَب دُونَ الأُمِّ).
وقال ابنُ عبَّاس :(هُمْ عَشْرَةُ أجْزَاءٍ وَوَلَدُ آدَمَ كُلُّهُمْ جُزْءٌ). وَقِيْلَ : إن التُّرْكَ منهم إلاّ أن أولئكَ أشدُّ فساداً من التُّركِ، فتباعدُوا عن الناسِ، كما ينعزلُ اللُّصوصُ. ويأجوجُ ومأجوج اسْمانِ أعجميَّان لا ينصرفان ؛ لأنَّهما معرفةٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً ﴾ ؛ أي قالوا هل نجعلُ لك بعضاً من أموالِنا ضربتهُ في كلِّ سنةٍ على أن تجعلَ بيننا وبينهم حاجزاً وسدّاً. والرَّدْمُ هو السدُّ. وردمْتُ البابَ ؛ أي سَدَدْتُهُ، والْخَرْجُ والخراجُ واحدٌ.
وعن أبي هريرةَ :" أنَّّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ يَحْفُرُونَ كُلَّ يَوْمٍ، ثُمَّ يَقُولُونَ : نَرْجِعُ إلَى غَدٍ وَنِجِيْءُ أيْضاً نَحْفِرُهُ، فَيَأْتُونَهُ غَداً وَقَدْ أعَادَهُ اللهُ كَمَا كَانَ قَبْلَ أنْ يَحْفِرُوهُ "
وَقَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً ﴾ ؛ يعني النفخةَ الثانيةَ التي تكون للحَشْرِ يُحْشَرُ بها الناسُ من قبورِهم، ويُجمَعُون جَمعاً في الموقفِ، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً ﴾ ؛ أي وأظْهَرْنَا جهنَّمَ يومَ القيامةِ للكافرينَ حتى يَرَوا فيها جزاءَ أعمالِهم مُعَايَنَةً.
ثُم بَيَّنَ مَن هم فقال :﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ ﴾ ؛ أي جَحَدُوا دلائلَ توحيدهِ، وأنكَرُوا البعثَ بعد الموتِ، ﴿ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ ؛ أي بَطَلَتْ حسناتُهم التي عَمِلُوها مثل صِلَةِ الرَّحمِ، والإحسانِ إلى الناس، فلا يَرَوْنَ سعيَهم مع الكفرِ شيئاً، ﴿ فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ ﴾ ؛ ولا يكون لَهم عند اللهِ، ﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً ﴾ ؛ قَدْراً ولا مَنْزِلَةً.
وَقِيْلَ : خلقَ اللهُ الفردوسَ بيدهِ يفتحُها كلَّ يومٍ خمسَ مرَّات، فيقولُ : ازْدَادِيَ حُسْناً وَطِيْباً لأَوْلِيَائِي. وقال قتادةُ :(الْفِرْدَوْسُ رَبْوَةُ الْجَنَّةِ وَأفْضَلُهَا وَأرْفَعُهَا) وقال أبو أُسَامَةَ :(الْفِرْدَوْسُ سُرَّةُ الْجَنَّةِ). وقال كعبٌ :(لَيْسَ فِي الْجَنَّةِ جَنَّةٌ أرْفَعُ مِنَ الْفِرْدَوْسِ، فِيْهَا الآمِرُونَ بالْمَعْرُوفِ، والنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ).
وقال سعيدُ بن جبير : معناه (وَلاَ يَرَى) ﴿ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً ﴾ ؛ وعن عطاء عن ابن عباس قال :(قال : وَلاَ يُشْرِكْ بعِبَادَةِ رَبهِ أحَداً، ولَم يقُلْ : ولا يشركْ بهِ ؛ لأنه أرادَ العملَ الذي يعملهُ للهِ، ويحبُّ أن يُحمدَ عليهِ). قال الحسنُ :(هَذا فِي مَنْ أشْرَكَ بعَمَلِهِ يُرِيْدُ اللهَ بهِ وَالنَّاسَ).
وعن عُبادة بن الصامتِ : قال سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول :" مَنْ صَلَّى صَلاَةً يُرَائِي بهَا فَقَدْ أشْرَكَ، وَمَنْ صَامَ صَوْماً يُرَائِي بهِ فَقَدْ أشْرَكَ " وقرأ هذه الآية ﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً ﴾ "
وعَن أبي هريرةَ وأُبَيِّ بنِ كعب عن رسولِ الله ﷺ أنه قالَ :" مَنْ قَرَأ سُورَةَ الكَهْفِ فَهُوَ مَعْصُومٌ إلَى ثَمَانِيَةِ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ يَكُونُ فِيْهَا، وَمَنْ قَرَأ الآيَةَ الَّتِي فِي آخِرِهَا حِينَ يَأْخُذُ مَضْجَعَهُ كَانَ لَهُ نُورٌ يَتَلأْلأُ إلَى مَكَّةَ، حِشْوُ ذلِكَ النُّورِ مَلاَئِكَةٌ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُومَ مِنْ مَضْجَعِهِ. وَإنْ كَانَ مَضْجُعُهُ بمَكَّةَ فَتَلاَهَا كَانَ لَهُ نُورٌ يَتَلأْلأُ مِنْ مَضْجَعِهِ إلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، حِشْوُ ذلِكَ النُّورِ مَلاَئِكَةٌ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لَهُ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ ".
وقال ﷺ :" وَمَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أوَّلِ سُورَةِ الْكَهْفِ ثُمَّ أدْرَكَ الدَّجَّالَ لَمْ يَضُرَّهُ ". وقال ﷺ :" مَنْ قَرَأ سُورَةَ الْكَهْفِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَهْوَ مَعْصُومٌ إلَى سِتَّةِ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ فِتْنَةٍ تَكُونُ، فَإنْ خَرَجَ الدَّجَّالُ عُصِمَ مِنْهُ ".