تفسير سورة سورة النساء من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
.
لمؤلفه
ابن عجيبة
.
المتوفي سنة 1224 هـ
ﰡ
سورة النّساء
مدنية، وهى ستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفا. وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعون كلمة. ومائة وستون آية. قاله الثعلبي. وقال البيضاوي: مائة وخمس وسبعون آية.
ومضمنها: الأمر بحفظ ستة أمور: حفظ الأموال، وحفظ الأنساب، وحفظ الأبدان، وحفظ الأديان، وحفظ اللسان، وحفظ الأيمان. بعد أن قدّم الأمر بالتقوى، التي هى ملاك ذلك كله، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ١]
قلت: من قرأ: (والأرحامَ) بالنصب، فعطف على لفظ الجلالة، أي: اتقوا الأرحام أن تقطعوها، وقرأ حمزه بالخفض على الضمير من (به) كقول الشاعر:
وجمهور البصريين يمنعون العطف على الضمير إلا بإعادة الجار، فيقولون: مررت به وبزيد. وقال ابن مالك:
والنثر الصحيح هو ما قرأ به حمزة، وهذا هو التوجيه الصحيح، وأما من جعل الواو للقسم فبعيد.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّاسُ أي: جميع الخلق، اتقوا ربكم فيما كلفكم به، ثم بيَّن موجب التقوى فقال: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها يعني حواء، من ضلع من أضلاعه، وَبَثَّ أي: نشر مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً أي: نشر من تلك النفس الواحدة بنين وبنات. قال البيضاوي: واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء، إذْ الحكمة تقتضي أن يكنَّ أكثر، وذكر: كَثِيراً
مدنية، وهى ستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفا. وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعون كلمة. ومائة وستون آية. قاله الثعلبي. وقال البيضاوي: مائة وخمس وسبعون آية.
ومضمنها: الأمر بحفظ ستة أمور: حفظ الأموال، وحفظ الأنساب، وحفظ الأبدان، وحفظ الأديان، وحفظ اللسان، وحفظ الأيمان. بعد أن قدّم الأمر بالتقوى، التي هى ملاك ذلك كله، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ١]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١)قلت: من قرأ: (والأرحامَ) بالنصب، فعطف على لفظ الجلالة، أي: اتقوا الأرحام أن تقطعوها، وقرأ حمزه بالخفض على الضمير من (به) كقول الشاعر:
فَالْيَوْمَ قَدْ بتّ تَهْجُونَا وَتَشْتُمُنَا | فَاذْهَبَ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ «١» |
ولَيْس عِنْدي لاَزمَا إذْ قَدْ أَتَى | في النَّظْم والنَّثْر الصَّحِيح مُثْبَتَا. |
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا النَّاسُ أي: جميع الخلق، اتقوا ربكم فيما كلفكم به، ثم بيَّن موجب التقوى فقال: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم، وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها يعني حواء، من ضلع من أضلاعه، وَبَثَّ أي: نشر مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً أي: نشر من تلك النفس الواحدة بنين وبنات. قال البيضاوي: واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء، إذْ الحكمة تقتضي أن يكنَّ أكثر، وذكر: كَثِيراً
(١) البيت أنشده سيبويه، انظر: شرح ابن عقيل على الألفية، باب عطف النسق.
459
حملاً على الجمع، وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة التي من حقها أن تُخشى والنعمة الباهرة التي توجب طاعة مولاها. هـ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ أي: يسأل بعضكم بعضَا فيقول: أسألك بالله العظيم، وَالْأَرْحامَ أي:
واتقوا الأرحام فلا تقطعوها، فمن قطعها قطعه الله، ومن وصلها وصله الله، كما في الحديث. أو تساءلون به وبالأرحام، فيقول بعضكم لبعض: أسألك بالرحم التي بيني وبينك، أو بالقرابة التي بيني وبينك. ثم هددهم على ترك ما أمروا به فقال: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً حافظًا مطلعًا شهيدًا عليكم في كل حال.
الإشارة: درجهم في آخر السورة في مدارج السلوك حتى زجَّهم في حضرة ملك الملوك، وأمرهم أن يتقوا ما يُخرجهم عن مشاهدة ظلمة أنوار الربوبية، ثم دلاهم في أول السورة إلى التنزل لآداب العبودية بشهود آثار القدرة الإلهية، في النشأة الأولية، ليعلَّمهم الجمع بين آداب المراقبة ودوام المشاهدة، أو بين الفناء والبقاء.
وقد تكلم ابن جزي هنا على أحكام المراقبة، فقال: إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها، استفاد مقام المراقبة، وهو مقام شريف أصله علم وحال، ثم يثُمر حالين. أما العلم: فهو معرفة العبد بأن الله مطلع عليه، ناظر إليه في جميع أعماله، ويسمع جميع أقواله، ويعلم كل ما يخطر على باله. وأما الحال: فهو ملازمة هذا العلم بالقلب، بحيث يغلب عليه ولا يغفل عنه. ولا يكفي العلم دون هذه الحال، فإذا حصل العلم والحال كانت ثمرتهما عند أصحاب اليمين:
الحياء من الله، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجد في الطاعات، وكانت ثمرتهما عند المقربين:
المشاهدة، التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال.
وإلى هاتين الثمرتين أشار الرسول صلّى الله عليه وسلم بقوله: «أن تعبدَ اللهَ كأنكَ تَراه فإنْ لم تكن تراه، فإنه يراك»، فقوله:
«أن تعبد الله كأنك تراه» إشاره إلى الثمرة الثانية، وهي الموجبة للتعظيم، كمن يشاهد ملكًا عظيمًا فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة، وقوله: «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» إشارة إلى الثمرة الأولى، ومعناه: إن لم تكن من أهل المشاهدة- التي هي مقام المقربين- فاعلم أنه يراك، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين، فلما فسر الإحسان أول مرة بالمقام الأعلى، ورأى أن كثيرا من الناس قد يعجزون عنه، تنزل منه إلى المقام الآخر.
واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدم قبلها المشارطة والمرابطة، ويتأخر عنها المحاسبة والمعاتبة، فأما المشارطة فهي اشتراط العبد على نفسه التزام الطاعة، وترك المعاصي، وأما المرابطة فهي معاهدة العبد لربه على ذلك، ثم بعد المشارطة والمرابطة في أول الأمر تكون المراقبة... الخ.
وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ أي: يسأل بعضكم بعضَا فيقول: أسألك بالله العظيم، وَالْأَرْحامَ أي:
واتقوا الأرحام فلا تقطعوها، فمن قطعها قطعه الله، ومن وصلها وصله الله، كما في الحديث. أو تساءلون به وبالأرحام، فيقول بعضكم لبعض: أسألك بالرحم التي بيني وبينك، أو بالقرابة التي بيني وبينك. ثم هددهم على ترك ما أمروا به فقال: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً حافظًا مطلعًا شهيدًا عليكم في كل حال.
الإشارة: درجهم في آخر السورة في مدارج السلوك حتى زجَّهم في حضرة ملك الملوك، وأمرهم أن يتقوا ما يُخرجهم عن مشاهدة ظلمة أنوار الربوبية، ثم دلاهم في أول السورة إلى التنزل لآداب العبودية بشهود آثار القدرة الإلهية، في النشأة الأولية، ليعلَّمهم الجمع بين آداب المراقبة ودوام المشاهدة، أو بين الفناء والبقاء.
وقد تكلم ابن جزي هنا على أحكام المراقبة، فقال: إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها، استفاد مقام المراقبة، وهو مقام شريف أصله علم وحال، ثم يثُمر حالين. أما العلم: فهو معرفة العبد بأن الله مطلع عليه، ناظر إليه في جميع أعماله، ويسمع جميع أقواله، ويعلم كل ما يخطر على باله. وأما الحال: فهو ملازمة هذا العلم بالقلب، بحيث يغلب عليه ولا يغفل عنه. ولا يكفي العلم دون هذه الحال، فإذا حصل العلم والحال كانت ثمرتهما عند أصحاب اليمين:
الحياء من الله، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجد في الطاعات، وكانت ثمرتهما عند المقربين:
المشاهدة، التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال.
وإلى هاتين الثمرتين أشار الرسول صلّى الله عليه وسلم بقوله: «أن تعبدَ اللهَ كأنكَ تَراه فإنْ لم تكن تراه، فإنه يراك»، فقوله:
«أن تعبد الله كأنك تراه» إشاره إلى الثمرة الثانية، وهي الموجبة للتعظيم، كمن يشاهد ملكًا عظيمًا فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة، وقوله: «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» إشارة إلى الثمرة الأولى، ومعناه: إن لم تكن من أهل المشاهدة- التي هي مقام المقربين- فاعلم أنه يراك، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين، فلما فسر الإحسان أول مرة بالمقام الأعلى، ورأى أن كثيرا من الناس قد يعجزون عنه، تنزل منه إلى المقام الآخر.
واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدم قبلها المشارطة والمرابطة، ويتأخر عنها المحاسبة والمعاتبة، فأما المشارطة فهي اشتراط العبد على نفسه التزام الطاعة، وترك المعاصي، وأما المرابطة فهي معاهدة العبد لربه على ذلك، ثم بعد المشارطة والمرابطة في أول الأمر تكون المراقبة... الخ.
460
وبعد ذلك يحاسب العبدُ نفسَه على ما اشترطه وعاهد عليه، فإن وجد نفسه قد وفَّى بما عاهد عليه الله يحمد الله، وإن وجد نفسه قد حلَ عَقد المشارطة ونقض عهد المراقبة، عاقب النفس عقابًا شديدًا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك، ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة، وحافظ على المراقبة، ثم اختبر بالمحاسبة، وهكذا يكون إلى أن يلقى الله تعالى. انتهى كلامه، وهو مقتبس من الإحياء. والله تعالى أعلم.
ثم شرع تعالى فى الكلام على حفظ الأموال، وبدأ بأموال اليتامى، اعتناء بهم لضعفهم، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٢]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)
قلت: اليتيم: مَنْ فقدَ أباه، ولا يقال فيه اليتيم عُرفا إلا قبل البلوغ، وهو هنا مجاز، أي: من كان يتيمًا، والحوبُ:
الإثم، ويقال فيه: حوبا، بالضم والفتح، مع الواو والألف، مصدر حاب حوبًا وحوَبا وحابا.
