تفسير سورة البقرة

التفسير الواضح
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب التفسير الواضح .
لمؤلفه محمد محمود حجازي .

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢)
المفردات:
لا رَيْبَ فِيهِ: لا شك في أنه من عند الله. هُدىً: هداية وإرشاد.
لِلْمُتَّقِينَ الذين أخذوا لأنفسهم وقاية من النار.
المعنى:
استفتاح عجيب لأول سورة من القرآن الكريم، وابتداء حيز الأفهام وزلزل العقول على بساطة تركيبه من حروف هجائية.
فقال جماعه بعد البحث وطول الفكر: هذا مما استأثر الله بعلمه فهو من المتشابه الذي نؤمن به على أنه من عند الله- والله أعلم- واعلم أنه أمر مفهوم عند النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه خوطب به، وهو أشبه ما يكون (بالشفرة) بين الله ورسوله وقال آخرون:
لا بد أن يكون لذكره معنى، والظاهر أنه إيماء إلى إقامة الحجة على العرب بعد أن تحداهم القرآن على أن يأتوا بمثله.
فكأنه يقول لهم: كيف تعجزون عن الإتيان بمثله؟! مع أنه كلام عربي من حروف هجائية ينطق بها كل أمى ومتعلم ومع هذا فقد عجزتم.
وذلك الذي نزل على محمد هو الكتاب الكامل في كل ما يتعلق به من معنى شريف وقصد نبيل وقصص فيه عبرة وعظة وتشريع صالح لكل زمان ومكان.
كتاب هذا حاله لا ينبغي من العاقل أن يشك في أنه من عند الله خصوصا وقد تحدى الله به العرب وهم أهل البيان واللسن تحداهم بأسلوب مثير: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فارجعوا إلى الحق وآمنوا به.
وقد وصفه الله بعد هذين الوصفين بوصف ثالث أنه مصدر هداية وإرشاد لمن أراد أن يأخذ الوقاية لنفسه من عذاب ربه، وإنما خصهم بالهداية لأنه لا يهتدى به إلا من تخطى عقله وقلبه حواجز المادة فآمن بالغيب- ما وراء المادة- وبعمل الخير. وآمن بالسفارة بين الله والخلق، وبالحياة الآخرة.
المتقون وجزاؤهم [سورة البقرة (٢) : الآيات ٣ الى ٥]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
المفردات:
الإيمان: هو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس وقبولها، وسلامة العمل.
بِالْغَيْبِ: ما غاب عنهم من حساب وجزاء وجنة ونار وغير ذلك. يُقِيمُونَ
الصَّلاةَ
إقامتها: الإتيان بها مقومة معتدلة كاملة، والمقصود استيفاء أركانها وشروطها. يُوقِنُونَ اليقين: هو الاعتقاد الذي لا يقبل الشك.
المعنى:
إن الله- سبحانه وتعالى- يكشف عن صفة المتقين الذين ينتفعون بالقرآن وهديه فيقول: هم الذين يؤمنون بالأمور الغيبية متى قام الدليل عليها، ولا يقفون عند الماديات والمحسوسات، يؤمنون بما وراء المادة، وهؤلاء يسهل عليهم فهم القرآن والانتفاع به لأن نور الإيمان شع في قلوبهم فامتلأت طاعة ورحمة، ولذا كان من صفاتهم إقامة الصلاة إذ هي مظهر الطاعة، وإقامة الصلاة: الإتيان بها كاملة مقومة بشروطها وآدابها فالصلاة عبادة بدنية وروحية لا عمل بدني فحسب. وإقامتها: عبارة عن استيفاء ناحيتي البدن والروح.
والإنفاق في سبيل الله من زكاة وصدقة مظهر من مظاهر الرحمة بالإنسان، وركن مهم جدّا من أركان الإسلام كالصلاة التي هي عماد الدين، فالزكاة أساس بناء المجتمع كما أن الصلاة أساس بناء الفرد.
وهم الذين يؤمنون بالله وما أنزل عليك، وما أنزل على من قبلك من الأنبياء والمرسلين، وآمنوا كذلك بالآخرة إيمانا يقينا لا شبهة فيه ولا شك.
ولا غرابة في أن يكون هؤلاء ذوى مكانة عالية عند الله يشار إليهم، متمكنين من هدايته، وأولئك البعيدون في مرتبة الكمال هم الفائزون في الدارين.
الكافرون وجزاؤهم [سورة البقرة (٢) : الآيات ٦ الى ٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)
15
المفردات:
أَأَنْذَرْتَهُمْ الإنذار: الإعلام مع التخويف. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ: طبع عليها بالخاتم، وإنما يفعل هذا على الأبواب لمنع الدخول إليها، والمراد أغلقت قلوبهم فلا يدخلها إيمان ولا تصح. غِشاوَةٌ الغشاوة: الغطاء، والمقصود التعامي عن النظر إلى آيات الله.
المناسبة: ابتدأ الله هذه السورة بالكلام عن القرآن الكريم وموقف الناس منه، وذكر أنهم أنواع: فمنهم من آمن به وعمل صالحا وأولئك هم المفلحون، ومنهم من كفر واستكبر عن الحق قولا وعملا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
المعنى:
إن الذين كفروا بالله عنادا وجاهروا بتكذيب القرآن فهؤلاء يستوي عندهم الإنذار وعدمه إذ لا ينتفعون به ولا يتجهون إليه فلا نتأثر بهم ولا نأسى عليهم. فقلوبهم مغلقة لا يصل إليها النور الإلهى الممثل في الآيات، وأسماعهم لا يعرفها صوت الحق لأنها تنبو عنه، وأبصارهم لا تراه لأن عليها حجابا كثيفا هو حجاب التعامي عن آيات الله، أولئك لهم عذاب من نوع خاص ليس مألوفا: عذاب عظيم.
ولقد بين الله- سبحانه وتعالى- بهذه الآيات أنه إذا وجد في الناس من لا يؤمن بالقرآن فليس لتقصير في هدايته ولا لعيب فيه، وإنما العيب فيهم لا في الكتاب، والختم على قلوبهم وعلى سمعهم بسبب كفرهم بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (١٥٥ من سورة النساء). ولقد صدق الله: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥ من سورة يوسف).
16
المنافقون وصفاتهم [سورة البقرة (٢) : الآيات ٨ الى ١٦]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)
المفردات:
يُخادِعُونَ اللَّهَ الخداع: صرف الغير عما نقصده بحيلة، والمراد هنا إظهار الإسلام وإضمار الكفر. مَرَضٌ المرض: العلة، والمراد هنا: شك ونفاق
17
السُّفَهاءُ: ضعفاء العقول، والمقصود هنا الجهلاء وضعفاء النفوس.
شَياطِينِهِمْ المراد: إخوانهم في الكفر. مُسْتَهْزِؤُنَ الاستهزاء: الاستخفاف والسخرية، وهو من اليهود بهذا المعنى، ومن الله بمعنى أنه لا يعبأ بهم لحقارتهم وسوء إدراكهم، أو بمعنى أنه سيجازيهم عليه. يَمُدُّهُمْ: يزيدهم. طُغْيانِهِمْ الطغيان: مجاوزة الحد. يَعْمَهُونَ العمه: ضلال البصيرة، والمراد: التحير والتردد. اشْتَرَوُا: استبدلوا.
المعنى:
الصنف الثالث من الناس هم المنافقون، وهؤلاء أشد خطرا على الإسلام من الكفار صراحة ولذا تكلم عليهم في ثلاث عشرة آية، وليس المراد بهم المنافقين المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقط بل كل من ينطبق عليه الوصف في كل عصر ووقت.
بعض الناس آمن بالله واليوم الآخر قولا باللسان فقط، وقلبه ملئ بالكفر والضلال، فيرد الله عليهم دعواهم وأنهم ليسوا بمؤمنين وإن تظاهروا به، ولا شك أنهم في إظهارهم الإيمان وإخفائهم الكفر في صورة المخادعين لله، ولأن الله- سبحانه- يعلم عنهم ذلك وأنهم ليسوا بمؤمنين، بل أشد ضررا من الكفار، ومع ذلك يأمر بإجراء أحكام الإسلام الظاهرة عليهم كأنه يخادعهم، وهكذا المسلمون حيث امتثلوا أمر الله فيهم كأنهم مخادعون لهم، فهذا كله من باب التشبيه والتمثيل.
وإلا فالله عالم بهم لا تجوز عليه مخادعتهم وقادر على إيقاف المسلمين على حالهم حتى لا ينخدعوا بهم، وليس خداعهم وعاقبته إلا وبالا عليهم، وما يشعرون بذلك لأن قلوبهم قد ملئت غيظا وحسدا وشكّا ونفاقا حتى عموا عن إدراك أبسط الأشياء، زادهم الله من هذه الأمراض، ولهم عذاب شديد مؤلم في الدنيا والآخرة.
والواقع أن المنافقين في كل زمان ودولة هم الخطر الداهم على أممهم والسهم الذي يصوب في ظهر وطنهم، وكثيرا ما لاقى النبي صلّى الله عليه وسلّم من النفاق والمنافقين.
والنفاق واليهودية شيئان متلازمان لأنه ينشأ عن جبن حقيقى ولؤم طبيعي، فالمنافق يلتوى مع الناس في أقواله وأفعاله، وكم للمنافق في المجتمعات من أضرار بالغة ومخادعات هادمة.
18
لو أن كل إنسان أظهر نفسه على حقيقته، وأدى واجبه دون أن يخادع أو يخاتل ودون أن يوقع الآخرين لتكون عندنا المجتمع الصالح والدولة العزيزة الجانب.
ومن صفاتهم أيضا أنه إذا قيل لهم: إن إثارتكم الفتن والتجسس لحساب الكفار وتأليب القبائل على المسلمين فساد، وأى فساد بعد الحرب وما تجره؟ فكفوا عن الفساد، قالوا: ليس الأمر كما زعمتم فإنما نحن مصلحون، لا نتعدى الصلاح إلى غيره أبدا، فرد الله عليهم بعبارة أبلغ في إسناد الفساد لهم وقصره عليهم، وأنهم كاذبون على أنفسهم في دعوى الإصلاح وأنه لا يتعداهم أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ولكن المنافقين لا يدركون المحسوس فلا يشعرون بحالهم. وما كان المسلمون يقفون معهم موقف الإنكار فقط، بل كانوا يدعونهم كذلك إلى الإيمان بشتى الوسائل.
فإذا قالوا لهم: ادخلوا في الإيمان كما دخل فيه غيركم من الناس أجابوا متهكمين منكرين: أنؤمن بالقرآن والنبي، كما آمن به ضعفاء الناس من العبيد والفقراء وضعفاء العقل من الأميين والجهلاء؟! وجهلوا أن ضعيف العقل من يرى طريق الخير والنور أمامه فلا يسلكه، فانظروا يا أيها المنافقون من أى نوع أنتم؟ ألا إنكم أنتم السفهاء وحدكم ليس عندكم إدراك صحيح للإيمان فتعلموا مقداره!!
وروى أن أبا بكر وعمر وعليّا- رضى الله عنهم أجمعين- توجهوا إلى ابن أبىّ وأصحابه من اليهود فلما رآهم ابن أبى قال لأصحابه: انظروا كيف أراد هؤلاء السفهاء عنكم بمعسول القول، فلما حضروا أخذ يمدحهم الواحد بعد الآخر في الدين والسبق فيه ثم قال لأصحابه بعد أن انصرف الصحابة: كيف رأيتمونى؟ فأثنوا عليه خيرا فنزلت الآية.
وليست تكرارا مع ما سبق بل السابق بيان مذهبهم وما استكن في نفوسهم جميعا من النفاق، وفي هذه الآية بيان موقف بعض المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم مع المؤمنين ومع زعمائهم في اليهودية والفساد، الذين هم كالشياطين بل أشد، وإذا خلوا إلى بعضهم قالوا: إنا معكم، ولكنا نستهزئ بهم ونسخر بدينهم، فيرد الله عليهم زعمهم الباطل:
الله- سبحانه وتعالى- هو الذي يعبأ وسيجازيهم على فعلهم أيما جزاء، ويزيدهم في الطغيان والضلال حتى يصيروا مثلا في الوصول إلى أقصى درجات الحيرة والتخبط.
19
بعد هذا الوصف السابق أشار لهم بإشارة البعيد فقال: إن أولئك المنافقين بتركهم الطريق المستقيم والأدلة الظاهرة والواضحة على صحة هذا الدين- بتركهم هذا حسدا وبغيا- كأنهم دفعوا الهدى ثمنا للضلالة والخسارة في الدنيا والآخرة، وما ربحوا في هذا التجارة، وما أظهر خسارتهم في هذه الصفقة! وهكذا كان شأنهم دائما.
ضرب الأمثال لهم [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧ الى ٢٠]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
المفردات:
المثل: الصفة والقصة الغريبة، والمراد أن حالهم تناهت في الظهور والوضوح حتى أضحت كالمثل الذي لا ينكر. الصّيّب: المطر الكثير النازل. رَعْدٌ الرعد: هو صوت احتكاك الهواء. الْبَرْقُ: نور خاطف ينشأ من شرارة كهربائية: الصَّواعِقِ: جمع صاعقة، وهي: الرعد الشديد، وقيل: إنها من آثار الكهرباء في الجو ينشأ عنه احتراق بعض الأجسام.
20
المعنى:
المثل الأول: المنافقون قوم أظهروا الإسلام زمنا قليلا فأمنوا على أنفسهم وأولادهم وأخفوا وراءهم الكفر والفساد، ولكنهم لم يلبثوا على ذلك حتى أظهر الله الحق، وبدا الصبح لذي عينين فأضحوا بعد أمنهم خائفين وصاروا متخبطين في ظلمة النفاق والفضيحة والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، فحالهم هذه تشبه حال جماعة أوقدوا نارا لينتفعوا بها، فلما أوقدت النار وأبصروا ما حولهم زمنا يسيرا أطفأها الله وذهب بنورهم من أساسه وتركهم في ظلمة الليل وظلمة السحب المتراكمة وظلمة إطفاء النار فهم لا يبصرون.
ولا شك أن المنافقين صم عن الحق فلا يسمعون، وبكم فلا يتكلمون، وعمى عن الهدى فلا يبصرون. إذن فهم لا يرجعون أصلا عن حالهم فلا تأس عليهم ولا تحزن.
أردف الله المثل السابق بمثل آخر مستقل واضح ليظهر حالهم فلا تخفى على أبسط الناس فهما وإدراكا.
المعنى:
المثل الثاني: أنزل الله القرآن الكريم: وقد اعترى المنافقين شبهة واهية، وفي هذا القرآن وعد لمن آمن ووعيد لمن كفر، وفيه حجج بينات واضحات، وفيه آيات فاضحة لهم وكاشفة أستارهم كانت تنزل عليهم نزول الصاعقة أو أشد، وهم مع القرآن الكريم إذا نزلت آية فيها مغنم فرحوا وساروا مع المسلمين وإذا نزلت آية تطالبهم بالجهاد أو تكشف حالهم وقفوا وبهتوا.
فحالهم هذه تشبه حال قوم نزل عليهم مطر غزير من كل جانب، وكان يصاحبه صواعق تصم الآذان حتى أنهم يجعلون أنامل أصابعهم في آذانهم خوفا من الموت.
وأما برقه ونوره فكلما ظهر في الأفق فرحوا وساروا آمنين، وهم حريصون على ذلك، وإذا أظلم الأفق وانتهى البرق وقفوا حيارى مبهوتين.
والله محيط بهم قادر عليهم، ولو شاء لأذهب أسماعهم بقوة الرعد وأبصارهم بوميض البرق فهو القادر المختار.
21
روائع التشبيه: في هذا المثل العظيم عيون البلاغة، وقوة التعبير الذي يقف عنده كل بليغ وأديب.
فيه تشبيه القرآن بالمطر إذ المطر يحيى موات الأرض. والقرآن يحيى موات النفوس، ومع القرآن شبهة واهية لا أساس لها كالظلمات العارضة مع المطر.
وفيه وعد ووعيد كالرعد قوة وشدة، وفيه حجج وآيات كالبرق وضوحا وجلاء، وفيه آيات كاشفة فاضحة كالصواعق أو أشد خطرا.
والظاهر- والله أعلم- أن المثل الأول للمنافقين الخلص، والثاني للمترددين تارة يظهر لهم وميض الإيمان ونوره وتارة يخبو، وقيل: هما لصنف واحد.
وحدة الإله. إعجاز القرآن. صدق الرسول [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)
22
المفردات:
يا صوت يهتف به المنادى، ويكون لنداء البعيد أو الساهي أو الغافل لعظم المأمور به بعد النداء، والظاهر أنها استعملت هنا لهذا اعْبُدُوا رَبَّكُمُ: أطيعوه.
فِراشاً الفراش: ما يفرشه الإنسان، والمراد أنه مهدها للإقامة عليها. بِناءً:
مبنية محكمة. أَنْداداً: جمع ندّ وهو النظير. شُهَداءَكُمْ: جمع شهيد، وهو من يحضر معكم من الرؤساء، أو من يشهد لكم يوم القيامة.
المناسبة:
لما ذكر الله- سبحانه- القرآن وصفته، وبين أن الناس مع القرآن ثلاثة أنواع:
فمنهم المؤمن، والكافر، والمنافق، خاطبهم جميعا بوصف عام يأنسون به ليكون ذلك أدعى للامتثال ولما أثبت الوحدانية لله. ثنى ببيان إعجاز القرآن وفي ذلك إثبات صدق الرسول.
المعنى:
لقد أمر الله الناس بعبادته، والإقرار له بالربوبية والوحدانية، ونبذ الأصنام وما كانوا يعبدون، لأنه الرب الذي خلقهم، وخلق آباءهم من قبل فلا يليق بهم أن يتخذوا أندادا له.
ففي عبادتهم لله وحده تتحقق تقواهم التي يحبها الله لهم، إذ هو الذي جعل لهم الأرض ممهدة للإقامة عليها مع تحريكها ودورانها، وجعل السماء كالقبة تظلهم بالخير والبركة.
وهي كالبناء المحكم مع ما فيها من عوالم الأفلاك والأجرام لا يسقط منها جزء ولا يختل لها نظام، وأنزل من السماء ماء مباركا طيبا ينبت لنا به الكلأ والزرع.
ألست ترى معى أن الله وصف نفسه بما يدل على انفراده بالربوبية؟ فصفة الخلق والتكوين، والرزق، من الصفات المسلّم بأنها له وحده.
23
وإذا كان هذا شأن الرب- سبحانه- فاعبدوه، ولا تجعلوا له أندادا في العبادة، تعبدونهم وأنتم تعلمون أنه لا ندّ له يخلق شيئا مما ذكر، وها هي ذي مظاهر قدرته ودلائل وحدانيته تدل عليه.
وإن كنتم في شك من القرآن وأنه أنزل على عبدنا ورسولنا النبي الأمى محمد بن عبد الله فها هو ذا القرآن، فجدوا واجتهدوا واشحذوا عزائمكم، واجمعوا جموعكم، واستعينوا برؤسائكم وآلهتكم، وأتوا بسورة تماثله في البلاغة وسداد التشريع الصالح لكل زمان ومكان، والإخبار بالمغيبات إن كنتم صادقين في دعواكم أن القرآن من عند محمد وليس القرآن من عند الله، وكيف يعقل هذا؟ ومحمد بشر منكم أمى مثلكم لم يقرأ ولم يكتب، وأنتم مجتمعون وفيكم الشاعر والخطيب والبليغ والأديب، والقرآن كلام عربي من جنس ما تتكلمون به في خطبكم وأشعاركم بل كلامكم العادي، وقد تحداكم الله به وأنتم ومن يحضر معكم من جهابذة القول وأعلام البلاغة وفرسان البيان، فإن عجزتم- وأنتم لا شك عاجزون- فارجعوا إلى الحق وآمنوا بمحمد وبما أنزل عليه من القرآن، وفي ذلك وقاية لكم من النار التي وقودها الناس والحجارة التي أعدها الله للكافرين.
تحدى الله العرب أن يأتوا بسورة تماثله في البيان وقوة الأسلوب، ودقة التعبير وغير ذلك مما برع العرب فيه، أما النواحي السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية والقانونية فذلك شأن عال، ومنزلة رفيعة أثبتت الأيام أن القرآن فيه معجزة للعالم كله.
(بحث لعل) : أصل لعل للترجى، فإذا قلت لصديقك: لعلك تزورنى، كان المعنى أرجو وأطمع في زيارتك، وهنا لا تصح أن تكون كذلك لأن رجاء تقواهم لا يكون من القادر الذي في قبضته كل شيء وهو العليم الخبير.
ولكن لما خلق الله الخلق لعبادته وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «١» وقد أوضح لهم الطريقتين، وطلب منهم سلوك الطريق المستقيم مرارا كأنه في صورة الذي يرجو تقواهم وكأنها مرجوة له سبحانه... وهي تفيد كذلك التعليل.
(١) سورة الذاريات ٥٦.
24
من آمن بالقرآن وجزاؤهم [سورة البقرة (٢) : آية ٢٥]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)
المفردات:
مُتَشابِهاً: يشبه بعضه بعضا. الجنة: البستان، والمراد دار الخلود التي أعدت للمؤمنين.
المناسبة:
من عادة القرآن الكريم أنه إذا تعرض للكلام على من كفر وعصى أردف ذلك بالكلام على من آمن واتقى ليظهر الفرق جليا بينهما فيكون ذلك أدعى للامتثال.
المعنى:
بشّر يا محمد، أو: يا من تتأتى منه البشارة من العلماء والوعاظ، بشّر العاملين الذين آمنوا وعملوا صالحا أن لهم جنات فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيها أنهار جارية تحت الأشجار، فيها الثمار الشهية، كلما قدمت لهم ثمرة منها قالوا متعجبين: هذه الثمرة كالتي رأيناها في الدنيا، فإذا تذوقوها وأكلوها رأوا عجبا وأدركوا أنها تشبه ثمار الدنيا في الشكل والجنس فقط، أما في الذوق والطعم والحجم فهذا ما لم يروه أبدا، وأتوا به
متشابها ليأنسوا به ويقدموا على أكله لأن النفس للمألوف أميل، وفي الجنة حور مقصورات في الخيام، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، طاهرات مطهرات من كل دنس ورجس كالحيض والنفاس وشرور النفس والهوى، وهم في الجنة خالدون، ولا حرج على فضل الله، فهذا الكريم القادر أعده لعباده الصالحين، فتبارك الله أحسن الخالقين.
واعلم يا أخى أن نعيم الجنة غير محدود، وما أعد فيها فشيء تقصر العبارة عن وصفه، وإذا أراد بيان الحقيقة المادية عبر عنها بقوله: فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ.
الأمثال في القرآن وموقف الناس منها [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦ الى ٢٧]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)
المفردات:
لا يَسْتَحْيِي الاستحياء: تغير وانكسار يعترى الإنسان من خوف ما يعاب عليه فيؤدى إلى ترك الفعل، والمراد هنا أنه- سبحانه- لا يترك ضرب المثل.
26
مَثَلًا يطلق على المثل ومنه التمثيل، وعلى القول السائر، وعلى النعت والصفة التي بلغت مبلغ المثل في الغرابة والشيوع، البعوضة: الناموسة (ينقضون) النقض:
الفسخ وفك الترتيب، وأصل الاستعمال في الحبل، ثم استعمل في العهد لأنه يشبهه.
ميثاق ميثاق العهد: توكيده، المراد العهد المؤكد، وهو ما أوصاهم به في الكتب السابقة من الإيمان بمحمد إذا ظهر.
سبب النزول:
روى أنه لما ضرب الله الأمثال بالذباب والعنكبوت ضحكوا وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله
وفي رواية أنهم قالوا: ما يستحيى رب محمد أن يضرب مثلا بالذبابة والعنكبوت، فنزل قوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي مشاكلة لقولهم.
المعنى:
أن الله- سبحانه- لا يترك ضرب الأمثال بالبعوض أو أخس منه، فالمثل جعل لكشف المعنى وتوضيحه بما هو معروف مشاهد لا سبيل إلى إنكاره، فإن كان المضروب له المثل عظيما كالحق والإسلام ضرب مثله بالنور والضياء.
وإن كان ضعيفا حقيرا كالأصنام ضرب مثله بما يشبهه كالذباب والبعوض والعنكبوت، على أنه لا فرق عند الله بين البعوضة والجمل في الخلق والتقدير.
فأما المؤمنون، ففي قلوبهم نور يهديهم إلى التصديق بأن هذا كلام الله، وأما الكفار الجاحدون فهم في حيرة من أمرهم، وقصارى قولهم أن يقولوا متعجبين، ماذا يريد الله بهذا المثل؟ شأن المتخبط الذي لا يدرى. لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا؟ [سورة المدثر آية ٣١].
فأنت معى أن المثل ضل به كثير من الناس، واهتدى به كثير من الناس، ولا يضل به إلا الخارجون عن طاعة الله، الذين ينقضون ما عاهدوا الله عليه من الإيمان بمحمد
27
والتصديق به، خصوصا بعد ظهور الحجة على صدقة، وأنه مكتوب عندهم في التوراة، فهؤلاء يفرقون بين الأنبياء فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، وقد أمر الله بوصل الإيمان بجميع الأنبياء، ولكن هؤلاء همهم الإفساد بين الناس. والتضليل في العقائد إبقاء على رئاسة كذابة وزخرف زائل، هؤلاء لا شك قد خسروا دنياهم بافتضاحهم وتخبطهم، وخسروا آخرتهم بغضب الله عليهم، وأى خسران بعد هذا؟!!
مظاهرة قدرة الله [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
المفردات:
اسْتَوى إِلَى السَّماءِ: استواء يليق بجلاله لا يعلمه إلا هو بلا كيف ولا تمثيل، وقيل: قصد إلى السماء قصدا مستويا خاصا بها. فَسَوَّاهُنَّ: أتم خلقهن مستويات لا تشقق فيهن ولا عوج.
المعنى:
استتبع الحديث عن الكفار وموقفهم من القرآن وأمثاله أن يتعجب من حالهم التي تناهت في العجب فيقول ما معناه:
أى وجه لكم وأى سند لإنكاركم ربوبية الله؟! ولو خلّيتم وفطرتكم الصحيحة لعرفتم فيما بينكم وبين أنفسكم أن وجودكم هذا سببه فطرة الله، وأنه منّ عليكم بنعمة الوجود ووهب لكم عقلا، وكرمكم ولم يترككم هملا في الدنيا، بل جعل حدا لآجالكم، ثم إليه ترجعون ليجزي كلا منكم على ما قدمته يداه، ويحاسبكم على النعمة
التي أنعم بها عليكم. وعن ابن عباس قال: كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة ثانية، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ.
وها هي ذي الأرض بما فيها هو الذي خلقها ومكن لكم فيها، ففهمتم أسرارها ودقائقها حتى استخدمتم الذرة والأثير، وقد كان هذا كافيا لئلا تكفروا به، وهناك مظهر آخر من مظاهر القوة والعظمة اختص الله بمعرفة سره ودقائقه وهو هذه السموات السبع التي رفعها بقدرته، وعلم هو كنهها وحقيقتها، ومن ذا الذي يعلم المخلوق إلا خالقه؟! فمن الخير لنا ألا نفكر في السماء وطبيعتها، وكيف استوى إليها، بحثا يضيّع علينا روح الدين، بل نستشعر عظمة الخالق الذي رفع السماء وبسط الأرض!!
قصة خلق الإنسان وتكريمه بالخلافة وسجود الملائكة له [سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٠ الى ٣٤]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤)
29
المفردات:
لِلْمَلائِكَةِ الملائكة: خلق الله أعلم بهم، وقيل: هم أجسام نورانية لا يأكلون ولا يشربون، دأبهم الطاعة ليلا ونهارا. خَلِيفَةً الخليفة: من يخلفك ويقوم مقامك.
يَسْفِكُ الدِّماءَ: يريقها. نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أى: ننزهك عن كل نقص متلبسين بحمدك والثناء عليك. وَنُقَدِّسُ لَكَ: نعظمك. أَنْبِئُونِي: أخبرونى السجود: الخضوع والانقياد. إِبْلِيسَ: واحد من الجن، وقيل: أبوهم كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف ٥٠]، وقيل- من الملائكة لظاهر الآية والأحسن أن الله أعلم بهؤلاء جميعا أَبى امتنع.
القصة لون من ألوان الأدب العالي، وهي في القرآن الكريم لمعان سامية لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وهذه القصة فيها مدى تكريم الله لآدم وبنيه باختياره خليفة، وتعلمه ما لا تعلمه الملائكة، أفيليق منهم أن يقفوا من الله ورسله موقف الكفر والعناد؟ ومن هنا ندرك سر المناسبة بين الآيات، ولا تنس ما فيها من التسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث يرى موقف الملائكة الأطهار من الله- سبحانه وتعالى-.
المعنى:
واذكر يا محمد لقومك قصة خلق أبيهم آدم حيث قال الله للملائكة: إنى جاعل في الأرض خليفة يقوم بعمارتها وسكناها، ويقوم بعضهم بالزعامة والتوجيه وتنفيذ الأحكام حتى يعمر الكون، فقالت الملائكة: يا رب هذا الخليفة وبنوه تصدر أفعالهم عن إرادتهم واختيارهم، وهم لا يعلمون المصلحة الحقيقية لأن علمهم محدود، وقد خلقوا من طين فالمادة جزء منهم، ومن كان كذلك فهو إلى الخطأ أقرب فهو يفسد في الأرض.
وأنت يا رب تريد عمارتها فيا رب!! كيف تجعل فيها من يفسد فيها؟ [استفهام من لون التعليم لا الاعتراض] ونحن أولى لأن أعمالنا تسبيحك وتقديسك.
لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ فأجابهم المولى:
30
فهذا خلق فيه دواعي الخير والشر، فبالخير والشر تصلح الدنيا وتعمر، وبهذا تظهر حكمة إرسال الرسل.
وإن أردتم موضع السر فالله قد علم آدم أسماء الأشياء المادية التي بها تعمر الدنيا وتصلح إلى الأبد، ثم عرض هذه الأشياء على الملائكة، وقال لهم: أخبرونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين في دعوى أنكم أحق بالخلافة من غيركم. فوقفوا عاجزين، قالوا: يا رب لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم بكل شيء الحكيم في كل صنع.
فقال المولى- جل جلاله-: يا آدم أخبرهم بأسمائهم، فلما أخبرهم بالأسماء أدركوا السر في خلافة آدم وبنيه وأنهم لا يصلحون لعدم استعدادهم للاشتغال بالماديات، والدنيا لا تقوم إلا بها إذ هم خلقوا من النور وآدم خلق من الطين، فالمادة جزء منه. وهنا قال الله- سبحانه-: ألم أقل إنى أنا العالم بكل ما غاب وما حضر في السموات والأرض؟
وأعلم ما ظهر، وما تبدون وما تكتمون.
قصة ثانية تبين لنا مدى تكريم الله للإنسان حيث أمر الملائكة بالسجود له، وفي هذا تعظيم وأى تعظيم! واذكر يا محمد لقومك وقت أن قلنا للملائكة الأطهار: اسجدوا لآدم سجود تعظيم وإجلال لا سجود عبادة وتأليه كما يفعل الكفار مع أصنامهم، فسجد الملائكة جميعا وامتثلوا أمر الله إلا إبليس اللعين فإنه امتنع من السجود واستكبر قائلا: أأسجد له وأنا خير منه؟ خلقتني من نار وخلقته من طين، منعه حسده وغروره وتكبره من امتثال أمر ربه، ولعل هذا الإباء والاستكبار والتعالي والغرور الذي عند إبليس من صفات النار التي خلق منها، وهكذا قد خرج عن أمر ربه فاستحق اللعنة وكان من الكافرين.
يا ابن آدم! هكذا شرفك الله وكرمك وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ «١» بأن جعلك خليفة في الأرض، وعلمك ما لم تكن تعلم وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، وأمر الملائكة بالسجود لأبيك فسجدوا، أفيليق بك أن تقف موقفا لا يرضاه ربك؟ لا بل يجب أن تمتثل أمر ربك وأن تعصى الشيطان عدوك، وأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
(١) سورة الإسراء آية رقم ٧٠.
31
طبيعة الإنسان وموقف الشيطان منه [سورة البقرة (٢) : الآيات ٣٥ الى ٣٩]
وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)
المفردات:
رَغَداً: واسعا طيبا هنيئا. الشَّجَرَةَ قيل: هي الحنطة. فَأَزَلَّهُمَا:
فأوقعهما في المخالفة من الزلة، وهي: السقوط. اهْبِطُوا: انزلوا.
مُسْتَقَرٌّ: مكان استقرار. أَصْحابُ النَّارِ: الملازمون لها الذين لا يخرجون منها.
المعنى:
وتلك قصة أخرى لأبينا آدم الذي جعله الله خليفة في الأرض، كانت نهايتها أن أمره الله بأن يهبط إلى الأرض هو وزوجه وذريته، وإبليس ومن معه.
قال الله- جل جلاله- لآدم: اسكن أنت وزوجك الجنة، وتمتّعا بكل ما فيها، وكلا من ثمارها وزروعها وأشجارها ما تشتهون أكلا هنيئا مريئا، ولا تقربا هذه الشجرة أبدا!؟ إنكما إن أكلتما منها كنتما من الظالمين.
ولكن إبليس اللعين لا يمكن أن يتركهما، بل وسوس لهما وزين السوء قائلا:
ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ وأقسم لهما: إنى لكما لمن الناصحين.
وهنا تظهر غريزة الإنسان وضعفه أمام المغريات، وها هو ذا قد ضعف أمام إغراء الشيطان، فأزلهما وأوقعهما في المخالفة، وكان ظاهر الأمر أن قد عصى آدم ربه وغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى.
وهكذا كانت حكمة الله وكان أمره لأسرار لا يعلمها إلا هو لتعمر الدنيا، ولتتحقق الخلافة لله في الأرض حكم بأن يخرجا من الجنة، ويهبط الكل بعضهم لبعض عدو، ولهم جميعا في الأرض مستقر ومتاع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فإما يأتينكم منى هدى على لسان أنبيائى ورسلي: فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ولا خوف عليه أبدا، ومن يعرض عن ذكرى ويعص أمرى فله في الدنيا التعب والنصب وفي الآخرة العذاب والألم.
أما آدم أبو البشر فبعد أن أكل من الشجرة وظهرت غريزته وطبيعته وبدت له سوءته، وحاول سترها، وأدرك ما وقع فيه، وتلقى آدم من ربه كلمات: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ فتاب الله عليه وهدى. إنه هو التواب الرحيم.
بنو إسرائيل وما طلب منهم [سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٠ الى ٤٣]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
33
المفردات:
إِسْرائِيلَ: هو يعقوب- عليه السلام- ابن إسحاق بن إبراهيم الخليل- عليهم السلام- وبنوه وأولاده وهم اليهود. بِعَهْدِي عهد الله: ما عاهدهم عليه في التوراة من الإيمان بالله وبرسله وخاصة خاتم الأنبياء محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي يبعث من ولد إسماعيل. بِعَهْدِكُمْ: ما عاهدتكم عليه من الثواب على الإيمان والتمكين من بيت المقدس قديما، وسعة العيش في الدنيا. وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا: البيع والشراء قد يطلق كل منهما مكان الآخر، والمعنى: لا تبيعوا آياتي بثمن قليل.
تَلْبِسُوا: تخلطوا.
المناسبة:
من أول السورة إلى هنا يدور الكلام حول الكتاب واختلاف الناس فيه وضرب الأمثال للمنافقين، والأمر بعبادة الله، والدليل على أن القرآن من عنده، ثم الإنذار والبشارة، والحجج القائمة على الكافرين، ومظاهر قدرته، ثم الكلام على خلق الإنسان وتكريمه، ثم بعد هذا أخذ يخاطب المقيمين بالمدينة من أهل الكتاب وخاصة اليهود فهم أكثر من غيرهم ولهم في هذا المجتمع مكان، وكانت لهم مواقف مع النبي صلّى الله عليه وسلّم والكلام كله يدور حول القرآن وما فيه.
خاطب اليهود من هنا إلى قوله- تعالى-: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ تارة بالملاينة وتارة بالشدة وطورا بذكر النعم وآخر بذكر جرائمهم وقبائحهم... إلخ.
المعنى:
يا بنى العبد الصالح يعقوب، كونوا مثل أبيكم في اتباع الحق، واذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون، وظلل عليكم الغمام إلى آخر نعمه التي ستذكر بالتفصيل، وذكرها: القيام بشكره وامتثال أمره، وأوفوا بما عاهدتكم عليه من الإيمان بالله ورسله بلا تفريق ما دامت الحجة قائمة على صدقهم وخاصة محمد بن عبد الله أوف أنا بعهدي لكم فأعطيكم الجزاء العاجل في الدنيا والآجل في الآخرة، ولا يمنعكم من
34
هذا شيء، ولا ترهبوا أحدا سواي، فأنا أحق بالرهبة والخوف، وآمنوا إيمانا قلبيا صادقا بالقرآن وأنه من عند الله، فإنه أتى موافقا للتوراة التي معكم في الأصول العامة للدين، وفي التوراة وصف للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولا تكونوا يا أهل الكتاب أول الناس في الكفر به، فأنتم أحق بالإيمان لأن عندكم في التوراة دليل صدقه، ولا تبيعوا آيات الله الواضحة الدالة على صدق محمد فيما ادعى، ولا تبيعوها بثمن دنيوى قليل من رئاسة أو مال أو عادات قديمة، فإنه ثمن بخس وتجارة غير رابحة، ولا تخافوا أحدا سوى الله، ولا تخلطوا الحق الموجود في التوراة بالباطل الذي تخترعونه، ولا تكتموا وصف النبي وبشارته التي هي حق وأنتم تعلمون، وليس جزاء العالم يوم القيامة كالجاهل، ومن هنا نفهم أن التوراة التي أنزلت على موسى- عليه السلام- والتي كانت موجودة أيام النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم فيها حق وباطل، وأنهم غيروا فيها وبدلوا، وكانوا يعرفون هذا وذاك، وقد صدق الله أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ.
ثم أمرهم بأهم أركان الدين التي لا يختلف فيها دين عن آخر، وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والخضوع لله مع الخاضعين.
علماء اليهود وأحوالهم [سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٤ الى ٤٨]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)
35
المفردات:
بِالْبِرِّ: الطاعة والصدق والتوسع في الخير. بِالصَّبْرِ: حبس النفس على ما تكره، وقيل: هو الصوم. يَظُنُّونَ: يعتقدون. عَدْلٌ العدل: الفداء.
نزلت في علماء اليهود كانوا يأمرون غيرهم بالصدقة والثبات على الإسلام ويتركون أنفسهم.
المعنى:
إن تعجب فعجب من هؤلاء يأمرون غيرهم بالخير وينسون أنفسهم فهم كالمصباح يضيء للناس ويحرق نفسه، كيف يليق بكم يا أهل الكتاب أن تأمروا الناس بالبر، وهو جماع الخير، ولا تأتمرون به! والحال أنكم تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه من عقوبة من يقصر في أمر الله!! ولا شك أن من هذا وصفه فهو بغير العقلاء أشبه، آمنوا واستعينوا على أنفسكم الأمارة بالسوء وشياطينكم بالصبر والصلاة فإنهما جلاء القلوب والأرواح، وإنما أمرنا بالصبر لأنه احتمال المشاق من تكاليف وابتلاء مع الرضا والتسليم، ولا شك أن مثلهم في أشد الحاجة إليه، والصلاة أقرب إلى حصول المرجو منهم لما لها من التأثير في الروح، ولكنها شاقة على النفس الأمارة بالسوء: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الذين عمرت قلوبهم بالإيمان فخفت جوارحهم إلى الصلاة بنشاط، واطمئنان، ومن هنا ندرك معنى
الحديث: «جعلت قرّة عيني في الصّلاة»
فالخاشعون: هم الذين يعتقدون أن وراءهم يوما يلاقون فيه ربهم فيحاسبون على أعمالهم. وأنهم إلى الله وحده راجعون، فمكافأون عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وهل الصلاة التي أمر بها اليهود هنا هي الصلاة الإسلامية أم هي صلاتهم؟
الأصح أنها الصلاة الإسلامية بناء على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة ومكلفون بها، وهذه الصفات التي ذكرت ككونها كبيرة إلا على الخاشعين يؤيد ذلك.
