ﰡ
وهي مكية كلها على القول الصحيح، نزلت بعد فاطر، وعدد آياتها ثمان وتسعون آية. وتهدف إلى تقرير مبدأ التوحيد لله ونفى الشريك والولد عنه وإثبات البعث، وتتخذ القصص مادة لذلك، ثم تعرض لبعض المشاهد يوم القيامة، ومناقشة المنكرين للبعث.
قصة زكريا [سورة مريم (١٩) : الآيات ١ الى ١١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤)وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩)
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١)
كهيعص تقرأ هكذا: كاف. ها. يا. عاين. صاد. مع إدغام نون عاين في الصاد خَفِيًّا لا جهر فيه وَهَنَ الْعَظْمُ يقال وهن العظيم يهن إذا ضعف اشْتَعَلَ المراد انتشر انتشارا يشبه اشتعال النار الْمَوالِيَ هم في هذا الموضع الأقارب الذين يرثون من بنى العم ونحوهم.
مهلا بنى عمنا موالينا | لا تنشروا بيننا ما كان مدفونا |
المعنى:
لقد افتتحت السورة بهذه الأحرف الخمسة المقطعة. والله أعلم بها. هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا، وكان نبيا عظيما من أنبياء بني إسرائيل، وفي صحيح البخاري:
كان نجارا يأكل من عمل يده، والمراد بذكر الرحمة بلوغها وإصابتها، وإجابته لدعائه وقت أن دعا ربه نداء خفيا مستترا لأنه أبعد عن الرياء.
وفيه طلب الولد وهو عجوز، وقد يلام على ذلك من قومه، وعلى العموم فالرحمة الربانية تعبق رائحتها في جو هذه السورة.
قال زكريا: يا رب إنى وهن العظم منى، وضعفت وخارت قواي، وذكر العظم لأنه عمود البدن وقوامه وأساس بنائه فإذا وهن تداعى البدن، وتساقطت قوته،
نرى زكريا- عليه السلام- جمع في دعائه بين إظهار الخضوع والذلة والضعف ثم ذكر النعم عليه من ربه فيستحب لمن يدعو أن يفعل مثله.
وإنى خفت الموالي من ورائي خفت على عصبتي وأبناء عمى من أن يضيعوا الدين فطلبت ولدا يقوم عليه ويحرسه، ولا يعقل أنه خاف منهم أن يرثوه فهذا حال لا يليق بأمثاله.
وكانت امرأته- أخت حنة أم مريم- عاقرا لا تلد وإذا كان الأمر كذلك فهب لي من لدنك وليا يرثني، ويرث من آل يعقوب النبوة والعلم والمحافظة على الدين والدعوة إليه، واجعله يا رب راضيا مرضيا عنه في الدنيا والآخرة وقد أجيب إلى ما سأل في دعائه فقيل له:
يا زكريا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ سورة آل عمران الآيتان ٣٨ و ٣٩].. لم يجعل له من قبل سميا فلم يسم أحد قبله بهذا الاسم، وقيل لم نجعل له سميا وشبيها وهذا المعنى يؤيده قول الله فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [سورة مريم آية ٦٥] أى شبيها.
وهذا زكريا: وقد فرح فرحا شديدا حين أجيب إلى سؤاله، يتعجب ويسأله عن كيفية الولادة مع أن امرأته عاقر لا تلد، وهو كبير في السن وضعيف في البنية، وليس سؤال استبعاد على القدرة.
قال رب كيف يكون لي ولد؟!! وكانت امرأتى عاقرا، وقد بلغت من الكبر عتيا.
قال الله- سبحانه- أو قال الملك المبلغ: الأمر كذلك من خلق غلام منكما وأنتما على حالكما.
قال: رب اجعل لي آية تدل على حمل امرأتى قال: آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال وأنت سوىّ الخلقة ليس بك مانع يمنعك من الكلام، قال المفسرون: إن نفسه تاقت إلى سرعة الأمر فسأل الله آية يستدل بها على قرب ما من به عليه، وقد أجيب ليعلم وقت العلوق.
فخرج على قومه من المحراب «وهو مصلاه واشتقاقه من الحرب كأن صاحبه يحارب النفس والشيطان» فأوحى إليهم أن سبحوا وصلوا في الصباح والمساء. فتلك أوقات يقبل الله فيها على عباده لأنهم يقبلون عليه وقد هدأ الكون وسكن الناس وصفت النفوس، وخلت من مشاغل الدنيا وضجيج الحياة.
يحيى عليه السلام [سورة مريم (١٩) : الآيات ١٢ الى ١٥]
يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥)
المفردات:
بِقُوَّةٍ بجد ونشاط الْحُكْمَ الحكمة وَحَناناً الحنان المحبة في شفقة وميل مأخوذ من حنين الناقة على ولدها وَزَكاةً وطهارة ونماء وبركة وَبَرًّا
أى: بارّا محسنا لهما.
ولد لزكريا مولود فبلغ المبلغ الذي يجوز أن يخاطب فيه فقال الله له: يا يحيى خذ التوراة، وقم بكل ما فيها كما ينبغي. فأقدم على الأمر فامتثله، وعلى النهى فابتعد عنه كل ذلك بجد ونشاط، وعزيمة واجتهاد.
وآتيناه الحكم أى الحكمة وفهم الكتاب وهو التوراة التي يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأخبار، وهو صبي حديث السن أما تحديد سنه وقتئذ فالله أعلم به.
آتيناه الحكم، وآتيناه حنانا يتحنن به على الناس، ويتعطف به عليهم من عندنا، وزكاة وبركة له، وطهرا ونماء فيه.
وكان يحيى تقيا متجنبا المعاصي مطيعا لله وكان بارا بوالديه محسنا لهما، ولم يكن في وقت من الأوقات متكبرا ولا عاصيا لوالديه أو لله.
وسلام عليه وأمان يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حيا، وهذه الأوقات الثلاثة أوقات شديدة على الإنسان، ما أحوجه فيها إلى السلام والأمان من رب الأرباب.