يقول الحقْ جلّ جلاله: وَآتُوا أي: أعطوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ إذا بلغوا، وأُنِس منهم الرشد، وسمَّاهم يتامى بعد البلوغ اتساعًا لقرب عهدهم بالصغر، حثًا على أن يُدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم، قبل أن يزول عنهم هذا الاسم إذا أنِسَ فيهم الرشد، ويدل على هذا ما قيل في سبب نزول الآية، وهو أن رجلآ من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له، فلما بلغ طلب مال أبيه، فمنعه، فنزلت الآية، فلما سمعها العم قال: أطعنا الله ورسوله، ونعوذ بالله من الحُوب الكبير. وقيل: إن العرب كانت لا تورِّث الصغار مع الكبار، فأُمِرُوا أن يورثوهم، وعلى هذا يكون اليتيم على حقيقته، فعلى الأول: الخطاب للأوصياء، وعلى الثاني: للعرب التي كانت لا تورث الصغار.
ثم قال: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أي: لا تتبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم، أو: لا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتُعطوا الخبيث مكانها من أموالكم. كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالمهزولة من ماله، والدرهم الطيب بالزائف. وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ مضمومًا إِلى أَمْوالِكُمْ فتنفقونها معًا، مع أن اليتيم لا يأكل كالكبير، إلا إذا كان المنفَق قدَّر أكله، أو لمصلحة. إِنَّهُ أي: الأكل، كانَ حُوباً كَبِيراً أي: إثمًا عظيمًا.
الإشارة: أمر الحق جل جلاله أغنياء القلوب، وهم أكابر الأولياء الراسخون في علم الغيوب، أن يَمنحوا من تعلق بهم من الفقراء والضعفاء، من الغني بالله الذي منحهم الله، حتى لا يلتفتوا إلى سواه، وأن يَقبلوا كل من أتى إليهم من العباد، سواء كان من أهل المحبة والوداد، أو من أهل المخالفة والعناد، ولا يتبدلوا الخبيث بالطيب، بحيث
ثم شرع تعالى فى الكلام على حفظ الأموال، وبدأ بأموال اليتامى، اعتناء بهم لضعفهم، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٢]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (٢)
قلت: اليتيم: مَنْ فقدَ أباه، ولا يقال فيه اليتيم عُرفا إلا قبل البلوغ، وهو هنا مجاز، أي: من كان يتيمًا، والحوبُ:
الإثم، ويقال فيه: حوبا، بالضم والفتح، مع الواو والألف، مصدر حاب حوبًا وحوَبا وحابا.
يقول الحقْ جلّ جلاله: وَآتُوا أي: أعطوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ إذا بلغوا، وأُنِس منهم الرشد، وسمَّاهم يتامى بعد البلوغ اتساعًا لقرب عهدهم بالصغر، حثًا على أن يُدفع إليهم أموالهم أول بلوغهم، قبل أن يزول عنهم هذا الاسم إذا أنِسَ فيهم الرشد، ويدل على هذا ما قيل في سبب نزول الآية، وهو أن رجلآ من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له، فلما بلغ طلب مال أبيه، فمنعه، فنزلت الآية، فلما سمعها العم قال: أطعنا الله ورسوله، ونعوذ بالله من الحُوب الكبير. وقيل: إن العرب كانت لا تورِّث الصغار مع الكبار، فأُمِرُوا أن يورثوهم، وعلى هذا يكون اليتيم على حقيقته، فعلى الأول: الخطاب للأوصياء، وعلى الثاني: للعرب التي كانت لا تورث الصغار.
ثم قال: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ أي: لا تتبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم، أو: لا تأخذوا الرفيع من أموالهم وتُعطوا الخبيث مكانها من أموالكم. كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالمهزولة من ماله، والدرهم الطيب بالزائف. وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ مضمومًا إِلى أَمْوالِكُمْ فتنفقونها معًا، مع أن اليتيم لا يأكل كالكبير، إلا إذا كان المنفَق قدَّر أكله، أو لمصلحة. إِنَّهُ أي: الأكل، كانَ حُوباً كَبِيراً أي: إثمًا عظيمًا.
الإشارة: أمر الحق جل جلاله أغنياء القلوب، وهم أكابر الأولياء الراسخون في علم الغيوب، أن يَمنحوا من تعلق بهم من الفقراء والضعفاء، من الغني بالله الذي منحهم الله، حتى لا يلتفتوا إلى سواه، وأن يَقبلوا كل من أتى إليهم من العباد، سواء كان من أهل المحبة والوداد، أو من أهل المخالفة والعناد، ولا يتبدلوا الخبيث بالطيب، بحيث
يَقبلون من وجدوه طيب الأخلاق، ويردون من وجدوه خبيث الأخلاق، فإن هذا ليس من شأن أهل التربية النبوية، بل من شأنهم أن يقبلوا الناس على السوية، ويقلبوا فيهم الأعيان، فيقلبون العاصي طائعًا، والكافر مؤمنًا، والغافل ذاكرًا، والشحيح سخيًّا، والخبيث طيبًا، والمسيء محسنًا، والجاهل عارفًا، وهكذا لما عندهم من الإكسير، وهي الخمرة الأزلية، أي: التي من شأنها أن تقلب الأعيان، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه في وصفها:
وقوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ يعني: حتى تتحققوا بوصول الغني إلى قلوبهم، فإن تحققتم فخذوا ما بذلوا لكم من أموالهم. والله تعالى أعلم.
ولما كان الأولياء، إذا كانت تحتهم يتيمة لها مال، وخافوا أن يدخل معهم أجنبى، تزوجها أو زوجوها من أبنائهم، حرصا على أكل مالها، ولا يقسطون لها فى صداقها، وربما أساءوا عشرتها انتظارا لموتها، فنهاهم الله عن ذلك بقوله:
[سورة النساء (٤) : آية ٣]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣)
قلت: «ما» من شأنها أن تقع على ما لا يعقل، وهنا وقعت على النساء لقلة عقلهن حتى التحَقْنَ بمن لا يعقل «١» و (مثْنَى وثُلاثَ ورُباع) أحوال من (ما) ممنوعة من الصرف للوصف والعدل، أي: اثنتين اثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعًا أربعا.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ خِفْتُمْ يا معشر الأولياء إلاَّ تعدلوا فِي الْيَتامى التي تحت حجركم إذا تزوجتم بهن طلبًا لمالهن، مع قلة جمالهن، فتهجروهن أو تسيئوا عشرتهن، فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ من غيرهن، أو: وإن خفتم ألا تقسطوا في صداقهن إذا أعجبنكم لِمَالِهنّ- الذي بيدكم- وجمالهن، فانكحوا غيرهن، ولا تنكحوهن إلا إذا أعطيتموهن صداق أمثالهن.
تُهذبُ أخلاقَ النَّدامى فيَهْتَدي | بها لطريقِ العزمِ مَن لا له عَزْم |
ويكرُمُ مَنْ لم يَعْرِف الجودَ كَفُّه | ويحلُمُ عند الغيْظِ مَنْ لا لهُ حِلم |
ولما كان الأولياء، إذا كانت تحتهم يتيمة لها مال، وخافوا أن يدخل معهم أجنبى، تزوجها أو زوجوها من أبنائهم، حرصا على أكل مالها، ولا يقسطون لها فى صداقها، وربما أساءوا عشرتها انتظارا لموتها، فنهاهم الله عن ذلك بقوله:
[سورة النساء (٤) : آية ٣]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (٣)
قلت: «ما» من شأنها أن تقع على ما لا يعقل، وهنا وقعت على النساء لقلة عقلهن حتى التحَقْنَ بمن لا يعقل «١» و (مثْنَى وثُلاثَ ورُباع) أحوال من (ما) ممنوعة من الصرف للوصف والعدل، أي: اثنتين اثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعًا أربعا.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ خِفْتُمْ يا معشر الأولياء إلاَّ تعدلوا فِي الْيَتامى التي تحت حجركم إذا تزوجتم بهن طلبًا لمالهن، مع قلة جمالهن، فتهجروهن أو تسيئوا عشرتهن، فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ من غيرهن، أو: وإن خفتم ألا تقسطوا في صداقهن إذا أعجبنكم لِمَالِهنّ- الذي بيدكم- وجمالهن، فانكحوا غيرهن، ولا تنكحوهن إلا إذا أعطيتموهن صداق أمثالهن.
(١) قوله: (من شأنها أن تقع على ما لا يعقل)، فيه نظر، فإن (ما) تقع على العاقل وغير العاقل، قال تعالى عن الصالحين: «إِلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم» (سورة ص آية ٢٤) وغير ذلك من آيات كثيرة، بل إن قول الله تعالى: «فانكحوا ما طاب لكم من النساء، نص فى أن «ما» تقع على العاقل.
أما قوله: [حتى التحَقْنَ بمن لا يعقل] فينقضه الكثير من الآيات والأحاديث، قال تعالى: «لا أضيع عمل عامل منكم من ذَكَرٍ أو أنثى بعضكم من بعض» (آل عمران ١٩٥) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «النساء شقائق الرجال» وللمفسرين فى الآية توجيهات أخر، أولى من توجيه شيخنا ابن عجيبة، منها: أن «ما» فى الآية موصولة أو موصوفة. راجع (تفسير: القرطبي- ابن عطيه- الآلولسى).
أما قوله: [حتى التحَقْنَ بمن لا يعقل] فينقضه الكثير من الآيات والأحاديث، قال تعالى: «لا أضيع عمل عامل منكم من ذَكَرٍ أو أنثى بعضكم من بعض» (آل عمران ١٩٥) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «النساء شقائق الرجال» وللمفسرين فى الآية توجيهات أخر، أولى من توجيه شيخنا ابن عجيبة، منها: أن «ما» فى الآية موصولة أو موصوفة. راجع (تفسير: القرطبي- ابن عطيه- الآلولسى).
قالت عائشة- رضى الله عنها-: (هي اليتيمة تكون في حِجر وليها، فيرغب في مالها وجمالها، ويريد أن ينكحها بأدنى صداقها، فنُهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن في إكمال الصداق، وأُمِروا أن ينكحوا ما سواهن من النساء.). رواه البخاري.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: - (إن الرجل منهم كان يتزوج العشرة وأكثر- يعني قبل التحريم- فإذا ضاق ماله أخذ من مال يتيمه)، فقال لهم: إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى- أي: في أموالهن- فانكحوا ما طاب لكم من غيرهن (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي: اثنتين اثنتين لكل واحدٍ، أو ثلاثاً ثلاثاً، أو أربعًا أربعًا، ولا تزيدوا، فمنع ما كان في الجاهلية من الزيادة على الأربع، وهو مُجمع عليه بنص الآية، ولا عبرة بمن جوَّز تسعًا لظاهر الآية لأن المراد التخيير بين تلك الأعداد، لا الجمع، ولو أراد الجمع لقال تسعًا، ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه وأقل بيانًا.