ثم كرر نداء بني إسرائيل ذاكرا لهم ما منّ على آبائهم وعليهم من النعم، وأنه فضلهم على غيرهم إذ جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكا وفضلهم على العالمين في زمانهم، يا بنى إسرائيل: اتقوا يوما لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا، فليس الأمر كما تفهمون أن هناك شفعاء يشفعون إذ لا تقبل هناك شفاعة من شافع، ولا يؤخذ من نفس فداء ولا هم ينصرون.
36
وإذا كان الأمر كذلك فعلى أى أساس تنسون أنفسكم ولا تعملون لهذا اليوم وأنتم أهل كتاب فيه يوم الجزاء ووصفه؟!
نعم الله على اليهود [سورة البقرة (٢) : الآيات ٤٩ الى ٦٠]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)
37
المفردات:
يَسُومُونَكُمْ سامه العذاب: أذاقه. سُوءَ الْعَذابِ: العذاب السيئ الشديد. يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ: يبقون نساءكم على الحياة فلا يقتلون. بَلاءٌ اختيار فَرَقْنا أى: فلقنا، والمراد: جعلنا فيه جسرا تعبرون عليه. الْفُرْقانَ:
التوراة الفارقة بين الحق والباطل. فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: ليقتل البريء منكم المجرم.
جَهْرَةً: عيانا واضحا منكشفا. الصَّاعِقَةُ: الصيحة، أو نار من السماء.
بَعَثْناكُمْ: أحييناكم وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ أى: جعلنا الغمام يستركم كالمظلة، والغمام: السحاب الرقيق. الْمَنَّ: شيء حلو كالعسل. السَّلْوى: نوع من الطير. هذِهِ الْقَرْيَةَ: هي بيت المقدس، أو بلد قريب منه. سُجَّداً:
ساجدين بالانحاء، والمراد متواضعين متذللين لله. حِطَّةٌ أى: سؤالنا أن تحط عنا ذنوبنا، والمراد اسألوا الله المغفرة. رِجْزاً: عذابا من السماء. الْحَجَرَ:
حجر الله أعلم به ومن أين أتى لموسى. فَانْفَجَرَتْ: انشقت وسالت.
الناس: جماعة منهم وكانوا اثنى عشر سبطا.
38
المناسبة:
بعد ما ذكّر اليهود بالنعم عليهم جملة في قوله: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أخذ يقصها عليهم مفصلة وعددها عشر.
المعنى:
اذكروا أيها اليهود المعاصرون النعم التي أنعم الله بها على آبائكم، وهي نعم عليكم أيضا بالتبع، اذكروها حتى تقوموا بشكرها وتلجأوا لبارئها.
١- فقد نجى الله آباءكم من فرعون وآله فإنه كان يذيقكم العذاب الشديد، يذبح أبناءكم الذكور ويترك بناتكم يحيون، فقد ورد أن فرعون رأى نارا أطلقت من بيت المقدس وأحاطت بمصر، وانزعج من هذه الرؤيا، وفسرت له بأنه سيخرج ولد من بنى إسرائيل يذهب ملكك على يديه فأخذ يقتل الذكور ويترك النساء، ومع هذا فقد نجى الله بنى إسرائيل من هذا العذاب المبين، وفي النجاة من الهلاك أو الهلاك اختبار من الله حتى يظهر شكر الناجي وصبر الهالك.
٢- واذكروا إذ جعلنا لكم في البحر طريقا يبسا سلكتموه حتى عبرتم سالمين وقد ترك فرعون وجنوده يغرقون وأنتم تنظرون إليهم.
وروى أنهم كانوا بلا كتاب يحتكمون إليه
، وقد وعد الله موسى أن ينزل عليه التوراة بعد أربعين يوما (ذو القعدة وعشر من ذي الحجة).
وأمر موسى أن يذهب إلى جبل النور فيصوم الأربعين يوما، فذهب واستخلف هارون عليهم وأنزلت التوراة في الألواح، ولكن في هذه المدة اتخذتم العجل الذي صنعه لكم السامري (رجل كان منافقا فيهم) اتخذتموه إلها فعبدتموه، وظلمتم أنفسكم بهذا العمل الذي لا يليق.
٣- ثم عفا الله عنكم وقبل توبتكم كي تشكروا الله أيها اليهود المعاصرون، وشكره باتباع رسله والإيمان بكتبه ما دامت الحجة قائمة على صدقهم وخاصة محمد صلّى الله عليه وسلّم.
٤- واذكروا وقت أن آتينا موسى الكتاب والتوراة الفارقة بين الحق والباطل والحلال والحرام رجاء أن تهتدوا بها وتسيروا عليها.
39
٥- واذكروا وقت قول موسى لقومه الذين عبدوا العجل في مدة صومه وغيابه وهي أربعون يوما:
يا قوم إنكم باتخاذكم العجل إلها ظلمتم أنفسكم وأى ظلم بعد الإشراك بالله؟ فتوبوا إلى الله وارجعوا ذلكم خير لكم وأحسن عند بارئكم.
وكانت التوبة في شريعتهم أن يقتل البريء منهم المذنب.
وقد أرسل الله- سبحانه- سوداء حتى لا يرى بعضهم بعضا عند القتل فيرحمه وقد قتل منهم سبعون ألفا، وبعد ذلك تضرع موسى وهارون إلى الله فتاب عليكم إذ قبل توبة من قتل ومن لم يقتل، ولا غرابة في ذلك فالله هو التواب الرحيم بعباده.
واذكروا وقت أن قال آباؤكم لموسى: لن نؤمن بالله وأنك رسوله حتى نرى الله عيانا بلا حاجز، فأخذهم ربكم بعذابه فماتوا ومكثوا يوما وليلة والحي ينظر إلى الميت.
٦- ثم أحييناهم ليستوفوا آجالهم المقدرة لهم، كل ذلك لكي تشكروا- أيها اليهود المعاصرون- الله على ما أنعم به، وتعتبروا وتعتقدوا أن الله قادر على كل شيء، وشكر الله المطلوب منكم هو الإيمان بالله وكتبه وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي أخبر عن هذا كله.
٧-
روى أن موسى كلف من الله بأن يرحل ببني إسرائيل لقتال قوم جبارين فخرج معهم فلما وصلوا إلى وادي التيه بين الشام ومصر ومكثوا فيه أربعين سنة حيارى تائهين فكان الله يظلهم بسحاب رقيق يقيهم حر الشمس.
٨- وكان ينزل عليهم الطعام مكونا من حلوى وطير مطهوّ وكان طعاما يقيهم غائلة الجوع، ولا علينا بعد ذلك بحث في أنه من أى نوع أو على أى شكل، ثم قيل لهم:
كلوا من هذه الطيبات ولا تدخروا شيئا منها، واشكروا الله، فلم يفعلوا شيئا مما أمروا به، وعصيانهم وكفرهم بهذه النعم لا يضيرنا، وما ظلمونا به ولكنهم ضروا أنفسهم حيث قطع الله عنهم هذه النعم وجزاهم على مخالفتهم، أنهم كانوا لأنفسهم ظالمين.
٩- واذكروا- أيضا- إذ قلنا لآبائكم: ادخلوا القرية المعلومة لكم فاسكنوا فيها وكلوا واشربوا أكلا واسعا لا حرج فيه وادخلوا الباب خاضعين مبتهلين إلى الله وحده وقولوا: يا ربنا دعاؤنا أن تحط عنا ذنوبنا وتغفر لنا سيئاتنا وسنزيد المحسنين منكم أكثر من هذا.
40
أما الذين بدلوا ما أمرناهم به، وما امتثلوا أمر الله، بل قالوا حبة في شعرة، أى:
حنطة في زكائب من شعر، ودخلوا زاحفين على أستاههم غير خاضعين لله فإن جزاءهم أن الله أنزل عليهم عذابا شديدا من السماء وذلك بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله (قيل: هلك منهم سبعون ألفا).
١٠- واذكروا يا بنى إسرائيل وقت أن طلب موسى- عليه السلام- السقيا لآبائكم وقت أن عطشوا في التيه واحتاجوا للماء فقال الله: يا موسى اضرب بعصاك الحجر المعهود فانفجر منه بأمر الله العيون، لكل جماعة منهم عين يشربون منها، وقيل لهم: كلوا واشربوا من عطاء الله ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون.
بعض قبائح اليهود وما لحقهم [سورة البقرة (٢) : الآيات ٦١ الى ٦٢]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)
41
المفردات:
البقل: كل ما اخضرت به الأرض من البقول والخضروات. القثّاء:
هو الخيار. فُومِها: حنطتها أو ثومها. أَدْنى أى: أقل مرتبة، مِصْراً: بلدا عظيما، والمراد في الآية أى بلد زراعي الذِّلَّةُ أى: الذل.
الْمَسْكَنَةُ: الفقر والحاجة. الَّذِينَ هادُوا: تهودوا، من هاد: إذا دخل في اليهودية، وهم اليهود. النَّصارى: أتباع عيسى. الصَّابِئِينَ: من خرج عن دينه مطلقا، وقيل: قوم عبدوا الملائكة.
المعنى:
خاطب الله اليهود المعاصرين مع أن الجناية من آبائهم لأنهم أبناؤهم وهم يعتزون بنسبتهم إليهم ولا ينكرون عليهم أفعالهم، ولا تنس مبدأ تكافل الأمة الواحدة.
واذكروا- أيها اليهود المعاصرون- إذ قال آباؤكم: يا موسى لا يمكننا أن نستمر على طعام واحد مثل المن والسلوى.
فاطلب لنا من ربك آن يطعمنا مما تنبت الأرض من خضروات وبقول كالحنطة والعدس والبصل والقثاء، فقال موسى تعجبا واستنكارا: أتستبدلون هذا الطعام بالمن والسلوى وهما خير وأهنأ؟ وإذا طلبتم الأقل نفعا وخيرا عوضا عما هو خير لكم فاهبطوا أى بلد زراعي فإن لكم فيه ما طلبتم.
وبما جنوا من كفر وقتل للأنبياء بغير حق كما قتلوا زكريا ويحيى وغيرهم لهذا جعلت الذلة والمسكنة محيطة بهم مضروبة عليهم، كما تضرب الخيمة على من فيها، ورجعوا بالخسران والبعد من رحمة الله وهذا بسبب عصيانهم لأوامر ربهم عصيانا متكررا واعتدائهم على الناس ومنهم الأنبياء، فقد قتلوهم معتقدين أن قتلهم بغير حق!! ضربت عليهم الذلة والمسكنة: هما الذل والفقر والحاجة، ولا شك أنهم كذلك وإن كانوا ذوى مال، فاليهود قد ورثوا صفات الذل وضعف النفس وامتهانها بل وبيع الشرف لأجل المال فهم في فقر دائم وذل مستمر، ما داموا يعبدون المادة ويتألّهون المال.
المال.
إنى أعلم ما لا تعلمون إنى أعلم كيف تصلح الأرض وكيف تعمر ومن أصلح لعمارتها؟
42
ولقد فهم بعض العلماء قديما أن هذه الآية تشير إلى أنهم لا تقوم لهم دولة أبدا، ونحن معهم في هذا إذ قيام دولة كهذه يوما أو يومين لا يهدم رأيهم، فقديما استولى الصليبيون على بيت المقدس ردحا من الزمن، ثم علت كلمة الله ورفعت راية الإسلام، وقريبا بأمر الله ترفع راية الإسلام.
وقيام دولتهم هذه بمثابة تنبيه شديد من الله لنا علّنا نتعظ ونثوب إلى رشدنا وديننا إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ «١» فارجعوا إلى رشدكم حتى لا تضرب عليكم الذلة والمسكنة بكل معانيها القريبة والبعيدة.
وبعد أن ذكّرهم بما فعلوا قديما، وبيّن عاقبة أمرهم بأوضح بيان ليعتبر المعاصرون ويتعظوا، أتى بقانون عام شامل لا يفرق بين أحد فقال ما معناه:
كل من آمن يا لله واليوم الآخر إيمانا قلبيا وعمل صالحا فله من الله الأجر والمثوبة، وأنه لا يخاف أبدا ولا يحزن في الدنيا والآخرة، سواء كان من الذين آمنوا أو من اليهود أو النصارى أو من الذين رجعوا عن دينهم مطلقا قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ «٢». وهذا أروع مثل لمبدأ المساواة في الإسلام.
من جنايات اليهود [سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٣ الى ٦٦]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)
(١) سورة الرعد آية رقم ١١.
(٢) سورة الأنفال آية رقم ٣٨.
43
المفردات:
مِيثاقَكُمْ الميثاق: العهد المؤكد. الطُّورَ: جبل معروف بطور سينا.
بِقُوَّةٍ: بجد ونشاط. تَوَلَّيْتُمْ: أعرضتم السَّبْتِ: اليوم المعروف.
خاسِئِينَ: بعيدين عن رحمة الله. نَكالًا: عبرة تنكل من اعتبر بها، أى:
تمنعه.
المعنى:
واذكروا وقت أن أخذنا العهد المؤكد على آبائكم بأن يؤمنوا بما في التوراة ولم يقبلوا حتى رفعنا فوقهم الطور إرهابا وتخويفا، وأمرناهم أن يقبلوا ما آتيناهم ويأخذوه بجد ونشاط لأن فيه الخير لهم، وليذكروا ما فيه ويعملوا به كي يكونوا من المتقين.
فقبلوه إلى حين ثم أعرضوا من بعد ذلك عنه!! فلولا رحمة الله بهم وقبوله توبتهم لكانوا من الخاسرين المعتدين.
وبالله لقد علمتم شأن الذين اعتدوا من آبائكم بصيد السمك يوم السبت وكان محرما فيه لقصره على العبادة، وقد ابتلاهم الله بأن كانت حيتانهم تأتيهم يوم سبتهم ظاهرة قريبة من الساحل، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، كذلك نبلوهم، وكان جزاؤهم على ارتكاب خطيئة الصيد يوم السبت وانشغالهم به عن العبادة أن حكم الله عليهم أن يكونوا كالقردة مبعدين عن رحمة الله والناس لأنهم نزلوا إلى مرتبة الحيوان، وهكذا كل فاسق خارج عن طاعة الله، وقيل: إن الله حكم عليهم بأن يكونوا في صورة القردة بعيدين عن رحمة الله، فجعل الله عقوبتهم هذه عبرة لمن لمن شاهدها ولمن يأتى بعدهم إذ نكل بهم تنكيلا يتناسب مع جرمهم، وجعلها عظة للمتقين لأنهم لا يتعدون حدود الله، فأولى بكم- أيها اليهود المعاصرون- أن تعتبروا وتتعظوا بما حل بأسلافهم.
44
قصة ذبح البقرة [سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٧ الى ٧٣]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣)
المفردات:
لا فارِضٌ الفارض: المسنّة. وَلا بِكْرٌ البكر: الصغير. عَوانٌ:
نصف بين الصغيرة والكبيرة. فاقِعٌ لَوْنُها يقال: أصفر فاقع، أى: شديد
45
الصفرة. لا ذَلُولٌ: ليست مذللة بالعمل. تُثِيرُ الْأَرْضَ: تنشر الغبار وتهيجه، والمراد: تحرث الأرض. مُسَلَّمَةٌ: سليمة من العيوب. لا شِيَةَ فِيها: لا لون غير لونها. فَادَّارَأْتُمْ: تدارأتم بمعنى: تخاصمتم وتدافعتم.
سبب النزول:
كان في بنى إسرائيل شيخ موسر وله ابن فقتله أبناء عمه ليرثوا أباه، ثم جاءوا يطالبون بديته ودمه، وتخاصموا في ذلك، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة. ويضربوا القتيل ببعض أجزائها فيحيا ثم يخبر عن القاتل، وقد ذبحت البقرة وضربوا القتيل فأحياه الله وأخبر عن القتلة وكانوا أبناء عمه. أفرأيتم ما تفعل اليهود قديما وحديثا؟!
المعنى:
واذكروا وقت قول موسى لقومه الذين هم أسلافكم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة- أى بقرة كانت- فلم يسرعوا إلى الامتثال، ولكن شدّدوا فشدد الله عليهم، وقالوا: أتهزأ بنا يا موسى؟ قال: معاذ الله أن أكون من الذين يهزئون في موضع الجد، فلما رأوه جادّا قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما سنها؟ فقال لهم. إنها بقرة ليست صغيرة ولا كبيرة، بل وسط بين هذا وذاك فافعلوا ما تؤمرون به، ولا تشددوا فيشدد الله عليكم، ولكنهم اليهود قالوا: ادع لنا ما لونها: إنها صفراء شديدة الصفرة تجلب السرور لمن يشاهدها، فلم يكتفوا بذلك، بل طالبوا بأوصاف تميزها أكثر، ولكنهم أحسوا بأنهم تشددوا وجاوزوا الحد المعقول فقالوا معتذرين: إن البقر كثير متشابه علينا، وهذه الأوصاف السابقة تنطبق على كثير، وإنا إن شاء الله لمهتدون إلى المطلوب.
فأجابهم الله أن البقرة المطلوبة لم يسبق لها عمل في حرث الأرض ولا سقيها، سليمة من العيوب ليس فيها لون مخالف، قالوا: الآن جئت بالبيان الواضح فطلبوها فلم يجدوها إلا عند يتيم صغير بارّ بأمه، فساوموه، فاشتط حتى اشتروها بملء جلدها ذهبا، وما كان امتثالهم قريب الحصول.
واذكروا إذ قتلتم- والخطاب لليهود المعاصرين، لأنهم أبناء السابقين ومعتزون بنسبهم وراضون عن فعلهم- واذكروا وقت قتل آبائكم نفسا حرم الله قتلها، ثم تخاصموا وتجادلوا وأنكروا على الله فعلهم كما ينكرون اليوم ما عندهم من أوصاف النبي صلّى الله عليه وسلّم والله مظهر ما تكتمونه.
46
فقلنا: اضربوه ببعضها فضربوه فأحياه الله وأخبر عن القتلة كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
يوم القيامة فيأخذ كلّ جزاء عمله، وكذلك يريكم الله آياته الواضحة الدالة على صدق القرآن والنبي حيث يخبر بالمغيبات كي تعقلوا فتؤمنوا بالنبي وتصدقوا بالقرآن.
يريد الله أن يسجل عليهم ذنبين:
الأول: وقوفهم موقف المستهزئ المعاند المجادل المتشدد المنكر الحق الصريح، وجزاءه على كل هذا لعلهم يتعظون.
الثاني: قتل النفس البريئة والإنكار، وإنما أخره لأن الأول ديدنهم وطبيعتهم التي لا يتخلفون عنها.
وفي القصة عبرة للمتشددين وتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتسجيل على اليهود بعض قبائحهم وخاصة قلبهم للحقائق.
قسوة قلوبهم واستبعاد الإيمان منهم [سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٤ الى ٧٨]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨)
47
المفردات:
يَتَفَجَّرُ: يخرج بكثرة. يَشَّقَّقُ: ينفتح شقوقا بالطول أو العرض.
خَشْيَةِ اللَّهِ: انقيادا لله وحده. يُحَرِّفُونَهُ: يغيرونه. عَقَلُوهُ: فهموه وعرفوه. لِيُحَاجُّوكُمْ: ليجادلوكم ويخاصموكم. أُمِّيُّونَ: عوام أَمانِيَّ: أكاذيب لا تستند إلى دليل عقلي أو نقلي.
المعنى:
من بعد ذكر ما يلين القلوب الجامدة من المواعظ والآيات والحجج البينات قست قلوبكم قسوة قاسية، فهي كالحجارة أو أشد قسوة منها، إذ قلوبكم لم تتأثر بالآيات، فكأنها خرجت عن دائرة الحيوان إلى دائرة الجماد، بل نزلت عن درجة الجماد أيضا، فها هي ذي الحجارة تتأثر بالماء تارة فيتفجر منها بكثرة فيتكون النهر، وتارة تتشقق شقوقا يخرج منها الماء ولو بسيطا، والحجارة قد تأثرت بالمؤثرات الخارجية فتسقط منقادة لله وحده، وقلوبكم لم تتأثر بالمؤثرات والمواعظ فكانت أقسى من الحجارة، بل أشد قسوة منها، وما الله بغافل أبدا سيجازيكم عليه أوفى جزاء، وانظر إلى قوله تعالى:
ثُمَّ قَسَتْ فإن لفظ ثم في الأساليب العربية يفيد الترتيب ولكن مع التراخي والتباعد بين ما قبلها وما بعدها فكأن قسوة قلوب هؤلاء مرتبة أوغلت في البعد عن الوضع السليم.
هذا خطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وسط الخطاب الموجه إلى اليهود إذ الكلام كله في بيان سوءاتهم.
48
أنسيتم أفعالهم وأعمالهم فتطمعون أن يؤمن لكم هؤلاء اليهود؟ كان منهم جماعة يسمعون كلام الله ثم يغيرونه ويبدلونه حسب هواهم، وهم يعلمون أن هذا العمل يتنافى مع الحقيقة، فكيف تطمعون إذن في إيمان من له سابقة في الضلال؟.
ونقيصة أخرى من نقائصهم وهي أن منافقيهم إذا تقابلوا مع المؤمنين قالوا: نحن مؤمنون بالله والنبي إذ هو المبشر به عندنا فنحن معكم، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: كيف تحدثون أتباع محمد بما أنزل الله عليكم في التوراة؟ كيف تفعلون هذا وهم يأخذون كلامكم حجة عليكم فيخاصموكم عند ربكم يوم القيامة؟ أتذيعون أسراركم التي تضركم أفلا تعقلون أن هذا خطأ وضرر؟ فيرد الله عليهم: أيحسبون أن هذا سر لا يطلع عليه أحد؟ ولا يعلمون أن الله- سبحانه وتعالى- يعلم السر وأخفى، ويعلم الغيب والشهادة، فسواء قلتم أم لم تقولوا فإنه يعلم ما تضمرون وما تعلنون وسيجازيكم على ذلك كله.
هذا شأن من عرف الكتاب منهم وهو علماؤهم وأحبارهم، وأما الأميون منهم فإنهم لا يعرفون عن دينهم إلا أكاذيب سمعوها ولم يعقلوها «أنهم شعب الله المختار، وأن الأنبياء منهم فيشفعون لهم، وأن النار لا تمسهم إلا أياما قليلة» وما هم في كل ذلك إلا واهمون.
والمعنى: لا تطمع يا محمد في إيمانهم ولا تأس على أمثالهم، فإن من كان كذلك فلا خير فيه، ولا أسف عليه.
كذب أخبار اليهود وافتراؤهم على الله [سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)
49
المفردات:
وَيْلٌ الويل: العذاب الشديد والهلاك. سَيِّئَةً السيئة: الكفر والشرك والنفاق أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الخطيئة: الكبيرة من الذنوب، والمراد بالإحاطة أنه لم يبق فيه جانب من قلب أو لسان أو جارحة إلا اشتملت عليه في تحصيلها.
المعنى:
العذاب الشديد لهؤلاء الذين ينسخون التوراة بأيديهم فيغيرون فيها ما يشاءون أو شاءت لهم أهواؤهم!!
روى أن أوصاف النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت مكتوبة عندهم في التوراة فغيروها وكتبوا بدلها، فإذا سئلوا من العوام عن وصفه ذكروا ما كتبوه هم فيكذب العوام النبي صلّى الله عليه وسلّم ومع هذا تبلغ بهم الجرأة والقحة إلى أن ينسبوا مفترياتهم إلى الله- سبحانه- ليأخذوا بهذا الكذب الشائن ثمنا دنيويا تافها من مال أو رئاسة أو جاه فويل لهم مما كسبوه!!
ومن سوءاتهم الشنيعة التي اقترفوها أنهم يدعون أن النار لا تمسهم إلا في أيام قليلة معدودة هي أربعون يوما مدة عبادتهم العجل، هذه دعوى فما دليلها؟ ولأى شيء لا تصيبكم النار مهما فعلتم؟ أأخذتم على الله عهدا بذلك؟ وإن كان هناك عهد فلن يخلف الله عهده!! لا: لم تأخذوا عهدا بل تقولون على الله ما لا علم لكم به، والذي دفعكم إلى هذا غروركم ومركب النقص فيكم.
بلى- أيها اليهود- ستخلدون في النار حسب ما جنيتم من المعاصي كالكفر وقتل الأنبياء بغير حق وعصيان الله ومخالفة أمره، وكيف لا يكون ذلك؟ وقد سن الله قانونا عاما شاملا لكل الخلائق من لدن آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو:
50
من اجترح سيئة أو اقترف خطيئة اقترافا اشترك فيه قلبه ولسانه وجوارحه حتى كأن الخطيئة سور حوله فأولئك البعيدون في الضلال أصحاب النار الملازمون لها هم فيها خالدون، ومنهم أنتم بل أنتم أولى من غيركم بالعذاب.
ومن آمن وعمل صالحا من كل جنس ولون فأولئك الذين مس الدين شغاف قلوبهم وهم أصحاب الجنة هم فيها خالدون، وهذا وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين ليظهر الفرق جليا.
ميثاق بنى إسرائيل [سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٣ الى ٨٦]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)
51
المفردات:
مِيثاقَ الميثاق: العهد المؤكد الذي أخذ عليهم في التوراة. إِحْساناً:
تحسنون إلى الوالدين إحسانا. ذِي الْقُرْبى: صاحب القربى من جهة الرحم أو العصب. تَوَلَّيْتُمْ: أعرضتم. تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ: تقتلون الأنفس بغير حق. تَظاهَرُونَ: تتعاونون. بِالْإِثْمِ: الذنب. الْعُدْوانِ:
الاعتداء. أُسارى: أسرى خِزْيٌ: ذل وهوان. اشْتَرَوُا:
استبدلوا.
المعنى:
يبين الله- سبحانه- مدى مخالفة اليهود للتوراة وأنهم كاذبون كذبا صريحا في ادعائهم أنهم مؤمنون بها، إذ قد أخذ الله عليهم فيها العهود المؤكدة أنهم لا يعبدون إلا الله- سبحانه- وأنهم يحسنون إلى الوالدين إحسانا كاملا، وأمروا بالعطف على الأقارب واليتامى والمساكين كل بما يناسبه ويقدر عليه من غير تعب ولا مشقة، وأمروا بالقول الحسن الذي لا إثم فيه ولا شر، وأن يؤدوا صلاتهم مقومة تامة وزكاتهم كاملة، ولكنهم أعرضوا عن هذا كله مع أن هذه الأوامر تكفل سعادة المجتمع وحياته حياة هادئة هنيئة، ولكنهم اليهود جبلوا على لؤم الطبع وحب المادة، فلن نرى منهم إحسانا ولا عطفا ولا خيرا، اللهم إلا نفر قليل منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه، وإذا كان هذا شأنهم مع كتابهم فلا تأس عليهم يا محمد ولا تحزن.
ميثاق آخر لهم بشأن حقوق الغير خاصة الأقارب والمواطنين، ومن هذا حالهم فهل يكون لهم إلا الخزي والعار؟ ولا أمل فيهم أصل!!
52
واذكر يا محمد لهم وقت أن أخذنا عليهم في التوراة العهود المؤكدة بألا يقتل بعضهم بعضا، ولا يسفك دمه بغير حق شرعي، ولا يخرج بعضهم بعضا من دياره ووطنه.
وفي تعبير القرآن الكريم بقوله: لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ (الآية) إشارة إلى أن دم كل فرد من أفراد الأمة كأنه دم الآخر بعينه، حتى إذا سفكه كان كأنه قتل نفسا أو انتحر بيده مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ (الآية:
٣٢ من سورة المائدة). ثم أقررتم أيها اليهود المعاصرون بالميثاق الذي أخذ على آبائكم واعترفتم به واعتقدتموه بقلوبكم ولم تنكروه بلسانكم فالحجة قائمة عليكم.
ثم بعد أن سجل الله عليهم اعترافهم بالميثاق واعتقادهم له استبعد منهم أن يأتوا بما يخالفه بأن يقتل بعضهم بعضا، ويخرج بعضهم بعضا من ديارهم مع أنهم إخوانهم في الدين واللغة والنسب متعاونين مع الغير بالذنب والعدوان ومعصية الرسول، وأن أخذوا أسرى حرب تنقذونهم بالمال، والإخراج والقتل محرم عليكم في التوراة فكيف تفعلونه؟ وبأى حق تؤمنون ببعض الكتاب وتمتثلون لآية مفاداة الأسرى وتكفرون بالآيات الناطقة بتحريم القتل والإخراج والتعاون بالإثم والاعتداء فتفعلون ذلك.
وإذا حصل منكم أنكم آمنتم ببعض التوراة وكفرتم بالبعض الآخر فليس لكم جزاء على هذا الفعل الشنيع إلا ذل وهوان في الدنيا وعذاب أليم دائم في الآخرة، وما الله بغافل عن أعمالكم أبدا، بل سيجازيكم عليها حتما.
أولئك اليهود الذين يفعلون هذا آثروا الحياة الدنيا كالرياسة الكاذبة والمال على الآخرة وما فيها من نعيم مقيم للمؤمنين، فهم باعوا آخرتهم بدنياهم وبئس ما باعوا وهم لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون في الدنيا والآخرة.
وهكذا كل أمة لها دين تؤدى بعض أحكامه كالصلاة والصوم والحج ولا تؤدى بعض أحكامه الأخرى كما إذا شاع فيها الربا والزنى والرشوة والسرقة ولم تتعاون على الخير ولم تؤد الزكاة، وبخل أغنياؤها على فقرائها... إلخ!! وأخوف ما أخاف أن يطبق علينا هذا الوعيد.
وقد كان يهود المدينة شعبين: بنو قريظة والنضير، فحالفت قريظة الأوس وحالفت النضير الخزرج فكان كل فريق يقاتل الآخر مع حلفائه، ويخرب ديارهم ويخرجهم منها، فإذا أسروا فدوهم، وإذا سئلوا في ذلك يقولون أمرنا بالفداء في التوراة (آمنوا
53
بهذه الآية) ولم تقتلونهم أليس محرما عليكم هذا؟ قالوا: نعم ولكنا نستحي أن تذل حلفاؤنا.
مواقفهم من الرسل والكتب [سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٧ الى ٩١]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)
54
المفردات:
وَقَفَّيْنا: أتبعناهم رسولا إثر رسول. الْبَيِّناتِ: المعجزات الواضحة كإحياء الموتى وإبراء الأكمه. بِرُوحِ الْقُدُسِ: - جبريل عليه السلام-.
غُلْفٌ: مغشاة بأغلفة كالغطاء، والمراد: لا تعى. لَعَنَهُمُ اللَّهُ: أبعدهم عن رحمته وطردهم. يَسْتَفْتِحُونَ: يطلبون الفتح ويستنصرون به. اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ: باعوها، وكل من ترك شيئا وأخذ غيره فقد اشتراه. فَباؤُ:
رجعوا. بِغَضَبٍ الغضب: أشد من اللعن.
المعنى:
تلك جناية أخرى سيقت مقسم عليها من الله لأهمّيّتها:
والله لقد آتينا موسى التوراة وأتبعناه برسل يتبع بعضهم بعضا ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا «١» وهم: يوشع وداود وسليمان وعزيز وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى- عليهم السلام- وآتينا عيسى ابن مريم البتول المعجزات الواضحة دليلا على صدقه وقويناه بجبريل، وقيل بالإنجيل، وخص عيسى بتأييد روح القدس لكرامته. ولقد آتينا- يا بنى إسرائيل- أنبياءكم ما آتيناهم، أفكلما جاءكم رسول بما لا تميل إليه نفوسكم إذ هي لا تميل إلى الخير أصلا كفرتم واستكبرتم؟! والخطاب لجميع اليهود لأنهم فعلوا ذلك قديما ورضى عنهم أولادهم، فالجميع مشتركون، فهم كذّبوا ببعض الأنبياء وقتلوا البعض الآخر.
ومن سوءاتهم الشنيعة قولهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم استهزاء منهم: قلوبنا في غطاء فلا تعى ما تقوله، ولا تفهم لكلامك معنى، فيرد الله عليهم: لستم كذلك ولكن الله طردكم من رحمته، وأبعدكم عن توفيقه بسبب كفركم وعصيانكم، فإيمانكم قليل جدا أو أنكم لا تؤمنون أصلا.
وقد كان اليهود وعندهم في التوراة وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان زمانه يمنّون أنفسهم بالنصر على المشركين وكانوا يقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة.
فلما جاءهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي يمينه القرآن مصدقا لما عندهم في التوراة ومؤيدا بوصفه
(١) سورة المؤمنون الآية رقم ٤٤.
55
المعروف عندهم كفروا واستكبروا، وآثروا الحياة الدنيا على الآخرة فلعنة الله عليهم أجمعين.
اليهود والمعاصرون للنبي صلّى الله عليه وسلّم يعرفون حقّا أنه النبي المبشر به في التوراة الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ولكنهم لم يؤمنوا حسدا وبغيا، فقد باعوا حظهم الحقيقي- وهو الإيمان بالله ورسوله- وأخذوا بدله كفرهم بما أنزل الله، وما دفعهم إلى ذلك إلا الحسد والبغي، فهم قد رجعوا بغضب من الله جديد، لكفرهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه الله أنزل عليه الكتاب من فضله، وكانوا لجهلهم يدعون أنهم أحق، وباءوا بغضب على غضب سابق لكفرهم بالأنبياء قديما ولهم عذاب مهين.
وإذا قيل لهم: آمنوا بالقرآن قالوا: لا نؤمن به إنما نؤمن بالذي أنزل علينا في التوراة ونكفر بغيره، فيرد الله عليهم: إن القرآن هو الحق من عند الله المصدق للتوراة التي معكم لأنهما من عند الله فكيف تكفرون ببعض الكتب وتؤمنون ببعضها؟ والكل من عند الله، على أنكم لم تؤمنوا بالتوراة ففيها القتل محرم، وقد قتلتم الأنبياء بغير حق فلم قتلتموهم إن كنتم بالتوراة مؤمنين؟ فالحق أنكم لم تؤمنوا بأى كتاب أنزل فلا طمع في إيمانكم بالقرآن.
كذبهم في ادعائهم الإيمان بالتوراة [سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٢ الى ٩٣]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)
المفردات:
بِالْبَيِّناتِ: المعجزات كالعصا وفلق البحر. أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ:
خالط حب العجل قلوبهم وصب فيها كما يخالط الصبغ الثوب والشراب الجسد.
المعنى:
توبيخ لهم وتبكيت وتفنيد لقولهم: آمنا بالتوراة وكفرنا بغيرها، فقيل لهم: لم تؤمنوا بها بدليل قتلكم الأنبياء وهو محرم عليكم فيها، وعبادتكم العجل وجعله إلها مع أن موسى جاءكم بالمعجزات وأنزلت عليه التوراة، ولقد فعلتم هذه الموبقات بعد هذا، واذكر يا محمد لهم وقت أن أخذ عليهم الميثاق المؤكد بأن يعملوا بما في التوراة، ورفعنا فوقهم الطور إذ ذاك إرهابا لهم وقد قال لهم الله: خذوا ما آتيناكم بجد ونشاط واسمعوا ما فيها سماع قبول، فما كان من آبائكم إلا أن قالوا: سمعنا وعصينا، وقد عبدوا العجل، وخالط حبه قلوبهم، وتدخل فيها كما تدخل الكهرباء الجسم، قل يا محمد: إن كان إيمانكم بالتوراة يدعوكم إلى هذا فبئس شيئا يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين، فإن كان إيمانكم كما وصف القرآن فبئس هذا الإيمان.
ولم تتكرر القصة بل سبق أن ذكرت على أنها من نعم الله عليهم حيث عفا عنهم وقبل توبتهم لما تابوا عن عبادة العجل، وهنا بيان لخيانتهم وتسجيل لسوءاتهم.
اليهود وحرصهم على الحياة [سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٤ الى ٩٦]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦)
المفردات:
خالِصَةً: خاصة بكم. أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ الحرص: الطلب بشره. بِمُزَحْزِحِهِ: مبعده.
المعنى:
من أمانى اليهود الكاذبة وغرورهم وشعورهم بالنقص الديني اعتقادهم أن الجنة لهم ولا يدخلها إلا اليهود وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً.
فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: إن كنتم صادقين في دعواكم أن الجنة خالصة لكم من دون الناس فاطلبوا الموت وتمنوه فإنه يكون حبيبا إلى نفوسكم إذ لا شك أن من يوقن بالحياة الآخرة وأن فيها له نصيبا يتمنى أن يصل إليها، ولكن لن يتمنى أحد منهم أبدا بسبب ما قدم من الكفر والفسوق والعصيان وقتل الأبرياء خصوصا الأنبياء، والله عليم بهم ومجازيهم على أعمالهم القديمة والحديثة.
تالله لتجدن اليهود أحرص الناس على حياة طويلة، بل وأحرص من الذين أشركوا بالله ولم يؤمنوا بالآخرة، فهؤلاء المشركون كان يجب أن يكونوا أحرص الناس على الحياة إذ هي الأولى والأخير عندهم، فإذا كان اليهود هم أهل كتاب ورسالة أحرص منهم أفلا يكون هذا من داعي العجب الذي لا ينتهى؟! ولكنهم اليهود الماديون الحريصون على الدنيا، يود الواحد منهم لو يعمر ألف سنة يجمع ذهب العالم، وما مكثه في الدنيا وإن طال بمبعده عن أمر الله وحكمه عليه بالعذاب الأليم، وكيف لا يكون هذا والله بصير بما يعملون فمجازيهم عليه؟
يا شباب الإسلام ورجاله: هذه أوصاف اليهود يقولها خالقهم والعالم بهم فهبوا انفضوا الغبار عنكم حتى نراهم في حرب فلسطين أحرص على الحياة ونراكم أحرص الناس على الموت: (احرص على الموت توهب لك الحياة).
موقفهم من الملائكة الأطهار [سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٧ الى ٩٨]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨)
58
سبب النزول:
روى أن عبد الله بن صوريا من أحبار فدك حاجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسأله عمن يهبط عليه بالوحي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: جبريل، فقال: ذاك عدونا ولو كان غيره لآمنا به، وقد عادانا جبريل مرارا ومن عداوته أن الله أمره أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا، وهو صاحب كل خسف وعذاب، وميكال يجيء بالخصب والسلام
. وفي رواية أن عمر قال لهم بعد ما قالوا له كلاما شبيها بهذا: من كان عدوا لجبريل كان عدوا لميكائيل ومن كان عدوا لهم كان عدوا لله فنزلت الآية.