انظروا يا شباب إلى خلق شباب أهل النبوة، والبيوت الطاهرة، والسلالة الشريفة خذوا يحيى في شبابه مثلا لكم تقتدون به، حكمة وعطفا، وزكاة وطهرا وشفقة وتقوى وبرا بالوالدين وإحسانا، وما كان جبارا في الأرض، ولا مفسدا وما كان عاصيا ولا مذنبا فسلام عليه وعلى والديه، ورحمة الله وبركاته إنها ذرية بعضها من بعض.
قصة ولادة عيسى ابن مريم [سورة مريم (١٩) : الآيات ١٦ الى ٣٣]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠)
قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥)
فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠)
وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣)
انْتَبَذَتْ
النبد الرح والرمي والرماد ابتعدت وتنحت عن أهلها مَكاناً شَرْقِيًّا
مكانا جهة الشرق حِجاباً
ساترا رُوحَنا
المراد جبريل وهو روح القدس، والدين يحيا به ويوجبه من الكتب سَوِيًّا
مستوى الخلقة نامها بَغِيًّا المرأة البغي هي الزانية التي تبغى الرجال مَقْضِيًّا محكوما به نافذا قَصِيًّا بعيدا عن الأعين فَأَجاءَهَا اضطرها الْمَخاضُ مقدمة الولادة إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ وهو ساقها اليابس نَسْياً النسى الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى مَنْسِيًّا وقع عليه النسيان بالفعل سَرِيًّا قيل هو النهر كان جافا فامتلأ ماء، وقيل: هو عيسى والسرى الشريف العظيم من القوم جَنِيًّا أى مجنيا في حينه وَقَرِّي عَيْناً المراد اهدئى ولا تحزني، والمسرور بارد القلب ساكنه فالمادة مأخوذة من القرى أى البرد صَوْماً سكوتا مُبارَكاً ناميا في الخير ثابتا على الحق الْمَهْدِ شيء يتخذ لتنويم الصبى.
المعنى:
واذكر يا محمد في القرآن مريم البتول وخبرها الصحيح الذي يتضمن ولادتها لعيسى ابنها عبد الله ورسوله إلى بني إسرائيل، ونفى الولد عن الله- سبحانه وتعالى-.
نشأت مريم بنت عمران في بيت كريم ونسب شريف، ونشأت عفيفة طاهرة فلما شبت وترعرعت تحت عناية الله ورعايته، وبلغت مبلغ النساء كان منها أن انتبذت أهلها، وجلست وحدها في خلوة للعبادة أو لقضاء بعض حاجاتها وكان ذلك في مكان جهة الشرق (ومن هنا اتخذ المسيحيون قبلتهم ناحية الشرق).
وبينما هي في خلوتها إذ بجبريل روح القدس يتمثل لها بشرا سويا تام الخلقة مستوى الخلق لم ينقص منه شيء في رجولته.
وهذا دليل على عفافها وورعها حيث تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفاتنة وكان تمثيله بتلك الصورة ابتلاء من الله لها وسبرا لعفتها. قال جبريل لها: إنما أنا رسول ربك الذي تستعيذين به، جئت لأهب لك غلاما زكيا طاهرا.
قالت مريم: أنى يكون لي غلام؟ والحال أنى لم يمسني بشر في زواج شرعي ولم أك بغيا من البغايا!! وسؤالها هذا لم يكن عن استبعاد لقدرة الله، ولكن أرادت متعجبة كيف يكون هذا الولد؟ هل هو من قبل زوج تتزوجه في المستقبل أم يخلقه الله ابتداء؟
قال الملك: الأمر كذلك (والمشار إليه أنى يكون لي غلام؟) قال الله: هو على هين وقد خلقناه على هذا الوضع لنجعله آية للناس حيث يستدلون بخلقه على كمال القدرة، وتمام العظمة لله- سبحانه وتعالى-.
وكان رحمة منا للخلق، وهكذا كل نبي يهدى الناس إلى الخير، ويرشدهم إلى الصراط المستقيم، وكان ذلك المذكور أمرا مقضيا ومقدرا من الله.
اطمأنت مريم إلى كلامه فدنا منها، ونفخ في جيب درعها أى نفخ في فتحة قميصها من أعلى، ووصلت النفخة إلى بطنها، وتنحت عن أهلها قاصدة مكانا قصيا بعيدا فألجأها المخاض متجهة إلى جذع النخلة لتستر به، وتعتمد عليه عند الولادة قالت:
يا ليتني مت قبل هذا الحادث، وكنت شيئا منسيا، تراها تمنت الموت خوفا من أن يظن بها السوء في دينها، أو يقع أحد بسبها في البهتان.
فناداها جبريل من تحتها إذا كانت هي على مكان مرتفع وقيل الذي ناداها هو عيسى الوليد، ناداها بألا تحزني ولا تتألمى.
فهذه آية الله الدالة على أن الأمر خارق للعادة، وأن لله في خلقه شؤونا. فها هو ذا قد جعل لك ربك تحتك نهرا يفيض بالماء بعد أن كان جافا، وحركي جذع النخلة
ولما اطمأنت مريم- عليها السلام- بما رأت من الآيات، وفرغت من نفاسها أتت بعيسى تحمله إلى أهل بيتها، فلما رأوا الولد معها حزنوا، وكانوا أهل بيت صالحين إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ [سورة آل عمران الآيتان ٣٣ و ٣٤].
قالوا منكرين: يا مريم لقد جئت شيئا فريا وعجيبا ونادرا في بيئتنا وبيتنا فليس هذا من عوائدنا وعادتنا.. يا مريم ما كان أبوك امرأ سوء بل كان رجلا صالحا، وعبدا قانتا، وما كانت أمك بغيا فمن أين يأتى لك هذا السوء؟! وفي هذا دليل على أثر الوراثة والبيئة.
فأشارت إلى الوليد الصغير أن تكلم قالوا متعجبين منكرين ذلك: كيف نكلم من كان في المهد صبيا؟! اعتبروا هذا استهزاء بهم وجناية زيادة على جنايتها الأولى.
ولكن الوليد الصغير لم يكن كأمثاله نشأ من أب وأم بل خلقه الله آية عجيبة وخلقة غريبة يؤمن بسببه أناس، ويكفر آخرون.