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بين الاثنتين أو الثلاث أو الأربع، فاقتصروا على واحدة، أو على مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن قليل أو كثير إذ لا يجب العدل بينهن، ذلِكَ الاقتصار على الواحدة أَدْنى أي: أقرب أَلَّا تَعُولُوا أي:
تجوروا أو تميلوا، أو ألا تجاوزوا ما فرض عليكم من العدل، أو أدنى ألا يكثر عيالكم فتفتقروا، وهي لغة حِمْيَر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن الحق تعالى جعل أولياءه أصنافاً عديدة فمنهم من غلب عليه فيض العلوم، ومنهم من غلب عليه هجوم الأحوال، ومنهم من غلب عليه تحقيق المقامات. قال الشيخ أبو العباس المرسى رضي الله عنه: كان الجنيد رضي الله عنه قطبًا في العلوم، وكان أبو يزيد رضي الله عنه قطباً في الأحوال، وكان سهل بن عبد الله قطبًا في المقامات. هـ. أي: كل واحد غلب عليه واحد من ذلك، مع مشاركته للآخر في الباقي، فينبغي لكل واحد أن يخوض في فنِّه الذي خصَّه الله به ولا يتصدى لغيره. فقال لهم الحق- جل جلاله- من طريق الإشاره: فإن خفتم يا مَنْ غلبت عليهم الأحوال أو المقامات، أَلاَّ تُقسطوا في يتامى العلوم التي اختص بها غيركم، فانكحوا ما طاب لكم من ثيبات الأحوال وأبكار الحقائق، كثيرة أو قليلة، فإن خفتم أن تغلبكم الأحوال، أو التنزل في المقامات، ولا تعدلوا فيها، فالزموا حالة واحدة ومقامًا واحدًا، وهو المقام الذي ملكه وتحقق به، فإنه أقرب ألا ينحرف عن الاعتدال لأن كثرة الأحوال تضر بالمريد كما هو مقرر في فنه. والله تعالى أعلم.
ولما أمر بالنكاح أمر ببذل الصداق، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٤]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)
وقال ابن عباس رضي الله عنه: - (إن الرجل منهم كان يتزوج العشرة وأكثر- يعني قبل التحريم- فإذا ضاق ماله أخذ من مال يتيمه)، فقال لهم: إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى- أي: في أموالهن- فانكحوا ما طاب لكم من غيرهن (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ أي: اثنتين اثنتين لكل واحدٍ، أو ثلاثاً ثلاثاً، أو أربعًا أربعًا، ولا تزيدوا، فمنع ما كان في الجاهلية من الزيادة على الأربع، وهو مُجمع عليه بنص الآية، ولا عبرة بمن جوَّز تسعًا لظاهر الآية لأن المراد التخيير بين تلك الأعداد، لا الجمع، ولو أراد الجمع لقال تسعًا، ولم يعدل عن ذلك إلى ما هو أطول منه وأقل بيانًا.
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بين الاثنتين أو الثلاث أو الأربع، فاقتصروا على واحدة، أو على مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن قليل أو كثير إذ لا يجب العدل بينهن، ذلِكَ الاقتصار على الواحدة أَدْنى أي: أقرب أَلَّا تَعُولُوا أي:
تجوروا أو تميلوا، أو ألا تجاوزوا ما فرض عليكم من العدل، أو أدنى ألا يكثر عيالكم فتفتقروا، وهي لغة حِمْيَر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: اعلم أن الحق تعالى جعل أولياءه أصنافاً عديدة فمنهم من غلب عليه فيض العلوم، ومنهم من غلب عليه هجوم الأحوال، ومنهم من غلب عليه تحقيق المقامات. قال الشيخ أبو العباس المرسى رضي الله عنه: كان الجنيد رضي الله عنه قطبًا في العلوم، وكان أبو يزيد رضي الله عنه قطباً في الأحوال، وكان سهل بن عبد الله قطبًا في المقامات. هـ. أي: كل واحد غلب عليه واحد من ذلك، مع مشاركته للآخر في الباقي، فينبغي لكل واحد أن يخوض في فنِّه الذي خصَّه الله به ولا يتصدى لغيره. فقال لهم الحق- جل جلاله- من طريق الإشاره: فإن خفتم يا مَنْ غلبت عليهم الأحوال أو المقامات، أَلاَّ تُقسطوا في يتامى العلوم التي اختص بها غيركم، فانكحوا ما طاب لكم من ثيبات الأحوال وأبكار الحقائق، كثيرة أو قليلة، فإن خفتم أن تغلبكم الأحوال، أو التنزل في المقامات، ولا تعدلوا فيها، فالزموا حالة واحدة ومقامًا واحدًا، وهو المقام الذي ملكه وتحقق به، فإنه أقرب ألا ينحرف عن الاعتدال لأن كثرة الأحوال تضر بالمريد كما هو مقرر في فنه. والله تعالى أعلم.
ولما أمر بالنكاح أمر ببذل الصداق، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٤]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)
قلت: نِحْلَةً: مصدر من آتوهن، لأنها في معنى الإيتاء، يقال: نحله كذا نحلة ونحلا إذا أعطاه إياه عن طيب نفس بلا توقع عوض ولا حكم حاكم، والضمير في «منه» يعود على الصداق أو على «الإيتاء»، و (نفسًا) تمييز، و (هنيئاً مريئًا) : صفتان لمصدر محذوف، أي: أكلاً هنيئًا، وهو من هَنُؤ الطعام ومَرُؤ، إذا كان سائغًا لا تنغيص فيه، وقيل الهنيء: ما يلذه الإنسان، والمريء: ما تُحمد عاقبته.
يقول الحق جلّ جلاله للأزواج: وَآتُوا النِّساءَ التي تزوجتموهن صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً أي: عطية مُبتلة «١»، لا مطل فيها ولا ظلم، فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ من الصداق، وأعطينه لكم عن طيب أنفسهن فَكُلُوهُ هَنِيئاً لاتبعة عليكم فيه، مَرِيئاً: سائغًا حلالاً لا شبهة فيه، رُوي أن ناسًا كانوا يتحرّجون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئًا، فنزلت. وقيل: الخطاب للأولياء، لأن بعضهم كان يأكل صداق محجورته، فأمروا أن يعطوهن صداقهن، إلا إن أعطينَهم شيئًا عن طيب أنفسهن، والله تعالى أعلم.
الإشارة: وآتوا النفوس حقوقها من الراحة وقوت البشرية، نحلة، ولا تكلفوها فوق طاقتها، فإن طبن لكم عن شيء من الأعمال أو الأحوال، بانشراح صدر ونشاط، فكلوه هنيئًا مريئاً، فإنَّ العبادة مع النشاط والفرح بالله أعظم وأقرب للدوام، وهذا في حق النفوس المطمئنة، وأما النفوس الأمارة فلا يناسبها إلا قهرية المجاهدة مع السياسة لئلا تمل، أو تقول: من أقامه الحق تعالى في حال من الأحوال أو مقام من المقامات فليلزمه، وليقم حيث أقامه الحق، ويعطيه حقه، فإن طاب وقته لحال من الأحوال فليأكله هنيئًا مريئًا. فالفقير ابن وقته، ينظر ما يبرز له فيه من رزقه، فكل ما وجد فيه قلبه فهو رزقه، فليبادر إلى أكله لئلا يفوته رزقه منه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
ثم نهى الأوصياء عن تمكين اليتامى من أموالهم قبل الرشد، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٥]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥)
قلت: «قيمًا» :«٢» مصدر قام قيامًا وقيما، وأصله: قوامًا، قلبت الواو ياء.
يقول الحق جلّ جلاله للأزواج: وَآتُوا النِّساءَ التي تزوجتموهن صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً أي: عطية مُبتلة «١»، لا مطل فيها ولا ظلم، فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ من الصداق، وأعطينه لكم عن طيب أنفسهن فَكُلُوهُ هَنِيئاً لاتبعة عليكم فيه، مَرِيئاً: سائغًا حلالاً لا شبهة فيه، رُوي أن ناسًا كانوا يتحرّجون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئًا، فنزلت. وقيل: الخطاب للأولياء، لأن بعضهم كان يأكل صداق محجورته، فأمروا أن يعطوهن صداقهن، إلا إن أعطينَهم شيئًا عن طيب أنفسهن، والله تعالى أعلم.
الإشارة: وآتوا النفوس حقوقها من الراحة وقوت البشرية، نحلة، ولا تكلفوها فوق طاقتها، فإن طبن لكم عن شيء من الأعمال أو الأحوال، بانشراح صدر ونشاط، فكلوه هنيئًا مريئاً، فإنَّ العبادة مع النشاط والفرح بالله أعظم وأقرب للدوام، وهذا في حق النفوس المطمئنة، وأما النفوس الأمارة فلا يناسبها إلا قهرية المجاهدة مع السياسة لئلا تمل، أو تقول: من أقامه الحق تعالى في حال من الأحوال أو مقام من المقامات فليلزمه، وليقم حيث أقامه الحق، ويعطيه حقه، فإن طاب وقته لحال من الأحوال فليأكله هنيئًا مريئًا. فالفقير ابن وقته، ينظر ما يبرز له فيه من رزقه، فكل ما وجد فيه قلبه فهو رزقه، فليبادر إلى أكله لئلا يفوته رزقه منه. والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
ثم نهى الأوصياء عن تمكين اليتامى من أموالهم قبل الرشد، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٥]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٥)
قلت: «قيمًا» :«٢» مصدر قام قيامًا وقيما، وأصله: قوامًا، قلبت الواو ياء.
(١) البتل: القطع
(٢) قرأ نافع وابن عامر «قيما» وقرأ الجمهور «قياما».
(٢) قرأ نافع وابن عامر «قيما» وقرأ الجمهور «قياما».