المعنى:
قل لهم يا محمد: من كان عدوا لجبريل فهو عدو لله فإنه نزله بالوحي والقرآن على من قبلك بإذن الله وأمره، فهو إذن رسول الله إليك يا محمد، ومن عادى الرسول فقد عادى المرسل- سبحانه وتعالى- ومن عادى جبريل فلا وجه له لأنه نزل بالقرآن عليك يا محمد بأمر الله، وهو مصدق لما تقدمه من الكتب كالتوراة والإنجيل على أنه مع ذلك هداية وبشرى للمؤمنين فكيف تجعلون سبب المحبة سببا للبغض؟ هداكم الله إلى الحق.
من كان عدوا لله وملائكته وكتبه ورسله خصوصا جبريل وميكائيل فإن الله عدو له ومجازيه على ذلك لأن تلك العداوة كفر وأى كفر!!
59
من قبائحهم أيضا [سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٩ الى ١٠٣]
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣)
60
المفردات:
عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أى: على عهد ملكه، أى: في زمان ملكه. فِتْنَةٌ:
اختبار وابتلاء. اشْتَراهُ: استبدل ما تتلو الشياطين. خَلاقٍ: نصيب.
المثوبة: الثواب.
روى ابن عباس أن عبد الله بن صوريا قال لرسول الله: ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزلت عليك آية فنتبعك لها فنزلت الآية.
المعنى:
والله لقد أنزلنا إليك يا محمد آيات واضحات قد دلت على صدق رسالتك ولا يكفر بها إلا الخارجون عن طاعة الله والمتمردون على آياته وأحكامه، وهؤلاء أصحاب النار هم فيها خالدون.
أكفروا بالله وكلما عاهدوا عهدا بينهم وبين الله أو بينهم وبين رسول الله الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ «١» تركه فريق كبير منهم، ولم توف به، فاليهود موسومون بالغدر ونقض العهود، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوه، بل أكثر اليهود لا يؤمنون بالتوراة لأن فيها نقض المواثيق، وخلف العهود ذنب لا يغفر.
ولما جاءهم رسول من عند الله- هو محمد عليه السلام- بكتاب مصدق لما معهم إذ هو موافق للتوراة في الأصول الدينية العامة كتوحيد الله وإثبات البعث والحياة الآخرة وصدق الرسل، ترك فريق من اليهود كتاب الله وهو التوراة وراء ظهورهم لأنهم لم ينفذوا بعض ما فيه، ولم يؤمنوا به كأنهم لا يعلمون أن من لم يؤمن بالقرآن الموافق للتوراة لا يكون مؤمنا بالتوراة وبالقرآن.
ومن قبائح اليهود أنهم نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تلته الشياطين من السحر والشعوذة في زمن ملك سليمان، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء ويضمون إليه أكاذيب ثم يلقنونها الكهنة فيعلمونها الناس، ويقولون: إن هذا علم سليمان وما تم لسليمان ملك إلا بهذا.
(١) سورة الأنفال آية رقم ٥٦.
61
فيرد الله عليهم هذه الدعوى: إن سليمان ما فعل شيئا من هذا، وما كفر باعتقاد السحر والعمل به، ولكن الشياطين هم الذين كفروا باتباع السحر وتديّنه.
هؤلاء اليهود يعلمون الناس السحر بقصد إغوائهم وإضلالهم، ويعلمونهم ما أنزل على الملكين ببابل، وهما هاروت وماروت: وهما بشران إلا أنهما كانا صالحين قانتين فأطلق الناس عليهما ملكين من باب الشبه، وفي قراءة (ملكين) على الشبه أيضا بالملوك في الخلق وسماع الكلمة.
ولكن هذين الملكين ما كان يعلمان أحدا من الناس حتى يقولا له: إنما هذا ابتلاء واختبار من الله فلا تتعلم السحر وتعمل به وتعتقد تأثيره، وإلا كنت كافرا، أما إذا تعلمته فلتعرف شيئا تجهله ولا تعمل به ما يضر فلا محذور في ذلك، فتعلم الناس من الملكين ما كانوا يعتقدون أنه يفرق بين المرء وزوجه، أو ما هو تمويه من حيلة أو نفث في العقد أو تأثير نفس وغير ذلك مما يحدث عنده التفريق غالبا.
والحقيقة أن السحر لا يؤثر بطبعه، وما هم بضارين به أحدا من الناس إلا بأمر الله وإرادته، فهذا كله إن صح فسبب ظاهرى فقط، وأما من تعلم السحر وعمل به فإنه تعلم ما يضره ولا ينفعه إذ به استحق غضب الله عليه لما ينشأ عنه من إفساد الناس وضررهم، وتالله لقد علم اليهود لمن ترك كتاب الله واستبدل به كتب السحر ما له في الآخرة إلا العذاب، وليس له نصيب من الثواب.
ولبئس ما اشتروا به عذابهم وألمهم لو كانوا يعلمون، نفى عنهم العلم لأنهم لم يعلموا به فكانوا أسوأ من الجهلة.
ولو أن اليهود آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن وتركوا كتب السحر والشعوذة وأخذوا الوقاية من عذاب الله بامتثال أوامره لاستحقوا الثواب من عند الله وهو خير وأعظم أجرا لو كانوا يعلمون ذلك.
ملاحظات:
١- السحر في اللغة: كل ما لطف مأخذه وخفى، ومنه قيل: عين ساحرة،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: (إن من البيان لسحرا) «١».
(١) أخرجه البخاري من حديث ابن عمر كتاب الطب باب إن من البيان سحرا حديث رقم ٥٧٦٧.
62
٢- السحر كما وصفه القرآن: تخييل يخدع الأعين فيريها ما ليس كائنا أنه كائن يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [سورة طه آية ٦٦].
٣- وهو إما حيلة وشعوذة أو صناعة علمية خفية يعرفها الناس، ممكن أن يكون منه تأثير الأرواح والتنويم المغناطيسى.
٤- حكاية القرآن: يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ليس دليلا على أن السحر يفعل هذا وإنما هي حكاية لما كان مشهورا ومعروفا عندهم.
٥- السحر لا يؤثر بطبعه وإنما هو سبب ما يحدث عنه من أضرار من قبيل ربط المسببات كما نصت الآية.
أدب وتوجيه [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)
المفردات:
راعِنا: راقبنا وانتظرنا. انْظُرْنا: من نظره: إذا انتظره.
المعنى:
كان المسلمون يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا ألقى عليهم شيء من العلم: راعنا، وتأنّ علينا حتى نفهمه ونحفظه، وكانت الكلمة عند اليهود (راعنا) كلمة سب فكانوا يخاطبون بها النبي ويقصدون معنى السب والشتم فنهى المؤمنون عن هذه الكلمة وأمروا
بكلمة تماثلها في المعنى وتختلف في اللفظ، واسمعوا أيها المؤمنون القرآن سماع قبول، وللكافرين واليهود عذاب مؤلم شديد، وهذا أدب للمؤمنين وتشنيع على اليهود فما زال الكلام معهم، لا يود الذين كفروا بالله سواء كانوا من أهل الكتاب أو المشركين أن ينزل الله عليكم خيرا أبدا كالقرآن والرسالة ولكن الله العليم القادر الحكيم يختص بالنبوة والخير من يشاء من عباده اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [سورة الأنعام آية ١٢٤] عند من يقوم بها ويؤديها خير قيام.
آيات النسخ [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٨]
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨)
المفردات:
(ما ننسخ) النسخ: إزالة الصورة عن الشيء وإثباتها في غيره. نُنْسِها:
نجعلها تنسى، من أنساه الشيء: أذهبه من قبله، أو ننسئها: نؤجلها.
سبب النزول:
روى أنهم طعنوا في النسخ فقالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمره ثم ينهاهم عنه ويقول اليوم ما يرجع عنه غدا؟ فنزلت.
المعنى:
القرآن الكريم نزل منجما تبعا للحوادث والظروف وهو تنزيل من حكيم عليم بالخبايا، فالحكم المستفاد من الآية يدور مع المصلحة للأمة فمتى وجدت المصلحة في
64
الحكم بقي وإلا فلا، فتارة تبقى الآية كما هي لأن المصلحة في ذلك، وتارة يذهب لفظها ومعناها أو أحدهما وتؤجل إلى أجل أو تنسى من القلوب، كل ذلك للمصلحة العامة للأمة، فالنسخ ضروري في الأحكام خصوصا عند الأمة الناشئة بسبب تطورها سريعا، فما يصلح علاجا اليوم قد لا يصلح غدا، شأن المربى والطبيب الماهر مع مريضه.
ولم يكن النسخ لجهل الشارع بالحكم الأخير، ولكن كان الشارع يتدرج ويعالج تبعا للظروف والأحوال، انظر إليه حيث عالج الخمر وكيف نسخ الحكم فيها؟ حتى وصل النهاية، وكذا آيات القتال نجد أن النسخ كان لحكمة عالية من حكيم خبير هو أدرى بخلقه، حتى استقرت الأحوال واستوت الأمة قائمة لها كيان لم يبق نسخ، أليس هذا أولى من بقاء الأحكام لا تتغير تبعا للظروف الطارئة فيضطر إلى هجرها وعدم قبولها؟
فالله لم ينسخ آية أو يؤجلها إلا ويأتى بخير منها للعباد أو مثلها على الأقل، أليس الله على كل شيء قديرا؟ أليس لله ملك السموات والأرض فهو يملك أموركم ويدبرها على حسب المصلحة وليس لكم ولى سواه يتولى أموركم ولا نصير ينصركم غيره- سبحانه وتعالى-.
هذا رأى بعض العلماء في النسخ والقول به، وبعضهم يرى أنه لا نسخ أبدا بالمرة وكل آية قيل إن فيها نسخا أوّلوها تأويلا سائغا ببيان أن كل آية في موضوع فلم تنسخ إحداهما الأخرى، انظر إلى آيات العدة الآتية، وآيات القتال، وسنبينها إن شاء الله في موضعها.
بل أتريدون أن تطلبوا من رسولكم كما كانت تطلب آباؤكم اليهود من موسى- عليه السلام-؟ فقد طلبوا منه أن يريهم الله جهرة وغير ذلك مما كانت عاقبته وخيمة عليهم، ومن يترك الثقة في القرآن ويشك في أحكامه ويطلب غيرها فقد ضل السبيل السوى.
65
موقفهم من المؤمنين [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٩ الى ١١٠]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠)
المفردات:
(حسدا) الحسد: تمنى زوال نعمة الغير. فَاعْفُوا العفو: ترك العقاب على الذنب. وَاصْفَحُوا الصفح: الإعراض عن ذنب بصفحة الوجه، فيشمل ترك العقاب وترك اللوم.
المعنى:
كان كثير من اليهود بعد كفرهم بالنبي والكيد له ونقض العهود حسدا له ولقومه يودون ويتمنون أن يرتد المسلمون الذين آمنوا بالنبي وأن يعودوا كفارا بعد ما كانوا مؤمنين، وهذا التمني وتلك الرغبة بسبب الحسد الكامن والداء الباطن في أنفسهم، لا ميلا مع الحق ولا رغبة، بل هذا التمني بعد ما ظهر لهم أن الدين الإسلامى هو الدين الصحيح، فاعفوا عنهم أيها المسلمون ولا تلوموهم على فعالهم، واصبروا حتى يأذن الله بالقتال ويأتى أمره فيهم وهو قتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وإذلالهم، والله على كل شيء قدير.
وأنتم أيها المسلمون أدوا صلاتكم مقومة كاملة، وأدوا زكاتكم فهي حصن مالكم، وهما وإن كانا فيهما خير الدنيا وسعادة المجتمع فكذلك في الآخرة إذ ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوا جزاءه عند الله كاملا إن الله بما تعملون بصير.
موقف كل من اليهود والنصارى بالنسبة للآخر [سورة البقرة (٢) : الآيات ١١١ الى ١١٣]
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)
المفردات:
هُوداً: جمع هائد، وهم اليهود. نَصارى: أتباع المسيح. أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ: جعل وجهه خالصا لله وانقاد له.
المعنى:
من قبائح أهل الكتاب وغرورهم بدينهم ما بينه القرآن في هذه الآيات حيث يقول ما معناه: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا اليهود فهم شعب الله المختار وغيرهم في الضلال، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى.
تلك أمانيهم الباطلة التي لا تستند على أساس من النقل أو العقل، وإلا فهاتوا برهانكم أيها اليهود والنصارى إن كنتم صادقين فليست المسألة دعوى.
يرد الله عليهم: بل يدخل الجنة من أسلم وجهه لله وانقاد له فلم يسع لفرية أو كذبة وهو محسن في عبادته وعمله واعتقاده، وهؤلاء أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ولم تقف دعواهم عند هذا بل صرح أحبار اليهود مرارا قائلين: ليست النصارى على شيء يذكر، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء يذكر، والحال أنهم أصحاب كتاب يدعون أنهم يتلونه ويؤمنون به، فلو أن اليهود تؤمن بالتوراة والنصارى تؤمن بالإنجيل لما قالوا مثل ذلك لأن كل كتاب نزل من عند الله جاء مصدقا لما سبقه ومبشرا لما يأتى بعده.
إذن هم لا يؤمنون بشيء، وقد قال مثل مقالتهم هذه المشركون الذين لا يعلمون شيئا إذ ليس عندهم كتاب، فالله يحكم بينهم يوم القيامة في اختلافهم ويجازيهم عليه أشد الجزاء، وأما الجنة فهي لمن أسلم وجهه لله وهو محسن.
تخريب المساجد [سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٤ الى ١١٥]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)
المفردات:
خَرابِها: تخريبها وهدمها وتعطيلها. خِزْيٌ أى: ذل. فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أى: هناك جهته التي يرضاها.
سبب النزول:
وهذه الآيات نزلت تشير إلى حوادث وقعت بعد النسخ تتعلق ببيت المقدس وتخريبه، وذهب بعض المفسرين إلى أنها نزلت في مشركي العرب حيث منعوا النبي وأصحابه من دخول مكة، وقيل: إنه إخبار بما سيقع من إغارة الصليبيين على بيت المقدس وغيره من بلاد المسلمين وصدهم عن المسجد الأقصى وتخريبهم كثيرا من المساجد، والكلام على العموم في أهل الكتاب ومن على شاكلتهم.
المعنى:
ليس هناك ظلم أكبر من تخريب المساجد ومنع الناس من الصلاة فيها، ولا أحد أظلم ممن منع ذكر الله في المساجد بأى طريق من الطرق، وسعى في تعطيلها عن القيام بوظائفها، أولئك الذين يفعلون هذا بعيدون جدا عن الله وتوفيقه، ما كان ينبغي لهم إلا أن يدخلوها خائفين من سطوة الإسلام والمسلمين، فما بالهم يفعلون هذا؟ وما دام للإسلام والمسلمين السطوة والعزة والتمسك بالقرآن وأحكامه فلا يدخلونها إلا خائفين.
أما إذا فرط المسلمون في دينهم وأقاموا بعض أحكام الدين وأهملوا البعض الآخر حتى أضاعوا كيانهم فللكفار والمشركين أن يدخلوها بل ويخربوها ويتحكموا في أهلها كما هو حاصل الآن.
ولمن منع ذكر الله في المسجد ذل في الدنيا وعذاب في الآخرة.
لله ما في الأرض جميعا مشرقها ومغربها، ففي أى مكان تصلون فيه وتتوجهون فيه إلى الله فإنه معكم، إن الله واسع لا يحده مكان، فيصح أن يتوجه إليه في كل مكان عليم بمن يتوجه إليه أينما كان.
مفتريات أهل الكتاب والمشركين [سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٦ الى ١١٨]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)
69
المفردات:
سُبْحانَهُ: تنزيها له عما يصفون. بَدِيعُ: مبدع. قانِتُونَ:
منقادون.
المعنى:
وقال أهل الكتاب والمشركون من اليهود والنصارى وغيرهم: المسيح ابن الله وعزيز ابن الله والملائكة بنات الله!! سبحانه وتعالى وتنزيها له عما يدّعون، بل له كل ما في السموات والأرض ومنهم هؤلاء، الكل قد خلقهم الله، كل له منقادون إن طوعا وإن كرها، وهو الذي أبدع السموات والأرض وما فيهن، وإذا أراد أمرا- فلا راد لقضائه- كان وتحقق من غير امتناع.
فمن له كل ما في السموات والأرض خلقا وملكا، ومن له كل ما في الكون كائنا ومنقادا. ومن أبدع السماء والأرض والوجود كله، ومن إذا أراد أمرا كان ووجد من غير امتناع أو إباء.
من كان هذا شأنه أيحتاج إلى الولد أو الوالد؟ ومن كان هذا شأنه يكون له جنس؟
أم هو الواحد الأحد الفرد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؟! وقال الذين لا يعلمون: هلا يكلمنا الله كما يكلم الملائكة وموسى استكبارا منهم وعتوّا، أو تأتينا آية استخفافا منهم بهذه الآيات البينات. كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم وأرواحهم، تنزه الله عن طلبهم.
وبين الآيات أحسن بيان وأتمه ولكن لا يفهمها إلا المنصفون الموقنون.
70
تحذير الرسول من اتباع اليهود والنصارى [سورة البقرة (٢) : الآيات ١١٩ الى ١٢٣]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣)
المفردات:
الْجَحِيمِ: النار المتأججة، وهي جهنم. مِلَّتَهُمْ: دينهم.
الْخاسِرُونَ: الهالكون.
المعنى:
أراد الله تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: إنا أرسلناك للناس رسولا تبشر المؤمنين وتنذر الكافرين، فمهمتك الرسالة ولا عليك شيء بعدها ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ «١» فإنك لا تسأل عن أصحاب النار، فلا تأس عليهم ولا تحزن.
(١) سورة الأنعام آية ٥٢
وهؤلاء اليهود والنصارى الذين قص عليك من أنبائهم ما به عرفتم لن يرضوا عنك مهما فعلت من الخير إلا إذا دخلت في دينهم.
وروى أنهم قالوا: يا محمد مهما فعلت لإرضائنا فلن نرضى حتى تتبع ملتنا، قالوا هذا لييأس النبي من هدايتهم، فرد الله عليهم: إن هدى الله ودينه الذي هو الإسلام هو الهدى وحده الواجب اتباعه، أما غيره فمبنى على الهوى والشهوة ولذلك حذر الله نبيه وكل فرد من أمته بقوله: ولئن اتبعت دينهم فليس لك من دون الله ولى ولا نصير.
ولئلا يحصل اليأس للنبي صلّى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب جميعا أخبر بأنهم ليسوا كلهم على هذا المنوال بل منهم من يتلو الكتاب ويفهمه حق الفهم ولا يتعصب تعصب الأعمى ولا يبيع آخرته بدنياه، أولئك يؤمنون به ومن يؤمن به حقا يؤمن بالقرآن والنبي، ومن يكفر بكتابه منهم فلا يؤمن بك، وأولئك هم الخاسرون.
بعد أن ذكر ما ذكر من تعداد النعم والقبائح وما جازاهم بهم على كل هذا أراد أن يجدد ثقتهم ونشاطهم فناداهم بهذا لئلا ينفروا مما سبق، وهو يذكرهم بالنعم التي أنعمها عليهم وعلى آبائهم وليبنى عليها قوله: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ وليس فيها تكرير يمجه البلغاء.
إبراهيم عليه السلام وبيت الله الحرام [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٤ الى ١٢٩]
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨)
رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)
72
المفردات:
ابْتَلى إِبْراهِيمَ: اختبره، والمراد: كلفه بتكاليف ليجازيه، وذلك شأن المختبر. بِكَلِماتٍ المراد: أوامر ونواه. فَأَتَمَّهُنَّ: أدّاهنّ. مَثابَةً:
مرجعا ومآبا. مُصَلًّى: مكان صلاة. الْعاكِفِينَ: الملازمين.
الْقَواعِدَ: جمع قاعدة، وهي الأساس. مَناسِكَنا: النسك في الأصل غاية العبادة، وشاع في الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة. الْحِكْمَةَ: ما تكمل به النفوس من أحكام الشرع والمعرفة. يُزَكِّيهِمْ: يطهرهم.
شرع الله في تحقيق أن هدى الله هو ما عليه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم من التوحيد والإسلام الذي هو ملة إبراهيم- عليه السلام- وبطلان ادعاء أهل الكتاب أنهم يتبعون دين إبراهيم، وبيان صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم إذ هو دعوة إبراهيم الخليل، فالكلام كله متصل مع أهل الكتاب.
73
المعنى:
واذكر لهم يا محمد وقت اختبار الله لإبراهيم بأن كلفه بتكاليف يؤديها فقام بها خير قيام وأداها أحسن أداء، ولذا كان جزاؤه من الله- جل جلاله- أن قال له: إنى جاعلك إماما للناس تؤمهم في دينهم وتفصل بينهم في دنياهم، قال إبراهيم: وجاعل بعض ذريتي كذلك؟ وأجابه المولى: لا ينال عهدي بالإمامة الظالمون الذين ظلموا أنفسهم لأن الإمام مفروض أن يقوم بحراسة الدين وأهله والقيام على شئون الرعية ومنع الظلم، فإذا كان ظالما لنفسه فكيف يدفع الظلم عن غيره، وهذا هو حكم القرآن في الإمام وما شرطه فيه!! واذكر لهم إذ جعلنا البيت الحرام (الكعبة) مثابة للناس وملجأ، وجعلناه آمنا، من دخله كان آمنا ويتخطف الناس من حوله، واتخذوا أيها المسلمون من مكان إقامة إبراهيم مصلى، أى: فضلوه على غيره في الصلاة لشرفه بقيام إبراهيم فيه، فالأمر للندب لا للوجوب، وقد أمرنا إبراهيم وإسماعيل بأن يقوما بتطهير البيت من الأوثان ومن كل دنس ورجس يطهرانه للذين يطوفون به ويقومون عنده، والذين يركعون فيه ويسجدون، اذكر لهم يا محمد دعوة أبيهم إبراهيم لهذا البلد وأهله:
رب اجعل هذا البلد في أمن وطمأنينة، وارزق أهله من الثمرات أطيبها ومن خيرات الأرض أحسنها ارزق يا رب المؤمن منهم. وانظر إلى تكريم المؤمنين وبيان خطر الإيمان وشرفه، وفي هذا ترغيب لقومه في الإيمان وزجر عن الكفر، وفي حكاية القرآن هذا ترغيب لقريش وترهيب لها ولغيرها من أهل الكتاب، فأنت ترى أن إبراهيم خص طلب الرزق للمؤمنين. قال الرب- سبحانه وتعالى- ما معناه: والكافر أرزقه وأمتعه زمنا قليلا ثم ألجئه إلى عذاب النار وبئس هذا المصير.
واذكر يا محمد وقت أن رفع إبراهيم أساس البيت للبناء ومعه إسماعيل يعاونه قائلين:
ربنا اقبل منا وتقبل إنك أنت السميع لكل دعاء العليم بكل قصد ونية. ربنا واجعلنا منقادين لك ومخلصين، ثم أخذتهما الشفقة على أولادهما فدعوا الله بأن يجعل من ذريتهما جماعة مخلصة منقادة، وإنما دعوا للبعض فقط لأنهما يعرفان أن الحكمة الإلهية في وجود الصنفين ولا بد منهما، وبصرنا يا رب أمور عبادتنا وأسرارها وبخاصة مناسك الحج، وأقبل توبتنا إنك أنت التواب الرحيم.
ربنا وأرسل في ذريتنا رسولا منهم عرفوا عنه الصدق والأمانة، ويتلو عليهم آيات
74
دينك ويعلمهم القرآن وما به تكمل نفوسهم من العلوم والمعارف، ويطهرهم من دنس الرجس والوثنية إنك يا رب أنت العزيز الذي لا يغلب الحكيم في كل صنع.
روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا دعوة أبى إبراهيم وبشارة عيسى بي ورؤيا أمّى» «١»
فذلك تحقيق دعوة إبراهيم، والنبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يتحقق فيه هذه الدعوة، وأهل الكتاب يعرفون ذلك ولكنهم أعرضوا حسدا وبغيا وظلما.
ملة إبراهيم مع المخالفين لها والمهتدين بها [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٢]
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)
المفردات:
سَفِهَ نَفْسَهُ: أذلها واستخف بها. اصْطَفَيْناهُ: أخذناه واخترناه.
المعنى:
لا تجد أحدا يعرض عن ملة إبراهيم ودينه إلا شخصا أذل نفسه واستخف بها، وذلك أن من يرغب في شيء لا يرغب فيه عاقل أصلا فقد بالغ في امتهان نفسه وأذلها وكيف لا، وقد اصطفيناه في الدنيا وجعلناه أبا الأنبياء وإنه في الآخرة لمن المشهود لهم بالصلاح والاستقامة، إذ قال له ربه: أسلم لله وكن من المنقادين له- سبحانه- فما كان منه إلا أن أسرع بالانقياد والامتثال شأن المصطفين الأخيار. قال: أسلمت لله رب العالمين، ولقد كان إبراهيم متبعا الملة الحنيفية وأرادها لأولاده فوصى بها إبراهيم بنيه
(١) أخرجه أحمد ١/ ١٢٨.
وكذلك يعقوب قائلا: يا بنىّ إن الله اختار لكم هذا الدين (وهو كدين محمد صلّى الله عليه وسلّم في الأصول العامة فاثبتوا على الإسلام ولا تفارقوه) فها هي ذي وصية إبراهيم لبنيه ويعقوب للأسباط فانظروا أيها اليهود هل أنتم تتبعون آباءكم إبراهيم ويعقوب أم لا؟
لكل ما كسب [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٧]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)
المفردات:
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ: أم هنا بمعنى (بل) أكنتم شهداء، والهمزة بمعنى النفي،
76
أى: ما كنتم شهداء. خَلَتْ: مضت. هُوداً: جمع هائد، أى تائب، وهم اليهود. حَنِيفاً: مائلا عن الباطل إلى الحق. الْأَسْباطِ: الأحفاد، والمراد أبناؤه وذريته.
سبب النزول:
روى أنهم قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألست تعلم أن يعقوب أوصى باليهودية يوم مات فنزلت الآية.
المعنى:
ما كنتم أيها اليهود حاضرين وقت أن احتضر يعقوب وقال لبنيه: أى شيء تعبدونه بعد موتى؟ فأجابوه: نعبد إلهك الله الواحد الفرد الصمد وهو إله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إله واحد لا شريك له، ونحن له مستسلمون ومنقادون لحكمه.
وقد رد الله على اليهود ادعاءهم أنهم نسل الأنبياء وحفدتهم فلا يدخلون النار إلا أياما معدودات بقوله: هذه الأمة قد مضت بما لها وما عليها لا ينتفع بعملها أحد ولا يضر وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «١» فكما أن هؤلاء السابقين لا ينفعهم إلا عملهم كذلك أنتم لا ينفعكم إلا أعمالكم.
وقال بعض أهل الكتاب: كونوا مع اليهود في دينهم تصلوا إلى الطريق السوى، وقال البعض الآخر (النصارى) : كونوا مع النصارى تصلوا إلى الحق، قل يا محمد ردا عليهم: بل تعالوا إلى ملة أبيكم إبراهيم الذي تدعون أنكم على دينه فهي الملة الحنيفة القائمة على الجادة بلا انحراف ولا نزاع وما كان إبراهيم من المشركين، ها أنتم هؤلاء بعيدون عن ملة إبراهيم.
قولوا أيها المؤمنون: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط من القرآن والصحف فلا تكن دعوتكم إلى شيء خاص بكم بل ادعوا إلى أصل الدين وروحه الذي لا خلاف فيه ولا نزاع، وهو التسليم بنبوة جميع الأنبياء والمرسلين مع الإسلام لرب العالمين، لا نعبد إلا الله ولا نفرق بين أحد من رسله وما أوتى موسى وعيسى من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات، وما أوتى النبيون جميعا لا نفرق بين أحد منهم، كما تفعل اليهود والنصارى فالمؤمن حقيقة هو من يؤمن بكل الكتب والأنبياء ولا يؤمن ببعض ويكفر بالبعض الآخر.
(١) سورة الزمر آية رقم ٧.
77
فإن آمن أهل الكتاب كما آمنتم فقد اهتدوا إلى الطريق المستقيم، وإن تولوا وأعرضوا وفرقوا بين الأنبياء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض فإنما هم في شقاق ونزاع، وإذا كان هذا فثقوا أن الله سيكفيكم شرهم وسيبدد شملهم، وقد تحقق ذلك بقتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير، والله هو السميع لكل قول، والعليم بكل فعل.
الله ربنا وربكم [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٨ الى ١٤١]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)
المفردات:
صِبْغَةَ اللَّهِ الصبغة: الحالة التي عليها الصبغ، والمراد بصبغة الله الإيمان لكون الإيمان تطهيرا للمؤمنين من أوساخ الشرك، وهو حلية تزينهم بآثاره الجميلة، وقد تدخل في قلوب المؤمنين كما يتداخل الصبغ فترى أن الإيمان يشبه الصبغة في التطهير والحلية والتداخل. أَتُحَاجُّونَنا: أتجادلوننا. مُخْلِصُونَ: لا نبغى بأعمالنا غير وجه الله.
78
المعنى:
قولوا أيها المؤمنون بعد مقالتكم الأولى وهي: إنا نؤمن بالله وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وكتبه قولوا: صبغنا الله بصبغة الإيمان وتطهير النفوس من أدرانها، وهل هناك صبغة أحسن من صبغة الإسلام؟ ومن صبغته أحسن من صبغة الله الحكيم الخبير؟ ونحن لله الذي أولانا هذه النعم الجليلة التي منها نعمة الإسلام والهداية عابدون ومخلصون وقانتون، ثم بعد هذا أمر الله نبيه بأمر خاص به وهو: قل لهم يا محمد:
أتجادلوننا في دين الله وتدّعون أن دينه الحق هو اليهودية أو النصرانية؟ وتبنون دخول الجنة والاهتداء عليهما وتقولون تارة: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وتارة تقولون: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا أتجادلوننا في دين الله وهو ربنا وربكم لا فرق بيننا وبينكم في العبودية لله فهو مالك أمرنا وأمركم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم الحسنة والسيئة، ونحن لله مخلصون في تلك الأعمال لا نقصد بها إلا وجهه وإن أتى منا سوء فبغير قصد ونية فكيف تدعون أن لكم الجنة والهداية دون غيركم؟!! قل لهم يا محمد: أى الطريقين تسلكون؟ إقامة الحجة على ما أنتم عليه وقد ظهر أن لا حجة لكم؟ أم تسلكون طريق التقليد من غير برهان والكذب على الله والأنبياء فتقولون: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط هود، ويقول الناس:
النصارى كانوا نصارى فنحن مقتدون، والمراد إنكار الطريقين وتوبيخهم على كلا الأمرين، قل لهم يا محمد: أأنتم أعلم أم الله؟! ولا أحد في الوجود أظلم ممن يكتم شهادة ثابتة عنده من الله وهي شهادته- سبحانه وتعالى- لإبراهيم ويعقوب بالحنيفية والبراءة من اليهودية والنصرانية، فلو كتمناها لكنا أظلم الناس كما أنكم تكتمون شهادة عندكم من الله للنبي العربي محمد صلّى الله عليه وسلّم وليس الله غافلا عن أعمالكم فهو محصيها ومجازيكم عليها، تلك أمة من الأنبياء والرسل قد مضت لها أعمالها الحسنة والسيئة ونحن لا نسأل عنها وهم لا يسألون عن أعمالنا، كرر هذه للمبالغة في الزجر عما هم عليه من الافتخار بالآباء والاتكال على الماضي وهذا شأن العاجز الضعيف الذي ينظر إلى الماضي ولا يتجه إلى المستقبل.
فهب أن أباك كان من الأولياء والأصفياء ولم تعمل شيئا تحمد عليه أفينفعك هذا؟
لا. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى والله أعلم.
79
مقومات تحويل القبلة [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٢ الى ١٤٣]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)
المفردات:
السُّفَهاءُ السفه: الاضطراب في الرأى والفكر والخلق. والسفهاء: هم ضعفاء العقول، والمراد بهم هنا: المنكرون تغيير القبلة من اليهود والمشركين والمنافقين.
الْقِبْلَةَ في الأصل: الجهة، والمراد قبلة المسلمين في الصلاة. وَسَطاً الوسط:
اسم لنقطة تستوي نسبة الجوانب إليها كمركز الدائرة، ثم استعير للخصال المحمودة إذ كل صفة محمودة كالشجاعة وسط بين طرفين: الإفراط والتفريط، والمراد: خيار عدول عندهم العلم والعمل. إِيمانَكُمْ: صلاتهم فإنها مسببة عن الإيمان.
عَقِبَيْهِ العقب: مؤخر القدم، والمراد يرتد عن الإسلام.
المناسبة:
لا يزال القرآن يتعرض في هذه الآيات لما كان عليه اليهود- وإن شاركهم فيه غيرهم من المشركين- من إنكار تحويل القبلة والنسخ وغيرهما.
80
وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلى وهو بمكة متجها إلى الكعبة، ثم لما هاجر أمر بتحويل القبلة إلى صخرة بيت المقدس تألفا لليهود وقد فرحوا بذلك.
وظل النبي صلّى الله عليه وسلّم كذلك بضعة عشر شهرا إلا أنه كان كثيرا ما ينظر إلى السماء ويدعو الله أن يتوجه إلى قبلة أبيه إبراهيم وهي الكعبة، فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق، وكان أول صلاة صلاها هي العصر كما في الصحيحين.
المعنى:
علم الله- سبحانه وتعالى- ما سيكون عند تحويل القبلة من اضطراب بعض الناس اضطرابا قد يودى بإيمانهم، وعلم ما سيقوله سفهاء الناس فأخذ يمهد تمهيدا دقيقا لتحويل القبلة حتى لا يفاجأ المسلمون بالتحويل واضطراب الناس وإنكارهم، ولذا لقنهم الحجة، ووضح لهم الطريق ثم بعد هذا أمرهم بالتحويل.
سيقول ضعفاء العقول والإيمان من اليهود والمنافقين والمشركين: أى شيء صرف المسلمين عن قبلتهم التي كانوا ثابتين عليها؟ فقد ساء اليهود انتقال القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وأما المشركون فقصدهم الطعن في الدين وبيان أن التوجه في الحالين وقع بغير داع، وأما المنافقون فهذا شأنهم من الدين وديدنهم.
فيرد الله عليهم: قل لهم يا محمد: لله تعالى ناحيتا المشرق والمغرب، فالجهات كلها ملكه فلا اختصاص لناحية دون أخرى، ولا مزية لها، وإنما الأمر بيده يختار ما يشاء، فأينما تولوا فثم وجه الله لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يهدى من يشاء إلى الصراط المستقيم، ولقد هدى المؤمنين حقا إلى ذلك حيث أمرهم بالتوجه إلى بيت المقدس ثم رجع إلى الكعبة، فامتثلوا أمره لأنهم على علم بأن المصلحة فيما أمر والخير فيما وجه.
ومثل هذه الهداية والتوفيق إلى الصراط المستقيم جعلناكم أيتها الأمة المحمدية وسطا عدولا بلا إفراط ولا تفريط في أى شيء من شئون الدين والدنيا، فالأمة الإسلامية وسط في عقائدها العامة تحافظ على المادة والروح، وتنمى هذا وذاك وهي وسط في معاملتها للفرد وللجماعة فلا تجعل الفرد يطغى على الجماعة باستبداده ولا تلغى شخصية
81
الفرد في الجماعة، ولقد صدق الله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «١» وذلك لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا، ولتكونوا شهداء على الأمم يوم القيامة، ويكون الرسول عليكم شهيدا.
روى أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء- عليهم السلام- لهم، فيطالبهم الله تعالى بالبينة- وهو أعلم بكل شيء- إقامة للحجة على الجاحدين المنكرين، فتقول الأنبياء: أمة محمد تشهد بذلك، فيؤتى بأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فيشهدون للأنبياء فتقول الأمم لهم: من أين عرفتم ذلك؟
فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله- تعالى- في كتابه الناطق، على لسان رسوله الصادق، فيؤتى عند ذلك بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم ويسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد لهم وذلك قوله تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.
وما جعلنا القبلة التي تحبها والجهة التي كنت عليها بمكة (يعنى: وما رددناك إليها) إلا امتحانا وابتلاء ليظهر ما علمناه، ويتبين في الواقع الثابت على الإسلام الصادق فيه ممن هو على حرف ينكص على عقبيه فيرتد، حتى يجازى كل على عمله.
وإنما شرعنا لك التوجه إلى بيت المقدس ثم إلى الكعبة ليظهر حال المؤمنين والمنافقين.
وإن كانت هذه الفعلة لشديدة على نفوس الناس إلا على الذين هداهم الله ووفقهم فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة الآيتان ١٢٤ و ١٢٥].
وروى أنه لما غيرت القبلة أخذ المرجفون يقولون: ما حال المسلمين الذين ماتوا قبل التحويل؟ وكيف نحكم على صلاتهم وإيمانهم؟ ولقد سأل بعض المسلمين عن أقاربهم الذين ماتوا ليطمئنوا فأجابهم: وما كان الله ليضيع إيمانكم وثباتكم على الإسلام، وبالتالى لا يضيع صلاتكم وعبادتكم. إن الله بالناس لرءوف رحيم.
(١) سورة آل عمران آية رقم ١١٠.
82
تحويل القبلة [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٤ الى ١٤٧]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)
المفردات:
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ: تردده طلبا للوحى والتجاء إلى الله.
فَلَنُوَلِّيَنَّكَ: فلنوجهنك جهتها. فَوَلِّ وَجْهَكَ: فوجه وجهك. شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ: جهته. الْمُمْتَرِينَ: الشاكّين.
المعنى:
كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتشوق لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لأنها قبلة أبيه
83
إبراهيم، والأمة المسلمة هي الوارثة لإبراهيم وإسماعيل ولعهد الله معهما، فطبيعى أن ترث بيت الله في مكة، وأن تتخذ منه قبلة لأنه بيت الله وتراث إبراهيم، وبناؤه مع إسماعيل، لأنها أدعى إلى إيمان العرب المعول عليهم في الرسالة، وتطلعه إلى ما يظنه خيرا، ويعتقد أن فيه الرضا والرضوان، ولذلك أجابه الله إلى طلبه وقال: فلنوجهنك قبلة ترضاها وتحبها لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يحب إلا الخير.
وقد قرن الله الوعد بالأمر للإشارة إلى أن ما يرجوه النبي صلّى الله عليه وسلّم هو ما تتطلبه الحكمة الإلهية فقال: فول وجهك وجهة المسجد الحرام فالواجب استقبال جهة الكعبة حقيقة في القرب وظنا في البعد.
ثم أمر المؤمنين عامة فقال: فحيثما كنتم فولوا وجوهكم جهته، وكان يكفى الأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أمره أمر لأمته إلا إذا خصص. ولكن أمر المؤمنين أيضا للتأكيد الذي اقتضته الحال في حادثة القبلة، فإنها حادثة كبرى استتبعت فتنة عظمى كان لها أثر كبير، ولتشتد قلوبهم، وتطمئن نفوسهم فيضربون بأقوال المنكرين عرض الحائط.
ثم رجع القرآن لمناقشة أهل الكتاب ممن اشترك في هذه الفتن فقال: وإن اليهود والنصارى الذين أوتوا التوراة والإنجيل ليعلمون علما أكيدا أن هذا التحويل هو الحق الثابت لأنه في كتابهم، ولكنهم دأبوا على إنكار الحق، وترويج الباطل، وما الله بغافل عن أعمالهم بل مجازيهم عليها.
ولقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم حريصا على إيمان أهل الكتاب لأن كلامهم مصدق عند العوام، فكان يود لو تزال كل شبهة عندهم حتى يؤمنوا، ولذا يقول الله تهدئة لخاطره وتسلية له: إنهم قوم منكرون معاندون فلا تنفعهم الآيات، ولا تزيل شبههم الحجج الواضحات، تالله لئن أتيتهم بكل آية رجاء أن تقنعهم باتباع قبلتك ما اقتنعوا، ولا اتبعوك، ولست أنت تابعا لقبلتهم، قطعا لطمعهم في أن يعود النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس، فإنهم كانوا يمنون أنفسهم برجوع النبي إليه، وكيف يرجى منهم اتباع قبلتك؟ وليست لهم قبلة واحدة فعيسى كانت قبلته مع موسى ولكن بعد موته وتحريف الإنجيل اتخذوا قبلة أخرى.
ثم هدد الله نبيه الكريم ورسوله الأمين بهذا التهديد حتى تعرف أمته خطر مخالفة كلام الله، واتباع أهواء الناس وممالأتهم على حساب الدين.
84
فقال: ولئن اتبعت يا محمد أهواء أهل الكتاب بعد ما ظهر لك الحق واضحا وعرفت الخير والشر إنك إذن لمن الظالمين لأنفسهم المستحقين العقاب في الدنيا والآخرة، وكيف تتبع هؤلاء؟ وهم يعرفون الحق كمعرفتهم أبناءهم أو أشد، وإن فريقا منهم ليكتمونه.. الحق من ربك، فما أنت عليه هو الحق، فلا تكن من الممترين.
حول تحويل القبلة [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٨ الى ١٥٢]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢)
85
المفردات:
سْتَبِقُوا
: تسابقوا. الْحِكْمَةَ: العلم النافع مع العمل.
كل هذا تأييد للدعوى وبطلان لكلام المنكرين.
المعنى:
لكل فريق من الأمم قبلة هو موليها وجهه، فلليهود قبلة، وللنصارى قبلة، وللمسلمين قبلة، فلم تكن جهة من الجهات قبلة لكل الأمم، وليست القبلة ركنا من أركان الدين، وليست مهمة لهذه الدرجة، وإنما المهم أن تتسابقوا إلى الخيرات حتى تحرزوا قصب السبق، لا أن تجادلوا وتعترضوا على تحويل القبلة، والله- سبحانه- يستوي عنده كل مكان فأينما تكونوا يأت بكم الله جميعا يوم القيامة فيحاسبكم على أعمالكم، والله على كل شيء قدير وفي هذا تهديد للمنكرين.
ثم أعاد الله- سبحانه- الأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بتولية وجهه جهة المسجد الحرام مرة ثانية. ثم أعاده مرة ثالثة، وليس في هذا تكرير، بل تأكيد للأمر بتحويل القبلة في صور مختلفة ليعلم أن التوجه إلى الكعبة ليس خاصا بوقت دون وقت وبمكان دون مكان في الحضر أو السفر، ولقد بنى القرآن على كل أمر ما يناسبه. فمع الأول أثبت أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أنه الحق، ومع الثاني بين أنه الحق الثابت من عند الله، ومع الأمر الثالث الحكمة في تحويل القبلة.
الحكمة الأولى: لئلا يكون للناس على الله حجة، فأهل الكتاب يعرفون أن النبي المبشّر به عندهم قبلته الكعبة فجعل القبلة إلى بيت المقدس دائما طعن في نبوته، والمشركون من العرب كانوا يرون أن نبيا من ولد إبراهيم- عليه السلام- جاء لإحياء ملته لا ينبغي له أن يستقبل غير بيت ربه الذي بناه جده إبراهيم، فقد جاء التحويل موافقا لما يرونه، فانتفت حجة الفريقين.
إلا الذين ظلموا أنفسهم فهم لا يهتدون بكتاب، ولا يؤمنون بحجة، ولا يعتدّون ببرهان لأنهم السفهاء فلا تخشوهم واخشون، وتشير الآية إلى أن صاحب الحق هو الذي يخشى وغيره يجب ألا ينظر إليه.
ثم ذكر- سبحانه- الحكمة الثانية في تحويل القبلة: ولأتم نعمتي عليكم إذ لا شك أن محمد بن عبد الله نبي عربي من ولد إبراهيم، والكتاب المنزل عليه عربي، وقد ظهر
86
في العرب، وهم أهله وعشيرته، وكانوا إذا آمنوا يحبون أن تكون وجهتهم الكعبة، وأن يحيوا سنة إبراهيم الخليل في تقديس الكعبة لأنها معبدهم وموطن عزهم وفخارهم، إذن التحويل نعمة تامة من الله لهم، وليتم نعمته عليكم ويهديكم صراطا مستقيما. ومع هذا فقد محص الله بها المؤمنين وظهر الثابت على الإيمان من المنافق.
الحكمة الثالثة: وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي: وليعدكم بذلك إلى الاهتداء والثبات على الحق وعدم المعارضة فيه.
أتم نعمته عليكم باستيلائكم على بيته الذي جعله قبلة لكم، كما أتمها عليكم بإرسال رسول منكم يتلو عليكم القرآن بلسان عربي مبين، ويطهركم من كل دنس ورجس وعبادة صنم، ويعلمكم ما به تسمو نفوسكم وتزكو من أشرف العلوم وأسناها، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من الإخبار بالمغيبات والقصص الذي لا يخلو من عبر وعظات، فاذكروني يا أمة الإجابة بالامتثال والعمل الصالح، والاقتداء بالرسل أجزكم على هذا، وأذكركم عندي بالثواب والجزاء وأفاخر بكم الملائكة، واشكروا نعمتي التي أنعمتها عليكم، ولا تكفروا بها فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، وسيجازيكم عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
الصابرون والمقاتلون في سبيل الله [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٣ الى ١٥٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)
87
المفردات:
الصَّلاةِ في اللغة: الدعاء، وهي من الملائكة الاستغفار، ومن الله الرحمة.
بِالصَّبْرِ الصبر: حبس النفس على ما تكره. لَنَبْلُوَنَّكُمْ: لنمتحننكم، أى:
نصيبنكم إصابة من يختبر أحوالكم. نقص الْأَنْفُسِ: موتها. نقص الثَّمَراتِ: قلّتها، وقيل موت الأولاد.
المعنى:
علم الله ما سيلاقيه المؤمنون في دعوتهم من الشدائد وما يصادفهم في أمور دينهم من أقوال السفهاء وافتراء أهل الكتاب كما حصل في تحويل القبلة وغيره وسيؤدي هذا إلى القتال حتما، ولا دواء لكل هذا إلا استعانة بالصبر والصلاة وتربية النفوس على تحمل المكروه في سبيل الله، ولقاء الكبير المتعال في كل صباح ومساء، أما الاستعانة بالصلاة فلا تحتاج إلى تعليل وبيان لأنها أم العبادات، وفيها لقاء المؤمن بربه لقاء يقوى روحه ويشد من أزره، ويضاعف من قوته، ومن هنا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا حزبه- اشتد به- أمر همّ إلى الصلاة، وهي عند المؤمنين في المحل الأعلى:
«جعلت قرّة عيني في الصّلاة»
وأما الاستعانة بالصبر فلأن الله- سبحانه- أكد بأنه يكون مع الصابرين، وناهيك بمعيته- سبحانه- إذ المراد منها الولاية والنصرة وإجابة الدعوة وكفاهم فخرا أنهم متبعون في هذا.
يا أيها الذين آمنوا: استعينوا بالصبر، وثقوا تماما بأن عاقبته خير إذ غايته الاستشهاد في سبيل الله، وما هم أولاء الشهداء؟ ليسوا كغيرهم أمواتا بل هم أحياء في قبورهم حياة ويرزقون رزقا على كيفية الله أعلم بها، فنحن لا نشعر بذلك لأنها حياة لا تدرك بالمشاعر ولكنها حياة حدثنا عنها الدين فيجب أن نؤمن بها.
وليصيبنكم أيها المؤمنون بشيء قليل من الخوف والجوع والنقص في الأموال بضياعها، وفي الأنفس بموتها، وفي الثمرات بقلتها أو بموت الأولاد، اختبر الله بهذا لتهدأ قلوب المؤمنين وتسكن، مستسلمين إلى الله راضين بقضائه وقدره إذا ما أصابهم شيء من ذلك في الدنيا محتسبين الأجر عند الله قائلين: إنا ملك لله وإنا إليه راجعون.
البشرى والنجاح لهذا الصنف من الناس فإنهم الصابرون. وإنما يوفى الصابرون
88
أجرهم بغير حساب، أولئك تنزل عليهم المغفرة والرحمة ممن رباهم وتولى أمورهم، وأولئك هم المهتدون إلى الأفعال النافعة.
والأحاديث في الصبر والاسترجاع عند المصيبة كثيرة، منها
حديث أم سلمة «لا تصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم أجرنى على مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا فعل ذلك به»
وما
يروى عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «قال الله: يا ملك الموت، قبضت ولد عبدى؟ قبضت قرّة عينه وثمرة فؤاده؟ قال:
نعم قال: فما قال؟ قال: حمداك واسترجع، قال: ابنوا له بيتا في الجنّة وسمّوه بيت الحمد»
.
وما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حينما مات إبراهيم: «إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون»
فهذا هو نظام الدين إذا أصاب المسلم شيء يستسلم لقضاء ربه ويرضى بحكمه ويسترجع عند المصيبة، وعلى العموم لا يقول إلا ما يرضى ربه.
بعض شعائر الحج وجزاء من يكتم آيات الله [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٨ الى ١٦٢]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)
89
المفردات:
الصَّفا وَالْمَرْوَةَ: جبلان بمكة. شَعائِرِ اللَّهِ: جمع شعيرة، وهي العلامة، والمراد بشعائر الله هنا: مناسك الحج. حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ الحج في اللغة: القصد، وفي الشرع: قصد مكة للنسك. وَالْعُمْرَةَ: الزيارة، واعتمر:
زار، وفي عرف الشارع هي كالحج لكن ليس فيها وقوف بعرفة وليس لها زمان محدود.
فَلا جُناحَ: فلا إثم. تَطَوَّعَ: فعل الطاعة فرضا أو نفلا. يُنْظَرُونَ:
من الإنظار وهو الإمهال.
المناسبة:
قد تكلم القرآن الكريم عن معاندة أهل الكتاب والمشركين في تحويل القبلة وما ترتب على ذلك من ذكر القتال والصبر وجزائه.
ومن الحكمة في تحويل القبلة توجيه أنظار المسلمين إلى مكة قلب الجزيرة، فناسب هنا ذكر بعض شعائر الحج وهي السعى بين الصفا والمروة: إلهابا لهم وتذكيرا بمكة.
سبب النزول:
روى البخاري عن عاصم بن سليمان: سألت أنسا عن الصفا والمروة؟ قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية- لأنه كان عليهما صنمان (أساف ونائلة) وكان الجاهليون يمسحون عليهما- فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فنزل قول الله- عز وجل-:
إن الصفا... إلخ.
المعنى:
إن السعى بين الصفا والمروة من مناسك الحج والعمرة ومن أعمالهما، فمن قصد البيت للحج أو للعمرة فلا إثم عليه أن يطوف بهما، أى: يسعى بينهما، ونفى الإثم والحرج يشمل الواجب والمندوب، ومن تطوع بعمل خير لم يجب عليه من طواف أو غيره شكره الله بالجزاء على فعله إذ هو عليم بكل فعل يصدر من العبد.
ثم رجع إلى اليهود فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وقد نزلت في علماء اليهود وأحبارهم.
90
إن الذين يخفون ما أنزل الله بكتمه على الناس مع شدة الحاجة إليه، أو وضع شيء مكذوب من عندهم مكانه فجزاؤهم الطرد من رحمة الله، وغضب الله عليهم، فاليهود قد كتموا الآيات الواضحات الدالة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم والآيات الهاديات إلى حقيقة أمره ووجوب اتباعه والإيمان به، كل ذلك من بعد ما بينها المولى- جل شأنه- ووضحها في التوراة ماذا يكون جزاؤهم؟ أليس هو الطرد من رحمة الله؟ ودعاء الملائكة أجمعين عليهم إلا من تاب منهم ورجع عن كتمان كلام الله، وأصلح ما أفسده بأن أزال ما وضعه من عنده، وكتب الأصل وبلّغ ما أنزل الله من غير تحريف ولا تبديل، فأولئك البعيدون في درجة الكمال بتوبتهم وإيمانهم يتوب الله عليهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم لأنه هو التواب الرحيم.
هذا شأن من تاب وأناب، ومن عاند وظل يغير ويحرف حتى مات!! فأولئك الذين كفروا بالله ورسله وماتوا على الكفر، أولئك عليهم لعنة الله وحقت عليهم كلمته وعليهم لعنة الملائكة والناس أجمعين خالدين في النار وماكثين مكثا الله أعلم به، لا يخفف عنهم من عذابها، ولا يمهلون.
ما تشير إليه الآية:
الإجماع منعقد على أن السعى بين الصفا والمروة من أعمال الحج والعمرة، والخلاف في حكمة فعن أحمد أنه سنة، وعن أبى حنيفة أنه واجب يجبر بدم، وعن مالك والشافعى أنه ركن
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اسعوا فإنّ الله كتب عليكم السّعى» «١».
آية كتمان ما أنزله الله نزلت في اليهود، ولكن العبرة بعموم اللفظ، فمن كتم حكما شرعيا أو علما نافعا أو رأيا ناضجا خالصا لوجه الله والوطن دخل تحت طائلة هذا العقاب.
(١) رواه أحمد ٦/ ٤٢١ والشافعى وغيرهما وللحديث طريقة أخرى عند ابن خذيمة إذا انضمت إلى الأولى قويت قاله ابن حجر في الفتح ٣/ ٥٨٢. [.....]
91
إثبات وحدانية الله ورحمته ونفى الشركاء عنه [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٣ الى ١٦٧]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)
المفردات:
بَثَّ: نشر وفرق، ويقال: بث الخبر: نشره وأذاعه. دَابَّةٍ الدابة:
ما دب من الحيوان على الأرض، وغلب على ما يركب ويحمل عليه. وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ: توجيهها إلى الجهات المطلوبة. الْمُسَخَّرِ: المذلل. أَنْداداً:
92
جمع ند، وهو النظير المخالف. يُحِبُّونَهُمْ: يعظمونهم كما يفعل المحب.
الْأَسْبابُ: الصّلات والعلاقات. كَرَّةً: رجعة. حَسَراتٍ:
ندامات.
المعنى:
بعد ما نعى القرآن على الكفار كفرهم، وعلى من كتموا الآيات كتمانهم، وأنهم ملعونون من الله والناس، وأراد أن يعالج الداء الذي يدفعهم إلى استمرار كفرهم، بإثبات الوحدانية لله بالدليل، وأنه رؤوف رحيم، وأن من الخير الالتجاء إلى الله وحده فقال:
وإلهكم- الذي يجب أن يعبد وحده، ولا يشرك به شيء- إله واحد، لا معبود بحق في الوجود إلا هو، الرحمن الرحيم بخلقه، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، وكيف لا؟ وهو الذي خلق السموات وما فيها من عوالم وأفلاك كل يجرى إلى أجل مسمى في مداره، ومع هذا نظمت تنظيما دقيقا بقدرته وعظمته: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ... [سورة يس الآيتان ٣٧ و ٣٨].
وهناك الأرض وما بها من عوالم الحيوان والنبات والمعادن والأنهار تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز الحكيم، أفلا يدل هذا على صانع منفرد بالوحدانية؟ إذ لو كان له شركاء لاختلّ النظام وتبدل الحال ولاستحالت الحياة، أما دلالة هذه العوالم على رحمته فأمر ظاهر بيّن.
واختلاف الليل والنهار وطولهما وقصرهما وحرارتهما وبرودتهما واختلاف الفصول بسبب خطوط العرض والطول كل ذلك يدل على الواحد الرحمن الرحيم.
وهذه السفن الشراعية والبخارية التي تجرى على الماء وقد ذلل لها، لا بد لفهم كون الفلك دليلا على الوحدانية من فهم طبيعة الماء وطبيعة قانون الثقل في الأجسام، وطبيعة الهواء والبخار والكهرباء، كل ذلك يجرى بسنن إلهية مطردة تدل على أنها صادرة من قوة واحدة هي قوة الإله الواحد الرحمن الرحيم.
93
والمطر وما أدراك؟؟!! الذي يحيى الأرض بعد موتها، وانظر كيف يخرج من البحار والأنهار بخارا يتكاثف ويتجمع فيكون سحبا تثقل شيئا فشيئا ثم تسيرها الرياح حيث يشاء الله، ثم يسقط مطرا، أفلا يدل هذا على الواحد الأحد الفرد الصمد الرحمن الرحيم؟!! ومن آثار الماء النازل من السماء مطرا أن نشر في الأرض كل دابة: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء آية ٢١].
وانظر إلى قدرة الله ووحدانيته التي تفردت بتصريف الرياح وتدبيرها وتوجيهها على حسب الإرادة، فمرة من الشمال وأخرى من الجنوب وتارة حارة وأخرى باردة، فسبحان الله الواحد الرحمن الرحيم لا إله إلا هو!! وانظر إلى السحاب المذلل بين السماء والأرض كيف تكوّن وتجمّع؟ ثم تفرق بنزوله مطرا وتبدّد في الجهات التي أرادها له خالقه.
من الذي خلق هذا وأودع السر في هذه كلها؟؟ إن في ذلك لآيات دالات على الوحدانية والرحمة بالعباد، ولكنها آيات لقوم يعقلون.
ثم يذكر الله- تعالى- حال المشركين به في الدنيا وعاقبتهم في الآخرة، حيث جعلوا لله أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه! وهو الله لا إله إلا هو، لا ندّ له، ولا شريك معه، والذين آمنوا بالله ورسله أكثر حبا لله منهم، فتمام معرفتهم وحبهم وتعظيمهم له- سبحانه- أنهم لا يشركون به شيئا، بل يعبدونه وحده ويلجئون إليه في جميع أمورهم: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أما غيرهم فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله- سبحانه- مخلصين، وإذا ما نزلوا على الأرض اتجهوا إلى آلهتهم وقالوا:
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فهم في الشدة مع الله وفي الرخاء يسوون به غيره، فإذن هم يحبون آلهتهم كحب الله، والذين آمنوا لا يحبون إلا هو، فهم أشد حبا لله.
ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم باتخاذهم الأنداد وإشراكهم بالله وقت صب العذاب عليهم صبا لعلموا حينئذ أن القوة لله وحده، وله الحكم لا شريك له. وأن الكل تحت قدرته ومن بينها الأصنام والأنداد، ورأوا أن الله شديد العذاب فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ [الفجر: ٢٥ و ٢٦] لو علموا هذا لانتهوا عما هم فيه.
94
ولو يرى الذين ظلموا وقت أن يتبرأ المتبوعون كالملائكة والجن من الذين اتبعوا وعبدوا غير الله فيتبرأ كل معبود ممن عبده، والحال أنهم رأوا العذاب، وتقطعت بهم الصلات والأنساب بل وقال الذين اتبعوا: نتمنى أن تكون لنا رجعة إلى الدنيا فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا وتركونا في الشدة، مثل ذلك رأوه رأى العين من العذاب يريهم الله جزاء أعمالهم حسرات عليهم وندامات وما هم بخارجين من النار أبدا!!
العلاج الناجع [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٨ الى ١٧٣]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)
95
المفردات:
طَيِّباً: طاهرا من كل شبهة. خُطُواتِ الشَّيْطانِ يقال: اتبع خطواته:
إذا استن سنته وسار على طريقته. بِالسُّوءِ: السيّئ القبيح. الْفَحْشاءِ ما تجاوز الحد في القبح مما ينكره العقل ويستقبحه الشرع. ما أَلْفَيْنا: ما وجدنا.
يَنْعِقُ: يصوت على غنمه ويدعوها. الْمَيْتَةَ: ما ماتت من غير ذبح شرعي سواء أكانت موقوذة أو متردية أو نطيحة أكلها السبع. وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ:
الإهلال: الصراخ ورفع الصوت، والمراد: ما ذكر عليه اسم غير اسمه تعالى. غَيْرَ باغٍ: غير طالب للمحرم ذاته، وقيل: هو الخارج على المسلمين. وَلا عادٍ:
غير متجاوز قدر الضرورة، وقيل: المعتدى على المسلمين بقطع الطريق.
المعنى:
بعد ما سجل عليهم اتخاذ الأنداد والشركاء وأن المتبوع يتبرأ من التابع يوم يرى العذاب، ناداهم: يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا أحله الله لكم طيبا لا شبهة فيه ولا إثم ولا يعلق به حق للغير مهما كان، واصرفوا نظركم عن ذلك المال الذي يأتيكم عن طريق الدين وتأخذونه من الأتباع فهو حرام خبيث لا يحل أكله.
وفي هذا إشارة إلى أن أكثر رجال الدين من أهل الكتاب لم يؤمنوا خوفا على الدنيا وأعراضها الفانية: من الرياسة الكاذبة والمال الزائل الحقير وإلى أن ما للأكل من أثر في توجيه النفس واتباع الشيطان.
وإياكم والشيطان الذي يوسوس لكم ويزين الشر إنه لكم- كما كان لأبيكم آدم- عدو ظاهر العداوة فلا تتبعوه وخالفوه إنه لا يأمر بالخير أصلا ولا يأمر إلا بالقبيح وكل ما ينكره الشرع ويأباه الطبع السليم والعقل الراجح، فها هي ذي أعمال الشيطان وأماراته فاحذروه ولا تتبعوه.
غنى النفس ما استغنيت عنه وفقر النفس ما عمرت شقاء
وخالف النفس والشيطان واعصهما وإن هما محّضاك النصح فاتّهم
والشيطان يأمركم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون من أمور الدين.
ولكن حكم القرآن على المشركين وبعض اليهود أنه إذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله
96
على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم فهو خير لكم وأجدى قالوا: لا، إنما نحن نتبع آباءنا وهم أعقل وأدرى بالدين. عجبا أيتبعون آباءهم ولو كانوا لا يعقلون شيئا من أمور الدين بل يتخبطون تخبط الأعمى ولا يهتدون إلى الصواب.
ومثل داعي الذين كفروا إلى الإسلام كمثل الذي يدعو سوائمه، فكل من الكفار والبهائم لا يعي شيئا مما يسمع، وإنما يشعر بجرس اللفظ ورنينه فقط، لأن الكفار قد ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، فليس عندهم استعداد للخير أبدا. والبهائم لا عقل لها تعى به.
ما يؤخذ من الآية:
١- لا يحل لمسلم أن يأخذ ما لا يتعلق به حق الغير أو يأخذه بغير وجه شرعي.
٢- يجب على المسلم أن يخالف الشيطان فإنه داع للشر والسوء والفحشاء.
٣- لا يصح للمسلم أن يقلد غيره تقليد الأعمى بل ينظر على قدر طاقته وقوته في أمور دينه.
ما تقدم من أول السورة يتعلق بالقرآن ومؤيديه ومعارضيه ومن هنا إلى أواخر الجزء الثاني في الأحكام الفرعية التي تعنى بتكوين الفرد المسلم والمجتمع الإسلامى.
يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان، كلوا مما رزقناكم أكلا طيبا ما دمتم غير معتدين على أحد، فكل شيء حلال لكم، واشكروا الله- سبحانه- خالق هذه النعم.
هذا هو نظام الإسلام، قد جعلنا أمة وسطا تعنى بالجسم، فنأكل ما نشاء حلالا طيبا بلا إسراف ولا تقتير لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما رزقناكم (الآية: ٨٧ من سورة المائدة). وتعنى بالروح، فنغذيها بالشكر لله صاحب تلك النعم، فقد أباح الله لكم ثمرات الأرض وطيباتها إلا ما حرم.
وما حرم عليكم إلا الميتة فإنه بقي فيها دمها وقد يكون ملوثا بالأمراض كما هو الغالب، وحرم الدم المسفوح فإن النفوس الطيبة تأباه مع تلوثه بالجراثيم، وكذلك لحم الخنزير فإنه حيوان قذر لا يأكل إلا من القاذورات والنجاسات، والطب يؤيد خطره على الصحة، وما ذكر عليه غير اسمه- تعالى- عند الذبح فإنهم يذبحون في الجاهلية
97
للأصنام ويقولون عند ذبحها: «باسم اللات والعزى»، ثم يضاف إلى هذا ما حرم في سورة المائدة، وكله محرم شرعا وذوقا وطبا لمصلحتنا، إلا من اضطر إلى أكل شيء من ذلك بأن لم يجد ما يبقى به رمقه فله أن يأكل ولا إثم عليه، بشرط ألا يكون طالبا المحرم لذاته، ولا باغيا، ولا متجاوزا الحد في سد جوعه فيأكل بقدر الضرورة فقط وبعض المفسرين على أنه يشترط فيه ألا يكون خارجا على المسلمين، ولا قاطع طريق لأن هذه رخصة لا تعطى للمعتدين فإذا نظرنا إلى أنه قد يهلك بسبب حرمانه تجاوزنا عن ذلك، والله غفور للزلة رحيم بعباده.
ما يستنبط من الآية:
كل ما في الأرض والبحر والجو من نبات وحيوان وسمك وطير حلال لنا إلا ما ذكر من المحرمات هنا وفي سورة المائدة وما نص عليه في كتب الفقه الإسلامى.
وللمضطر أن يأكل مما حرم قدر الضرورة.
موقف أهل الكتاب من القرآن والنبي [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٤ الى ١٧٦]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)
98
المفردات:
يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا: يبيعونه بثمن قليل. يُزَكِّيهِمْ: يطهرهم.
شِقاقٍ الشقاق: المخالفة.
هذا موقف آخر لأهل الكتاب وأحبارهم بالنسبة للقرآن والنبي، وما قبله كان الكلام عليهم وعلى المشركين حيث حرموا بعض الحلال، وابتدعوا في الدين رهبانية وتقشفا.
المعنى:
إن الذين يكتمون ما أنزل الله- الكتاب المنزل عليهم من وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان زمانه وغير ذلك مما يشهد بصدق نبوته وكمال رسالته، فعلوا هذا حرصا على رئاسة كاذبة وعرض زائل- تراهم باعوا الخير والهدى بثمن بخس قليل لا ينفع، أولئك البعيدون في الضلال لا يأكلون في بطونهم إلّا ما هو موجب لدخول النار. ومن شدة غضب الله عليهم أنه لا يكلمهم يوم القيامة، ولا يثنى عليهم بالخير كما يفعل مع أهل الجنة، وللكافرين عذاب شديد مؤلم في الدنيا والآخرة.
ثم أشار إليهم مرة ثانية دليلا على تمكنهم في الضلال فقد استبدلوا الضلالة بالهدى واستحقوا العذاب بدل المغفرة، فعجبا لهم وأى عجب لصبرهم على تعاطى موجبات دخول النار من غير مبالاة منهم!! ذلك العذاب الشديد الذي لحق بهم لأن الله نزل الكتاب بالحق، وأن الذين اختلفوا في كتب الله فقالوا: بعضهم حق وبعضهم باطل لفي خلاف بعيد عن الحق.
99
حقيقة البر [سورة البقرة (٢) : آية ١٧٧]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)
المفردات:
الْبِرَّ: اسم جامع للخير ولكل فعل مرض. الْيَتامى اليتيم: من لا والد له وهو محتاج. الْمَساكِينَ: صنف من الفقراء المحتاجين الذين سكنت نفوسهم للرضا بالقليل، فالمسكين له مال لا يكفيه، وأما الفقير فلا مال له فيعطى من باب أولى. ابْنَ السَّبِيلِ: ابن الطريق، وهو المسافر المحتاج. وَفِي الرِّقابِ:
أنفق المال في فك الرقاب من قيد الرق. الْبَأْساءِ من البؤس: وهو شدة الفقر.
الضَّرَّاءِ: ما يضر الإنسان من مرض أو فقد محبوب. حِينَ الْبَأْسِ: وقت شدة القتال.
المعنى:
كثر الكلام والجدال حول تحويل القبلة من أهل الأديان، حتى شغل المسلمون بها، وغلا كل فريق في التمسك بقبلته، فأراد الله- سبحانه وتعالى- أن يبين للناس كافة أن
100
مجرد تولية الوجه قبلة مخصوصة ليس هو البر المقصود، وإنما البر شيء آخر ليس في تولية الوجه جهة المشرق والمغرب، إنما هو إيمان بالله ورسوله إيمانا قلبيا صادقا كاملا مقرونا بالعمل، إيمان تطمئن به القلوب وتهدأ به النفوس، إيمان يحول بين النفس ودواعي الشر ومزالق الشيطان، فإذا وقع في المحرم سارع إلى التوبة الصادقة.
فالبر: الإيمان الكامل بالله واليوم الآخر على أنه محل للجزاء والثواب، فيكون هذا أدعى للقرب من الرحمن والبعد عن الشيطان، والإيمان بالملائكة على أنهم خلق من خلق الله سفراء بينه وبين رسله حملة الوحى وسدنة العرش، دأبهم الطاعة، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
والإيمان بالكتاب المنزل سواء كان زبورا أو توراة أو إنجيلا أو قرآنا يؤمن بما فيه كله لا يؤمن بالبعض ويكفر بالبعض كما يفعل أهل الكتاب.
والإيمان بالنبيين جميعا لا فرق بين نبي ونبي.
هذا أساس الاعتقاد الصحيح والإيمان الكامل، ثم لا بد معه من عمل يهذب النفس ويقوى الروح ويربط المجتمع برباط الألفة والمحبة والاتحاد والتعاون، ولقد أشار القرآن الكريم إلى الأمور العملية فيما يأتى:
إيتاء المال المستحق مع حبه له كما قال ابن مسعود: «أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش، وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت: لفلان كذا» نعم إيتاء المال مع حبه ذوى قرباه عصبا أو رحما لأنهم أحق من غيرهم ما داموا محتاجين: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» وآتى اليتامى الذين فقدوا آباءهم ولا عائل لهم إلا الله، وآتى المساكين، والفقراء من باب أولى، وأعطى ابن السبيل الذي انقطع به الطريق حتى كأنه لا أب له ولا أم إلا الطريق، وآتى السائلين الذين يسألون بدون إلحاف مع الحاجة إلى المال: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أما من يتخذ السؤال حرفة ويجمع بسببه المال فلا يعطى، بل إن كان صغيرا أو قادرا على العمل ذكرا كان أو أنثى كان على الحكومة أن توجد له عملا، وبدل أن تعطيه قرشا ويظل فقيرا ساعده على إيجاد عمل له.
ومن البر العملي إنفاق المال في الرقاب الأسيرة بالرق أو الأسيرة بالحرب بأن يعين
101
من يريد الخلاص: بماله أو جاهه، فالدين شغوف جدّا بالحرية الكاملة لكل فرد، ولكل أمة.
ومنه إقامة الصلاة كاملة مقومة تامة الأركان والشروط مع الاستحضار القلبي الذي يبدأ بقولك: الله أكبر، وينتهى بالسلام.
ومنه البر والوفاء بالعهد فإنه من آيات الإيمان، وضده من آيات النفاق كما ورد:
«آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان».
ونهاية الصفات وأعلى درجات البر والإيمان: الصبر: في البأساء والضراء وحين البأس، فالصبر نصف الإيمان، بل الدليل على الإيمان الكامل أن يصبر الإنسان ويحتسب أجره عند الله في الفقر وشدته، والضر وإصابته، وحين القتال وقوته، ولا شك أن هذه هي المواقف التي يظهر فيها الإيمان الكامل.
أولئك الموصوفون بما ذكرهم الصادقون في الإيمان، وأولئك البعيدون في درجة الكمال، هم المتقون عذاب الله الفائزون بثوابه.
حق الله في المال
الله- سبحانه وتعالى- جمع في هذه الآية صورتين للإنفاق: صورة فيها إعطاء لمال محددا معينا على كيفية مخصوصة، وهو ما يعبر عنه بالزكاة المقيدة وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ.
وصورة أخرى وهي إعطاء المال من غير تقييد ولا تحديد بل ترك تقييده وتحديده لحال الأمة، وهو ما عبر عنه: آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى ويسمى بالزكاة المطلقة، وفي هذا إشارة إلى أن المال يتعلق به حق معلوم، وآخر يترك للظروف وما تستدعيه الحال.
أليس هذا علاجا للأزمات النفسية التي بين الفقراء والأغنياء، أليس هو الدواء الناجع لبطر الأغنياء وشحهم بالمال؟ أليس معناه أن هناك حقا في يد الحاكم يفرضه على الأغنياء للفقراء حتى تهدأ نفوسهم وتسكن؟ أليس الدين بهذا قد حل المشكلة من ثلاثة عشر قرنا: المشكلة بين الرأسمالية والشيوعية!!
102
ألا يا قوم والله لا خير إلا في هذا الدين فإنه دواء من حكيم عليم، في الرأسمالية عيوب لا تحصى، وفي الشيوعية عيوب لا تحصى، ولكن الحال الوسط والرأي المعتدل في الجمع بين الناحيتين بلا إفراط ولا تفريط كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران آية ١١٠].
القصاص وأثره [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧٨ الى ١٧٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)
المفردات:
الْقِصاصُ والقود: هو أن يفعل بالجانى مثل ما يفعل بالمجني عليه. فِي الْقَتْلى: بسبب القتلى. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ: فمن عفى له من أخيه وهو ولى الدم شيء من العفو. فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ: فليكن اتباع للجاني بالمعروف من غير شطط. وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ: وتأدية من جهة الجاني إلى المجنى عليه من غير تعب ولا مماطلة.
سبب النزول:
كان بين حيين من العرب نزاع وقتال، وكان أحدهما يتطاول على الآخر فحلف ليقتلن الحر بالعبد والذكر بالأنثى، واحتكموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية.
103
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا فرض عليكم القصاص بسبب القتلى، يقتص من القاتل بمثل ما فعل مع ملاحظة الأوصاف، فيقتل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى وقد بينت السنة أن الذكر يقتل بالأنثى، أما الحر بالعبد ففيه خلاف: فالشافعي ومالك أن الحر لا يقتل بالعبد أخذا بهذه الآية. ويقولون: إنها مفسرة لما أبهم في آية المائدة: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ «١» وعند أبي حنيفة هذه الآية منسوخة بآية المائدة، القصاص ثابت بين العبد والحر والذكر والأنثى بدليل
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» «٢»
والجماعة تقتل بالواحد باتفاق «٣».
ويشترط في القصاص التوافق في الدين فلا يقتل المسلم بالكافر، وهذا الحكم عند ما يحتكمون إلى القاضي، وإلا فلوليّ الدم أن يعفو عن القصاص ويأخذ الدية أو يعفو عنهما معا، بل إذا عفا الولي عن بعض الدم للقاتل، أو عفا بعض الورثة عن القصاص سقط ووجبت الدية، وعندئذ يطالب بها بالمعروف من غير شدة ولا عنف، وعلى القاتل الأداء بالمعروف من غير مماطلة ولا تسويف.
وجواز القصاص والدية والعفو عن كليهما تخفيف من الله لنا ورحمة بنا، فمن اعتدى بعد ذلك بأن يطالب بالقصاص والدية. أو إذا طولب القاتل بالدية ماطل واعتدى. فلمن فعل هذا نوع من العذاب مؤلم غاية الألم.
ولكم في القصاص حياة عظيمة للجماعة، تشيع فيها الطمأنينة والهدوء والسكينة فكل شخص يعرف أنه إذا قتل غيره قتل فيه امتنع عن القتل، فيحيا القاتل والمقتول وهذا القصاص يمنع انتشار الفوضى والظلم في القتل، وهو سبب في منع الجرائم والحزازات، وحدّ للشر وسلّ للسخيمة.
وهذه العبارة أبلغ من قول العربي: (القتل أنفى للقتل) وأدل على المقصود وأظهر في الموضوع، وكل قصاص فيه حياة سامية، والقتل إذا كان فيه عدل كان أنفى للقتل، وإن كان فيه ظلم يكون أدعى للقتل.
(١) سورة المائدة آية ٤٥.
(٢) أخرجه الترمذي وغيره كتاب الوصايا باب لا وصية لوارث رقم ٢١٢٢ وقال حسن صحيح.
(٣) أخرجه البخاري كتاب الوصايا باب الوصايا ص ٢٧٣٨.
104
الوصية [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٠ الى ١٨٢]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)
المفردات:
الْوَصِيَّةُ: أن يوصى من أوشك على الموت ببعض ماله لأقاربه. بَدَّلَهُ:
غيّره. جَنَفاً: ميلا عن الحق والعدل. خَيْراً: المراد: المال الكثير كما فسرته السيدة عائشة.
المعنى:
فرض الله عليكم فيما فرض: إذا أشرف أحدكم على الموت، وقد ترك مالا كثيرا أن يوصى للوالدين والأقارب وصية عادلة، فلا يزيد على ثلث ماله.
ولا يفضل غنيا لغناه، ويعدل في الوصية فلا يميز أصلا إلا لضرورة كعجز عن الكسب أو اشتغال بالعلم، إذ عدم العدل يسبب البغضاء والنزاع بين الورثة، فمن غيّر الوصية بعد ما سمعها وشهد عليها فإنما ذنب هذا التغيير عليه، والله سميع لكل قول عليم بكل فعل، فاحذروا عقابه وارجوا ثوابه، فمن علم من موص ميلا عن الحق خطأ أو عمدا. فله أن يصلح بين الموصى والموصى له أو بين الورثة والموصى لهم بأن يجعل الوصية شرعية عادلة لا ظلم فيها، ولا ذنب عليه في ذلك والله غفور رحيم.
ملاحظة:
هذه الآية منسوخة بآية المواريث
وبقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث»
بقي الأقارب غير الوارثين يستحب أن يوصى لهم من الثلث استئناسا بهذه الآية ولشمولها وتوكيدها،
ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه».
الصيام وفرضه [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٣ الى ١٨٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥)
106
المفردات:
الصِّيامُ في اللغة: الإمساك، وفي عرف الشرع: إمساك عن الأكل والشرب والجماع من الفجر إلى غروب الشمس احتسابا لوجه الله. يُطِيقُونَهُ لا يقال: هو يطيق حمل نواة أو ريشة وإنما هو يطيق حمل قنطارين من الحديد مثلا إذا كان يحملها بمشقة وشدة، فالذين يطيقون الصوم هم الذين يتحملونه بمشقة وجهد، ويؤيد هذا قراءة يطوقونه، وذلك كالكبير المسن والحامل والمرضع والعامل في العمل الشاق الشديد وهو مضطر إليه. لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ: لتعظموه وتشكروه.
المعنى:
الصيام رياضة روحية، وعمل سلبي للنفس، وتهيئة للتقوى بالمراقبة في السر والعلن، وتربية للإرادة، وتعويد للصبر وتحمل المشاق، ولذا قيل: الصوم نصف الصبر، وهو شاق على النفس حقيقة، شديد عليها أن تحرم مما في يدها، ولذا نرى القرآن الكريم يتلطف في الأمر منه.
إذ ناداهم بوصف الإيمان المقتضى للامتثال والمسارعة فيه، ثم قال: إنه فرض عليكم كما فرض على الذين من قبلكم من الأمم، فاقبلوه كما قبله غيركم، ثم هو مطهرة للنفس ومرضاة للرب فرضه عليكم لعلكم به تتقون الله، وهو أيام معدودات قلائل في العام شهر واحد:
«لو علمت أمتى ما في رمضان من الخير لتمنت أن يكون السنة كلها» «١».
