تفسير سورة مريم

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة مريم من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه إلكيا الهراسي . المتوفي سنة 504 هـ

قوله تعالى :﴿ إذْ نَادَى رَبّهُ نِدَاءً خَفِيّاً ﴾، الآية :[ ٣ ] :
يدل على أن أفضل الدعاء ما هذه حاله، لأنه أبعد عن الرياء، وأقرب إلى الإخلاص.
قوله تعالى :﴿ وَهَنَ العَظْمُ مِنّي ﴾، الآية :[ ٤ ] :
يدل على أنه يستحب للمرء أن يذكر في دعائه نعم الله تعالى عليه، وما يليق بالخضوع، لأن قوله :﴿ وَهَنَ العَظْمُ مِنّي ﴾، إظهار للخضوع، وقوله :﴿ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقيّا ﴾، إظهار لعادات تفضله في إجابة أدعيته، ثم عقب ذلك بالمسألة فقال :﴿ وإنِّي خِفتُ المَوالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرِأَتي عَاقِراً فَهَبْ لي مِن لَدُنْكَ وَلِيّاً ﴾.
﴿ وإنِّي خِفتُ المَوالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرِأَتي عَاقِراً فَهَبْ لي مِن لَدُنْكَ وَلِيّاً ﴾، الآية :[ ٥ ] :
يدل على أن رفع الحاجة إليه، إنما يستحب عند مخافة الضرر في الدين، فإنه خاف من أقاربه الفساد والشر، فطلب من الله تعالى ولداً يقوم بالدين بعده، فيرثه النبوة، ويرث من آل يعقوب، ولا يجوز أن يهتم بالدعاء هذا الاهتمام، ومراده أن يورثه المال، فإن ذلك مباين لطريقة الأنبياء، ولأنه جمع وراثته إلى وراثة آل يعقوب، ومعلوم أن ولد زكريا لا يرثهم.
فإن قيل : كيف أقدم على مسألة ما يخرق العادة من غير إذن ! ؟ الجواب : أن ذلك جائز، في زمان الأنبياء، وفي القرآن ما كشف عن هذا المعنى، فإنه قال تعالى :﴿ كُلمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيّا المِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أنّى لكِ هذا قَالَتْ : هوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ١، فلما رأى خارق العادة استحكم طعمه في إجابة دعوته، فقال تعالى :﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيّا رَبّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيةً طَيِّبةً٢.
١ - سورة آل عمران، آية ٣٧..
٢ - سورة آل عمران، آية ٣٨..
قوله تعالى :﴿ إذَا تُتْلَى عَلَيْهِم آياتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجّداً وَبُكِيّا ﴾الآية :[ ٥٨ ] :
فيه دلالة على أن لتلاوة آيات الرحمن تأثيراً، فقال الحسن : إذ تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكياً : في الصلاة. وقال الأصم : المراد بآيات الله كتبه المتضمنة لتوحيده وحجته، وأنهم كانوا يسجدون عند تلاوتها، ويبكون عند ذكرها.
والمروي عن ابن عباس، أن المراد به القرآن، خاصة وأنهم كانوا يسجدون عند تلاوته ويبكون، ففي ذلك دلالة من قوله على أن القرآن هو الذي كان يتلى على جميع الأنبياء، ولو كان كذلك لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم مختصاً بإنزاله عليه.
واحتج الرازي به على وجوب سجود القرآن على المستمع والقارئ، وهذا بعيد، فإن هذا الوصف شامل لكل آيات الله تعالى، وضم إلى السجود البكاء، وأبان به عن طريقه الأنبياء في تعظيمهم الله تعالى وآياته، وليس فيه دلالة على وجوب ذلك عند سماع آيات مخصوصة.
قوله تعالى :﴿ وَمَا يَنْبَغِي لِلرّحْمَنِ أَنْ يَتّخِذَ وَلَداً، إن كُل مَنْ في السّماواتِ والأَرْضِ إلاّ آتي الرَّحْمَنِ عَبْداً ﴾، الآية :[ ٩٢، ٩٣ ] :
فيه دلالة على أن الولد لا يكون مملوكاً لأبيه خلافاً لمن قال : إنه يشتريه فيملكه ولا يعتق إلا إذا أعتقه، وقد أبان الله تعالى المنافاة بين الولادة والملك.