464
يقول الحق جلّ جلاله للأوصياء: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ التي تحت حضانتكم أَمْوالَكُمُ أي: أموالهم التي في أيديكم، وإنما أضاف أموال اليتامى لهم حثًا على حفظها وتنميتها كأنها مال من أموالهم، أي: ولا تمكنوا السفهاء من أموالهم التي جعلها الله في أيديكم قِياماً لمعاشهم، تقومون بها عليهم، ولكن احفظوها، واتجروا فيها، واجعلوا رزقهم وكسوتهم فيها باعتبار العادة، فإن طلبوها منكم فعدوهم وعدًا جميلاً، وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً أي: كلامًا لينًا بأن يقول له: حتى تكبر وترشد لتصلح للتصرف فيها. وشبه ذلك. وإنما قال: (وارزقوهم فيها) دون «منها» لأن «فيها» يقتضي بقاءها بالتنمية والتجارة حتى تكون محلاً للرزق والكسوة دون «منها»، وقيل:
الخطاب للأزواج، نهاهم أن يعمدوا إلى ما خوّلهم الله من المال فيعطوه إلى نسائهم وأولادهم، ثم ينظرون إلى أيديهم. وإنما سمَّاهن سفهاء استخفافًا بعقلهن، كما عبر عنهن ب- «ما» التي لغير العاقل «١».
وروى أبو أمامة عن النبي ﷺ أنه قال: «إنما خُلقتْ النارُ للسفهاء- قالها ثلاثًا- ألا وإن السفهاءَ النساء إلا امرأة أطاعت قيِّمَها «٢» ». وقالت أمرأة: يا رسول الله: سميتنا السفهاء! فقال: «الله تعالى سماكن في كتابه» «٣»، يشير إلى هذه الآية. وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: (ثلاثة يَدْعُون الله فلا يُستجاب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها «٤»، ورجل كان له على رجل دين فلم يُشْهِد عليه، ورجل أعطى سفيهًا ماله، وقد قال الله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ.) قلت: إنما منعوا من إجابة الدعاء لتفريطهم في مراسم الشريعة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا ينبغي للشيخ أن يُطلع المريد على أسرار التوحيد، وهي أسرار المعاني التي جعلها الله تعالى قائمة بالأشياء، حتى يكمل عقله، ويتحقق أدبه، ويظهر صدقه، فإذا استعجلها قبل وقتها فليعده وعدًا قريبًا، وليقل له قولاً معروفًا، فكم من مريد استعجل الفتح قبل إبانه فعوقب بحرمانه، وكم من مريد اطلع على أسرار الحقيقة قبل كمال خدمته فطُرد أو قتل، ووقتها هو حين تبرز معه فتأخذه الحيرة، اللهم إلا أن يراه الشيخ أهلاً لحملها لرجحان عقله وكمال صدقه، فيمكنه منها قبل أن تبرز معه، ثم يربيه فيها، وهذا الذي شهدناه من أشياخنا لشدة كرمهم- رضى الله عنهم وأرضاهم- ورزقنا حسن الأدب معهم، فأطلق الحق تعالى الأموال بطريق الإشارة على أسرار المعاني، وأمر الشيوخ أن يرزقوهم منها شيئًا فشيئًا بالتدريب والتدريج، وأن يكسوهم بالشرائع، ويحتمل أن تبقى الأموال
الخطاب للأزواج، نهاهم أن يعمدوا إلى ما خوّلهم الله من المال فيعطوه إلى نسائهم وأولادهم، ثم ينظرون إلى أيديهم. وإنما سمَّاهن سفهاء استخفافًا بعقلهن، كما عبر عنهن ب- «ما» التي لغير العاقل «١».
وروى أبو أمامة عن النبي ﷺ أنه قال: «إنما خُلقتْ النارُ للسفهاء- قالها ثلاثًا- ألا وإن السفهاءَ النساء إلا امرأة أطاعت قيِّمَها «٢» ». وقالت أمرأة: يا رسول الله: سميتنا السفهاء! فقال: «الله تعالى سماكن في كتابه» «٣»، يشير إلى هذه الآية. وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: (ثلاثة يَدْعُون الله فلا يُستجاب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها «٤»، ورجل كان له على رجل دين فلم يُشْهِد عليه، ورجل أعطى سفيهًا ماله، وقد قال الله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ.) قلت: إنما منعوا من إجابة الدعاء لتفريطهم في مراسم الشريعة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا ينبغي للشيخ أن يُطلع المريد على أسرار التوحيد، وهي أسرار المعاني التي جعلها الله تعالى قائمة بالأشياء، حتى يكمل عقله، ويتحقق أدبه، ويظهر صدقه، فإذا استعجلها قبل وقتها فليعده وعدًا قريبًا، وليقل له قولاً معروفًا، فكم من مريد استعجل الفتح قبل إبانه فعوقب بحرمانه، وكم من مريد اطلع على أسرار الحقيقة قبل كمال خدمته فطُرد أو قتل، ووقتها هو حين تبرز معه فتأخذه الحيرة، اللهم إلا أن يراه الشيخ أهلاً لحملها لرجحان عقله وكمال صدقه، فيمكنه منها قبل أن تبرز معه، ثم يربيه فيها، وهذا الذي شهدناه من أشياخنا لشدة كرمهم- رضى الله عنهم وأرضاهم- ورزقنا حسن الأدب معهم، فأطلق الحق تعالى الأموال بطريق الإشارة على أسرار المعاني، وأمر الشيوخ أن يرزقوهم منها شيئًا فشيئًا بالتدريب والتدريج، وأن يكسوهم بالشرائع، ويحتمل أن تبقى الأموال
(١) راجع التعليق على تفسير الآية الثالثة من سورة النساء.
(٢) ذكره بنحوه ابن كثير فى تفسيره، وعزاه لابن أبى حاتم.
(٣) ذكره الآلوسى فى تفسيره من رواية مجاهد وابن عمر عن أنس. وقال الطبرسي: (لى فى صحته شك). [.....]
(٤) يحمل سوء الخلق هنا على ما يطعن فى العفة والحياء. وإلّا فظاهر هذا الكلام مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَفْرك مؤمنٌ مَؤمنة إن كره منها خُلقَا رضي منها آخر»
(٢) ذكره بنحوه ابن كثير فى تفسيره، وعزاه لابن أبى حاتم.
(٣) ذكره الآلوسى فى تفسيره من رواية مجاهد وابن عمر عن أنس. وقال الطبرسي: (لى فى صحته شك). [.....]
(٤) يحمل سوء الخلق هنا على ما يطعن فى العفة والحياء. وإلّا فظاهر هذا الكلام مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَفْرك مؤمنٌ مَؤمنة إن كره منها خُلقَا رضي منها آخر»
465
على ظاهرها، ويكون أمر الشيوخ أن يمنعوا المريدين من أخذ الأموال قبل التمكين. أشار إلى هذا الورتجبي، فانظره.
ثم ذكر الحق تعالى وقت دفع أموال اليتامى لهم، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٦]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦)
قلت: الابتلاء: الاختبار، و «آنس:» أبصر. والرشد هو كمال العقل بحيث يعرف مصالح نفسه وتدبير ماله من غير تبذير ولا إفساد. وإِسْرافاً وَبِداراً: حالان من «الواو»، أو مفعولان لأجله، و (أن يكبروا) مفعول ببدارا.
يقول الحق جلّ جلاله للأوصياء: واختبروا الْيَتامى قبل البلوغ بتتبع أحوالهم في تصرفاتهم، بأن يُدفع لهم الدرهم والدرهمان، فإن ظهر عليهم حسن التصرف زادهم قليلاً قليلا، وإن ظهر عليهم التبذير كفَّ عنهم المال، حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ، وهو البلوغ بعلامته، فَإِنْ آنَسْتُمْ أي: أبصرتم مِنْهُمْ رُشْداً، وهو المعرفة بمصالحه وتدبير ماله، وإن لم يكن من أهل الدين- واشترطه قوم، فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ حينئِذ أَمْوالَهُمْ من غير تأخير. وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا أي: لا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم فتزول من يدكم، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم، وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ عن أكلها في أجرة قيامه بها، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ بقدر حاجته وأجر سعيه، وعنه صلّى الله عليه وسلم: أنَّ رجُلاً قال لهُ: إنَّ في حجْرِي يتَيمًا أفآكُلُ مِنْ مَالِهِ؟
قال: «بالمعْرُوفِ، غَيْرَ مُتأثِّلٍ «١» مَالاً ولا وَاقٍ مَالَكَ بمَالِه».
فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا في قبضها منكم عَلَيْهِمْ، فإنه أنفى للتهمة وأبعدُ من الخصومة، وهو ندب، وقيل: فرض، فلا يصدق في الدفع إلا ببينة، وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي: محاسبًا، فلا تخالفوا ما أمرتم به، ولا تجاوزوا ما حدّ لكم.
وإنما قال: «حسيبًا» ولم يقل: «شهيدًا»، مع مناسبته، تهديدًا للأوصياء لئلا يكتموا شيئًا من مال اليتامى، فإذا علموا أن الله يحاسبهم على النقير والقطمير، ويعاقبهم عليه، انزجروا عن الكتمان. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى وقت دفع أموال اليتامى لهم، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٦]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦)
قلت: الابتلاء: الاختبار، و «آنس:» أبصر. والرشد هو كمال العقل بحيث يعرف مصالح نفسه وتدبير ماله من غير تبذير ولا إفساد. وإِسْرافاً وَبِداراً: حالان من «الواو»، أو مفعولان لأجله، و (أن يكبروا) مفعول ببدارا.
يقول الحق جلّ جلاله للأوصياء: واختبروا الْيَتامى قبل البلوغ بتتبع أحوالهم في تصرفاتهم، بأن يُدفع لهم الدرهم والدرهمان، فإن ظهر عليهم حسن التصرف زادهم قليلاً قليلا، وإن ظهر عليهم التبذير كفَّ عنهم المال، حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ، وهو البلوغ بعلامته، فَإِنْ آنَسْتُمْ أي: أبصرتم مِنْهُمْ رُشْداً، وهو المعرفة بمصالحه وتدبير ماله، وإن لم يكن من أهل الدين- واشترطه قوم، فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ حينئِذ أَمْوالَهُمْ من غير تأخير. وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا أي: لا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم فتزول من يدكم، أو لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم، وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ عن أكلها في أجرة قيامه بها، وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ بقدر حاجته وأجر سعيه، وعنه صلّى الله عليه وسلم: أنَّ رجُلاً قال لهُ: إنَّ في حجْرِي يتَيمًا أفآكُلُ مِنْ مَالِهِ؟
قال: «بالمعْرُوفِ، غَيْرَ مُتأثِّلٍ «١» مَالاً ولا وَاقٍ مَالَكَ بمَالِه».
فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا في قبضها منكم عَلَيْهِمْ، فإنه أنفى للتهمة وأبعدُ من الخصومة، وهو ندب، وقيل: فرض، فلا يصدق في الدفع إلا ببينة، وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي: محاسبًا، فلا تخالفوا ما أمرتم به، ولا تجاوزوا ما حدّ لكم.