وليس واجبا إلا على القادر والمستطيع الصحيح، وأما المسافر والمريض فلا حرج عليهما في الفطر لأن المرض والسفر مشقة والمشقة تجلب التيسير، وعليهما القضاء، ولم يحدد القرآن السفر ولا المرض لأن هذا يختلف باختلاف الأحوال، ولو علم الله خيرا في التحديد لحدد، ولكنه متروك لضميره ودينه.
وقيل: السفر الذي يصح فيه الفطر وقصر الصلاة قدر بحوالى ثمانين كيلو مترا.
ومن يتحمل الصوم بمشقة شديدة كالشيخ المسن والمريض مرضا مزمنا لهما الفطر وعليهما الفدية، وهي طعام المسكين يوما من القوت الغالب الشائع في البلد، والحامل
(١) أخرجه أبو يعلى والطبراني وغيرهما مجمع الزوائد ٣/ ١٤١.
107
والمرضع إن خافتا على أولادهما فقط لهما الفطر، وعليهما القضاء والفدية، وإن خافتا على أنفسهما ولو مع أولادهما لهما الفطر، وعليهما الفدية أو القضاء.
فمن تطوع وأطعم أكثر من مسكين لليوم الواحد فهو خير له وأحسن.
وصيامكم أيها المتحملون للصوم بمشقة خير لكم إن كنتم تعلمون أن الصوم خير وأجدى.
ثم أراد القرآن أن يحببنا في الصوم أكثر فقال: هذه الأيام القليلة هي شهر رمضان، وهو شهر مبارك ميمون، فيه ابتدأ الله نزول القرآن الذي هو هدى للناس وآيات بينات واضحات لا غموض فيها من جملة ما هدى الله به وفرق بين الحق والباطل.
وبعضهم فسر نزول القرآن في شهر رمضان، وأنه أنزل في ليلة القدر المباركة التي هي خير من ألف شهر. بأن القرآن نزل إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، وليلة القدر في شهر رمضان.
أما وقد ظهر أن الصوم نعمة من الله وتكليف لمصلحة العباد، فمن حضر منكم الشهر وهو سليم معافى لا عذر له من سفر أو مرض فالواجب عليه الصيام، إذ هو ركن من أركان الدين، ثم أعاد الله الرخصة في الإفطار مرة ثانية خوفا من أن يفهم الناس بعد هذا الواجب الصريح: فَلْيَصُمْهُ أنه لا يجوز الفطر لعذر وخاصة بعد هذه المرغبات الكثيرة.
شرع لكم الرخصة في جواز الإفطار مع العذر الشرعي لأنه يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، وما جعل عليكم في الدين من حرج، وأمركم بالقضاء والفدية لأنه يريد أن تكملوا عدة هذا الشهر، وإنما أباح الفطر مع الفدية أو القضاء، وعلمنا كيف نخرج من الحرج مع الوفاء، لنكبر الله ونعظمه ونشكره على تلك النعم، وفقنا الله للخير.
108
بعض أحكام تتصل بالصيام [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٨٦ الى ١٨٧]
وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)
المفردات:
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي: فليلبّوا دعوتي إياهم للإيمان. يَرْشُدُونَ: يهتدون.
الرَّفَثُ: الفحش من الكلام، أو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه، أطلق على الجماع لأنه لا يخلو منه غالبا. هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ: الزوجان كل منهما لباس للآخر لأنه يستر صاحبه كما يستر اللباس ويمنعه من الفجور. تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ:
تخونونها.
109
المعنى:
١-
روى أن أعرابيا سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم: أبعيد ربنا فنناديه أم قريب فنناجيه؟ فنزلت الآية.
ولا تنس الحكمة في وضعها بعد آيات الصوم..
سبب النزول:
وإذا سألك يا محمد عبادي عنى فإنى قريب منهم أعلم أعمالهم، وأرقب أحوالهم وهو تمثيل لحالة القرب: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أجيب دعوة من دعاني مخلصا لي قد شفع دعاءه بالعمل الخالص لوجه الله.
وإذا كان الأمر كذلك فليلبوا دعوتي لهم بالإيمان بي، أجيب دعوتهم وأجازيهم على ذلك أحسن الجزاء لعلهم بهذا يهتدون إلى الخير النافع لهم.
٢-
روى أنهم كانوا في بدء الإسلام إذا أمسوا حل لهم الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلوا العشاء أو يرقدوا، فإذا صلوها أو رقدوا حرم عليهم كل هذا، ثم إن عمر- رضى الله عنه- باشر زوجته بعد العشاء، وندم بعد ذلك ندما كثيرا، وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بما حصل واعترف بالذنب، فنزلت الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ.
أحل الله لكم في الليلة التي تصبحون فيها صائمين مباشرة نسائكم والاجتماع بهن، وقد سمى القرآن الجماع رفثا وخيانة لقبح ما حصل منهم قبل نزول الآية.
والحكمة في الترخيص بهذا أن النساء مخالطون للرجال مخالطة الثوب للجسد بل أشد، كل يستر صاحبه ويقيه من السوء، وقد علم الله أن صبركم عنهن مع أنهن كاللباس أمر عسير وشاق، وقد كنتم تخونون أنفسكم بمباشرتهن فتاب عليكم وعفا عنكم، فالآن جامعوهن ليلا، وكلوا واشربوا حتى يظهر لكم نور الفجر المعترض في الجو مع ظلام الليل فهو أشبه بالخيط الأبيض مع الخيط الأسود، ثم أتموا الصيام إلى دخول الليل.
ولا تباشروا نساءكم بالجماع أو اللمس مع الشهوة وأنتم معتكفون في المساجد فإن ذلك يبطل الاعتكاف، إذ في الاعتكاف لا فرق بين الليل والنهار.
تلك حدود الله ومحارمه التي تشبه الحدود الفاصلة فلا تقربوها فضلا عن تخطيها وانتهاك حرمتها.
110
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا وإن لكل ملك حمى، وحمى الله محارمه، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» «١».
مثل ذلك البيان الفاصل يبين الله آياته للناس لعلهم بهذا يهتدون إلى طريق الخير والرشاد.
الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل [سورة البقرة (٢) : آية ١٨٨]
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)
المفردات:
تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ: تلقوا بها إليهم. بِالْإِثْمِ: شهادة الزور واليمين الفاجرة أو ما هو أعم من ذلك.
المعنى:
نهانا الله أن نأكل أموال بعضنا بالباطل وبدون وجه حق، ونهانا أن نلقى بالأموال إلى الحكام مستعينين في ذلك بالدفاع الباطل، والرشوة التي تعطى لبعض أصحاب النفوس القذرة الحقيرة من الحكام ليصل صاحبها إلى غرضه.
ولا شك أن كثرة التقاضي بالباطل وشيوع الرشوة في الأمة مقبرة لها بل خطرها على الأمة أشد من اليهود.
وكيف يجوز لمسلم أن يأكل مال أخيه المسلم بالإثم والزور والبهتان والرشوة وهو يعلم أنه حرام ولا يأكل في بطنه إلا النار.
واعتبروا أيها الحكام والقضاة والمتخاصمون
بقول الرسول الأمين للمتخاصمين:
(١) أخرجه البخاري كتاب الايمان باب فضل من استبرأ لدينه رقم ٥٢.
«إنما أنا بشر مثلكم، وأنتم تختصمون الىّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من الآخر فأقضى له على نحو ما سمعت فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنّ منه شيئا فإنما أقضى له قطعة من نار» »
فبكى المتخاصمان وقال كل واحد منهما: حقّى لصاحبي.
اختلاف أشكال القمر [سورة البقرة (٢) : آية ١٨٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)
المفردات:
الْأَهِلَّةِ: جمع هلال، وهو القمر في بعض حالاته. مَواقِيتُ جمع ميقات، والوقت: هو الزمن المضروب لأمر من الأمور، كوقت الصلاة والصيام مثلا،
روى أنهم سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عن العلة في أن القمر يبدو دقيقا كالخيط ثم لا يزال يكبر حتى يصير بدرا ثم يصغر حتى ينمحى
، وهذا سؤال وجه من بعض الصحابة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو لا يليق لأن النبي لم يبعث معلما للرياضة والعلوم الكونية التي منها أسباب أطوار الهلال، على أن الطاقة العقلية التي كانت موجودة حينئذ تعتبر الكلام في مثل هذا الموضوع ضربا من الجنون، ولذلك أجيب السائل بما يصح أن يسأل عنه في هذا الموضوع تنبيها له وإرشادا. وليس معنى هذا أن الدين لا يحب البحث ولا العلم، فالله يقول: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (١٠١ سورة يونس). إلى غير ذلك من الآيات التي توجب النظر والفكر والتعليم. وإنما القرآن له مهمة جاء لها وهي تكوين الفرد المسلم ذاته وتكوين مشاعره وسلوكه وروابطه وبناء شخصيته وضميره ووجوده
(١) أخرجه البخاري وغيره كتاب الأحكام باب عن قضى له بحصر أخيه رقم ٧١٨١.
112
على أسس إسلامية سليمة، وتكوين المجتمع الإسلامى على دعائم قويمة، ومتى وجدا طالب المسلم بالنظر والعلم والبحث الدقيق، إذا فليس من مهمة القرآن الكلام في المسائل العلمية وإن أتى بنظريات علمية فهي عارضة ولا تتعارض مع العلم في شيء.
فمن سأل هذا السؤال كمن يأتى البيوت من ظهورها ولذا كان الجواب على طريقة الأسلوب الحكيم: قل لهم يا محمد: إنها معالم يؤقت بها الناس أعمالهم وتجارتهم ومزارعهم وعبادتهم من صوم وحج وعدة... إلخ.
والتوقيت بالسنة القمرية سهل في الحساب ومناسب للعرب، وقد كان أناس من الأنصار إذا أحرموا بالحج لم يدخلوا الدور من الباب فإن كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته وإن كان من أهل الوبر دخل من خلف الخباء، فقيل لهم: ليس البر هذا، ولكن البر من اتقى الله وخاف عقابه، ثم أمرهم بأن يأتوا البيوت من أبوابها ويتقوا الله في كل شيء رجاء أن يكونوا من المفلحين.
113
القتال في سبيل الله [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٠ الى ١٩٥]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥)
المفردات:
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ القتال في سبيل الله: هو القتال لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه. ثَقِفْتُمُوهُمْ: وجدتموهم، وثقفه: أخذه وظفر به. الْفِتْنَةُ: مصدر [فتن الصائغ الذهب والفضة] : إذا أذابهما بالنار ليستخرج الصالح، ثم استعملت الفتنة في كل اختبار، وأشده الفتنة في الدين، والمراد بها: إيذاء الكفار للمسلمين في الحرم وتعذيبهم وإخراجهم من الوطن. التَّهْلُكَةِ: الهلاك.
114
سبب النزول:
نزلت الآية في صلح الحديبية، لما صد المشركون النبي صلّى الله عليه وسلّم عن البيت الحرام، وصالحوه على أن يرجع في عامه القابل، ويخلوا مكة له ثلاثة أيام للنسك والطواف.
فلما كان العام القابل تجهز النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا ألا تفي لهم قريش وأن تصدهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم كما فعلوا في العام السابق، وكره الصحابة قتالهم في الحرم والأشهر الحرم فأنزل الله هذه الآية.
المعنى:
أيها المؤمنون: قاتلوا في سبيل الله فإنى أذنت لكم في قتال المشركين: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [سورة الحج الآية ٣٩]. فإنهم فتنوكم عن دينكم وأخرجوكم من دياركم، وقاتلوكم ونكثوا عهودهم، وقاتلوهم على أنه دفاع في سبيل الله للتمكن من عبادته في بيته، ولتربية هؤلاء المفتونين والمغرورين، ولا تعتدوا بالقتال فتبدأوهم، ولا تعتدوا في القتال بأن تقتلوا الصغار والعجزة والشيوخ أو من ألقى إليكم السلاح، إن الله لا يحب الخير للمعتدين فكيف بمن يعتدى في الحرم والأشهر الحرم؟
اقتلوهم إذا نشب القتال بينكم أينما أدركتموهم على أى حال كما سيأتى في الآية قريبا، وأخرجوهم من مكة حيث أخرجوكم، وظاهروا على إخراجكم، أليست فتنتهم إياكم في الحرم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب ومصادرة الأموال والإخراج من الوطن أشد قبحا من القتال في الحرم؟! إذ لا بلاء أشد على نفس الحر من الإيذاء والاضطهاد لأجل عقيدة تمكنت في قلبه، واستحوذت على عقله ورأى السعادة في الدنيا والآخرة موقوفة عليها، وحقا: الفتنة أشد من القتل.
ثم استثنى القرآن الكريم من وجوب قتال هؤلاء المحاربين في كل زمان ومكان قتالهم في المسجد الحرام لأن من دخله كان آمنا، فإن قاتلوكم فقاتلوهم، ولا تستسلموا لهم أبدا فالشر بالشر والبادي أظلم، وكذلك جزاء الكافرين.
فإن انتهوا عن القتال وكفوا عنه، أو دخلوا في دين الله، فإن الله غفور لهم، رحيم يمحو من العبد ما سلف إذا هو تاب وأناب.
115
فاقتلوهم إذا هم بدءوكم واعتدوا عليكم، واستمروا في قتالهم حتى لا تكون لهم قوة أصلا تمكنهم من أن يفتنوكم عن دينكم أو يفتنوا غيركم، واستمروا في قتالهم حتى يكون الدين خالصا لله لا دخل للشيطان فيه، وحتى يأمن المسلم في الحرم فيظهر دينه فيكون الدين لله فقط.
وقد كان الكفار بمكة في أمن وطمأنينة يقيمون الباطل ويعبدون الأصنام، والمسلمون مطرودون منها ومن بقي فهو خائف لا يظهر دينه ولا يجاهر به.
فإن انتهوا بعد هذا فلا اعتداء منكم إلا على من ظلم تأديبا لهم وإصلاحا. وذلك بإقامة الشرع وأحكامه فيهم.
ولقد وضح الله الحكمة في أمر المسلمين بالقتال في الأشهر الحرم بهذه الآية، وذلك أن المشركين قاتلوهم في ذي القعدة عام الحديبية، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهيتهم القتال في الأشهر الحرم: الشهر الحرام بالشهر الحرام، وهتكه بهتكه، والقتال فيه كالقتال في السابق، والحرمات التي يجب المحافظة عليها واجب فيها القصاص والأخذ بالمثل، فالممنوع الحرب الهجومية والبدء بالقتال، أما الدفاع والأخذ بالثأر فليس ممنوعا.
فمن اعتدى عليكم بحرب أو غيره فجازوه بمثله، واعتدوا عليه اعتداء مماثلا، واتقوا الله ولا تظلموا، ولا تعتدوا، واعلموا أن الله مع المتقين بالمثوبة والتأييد والنصر: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا (سورة الحج: ٣٨).
والقتال في سبيل الله يتوقف- كغيره- على المال، ولذلك أمرهم الله بالإنفاق في سبيله إذ الإنفاق في الحروب وسيلة النصر وطريق الفوز، واحذروا عدم الإنفاق فإنه مهلكة للأمة مضيعة للجماعة، ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك بالإمساك وعدم الإنفاق، وكذلك الدخول في الحرب بغير بصيرة ولا استعداد، بل أنفقوا المال وأعدوا الرجال، وحصنوا أنفسكم بالعلم والخلق، وأبعدوا ضعفاء النفوس الذين يقبلون الرشوة ويبيعون الأمة والجيش لقاء مال زائل وعرض فان، فهؤلاء أشد خطرا من العدو، وأحسنوا كل شيء يتعلق بالحرب، واعلموا أن الله يحب المحسنين ويجازيهم أحسن الجزاء.
116
يؤخذ من الآيات السابقة:
(أ) أن القتال في سبيل الله كان لرد العدوان وحماية الدعوة وحرية الدين.
(ب) شرع القتال الدفاعى لا الهجومى مع عدم الاعتداء على غير المقاتلين.
(ج) وظاهر الآيات السابقة وغيرها في القرآن أن القتال لم يكن لإكراه الناس على الدخول في الدين: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ.
أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (من سورة يونس ٩٩).
الحج وبعض أحكامه [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٦ الى ١٩٧]
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧)
117
المفردات:
رَفَثَ: المراد به الجماع. فُسُوقَ الفسوق: العصيان والخروج عن طاعة الله. جِدالَ: مجادلة ومماطلة وخصام.
المعنى:
الحج هو المؤتمر الإسلامى العام الذي يعقد كلّ عام في مكة المكرمة محط أنظار المسلمين وقبلتهم، يعقد في أشهر معلومة، ويأتى إليه الناس من كل فج عميق رجالا وركبانا متجردين عن الدنيا ومظاهرها، حتى لا يعرف أمير من حقير، فيتذكر الناس الآخرة وموقف الحشر فيها، وهو بحق من مفاخر الإسلام وقد فرص سنة ست من الهجرة.
وفي هذه الآيات بعض أحكام نسردها والباقي في كتب الفقه والسنة، وقد أمرنا الله بإتمام الحج والعمرة كاملين بشروطهما وآدابهما متغلبين على العقبات التي تصادفنا، قاصدين عملنا هذا رضا الله ورسوله لا للرياء ولا لأغراض الدنيا، وأما أصل الوجوب ففي قوله- تعالى- في سورة آل عمران: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
وهنا بعض أحكامه المأخوذة من الآيات:
١- لو منع الحاج من إتمام الحج والعمرة فواجب عليه إذا أراد التحلل ما تيسر من الهدى بأن يذبح ناقة أو بقرة أو شاة سليمة، فإن لم يجد ما يذبح قوّم الحيوان واشترى بقيمته طعاما وتصدق به، فإن لم يجد صام عن كل مدّ من الطعام يوما.
٢- الدخول في الحج أو العمرة يكون بالإحرام ولبس غير المخيط، والخروج منهما وما يعبر عنه بالإحلال يكون بحلق الرأس أو التقصير، فقوله- تعالى-:
وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ خطاب للمحصرين الذين يريدون التحلل فنهوا عنه قبل بلوغ الهدى مكان ذبحه وهو مكان الإحصار عند الشافعى.
118
٣- لا يصح في الحج الحلق أو التقصير وقتل الهوام، فإذا كان الحاج مريضا ينفعه الحلق، أو به أذى من رأسه من قمل وغيره فله أن يحلق، وعليه فدية صيام ثلاثة أيام أو صدقة هي إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة، وهذه الفدية تجب كذلك في تقليم الأظافر والقبلة والطيب والدهن... إلخ، ما هو مفصل في كتب الفقه.
٤- فإذا أمنتم العدو والحصار فمن تمتع بسبب فراغه من أعمال العمرة يعنى أنه أتمها وتحلل وبقي متمتعا إلى زمن الحج ليحرم من مكة فعليه ما تيسر من الهدى لأنه أحرم بالحج من غير الميقات، فيذبح الهدى، وأقله شاة سليمة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله بالفعل، ويصح الصوم إذا شرع في الرجوع، تلك عشرة كاملة.
ذلك التمتع بإنهاء أعمال العمرة ثم الإحرام بالحج تخفيف ورخصة للذين حضروا من الآفاق البعيدة دون أهل الحرم لأن الغريب يتحمل المشاق في السفر إلى الحج وحده، ثم السفر إلى العمرة وحدها، واتقوا الله بالمحافظة على أمره، واعلموا أن الله شديد العقاب، ولك في أداء الحج والعمرة ثلاث صور.
(أ) التمتع: أن يحرم بالحج من مكة.
(ب) الإفراد: أن يحرم بالحج وحده ثم بالعمرة بعد انتهائه.
(ج) القران أن يحرم بهما أو يحرم بالعمرة ثم يدخل الحج عليها أو بالعكس، والله أعلم بأفضلها، والمهم الإخلاص.
٥- هذه الفريضة لها أيام معلومة: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، فنية الحج لا تصح إلا في هذا الوقت، وأعماله تنتهي في أيام التشريق الثلاثة.
٦- فمن أوجب على نفسه الحج وجب أن يبتعد عن الجماع ومقدماته، والكلام فيه فإنه رفث، ويبتعد عن الفسوق والخروج عن طاعة الله بفعل أى شيء محرم كالصيد والطيب والزينة ولبس المخيط، والتنابز بالألقاب، والجدال، والمراء والخصام كل ذلك محرم على الحاج لأن الشرع يريد منه أن يتجرد عن الدنيا ومظاهرها، وأن يكون إنسانا كاملا خاصة هنا، وأما الجماع وما حوله فلا يليق به لأنه في طاعة، ولذا يفسد الحج لو فعل الجماع قبل الوقوف بعرفة. وأما غيره من المحرمات فيجبر بدم.
119
وما تفعلوا من خير فالله يعلمه ويجازى به، وتزودوا بالأعمال الصالحة التي تنفعكم فإن خير الزاد التقوى، واتقوا الله يا أولى الألباب.
بعض أحكام الحج [سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٨ الى ٢٠٣]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)
120
المفردات:
أَفَضْتُمْ يقال: أفضت الماء: إذا دفعته بكثرة، ثم استعمل في الإفاضة من المكان، والمراد الدفع منه بكثرة، أصله: أفضتم أنفسكم. الْمَشْعَرِ الْحَرامِ:
جبل بالمزدلفة يقف عليه الإمام يسمى قزحا، وسمى مشعرا لأنه معلم للعبادة ووصف بالحرام لحرمته. قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ: أديتموها، والمناسك: أعمال الحج.
خَلاقٍ: نصيب. حَسَنَةً: توفيقا وصحة وكفافا في الرزق. أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ: أيام التشريق. تُحْشَرُونَ: تجمعون يوم القيامة للحساب.
المعنى:
بعد أن بيّن الله- سبحانه- أن الزاد زاد التقوى، وأن أولى العقول هم الذين يتزودون ليوم الحساب ويخافون الله، أشار إلى أن الحج لا يمتنع معه البحث عن الرزق والتجارة كما فهم الناس، فليس عليكم حرج ولا جناح في أن تطلبوا الرزق الحلال من طريق البيع والشراء والكراء.
سئل ابن عمر: إنا نكري (الرواحل للحجاج) فهل لنا من حج؟ فقال: سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم مثل هذا السؤال فلم يجب حتى نزلت تلك الآية، فدعا النبي صلّى الله عليه وسلّم السائل وقال له: «أنتم حجاج»
أى: لا يضر البيع، والشراء، وإنما الممنوع الحج للتجارة والانتفاع، أما إذا كان الحج لله والتجارة تأتى عرضا فلا مانع.
الوقوف بعرفة أهم ركن في الحج
لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الحج عرفة» «١»
ولأنه وقف في حجة الوداع على عرفات بعد صلاة الظهر إلى أن غربت الشمس
وقال ما معناه: «خذوا عنّى مناسككم» «٢».
فإذا أفضتم من عرفات مندفعين كالسيل بعد الوقوف بها فاذكروا الله بعد المبيت بمزدلفة بالتلبية والتهليل والدعاء عند الجبل الذي يقف عليه الإمام وهو المسمى بالمشعر الحرام،
فقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: لما صلّى الفجر بالمزدلفة ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ولم يزل واقفا حتى أسفر جدّا
، أى: دخل السفر وهو بياض النهار.
(١) رواه أحمد ٤/ ٣١٠ وأصحاب السنن وغيرهم.
(٢) رواه مسلم كتاب الحج حديث رقم ١٢٩٧.
121
واذكروا الله ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة وعلمكم كيف تذكرونه، وإن كنتم من قبل الهدى لمن الضالين الذين لا يعرفون كيف يذكرونه.
- كانت قريش وبعض القبائل يقفون في الجاهلية بمزدلفة ترفعا عن الوقوف بعرفة مع الناس فأمر الله نبيه أن يأتى المسلمون جميعا عرفات، ثم يقفون بها ويفيضون منها إبطالا لما كانت قريش تفعله. ثم إذا باتوا بالمزدلفة أمرهم أن يفيضوا منها جميعا لا فرق بين قبيلة وقبيلة، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم.
فإذا أديتم مناسك الحج وقمتم بها فاذكروا الله ذكرا حسنا كما كنتم تذكرون آباءكم في الجاهلية، أو اذكروه أشد من ذكر آبائكم.
ومن الناس من يدعو الله لأمر دنيوى فقط، وهذا لا نصيب له في الآخرة، ومنهم من يدعو الله أن يؤتيه في الدنيا رزقا حلالا وصحة وفي الآخرة ثوابا، وأن يجنبه الأعمال التي تؤدى إلى النار، أولئك حزب الله لهم نصيب كبير بما كسبوا والله سريع الحساب.
واذكروا الله في أيام التشريق الثلاثة وهللوا وكبروا عقب الصلاة وعند رمى الجمار، عن عمر- رضى الله عنه- (أنه كان يكبر في فسطاطه بمنى فيكبر من حوله حتى يكبر الناس في الطريق).
فمن تعجل ورمى في يومين من أيام التشريق الجمرات فلا إثم عليه ومن تأخر ورمى في الأيام الثلاثة فلا إثم عليه وإن كان أفضل.
122
من علامات النفاق أيضا [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٤ الى ٢٠٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧)
المفردات:
يُعْجِبُكَ: يروقك ويعظم في قلبك، ومنه الشيء العجيب. الْخِصامِ:
الخصومة والعداوة. تَوَلَّى: ذهب. الْحَرْثَ: الزرع. النَّسْلَ:
ما تناسل من الحيوان. أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ: حملته العزة الكاذبة على الإثم.
يَشْرِي نَفْسَهُ: يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله.
ذكر الله الحج وبين أن فيه من يدعو الله للدنيا ومن يدعوه للآخرة، فهذان صنفان آخران منافق ومؤمن، قلب مضيء بالإيمان وقلب مظلم بالنفاق.
المعنى:
بعض الناس يروقك قوله ويعجبك طلاقة لسانه وقوة بيانه في الحياة الدنيا مع أنه
123
لا يتكلم إلا ليحظى بشيء من الدنيا الفانية وأعراضها الزائلة، وهو يشهد الله على ما في قلبه، فكلما قال قولا شفعه بقوله: يعلم الله هذا، ويشهد أنى صادق.
ويعلم الله أنه أشد الناس خصومة، وأقواهم جدلا، وأكثرهم عداوة للمسلمين.
سبب النزول:
نزلت في الأخنس بن شريق: كان إذا قابل النبي صلّى الله عليه وسلّم مدحه، وأشاد بالإيمان يقول هذا لينال في الحياة الدنيا ما ينال، وكان يقسم أنه صادق، ويشهد الله أنه كاذب، وكان شديد الخصومة للمسلمين ففيه الخصال الثلاث.
وإن ذهب عنك وتولى ظهرت نفسه الحقيقية وأخذ يسعى في الأرض فسادا فيهلك ما ينتجه الحرث ويقضى على النسل، وقيل: إذا تولى أمرا من الأمور سعى في الأرض بالفساد فيصب الله عليه وعلى أمته التي رضيت به إماما عليها أشد العذاب فيمتنع الخير حتى يهلك الحرث ويفنى النسل والحيوان، وكيف لا؟ والله لا يحب الفساد وصحبه! وإذا قيل له نصحا وإرشادا: اتق الله حملته الحمية الجاهلية، والعزة الشيطانية على ارتكاب الإثم المنهي عنه شرعا، وجزاؤه هذه اللعنة وحسبه جهنم ولبئس المهاد مهاده.
الصنف الثاني من يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله في الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.
سبب النزول:
نزلت في صهيب بن سنان ومن على شاكلته أراده المشركون على الكفر فأبى وأخذ ماله وفر بدينه إلى المدينة، والله رءوف بالعباد حيث كلفهم الجهاد في سبيل الله فعرضهم بذلك لثواب الشهداء.
124
من لا يتبع جميع أحكام الدين وجزاؤه [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٨ الى ٢١٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)
المفردات:
السِّلْمِ: الاستسلام والانقياد والإسلام. كَافَّةً: جميعا. خُطُواتِ الشَّيْطانِ: جمع خطوة، والمراد: تزيينه ووساوسه. زَلَلْتُمْ: ملتم عن الدخول فيه. ظُلَلٍ: جمع ظلة، وهي ما أظلك. يَسْخَرُونَ: يهزئون.
المعنى:
يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب استسلموا لله- تعالى- وأطيعوه ظاهرا وباطنا، وادخلوا في الإسلام كله، ولا تخلطوا به غيره، فإنه
روى أن عبد الله بن سلام استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقيم على السبت وأن يقرأ من التوراة في صلاته في الليل
125
ويجوز أن يكون المعنى: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في حظيرة الإسلام كله على أن يكون المؤمنون مأمورين بجميع فروع وأحكام الإسلام، أما إذا آمنوا ببعض الأحكام ففعلوها كالصلاة والصيام مثلا، ولم يعملوا ببعض الأحكام كالزكاة والصدقة والحكم بكتاب الله وحدوده، ومنع الخمر والزنى: وما إلى ذلك مما نراه الآن فتكون هذه الآية من باب الإخبار بالمغيبات بالنسبة للمسلمين في هذه الأيام، وما دمنا على هذا الحال فنحن الظالمون، الذين نتبع خطوات الشيطان ونقلده، مع أنه العدو اللدود الظاهر في العداوة، والله يقول لنا: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
فإن ملتم عن الحق وابتعدتم عن الإسلام من بعد ما جاءتكم الآيات الواضحات والحجج البينات، فاعلموا أن الله غالب على أمره ولا يعجزه الانتقام منكم، حكيم لا يترك ما تقتضيه الحكمة من مؤاخذة المذنب. ويقول كثير من المفسرين: هذه الآيات نزلت في أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا بالبعض الآخر، ومالوا عن الحق بعد ظهوره.
ألسنا أولى منهم بهذه الآيات نطبقها على أنفسنا؟ ونعتقد أن ما نحن فيه من الاستعباد والضعف جزاء ترك العمل ببعض أحكام الدين المهمة في تكوين الجماعة وتشييد أركانها.
ما ينتظر هؤلاء الخارجون عن أمر الله إلا أن يأتيهم عذاب الله وأمره من حيث ينتظرون الخير تنكيلا بهم وتشديدا عليهم، وتأتيهم الملائكة بما قدره الله وأراده لهم، وقضى الأمر وإلى الله لا إلى غيره ترجعون يوم القيامة.
سل يا محمد بنى إسرائيل تبكيتا وتقريعا عن المعجزات الدالة على صدقك وعن الآيات التي جاءت على أيدى الرسل الكرام السابقين خاصة موسى وعيسى فإنها كثيرة، ومن يغير نعمة الله التي توصل إلى الهداية والخير. فيستعملها في الكفر والعصيان من بعد ما جاءت إليه ووضحت عنده، لا جزاء له إلا العقاب الصارم، فالله شديد العقاب.
حسنت الدنيا في أعين الكفار، وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها، وفتنوا بها أيما فتنة، وهم يستهزئون بالمؤمنين ويسخرون بهم، مع أن الذين آمنوا واتقوا الله فوقهم يوم القيامة، إذ هم في أعلى عليين والكفار في أسفل سافلين، هذا هو الجزاء
126
في الآخرة، أما الدنيا فليست محل جزاء بل محل ابتلاء واختبار وعمل، ولو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء. ولذا فالله يبسط الرزق لمن يشاء ولو كان كافرا فاسقا، ويقتر الرزق على من يشاء ولو كان مؤمنا طائعا، فهو يرزق من يشاء بغير حساب ولا نظر إلى دينه.
الحاجة إلى الرسل [سورة البقرة (٢) : آية ٢١٣]
كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)
المفردات:
الأمّة: الجماعة من الناس، وقد تطلق على الملة. بَغْياً: حسدا.
المعنى:
يقول الله- سبحانه- ما معناه- وهو الأعلم بمراده-: كان الناس يعيشون بفطرتهم في هذه الدنيا يحدوهم عقلهم، وتسوقهم رغباتهم وغرائزهم البشرية، إلى سكنى الدنيا وعمارتها، وهذا الحال يقتضى التنازع والتدافع والخروج عن جادة الطريق والاختلاف، فتسوء حالهم، فينعم الله عليهم بإرسال مبشرين ومنذرين يخرجونهم من الظلمات إلى النور لئلا يكون للناس على الله حجة بعد إرسال الرسل، وأنزل مع كل
واحد منهم ممن له كتابه الخاص به لا مع كل واحد منهم على الإطلاق، ومن هنا نعلم أن العقل وحده لا يكفى في إدراك الخير والاهتداء إلى الحق، ولذا أرسلت الرسل.
أنزل الله الكتاب على الرسول متلبسا بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من أمور دنياهم ودينهم، وما اختلف في الحق أو في الكتاب إلا الذين أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الخلاف وإزاحة الشقاق، فاختلفوا فيه اختلافا آخر أو ازدادوا اختلافا، كل هذا من بعد ما جاءتهم البيّنات الواضحات، وما اختلفوا إلا حسدا وبغيا منهم، أما الذين آمنوا وعملوا صالحا من أنفسهم فيهديهم ربهم للذي اختلفوا فيه من الحق بإذنه وإرادته، والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم.
ما يلاقيه الرسول والمؤمنون في دعوتهم [سورة البقرة (٢) : آية ٢١٤]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤)
المفردات:
أَمْ معناها: بل التي تفيد افتتاح كلام جديد. الْبَأْساءُ: الفقر وكل ما يصيب الإنسان في غير ذاته. الضَّرَّاءُ: المرض وكل ما يصيب الإنسان في نفسه. زُلْزِلُوا: أزعجوا بأنواع البلايا.
المعنى:
خوطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن معه من المؤمنين بهذه الآية حثّا على الثبات والمصابرة على مخالفة الكفار، وتحمل المشاق إثر اختلاف الأمم على الأنبياء- عليهم السلام- مع بيان عاقبة الصبر.
أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين مضوا من قبلكم من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين؟ - فأنتم لم تبتلوا مثل ابتلائهم، مستهم الشدة والخوف والفقر والألم والأمراض، وأزعجوا إزعاجا شديدا حتى اضطرهم الألم الممضّ إلى أن يقول الرسول- وهو أعلم الناس بالله- تعالى- وأوثقهم بنصره والمؤمنون المقتدون به المقتفون أثره- متى يأتى نصر الله؟ حيث نفد صبرهم من هول ما لاقوا، فأجيبوا: ألا إن نصر الله قريب الحصول!! وهكذا كل قوم لهم دعوة ومنهج لا بد أن يبتلوا ويختبروا، ويمتحنوا، وفي هذا كله خير لهم وأى خير؟ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا «١».
النفقة وأحق الناس بها [سورة البقرة (٢) : آية ٢١٥]
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)
المفردات:
مِنْ خَيْرٍ: من مال كثير طيب.
المعنى:
سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عن مقدار ما ينفقون وعن بيان الجهة التي ينفقون فيها، والمراد هنا: نفقة التطوع لا الزكاة الواجبة، أما الجواب عن الشق الأول من السؤال فهو: أى مقدار تنفقونه كثيرا أو قليلا من المال فهو لكم وثوابه خاص بكم، وعن الشق الثاني أنه يعطى للوالدين والأولاد لأنهم القرابة القريبة وكذا الأقارب، ويكون التفضيل في الإعطاء والترتيب للأقرب فالأقرب، واليتامى والمساكين وابن السبيل يعطون من المال وما تنفقوا من خير مطلقا فإن الله سيجازى به لأنه عليم بكل شيء.
(١) سورة آل عمران ١٤١.
حول القتال في الإسلام [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢١٦ الى ٢١٨]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)
المناسبة:
إن ذكر القتال بعد الإنفاق للمال ظاهر المناسبة فالقتال يحتاج لبذل النفس والنفيس من المال، وعلى كل مسلم ضريبتان الدم والمال.
130
المعنى:
فرض عليكم القتال لمن اعتدى عليكم من المشركين، وهو مكروه لكم لأنكم تخافون إن دارت رحى الحرب بينكم وبينهم أن يفتك القتل بكم، وأنتم الطائفة القليلة العدد التي تحمل لواء العدل والحق في هذه الجزيرة، وقيل في تعليل كراهيتهم للقتال:
إن الإسلام أوجد في قلوبهم رأفة ورحمة وروحانية تبغض القتل والقتال الذي دعوا إليه وهم يرجون أن يثوب الكفار إلى رشدهم، وأن يصل نور الإسلام قلوبهم بالحجة والبرهان.
فيا أيها المؤمنون لا يصح منكم أن تكرهوا الحرب والقتال لهذا السبب أو ذاك فعسى أن تكرهوا شيئا والواقع أنه خير لكم، إذ في الحرب إعلاء لكلمة الإسلام ودفع الظلم ورفع لمنارة الحق والعدل، وعسى أن تحبوا شيئا والواقع أنه شر عليكم مستطير.
فالذي فرض عليكم القتال هو العليم بالنفوس التي ختم على قلبها وعلى سمعها وعلى بصرها غشاوة، فهؤلاء لا ينفع معهم إلا الإبادة والإزالة شأن الدم الفاسد في الجسد لا ينفع معه إلا عملية الإزالة، وهذا خاص بقتال المشركين الذين فتنوهم عن دينهم وقاتلوهم، لا في قتال الكفار مطلقا.
والله يعلم وحده وأنتم لا تعلمون.
بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية على رأسها عبد اللَّه بن جحش بكتاب منه: امض حتى تنزل بطن نخلة فتأتينا من أخبار قريش ما يصل إليك. وكان ذلك في جمادى الثانية وصادف أن مر بهم عمرو بن الحضرمي، والحكم بن كيسان وغيرهم مع عير تحمل تجارة لقريش، فائتمر بالعير عبد الله بن جحش ومن معه وقتلوا ابن الحضرمي وآخر وأسروا رجلين واستاقوا العير، وفي الواقع أنهم قتلوا ظنا منهم أنهم في آخر جمادى لا في أول رجب.
فلما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام،
وأوقف توزيع الغنيمة. وفي هذا حصل هرج ومرج، واستغل المشركون هذا الحادث في الدعاية ضد النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى نزلت الآية.
131
إن يسألوك عن القتال في الشهر الحرام هل هو حلال أم حرام؟ فقل لهم: نعم القتال فيه كبير الإثم والجرم، ولكن اعلموا أن صد الكفار عن سبيل الله وطريقه الموصل إلى الإسلام بما يفتنون المسلمين عن دينهم ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم وأموالهم، نعم صدهم عن سبيل الله كفرهم به وصدهم عن المسجد الحرام ومنع المسلمين من الحج والعمرة وإخراج أهله منه، وهم صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه.
كل واحدة من هذه الجرائم التي فعلها المشركون أكبر إثما وأعظم جرما عند الله والناس من القتال في الشهر الحرام فكيف بهم وقد فعلوها كلها؟
ألم تعلموا أن الفتنة أشد من القتل؟! وما حوادث التعذيب والفتنة التي فعلوها مع عمار بن ياسر وأبيه وأخيه وأمه وغيرهم ببعيدة عن الأذهان!! هذا بعض ما كان من المشركين قبل الهجرة وبعدها، وصاروا يقاتلونهم لأجل الدين ويحرضون القبائل ضدهم وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إن مكن لهم واستطاعوا فهم يريدون ردّتكم وفتنتكم عن الإسلام، ولكن اعلموا أن من يدخل في الإسلام ثم يخرج مرتدا ويموت فهو كافر بالله وأشد من المشرك، وأولئك الموصوفون بالردة البعيدون في الضلال بطلت أعمالهم وصارت هباء منثورا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، هذا جزاء الكافرين المرتدين.
وأما جزاء المجاهدين في سبيل الله كعبد الله بن جحش وأضرابه فها هو ذا:
إن الذين آمنوا بالله ورسله وفارقوا الأهل والأوطان لإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه ولحقوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وجاهدوا في الله مع ذلك حق جهاده.