قال إنى عبد الله- ولست ولدا لله ولا جزءا منه بلى أنا بشر وعبد له- آتاني الكتاب وهو الإنجيل. وجعلني نبيا إليكم، وجعلني مباركا لي في كل شيء، وثابتا على دين الحق، وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حيا، وجعلني بارا بوالدتي فقط حيث لم يكن له أب، ولم يجعلني ربي جبارا عنيدا وشقيا مطرودا.
والسلام من الله العلى القدير، علىّ يوم ولدت من غير أب، ويوم أموت، ويوم أبعث حيا.
ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠)
المفردات:
يَمْتَرُونَ يشكون ويختلفون فَوَيْلٌ أى: فهلاك وعذاب يَوْمَ الْحَسْرَةِ هو يوم القيامة.
المعنى:
ذلك الذي مضى وصفه. والكلام عليه، والحكاية عنه في قوله: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً إلخ الآيات هو عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله إلى بني إسرائيل وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [سورة النساء آية ١٧١].
هذا هو الحق لا مرية فيه ولا شك إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ
[سورة آل عمران آية ٦١].
هذا هو القول الحق، والحكم العدل، والقول الصدق الذي فيه يمترون ويختلفون ويتشككون، نعم هو القول الفاصل الذي أطاح بأقوال اليهود في عيسى وأمه، وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً [سورة النساء آية ٥٦]. وأطاح بأقوال النصارى الذين قالوا: ابن الله أو ثالث ثلاثة، أو هو الله.. يا أهل الكتاب لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [سورة النساء آية ١٧١].
ولم تتكلم الأناجيل عن عيسى وهو صبي، وكيف كانت ولادته، ولم تذكر حادثة النخلة، ولا نذرها الصوم، ولا تأنيب قومها لها، ولا كلامه في المهد ظنا منهم أن ذلك يشين عيسى، وينقص قدره وقدر أمه، والقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه المنزل من عند الله، والمهيمن على كتب أهل الكتاب وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ هو الذي ذكر كل هذا.
ولا غرابة إذا لم تذكر الكتب السابقة خصوصا الأناجيل ذلك عن عيسى فالله يقول: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.
نعم إنهم يمترون فيه ويختلفون إلى الآن. ولقد جمع الإمبراطور قسطنطين مجمعا من الأساقفة فاختلفوا في عيسى اختلافا كثيرا وقالت كل فرقة قولا، فبعضهم قال: إنه الإله. وقالت الأخرى: إنه ثالث ثلاثة. وقالت فئة أخرى: إنه ابن الإله. وقال بعضهم: إنه عبد الله ورسوله وكلمته وروح منه.
ترى أن بعض النصارى نظر بعقله القاصر إلى السيد المسيح وأنه جاء من غير أب وخاطب ربه كثيرا بقوله: يا أبت كما حكى الإنجيل لك فقالوا هو ابن الله وما علم أن الله قادر على كل شيء، وأننا نحكم بمقتضى الأسباب التي نعرفها أنه لا ولد من غير أب ولكن الله- سبحانه- الذي خلق الأسباب والمسببات قادر على كل شيء- سبحانه وتعالى- عما يشركون! ما كان الله أن يتخذ ولدا سبحانه. وكيف يتخذ ولدا؟ وهو الغنى عن الولد والوالد والأخ والصاحب إذ له السموات والأرض الحي الدائم الباقي بعد فناء الخلق جميعا، وهو القادر على كل شيء إذا أراد نفذ المراد، وإذا
ومن كان هذا وصفه أيشبه المخلوقات فيكون له ولد ويحتاج إلى شيء حتى يكون له ولد وهل من المخلوقات شيء يماثله حتى يكون إله أو جزء إله. تعالى الله عما يشركون!! وها هو ذا عيسى- عليه السلام- نفسه يقول: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وكما حكى إنجيل متى عنه في الإصحاح الرابع آية ١٠ قال له يسوع: اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد، إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.
أما أهل الكتاب فاختلفوا فيما بينهم كما رأيت بين إفراط وتفريط في شأن عيسى وأمه ولم تنجح إلا طائفة آمنت بعيسى على أنه نبي مرسل، وهو بشر خلق من غير أب ليكون آية للناس.
أما غيرها فويل وهلاك للكافرين منهم الذين ألهوا المسيح أو ذموه ورموا أمه بالزنى ويل لهم حيث يشهدون يوم القيامة ذلك اليوم العظيم الهول.
ما أسمعهم وما أبصرهم يوم يأتون، وقد كانوا قبل ذلك لا يسمعون ولكن فات الأوان قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [سورة المؤمنون الآيتان ٩٩ و ١٠٠].
وأنذرهم يا محمد يوم الحسرة وقد قضى الأمر وهم غافلون لا يؤمنون، وأعلمهم أن الله يرث الأرض ومن عليها، وإليه يرجع الأمر كله.
قصة إبراهيم مع أبيه [سورة مريم (١٩) : الآيات ٤١ الى ٥٠]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥)
قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠)
صِدِّيقاً مبالغا في الصدق والتصديق سَوِيًّا مستقيما عَصِيًّا كثير العصيان وَلِيًّا ناصرا وقرينا له حَفِيًّا حفى به حفاة فهو حفى به أى: مبالغ في إكرامه وإلطافه والعناية به مَلِيًّا أى: زمنا طويلا لِسانَ صِدْقٍ المراد ثناء حسنا وسيرة عطرة.
لقد مضت قصة عيسى التي نفى فيها القرآن أكذوبة الولد، وها هي ذي قصة إبراهيم أبو إسماعيل الذي ينتسب إليه العرب ويدعون أنهم على دينه وأنهم سدنة بيته، وفيها نفى الشرك ودحض عبادة الأوثان.
واذكر يا محمد في الكتاب المنزل عليك إبراهيم الخليل، واتل عليهم نبأه وقت أن جادل أباه آزر، وقال له. يا أبت لم تعبد حجرا لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغنى عنك شيئا من الغناء؟!! وانظر إلى أبينا الخليل إبراهيم وهو يخاطب أباه متلطفا بقوله: يا أبت!! ويستفهم منه عن السر في تلك العبادة فإن المعبود لو كان حيا يسمع ويبصر وينفع ويضر في شيء، وهو مع ذلك مخلوق لكانت عبادته دليلا على قصر العقل وسوء الرأى وفساد الطبع.. ولو كان من أشرف الخلق كالأنبياء والملائكة وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وذلك أن العبادة غاية في التعظيم، ومنتهى التقديس ولا يكون ذلك لمخلوق أبدا أيا كان وضعه. فما بالك لو كان المعبود حجرا لا يسمع عبادتك، ولا يبصر قربانك، ولا يغنى عنك شيئا من الغناء؟! وفي الاستفهام عن السبب لفت للنظر عميق يبعث على الشك والبحث.