وإنما قال: «حسيبًا» ولم يقل: «شهيدًا»، مع مناسبته، تهديدًا للأوصياء لئلا يكتموا شيئًا من مال اليتامى، فإذا علموا أن الله يحاسبهم على النقير والقطمير، ويعاقبهم عليه، انزجروا عن الكتمان. والله تعالى أعلم.
(١) أيُّ: غير جامع.
الإشارة: ينبغي للشيخ أن يختبر المريد في معرفته وتحقيق بغيته، فإذا بلغ مبلغ الرجال وتحققت فيه أوصاف الكمال، بحيث تحقق فناؤه، وكمل بقاؤه، وتمت معرفته، فيكون تصرفه كله بالله ومن الله وإلى الله، يَفهم عن الله في كل شيء، ويأخذ النصيب من كل شيء، ولا يأخذ من نصيبه شيئًا، قد تحلَّى بحلية الورع، وزال عنه الجزع والطمع، وزال عن قلبه خوف الخلق وهَمُّ الرزق، واكتفى بنظر المَلِك الحق، يأخذ الحقيقة من معدنها، والشريعة من موضعها، فإذا تحققت فيه هذه الأمور، وأنس رشده، فليُطلقُ له التصرف في نفسه، وليأمره بتربية غيره، إن رآه أهلاً لذلك، ولا ينبغي أن يحجر عليه بعد ظهور رشده، ولا يسرف عليه في الخدمة قبل رشده، مخافة أن يزول من يده.
فإن كان غنيًا عن خدمته فليستعفف عنه، وليجعل تربيته لله اقتداء بأنبياء الله. قال تعالى: قُلْ لآَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، وإن كان محتاجًا إليها فليستخدمه بالمعروف، ولا يكلفه ما يشق عليه، فإذا دفع إليه السر، وتمكن منه، وأمره بالتربية أو التذكير فليشهد له بذلك، ويوصي بخلافته عنه، كي تطمِئن القلوب بالأخذ عنه، (وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى به نصيرا).
ولمّا أمر الحق تعالى بحفظ أموال اليتامى أمر بحفظ أموال النساء، وذكرهن بعدهم لمشاركتّهن لهم فى الضعف، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٧]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧)
قلت: جملة مِمَّا قَلَّ.. الخ، بدل (مما ترك)، و «نصيبًا» : مصدر مؤكد كقوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي:
نصب لهم نصيبًا مقطوعًا، أو حال، أو على الاختصاص، أعني: نصيبًا مقطوعًا.
يقول الحق جلّ جلاله: وإذا مات ميت وترك مالاً فللرجال نصيب مما ترك آباؤهم وأقاربهم، وللنساء نصيب مما ترك والدهن وأقاربهن كالإخوة والأخوات، مما ترك ذلك الميت قل أو كثر، (نصيبًا مفروضًا) واجبًا محتمًا.
رُوِيَ أنَّ أَوْسَ بنَ ثَابتِ الأنْصَارِيَّ تُوفِيَّ، وتَركَ امرأة يقال لها: (أم كَحَّة) وثلاثّ بناتٍ، فأخذ ابْنَا عَمّ الميتِ المَالَ، ولم يُعْطيا المرأَة ولا بَنَاتِه شيئًا، وكان أَهلُ الجَاهلِيَّة لا يُورِّثُون النِّسَاءَ ولا الصغيرَ ولو كان ذكرًا، ويقولون:
إنما يَرث مَنْ يُحارب ويَذب عن الموروث، فجاءت أمُ كحة إلى رسول الله ﷺ وهو في مسجد الفضيخ، فقالت:
فإن كان غنيًا عن خدمته فليستعفف عنه، وليجعل تربيته لله اقتداء بأنبياء الله. قال تعالى: قُلْ لآَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ، وإن كان محتاجًا إليها فليستخدمه بالمعروف، ولا يكلفه ما يشق عليه، فإذا دفع إليه السر، وتمكن منه، وأمره بالتربية أو التذكير فليشهد له بذلك، ويوصي بخلافته عنه، كي تطمِئن القلوب بالأخذ عنه، (وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيّاً وَكَفَى به نصيرا).
ولمّا أمر الحق تعالى بحفظ أموال اليتامى أمر بحفظ أموال النساء، وذكرهن بعدهم لمشاركتّهن لهم فى الضعف، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٧]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (٧)
قلت: جملة مِمَّا قَلَّ.. الخ، بدل (مما ترك)، و «نصيبًا» : مصدر مؤكد كقوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أي:
نصب لهم نصيبًا مقطوعًا، أو حال، أو على الاختصاص، أعني: نصيبًا مقطوعًا.
يقول الحق جلّ جلاله: وإذا مات ميت وترك مالاً فللرجال نصيب مما ترك آباؤهم وأقاربهم، وللنساء نصيب مما ترك والدهن وأقاربهن كالإخوة والأخوات، مما ترك ذلك الميت قل أو كثر، (نصيبًا مفروضًا) واجبًا محتمًا.
رُوِيَ أنَّ أَوْسَ بنَ ثَابتِ الأنْصَارِيَّ تُوفِيَّ، وتَركَ امرأة يقال لها: (أم كَحَّة) وثلاثّ بناتٍ، فأخذ ابْنَا عَمّ الميتِ المَالَ، ولم يُعْطيا المرأَة ولا بَنَاتِه شيئًا، وكان أَهلُ الجَاهلِيَّة لا يُورِّثُون النِّسَاءَ ولا الصغيرَ ولو كان ذكرًا، ويقولون:
إنما يَرث مَنْ يُحارب ويَذب عن الموروث، فجاءت أمُ كحة إلى رسول الله ﷺ وهو في مسجد الفضيخ، فقالت:
يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات، وترك بنات ثلاثًا، وأنا امرأته، وليس عندى ما أُنْفقُه عَليهنّ، وقد تَرَك أبُوهُن مالاً حسنًا، وهو عند سُويْدٍ وعَرْفَجَة، فَدَعاهُما النبي صلى الله عليه وسلم، فقالا: يا رسول الله ولَدُها لا يَركُب فَرسًا، ولا يَحْمِل سِلاَحًا، لا ينُكأ عَدُوًّا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «انْصَرِفُوا حتى أرى ما يُحدِثُ الله تعالى»، فانْصرَفُوا. فنزلت الآية. فأثبت الله لهن في الآية حقًا، ولم يبين كم هو- فأرسل النبي ﷺ إلى سُويد وعَرفجَة: «لا تُفرقا مِنْ مَال أوْسٍ شَيئًا، فَإنّ الله تعالى جَعَل لِبنَاتِه نَصِيبًا، ولم يبَّين كم هو حتى أنظُرَ ما يُنزل الله تعالى»، فأنزل الله تعالى بعدُ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ.. إلى قوله... الْفَوْزُ الْعَظِيمُ. فأرسل إليهما: «أن ادفعا إلى أم كحة الثُّمْن، وإلى بناته الثُّلثين، ولكما باقي المال».
الإشارة: كما جعل الله للنساء نصيبًا من الميراث الحسي جعل لهن نصيبًا من الميراث المعنوي، وهو السر، إن صحبتْ أهل السر، وكان لها أبو الروحانية، وهو الشيخ، فللرجال نصيب مما ترك لهم أشياخهم من سر الولاية، وللنساء كذلك على قدر ما سبق في القسمة الأزلية، قليلة كانت أو كثيرة، نصيبًا مفروضًا معينًا في علم الله وقدره، وقد سواهن الله تعالى مع الرجال في آية السير، فقال: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ إلى آخر الآية، فمَنْ صار منهن مع الرجال أدرك ما أدركوا. وبالله التوفيق.
ثم أمر الورثة بالإحسان إلى من حضر معهم القسمة، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٨]
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨)
قلت: الضمير في (منه) : يعود على المقسوم المفهوم من القسمة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا حَضَرَ معكم في قسمة التركة ذَوو القرابة مِمَّنْ لا يرث، كالأخوال والخالات والعمات، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ، فَارْزُقُوهُمْ أي: فأعطوهم شيئًا من المال المقسوم تطييبًا لقلوبهم.
فإن كان المال لغيركم، أو كان الورثة غيرَ بالغين، فقولوا لهم قَوْلًا مَعْرُوفاً، بأن تُعلموهم أن المال لغيرنا، ولو كان لنا لأعطيناكم، والله يرزقنا وإياكم.
واختلف في هذا الأمر، هل للندب- وهو المشهور- أو للوجوب ونسخ بآية المواريث؟ وقيل: لم يُنسخ، وهي مما تهاون الناس بها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما جعل الله للنساء نصيبًا من الميراث الحسي جعل لهن نصيبًا من الميراث المعنوي، وهو السر، إن صحبتْ أهل السر، وكان لها أبو الروحانية، وهو الشيخ، فللرجال نصيب مما ترك لهم أشياخهم من سر الولاية، وللنساء كذلك على قدر ما سبق في القسمة الأزلية، قليلة كانت أو كثيرة، نصيبًا مفروضًا معينًا في علم الله وقدره، وقد سواهن الله تعالى مع الرجال في آية السير، فقال: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ إلى آخر الآية، فمَنْ صار منهن مع الرجال أدرك ما أدركوا. وبالله التوفيق.
ثم أمر الورثة بالإحسان إلى من حضر معهم القسمة، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٨]
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٨)
قلت: الضمير في (منه) : يعود على المقسوم المفهوم من القسمة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا حَضَرَ معكم في قسمة التركة ذَوو القرابة مِمَّنْ لا يرث، كالأخوال والخالات والعمات، وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ، فَارْزُقُوهُمْ أي: فأعطوهم شيئًا من المال المقسوم تطييبًا لقلوبهم.
فإن كان المال لغيركم، أو كان الورثة غيرَ بالغين، فقولوا لهم قَوْلًا مَعْرُوفاً، بأن تُعلموهم أن المال لغيرنا، ولو كان لنا لأعطيناكم، والله يرزقنا وإياكم.
واختلف في هذا الأمر، هل للندب- وهو المشهور- أو للوجوب ونسخ بآية المواريث؟ وقيل: لم يُنسخ، وهي مما تهاون الناس بها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقول الحق جلّ جلاله لخواص أحبابه: إذا دارت الكؤوس بخمرة الملك القدوس، وتعاطيتم قسمتها بين أرواحكم حتى امتلأت جميعُ أشباحكم، وروت منها عُروقكم، وحضر معكم من ليس من أبناء جنسكم، ممن لا يُحل شرْب خمرتكم، فإن كان من أهل المحبة والوداد، أو من له بكم قرابة واستناد، فلا تحرموه من شراب خمرتكم، ولا من نفحات نسمتكم، فإنكم قوم لا يشقى جليسكم، فارزقوه من ثمار علومكم، واسقوه من شراب خمرتكم، وذكَّروه بالله، وقولوا له ما يدله على الله، ويوصله إلى حضرة الله، وهذا هو القول المعروف، الذي هو بالنصح موصوف.