واستدل إسماعيل بن إسماعيل بن إسحاق بدليل آخر، ونقله الرازي في كتابه عنه فقال : وقد اتفق أهل العلم على أن أمة الرجل إذا حملت منه، فإن الولد يتحرر في بطن أمه، مع أن العبرة في رق الولد برق الأم، وحرية الوالد لا تقتضي حرية الولد، فلم يكن عتق الولد من جهة كون الأب حراً، وإنما كان من جهة أن الولد لو علق رقيقاً، لكان ملكاً للوالد، ولا يثبت الملك للوالد على الولد أصلاً.
إلا أن الولد تم حر الأصل، لأنه لا حاجة إلى إثبات الرق والملك للولد، فعلق الولد حراً هنالك، حتى لا يثبت للوالد على الولد ملك.
وإذا اشترى، فلا يمكن أن يقال إن الملك لا يثبت، فإن الملك لو لم يثبت لم يصح الشراء، ولا بد من تصحيح الشراء.
وقال مالك : ينقل المالك الملك إلى المشتري، فيثبت له الملك بقدر ما يحصل به الانتقال ضرورة تصحيح الشراء، وامتنع بعد ذلك ثبوت ملك الوالد عليه.
وقال بعض العلماء : إن شراء الولد لا يثبت له ملكاً أصلاً، وإنما هو عقد عتاق، فإما أن يقال إن الملك يثبت حقيقة في زمان، وحصل العتق بعده في زمان آخر فلا، ولكن العتق ثبت مقارناً للشراء، وجعل الشراء عقد عتاق وإسقاط لملك المالك، لا على حقيقة شراء فيما سواه، ولم يجعل الشراء سبب الملك، لوجود الأبوة المنافية له، كما لم يجعل ملك المحل سبباً لملك الولد لوجود سبب ما ينافيه، فيقال حدث حراً، وكذلك يقال حصل الشراء مع الحرية.
فهذا قول فيه تأمل، وعلى كل حال تبين به أنه لا يدوم ملك الوالد على ولده١.
١ - انظر أبو بكر الجصاص في هذه المسألة..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٩٢:قوله تعالى :﴿ وَمَا يَنْبَغِي لِلرّحْمَنِ أَنْ يَتّخِذَ وَلَداً، إن كُل مَنْ في السّماواتِ والأَرْضِ إلاّ آتي الرَّحْمَنِ عَبْداً ﴾، الآية :[ ٩٢، ٩٣ ] :
فيه دلالة على أن الولد لا يكون مملوكاً لأبيه خلافاً لمن قال : إنه يشتريه فيملكه ولا يعتق إلا إذا أعتقه، وقد أبان الله تعالى المنافاة بين الولادة والملك.
واستدل إسماعيل بن إسماعيل بن إسحاق بدليل آخر، ونقله الرازي في كتابه عنه فقال : وقد اتفق أهل العلم على أن أمة الرجل إذا حملت منه، فإن الولد يتحرر في بطن أمه، مع أن العبرة في رق الولد برق الأم، وحرية الوالد لا تقتضي حرية الولد، فلم يكن عتق الولد من جهة كون الأب حراً، وإنما كان من جهة أن الولد لو علق رقيقاً، لكان ملكاً للوالد، ولا يثبت الملك للوالد على الولد أصلاً.
إلا أن الولد تم حر الأصل، لأنه لا حاجة إلى إثبات الرق والملك للولد، فعلق الولد حراً هنالك، حتى لا يثبت للوالد على الولد ملك.
وإذا اشترى، فلا يمكن أن يقال إن الملك لا يثبت، فإن الملك لو لم يثبت لم يصح الشراء، ولا بد من تصحيح الشراء.
وقال مالك : ينقل المالك الملك إلى المشتري، فيثبت له الملك بقدر ما يحصل به الانتقال ضرورة تصحيح الشراء، وامتنع بعد ذلك ثبوت ملك الوالد عليه.
وقال بعض العلماء : إن شراء الولد لا يثبت له ملكاً أصلاً، وإنما هو عقد عتاق، فإما أن يقال إن الملك يثبت حقيقة في زمان، وحصل العتق بعده في زمان آخر فلا، ولكن العتق ثبت مقارناً للشراء، وجعل الشراء عقد عتاق وإسقاط لملك المالك، لا على حقيقة شراء فيما سواه، ولم يجعل الشراء سبب الملك، لوجود الأبوة المنافية له، كما لم يجعل ملك المحل سبباً لملك الولد لوجود سبب ما ينافيه، فيقال حدث حراً، وكذلك يقال حصل الشراء مع الحرية.
فهذا قول فيه تأمل، وعلى كل حال تبين به أنه لا يدوم ملك الوالد على ولده١.
١ - انظر أبو بكر الجصاص في هذه المسألة..

Icon