يا أبت إنى قد جاءني من العلم شيء لم يأتك فاتبعنى أهدك الصراط المستقيم، والسبيل الحق، وانظر إلى الخليل- صلوات الله عليه- لم يصف أباه بالجهل، ولا نفسه بالعلم الكامل فإن ذلك ينفر الناس، ويمنع الجليس من الائتناس، بل قال إنى أعطيت شيئا من العلم قليلا، ولم تعطه، ولا ضير عليك في شيء إن اتبعت ابنك حتى يهديك إلى الصراط المستقيم، يا أبت هب أننا سائران في الطريق وأنا على علم به أفلا يكون من الخير أن تتبعني حتى تصل إلى بر السلامة، وأنت أبى على كل حال وأنا ابنك البار.. وهذا جذب لأبيه ليصل إلى الحق بطرق سديدة، يشككه في اعتقاده ثم يلمح له بأن الخير في اتباعه وترك ما هو عليه.
وانظر إلى أبى الأنبياء وهو يقول لأبيه: يا أبت لا تعبد الشيطان، إن الشيطان كان للرحمن كثير العصيان.
آزر أبو إبراهيم كان يعبد الأصنام، وما كان يعبد الشيطان، إلا أن عبادتها لا يمكن أن تصدر عن عقل أو عاطفة أو غريزة، ولكنها تنشأ عن وسوسة الشيطان وإغوائه فكانت عبادتها عبادة له، وطاعة لإغوائه! والشيطان هو ما تعرفون، عدو أبيكم آدم،
وفي ذكر الخوف من العذاب والمس له دون الإصابة به، وتنكير العذاب المفيد للتقليل أدب جم، وتلطف كريم ليس غريبا على إبراهيم خليل الرحمن.
أما إجابة الكافر الغليظ القلب الجاف فكانت على صورة بشعة حيث قال: أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم؟ لئن لم تنته عن تعرضك للآلهة لأرجمنك وأشتمنك فاحذرنى واهجرني زمنا طويلا، وابتعد عنى وأنت سالم البدن والعرض.
انظر إلى آزر، وقد قابل استعطاف إبراهيم- عليه السلام- وتلطفه في إرشاده بالفظاظة حيث ناداه باسمه بدل قوله: يا بنى وبدأ الكلام بقوله: أراغب، للإشارة إلى أن الرغبة عن الآلهة أمر يهمه أكثر من غيره.
وصدره بهمزة الاستفهام المفيدة للإنكار والتعجب وجعلها مسلطة على الرغبة للإشارة إلى أن نفس الرغبة مما ينبغي أن تكون، وأن الآلهة ما ينبغي أن يرغب عنها عاقل، ثم بعد هذا هدده بالرجم باللسان أو بالحجارة إن لم يكف عن التعرض لذكر الآلهة بالسوء.
قال إبراهيم إزاء ذلك: مقالة المؤمن الكامل سلام عليك سلام توديع وترك لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [سورة القصص الآية ٥٥] ومع هذا كله فأنت أبى سأستغفر لك ربي، وأدعو لك بالهداية والتوفيق، إنه كان بي حفيا بارا لطيفا، وهو لن يضيعني في سفري، ولن ينساني أبدا، وقد كان كذلك.
استغفار إبراهيم لأبيه: الثابت أن إبراهيم- عليه السلام- استغفر لأبيه مدة طويلة قيل حتى مات وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [سورة الشعراء آية ٨٦]، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [سورة إبراهيم آية ٤١].
فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله أكمل عليه النعمة، وألبسه ثوب العافية ووهب له إسحاق وأبيه يعقوب، وجعل كل واحد منهما نبيا، ووهبنا لهم بعض رحمتنا وجعلنا لهم ثناء صادقا وسيرة طيبة، فكل الأديان والأنبياء من سلالتهما، وكل الأديان تحترم إبراهيم، وإسحاق ويعقوب وذريتهم.
والعرب يدعون أنهم على دين إبراهيم، وهم من سلالته، فذكرت لهم قصته وموقفه من أبيه وقومه ليعتبروا ويتعظوا.
ذكر بعض الأنبياء عليهم السلام [سورة مريم (١٩) : الآيات ٥١ الى ٥٨]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨)
مُخْلَصاً أى: أخلصه الله واختاره لنفسه، وقرئ مخلصا أى: أخلص في العبادة وابتعد عن الشرك والرياء رَسُولًا هو النبي صاحب الشريعة والكتاب.
والنبي من ينبئ عن الله وله وحى وليس له كتاب كيوشع مثلا ويحيى وزكريا فكل رسول نبي ولا عكس نَجِيًّا أى: مناجيا ومصاحبا.
وهذه سلالة إبراهيم وذريته، فخذوهم مثلا عليا لكم أيها المسلمون.
المعنى:
واذكر يا محمد في الكتاب، واتل عليهم نبأ موسى- عليه السلام-، إنه كان مخلصا في عبادته بعيدا عن الرياء والسمعة. والشرك بكافة أنواعه، وقد أخلصه الله لنفسه واجتباه وخلص الله نفسه من الدنس وحب الدنيا، وكان رسولا نبيا، وناداه ربه من جانب الجبل المسمى بالطور الجانب ذي اليمن والبركة أو الجانب الواقع في الجهة اليمنى لموسى- عليه السلام-، وقربناه تقريب تشريف حالة كونه مناجيا للحضرة العلية، تراه مثل حاله بحال من قربه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته، ولله المثل الأعلى، وقيل قربه تقريب مكان حتى سمع صريف الأقلام، وكلام الكبير المتعال، ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون، وجعلناه نبيا كما طلب من المولى وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي «١»، قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ «٢» قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى «٣».
(٢) الشعراء الآيتان ١٢ و ١٣. -
(٣) طه الآية ٣٦.