أولئك المذكورون البعيدون في درجات الكمال قد فعلوا ذلك رجاء رحمة الله، فالله يكافئهم ويجازيهم أحسن الجزاء، وهو يغفر لهم بعض الزلل ويرحمهم بفضله وإحسانه وهو الغفور الرحيم.
132
الخمر والميسر وحكمهما [سورة البقرة (٢) : آية ٢١٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩)
المفردات:
الْخَمْرِ هذا اللفظ منقول من مصدر خمر الشيء: إذا ستره وغطاه، وخمرت الجارية: ألبستها الخمار، وهو النّصيف، أى: غطاء الوجه، والمناسبة في إطلاق هذا اللفظ على الشراب المخصوص أنه يستر العقل ويغطيه، وقيل: سميت خمرا لاختمارها وتغير رائحتها، والخمر: يطلق على عصير العنب والتمر والذرة وكل نبات ينتج ذلك المشروب.
الْمَيْسِرِ: كان للعرب في جاهليتها أقداح وأزلام عشرة، سبعة لكل منهما نصيب معلوم، وثلاثة لا نصيب لها، يجعلون العشرة في كيس يجلجلها عدل منهم ويدخل يده فيخرج منها الأقداح، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ نصيبه، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يشترك معهم، فهذا هو الميسر عند العرب. الْعَفْوَ: الفضل والزائد عن الحاجة للإنسان ومن يعوله سنة على الأصح.
المعنى:
يجيب الله- سبحانه وتعالى- على الأسئلة الواردة من الصحابة سؤالا تلو سؤال تبعا للوقت المناسب للإجابة.
133
والخمر قد نزلت فيه آيات أربع تدرجت بالعرب حتى وصلت إلى آية التحريم، وعالج الله الحكيم في هذه الآيات داء عضالا، علاجا يشهد بإعجاز القرآن حقّا، والمشاهد أن القرآن عند ما يعالج مرضا اعتقاديا أو عمليا ليس فيه للعادة مدخل يعالج كالشرك والزنى مثلا فإن كان للعادة فيه مدخل كالخمر مثلا تدرج فيه. أولى الآيات: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النحل ٦٧] ولقد سألني سائل عن سر وضع هذه الآية في تحريم الخمر، والجواب أنه وصف الرزق بالحسن وترك السكر. وفي ذلك إيهام بأن السكر ليس فيه خير، وهذا تنبيه للناس بعيد، ثانيا آياتنا هذه:
فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ فشربها قوم وامتنع بعدها آخرون، ثالثا: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [سورة النساء آية ٤٣].
فامتنع الصحابة عن شربها وقت الصلاة، والصلاة أوقاتها الخمسة تشمل أغلب النهار وجزءا من الليل، ولكن مع هذا حدثت حوادث بسبب شرب الخمر أم الخبائث، مما دعا عمر أن يقول: اللهم ربنا أنزل لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية الرابعة: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [سورة المائدة الآيتان ٩٠ و ٩١].
وإطلاق اللغويين الخمر على كل ما خامر العقل، أى: ستره، وفهم الصحابة مدلول (الخمر) وهم أدرى باللغة والقرآن، على أنها تطلق على المسكر من عنب وزبيب وتمر وذرة وشعير وغيره، ولما
ورد في السنة: «كلّ مسكر خمر، وكلّ خمر حرام»
و «ما أسكر كثيره فقليله وكثيره حرام»
يجعلنا مع القائلين بهذا الإطلاق خلافا لبعض الأحناف الذين يطلقون الخمر على عصير العنب إذا اشتد وقذف بالزبدة، أما غيره فإذا طبخ حتى ذهب ثلثاه حل شربه ما دون السكر (أى: القليل إذا لم يقصد بشربه اللهو والطرب).
على أن تحريم الخمر كان بالمدينة وكان المشروب نبيذ البر والتمر.
والميسر كما عرفته آنفا.
أما الخمر ففيها إثم كبير: مهلكة للمال، مذهبة للعقل مضيعة للصحة، أم الكبائر، يكفى أنها تسوى بين الإنسان والحيوان الثائر، وقد أثر الطب ضررها وبعض الدول المسيحية حرمها.
134
وفي الميسر إثم كبير: غرم مجهد، وعداوة بلا سبب، وحقد وكراهية، وضياع للوقت فيما يضر، وصرف للعقل عن جادة التفكير، ومع ذلك فهو داع للكسل والخمول.
وفيهما منافع للناس ففي الخمر ربح وتجارة لمن يتاجر فيها، وفي الميسر يسار وغنى طارئ من غير تعب ولا مشقة، وإن يكن لا بركة فيه، وإثمهما أكبر من نفعهما بكثير جدا بدليل تحريمهما.
وقد أجيبوا عن سؤال النفقة بأنهم ينفقون الزائد عن حاجتهم، وبعد معرفة ما ينفقه الإنسان عن نفسه ومن يعوله من غير إفراط ولا تفريط، هذا في النفقة المندوبة والتي يجوز للحاكم الإسلامى العادل أن يفرضها على الأغنياء بشرط أن تنفق على فقراء المسلمين إذا دعت الضرورة بذلك.
مثال ذلك البيان في تحريم الخمر والميسر ووجوب الإنفاق فيما فضل عن الحاجة يبين الله الآيات الواضحات في الدستور القرآنى التي تكفل السعادة للمجتمع في الدنيا والآخرة لو تفكر الناس ونظروا بعين البصيرة والفكر السليم.
ما يؤخذ من الآية:
١- كل مادة مسكرة تذهب العقل وتضيع المال والصحة وتقضى على الشخصية فهي حرام كالخمر، وذلك كالأفيون والحشيش، وكل مادة يخترعونها فيها هذا الهلاك.
٢- كل لعب فيه غرم بلا عوض وفيه استيلاء على أموال الناس بغير حق فهو حرام كالميسر، وعلى ذلك فالقمار ولعب الموائد والسباق على اختلاف أنواعه حرام كالميسر، وأوراق اليانصيب كذلك لما يترتب عليها من ضياع المال أو كسب من غير طريق شرعي مع ما فيه من الضرر الممنوع شرعا.
135
الولاية على مال اليتيم [سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٠]
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)
المفردات:
(اليتيم) : من فقد أباه. تُخالِطُوهُمْ: تخلطوا أموالكم بأموالهم.
لَأَعْنَتَكُمْ العنت: المشقة والإحراج.
المعنى:
كان العرب يخلطون أموالهم بأموال اليتامى، ولما نزل قوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ [سورة النساء آية ١٠].
تحاشى الصحابة عن اختلاط أموالهم بأموال اليتامى وجنبوها وحدها، وكان في ذلك ضرر لمال اليتيم في بعض الأحوال لذلك سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيخالطونهم أم يجنبون أموالهم؟
فقال صلّى الله عليه وسلّم مجيبا: إن كان في التجنب إصلاح لأموال اليتامى فذلك خير، وإن كان في مخالطتهم إصلاح لهم ومنفعة فذلك خير لأنهم إخوانكم في الدين والنسب، فعليكم أن تراعوا أموالهم بالإحسان، فالله- سبحانه- يعلم المحسن من المسيء وسيجازى كلّا على عمله.
ولو شاء الله أن يضيق عليكم ويشدد بأنه يوجب التجنب أو المحافظة لفعل ذلك ولكنه ينظر لمصلحة اليتيم، ولا يشدد عليكم، وهو العزيز لا يغالب، الحكيم في أحكامه وتصرفاته جل شأنه.
زواج المسلم بغير المسلمة [سورة البقرة (٢) : آية ٢٢١]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)
المفردات:
(المشركة) : من ليس لها كتاب.
روى أن مرثد بن مرثد أرسله النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة في مهمة فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة اسمها عناق، وكانت خليلة له فأتته وقالت ألا تخلو؟ فقال: ويحك إن الإسلام فرق بيننا، فقالت: ألا تتزوج؟ فقال: نعم بعد استئذان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية.
والعلامة السيوطي يقول: إن الصحابة يذكرون أن الآية نزلت في كذا ويريدون توضيح معناها، أى: إن معناها يتناول أمثال ما ذكر، وإن ذكروا أسبابا فقد يعنون أنها نزلت عقبها ولذا نراهم يذكرون حادثة أخرى في سبب النزول، وكل ما ذكر يدور حول الآية الكريمة.
المعنى:
ينهى الله- سبحانه وتعالى- المسلم عن أن يتزوج المشركة التي لا كتاب لها حتى تؤمن بالله ورسوله، ولأمة مؤمنة مع ما بها من خساسة الرق وضعف الشخصية خير من امرأة مشركة أعجبتك بمالها وجمالها وحسبها ونسبها، ولو لم تعجبك فالنهي عنها من باب
137
أولى، ولا تزوجوا المؤمنات- سواء كن حرائر أو إماء- المشركين حتى يؤمنوا ويتركوا ما هم عليه من الشرك، والعبد المؤمن- حرا كان أو رقيقا- خير من مشرك مع ما له من العز والجاه أعجبكم بما له من فضل أو لم يعجبكم.
والسر في التحريم أن أولئك المشركين يدعون إلى الكفر وكل ما هو شر يوصل إلى النار إذ ليس لهم دين يردعهم، ولا كتاب يهديهم، مع منافاة الطبيعة بين الاثنين فهذا قلب فيه نور وذاك قلب فيه ظلام وضلال.
والله يدعو بوساطة عباده المؤمنين الذين ينهاهم ويرشدهم إلى ما يوصل إلى الجنة ونعيمها، وإلى المغفرة بإذنه وبإرادته، وقد بين الله- سبحانه- آياته وأحكامه النافعة للمسلمين في دنياهم وأخراهم، ومن هذه الآيات التي نحن بصددها يبينها للناس لعلهم يتذكرون ويتعظون فلا يخالفون أمره أبدا ولا يجرون وراء الشيطان.
ما يستنبط:
١- المرأة المشركة لا يصح بحال التزوج منها أما الكتابية كاليهودية والنصرانية فقد أباح الشرع التزوج بها.
٢- فرق الشرع الشريف بين نكاح المسلم للكتابية حيث أجازه وبين نكاح الكتابي للمسلمة حيث منعه.
ولعل السر في ذلك أن الرجال قوامون على النساء ولهم التأثير عليهن، والمرأة عاطفية، فلو تزوج الكتابي مسلمة أمكن التأثير عليها فربما تركت دينها، وغالبا يلحقها ضرر وإيذاء منه لأنه لا يؤمن بكتابها ولا نبيها، وأما المسلمون فيؤمنون بعيسى على أنه نبي وبكتابه، على أن أصله من عند الله، وعلى العكس لو تزوج المسلم الكتابية ورأت حسن المعاملة التي يأمر بها الإسلام وسماحة الدين وخالطت الإسلام عن قرب كان ذلك مدعاة لتصورها الإسلام على حقيقته، والمسلمون مأمورون بالإحسان إلى الزوجات في المعاشرة وأنه لا إكراه في الدين فلا ضرر يلحقها، ولا تنس أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والعزة تأبى علينا أن تكون المسلمة تحت كتابي مهما كان.
وأما الفرق بين المشركة والكتابية فظاهر إذ نحن مع الكتابيين نؤمن بالله والحياة الأخروية وندين بوجوب عمل الخير والبعد عن الشر.
138
الحيض وحكمه [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٢ الى ٢٢٣]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)
المفردات:
الْمَحِيضِ: الحيض، وهو دم فاسد يخرج من رحم المرأة كل شهر، أقله يوم وليلة، وغالبه ستة أو سبعة، وأكثره خمسة عشر يوما، وله أحكام في كتب الفقه كثيرة. فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ: كناية عن عدم الجماع. مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ:
في المكان المأمور به وهو القبل لا الدبر. حَرْثٌ لَكُمْ: موضع حرثكم.
المعنى:
كان اليهود يتشددون في معاملة الحائض فيعتزلونها في الأكل والشرب والنوم، وإذا لامسها أحد تنجس... إلخ. وكانت النصارى لا تفرق بين الحيض وغيره، فكان هذا داعيا لتساؤل المسلمين عن الرأى الوسط والحل الرشيد، فأجيبوا من الله: أن الحيض أذى يضر الرجل والمرأة على السواء، والطب يشهد بهذا، فاحذروا الجماع فقط في الحيض ولا حرج عليكم في غير الجماع،
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اصنعوا كلّ شيء إلّا الجماع»
وسئل الرسول: «ما يحلّ لي من امرأتى وهي حائض؟ فقال: لك ما فوق الإزار».
ولا تقربوهن حتى يطهرن من الحيض فإذا تطهرن باغتسال فجامعوهن في المكان الذي أمركم الله به، وهو القبل لأنه محل استيلاد الولد واستبانته، بعكس الدبر، إن الله يحب التوابين الذين يتوبون عن فعلهم المخالف للشرع لأن عادة إتيان النساء في الدبر وفي الحيض قد تسربت عند البعض، والله يحب المتطهرين الذين يتطهرون من دنس الفواحش وارتكاب المعاصي، ومن كل دنس مادى كالحيض والنفاس.
نساؤكم الطاهرات من الحيض مواضع حرثكم، فالنطفة التي تلقى في الرحم أشبه شيء بالبذر الذي يلقى في الأرض المحروثة، والشارع الحكيم يشير بلفظه الموجز البليغ حَرْثٌ إلى أن المقصود من النكاح هو الاستيلاد لا اللذة البهيمية فوجب العناية به، ومن هنا وضع قوله- تعالى-: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إذ في غير القبل لا يمكن الاستيلاد.
وقوله- تعالى-: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ معناه: لا حرج عليكم في إتيان النساء بأى كيفية شئتم ما دام في القبل الذي هو موضع الحرث.
وقدموا لأنفسكم ما ينفعكم في دنياكم وأخراكم واتقوا الله، واعلموا أنكم ملاقوه فمجازيكم على عملكم، وبشر يا محمد المؤمنين الذين يطيعون الله ورسوله بالجنة.
الحلف بالله [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٤ الى ٢٢٥]
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)
المفردات:
عُرْضَةً: هي المانع المعترض دون الشيء، وعلى هذا فالمراد بقوله:
لِأَيْمانِكُمْ: ما حلفتم عليه من البر والتقوى والإصلاح بيّن. بِاللَّغْوِ: هو
اليمين الذي لا قصد فيه، كقولك تأكيدا لكلامك: لا والله، وبلى والله، من غير قصد، وعند أبي حنيفة: أن يحلف على شيء يعتقد أنه حصل خلافه، فذاك لغو اليمين.
المعنى:
قد يتسرع الإنسان فيحلف أنه لا يفعل كذا من بر أو صدقة أو صلح بين الناس، أو يفعل شيئا هو شر عليه، والله- سبحانه- يرشدنا إلى ما هو خير لنا وينهانا أن نجعل اسمه الكريم مانعا من الخير أو داعيا إلى الشر إذا حلفنا على فعله، بل من حلف ألا يفعل خيرا أو يفعل شرا فليحنث في يمينه وليكفر عنه،
فقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا مّنها فليأت الّذي هو خير وليكفّر عن يمينه»
وقوله- تعالى-: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [سورة النور آية ٢٢].
وقيل: المعنى: ولا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم، جمع يمين، تبذلونه بكثرة الحلف وذلك لأن الحلاف مجترئ على الله غير معظّم له وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [سورة القلم آية ١٠]، وهذه المؤاخذة إنما تتجه إلى المؤكدة المقصودة المنوية بالقلب، فهذه فيها الحرمة إذا حنث فيها وعلى صاحبها الكفارة وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد بأن كان فقيرا فصيام ثلاثة أيام.
أما اليمين اللغو التي تخرج من اللسان لا من القلب، تخرج بلا قصد: كبلى والله، ولا والله، فلا حنث فيه ولا كفارة، وكذا من حلف على شيء يظنه حصل فبان خلافه عليه (عند الأحناف).
الإيلاء وحكمه [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٦ الى ٢٢٧]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧)
المفردات:
يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ: يحلفون، والإيلاء: أن يحلف الرجل أنه لا يقرب امرأته أربعة أشهر فأكثر. تَرَبُّصُ: انتظار. فاؤُ: رجعوا.
المعنى:
غالبا ما يكون عند النزاع بين الرجل والمرأة أن يحلف الرجل ألا يقربها مدة، وفي هذا امتهان للمرأة، وهضم لحقوقها وجفوة لها، والحلف على المرأة بهذا الشكل لا يرضاه الله ورسوله لما فيه من الضرر اللاحق للزوجة وقطع التراحم بينهما.
ولمن يفعل هذا الفعل انتظار أربعة أشهر فقط لأنها أقصى مدة تستغني فيها المرأة العفيفة عن زوجها.
والحكم: أن الزوج بعد الأربعة الشهور إما أن يفيء إلى زوجته ويحنث في يمينه ويكفر عنها وذلك معنى قوله- تعالى-: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما ارتكب رَحِيمٌ بخلقه، وإن لم يفيء طلق، فإن أبى الطلاق طلق عليه الحاكم، وهذا معنى قوله: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يدور من الأحاديث عَلِيمٌ بكل فعل.
براءة الرحم في الطلاق وبعض أحكامه [سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٨]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)
المفردات:
يَتَرَبَّصْنَ: ينتظرن ويصبرون. قُرُوءٍ: جمع قرء، وهو الطهر عند الشافعى، والحيض عند أبى حنيفة. وَبُعُولَتُهُنَّ: جمع بعل، المراد به: الزوج الذي طلق.
142
المعنى:
المرأة المطلقة وهي ممن تحيض، أى: ليست صغيرة ولا كبيرة يائسة من الحيض وهي حرة غير حامل. عدتها ثلاثة أقراء، أما من لا تحيض فعدتها ثلاثة أشهر، والحامل عدتها بوضع الحمل، وسيأتى هذا بنص القرآن، والأمة عدتها قرءان، وانظر إلى التعبير القرآنى يتربصن بأنفسهن، أى: يحملن أنفسهن على الصبر والانتظار حتى تنقضي العدة فإن النساء تواقة إلى سرعة انقضاء العدة.
ولا يحل لهن أن يكتمن شيئا مما في أرحامهن من حمل أو حيض إن كنّ من المؤمنين بالله واليوم الآخر إيمانا صادقا كاملا، فالمرأة أمينة على رحمها فإن لم تكن مؤمنة كاملة أضلت غيره وحيرته.
وأزواجهن في الطلاق الرجعى أحق بردهن وإرجاعهن إلى بيت الزوجية، فالشارع الحكيم حريص على بقاء رباط الزوجية، وليس أبغض عند الله من الطلاق وإن يكن حقّا حلالا للزوج، والإشارة (بأحق) إلى أن الزوجة لها حق كذلك في الرجعة، ولكن كلام الزوج هو المعول عليه، وعليها أن تستجيب إلى طلبه بشرط أن يكون المقصود بالرجعة الإصلاح والخير للزوجين. أما إذا كان المراد الانتقام والتعويق عن الزواج من الغير فليس من الدين أن يعطل الزوج مطلقته ويلحق بها الضرر.
النساء وحقوقهن في الزوجية
قانون عام ودواء ناجع للناس مع وجازته، وتعبير مرن يصلح لكل زمان ومكان وجماعة، للنساء حقوق وعليهن واجبات مثل الرجال لهم حقوق وعليهم واجبات إذ كل من الرجال والنساء مخلوق له عقل وشخصية وتفكير ورغبات.
ومناسبة الآية لما قبلها تقتضي تخصيص الحقوق والواجبات بالزوجية والمعاشرة، وأما قوله- تعالى-: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ فتلك الدرجة هي المفسرة بقوله-
143
تعالى-: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «١» فالدرجة هي القوامة عليهن والولاية والنفقة لهن فهو تكليف للرجال أكثر من تكليفهن، أما تحديد الحقوق والواجبات فمتروك للعرف ما لم يحل حراما ويحرم حلالا، وانظر إلى تقييد ذلك في القرآن بقوله بالمعروف والإحسان، وليس المراد المماثلة بالعين والشخص لا، ولكن على المرأة واجبات تقتضيها طبيعتها، ولها حقوق كذلك توجبها طبيعتها إذ ليس من العقل أن نقول: إن الرجل يتساوى مع المرأة في الخليقة والطبيعة، بل هي خلقت للبيت وما يشمل والرجل خلق للكفاح والعمل، وهذا هو حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم بين على وفاطمة إذ جعل فاطمة في البيت تديره وترعاه وعليّا خارج البيت عليه الجهاد والكفاح والبحث عن الرزق.
وليس في هذا إهمال لشأن المرأة أو طعن في كفايتها وعقلها وعلمها لا، لا، ولكنه تشريف لها وتكريم حيث تصان وتحفظ، لا على أنها دمية في البيت، بل عملها كثير وكثير ومهمتها في المنزل شاقة وشاقة. أليس عليها تربية النشء وإعداد الطفل؟ بناء الأسرة وتكوين الأمة؟ فالوطن أسرة كبيرة، وإذا كانت هي سيدة البيت فهل يبقى بعد هذا شيء؟ لقد صدق الشاعر حيث يقول:
ذلك التخفيف ونفى الإثم لمن اتقى الله واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون وتحاسبون.
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعبا طيب الأعراق
واشتغالها ببعض الأعمال والوظائف إذا اقتضت ضرورة العيش ذلك فلا مانع بشرط مراعاة الدين والخلق وعدم الفتنة للشباب فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً (سورة الأحزاب: ٣٢).
(١) سورة النساء آية رقم ٣٤.
144
بعض أحكام الطلاق [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٢٩ الى ٢٣٠]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠)
المفردات:
تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أى: إرسال لهن بدون رجعة. حُدُودَ اللَّهِ: أحكامه وقوانينه. تَعْتَدُوها: تجاوزوها.
المعنى:
كان الرجل قبل نزول هذه الآية يطلق امرأته فإذا قاربت انتهاء العدة راجعها، وهكذا فلا هو يمسكها بالمعروف ولا هو يطلقها بالمعروف فنزلت هذه الآية قطعا لهذه الفوضى، وحدّا لحرية الرجعة والطلاق، وأنت تراها مخصصة لقوله- تعالى-:
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ على معنى عدد الطلاق الذي تصح فيه الرجعة مرتان، أى: اثنتان، وبعدها إمساك لها بالمعروف والمعاشرة الحسنة، أو تسريح لها بإحسان، بمعنى أن تتركها حتى تتم العدة من الطلقة الثانية ولا تراجعها، وقيل: المراد من التسريح
145
الطلقة الثالثة،
فقد سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أين الطلقة الثالثة؟ فقال: أو تسريح بإحسان»
ولأن التسريح من ألفاظ الطلاق، والإحسان في الآية المقصود منه أن ينفحها بجزء من المال جبرا لخاطرها، وهو ما يسمى بالمتعة عند بعض الفقهاء.
ومن آداب الطلاق حرصا على مصلحة الزوجة وحدا لطغيان الرجل أن يطلقها في الطهر لا في الحيض، وأن يكون مرة بعد مرة لا دفعة واحدة، ولعل هذا هو السر في التعبير بقوله: مرتان لا اثنتان.
وهل الطلاق الثلاث يقع طلقة واحدة أم ثلاثا؟
الظاهر الذي عليه النظم الكريم من قوله: مرتان، أن الطلاق الثلاث يقع طلقة واحدة،
ولحديث ابن عباس: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخلافة أبى بكر وصدر من خلافة عمر: الطلاق الثلاث واحدة
. فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضينا عليهم، فأمضاه عليهم»
.
والجمهور على أنه ثلاث كما رأى عمر الفاروق، وذهب طائفة من العلماء إلى أنه واحدة خلافا للجمهور.
فلقد شدد عمر ومن بعده من جمهور العلماء على الناس لما استباحوا الطلاق ورجع كثير من العلماء إلى الرأى الأول (قبل رأى عمر) أخذا بظاهر الآية وتخفيفا على الناس في مسألة الطلاق وفرارا من المحلل أو الوقوع في المحظور.
ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أعطيتموه للمرأة في الصداق شيئا بحال من الأحوال في نظير الطلاق إلا في حالة ما إذا خفتم ألا تقام حدود الله في الحياة الزوجية، فإن خفتم ألا تقام حدود الله وأحكامه فإن كان السبب من الزوج والبغض منه لا تتفق وروح الإسلام ولا تقام حدود الله بينها فله أن يسرحها بإحسان وليس له أن يأخذ منها شيئا بل عليه النفقة، وليعلم أنه ارتكب إثما إذ إن أبغض الحلال إلى الله الطلاق، ولم يشرع إلا للضرورة القصوى.
وإن كان من قبلها كأن أبغضته لا تستطيع معه الصبر وخافت أن يقع منها نشوز ومخالفة لأمر الله وحكمه فلا جناح عليها أن تفتدى نفسها منه بإعطائه شيئا من المال الذي دفعه صداقا، ولا جناح عليه أن يأخذه لأن السبب منها.
146
وهذا ما يسمى بالخلع في كتب الفقه الإسلامى.
روى البخاري عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن جميلة بنت عبد الله بن سلول كانت امرأة ثابت بن قيس بن شماس فأتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: لا أطيق زوجي بغضا، وأكره الكفر بعد الإسلام (أى: كفر نعمة العشير وخيانته في فراشه) فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أتردين عليه حديقته؟» (كان أصدقها حديقة) قالت: نعم.. قال للزوج:
اقبل الحديقة وطلقها «١» : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
ومن أحكام الخلع أنه لا تصح الرجعة بعده إلا بأمر الزوجة بخلاف الطلاق الرجعى.
أما الطلاق البائن بينونة كبرى وهو المشار إليه بقوله- تعالى- فَإِنْ طَلَّقَها، أى:
بعد الطلقتين السابقتين واختار تسريحها فلا يحل له أبدا حتى تتزوج من آخر زواجا شرعيا صحيحا غير محدود بزمن ولا مشروط فيه أى شرط يضر العقد، وحتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها، فإن طلقها الزوج الثاني، وانقضت المدة فلا مانع من الرجوع إلى الزوج الأول إن ظنا أنهما يقيمان حدود الله وما أمر به من المعاشرة الحسنة، وانظر إلى إطلاق حدود الله على المعاشرة الطيبة الخالية من السوء والنشوز.
وهذه حدود الله يظهرها بأجلى بيان وأحسن عرض ولا يعقلها إلا العالمون، نعم لا يعقل سرها إلا العقلاء الفاهمون فقديما كنا نسمع نقدا شديدا لأحكام الدين في الزواج والطلاق، فما بال الغربيين رجعوا اليوم وشرعوا الطلاق ورأوه ضرورة لبناء الأسرة وكيان الأمة؟؟
أمن الدين بل من العقل أن تبقى امرأة رأيت سلوكها معوجا ولم يمكنك إقامة الدليل على ذلك؟ ماذا تفعل لو لم تجد الطلاق مشروعا؟ ألا أيها القوم تعقلوا فتلك حدود الله بينها لقوم يعقلون، ولا يضر الدين الإسلامى إساءة استعمالنا هذا الحق في الطلاق!!
(١) كتاب الطلاق باب الخلع حديث رقم ٥٢٧٣.
147
آداب الطلاق ومعاملة المطلقة [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣١ الى ٢٣٢]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)
المفردات:
فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ: قاربن انقضاء عدتهن. ضِراراً أى: يقصد الإضرار بها.
الْحِكْمَةِ: السنة الشريفة، وقيل: هي الإصابة في القول والعمل.
تَعْضُلُوهُنَّ العضل: الحبس والتضيق والمنع.
المعنى:
يقول المولى- جل شأنه- ما معناه: وإذا طلقتم النساء وقاربن انتهاء العدة فالواجب عليكم أحد أمرين: إما إمساك لها بالمعروف، أى: تراجعها لعصمتك بالمعروف وعدم الإيذاء، أو فراق بمعروف من غير إلحاق ضرر بالمطلقة، ولا تراجعوهن لقصد إلحاق
148
الضرر بهن والإيذاء لهن لتلجئوهن إلى الفدية ودفع المال لكم، ولا شك أن هذا اعتداء منكم عليهن، ومن يفعل هذا الفعل المنهي عنه بأى أسلوب وعلى أى شكل فقد ظلم نفسه وعرضها لعذاب الله وغضبه.
ولا تتكاسلوا في امتثال أمر الله- سبحانه- وجدّوا في العمل بآيات الله فإنكم إن تكاسلتم ولم تمتثلوا أمر الله كنتم كمن يستهزئ بالله وأمره، واذكروا نعم الله عليكم التي لا تحصى وأهمها الإسلام وكتابه المحكم الآيات وهدى رسوله خاتم الأنبياء، فإنهما الدستور الذي يبنى لكم الأسرة على أحسن نظام وأكمله، والدواء الناجع لكل داء، واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء تفعلونه أو تعزمون عليه عليم فمجازيكم عليه.
لا يليق بكم جميعا أيها الأولياء والحكام والأزواج، ومن له شأن أن يمنع المرأة المطلقة إذا انتهت عدتها من أن تنكح زوجها السابق أو زوجا آخر إذا حصل التراضي بينهما والتوافق، وفي قوله: بينهما إشارة إلى أن الرجل يخطب المرأة إلى نفسها ولا يصح منعها من الزواج إذا تراضوا بالمعروف شرعا وعرفا بأن لم يكن هناك محرم ولا محظور شرعا، وكانت الكفاءة بين الزوجين ومهر المثل. وعندي أن المهر والتغالى فيه لا يصلح سببا للمنع، ورب فقير كريم الخلق شريف النسب خير من غنىّ سيّئ الخلق كثير المال، وذلك الذي تقدم من الأحكام والحدود يؤمن به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فهم الذين يتقبلونه قولا حسنا ويمتثلونه. ذلكم أزكى لكم وأطهر من دنس الوقوع في المحرم، وهو أزكى نظام وأطهره فإن عدم منع النساء من الزواج أزكى وأطهر للأعراض والبيوت وأنمى للشرف والكمال، والله يعلم كل هذا فامتثلوا أمره والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
149
بعض أحكام الرضاع [سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٣]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣)
المفردات:
حَوْلَيْنِ الحول: العام والسنة. وُسْعَها: جهدها وطاقتها.
فِصالًا: فطاما لأنه يفصل الولد عن أمه. وَتَشاوُرٍ: مشاورة.
مناسبة الآيات:
شرع في أحكام الرضاع بعد أحكام الطلاق، وكلاهما من الأحكام المتعلقة بالبيوت والعائلات.
المعنى:
والوالدات المطلقات- لأن الكلام فيهن- يرضعن أولادهن إرضاعا على سبيل الندب أو الوجوب إن امتنع الطفل عن الرضاع من غيرها أو لم يجد الوالد من يرضع لفقر أو لغيره، وهن بهذا الوصف أدعى للامتثال، يرضعن أولادهن عامين كاملين وذلك لمن أراد إتمام الرضاع للطفل.
150
ويجب على الوالد الذي ينسب إليه الابن وعنده غريزة حب الولد أن يرزقهن ويكسوهن أجرة لهن على الإرضاع. واستئجار الأم غير جائز ما دامت في النكاح أو العدة ويجوز عند الشافعى- رضى الله عنه- مطلقا، وتقدير الأجرة موكول لظروف كل من الوالد والمرضعة حسب اليسار والفقر.
ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها.
ولا تضار الوالدة بسبب ولدها بأن تمنع من الرزق والكسوة أو يؤخذ منها ولدها قهرا، أو تكره على إرضاعه، ولا يضار والده بأن يطلب منه ما ليس في طاقته من رزق أو كسوة، أو تستغل الأم عاطفة الأبوة فتفرط في شأن الولد وغير ذلك من المعاكسات، والمراد: لا يحصل ضرر منها بسبب الولد.
وعلى الوارث الذي يرث الأب مثل ذلك من النفقة والكسوة، وقيل: تؤخذ النفقة من مال الصبى فهو الوارث لأبيه، فإذا لم يكن له مال تؤخذ ممن يرث الطفل لو مات، وعلى كل فاللفظ يحتمل هذا.
مدة الرضاع الكاملة حولان، فإذا أراد الوالد والمرضعة فطاما له دون الحولين برضاهما وتشاورهما في مصلحة الطفل فلا إثم عليهما في ذلك حيث اقتضت المصلحة العامة هذا.
وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم من المراضع الأجنبيات بسبب حمل أو مرض أمّ أو عدم اتفاق فلا جناح عليكم ولا إثم، بشرط أن تسلم المرضعة أجرها بالمعروف، فإن ذلك أدعى للغاية والمحافظة على الولد، وهذا خطاب للأب والأم على سبيل التغليب للإشارة إلى أنه من الذوق والأدب أن تكون الأم مشتركة مع الأب ومستشارة في الاسترضاع لأنه ولدها، واتقوا الله في كل شيء خصوصا الأحكام المذكورة واعلموا أن الله بما تعملون خبير وبصير فمجازيكم على أعمالكم.
151
عدة المتوفى عنها زوجها [سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٤]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)
المفردات:
يَذَرُونَ: يتركون. بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ: انقضت عدتهن.
المعنى:
العدة في الشرع الشريف جعلت لبراءة الرحم، أو للحداد على الزوج ولذلك جعلت عدة المطلقة ثلاثة أقراء، أما المتوفى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشرا ما لم تكن حاملا فعدتها بوضع الحمل ولو بعد الوفاة بيوم أو ساعة، والرأى عند الأحناف أن عدة الحامل أبعد الأجلين للحداد على الزوج، والشرع لم يندب الحداد على غير الزوج من أخ أو قريب أكثر من ثلاثة أيام.
وفي الوفاة لا فرق بين الصغيرة والكبيرة والمدخول بها وغير المدخول بها لأن العدة للحداد وبراءة الرحم تبعا، فإذا انتهت العدة وانقضت أيامها فلا جناح عليكم أيها الأولياء والمشرفون على النساء فيما فعلن في أنفسهن من الزينة والخروج من البيت والتعرض لخطبة الرجال بالمعروف شرعا، أى: من غير مخالفة للشرع، والله بما تعلمون خبير وبصير.
ويؤخذ من هذه الآية حيث نفى الحرج عن الأولياء والحكام فيما لو فعلت النساء شيئا بالمعروف الشرعي: أن الحكام والأولياء وكل من له شأن مؤاخذ ومعاقب على خروج النساء وتهتكها وفعلها على المعروف شرعا فإن ذلك مما يقوض الأمة ويفنى الجماعة.
ألا ترى إلى قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ [الأحزاب ٥٩] حيث أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك ولم يأمر النساء، وهذا مما يؤيد أننا- نحن الرجال- مؤاخذون بعمل نسائنا.
خطبة المتوفى زوجها وآدابها [سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٥]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)
المفردات:
عَرَّضْتُمْ التعريض: أن تفهم المخاطب المقصود بلفظ لم يوضع له وهذا المقصود يحتمله الكلام على بعد بقرينة. خِطْبَةِ الخطبة: من الخطاب، أو الخطب: وهو الشأن العظيم، وهي طلب الرجل المرأة للزواج بالوسيلة المعروفة بين الناس.
أَكْنَنْتُمْ الإكنان: الإضمار في النفس. سِرًّا: نكاحا. وَلا تَعْزِمُوا العزم: القصد الجازم، والنهى عن العزم نهى عن الفعل من باب أولى، والمراد:
لا تقربوا عقد عقدة النكاح.
المعنى:
المرأة المطلقة طلاقا رجعيا لا يصح مطلقا التعريض لها بالخطبة لأنها في عصمة زوجها ما دامت في العدة، أما المرأة المتوفى عنها زوجها- ويقاس عليها المطلقة طلاقا بائنا-
153
فقد أباح الشرع الشريف أن يعرّض الرجل لها بأمر الزواج تعريضا لا صراحة فيه، أو يضمر في نفسه أمر زواجه بها لأن هذا أمر طبيعي في النفس ولذلك قرنه الله بما يبين وجه الرخصة حيث قال: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ في أنفسكم وضمائركم ويشق عليكم أن تتموا مثل هذا فاذكروهن، ولكن لا تواعدوهن النكاح صراحة، فهو مما يضر ولا يليق بكم أدبيّا وذوقيّا في حال من الأحوال إلا في حالة أن تقولوا قولا معروفا غير منكر شرعا، وهو ما يعهد مثله بين الناس المهذبين من القول العف والإشارة الخفية كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أم سلمة بعد وفاة زوجها حيث ذكر لها منزلته عند الله.
ولا تعزموا على عقدة النكاح حتى يبلغ المكتوب أجله، فقد كتب الله وفرض على المرأة العدة لزوجها أربعة أشهر وعشرا، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم من السر وأخفى فاحذروه، واعلموا أن الله غفور رحيم لما فرط منكم من الذنب، حليم لا يعجل بالعقوبة.
ما يؤخذ من الآية:
(أ) لا يصح التصريح بالزواج للمعتدة.
(ب) حرام العقد عليها قبل استيفاء العدة مراعاة لحقوق الزوجية ولطهارة الرحم.
154
المطلقة قبل الدخول وما يجب لها [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣٦ الى ٢٣٧]
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)
المفردات:
الجناح: الإثم، والمراد: لا شيء عليكم. تَمَسُّوهُنَّ: تجامعوهن.
تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً أى: فرضا وهو المهر. الْمُوسِعِ: الغنى.
الْمُقْتِرِ: الفقير. قَدَرُهُ: مقداره.
سبب النزول:
روى أنها نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا ثم طلقها قبل أن يمسها، فنزلت هذه الآية، فقال له النبي: «أمتعها ولو بقلنسوتك».
المعنى:
أيها الأزواج إن طلقتم النساء قبل الدخول بهن وقبل أن تحددوا لهن صداقا فلا شيء
عليكم من الصداق ومهر المثل، ولكن يجب عليكم المتعة: وهي عطاء يعطيه الزوج للمطلقة جبرا لخاطرها، أما مقدارها فيرجع إلى حالة الزوج من غنى وفقر، والمتعة عند بعض الفقهاء حق واجب للمرأة التي يجب لها شيء من الصداق، وتستحب لسائر المطلقات بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة، وهذا الحق على الذين يحسنون المعاملة.
وإذا طلقت المرأة قبل الدخول بها وقد سمى لها صداق فيجب لها نصفه تأخذه في كل حال إلا أن تعفو المطلقات أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهو الولي، وعفوكم أقرب للتقوى وقيل المراد: إلا أن يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهو الزوج، والمراد بعفوه: أن يتنازل عن نصف الصداق الذي أعطاه للزوجة قبل الدخول بها عند العقد.
ولا تنسوا الفضل بينكم بالإحسان والمعاملة الطيبة، وأن العفو خير لكم جميعا والله بما تعملون بصير فيجازى كلا على حسب نيته وعمله.
المحافظة على الصلاة [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٣٨ الى ٢٣٩]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)
المفردات:
حافِظُوا: داوموا عليها بإتقان. الْوُسْطى: المتوسطة، أو الفضلى، والمراد بها: صلاة العصر على الأصح. قانِتِينَ: ذاكرين الله في القيام مداومين على الضراعة والخشوع.
المعنى:
الصلاة عماد الدين والركن العملي الأول الذي يكرر في اليوم خمس مرات لما لها من الأثر
الفعال في تطهير النفس، وهي كالبئر يغتسل منه المصلى خمس مرات في اليوم والليلة فهل يبقى عليه من درن؟
ولهذا كله أمرنا بالمحافظة عليها، ووضعها بين الأحكام التي تتعلق بالبيوت والأسر إشارة إلى أنه يجب ألا تشغلنا البيوت وما فيها ولا أنفسنا عن الصلاة، وللإشارة إلى أن الصلاة والاتصال بالله مما يصفى الروح ويزيل كدرتها التي كثيرا ما تكون سببا في أزمات تقع في الأسرة وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ حافظوا على الصلاة مطلقا تحفظكم من كل هم وغم وتحفظكم من الفحشاء والمنكر خاصة الصلاة الوسطى وهي العصر
لقوله صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى: صلاة العصر».