رُوِي أن أبا هريرة رضي الله عنه نادى في سوق المدينة: يا معشر التجار، اذهبوا إلى المسجد، فأنَّ تركة مُحمدٍ تقسم فيه، لتأخذوا حقكم منها مع الناس قبل أن تنفد، فذهب التُجَّارُ إلى المسجد النبوي، فوجدوه معمورًا بالناس، بعضهم يُصلي، وبعضهم يتلو، وبعضهم يذكر، وبعضهم يعلم العلم، فقالوا: يا أبا هريرة، ليس هنا ما ذكرت من قسم التركة! فقال لهم: (هذه تركة محمد صلّى الله عليه وسلم، لا ما أنتم عليه من جمع الأموال) أو كما قال رضي الله عنه.
ثم حثّ الأوصياء على الرفق بأولاد الناس، الذي هم فى حجرهم، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٩]
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩)
قلت: «لَوْ» - هنا- شرطية، تخلص للاستقبال، وجوابها: (خافُوا)، وحذف مفعول لْيَخْشَ للعموم، فيصدق بخشية العذاب وخشية العتاب وخشية البعد عن الأحباب، على حسب حال المخاطبين بهذه الخشية.
يقول الحق جلّ جلاله للأوصياء الذين في ولايتهم أولاد الناس: وَلْيَخْشَ الذين يتولون يتامى الناس، فليحفظوا ما لهم، وليحسنوا تنميته لهم ولا يضيعوه، وليخافوا عليهم الضيعة، كما يخافون على أولادهم، فإنهم لو ماتوا وتركوا ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ، فكما يخافون على أولادهم بعدهم كذلك يخافون على أولاد الناس، فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ في شأنهم، وليحفظوا عليهم أموالهم، وليرفقوا بهم ويلاطفوهم في الكلام، كما يُحبون أن يلاطف بأولادهم، وَلْيَقُولُوا لهم قَوْلًا سَدِيداً أي: عدلاً صوابًا بالشفقة وحسن الأدب.
وقيل: الخطاب لمن حضر المريض عند الإيصاء فيقولون له: قدم لنفسك، أعتق، تصدق، أعط كذا، حتى يستغرق ماله، فنهاهم الحق- تعالى- عن ذلك، وقال لهم: كما تخافون الضيعة على أولادكم بعدكم خافوا على أولاد الناس، فليتقوا الله في أمر المريض بإعطاء ماله كله، وَلْيَقُولُوا له قَوْلًا سَدِيداً: عدلاً، وهو الثلث، وقيل:
للمؤمنين كلهم عند موتهم، بأن ينظروا للورثة، فلا يسرفوا في الوصية بمجاوزة الثلث. والله تعالى أعلم.
رُوِي أن أبا هريرة رضي الله عنه نادى في سوق المدينة: يا معشر التجار، اذهبوا إلى المسجد، فأنَّ تركة مُحمدٍ تقسم فيه، لتأخذوا حقكم منها مع الناس قبل أن تنفد، فذهب التُجَّارُ إلى المسجد النبوي، فوجدوه معمورًا بالناس، بعضهم يُصلي، وبعضهم يتلو، وبعضهم يذكر، وبعضهم يعلم العلم، فقالوا: يا أبا هريرة، ليس هنا ما ذكرت من قسم التركة! فقال لهم: (هذه تركة محمد صلّى الله عليه وسلم، لا ما أنتم عليه من جمع الأموال) أو كما قال رضي الله عنه.
ثم حثّ الأوصياء على الرفق بأولاد الناس، الذي هم فى حجرهم، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٩]
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩)
قلت: «لَوْ» - هنا- شرطية، تخلص للاستقبال، وجوابها: (خافُوا)، وحذف مفعول لْيَخْشَ للعموم، فيصدق بخشية العذاب وخشية العتاب وخشية البعد عن الأحباب، على حسب حال المخاطبين بهذه الخشية.
يقول الحق جلّ جلاله للأوصياء الذين في ولايتهم أولاد الناس: وَلْيَخْشَ الذين يتولون يتامى الناس، فليحفظوا ما لهم، وليحسنوا تنميته لهم ولا يضيعوه، وليخافوا عليهم الضيعة، كما يخافون على أولادهم، فإنهم لو ماتوا وتركوا ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ، فكما يخافون على أولادهم بعدهم كذلك يخافون على أولاد الناس، فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ في شأنهم، وليحفظوا عليهم أموالهم، وليرفقوا بهم ويلاطفوهم في الكلام، كما يُحبون أن يلاطف بأولادهم، وَلْيَقُولُوا لهم قَوْلًا سَدِيداً أي: عدلاً صوابًا بالشفقة وحسن الأدب.
وقيل: الخطاب لمن حضر المريض عند الإيصاء فيقولون له: قدم لنفسك، أعتق، تصدق، أعط كذا، حتى يستغرق ماله، فنهاهم الحق- تعالى- عن ذلك، وقال لهم: كما تخافون الضيعة على أولادكم بعدكم خافوا على أولاد الناس، فليتقوا الله في أمر المريض بإعطاء ماله كله، وَلْيَقُولُوا له قَوْلًا سَدِيداً: عدلاً، وهو الثلث، وقيل:
للمؤمنين كلهم عند موتهم، بأن ينظروا للورثة، فلا يسرفوا في الوصية بمجاوزة الثلث. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أمر الحق- جل جلاله- أهل التربية النبوية إذا خافوا على أولادهم الروحانيين أن ينقطعوا بعد موتهم، أن يمدوهم بالمدد الأبهر، ويدلوهم على الغني الأكبر، حتى يتركوهم أغنياء بالله، قد اكتفوا عن كل أحد سواه، مخافة أن يسقطوا بعد موتهم في يد من يلعب بهم، فليتقوا الله في شأنهم، وليدلوهم على ربهم، وهو القول السديد.
وينسحب حكمها على أولاد البشرية، فمن خاف على أولاده بعد موته، فليتق الله وليكثر من طاعة الله، وليحسن إلى عباد الله، في أشباحهم وأرواحهم أما أشباحهم فيُطعمهم مما خوله الله، ففي بعض الأثر عنه عليه الصلاة والسلام: «ما أحْسَنَ عَبْدٌ الصَّدَقَةَ في مَاله إلا أحْسَنَ اللهُ الخِلافَةَ عَلَى تَرِكَته». وأما الإحسان إلى أرواحهم، فيدلهم على الله، ويرشدهم إلى طاعة الله، ويعلمهم أحكام دين الله. فمن فعل هذا تولى الله حفظ ذريته من بعده، فيعيشون في حفظ ورعاية وعز ونصر، كما هو مشاهد في أولاد الصالحين، قال تعالى: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وتذكر قوله تعالى: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً.
وقال القشيري في هذه الآية: إن الذي ينبغي للمسلم أن يدخر لعياله التقوى والصلاح، لا المال، لأنه لم يقل فليجمعوا لهم المال، وليكثروا لهم العقار والأسباب، وليخلفوا العبيد والأثاث، بل قال: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ فإنه يتولى الصالحين. هـ المراد منه.
ثم ذكر الحق تعالى وعيد من يأكل مال اليتيم، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)
قلت: (ظلمًا) : تمييز، أو مفعول لأجله.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً من غير موجب شرعي، إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارًا، أي: ما يجُر إلى النار ويؤول إليها.
وعن أبي برزة أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «يبعثُ اللهُ أقوامًا من قبورهم تتأججُ أفواههم نارًا»، فقيل: مَنْ هم يا رسول الله؟
قال: «ألم تر أن الله يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً».
أي: يحترقون في نار، وأي نار!! والصَّلْى: هو الشيّ، تقول: صليت الشيء: شويته، وأصليته وصليته، وذكر البطون مبالغة وتهجين لحالهم.
وينسحب حكمها على أولاد البشرية، فمن خاف على أولاده بعد موته، فليتق الله وليكثر من طاعة الله، وليحسن إلى عباد الله، في أشباحهم وأرواحهم أما أشباحهم فيُطعمهم مما خوله الله، ففي بعض الأثر عنه عليه الصلاة والسلام: «ما أحْسَنَ عَبْدٌ الصَّدَقَةَ في مَاله إلا أحْسَنَ اللهُ الخِلافَةَ عَلَى تَرِكَته». وأما الإحسان إلى أرواحهم، فيدلهم على الله، ويرشدهم إلى طاعة الله، ويعلمهم أحكام دين الله. فمن فعل هذا تولى الله حفظ ذريته من بعده، فيعيشون في حفظ ورعاية وعز ونصر، كما هو مشاهد في أولاد الصالحين، قال تعالى: وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وتذكر قوله تعالى: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً.
وقال القشيري في هذه الآية: إن الذي ينبغي للمسلم أن يدخر لعياله التقوى والصلاح، لا المال، لأنه لم يقل فليجمعوا لهم المال، وليكثروا لهم العقار والأسباب، وليخلفوا العبيد والأثاث، بل قال: فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ فإنه يتولى الصالحين. هـ المراد منه.
ثم ذكر الحق تعالى وعيد من يأكل مال اليتيم، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠)
قلت: (ظلمًا) : تمييز، أو مفعول لأجله.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً من غير موجب شرعي، إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارًا، أي: ما يجُر إلى النار ويؤول إليها.
وعن أبي برزة أنه صلّى الله عليه وسلم قال: «يبعثُ اللهُ أقوامًا من قبورهم تتأججُ أفواههم نارًا»، فقيل: مَنْ هم يا رسول الله؟
قال: «ألم تر أن الله يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً».
أي: يحترقون في نار، وأي نار!! والصَّلْى: هو الشيّ، تقول: صليت الشيء: شويته، وأصليته وصليته، وذكر البطون مبالغة وتهجين لحالهم.