واذكر في القرآن أو في هذه السورة إدريس إنه كان مبالغا في الصدق وكان نبيا ورفعه الله مكانا عليا، رفعه الله رفع مكانة وتشريف وهو الظاهر، وقيل.. رفع مكان أى في السماء كما نطقت السنة الكريمة والله أعلم.
أولئك- يا محمد- الأنبياء الذين مر ذكرهم عليك في هذه السورة وعددهم عشرة أولهم زكريا وآخرهم إدريس عليهم السلام جميعا.
أولئك الذي أنعم الله عليهم واختارهم واجتباهم للنبوة والرسالة وكانوا من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح، ومن ذرية إبراهيم- عليه السلام-، ومن ذرية إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق، وممن هديناهم إلى الخير، واجتبيناهم، فهم خيار من خيار من خيار، وهم شجرة طيبة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء، سلالة كريمة، وذرية بعضها من بعض، والله فضلهم خلقا وأصلا ونسبا، هؤلاء إذا تتلى عليهم آيات الرحمن المنزلة عليهم سقطوا ساجدين باكين بقلوبهم وعيونهم، وهكذا من خالط قلبه حب الإيمان وأشرب في قلوبهم حب القرآن..
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا».
وعن صالح المري- رضي الله عنه- «قرأت القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام فقال لي هذه القراءة يا صالح فأين البكاء» ؟
ولبعض آيات القرآن إذا قرأتها أو سمعتها سجدة مستحبة تسمى سجدة التلاوة وفي المصحف علامات لها، ويستحب أن تدعو الله وأنت ساجد فيها فتقول في آية السجدة التي في سورة السجدة. اللهم اجعلنى من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك.. وفي سجدة الإسراء: اللهم اجعلنى من الباكين إليك الخاشعين لك! وفي سجدة سورة مريم أى: في هذه الآيات تقول.
اللهم اجعلنى من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك هذ بعض ما ورد ولا مانع من أن تدعو بما تحب مع الخشوع والخضوع لله منزل القرآن الكريم.
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣)
المفردات:
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ جاء عقبهم خَلْفٌ وفي اللغة يقال لعقب الخير خلف ولعقب الشر خلف غَيًّا الغي الشر، والخير هو للرشاد، قال المرقش شاعر عربي قديم.
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره | ومن يغولا يعدم على الغي لائما |
هذه نهاية الناس بعد ما ترسل لهم الرسل مبشرين ومنذرين.
المعنى:
فخلف من بعد الرسل والأنبياء خلف، وجاء عقبهم جماعة أضاعوا الصلاة ولم يقيموها كاملة تامة الأركان والشروط، بل أضاعوها وتركوها بالمرة، واتبعوا شهوات نفوسهم، وما تشتهيه أبدانهم من المحرمات كالخمر والزنى والربا وفعل المنكر، فهؤلاء
وهذا حكم عام يدخل فيه الناس جميعا من اليهود والنصارى والمسلمين وغيرهم يدخلون الجنة، جنات عدن وهي نوع من الجنة، وفيها الإقامة والمكث وهي التي وعد الرحمن بها عباده متلبسين بالغيب فآمنوا بها وعملوا لها فاستحقوا نعيمها، إنه كان وعده بالجنة مفعولا وحاصلا حتما، ومن وعد الجنة فإنه يأتيها، لا يسمعون فيها لغوا أبدا، وممن يسمعون اللغو؟ أمن المؤمنين؟ أم من الملائكة؟!! لكن سلام بعضهم لبعض، وسلام الملائكة عليهم موجود، فهم لا يسمعون ما يؤلهم وإنما يسمعون ما يسرهم.
ولهم رزقهم حسب ما يطلبون، والمعتدل من الناس إنما يطلب الأكل بكرة وعشيا أما النهم الحيواني فهو يأكل متى شاء، وسكان الجنة قوم معتدلون متوسطون في طلبهم.
تلك الجنة التي نورثها لعبادنا الأتقياء ونحفظها عليهم كما يحفظ المال للوارث، فهم أصحاب حق- لما قدموا من العمل- في هذا النعيم كما أن الوارث صاحب حق في مال مورثه، والله أعلم.
الأمر كله بيد الله [سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٥]
وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥)
نَتَنَزَّلُ النزول على مهل نَسِيًّا ناسيا سَمِيًّا شريكا له في الاسم أو في المسمى بمعنى ليس له مثيل ولا شبيه.
سبب النزول.
روى أن جبريل احتبس أربعين يوما، وقيل خمسة عشر يوما، وذلك حين سئل الرسول عن قصة أصحاب الكهف، والروح، وذي القرنين، فلم يدر بما يجيب، ورجا أن يوحى إليه فيه فتأخر الوحى فشق ذلك عليه مشقة شديدة، وقال المشركون. ودعه ربه وقلاه فلما نزل جبريل- عليه السلام- قال له النبي صلّى الله عليه وسلم.
أبطأت حتى ساء ظني واشتقت إليك!
قال إنى كنت أشوق، ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست وأنزل- سبحانه- هذه الآية وسورة الضحى.
المعنى:
يقول الله- سبحانه وتعالى- حكاية على لسان جبريل حين استبطأه النبي، وما ننزل إلا بأمر ربك فليس نزولنا وقتا بعد وقت عن أمرنا، وإنما هو بأمر ربك على حسب الحكمة! وما يراه صوابا، ثم أكد هذا بقوله: له ما بين أيدينا من الجهات والأماكن، وما خلفنا منها، وما بين ذلك مما نحن فيه، فلا نملك أن ننتقل من جهة إلى أخرى، ومن مكان إلى مكان إلا بأمر المليك ومشيئته- سبحانه وتعالى- فهو الحافظ العالم المحيط القادر المقتدر الذي لا يجوز عليه الغفلة والنسيان وما ربك ناسيا لشيء أبدا، بل هو المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة، رب السموات والأرض، وما بينهما فكيف نقدم على فعل إلا بعد أمره وإذنه على حسب حكمته، وما كان ربك ناسيا لك، وما ودعك ربك وما قلاك.