ووقت صلاة العصر كما يقولون وقت وسط بين وقتى الظهر والمغرب فهي متوسطة بهذا المعنى. وقوموا لله خاشعين ذاكرين لله دون سواه.
وللإشارة إلى خطر الصلاة وأنه لا يصح لمسلم أن يتركها لعذر قيل ما معناه:
لا عذر في ترك الصلاة حتى في حال الخوف على النفس أو المال أو العرض، بل صلوا على أى كيفية راكبين أو ماشين سائرين أو واقفين على أى وضع كان، فإذا زال الخوف فاذكروا الله في الصلاة كما علمكم ما لم تكونوا تعلمونه من فريضة وكيفية الصلاة في حال الأمن والخوف.
حق المتوفى عنها زوجها [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٠ الى ٢٤٢]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)
المعنى:
والذين يشرفون منكم على الموت ويتركون أزواجا يجب عليهم أن يوصوا وصية لأزواجهم متاعا مستمرا إلى نهاية الحول، على معنى أنه يجب على الورثة من باب الأدب والذوق ألا يخرجوا المتوفى عنها زوجها قبل مضى السنة، وعلى ذلك فلها سنة ينفق عليها من مال زوجها المتوفى، فإن خرجت بعد مضى العدة من نفسها فلا جناح عليكم يا أيها الورثة فيما تفعله في نفسها من الخروج والزينة ما دام لا يتنافى مع الشرع، والله عزيز لا يغالب، حكيم في كل أمر.
وللمطلقات مطلقا المتعة، وهي ما اتفق عليه الزوجان على حسب قدرتهما، فإن اختلفا قدرها القاضي، وهذا حكم يشمل المطلقات المدخول بهن وغير المدخول بهن.
وإن اختلف من حيث الوجوب والندب وهذا حق على المتقين لله، مثل ذلك البيان السابق يبين الله لكم آياته المحكمة التي تدفعنا إلى الخير في الدنيا والآخرة لعلنا نتدبر ونتعقل.
كيف تحيا الأمم [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٣ الى ٢٤٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)
158
المفردات:
أَلَمْ تَرَ: استفهام تعجيب وتشويق إذ الاستفهام الحقيقي محال على الله.
حَذَرَ الْمَوْتِ: خوفه. يُقْرِضُ اللَّهَ المراد: يتصدق لوجه الله. فَيُضاعِفَهُ لَهُ: يضيف له مثله ومثله.
المعنى:
ألم ينته علمك إلى الذين خرجوا من ديارهم وأوطانهم لما لحقهم العدو وحاربهم؟
خرجوا وهم كثرة تعد بالألوف حذر الموت وهوله، ما دفعهم إلى هذا إلا الجبن والخور وعدم الإيمان بالله ورسله، ولما خرجوا فارين قال لهم: موتوا، حيث مكن للعدو منهم فأذلهم، وما كان تمكين العدو فيهم إلا بسبب جبنهم، ولقد أذاقهم العدو العذاب وأحسوا بخطئهم الفاحش فكان هذا داعيا إلى تكتلهم وإقبالهم على قتال عدوهم متعاونين باذلين النفس والنفيس، فهم قد ماتوا زمنا ثم أحياهم الله، وهكذا سنة الله في الأمم ولن تجد لسنة الله تبديلا.
إن الله لذو فضل على الناس بابتلائهم بالعدو والشدائد التي تصهرهم وتميز الطيب من الخبيث منهم فحقّا «الحوادث تخلق الرجال» والحوادث تخلق الأمم، ولكن أكثر الناس لا يشكرون الله على ذلك بل يعدون هذا نقمة عليهم.
وتشير الآية الكريمة إلى أن موت الأمم غالبا له سببان: الجبن وضعف العزيمة.
والثاني: البخل وعدم الإنفاق، ولذلك قرن الله- سبحانه وتعالى- الآية السابقة بقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ولقد رغب الله في الإنفاق، إذ عبر بالقرض عن الإنفاق، من يقرض الله الذي له خزائن السموات والأرض والذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، يضاعف له في ثوابه أضعافا كثيرة لا يعلم عددها إلا الله ومن أصدق من الله حديثا.
والله- سبحانه- يوسع في الرزق لمن يشاء مهما أنفق في سبيل الله، ويضيق في الرزق على من يشاء مهما أمسك عن الإنفاق فأمر المال والدنيا في يده وإليه المرجع والمآب، فاعملوا أيها المؤمنون فسيرى الله عملكم ورسوله وستردون إلى عالم الغيب والشهادة.
159
قصة طالوت وجالوت [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٤٦ الى ٢٥٢]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)
160
المفردات:
أَلَمْ تَرَ: تركيب فيه استفهام ونفى، وترجمته: يجب أن ينتهى علمك إلى الملأ. الْمَلَإِ: اسم للجماعة من الناس، كالقوم والرهط، سموا بذلك لأنهم
161
يملؤون العيون رهبة إذا اجتمعوا. اصْطَفاهُ: اختاره. بَسْطَةً: سعة.
التَّابُوتُ: الصندوق المحفوظ فيه التوراة،
ويروى أنه مصنوع من خشب مموه بالذهب
. سَكِينَةٌ: فيه شيء تسكن به قلوبكم وتطمئن له. بَقِيَّةٌ الظاهر أنها قطع الألواح وعصا موسى وعمامة هارون. فَلَمَّا فَصَلَ أى: انفصل بهم عن البلد. مُبْتَلِيكُمْ: ممتحنكم. يَطْعَمْهُ: يذقه.
المعنى:
ألم ينته علمك إلى القوم من بنى إسرائيل؟ وقد وجدوا بعد موسى- عليه السلام- حين قالوا لنبيهم، ولم يسمه القرآن، وقيل: إنه (صمويل) حين قالوا له: اختر لنا قائدا يقود زمامنا، ولا شك أن طرد العدو من البلاد قتال في سبيل الله.
ولكن نبيهم قد عرفهم معرفة المجرب الحكيم، فقال لهم: يا قوم أتوقع منكم عملا يخالف أقوالكم، والزمان كفيل بتصديق نظريتى أو تكذيبها، قالوا ردا عليه: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله؟ أى شيء دهانا واستقر عندنا حتى لا نقاتل في سبيل الله؟ وهذا هو مقتضى القتال حاصل فقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا ومنعنا من أبنائنا.
فلما فرض عليهم القتال كما طلبوا لم تكن الحوادث قد عركتهم ولم تكن نفوسهم طاهرة صادقة، ولم تكن أرواحهم قد ملئت بالنور والإيمان كما فهم فيهم نبيهم، ولذا تولوا وأعرضوا إلا قليلا منهم، وانتحلوا المعاذير وعللوا أنفسهم بالتعاليل. وهكذا الأمم الميتة، والله عليم بالظالمين لأنفسهم بتركهم الجهاد في سبيل الله دفاعا عن وطنهم وردّا لحقهم المغصوب.
وهذا تفصيل لما وقع بين النبي- عليه السلام- وبين قومه حين طلبوا منه ملكا عليهم.
وقال لهم نبيهم: إن الله قد اختار لكم طالوت ملكا وقائدا فانظر إلى الأمم الضعيفة التي لم تشب بعد عن طوق الصبيان في التفكير فهي تشغل نفسها بالعرض عن الجوهر والشكل عن الموضوع أين هذا من الصحابة الأجلاء- رضى الله عنهم أجمعين- وقد
162
أمر عليهم أسامة بن زيد وهو شاب حدث، وفي الجيش أبو بكر وعمر وعلى وغيرهم!! ألا حيّا الله البطولة والرجولة!! وها نحن الآن نشغل أنفسنا برئيس الوزراء شغلا أكثر من شغلنا بأنفسنا ولا علينا بعد هذا شيء أقام الغاصب في بلادنا قرنا أم قرنين!! بماذا رد هؤلاء القوم على نبيهم؟ قالوا متعجبين لقصور عقولهم: كيف يكون ملكا علينا؟ ونحن أحق بالملك والرياسة منه إذ فينا الملك قديما، وطالوت فقير ليس غنيّا.
كأنهم فهموا أن الملك حق يورث وأن الغنى شرط أساسى فيه، فقال لهم نبيهم: إن الله قد اختاره واصطفاه وما عليكم إلا الامتثال فالله لا يختار إلا ما فيه الخير لكم وقد زاده الله بسطة في العلم حتى يكون واسع الإدراك نافذ البصيرة، وبسطة في الجسم حتى يقوى على القيادة وأعمال الحرب وحتى يكون مهابا يملأ العين والنظر، والله- سبحانه- يؤتى ملكه من يشاء فلا اعتراض عليه وهو أعلم بخلقه من يستحق ومن لا يستحق.
لم يقتنع القوم بما ساق لهم نبيهم من الحكمة في اختيار طالوت ملكا عليهم وظلوا معاندين، فأوحى الله إليه أن يسوق دليلا ماديا على صحة ملكه وقيادته، وآية ملكه أن يأتيكم التابوت- وقد كان له شأن في بنى إسرائيل عظيم ولما فرطوا أخذ منهم زمنا ثم جعل لهم نبيهم عودته في بيت طالوت دليلا من الله على صحة الملك- وفيه سر تسكن إليه نفوسكم وتطمئن إليه ضمائركم، خاصة عند ما تحملونه في القتال وفيه بقية مما ترك موسى وهارون، وسيأتى محمولا من الملائكة تشريفا وتكريما له، أفلا يدل كل هذا على أن الله اختار طالوت قائدا لكم ولكنهم اليهود قديما وحديثا هكذا يفعلون!! إن في ذلك القصص لعبرة وعظة وأى عبرة وعظة؟!! وفيه آية لكم أيها المخاطبون في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث يقص عليكم هذا القصص وهو نبي عربي أمى لم يقرأ ولم يكتب فمن أين له هذا؟! وإذا علمت ما تقدم فلما انفصل طالوت بالجنود أراد أن يختبرهم بشيء ليعلم صدق نيتهم في القتال وهكذا القائد الحكيم إذ ظن في جنده ظنّا فاختبرهم ليقف على حالهم.
فقال لهم: إن الله مختبركم- وهو الأعلم بكم- بنهر يعترضنا في الطريق، فمن شرب منه فليس من أتباعى وأشياعى، ومن لم يتذوقه فإنه من حزبى وأنصارى إلا من
163
اغترف غرفة بيده، فكانت نتيجة الاختبار أن شربوا منه جميعا إلا قليلا منهم (إن الكرام قليل). وهكذا من يحكم عقله في هواه ويؤمن بالله، فئة قليلة العدد كثيرة الإيمان والخطر، فأنت ترى أن مراتب الناس ثلاثة: منهم من شرب وعب بفمه، ومنهم من لم يتذوقه أصلا، ومنهم من اغترف بيده غرفة.
فلما جاوز النهر هو والذين معه من المؤمنين الصادقين (أما غيرهم فقد استهواهم الماء العذب فأخذوا يشربون ويطربون ثم لحقوا بهم آخر الأمر).
قال بعض الجيش ممن شرب لما رأى جند الأعداء وكثرة عددهم وتفوقهم: لا قدرة لنا اليوم ولا طاقة بمحاربة الأعداء ومناضلتهم فضلا عن التغلب عليهم، وقال المؤمنون الذين يظنون أنهم ملاقو الله فمجازيهم على أعمالهم الذين ينتظرون إحدى الحسنيين: إما شهادة في سبيل الله، وإما نصر على الكافرين، فإن عاشوا عاشوا آمنين وإن ماتوا ماتوا شهداء مكرمين.
قالوا: لا تغرنكم أيها القوم كثرتهم، فكثيرا ما غلبت فئة قليلة العدد فئة كثيرة العدد غلبت بقوة إيمانها وإرادة ربها، وإذنه والله مع الصابرين بالتأكيد والمعونة وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا.
ولما ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين لجالوت وجنوده وشاهدوا أمامهم من العدد والعدد وحانت ساعة الالتجاء إلى الله حقيقة حيث تتلاشى قوة البشر قالوا: ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. وهنا تجلت عظمة الله وقدرته بأجلى مظهر حتى يعتبر الناس ويتعظوا.
هزمت الفئة القليلة الفئة الكثيرة بإذن الله وإرادته وقتل داود (وكان فتى في الجيش قويّا جلدا) جالوت، وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء من العلوم إنه على كل شيء قدير.
والحرب سنّة طبيعية في الخلق من يوم أن اقتتل ابني آدم وهي على ما فيها من ضرر وخطر لا تخلو من نفع وخير إذ لولا أن الله يدفع الناس بعضهم ببعض، ويسلط جماعة على جماعة لفسدت الأرض وعمت الفوضى، وانتشر الظلم وهدّمت أماكن العبادة التي يذكر فيها اسم الله، ولكن الله ذو فضل على الناس جميعا حيث يسلط على الظالم من يبيده ويهلكه، فإذا نبت ظالم آخر أرسل له من يفتك به، وهكذا ينصر الله رسله بالغيب.
تلك آيات الله نتلوها عليك يا محمد دالة على صدقك وأنك رسول الله وخاتم الأنبياء والمرسلين، والله أعلم.
164
درجات الأنبياء وطبيعة الناس في اتباعهم [سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٣]
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣)
المفردات:
الْبَيِّناتِ: الآيات الواضحات الدالات على رسالته. وَأَيَّدْناهُ: قويناه.
بِرُوحِ الْقُدُسِ: هو جبريل- عليه السلام- وقيل: المراد روحه، على معنى:
وأيدناه بالروح المقدسة، أى: الطاهرة.
ضرب الله الأمثال وقص بعض القصص وختم ذلك بقوله- تعالى-: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
ثم استأنف كلاما جديدا يظهر به فضل النبي صلّى الله عليه وسلّم على الأنبياء مع تسليته ببيان طبائع الناس في اتباع الأنبياء قديما وحديثا.
المعنى:
أشار القرآن الكريم إلى من تقدم الكلام عليهم من الرسل الكرام بإشارة البعيد لعلو مكانتهم وسمو درجتهم، وقد فضل بعضهم على بعض بتخصيصه بمفخرة ليست لغيره.
165
منهم من شرفه بالكلام مشافهة كموسى- عليه السلام-: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [سورة النساء آية ١٦٤]. وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [سورة الأعراف آية ١٤٣].
ورفع بعض الأنبياء على من عداه درجات في الفضل والشرف- الله أعلم بها- وآتى الله عيسى ابن مريم الآيات الواضحات: كتكليمه في المهد وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وأيده بروح القدس جبريل مع روحه الطاهرة ونفسه الصافية.
وإنما خص عيسى- عليه السلام- بهذه الأوصاف لاختلاف اليهود والنصارى فيه، فاليهود حطت من شأنه واتهمته واتهمت أمه، والنصارى رفعته إلى درجة الألوهية، فقيل ردا عليهم ولبيان أنهم فرّطوا وأفرطوا: عيسى ابن مريم مرّ بأدوار الطفولة والحمل وغيره يأكل ويشرب، أفيليق أن يكون إلها؟، ولكنه مؤيد من عند الله بالآيات الواضحات وروح القدس ولذا تكلّم في المهد إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [سورة المائدة آية ١١٠] فهو نبىّ مرسل كريم على الله فلا يليق بكم أيها اليهود أن تنالوا منه وتحطوا من شأنه.
أما من رفعه إلى درجات الفضل فالظاهر أنه محمد صلّى الله عليه وسلّم لعموم رسالته وأنه أرسل رحمة للعالمين وخاتم الأنبياء والمرسلين وأن معجزته القرآن،
ولقوله صلّى الله عليه وسلّم «بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدا، وتربتها طهورا، ونصرت بالرعب من مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة».
والذي يؤيد هذا أن القرآن خاطب أمم الأنبياء ولم يكن هناك إلا أمة اليهود والنصارى والمسلمين فهذا موسى نبي اليهود، وهذا عيسى، وبقي الفرد العلم الذي لا يحتاج إلى ما يعيّنه والذي رفعه الله درجات ودرجات ولا حرج على فضل الله.
ولو شاء الله عدم قتال الذين جاءوا من بعد الرسل من بعد ما جاءتهم البينات والمعجزات ما اقتتلوا، ولكن لم يشأ عدم اقتتالهم لأنه خلق الإنسان وكرّمه بالعقل والإدراك، وكل إنسان يختلف عن الآخر، ولم يجعل قبول الدين ومبادئه بالطبيعة والفطرة من غير تفكير ونظر، وإلا لكان الناس أمة واحدة كلهم مؤمنون أو كلهم كافرون، ولهذا اختلفوا اختلافا بينا في قبول الدين، فمنهم من آمن ومنهم من كفر.
166
فاقتضت الحكمة الإلهية مشيئة اقتتالهم فاقتتلوا بما ركب فيهم من دواعي الاختلاف والشقاق.
ولو شاء عدم قتالهم بعد اختلاف ميولهم ونزعاتهم ما اقتتلوا، ولكن الله يفعل ما يريد ويحكم بما يشاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، وهو على كل شيء قدير وهو العزيز الحكيم.
وقد اختلف اليهود واقتتلوا، وكذلك النصارى، وها هم المسلمون بعد أن كانوا يدا واحدة أصبحوا فرقا متنازعين متقاتلين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [سورة النساء آية ٥٩].
في الحث على الإنفاق [سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)
المفردات:
(بيع) البيع المراد به: الكسب بأى نوع من أنواع المبادلة والمعاوضة. خُلَّةٌ الخلة: الصداقة والمحبة، والمراد لازمها من الكسب كالصلة والهدية والوصية.
شَفاعَةٌ الشفاعة: المراد لازمها من الكسب.
المعنى:
سبق أن تعرض القرآن الكريم للإنفاق بأسلوب فيه لطف كثير وبلاغة لقوم يؤثر فيهم
167
أمثال هذا الكلام مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «١» وهناك من يفعل الخير خوفا من عقابه وطلبا لثوابه، فهؤلاء خوطبوا بتلك الآية وأمثالها.
يا أيها الذين آمنوا واتصفوا بهذا الوصف العالي وهو الإيمان: بادروا إلى الإنفاق في سبيل الله مما تناله أيديكم ابتغاء مرضاة الله وطلبا لرضوانه، وأنتم الآن في فسحة من العمل وغدا سيأتى يوم لا تتمكنون فيه من الإنفاق أصلا مع أنه مطلوب إذ لا بيع في ذلك اليوم ولا شراء ولا كسب بأى نوع من أنواع المبادلة، ولا يوجد ما يناله الإنسان من الصداقة والخلة والشفاعة، فهذا هو يوم الجزاء والثواب والعقاب يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، يوم يظهر فيه فقر العباد إلى الواحد القهار والكافرون نعمة الله الجاحدون حقوق المال المشروعة هم الظالمون لأنفسهم فقط، هم الذين يمهدون للأفكار السامّة والمذاهب الهدامة حتى تغزو الشرق المسلم، ألم يقل الرسول صلّى الله عليه وسلّم
«حصنوا أموالكم بالزكاة» «٢»
ولا حصن لها أقوى من أن يعرف الفقير أن له حقّا معلوما في مال الغنى.
والمراد الإنفاق الواجب بدليل الوعيد الشديد، والدين يطالب بإنفاق القليل مما جعلكم مستخلفين فيه، فإنه ما آل إليكم إلا بعد أن خرج من يد غيركم أساءوا التصرف فيه ولم يحصنوه، فكانوا كافرين بنعمة الله ظالمين لأنفسهم.
أمن الحكمة أن يرى الأغنياء الأمة وقد تكاتفت عليها الأعداء الثلاثة من فقر وجهل ومرض، ثم هم يبذّرون المال ذات اليمين وذات اليسار في الخارج وعلى موائد القمار وفي الليالى الحمراء ويعرف الجميع هذا؟ ثم يقول الناس: إنهم يحاربون الأفكار الهدامة كالشيوعية وغيرها.
لا يا قوم إن أسلحة الحرب لهؤلاء الأعداء هي القوانين الإسلامية والحدود الشرعية، والإنفاق في سبيل الله أمضى سلاحا وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ «٣».
(١) سورة البقرة آية ٢٤٥.
(٢) رواه البيهقي في السنن الكبرى ٣/ ٣٨٢.
(٣) سورة البقرة آية ٢٧٢. [.....]
168
آية الكرسي [سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٥]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)
المفردات:
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ: لا معبود بحق في الوجود إلا هو. الْحَيُّ: ذو الحياة وهي مبدأ الشعور والإدراك والنمو والحركة، والمراد هنا بالحياة مبدأ العلم والإرادة والقدرة. الْقَيُّومُ: دائم القيام بتدبير خلقه وحفظهم ورعايتهم. سِنَةٌ السنة:
ما يتقدم النوم من الفتور. نَوْمٌ النوم: حالة تعرض للحيوان تمنع من الحس والشعور. كُرْسِيُّهُ الكرسي: ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد.
يَؤُدُهُ: يثقله ويشق عليه.
المعنى:
الله لا إله يعبد بحق في الوجود إلا هو، إذ الإله الحق هو الذي يعبد بحق وهو واحد، والآلهة التي تعبد بغير حق كثيرة جدّا، فالله منفرد بالألوهية موصوف بالحياة الأبدية، واجب الوجود، الحىّ الذي لا يموت، القائم بذاته على تدبير خلقه، المخالف لهم في كل صفاتهم مما يعترى الحوادث، لا تغلبه ولا تستولى عليه سنة ولا نوم، مالك الملك
والملكوت ذو العرش والجبروت، له ما في السموات والأرض، ذو البطش الشديد، فعال لما يريد، يوم يأتى لا تكلم نفس إلا بإذنه، من ذا الذي يشفع عنده إلا بأمره، فعال لما يريد، يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه، من ذا الذي يشفع عنده إلا بأمره، والمناعة؟ العالم وحده بالخفيات يعلم الكليات والجزئيات، ولا يطلع على علمه أحدا إلا من شاء، ولا يحيط بعلمه أحد إلا بما شاء،
ولقد صدق الخضر- عليه السلام- فيما روى عنه إذ قال لموسى- عليه السلام- حيث نقر العصفور في البحر: «ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر».
واسع الملك والقدرة، والأرض جميعا في قبضته والسموات مطويات بيمينه، فلا الكرسي ولا القبضة ولا اليمين وإنما هو تصوير وتمثيل لعظمته، وقدرته، وتمام ملكه وسعة علمه، سبحانه وتعالى!! لا يشغله شأن عن شأن ولا يشق عليه أمر دون أمر، متعال عن الأوهام والظنون القاهر لا يغلب، العظيم لا تحيط به الأفهام والعقول، جل شأنه لا يعرف كنهه إلا هو- سبحانه وتعالى- وهذه آية الكرسي وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة،
روى عن على بن أبى طالب: سمعت نبيكم صلّى الله عليه وسلّم على أعواد المنبر وهو يقول: من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله.
الدخول في الدين والولاية على الناس [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٥٦ الى ٢٥٧]
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧)
170
المفردات:
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ: لا جبر ولا إلجاء على الدخول في الدين. الرُّشْدُ:
رشد يرشد رشدا إذا بلغ ما يجب، والرّشد: الهدى، ومثله الرشاد مستعمل في الخير، وضده الغىّ، يقال: غوى يغوى: إذا ضل في معتقد أو رأى. بِالطَّاغُوتِ من الطغيان: مجاوزة الحد في الشيء، ويطلق على الشيطان، وعلى كل ما يعبد من دون الله لأنه أساس الطغيان ومجاوزة الحد. بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى العروة من الدلو والكوز: المقبض، ومن الشجر: الملتف، والوثقى: مؤنث الأوثق، وهو ما يعول الناس عليه عند المحل والأقرب أن يراد بالعروة الوثقى الشجر الملتف فهي التي لا ينقطع مددها عند القحط والجدب. لَا انْفِصامَ لَها: لا انقطاع لها. وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا: يتولى أمورهم بالرعاية والعناية.
سبب النزول:
روى أن أبا الحصين من بنى سالم بن عوف كان له ابنان فتنصرا قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم قدما إلى المدينة فلزمهما أبوهما وقال: لا أدعكما حتى تسلما، فاختصما إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال أبوهما: أيدخل بعضى النار وأنا أنظر؟ فنزلت الآية، فخلّى سبيلهما.
المعنى:
بعد ذكر هذه الصفات الجليلة التي لا تكون إلا لله الواحد الأحد والنعوت الموجبة للإيمان به وحده، لا يصح أن يكون هناك إلجاء وقسر على الدخول في الدين أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩ من سورة يونس)، الآن حصحص الحق وظهر، وتبين الرشد من الغي ووضح، فلا إكراه ولا إلجاء لأن الإيمان اعتقاد قلبي ولا سبيل لأحد على قلوب الناس وقد وضحت الآيات الدالات على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما يدعيه عن ربه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فقولهم: إن الإسلام قام بالسيف دعوى باطلة إذ المسلمون قبل الهجرة كانوا يخفون صلاتهم ولا يقدرون على مجاهرة الكفار، وقد نزلت هذه الآية بعد الهجرة بثلاث سنين تقريبا وهي تثبت أنه لا إكراه في الدين.
171
وما حصل من الحرب فهو من النوع الدفاعى حتى يكف المشركون عن فتنة المسلمين ويتركوا الناس أحرارا، ولذلك رضى المسلمون بإظهار الإسلام أو دفع الجزية وفتح مصر وبعض البلاد بالسيف كان لإيصال حجة الإسلام إلى الشعب بدون إكراه بدليل قبول الجزية أو الدخول في الإسلام فمن يكفر بالأصنام وكل ما يعبد من دون الله ويؤمن بالله الواجب الوجود فقد بالغ في التمسك بالعروة الوثقى المأمون انقطاعها، فكأنه يقول: إن المبالغ في التمسك بهذا الحق والرشد كمن يأوى بإبله إلى ذلك الشجر الملتف الكثير الذي لا ينقطع مدده ولا يفنى غذاؤه والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب، ولذا كان تذييل الآية: سميع بالأقوال، عليم بالمعتقدات والأفعال.
الله ولى الذين آمنوا يتولى أمورهم ويهديهم طريقهم، ولا ولى لهم ولا سلطان لأحد على اعتقادهم إلا المولى- جل شأنه- فهو يرشدهم إلى الصراط المستقيم ويخرجهم من ظلمات الشك والشبهة إلى نور العلم والمعرفة واليقين والذين كفروا بالله ورسوله أولياؤهم الطاغوت، فإن مس قلوبهم شيء من نور اليقين والتوفيق أسرع الشيطان وما يعبدونه- إن كان حيا أو سدنته وخدمه إن كان صنما- أسرعوا جميعا إلى إزالة النور والحق وإخراج الكفار من النور إلى ظلمات الكفر والنفاق والشك والضلال، أولئك الذين بعدوا جدا في الضلال وأولئك أصحاب النار الملازمون لها هم فيها خالدون.
من غرور الكافرين بالله أو قصة نمرود [سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨)
172
المفردات:
أَلَمْ تَرَ: تركيب فيه استفهام ونفى، والمعنى: يجب أن ينتهى علمك إلى الذي حاج فإن أمره من الظهور بحيث لا يخفى على أحد من المخاطبين. فَبُهِتَ: تحير ودهش.
المعنى:
الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، وهاك بعض القصص التي تثبت ذلك بوضوح.
ألم ينته علمك أيها المخاطب إلى الذي أعطاه الله الملك فلم يحسن الشكر بل أبطرته النعمة وجعلته يطغى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «١» فما كان سببا في الطاعة جعل سببا في المعصية، هذا نمرود اتخذ الطاغوت وليّا وحاج إبراهيم- عليه السلام- في ربه حيث قال له: من ربك الذي تدعو إليه؟ قال إبراهيم: ربي الذي يفيض على الخلق نعمة الحياة والموت فهو الذي يحيى ويميت، أى: ينشئ الحياة والموت، فما كان منه إلا أن قال: أنا أحيى بعض الخلق بالعفو عنهم وأميت البعض الآخر بالقتل وأحضر رجلين عفا عن أحدهما وقتل الآخر، وهذا كلام لا يعبأ به ولا يلتفت إليه، إذ المراد إنشاء الحياة وتكوينها لا التسبب فيها، لذا مثل له بمثال أوضح وأظهر فقال: ربي أبدع الكون ونظمه وجعل الشمس تشرق من المشرق وتغرب من المغرب فأت بها أنت أيها المغرور المدعى من المغرب إن كنت قادرا على ذلك؟ فغلبه إبراهيم وأسكته حتى بهت والله لا يهدى الظالمين لأنفسهم إلى طريق الخير أبدا لأنهم لم يتخذوا الله وليّا، وهذه من الآيات على وجود الله.
(١) سورة الواقعة آية ٨٢.
173
قصة العزير وحماره [سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٩]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩)
المفردات:
قَرْيَةٍ القرية: الضيعة، وفيها معنى الاجتماع. خاوِيَةٌ: خالية، أو ساقطة. والعروش: السقوف. أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها: استبعاد منه للإحياء بعد الموت، والمراد بالإحياء: عمارتها بالبناء والسكان، وبموتها خرابها. لَمْ يَتَسَنَّهْ: لم يتغير. نُنْشِزُها: نرفع بعضها إلى بعض ونردها إلى أماكنها من الجسد.
المعنى:
قصة أخرى تثبت كيف يتولى الله بعض الخلق فيهديه إلى الطريق المستقيم.
أو رأيت إلى الذي مر على قرية وهي خالية من السكان قد سقطت حيطانها على عروشها ولم يبق بها أثر لحياة.
قال: مستبعدا عمارتها بعد خرابها مستعظما قدرة الله متشوقا لعمارتها: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها ولما دخل القرية وهي خالية من سكانها وقال ما قال وكانت أشجارها قد أثمرت تينا وعنبا ربط حماره وأكل من ثمرها ونام.
لما حصل منه هذا أماته الله مائة عام ثم رد له الحياة وبعثه على سبيل السرعة والسهولة حتى كأنه كان نائما ثم استيقظ، قيل له: كم وقتا لبثته؟ وإنما سئل هذا السؤال ليظهر عجزه عن إحاطته بشئونه تعالى.
قال: لبثت يوما أو بعض يوم بناء على التقريب وتقليل المدة، فقيل له: ما لبثت هذا القدر بل لبثت مائة عام، فانظر لترى دلائل قدرتنا: انظر إلى طعامك وشرابك الذي بقي مائة عام لم يتغير ولم يفسد مع سرعة فساد أمثاله، وانظر إلى حمارك كيف نخرت عظامه وتقطعت أوصاله لترى كيف تطاول الزمن عليك وعليه وأنت نائم، فعلنا ما فعلناه لتعاين ما استبعدته من الإحياء، ولنجعلك آية دالة على تمام قدرتنا على البعث يوم القيامة: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ. «١»
وانظر إلى عظام الحمار لتشاهد كيفية الإحياء في غيرك، فها هي العظام نرفع بعضها إلى بعض ونردها إلى أماكنها من الجسد فنركبها تركيبا وثيقا محكما، ثم نكسوها لحما طريا يسترها كما يستر الثوب الجسد، فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير.
وهذا المثال من آيات الله الدالة على البعث [سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٠]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)
(١) سورة الروم آية رقم ٢٨.
175
المفردات:
بَلى: حرف يجاب به فَصُرْهُنَّ: أملهنّ إليك واضممهن.
المعنى:
مثال ثان لولاية الله للمؤمنين ولهدايتهم إلى الطريق المستقيم، وهو من الآيات الدالات على البعث، وإنما ذكر في القرآن مثالان للبعث ومثال لوجود الله لأن منكري البعث أكثر من منكري وجود الله.
واذكر وقت قول إبراهيم: رب أرنى كيف تحيى الموتى وقد تأدب مع مولاه أدبا يليق به حيث بدأ سؤاله برب الذي يشعر بالعناية والتربية لخلقه، قال- تعالى- له وهو أعلم به: ألم يوح إليك ولم تؤمن بذلك؟ قال إبراهيم مجيبا: يا ربي قد أوحيت إلىّ وآمنت بذلك ولكن تاقت نفسي وتطلعت لأن تقف على كيفية الإحياء للموتى ليطمئن قلبي بمشاهدة العيان مع الوثوق والإيمان، ولا غرابة في ذلك فكلنا يؤمن بالأثير وعمله في نقل الأخبار والصور، وكثير منا لا يعرف كيفية ذلك وتتوق نفسه للمعرفة.
وفي رد الله عليه بقوله: أو لم تؤمن؟ إشارة إلى أن الإنسان لا يكلف بأكثر من الإيمان بأخبار الغيب الصادرة عن المولى- جل شأنه- في ذاته وصفاته ويوم القيامة وغيره.
قال تعالى: فخذ يا إبراهيم أربعة من الطير فأملهن إليك وضمهن وقطعهن قطعا ثم اجعل عل كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك ساعيات كما كانت، وهكذا يحيى الله الموتى، واعلم أن الله عزيز حكيم. هذا رأى الجمهور في الآية، وقد رأى بعضهم رأيا رجحه تفسير المنار، والظاهر- والله أعلم- أنه المناسب بطلب إبراهيم، وها هو الرأى:
خذ أربعة من الطير فأملهن إليك (والطير شديد النفور من الإنسان) حتى يأنسن بك ويمتثلن أمرك، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا، أى: واحدا من الطير ثم ادعهن يأتينك ساعيات ممتثلات بمجرد الدعوة، وهكذا يحيى الله الموتى فيقول: كونوا أحياء فيكونوا. فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت ١١] إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس آية ٨٢].
176
الإنفاق في سبيل الله وآدابه وشروطه [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦١ الى ٢٦٤]
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤)
المفردات:
بِالْمَنِّ: هو أن يعتدى على من أحسن إليه ويريه أنه أوجب بإحسانه حقّا عليه. الْأَذى: أن يتطاول عليه بسبب إنعامه. قَوْلٌ مَعْرُوفٌ: رد جميل تقبله القلوب ولا تنكره. رِئاءَ النَّاسِ: رياء لهم، يفعل الفعل لأجل أن يروه فيحمدوه. صَفْوانٍ: حجر أملس. وابِلٌ: مطر شديد. صَلْداً:
أملس ليس عليه تراب.
177
الإنفاق في سبيل الله ركن أساسى من أسس الدين ودعامة من دعائم الدولة، فما بخلت أمة بمالها إلا حاق بها الذل والاستعباد، وسلط الله عليها الأعداء من كل جانب يتكاثرون عليها كما تتكاثر الأكلة الجياع على المائدة.
والإنفاق في سبيل الله واجبا كان أو مندوبا. ما دام في وجوه الخير ومحاربة الجهل والفقر والمرض ونشر الدين وخدمة العلم، فهو مما يطلبه الدين ويحث عليه الشرع، ولذا ترى القرآن الكريم قد تكلم عنه في عدة مواضع وحث عليه بأساليب شتى وضرب الأمثال ورغّب ورهّب وبيّن ووضّح.
المعنى:
مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ولإعلاء كلمته وإسعاد الوطن وأهله كمثل حبة أنبتت سبع سيقان في كل ساق سنبلة في كل سنبلة مائة حبة، وذلك يكون في أخصب أرض وأجود تربة وأحسن بذر، ولا غرابة في ذلك، فهذا القمح والأرز تنبت الحبة فيه هذا القدر.
وهذا تصوير وتمثيل للأضعاف والإضافة في الزيادة والأجر يضاعف هذه المضاعفة أو أكثر منها لمن يشاء إذ هو الواسع الفضل الغنى الكريم العليم بكل شيء.
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وهذا جزاؤهم في الدنيا والآخرة إنما يستحقون ذلك بشرط ألا يتبعوا ما أنفقوا منّا على الفقير بأن يعتدّ عليه بما فعل به وألا يتبعوا ما أنفقوا بالأذى والضرر فلا يتطاول عليه المنفق ويطلب جزاء عمله.
وعدم المن والأذى مطلوب منك أيها المنفق وقت الصدقة وبعدها وإذا حرم عليك بعد الصدقة فوقتها من باب أولى، وهذا هو السر في التعبير بثم.
هؤلاء المنفقون في سبيل الله الذين لم يمتنّوا ولم يؤذوا أحدا لهم أجرهم الكامل عند ربهم ولا هم يحزنون وقت أن يحزن البخيل ويندم على إمساكه رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [سورة المنافقون آية ١٠].
كلام جميل تهدأ به نفس السائل وتردّ به، ومغفرة لإساءته في الإلحاف، خير للسائل والمسئول من صدقة يتبعها أذى وضرر إذ الصدقة شرعت لتقريب الناس بعضهم من بعض
178
وتخفيف حدة الحسد والحقد بين الطبقات، والمن والأذى يخرجها عن وضعها الصحيح، والله واسع الفضل غنى لا يحتاج إلى عطاء الغنى، بل أوجبها تأكيدا للصلة وجلبا للمحبة والتعاطف، حليم لا يعاجل بالعقوبة لمن يستحقها.
والمن والأذى طبيعة في النفوس وغريزة في بنى الإنسان ولذا حرمهما الله بأن شرط في النفقة الشرعية خلوّها من المن والأذى وبيّن أن العدول عن الصدقة التي يتبعها أذى إلى قول معروف خير من تلك الصدقة.
ثم بعد هذا كله خاطب المؤمنين بوصف الإيمان ليكون ذلك أدعى للقبول والامتثال، وحرم عليهم المن والرياء صراحة فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تحبطوا ثواب صدقاتكم بالمن والأذى.
أفسدت بالمن ما أسديت من حسن ليس الكريم إذا أسدى بمنّان
فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم كمن ينفق ماله للرياء والسمعة، والمرائى يظهر للناس أنه يريد وجه الله، وفي الواقع هو يريد وجه الناس ليقال عنه: إنه كريم وجواد وغير ذلك من أغراض الدنيا، ولذا وصفه الله بقوله: لا يؤمن بالله واليوم الآخر.
فمثل الذي يمن ويؤذى والذي يرائى كمثل حجر أصم عليه تراب وقد نزل عليه مطر شديد فذهب التراب وبقي الحجر أملس، وهكذا الذي يمن أو يرائى يلبس ثوبا غير ثوبه ثم لا يلبث أن ينكشف أمره ويتهتك ستره فيكون ما تلبس به كالتراب على الصفوان يذهب به الوابل فلا يبقى من أثره شيء.
ثوب الرياء يشف عما تحته فإذا اكتسيت به فإنك عار
فالذي يمن أو يرائى مذموم في الدنيا من الناس أجمعين. وأما في الآخرة فلا ثواب إلا للمخلصين الذين ينفقون ابتغاء مرضاة الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا رياء، والله لا يهدى القوم الكافرين.
179
مثل من ينفق للرحمن والذي ينفق للشيطان [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦٥ الى ٢٦٦]
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)
المفردات:
وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ أى: تثبيت أنفسهم وتمكينهم، وقيل: تصديقا مبتدأ من عند أنفسهم. جَنَّةٍ الجنة: البستان، وهي قطعة أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها ففيها معنى الاستتار. وابِلٌ: مطر كثير غزير. ضِعْفَيْنِ الضعف:
المثل. فَطَلٌّ الطل: المطر الخفيف. أَيَوَدُّ الهمزة فيه للإنكار، ويود بمعنى يحب ويتمنى. وَأَعْنابٍ الأعناب: ثمر شجر الكرم. إِعْصارٌ: ريح عاصفة تستدير في الأرض بشدة ثم ترتفع إلى السماء حاملة الغبار. نارٌ المراد: ريح فيها برد شديد وسموم يحرق الشجر.