الإشارة: حذَّر الحق- جل جلاله- أهل الدعوى، الذين نصبوا أنفسهم للشيخوخة، وادعوا مقام التربية، مع كونهم جهالاً بالله، محجوبين عن شهود أسرار التوحيد، أن يأخذوا أموال الضعفاء الذين تعلقوا بهم لأنهم إنما يدفعون لهم ذلك طمعًا في الوصول إلى الله. وهم ليسوا أهلاً لذلك، فإذا أكلوا ذلك فإنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرًا، وهو تكثيف الحجاب، وزيادة العنت والتعب، إن أقبل عليهم الناس فرحوا واستبشروا، وإن أدبروا عنهم حزنوا وغضبوا، فأيُّ عذاب أعظم مِنْ هذا!! فتحصَّل من أول الآية إلى آخرها، أن الحق- تعالى- أمر أهل الغني الأكبر، وهم الذين أهلَّهم للتربية النبوية، بأن سلكوا الطريق وأشرقت عليهم شموس التحقيق على يد شيخ كامل، بالاستعفاف، ولا يأخذوا إلاّ قدر الحاجة، من أموال مّنْ انتسب إليهم، وسد الباب لأهل الدعوى، لإنه مِنْ أكْلِ أموال الناس بالباطل، لأنه يعطى على وجه لم يوجد في المعطى إليه، إلا إذا كان على وجه الصدقة المحضة، مع أنه قد يكون غير مستحق لها. والله تعالى أعلم.
ثم بيَّن الحقّ تعالى قسمة التركة، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ١١]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١)
يقول الحق جلّ جلاله: (يوصيكم الله) أي: يأمركم ويعهد إليكم، فِي أَوْلادِكُمْ، أي: في بيان ميراثهم، ثم فصَّله فقال: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، أي يعُدُ كل ذكر بأنثيين، فإذا ترك ابنًا وبنتًا، كانت من ثلاثة، للذكر سهمان وللبنت سهم، وإذا ترك ابنًا وبنتين فله قسمتان، ولكل واحدة قسمة، وهكذا، قال ابن جزي: هذه الآية نزلت بسبب سعد بن الربيع، وقيل: بسبب جابر بن عبد الله، إذ عاده رسول الله ﷺ في مرضه ورفَعت ما كان في الجاهلية من ترك توريث النساء والأطفال. وقيل: نُسخت الوصية للوالدين والأقربين.
وإنما قال: «يوصيكم» بلفظ الفعل الدائم، ولم يقل: أوصاكم، تنبيهًا على نسخ ما مضى، والشروع في حكم آخر، وإنما قال: (يوصيكم) بالاسم الظاهر، أي: (الله) ولم يقل: نوصيكم، لأنه أراد تعظيم الوصية، فجاء بالاسم الذي هو أعظم الأسماء، وإنما قال: (في أولادكم) ولم يقل: في أبنائكم لأن الابن يقع على الابن من الرضاعة، وعلى ابن البنت، وعلى الابن المتبنى، وليسوا من الورثة، فإن قيل: هلاّ قال: للأنثيين مثل حظ الذَّكر، أو للأنثى
ثم بيَّن الحقّ تعالى قسمة التركة، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ١١]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (١١)
يقول الحق جلّ جلاله: (يوصيكم الله) أي: يأمركم ويعهد إليكم، فِي أَوْلادِكُمْ، أي: في بيان ميراثهم، ثم فصَّله فقال: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، أي يعُدُ كل ذكر بأنثيين، فإذا ترك ابنًا وبنتًا، كانت من ثلاثة، للذكر سهمان وللبنت سهم، وإذا ترك ابنًا وبنتين فله قسمتان، ولكل واحدة قسمة، وهكذا، قال ابن جزي: هذه الآية نزلت بسبب سعد بن الربيع، وقيل: بسبب جابر بن عبد الله، إذ عاده رسول الله ﷺ في مرضه ورفَعت ما كان في الجاهلية من ترك توريث النساء والأطفال. وقيل: نُسخت الوصية للوالدين والأقربين.
وإنما قال: «يوصيكم» بلفظ الفعل الدائم، ولم يقل: أوصاكم، تنبيهًا على نسخ ما مضى، والشروع في حكم آخر، وإنما قال: (يوصيكم) بالاسم الظاهر، أي: (الله) ولم يقل: نوصيكم، لأنه أراد تعظيم الوصية، فجاء بالاسم الذي هو أعظم الأسماء، وإنما قال: (في أولادكم) ولم يقل: في أبنائكم لأن الابن يقع على الابن من الرضاعة، وعلى ابن البنت، وعلى الابن المتبنى، وليسوا من الورثة، فإن قيل: هلاّ قال: للأنثيين مثل حظ الذَّكر، أو للأنثى
471
نصف حظ الذَّكر؟، فالجواب، أنه بدأ بالذَّكَرِ لفضله، ولأن القصد ذكُر حظه، ولو قال للأنثيين مثل حظ الذكر لكان فيه تفضيل للإناث. هـ «١».
الأشارة: كما أوصى الله- تعالى- في أولاد البشرية، أوصى على أولاد الروحانية، ويقع التفضيل في قسمة الإمداد على حسب التعظيم والمحبة والعطف من الشيخ، فبقدر ما يقع في قلب الشيخ، يسري إليه المدد، فقد يأخذ مثل حظ رجلين أو أكثر، على حسب ما سبق في القسمة الأزلية. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حكم البنات إذا انفردن، فقال:
قلت: أنّث الضمير فى (كنّ) باعتبار الخبر، أو يعود على المتروكات، وما قاله الزمخشري بعيد. ومن قرأ (واحدةُ) بالرفع، ففاعِلُ كَانَ التامة، ومن قرأ بالنصب، فخبر كان.
يقول الحق جلّ جلاله: فإن كان المتروك من الأولاد نِساءً ليس معهن ذكور فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أي:
اثنتين فما فوق، فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ، والباقي للعاصب، وأخذ ابن عباس بظاهر الآية، فأعطاهما النصف كالواحدة، والجمهور على خلافه، وأن لفظ فَوْقَ زائدة كقوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وقيل: أخذ الثلثين بالسُنة، وإن كانَتْ بنتًا واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، والباقي للعاصب، وفيه دليل على أنَّ الابن يأخذ جميع المال إذا انفرد لأن له مثل حظ الأنثيين.
الإشارة: انظر البنت، إذا انفردت أخذت النصف، وإذا اجتمعت مع غيرها نقص لها، كذلك أمداد الأشياخ، من انفرد عندهم وحده، أخذ أكثر مما إذا اجتمع مع غيره، لانجماع نظر الشيخ إليه، وكان شيخنا رضي الله عنه يقول له شيخه: ما زال يأتيك الرجال- أي: إخوانك من الفقراء- وكان وحده، فيقول له: الله لا يجعل أحدًا يأتي حتى نشبع.
وكذلك أيضًا، انفراد العبد بالعبادة، في وقت الغفلة، مددها أعظم من كونه مع غيره، كالمجاهد خلف الفارين.
وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: «طوُبَى للغُرَبَاءِ»، والله تعالى أعلم.
الأشارة: كما أوصى الله- تعالى- في أولاد البشرية، أوصى على أولاد الروحانية، ويقع التفضيل في قسمة الإمداد على حسب التعظيم والمحبة والعطف من الشيخ، فبقدر ما يقع في قلب الشيخ، يسري إليه المدد، فقد يأخذ مثل حظ رجلين أو أكثر، على حسب ما سبق في القسمة الأزلية. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حكم البنات إذا انفردن، فقال:
قلت: أنّث الضمير فى (كنّ) باعتبار الخبر، أو يعود على المتروكات، وما قاله الزمخشري بعيد. ومن قرأ (واحدةُ) بالرفع، ففاعِلُ كَانَ التامة، ومن قرأ بالنصب، فخبر كان.
يقول الحق جلّ جلاله: فإن كان المتروك من الأولاد نِساءً ليس معهن ذكور فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أي:
اثنتين فما فوق، فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ، والباقي للعاصب، وأخذ ابن عباس بظاهر الآية، فأعطاهما النصف كالواحدة، والجمهور على خلافه، وأن لفظ فَوْقَ زائدة كقوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وقيل: أخذ الثلثين بالسُنة، وإن كانَتْ بنتًا واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ، والباقي للعاصب، وفيه دليل على أنَّ الابن يأخذ جميع المال إذا انفرد لأن له مثل حظ الأنثيين.
الإشارة: انظر البنت، إذا انفردت أخذت النصف، وإذا اجتمعت مع غيرها نقص لها، كذلك أمداد الأشياخ، من انفرد عندهم وحده، أخذ أكثر مما إذا اجتمع مع غيره، لانجماع نظر الشيخ إليه، وكان شيخنا رضي الله عنه يقول له شيخه: ما زال يأتيك الرجال- أي: إخوانك من الفقراء- وكان وحده، فيقول له: الله لا يجعل أحدًا يأتي حتى نشبع.
وكذلك أيضًا، انفراد العبد بالعبادة، في وقت الغفلة، مددها أعظم من كونه مع غيره، كالمجاهد خلف الفارين.
وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: «طوُبَى للغُرَبَاءِ»، والله تعالى أعلم.
(١) راجع تفسير ابن جزى.
472
ثم ذكر ميراث الأبوين، فقال:
قلت: (السدس) مبتدأ، و (لأبويه) خبر، و (لكل واحد)، بدل من (أبويه)، ونكتة البدل إفادة أنهما لا يشتركان في السدس، ولو قال: لأبوَيْه السدس لأوهم الاشتراك.
يقول الحق جلّ جلاله: إذا مات الولد، وترك أبويه، ف لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ذكرًا أو أنثى، واحدًا أو متعددًا، للصلب أو ولد ابن، فكلهم يَردُّون الأبوين للسدس، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فقط، فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، والباقي للأب، فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ أي: أخَوَان فأكثر، سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم، أو مختلفين، فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ، والباقي للأب، ولا شيء للأخوة معه.
وأخذ ابن عباس بظاهر الآية، فلم يحجبها للسدس باثنين، وجعلهما كالواحد، واحتج بأن لفظ الإخوة جمع، وأقله ثلاثة، وأجيب بأن لفظ الجمع، يقع على الاثنين كقوله: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ، إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «الاثْنَانِ فَما فَوْقَهمَا جَمَاعَةٌ». وهذا كله، بعد إخراج الوصية وقضاء الدين، وإنما قدّم الحق- تعالى- الوصية على الدَّين، مع كون الدّين مقدمًا في القضاء من رأس المال لأن أرباب الدّين أقوياء، بخلاف الموصى لهم، فقدمهم اعتناء بهم.