وقيل: هو حكاية لقول المتقين حين يدخلون الجنة على معنى، وما ننزل الجنة إلا بأمر ربك حيث يمن علينا بالثواب، وهو المالك لرقابنا المتصرف في أمورنا، وما كان ربك ناسيا لأعمالنا التي قدمناها في الدنيا، وكيف يجوز النسيان على رب السموات والأرض وما بينهما؟!! ثم يقول لرسوله: وحين عرفت ربك بهذا الوصف العالي وهو الموصوف بكل جميل
المنكرون للبعث وجزاؤهم [سورة مريم (١٩) : الآيات ٦٦ الى ٧٢]
وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢)
المفردات:
جِثِيًّا جمع جاث والمراد أنهم بركوا على ركبهم يقال: جثا يجثو إذا جلس على ركبته شِيعَةٍ فرقة تشيعت لشخص أو لمبدأ عِتِيًّا عصيانا يقال عتا يعتو عتوا أى: صار عاتيا عاصيا صِلِيًّا دخولا يقول صلّى النار يصلى دخلها.
ويقول بعض أفراد الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا: وأبعث للحساب؟!! إن هذا لعجيب!! نعم يقول الكفار منكرين مستبعدين الحياة للبعث والثواب: أحقا أنا سنخرج أحياء بعد أن متنا، وتمكن فينا الموت والهلاك؟! والمراد الخروج من القبر أو حال الفناء، وانظر يا أخى إلى تصوير القرآن لإنكارهم الشديد وأنه منصب على ما بعد الموت، وهو كون الحياة منكرة، ولذا قال: أإذا ما مت لسوف أخرج حيا؟
فهو كقولك أحين تمت عليك نعمة فلان تسيء إليه؟؟ ويقول الله- سبحانه وتعالى- في الرد على هؤلاء:
أيقول الكافر ذلك ولا يتذكر أنا خلقناه من قبل، ولم يك شيئا؟!! أيقول الكافر ذلك ولا يتذكر نشأته الأولى، حتى لا ينكر إعادته للبعث فإن الأولى أعجب وأغرب، وأدل على قدرة الله حيث خلقه، ولم يك شيئا أبدا فقد خلقه من غير مثال يحتذيه ولا نظام سابق يعيده ويحييه، وأما الحياة الثانية فقد تقدمت نظيرتها، وكل ما فيها إعادة تأليف أجزاء تبعثرت، وتركيبها كما كانت فالإعادة أهون بالنسبة للأولى، وإن كان البدء والإعادة سواء عند الله- سبحانه وتعالى-.
فوربك يا محمد لنحشرنهم والشياطين، إنه قسم من الله برب محمد فهو تشريف له وأى تشريف؟
والله أقسم ليحشرنهم جميعا بعد بعثهم من قبورهم، ومعهم الشياطين التي هي سبب إغوائهم وضلالهم ليأخذ الكل جزاءه غير منقوص وليروا بأنفسهم أن الشيطان أضلهم وأعمى أبصارهم وسيتنصل منهم وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة إبراهيم آية ٢٢].
ثم بعد هذا لنحضرنهم جميعا حول جهنم جاثمين على ركبهم غير قادرين على الوقوف على أرجلهم من شدة الهول وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً [سورة الجاثية آية ٢٨].
وهل الضمير هنا في قوله لَنُحْضِرَنَّهُمْ للعموم أو للكفار فقط؟ وهذا سيظهر عند الكلام على قوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها.
ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بجهنم صليا ودخولا، ومن هذه الآية وأشباهها نعلم أن الله- سبحانه وتعالى- جعل لأئمة الكفر وقادة الضلال عذابا أشد، ودركا أسفل في النار الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل ٨٨] وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت ١٣].
وإن منكم من أحد إلا واردها، كان على ربك حتما مقضيا، وفي هذه الآية الحكم بورود جميع الخلق على النار، ومن هنا اختلف المفسرون في معنى الورود. فهل هو الدخول بالفعل؟ أو هو المرور عليها من غير دخول؟ قيل الناس جميعا يدخلونها فأما المؤمنون فتكون عليهم بردا وسلاما،
وروى في تلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن ذلك فقال. إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار فيقال لهم قد وردتموها وهي جامدة
، وأما قوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ «١» فالمراد أنهم مبعدون عن عذابها، ولعل الحكمة في الورود بهذا المعنى ليروا ما أعد للكافرين والعصاة، وما أعد لهم فيزدادوا فرحا وسرورا، وليمتلئ قلب الكافر حسرة وندما على ما فرط منه.
ويجوز أن يراد بالورود الجثو حولها فقط من غير دخول فيها، أو الورود بمعنى المرور على الصراط أما المؤمنون فينجون وأما الكافرون فيسقطون، ويرشح هذا أن قول العرب «وردت القافلة البلد» لا يلزم منه دخولها وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ «٢» ولعل الرأى الأول أرجح وهو تفسير الورود بالدخول لقوله تعالى.
ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا حيث لم يقل وندخل الظالمين، ولتظاهر السنة الشريفة على هذا المعنى.
وهذا كله إذا أريد العموم في قوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها أى: من الناس جميعا فإن أريد الكافرون فقط فلا خلاف في معنى الورود.
(٢) سورة القصص الآية ٢٣.
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (٧٧)
أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٧٨) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (٨٠)
المفردات:
نَدِيًّا الندى والنادي مجلس القوم، ومنه دار الندوة قَرْنٍ المراد من أمة وجماعة، وفي الكشاف وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنه يتقدم بهم، كقرن البقرة أَثاثاً الأثاث متاع البيت، وقيل، المال مطلقا وفيه معنى الكثرة رئيا منظرا حسنا فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ المراد يمد له الرحمن مدا حتى يطول غروره مَرَدًّا أى: مرجعا وعاقبة.
وهذه جناية أخرى من جنايات المشركين المتعددة وبعض أعمالهم المخزية.