المعنى:
ما تقدم في الذي ينفق مع المن والإيذاء أو السمعة والرياء، وما هنا أمثلة للذي ينفق في سبيل الله أو سبيل الشيطان.
180
مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء رضا الله وطلبا لمغفرته وتثبيتا لأنفسهم وتمكينا لها على فعل الخير، فإن المال شقيق الروح، وإنفاقه شاق وعسير على النفس، فإذا أنفقت بعض المال لله عودت نفسك على فعل الخير وثبّتّ بعضها، أما البعض الآخر فيثبت بالجهاد بالنفس في سبيل الله كما قال- تعالى- في سورة الحجرات: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [سورة الحجرات آية ١٥].
مثلهم كبستان ذي أشجار ملتفة قد كست الأرض، وهو بمكان مرتفع متمتع بالشمس والهواء ينزل عليه المطر الغزير فيثمر ضعفين من ثمر أمثاله، وإذا نزل عليه مطر بسيط أثمر وذلك لجودة تربته ونقاء منبته.
والمعنى في هذا التمثيل: أن المنفق لله وفي سبيله ويقصد تثبيت نفسه على الخير كالجنة الجيدة التربة العظيمة الخصب، فهو يجود بقدر سعته وما في يده فإن أصابه خير كثير أنفق كثيرا وإن أصابه قليل أنفق على قدر سعته، فخيره دائم وبره لا ينقطع كالبستان يثمر مطلقا إذا نزل عليه مطر كثير أو قليل.
أما المثل الثاني: فهو لمن ينفق على عكس الأول وينفق في سبيل الشيطان ومرضاة لنفسه وهواه.
أيها المنفق لغير الله: أتود أن يكون لك جنة فيها النخيل والأعناب والزرع ومن كل صنف ولون تجرى من تحت جذورها الأنهار، لك فيها من كل الثمرات التي تشتهيها وأنت رجل كبير مسن قد أدركتك الشيخوخة وأصابك ضعف الكبر ولك ذرية من ذكور وإناث ضعفاء وصغار لا يقدرون على الكسب وتصريف أمورهم، وليس لك ولهم غير تلك الجنة، فأصابها بأمر الله ريح شديد وسموم كالنار أو أشد، أحرق الشجر وأباد الثمر وأنت في أشد الحاجة إلى نتيجة عملك وجدك في شبابك؟؟! فمن يرضى بهذا المصير الذي ينتظر كل من ينفق للرياء أو يتبع ما أنفقه بالمن والأذى.
إن من ينفق في سبيل الشيطان يظن أنه سينتفع بنفقته، كلا إنه كهذا المسن صاحب تلك الجنة، يأتى يوم القيامة فلا يجد لعمله إلا الحسرة والندامة.
181
مثل ذلك البيان الواضح يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون وتتعظون بهذه الأمثال والمواعظ.
نوع ما ينفق منه ووصفه [سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)
المفردات:
طَيِّباتِ الطيب: المراد هنا الجيد الحسن. تَيَمَّمُوا: تقصدوا.
الْخَبِيثَ: الرديء. تُغْمِضُوا: تتساهلوا، من أغمض عينه عن الشيء حتى لا يرى عيبه.
المعنى:
يبين الله- سبحانه وتعالى- وصف ما ينفق منه وبيان نوعه فيفتتح الكلام بهذا النداء الذي يهز القلوب ويلفت الأنظار: يا من اتصفتم بالإيمان أنفقوا الطيب الجيد ولا تقصدوا إلى الخبيث الرديء فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ولا تجعلوا لله ما تكرهون.
وقد ورد في سبب نزول الآية ما يؤيد هذا المعنى: روى أن بعضهم كان يقصد إلى الحشف من التمر فيتصدق به فنزلت الآية، والمعنى: أنفقوا من جياد أموالكم ولا تقصدوا الخبيث فتجعلوا صدقتكم منه خاصة دون الجيّد، فهو نهى عن تعمد الصدقة من الخبيث دون الطيب لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران آية ٩٢].
وأما نوع ما ينفق منه فهو بعض ما يجنيه المرء من عمله وجده كالتجارة والصناعة والكسب الحلال بأى نوع كان، وبعض ما يخرج من الأرض من غلات الحبوب والزروع والمعادن والركاز (وهو دفين الجاهلين) والإنفاق هنا الظاهر أنه عام يشمل الزكاة والصدقة.
الشيطان والإنفاق [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٦٨ الى ٢٦٩]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩)
المفردات:
بِالْفَحْشاءِ: البخل، والعرب تسمى البخيل فاحشا. وَفَضْلًا: رزقا وجاها في الدنيا. الْحِكْمَةَ: العلم النافع الصحيح. الْأَلْبابِ: العقول الراجحة الموفقة.
المعنى:
الشيطان عدونا من قديم أخرج أبانا آدم من الجنة وأقسم قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فالشيطان بما يوسوس للناس ويزين لهم أن الصدقة والإنفاق في سبيل الله يورث الفقر والحاجة (الجود يفقر والإقدام قتّال) يعدنا بالفقر ويأمرنا بالبخل، والله- سبحانه وتعالى- بما أودع في بعض الناس من الميل إلى التخلق بالخلق الكامل والإنفاق على الناس وبما يأمرنا به من النفقة في الكتب المنزلة يعدنا مغفرة بسبب الإنفاق فقد جعله كفارة لكثير من الذنوب، ويعدنا به فضلا لأن صاحبه يفضل غيره ويأسر قلبه ويشترى حبه له، والفضل: المال والخير، ولا شك أن المال المنفق يخلفه الله على صاحبه وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سورة سبأ آية ٣٩].
وفي الصحيحين: «ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان، يقول أحدهما:
اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا»

ولا غرابة فالله واسع الفضل بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء.
عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «للشيطان لمّة (خطرة تقع في القلب) وللملك لمّة، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان» «١»، ثم قرأ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ
يؤتى الله الحكمة والعلم الصحيح النافع- وعلى الأخص فهم القرآن والدين- من يشاء من عباده الذين يحبهم ويتولاهم بعنايته ورعايته، ومن يؤت الحكمة بهذا المعنى فقد أوتى خيرا كثيرا، وأى خير في الدنيا والآخرة بعد توفيق الله وهدايته في فهم الأمور على حقيقتها وإدراك الأشياء على وضعها الصحيح؟ وإنما يتذكر هذا أولو الألباب.
بعض أحكام الإنفاق [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٠ الى ٢٧١]
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)
المفردات:
مِنْ نَذْرٍ النذر: التزام الطاعة قربة لله تعالى. فَنِعِمَّا هِيَ الأصل: فنعم ما هي، بمعنى فنعم شيئا إبداؤها.
(١) أخرجه البخاري كتاب الزكاة باب قول الله [فأما من أعطى واقضى] حديث رقم ١٤٤٢.
184
المعنى:
وما أنفقتم من نفقة سواء كانت لله أو للرياء والسمعة أو أتبعت بمنّ وأذى أو لم تتبع، أو نذرتم من نذر قربة لله أو نذر لجاج وغضب، فالأول: هو التزام الطاعة قربة لله، كقولك: لله علىّ أن أصوم أو أتصدق مثلا بشرط أو بغير شرط، والثاني:
كقولك: إن كلمت فلانا فعلى كذا أو كذا، والأول يجب الوفاء به، وفي الثاني خلاف، قيل: يكفّر عنه كفارة يمين أو يفعل ما التزمه.
كل هذا الله عالم به مجاز عليه إن خيرا فخير وإن شرّا فشر، وما للظالمين من أنصار ينصرونهم يوم القيامة، والمراد بهم هنا الذين بخلوا بالمال ولم يتصدقوا.
إن تظهروا الصدقات ويعلم بها الناس فنعم ما فعلتم، وإن تخفوها وتكتموها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم.
والخلاصة هنا: أن إبداء الصدقة الواجبة خير بلا شك من إخفائها خصوصا في هذا الزمان فإن الناس يحتاجون إلى مرشدين عمليين يتقدمون الصفوف ويفعلون الخير قدوة للناس، وأما المندوبة فإخفاؤها وإعطاؤها الفقراء بهذا القيد خير لأن ذلك أدعى لعدم الرياء وأحفظ لكرامة الفقير، فإن كان لجهة عامة أو لمشروع خيرى فلا بأس من إعلانها ليكون ذلك أدعى للتسابق في الخير.
والله بما تعملون خبير وبصير فهو يعرف السّر وأخفى فحاذروه واخشوا عقابه، وذلك لأن أمراض الرياء والنفقة لغير الله أمور قلبية لا يطلع عليها إلّا الله.
185
لمن تعطى الصدقة وبعض أحكامها [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٢ الى ٢٧٤]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)
المفردات:
هُداهُمْ: هدايتهم إلى الإسلام. أُحْصِرُوا أى: حبسوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله. ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أى: سيرا فيها. التَّعَفُّفِ أى: العفة.
بِسِيماهُمْ السيما: العلامة. إِلْحافاً: بالإلحاح.
186
المعنى:
قد أطلق الله في الآية السابقة إيتاء الصدقة للفقراء مسلمين وغير مسلمين، وقد أرشدنا الله في هذه الآية إلى عدم التحرج في إعطاء غير المسلمين بحجة عدم الاهتداء إلى الدين فإن الهداية من الله، والشفقة تقتضي إعطاء الإنسان المحتاج مطلقا بقطع النظر عن دينه.
وقد ذكروا في أسباب النزول روايات كثيرة كلها تدور حول هذا،
فعن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يأمرنا بألا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية.
وإذا كان الله يخاطب النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: ليس عليك هدايتهم ولكن الله يهدى من يشاء إلى دينه فالمسلمون من باب أولى.
ولا يصح أن يكون الباعث على الإنفاق الرغبة في دخول الناس في الإسلام وإنما الباعث عليه هو أن الإنفاق لنا وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ نعم هو لنا في الدنيا إذ لا ينكر أحد ما للإنفاق من الأثر البين في جذب القلوب وسلّم السخائم والأحقاد ونشر الأمن والطمأنينة ومنع السرقة وقطع الأفكار السامة والمبادئ الهدامة، وأما في الآخرة فجزاؤه يوفى إلينا، ولا يصح أن يكون الإنفاق إلا في الخير ابتغاء وجه الله لا وجه الدنيا والشيطان، وعلى ذلك فلا منّ ولا إيذاء لأنك ما فعلت لأحد شيئا وإنما قدمت لنفسك ما ينفعها ولا رياء ولا سمعة حيث تقصد وجه الله.
وما تنفقوا من مال قل أو كثر يوف إليكم أجره في الآخرة وأنتم لا تظلمون شيئا فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبّة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [سورة الأنبياء آية ٤٧].
علم مما مر أن الإنفاق يكون للفقراء عامة ولا حرج على من ينفق على غير المسلم، ثم بين هنا أحق الناس بالصدقة وهم الفقراء بأوصافهم.
الصفة الأولى:
الذين أحصروا في سبيل الله، أى: منعوا أنفسهم من الكسب وحبسوها على الجهاد في سبيل الله. نزلت هذه الآية في أهل الصفة وهم فقراء المهاجرين الذين هاجروا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتركوا مالهم وكان عددهم حوالى أربعمائة رجل.
187
ولم يكن لهم مأوى فكانوا يأكلون عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وعند غيره ثم يبيتون في المسجد تحت جزء مسقوف يقال له الصّفّة، وقد كان عملهم الجهاد وحفظ القرآن الكريم والخروج مع السرايا التي يرسلها النبي صلّى الله عليه وسلّم وهكذا من يشاكلهم ممن حبس نفسه على الجهاد في سبيل الله، فالجنود وطلبة العلم بشرط أن لا يمكنهم الكسب ممن يدخل تحت هذا.
الصفة الثانية:
لا يستطيعون سفرا ولا سيرا في الأرض للتجارة والكسب وذلك بأن يكونوا ممنوعين لعجز أو كبر أو ضرورة.
الصفة الثالثة:
يحسبهم الذي يجهل حالهم أغنياء من عفتهم وصبرهم وقناعتهم فعندهم عزة المؤمنين وتوكل المتوكلين.
الصفة الرابعة:
تعرفهم بسيماهم وعلامتهم، فعلامتهم الضمور والنحول والضعف ورثاثة الثياب، وفي الواقع هذا متروك لفراسة المؤمن، فرب فقير له مظهر وغنّى رث الثياب لحوف في السؤال.
الصفة الخامسة:
لا يسألون الناس أصلا، أو لا يسألون الناس ملحين وملحفين، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف، اقرءوا إن شئتم قوله- تعالى-: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً والسؤال في الإسلام محرم إلا لضرورة،
عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المسألة لا تحل إلا لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع» «١».
وما تنفقوا من خير قل أو كثر فإن الله به عليم ومجاز عليه.
ويشير القرآن الكريم في آخر آية في الإنفاق إلى عموم الأحوال والأزمنة في الصدقة فبين أن الذين يتصدقون بأموالهم ليلا أو نهارا، سرّا أو علانية هؤلاء لهم الأجر الكامل عند ربهم الذي ربّاهم وتعهدهم في بطون الأرحام، ولا خوف عليهم أصلا في الدنيا ولا في الآخرة ولا هم يحزنون أبدا، وهكذا كل من سار بسيرة القرآن واهتدى بهديه أولئك هم المفلحون.
(١) أخرجه البخاري كتاب التفسير باب [لا يسألون الناس إلحافا] حديث رقم ٤٥٣٩.
188
الرّبا وخطره على صاحبه وعلى الأمة [سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٥ الى ٢٨١]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
189
المفردات:
يَأْكُلُونَ: يأخذون، وعبر بالأكل عن الأخذ لأنه الغرض الأساسى منه، واللباس والانتفاع والنفقة داخلة فيه، وللإشارة إلى أن ما يأخذ لا يرجع أصلا.
الرِّبا في اللغة: الزيادة، وفي عرف الشرع يطلق على مال يؤخذ بلا عوض ولا وجه شرعي. يَتَخَبَّطُهُ الخبط: السير على غير هدى وبصيرة، ومنه قيل:
خبط عشواء. الْمَسِّ: الجنون والصرع. مَوْعِظَةٌ أى: وعظ. يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا: ينقصه ويذهب ببركته. وَيُرْبِي: يزيد ويبارك. أَثِيمٍ: مصرّ على الإثم ومبالغ فيه. ذَرُوا: اتركوا. فَأْذَنُوا: فاعلموا، من أذن بالشيء:
علم به. فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ: فانتظار إلى يسر ورخاء.
المناسبة:
ما تقدم كان في ذكر النفقة والمنفقين بالليل والنهار وفي السر والعلن ينفقون لوجه الله ولتثبيت أنفسهم على الإيمان فهم ينفقون المال بغير عوض ولا منفعة دنيوية.
وفي الآية هنا الكلام على المرابين الذين يستحلون مال الغير بغير حق ولا عوض، فالمناسبة بينهما التضاد، ولا غرابة فالضد أقرب خطورا بالبال.
المعنى:
الذين يأخذون الربا ويستحلونه من غير وجه شرعي ويأكلون أموال الناس بالباطل قد أذلتهم الدنيا وسخرهم حب المال وركبهم الشيطان والهوى، فتراهم في حركاتهم وسكناتهم وقيامهم وقعودهم يتخبطون خبط عشواء كالصرعى الذين مسهم الجن، وإنما خص القيام لأنه أبرز مظاهر النشاط في العمل ولقد جاء التعبير القرآنى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ موافقا لاعتقادهم وأنهم كانوا يؤمنون بالجن وتأثيره على الإنسان.
والعرب قديما ينسبون كل ما استعصى عليهم فهمه وإدراك سره إلى الجن، فلا غرابة
190
في أن يأتى القرآن موافقا لفهمهم، لأن المقصود تصوير آكل الربا بأبشع صورة وأقبح منظر.
ولقد درج جمهور المفسرين على أن المراد أن آكل الربا يقوم يوم القيامة يتخبط كالذي مسه الجن استنادا إلى روايات كثيرة وردت في وصف قيامه يوم القيامة، ولعل آكل الربا يبعث يوم القيامة على الحالة التي كان عليها في الدنيا فنجمع بين الرأيين.
وذلك الذي كان يفعله المشركون في الجاهلية من أكل الربا بسبب أنهم يستحلونه ويجعلونه كالبيع والشراء، فكما يجوز لك أن تبيع الشيء الذي قيمته قرش بقرشين! فلم لا يجوز أن تأخذ درهما في وقت العسرة والشدة وتدفع في وقت الرخاء درهمين؟
ولقد بالغوا في هذا حتى جعلوا البيع كالربا.
وقد أحل الله البيع إذ فيه معاوضة وسلعة قد يرتفع ثمنها في المستقبل وما زيد في الثمن إنما هو في مقابلة شيء ستنتفع به في الأكل أو اللبس أو غيرهما.
وحرم الربا إذ لا معاوضة فيه، والزيادة ليست في مقابلة شيء، بل كانوا إذا حل الدين فإن دفع المدين وإلا أجل الدائن في نظير زيادة الدين، فأخذ هذه الزيادة ظلم وأى ظلم واستحلالها كفر وإثم.
فمن جاءه وعظ من ربه يتضمن تحريم الربا لمصلحة الأمة والجماعة فانتهى عما كان يفعله، فله ما سلف أخذه في الجاهلية وأمره يوم القيامة إلى الله، والله يحاسبه على ما أخذه بعد التحريم أما قبله فقد عفا عنه.
ومن عاد إلى أكل الربا بعد تحريمه ووقف على ضرره فأولئك البعيدون في الضلال والظلم أصحاب النار الملازمون لها هم فيها ماكثون مكثا الله أعلم به.
وكيف تقعون في الربا وخطره وتبتعدون عن الصدقة وبرها، والربا يمحقه الله فلا بركة فيه ولا زيادة، فالمال وإن زاد بسببه ونما في الظاهر فهو إلى قل وضياع، والواقع الذي نشاهده شاهد على ذلك، أليس المرابى مبغوضا من الله والناس أجمعين؟! فلا أحد يعاونه ولا إنسان يعطف عليه بل الكل حاسد شامت يتربص به الدوائر، وهذا كله مما يساعد على ضياع المال ونقصانه.
191
وأما الصدقة فالله ينميها ويبارك فيها، وما نقصت زكاة من مال قط، والمتصدق محبوب عند الله والناس أجمعين، فلا حسد ولا بغضاء ولا سرقة ولا إكراه ولا إيذاء، وهذا كله مما يساعد على الزيادة والنمو في المال يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ والله لا يرضى عن المستحل للربا والمقيم على الإثم المبالغ فيه.
شأن القرآن إذا ذكر بعض المعاندين الظالمين الذين يفعلون فعل الكفار الآثمين، أن يعقب بذكر المؤمنين العاملين حتى يظهر الفرق واضحا فيكون ذلك أدعى للامتثال وأقرب للقبول ولذا يقول الله إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة... الآية والمعنى.
«إن الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا صالحا يقيهم من عذاب النار، خصوصا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فإن الأعمال الصالحة مطهرة للنفس ومرضاة للرب ومجلبة لمحبة العبد في الدنيا، هؤلاء لهم أجرهم الكامل عند من رباهم وتعهدهم وأنشأهم من العدم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون أبدا».
ثم بعد هذا التمهيد القيم الذي أظهر الله فيه آكل الربا بتلك الصورة الفظيعة وجزاءه في الدنيا والآخرة وما استتبع ذلك من ذكر المؤمنين الصالحين وجزائهم ناسب أن يأمر أمرا صريحا بترك الربا فيقول: يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان الذي يتنافى مع الربا والتعامل به.
فالإيمان والإسلام سلام ورحمة وعطف وصلة، أما الربا فجشع واستغلال ونصب واحتيال ومعاملة دنيئة تتنافى مع أخوة الإنسانية مطلقا.
يا أيها الذين آمنوا خذوا لأنفسكم الوقاية من عذاب الله وذروا ما بقي لكم من الربا حالا، أى: اقطعوا المعاملة به فورا، فضلا عن إنشاء المعاملة من جديد إن كنتم مؤمنين، وإلا فلستم مؤمنين كاملين لأنه لا إيمان مع المعاصي خصوصا الربا فإن لم تفعلوا ما أمرتم به فاعلموا واستيقنوا بحرب من الله ورسوله، أما حرب الله فغضبه وانتقامه، وما الآفات الزراعية والاضرار التي تصيبنا في هذه الأيام إلا من أكل الربا واستحلاله، وأما حرب رسوله والمؤمنين فمناصبتهم العداء واعتبارهم خارجين على الشرع وأحكامه.
روى أن هذه الآية نزلت في ثقيف كان لها ربا على قوم من قريش فطالبوهم به فأبوا واختصموا إلى والى مكة عتّاب بن أسيد، فنزلت الآية وكتب بها الرسول صلّى الله عليه وسلّم إليهم، فلما علمت ثقيف بذلك قالت: لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله.
192
وإن أقلعتم عن التعامل بالربا ورجعتم إلى الله فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون أحدا بأخذ الربا ولا تظلمون بنقص أموالكم.. وإن تعاملتم مع فقير معسر فانتظار منكم إلى يسر ورخاء عسى الله أن يفرج عليكم جميعا
«فمن نفّس عن مؤمن كربة نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» «١» حديث شريف
، وأن تتصدقوا بالتأجيل أو بترك الدّين أو بعضه فهو خير لكم وأحسن.
واتقوا يوما تتركون فيه الدنيا وزخارفها ومشاغلها وترجعون إلى الله فيشغل بالكم وتفكيركم، في هذا اليوم العصيب توفى كل نفس ما كسبت من خير أو شر وتوضع الموازين فلا تظلم نفس شيئا.
الربا نوعان:
ربا النسيئة: أى التأخير في أجل الدفع والزيادة في الدين كما كان يحصل في الجاهلية إذا حل الدين فإما أن تدفع وإما أن تؤجل ويزيد الدين.
وربا الفضل: هو الزيادة المشروطة للدائن بغير مقابل كما إذا أقرض محمد عليا مائة جنيه على أن يدفع على له في العام القادم مائة وعشرين، ومثل النقدين في ذلك المطعومات من قمح وشعير وذرة ودخن وتمر وملح،
عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطى فيه سواء» «٢»
وفي حديث عبادة بن الصامت: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد» «٣».
الحكمة في تحريم الربا:
الدين الإسلامى دين تعاطف وتراحم وبر وخير وعون ومساعدة وأخوة صادقة في الله، يحافظ على الصلات بين الناس، وأن تحل المروءات محل القوانين لهذا أوجب الصدقة والتعاطف من القوى على الضعيف والرحمة من الغنى على الفقير والمعاملة بالحسنى، وحرم الربا والإيذاء بأى نوع من أنواعه كما حرم انتهاز الفرصة واستغلال الحاجة.
(١) أخرجه مسلم في كتاب الذكر حديث رقم ٢٦٩٩.
(٢) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة حديث رقم ١٥٨٧.
(٣) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة حديث رقم ١٥٨٧.
193
وقد جعل الله النقدين أو ما يقوم مقامها كأوراق البنكنوت لتقويم السلع، ولم يخلقهما للاستغلال عن طريق الحاجة فإن هذا يؤدى إلى تكديس الثروة بسبب الربا في أيدى جماعة من الأمة، وفي هذا خسران الأمة والمجتمع، ومثل النقدين في ذلك المطعومات الأساسية التي ذكرناها، والتعامل بالربا يقطع الصلة بين الناس ويوجد الحقد والحسد ويولد البغضاء في النفوس وغير ذلك مما يجعل الناس تتعامل مع بعضها كالذئاب الجائعة كلّ ينتهز الفرصة ويتربّص بأخيه الدائرة وفي هذا هلاك الأمة بلا شك... وكيف تجيز لنفسك أن تستولى على مال الغير بغير حقّ شرعي وهذا هو عين الظلم لنفسك وما شاع الربا في قوم إلا عمّهم الفقر ونزلت عليهم الآفات وحبسوا القطر ومنعوا من الخير وقانا الله شره فهو صفة اليهود وعملهم.
أليس كل من تعامل بالربا ذهبت ماليته وضاعت فهو عاجز عن سداد الدين فكيف يسدده هو والربح.
أيليق بنا كأمة إسلامة أن نبيح الربا وروسيا تحرمه؟؟
194
آية الدّين والسر في طولها ووضوحها [سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)
المفردات:
تَدايَنْتُمْ: داين بعضكم بعضا، أى: تعاملتم بدين مؤجل. بِدَيْنٍ الدين: هو المال الذي يكون في الذمة. أَجَلٍ: هو الوقت المضروب لانتهاء شيء. (مسمّى) والمسمى: المعلوم بيوم أو شهر أو سنة ويدخل في الدين المؤجل القرض والسلم وبيع الأعيان إلى أجل. بِالْعَدْلِ: بالحق في كتابته لا يزيد في المال والأجل ولا ينقص. وَلا يَأْبَ: يمتنع: وَلْيُمْلِلِ الإملال والإملاء واحد.
لا يَبْخَسْ: لا ينقص. سَفِيهاً: ناقص العقل مبذرا. ضَعِيفاً: صبيا أو شيخا مسنّا. وَلا تَسْئَمُوا: لا تملوا وتضجروا. أَقْسَطُ: أعدل.
وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ: أثبت لها وأعون على إقامتها. وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا: أقرب إلى انتفاء ريبكم في الدّين وأجله. فُسُوقٌ بِكُمْ: خروج عن الطاعة.
المناسبة:
لما ذكر الإنفاق وجزاءه والربا وخطره ناسب أن يذكر التعامل بالدّين المؤجل
195
وحفظه بالكتابة والشهود، ففي الصدقة والإنفاق منتهى الرحمة، وفي الربا كامل القسوة والغلظة. وفي أحكام الدين والتجارة نهاية العدل والحكمة، والدين قد أمرنا ببذل المال حيث ينبغي البذل، وبترك الزيادة في المال إذا كان فيه ربا، ثم أمرنا هنا بحفظ المال وتوثيقه في البيع والشراء والقرض والتجارة، ومن هنا نعلم أن الإسلام دين ودولة، وحكم وحكمة فبينا هو يهدينا إلى الإنفاق يحرم علينا الربا، ثم يرشدنا في البيع والشراء حتى لا يضيع مال ولا يحصل شقاق ونزاع ولا غرابة إنه صراط الله العزيز الحكيم.
وليس ديننا دين رهبنة وفقر، وقناعة وذل، بل هو دين علم وعمل وجد واجتهاد، وغنى وعزة حتى يتحقق قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً «١».
فقانون الإسلام أن تجمع المال وتنميه، ولكن من طريق الحلال، وتحافظ عليه وتستوثق له بالكتابة والشهود، ولعل ذلك هو السر في طول الآية ووضوحها وتكرار أحكامها حتى يفهم أحكامها العامة والخاصة.
وهاك أحكامها:
١- يا من اتصفتم بالإيمان ودخلتم في الإسلام: إذا تعاملتم بالدّين المؤجل في الذمة بيعا أو سلما أو قرضا فاكتبوه وقيدوه فذلك خير لكم وأجدى، والأمر هنا للإرشاد والندب.
٢- وليكن فيكم كاتب للديون عادل في كتابته، لا يميل ولا يحيد عن الحق فهو القاضي بين الدائن والمدين ولتحقق عدالته يشترط أن يكون عالما بشروط الكتابة ملما بأصولها.
٣- لا يصح أن يمتنع كاتب عن الكتابة ما دام يمكنه ذلك وليكتب كتابة كما علمه الله فلا يزيد ولا ينقص ولا يضر أحدا، والكتابة نعمة من الله عليه فمن الشكر عليها أن لا يمتنع عنها ما دام قد أخذ أجره بالعدل والرحمة.
٤- والذي يملى الكاتب من عليه الحق، أى: المدين ليكون إملاؤه حجة عليه، وليتّق الله ربه في الإملاء، وقد جمع بين الاسم الجليل والنعت الجميل للمبالغة في التحذير ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئا عند الإملاء، وأنت ترى أن الكاتب أمر
(١) سورة البقرة آية رقم ١٤٣.
196
بالعدل فلا يزيد ولا ينقص، ومن عليه الحق نهى عن النقص فقط لأن هذا هو الذي ينتظر منه.
٥- فإن كان الذي عليه الحق سفيها لا يحسن التصرف في ماله لنقص عقله أو تبذيره أو كان ضعيفا لصغر سنه أو شيخوخته أو لا يستطيع الإملاء لجهله أو لكنة في لسانه فالذي يملى على الكاتب هو وليه الذي يلي أموره من قيّم أو وكيل أو مترجم يملى بالعدل والإنصاف.
٦- واستشهدوا شهيدين من رجالكم ممن حضروا ذلك بشرط البلوغ والعقل والإسلام والحرية.
٧- فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون شهادتهم لدينهم وعدالتهم وإنما جعل الشرع المرأتين بمنزلة رجل واحد خوف أن تخطئ إحداهما فتذكرها الثانية لقلة ضبط النساء للأمور المالية وقلة عنايتهن بمثل ذلك لأن المرأة جبلت على الاشتغال بالمنزل والبيئة المنزلية وتربية الأولاد فكان تذكرها للمعاملات قليلا وهذا حكم غالبى والأحكام الشرعية تنظر للمجموع.
٨- ولا يأب الشهود إذا ما دعوا للشهادة فإن كتمانها معصية وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ إذ بالشهادة العادلة تتضح الحقوق ويمنع الظلم والجور، والأحسن أن يكون النهى شاملا لأدائها وتحملها.
٩- والدّين مهما كان صغيرا أو كبيرا لا تملوا من كتابته حتى يقطع النزاع والشقاق.
١٠- ذلك البيان السابق الشامل لجميع الأحكام أعدل في الحكم وأحرى بإقامة العدل بين المتعاملين، وأقوم للشهادة وأعون على إقامتها على وجهها وأقرب لانتفاء الريبة والشك.
١١- ما تقدم في المبايعات المؤجلة وفي الديون والسلم، أما في التجارة الحاضرة التي يأخذ المشترى ما اشترى والبائع الثمن فلا ضرورة للكتابة وليس عليكم جناح ألا تكتبوها إذ لا شك ولا نسيان يخاف منه، وفي نفى الجناح إشارة إلى استحباب ضبط
197
الإنسان لماله وإحصائه للداخل والخارج، انظر: أرقى النظم التجارية يأتى بها القرآن من أربعة عشر قرنا.
١٢- وأشهدوا إذا تبايعتم في التجارة الحاضرة والشهود تكفى في مثل ذلك.
١٣- لا ينبغي لكاتب أو شاهد أن يضر أحدا من المتعاملين بزيادة أو نقص ولا يليق بكم أيها المتعاملون أن تضروا كاتبا أو شهيدا بأى نوع من أنواع الضرر، إذ الدّين الإسلامى دين سلام وأمن ورحمة وعدل.
وإن تفعلوا ما نهيتم عنه فإنه خروج بكم عن الطاعة وحدود الإيمان.
١٤- واتقوا الله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه، والله يعلمكم ما به تحفظون أنفسكم وأموالكم وتقوون رابطتكم، فشرعه شرع الحكيم الخبير العليم البصير.
جواز الرهن [سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٣]
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)
المفردات:
فَرِهانٌ جمع رهن. وهو احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفى الحق من ثمنها عند تعذر أخذه من الغريم.
هذا تقييد للأمر بالكتابة السابق.
المعنى:
وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبا يكتب، أو لم تجدوا أدوات الكتابة فرهان مقبوضة للدائن يستوثق بها حتى يصل إليه حقه، هذا الرهن يقوم مقام الكتابة وكونهم في السفر لجواز عدم الكتابة، وفي الحضر ثابت بالسنة فقد رهن النبي صلّى الله عليه وسلّم درعه عند يهودي ومات عنها.
فإن اتفق أن أحدكم ائتمن آخر على شيء فعلى المؤتمن أن يؤدى الأمانة كاملة في ميعادها، وليتق الله ربه فلا يخون في الأمانة فالله هو الشاهد الرقيب عليه وكفى به شاهدا.
ولا تكتموا الشهادة فإن كتمان الشهادة وشهادة الزور من الكبائر، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه، وخص القلب بالذكر لأنه أمير الجسد متى صلح صلح الجسد كله.
وكل ما تقدم من أعمال إيجابية كتأدية الأمانة والوفاء بالعهد، أو سلبية ككتم الشهادة، فالله به عليم وبصير يجازى عليه.
إحاطة علمه وتمام ملكه وقدرته [سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٤]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)
المناسبة:
تقدم الكثير من الأحكام خصوصا الأحكام القريبة المتعلقة بالدين والشهادة وختمت الآية السابقة بقوله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فناسب أن يذكر شواهد علمه والأدلة عليه إذ مالك الشيء وخالقه لا بد أن يعلمه أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ.
199
المعنى:
لله ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وتصريفا وعلما، فهو العليم بكل شيء، وإن تظهروا ما استقر في نفوسكم وثبت من الخلق الكامن والداء الباطن أو تكتموه وتخفوه فالله محاسبكم عليه ومجازيكم به إن خيرا فخير وإن شرا فشر.
وهو يغفر لمن يشاء ذنبه بتوفيقه إلى التوبة والعمل الصالح الذي يمحو السيئة.
ويعذب من يشاء لأنه لم يعمل خيرا يكفر عنه سيئاته ولم يتب إلى الله، والله على كل شيء أراده قدير.
روي أن هذه الآية حين نزلت اشتد ذلك على الصحابة- رضى الله عنهم- فأتوا النبي وقالوا: يا رسول الله: كلفنا من الأعمال ما نطيق كالصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتريدون أن تقولوا: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» ونزلت الآية التي بعدها. «١»
من هذه الرواية فهم بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها حيث فهم أن ما في نفوسكم هو الوساوس والخواطر التي لا يتأتى للإنسان دفعها.
والظاهر من النظم الكريم أن ما في نفوسكم أى: ما استقر في نفوسكم من الخلق الراسخ الثابت كالحب والبغض وكتمان الشهادة وقصد الخير والسوء.. إلخ.
أما الهواتف والخواطر فإن استرسلت فيها حسبت عليك وكانت من أعمالك وإن شغلت نفسك بغيرها وطردتها لم تحسب عليك، وهي في أولها مما لا يمكن دفعه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، والآية الآتية ليست ناسخة ولكنها موضحة، أما قول الصحابة- رضى الله عنهم- فتأويله أنهم الأطهار الأبرار الذين يريدون أن يتطهروا من الإثم ومقدماته بل كل شيء يتعلق به، ولذا قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فرضي الله عنهم أجمعين.
(١) أخرجه مسلم في كتاب الايمان باب تجاوز الله تعالى عن حديث النفس ٢/ ١٤٤.
200

[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٨٥ الى ٢٨٦]

آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)
المفردات:
وُسْعَها الوسع: ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر.
إِصْراً: حملا ثقيلا يشق علينا. الطاقة: مالا يدخل في مكنة الإنسان وطوقه، وما يطاق هو ما يمكن أن يأتيه ولو بمشقة.
الربط:
بدأ الله السورة بالكلام على القرآن والمؤمنين وأراد- سبحانه وتعالى- أن يختمها بالكلام عليهم ويبين حالهم ودعاءهم.
المعنى:
صدّق الرسول والمؤمنون بالذي أنزل إليهم من ربهم خصوصا ما في هذه السورة الكريمة من الآيات والأحكام. وما ذكر عن الرسل الكرام.
201
كل آمن بالله الواحد الأحد الفرد الصمد وملائكته الكرام على أنهم السفرة البررة بين الله وبين رسله، قاموا بتبليغ ما أنزل على الأنبياء من كتبه- جل شأنه- وآمن الكل بالرسل الكرام، لا نفرق نحن المؤمنين بين رسله، إذ كل الأنبياء المرسلين سواء في الرسالة والتشريع لا يختلف واحد عن واحد باعتبار تقدمه في الزمن أو تأخره أو كثرة أتباعه أو قلتهم مع إيمانهم بأن الله فضل بعض الرسل على بعض (في غير الرسالة والتشريع) كما سبق في قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ وهذه مزية أتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم يؤمنون بكل الأنبياء لا يفرقون بين الأنبياء.
آمنوا بما ذكر وقالوا: سمعنا وأطعنا، أى: بلّغنا فسمعنا القول سماع وعى وقبول وأطعنا ما أمرنا به طاعة إذعان وانقياد معتقدين أن كل أمر ونهى إنما هو لخيرى الدنيا والآخرة.
ويسألون الله- تعالى- أن يغفر لهم ما عساهم يقعون فيه فيعوقهم عن الرقى في مدارج الكمال ومعارج الإيمان فهم يقولون: غفرانك ربنا وإليك المصير.
روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت عليه هذه الآية قال له جبريل: «إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه» فسأل إلى آخر السورة. «١»
لا يكلف الله أحدا فوق طاقته بل أقل من طاقته، وهذا من لطف الله بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم. وهذه الآية هي الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة- رضى الله عنهم- والموضحة لقوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ «٢» أى: هو وإن حاسب وسأل ولكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه وما في وسعه.
لكل نفس ما كسبت من خير، وما اكتسبت من شر فعليها وزرها، ويظهر لي- والله أعلم- أن السر في التعبير في جانب الخير (كسبت) وفي جانب الشر (اكتسبت) أن الخير لا يحتاج إلى عمل وجهد كثير ولا كذلك الشر فإنه يحتاج إلى تعمل ومخالفة للطبيعة.
علمنا الله هذا الدعاء لندعو به:
(١) أخرجه ابن جرير.
(٢) سورة البقرة آية ٢٨٤.
202
ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، فتركنا ما ينبغي فعله أو فعلنا ما ينبغي تركه، والنسيان ينشأ من عدم العناية بالشيء والاهتمام به، والخطأ ينشأ من التساهل وعدم الاحتياط.
والله علمنا أن ندعوه ألا يؤاخذنا بالنسيان والخطأ، وهذا يذكرنا بما ينبغي من العناية والاحتياط والتفكير والتذكر لعلنا نسلم من الخطأ والنسيان، وإن وقع بعد ذلك منا شيء غفره لنا،
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه». «١»
كانت الأمم السابقة لعنادهم وعتوهم تكاليفهم شاقة، فتوبتهم بقتل التائب، وإزالة النجاسة بقطع موضعها وهكذا.
فعلمنا الله أن ندعوه بألا يكلفنا بالأعمال الشاقة والأعباء الثقيلة وإن أطقناها كما فعل مع الأمم السابقة فنبينا نبي الرحمة وشرعه السهل السمح وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. «٢»
ربنا ولا تحملنا ما لا قدرة لنا عليه من العقوبة والفتن، واعف عنا فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا، واغفر لنا فيما بيننا وبين عبادك فلا تطلعهم على عيوبنا وأعمالنا القبيحة، وارحمنا بأن توفقنا حتى لا نقع في ذنب آخر،
روى مسلم عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: قال الله: نعم «٣».
وعن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: قال الله: قد فعلت «٤».
أنت يا رب متولى أمورنا وناصرنا وعليك توكلنا وإليك أنبنا ولا حول ولا قوة إلا بك، فانصرنا على القوم الكافرين آمين يا رب.
(١) أخرجه ابن ماجة في كتاب الطلاق باب طلاق المكره والناسي ٢٠٤٥.
(٢) سورة الحج آية ٧٨.
(٣) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب تجاوز الله تعالى عن حديث النفس ٢/ ١٤٤. [.....]
(٤) أخرجه مسلم في كتاب الايمان باب تجاوز الله تعالى عن حديث النفس ٢/ ١٤٥.
203
Icon