وإذا تتلى على هؤلاء الكفار الذين تقدم الكلام عليهم في قوله: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا إلى قوله: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا وإذا تتلى عليهم آياتنا حالة كونها بينات المعنى واضحات الحجة قال الذين كفروا لأجل الذين آمنوا. وفي شأنهم. أى: الفريقين خير مقاما وأحسن نديا؟ ويحتمل أن الكافرين قالوا مخاطبين المؤمنين: أى الفريقين- فريق المؤمنين وفريق الكافرين- خير إقامة وأحسن ناديا ومجلسا!! وذلك أن زعماء الكفر كانوا ينظرون لأنفسهم. وقد جهلوا كل شيء إلا ظاهرا من الحياة الدنيا فيرون أنفسهم في غنى وسعة، والمؤمنون في شظف من العيش وقلة في العدد فيقولون. لو كان هؤلاء على حق ونحن على باطل كما يدعون لكان العكس.
ولكانوا هم أكثر مالا وأعز نفرا، وغرضهم من ذلك زعزعة المسلمين في عقائدهم موهمين بعضهم أن من كان كثير المال كان على الحق والصواب، ومن الأسف أن بعض جهلة الأغنياء من المسلمين يفهم هذا، ويقول به.
فيرد الله ويقول ما معناه: وكثير من الأمم السابقة كانوا أحسن أثاثا ومنظرا منكم وأكثر عددا وعدة أهلكناهم لما كفروا بالله.
قل لهم يا محمد. من كان في الضلالة سادرا، وفي العماية سائرا حيث يقول هذا القول المخزى أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا يمده الله ويملى له في العمر مدا حتى يطول اغتراره فيكون ذلك أشد لعقابه.
ونظيره قوله- تعالى- إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «١» وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «٢» وهذا غاية في التهديد، وقيل هو دعاء من النبي عليهم بذلك حتى إذا رأوا ما يوعدون من العذاب في الدنيا بالقتل والأسر وظهور الدين الحق وهم كارهون أو يظلمهم يوم القيامة بعذابه اللافح وحسابه الشديد عن ذلك يرون من هو شر مكانا وأضعف جندا.
وخلاصة الكلام أن الله يمد لمن هو في الضلالة حتى يرى واحدا من اثنين إما عذاب الدنيا وإما عذاب يوم القيامة فإذا رأى ذلك علم من هو شر مكانا ومن هو أضعف
(٢) سورة الأنعام الآية ١١٠.
ونظير هذه الآية وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً [سورة الكهف آية ٤٣] هذا حالهم. أما حال المؤمنين فيقول الله فيهم:
ويزيد الله الذين اهتدوا وآمنوا هدى وتوفيقا إذ الخير يجر بعضه، والباقيات الصالحات من أعمال الخير، وذكر الله وتسبيحه عند ربك خير ثوابا، وخير عاقبة ومآلا.
ثم أردف الله- سبحانه وتعالى- بهذا مقالة أولئك المفتخرين المغرورين بالمال والولد على سبيل التعجب والإنكار لهم.
ولهذه قصة خلاصتها كما رواها الأئمة عن خباب- وكان قينا أى: حدادا وصائغا، قال. كان على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لي: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد قال فقلت له. لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث قال. وإنى لمبعوث من بعد الموت؟!! وإذا بعثت فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مالي وولدي وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً [سورة الكهف آية ٣٦] فنزلت هذه الآية.
أفرأيت الذي كفر بآياتنا كلها أو بعضها وقال. والله لأوتين مالا وولدا، والمعنى أخبرنى بقصة هذا الكافر عقب حديث أولئك المغرورين بمالهم وجاههم.
أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا كلها أو بعضها وقال. والله لأوتين مالا وولدا يوم القيامة عند البعث، انظر إلى مقالته وتألّيه على الله مع كفره وجحوده ثم يجيب الله عنه ويرد عليه.
أطلع على الغيب حتى أنه في الجنة؟ أم اتخذ عند الرحمن عهدا بدخول الجنة وأنه سيكون صاحب يسار فيها؟ ولا سبيل إلى العلم إلا بإحدى الوسيلتين إما الاطلاع على الغيب، أو أخذ العهد.
وفي قوله: أطلع على الغيب؟! إشارة إلى أن الغيب أمر صعب أعلى من الجبل الأشم وأمنع منه منالا إذ هو غيب رب السماء والأرض الذي لا يطلع على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول.
سنكتب ما يقول ونجازيه عليه، ونمد له من العذاب مدا مكان ما يطلبه من المدد بالمال والولد جزاء عمله.
ونرثه جزاء ما يقول ويعمل فهو يستحقه استحقاق الوارث لمال الموروث وسيأتينا فردا خاليا من كل شيء لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [سورة الأنعام آية ٩٤].
هؤلاء هم المشركون [سورة مريم (١٩) : الآيات ٨١ الى ٨٧]
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (٨٥)
وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (٨٦) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (٨٧)
المفردات:
عِزًّا أنصارا وأعوانا لهم ضِدًّا أعداء لهم أَزًّا الأز والهز والاستفزاز كلها تفيد التحريك والتهيج والإزعاج وَفْداً جمع وافد كصحب جمع صاحب والوافد من خرج في أمر خطير أو لمقابلة ملك أو أمير وِرْداً الورد القوم يردون الماء وهم عطشى، والمراد أنهم حفاة عطاش كالإبل والورد نفس الماء.
ويقول- سبحانه وتعالى- عجبا لمن كفر بآيات الله يتمنى عليه الأمانى ويتألى على الله- سبحانه- قد كفروا واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم أنصارا يوم القيامة وأعوانا، يشفعون لهم ويقربونهم زلفى إلى الله.
كلا!! سيكفرون بعبادتهم، ويتخلون من كفرهم ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ «١» وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ [سورة النحل آية ٨٦].
ويجوز أن يكون المعنى كلا سيكفرون بعبادة الآلهة وينكرون ذلك ويقولون كذبا وبهتانا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «٢» ويكونون عليهم أضداد وأعداء لأنهم حصب جهنم التي فيها يعذب الكفار.
لا تعجب يا محمد من أولئك الكفرة العتاة القساة المغرورين بالمال والولد، لا تعجب من فعلهم.. ألم تر أنا أرسلنا الشياطين عليهم؟ وخلينا بينهم وبينهم؟ ولو شاء ربك ما فعلوا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ «٣» إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ «٤» وإذا كان ذلك كذلك فلا تعجل لهم، ولا تستعجل عذابهم فليس بينك وبين عذابهم إلا أيام محصورة، وساعات معدودة، وكل آت قريب.
واذكر يوم حشر المتقين وتجمعهم إلى الرحمن وافدين ويساق المجرمون إلى جهنم وردا عطاشا حفاة عراة أفرادا أو جماعات وانظر إلى تكريم المتقين حيث يحشرون وفودا مكرمة مطهرة مشرقة وإلى المجرمين وهم يساقون كالأنعام إلى الماء عطاشا حفاة وهناك يساقون إلى جهنم وبئس القرار.
لا يملك أحد الشفاعة من مؤمن وكفار إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، وهم الذين عهد لهم ربهم بهذا، أما الآلهة التي يظنون أنها عزهم، وأنها ستشفع لهم فتلك أمان باطلة، وحجة واهية، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فكيف يكونون مع غيرهم؟!!
(٢) الأنعام الآية ٢٣.
(٣) الإسراء الآية ٦٤.
(٤) الحجر الآية ٤٢.
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢)
إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (٩٥)
المفردات:
إِدًّا الإد والإداة الداهية والأمر الفظيع والمراد أتيتم منكرا عظيما يَتَفَطَّرْنَ يتشققن تَنْشَقُّ الْأَرْضُ تتصدع تَخِرُّ الْجِبالُ تسقط وتهد هَدًّا أى شديدا له صوت.
انظر إلى نهاية السورة وقد عادت إلى نفى الولد هو المقصود الأول.
المعنى:
وهذه ثالثة الأثافى، وداهية الدواهي وهي قولهم إن شاء الله اتخذ ولدا، لقد جاءوا شيئا إدا، وارتكبوا جرما فظيعا تئود من حمله الجبال الرواسي، وتكاد السموات يتشققن من هوله، وتتصدع الأرض من وقعه، وتسقط الجبال سقوطا شديدا من دعواهم اتخذ الله ولدا، يقول الله. كدت أفعل ذلك بالسموات والأرض والجبال لولا حلمي وعفوي من شدة الغضب، وقيل: هذا تصور وتمثيل لاستعظام الجرم وأثره في الدين وهدمه لأركانه. وما ينبغي للرحمن ولا يصح أن يتخذ ولدا عن طريق الولادة إذ هذا يقتضى
روى البخاري عن أبى هريرة قال. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم. «يقول الله- تبارك وتعالى- كذّبنى ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمّا تكذيبه إيّاى فقوله: ليس يعيدني كما بدأنى، وليس أوّل الخلق بأهون علىّ من إعادته، وأمّا شتمه إيّاى فقوله اتّخذ الله ولدا وأنا الأحد الصّمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد».
وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا كما قالت اليهود: عزير ابن الله، وكما قالت النصارى: المسيح ابن الله، وكما قال المشركون: الملائكة بنات الله!! وكيف يكون ذلك؟ وكل من في السموات من إنسان أو ملك يأتى الرحمن عبدا ذليلا خاضعا لقوته وجبروته وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ «١» أى: صاغرين، وهذا يتنافى مع اتخاذ الولد إذ الولد قطعة من أبيه وهو عبد صار حرا بمجرد الشراء على أن الله ليس في حاجة إلى الولد، وله من في السموات والأرض كلهم ملكا وخلقا وعبيدا، وهو العالم بكل شيء المحيط بكل كائن في الكون، القادر لا تحد قدرته بحد القائل في كتابه لقد أحصاهم جميعا، وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا خالصا مجردا من كل شيء فهل يعقل أن يكون لمثل هذا ولد؟ أو يكون معه ولد فإن الولد شريك أبيه وصنوه، وخليفته من بعده، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وخير ما يختتم به هذا الموضوع سورة التوحيد والإخلاص قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ وانظر يا أخى إلى التوحيد الخالص البريء في الإسلام، والتوحيد الصريح الذي لم يدع شكا عند أحد سبحان من هذا كلامه!!!
ختام السورة [سورة مريم (١٩) : الآيات ٩٦ الى ٩٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (٩٨)
وُدًّا محبة لُدًّا ألداء في الخصومة أشداء في الجدل بالباطل رِكْزاً صوتا خفيا.
المعنى:
ما مضى من الكفار، ومن أعمالهم السيئة، لا شك أنه يجعلهم مبغوضين مبعدين، أما المؤمنون العاملون الخير الصالح فسيجعل لهم الرحمن المنعم بالنعم كلها ودا ومحبة في القلوب.
فإنما يسرنا القرآن بلسانك العربي حتى صار مفهوما يفهمه الخاص والعام فهو كالبحر يغترف منه كل على قدر طاقته وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ «١» يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين فيعرفوا جزاء عملهم، وما أعد لهم، وتنذر به قوما ألداء أشداء في الخصومة والجدل وهم المشركون، وكل عدو للدين، فخذ حذرك واجمع أمرك، وليعلم من يأتى بعدك أن مهمة الوعظ والتبشير بالدين والإنذار به ليست مهمة سهلة هينة إنما أنت تحارب في ميادين مع قوم شهد الله لهم بأنهم ألداء أقوياء لتتذرع بالصبر، ولتتجمل بالخلق الطيب، وكن مثلا عاليا في الأدب وحسن الجدل، واستعد لهذا بتكوين نفسك علميا مع الإحاطة والفهم للبيئة التي تعيش فيها، ودراسة أحوال من تخاطبهم دراسة دقيقة. عند ذلك يمكنك أن تعرض القرآن عرضا حسنا يستفيد منه الكل.
وأما القوة المادية التي هي في جانب الكفار فلا يهمك منها شيء أبدا، واعلم أن كثيرا من الأمم السابقة أهلكها ربك وكانوا أكثر من هؤلاء قوة وعددا وأكثر مالا وولدا فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم صوتا؟!!
حديث شريف عن أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أحبّ الله عبدا نادى جبريل إنّى قد أحببت فلانا فأحبّه فينادى في السّماء ثم تنزل له المحبّة في الأرض» فذلك قوله تعالى: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل إنّى أبغضت فلانا فينادى في السّماء ثم تنزل له البغضاء في الأرض».
والمحبة التي وعدها الله المؤمنين إنما تكون في قلوب الصالحين المتقين وعند الملائكة المقربين، وإلا فالمؤمن من قد يكون مكروها من الفاسق والكافر.