الإشارة: الروح كالأب، والبشرية كالأم، وعقد الصحبة مع الشيخ كالولد، فأن كان الإنسان له صحبة مع شيخ التربية، يعني له ورد منه، فالبشرية والروحانية سواء، إذ كلاهما يتهذبان ويتنوران بالأدب والمعرفة الأدب للبشرية، والمعرفة للروحانية، إذا استمد بالطاعة الظاهرُ استمد الباطن، وبالعكس، وأن لم يكن عقد الصحبة موجودًا كان ميراث البشرية من الحس أقوى كميراث الأم مع فقد الولد، أو تقول: الإنسان مركب من حس ومعنى، فالحس كالأم، والمعنى كالأب، لأن المعاني قائمة بالحس، والروح تستمد منهما معًا، فهي كالولد بينهما، فإن كانت الروح حية بوجود المعرفة، استمدت منهما معًا، وإن كانت ميتة، كان استمدادها من الحس أكثر، كموت الولد في ميراث الأم.
أو تقول: الإنسان بين قدرة وحكمة، القدرة كالأب، والحكمة كالأم، والقلب بينهما كالولد، فإِنْ وُجد القلب استمدت الروح من القدرة والحكمة، واستوى نظرها فيهما. وإن فقد القلب غلب على الروح ميراث الحكمة، كفَقْدِ
قلت: (السدس) مبتدأ، و (لأبويه) خبر، و (لكل واحد)، بدل من (أبويه)، ونكتة البدل إفادة أنهما لا يشتركان في السدس، ولو قال: لأبوَيْه السدس لأوهم الاشتراك.
يقول الحق جلّ جلاله: إذا مات الولد، وترك أبويه، ف لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ذكرًا أو أنثى، واحدًا أو متعددًا، للصلب أو ولد ابن، فكلهم يَردُّون الأبوين للسدس، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فقط، فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ، والباقي للأب، فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ أي: أخَوَان فأكثر، سواء كانوا أشقاء أو لأب أو لأم، أو مختلفين، فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ، والباقي للأب، ولا شيء للأخوة معه.
وأخذ ابن عباس بظاهر الآية، فلم يحجبها للسدس باثنين، وجعلهما كالواحد، واحتج بأن لفظ الإخوة جمع، وأقله ثلاثة، وأجيب بأن لفظ الجمع، يقع على الاثنين كقوله: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ، إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ، ولقوله صلّى الله عليه وسلم: «الاثْنَانِ فَما فَوْقَهمَا جَمَاعَةٌ». وهذا كله، بعد إخراج الوصية وقضاء الدين، وإنما قدّم الحق- تعالى- الوصية على الدَّين، مع كون الدّين مقدمًا في القضاء من رأس المال لأن أرباب الدّين أقوياء، بخلاف الموصى لهم، فقدمهم اعتناء بهم.
الإشارة: الروح كالأب، والبشرية كالأم، وعقد الصحبة مع الشيخ كالولد، فأن كان الإنسان له صحبة مع شيخ التربية، يعني له ورد منه، فالبشرية والروحانية سواء، إذ كلاهما يتهذبان ويتنوران بالأدب والمعرفة الأدب للبشرية، والمعرفة للروحانية، إذا استمد بالطاعة الظاهرُ استمد الباطن، وبالعكس، وأن لم يكن عقد الصحبة موجودًا كان ميراث البشرية من الحس أقوى كميراث الأم مع فقد الولد، أو تقول: الإنسان مركب من حس ومعنى، فالحس كالأم، والمعنى كالأب، لأن المعاني قائمة بالحس، والروح تستمد منهما معًا، فهي كالولد بينهما، فإن كانت الروح حية بوجود المعرفة، استمدت منهما معًا، وإن كانت ميتة، كان استمدادها من الحس أكثر، كموت الولد في ميراث الأم.
أو تقول: الإنسان بين قدرة وحكمة، القدرة كالأب، والحكمة كالأم، والقلب بينهما كالولد، فإِنْ وُجد القلب استمدت الروح من القدرة والحكمة، واستوى نظرها فيهما. وإن فقد القلب غلب على الروح ميراث الحكمة، كفَقْدِ
473
الولد في ميراث الأم، وإن كان للقلب أخوة من الأنوار والأسرار يتقوى بهما فللروح من ميراث الحكمة السدس، والباقي كله للقدرة، ولا يعرف هذا إلا من حقق معرفة القدرة والحكمة، ذوقًا وكشفًا، وإلاَّ.. فليسلُم لأهل المعرفة.
والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى حكمة تقسيم تركة الأب والابن على ما فرض، وأن ذلك لا يعلمه إلا هو، فقال:
آباؤُكُمْ...
يقول الحق جلّ جلاله: قد بينت لكم ما يرثُ الأبُ من ابنه، وما يرث الولدُ من أبيه، ولو وكلت ذلك إليكم لأفسدتم القسمة لأنكم لا تدرون أيهم أقرب نفعًا للأخر، هل الأب أقرب نفعًا لابنه، فتعطوه الميراث كله دون ولد الميت، أو الولد أقرب نفعًا لأبيه، من الأب لابنه، فتخصونه بالإرث، ففرضتُ ميراث الأب وميراث الولد، ولم نكل ذلك إليكم. فَرِيضَةً حاصلة مِنَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بمصالح العباد حَكِيماً بما فرض وقدَّر.
وقال ابن عباس: لا تدرون أيهم أطوع لله عز وجل من الآباء والأبناء، وأرفعكم درجة يوم القيامة، لأن الله تعالى يشفع المؤمنين في بعضهم بعضًا، فيشفع الولد في والديه، إن كان أرفع درجة منهما، فيرفعهما الله إليه، ويشفع الوالدين في ولدهما، إن كانا أرفع درجة منه، فيرتفع إليهما لتقر بذلك أعينهما. هـ. بالمعنى.
الإشارة: الإنسان لا تقوم روحانيته إلا ببشريته، وبشريته إلا بروحانيته، فلا يدري أيهما أقرب له نفعًا، لأن البشرية محل للعبودية، والروحانية محل لشهود عظمة الربوبية، ولا بد للجمع بينهما، وكذلك الحس، لا يقوم إلا بالمعنى، والمعنى لا يقوم إلا بالحس، فلا تدري أيهما أقرب نفعًا لك أيها المريد، فتؤثره، وإن كانت المعاني هي المقصودة بالسير، لكن لا تقوم إلا بوجود الحس، فلا بد من ملاحظته.
وقال الورتجبي هنا ما نصه: أشكل الأمر من تلك الطائفتين، أيهم يبلغ درجة الولاية والمعرفة الموجبة مشاهدة الله وقربته، التي لو وقعت ذرة منها لأحد من هذه الأمة لينجو بشفاعته سبعون الفًا بغير حساب، أي: اخدموا آباءكم وارحموا أولادكم، فربما يخرج منهم صاحب الولاية، ليشفع لكم عند الله تعالى، وحكمة الإبهام هاهنا ليشمل الرحمة والشفقة على الجمهور، لتوقع ذلك الولي الصادق. هـ. قلت: فسر الآباء والأبناء بالحسيين، وتشمل الآية أيضًا الآباء والأبناء المعنويين والروحانيين. والله تعالى أعلم.
والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى حكمة تقسيم تركة الأب والابن على ما فرض، وأن ذلك لا يعلمه إلا هو، فقال:
آباؤُكُمْ...
يقول الحق جلّ جلاله: قد بينت لكم ما يرثُ الأبُ من ابنه، وما يرث الولدُ من أبيه، ولو وكلت ذلك إليكم لأفسدتم القسمة لأنكم لا تدرون أيهم أقرب نفعًا للأخر، هل الأب أقرب نفعًا لابنه، فتعطوه الميراث كله دون ولد الميت، أو الولد أقرب نفعًا لأبيه، من الأب لابنه، فتخصونه بالإرث، ففرضتُ ميراث الأب وميراث الولد، ولم نكل ذلك إليكم. فَرِيضَةً حاصلة مِنَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بمصالح العباد حَكِيماً بما فرض وقدَّر.
وقال ابن عباس: لا تدرون أيهم أطوع لله عز وجل من الآباء والأبناء، وأرفعكم درجة يوم القيامة، لأن الله تعالى يشفع المؤمنين في بعضهم بعضًا، فيشفع الولد في والديه، إن كان أرفع درجة منهما، فيرفعهما الله إليه، ويشفع الوالدين في ولدهما، إن كانا أرفع درجة منه، فيرتفع إليهما لتقر بذلك أعينهما. هـ. بالمعنى.
الإشارة: الإنسان لا تقوم روحانيته إلا ببشريته، وبشريته إلا بروحانيته، فلا يدري أيهما أقرب له نفعًا، لأن البشرية محل للعبودية، والروحانية محل لشهود عظمة الربوبية، ولا بد للجمع بينهما، وكذلك الحس، لا يقوم إلا بالمعنى، والمعنى لا يقوم إلا بالحس، فلا تدري أيهما أقرب نفعًا لك أيها المريد، فتؤثره، وإن كانت المعاني هي المقصودة بالسير، لكن لا تقوم إلا بوجود الحس، فلا بد من ملاحظته.
وقال الورتجبي هنا ما نصه: أشكل الأمر من تلك الطائفتين، أيهم يبلغ درجة الولاية والمعرفة الموجبة مشاهدة الله وقربته، التي لو وقعت ذرة منها لأحد من هذه الأمة لينجو بشفاعته سبعون الفًا بغير حساب، أي: اخدموا آباءكم وارحموا أولادكم، فربما يخرج منهم صاحب الولاية، ليشفع لكم عند الله تعالى، وحكمة الإبهام هاهنا ليشمل الرحمة والشفقة على الجمهور، لتوقع ذلك الولي الصادق. هـ. قلت: فسر الآباء والأبناء بالحسيين، وتشمل الآية أيضًا الآباء والأبناء المعنويين والروحانيين. والله تعالى أعلم.
474
ثم ذكر ميراث الزوج والزوجة، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ١٢]
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَكُمْ أيها الأزواج، من ميراث أزواجكم نِصْفُ ما تركن إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ. فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ وارث، ذكرًا أو أنثى، مفردًا أو متعددًا، من بطنها أو من صلب بنيها أو بني بنيها وإن سفل، منكم أو من غيركم، فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ، بعد قضاء الدين وإخراج الوصية.
وَلَهُنَّ أي: الزوجات من ميراث الزوج الرُّبُعُ مما ترك إِنْ لَمْ يَكُنْ له ولد لاحق، ذكرًا أو أنثى، على وزان ما تقدم في الزوجة، فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ تنفرد به إن كانت واحدة، ويُقسم بينهن إن تعددن، ولا ينقص لأهل السهام مما فرض الله لهم إلا ما نقصه العَوْل على مذهب الجمهور، خلافًا لابن عباس، فإنه لا يقول بالعول.
فإن قيل: لِمَ كرر قوله: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ مع ميراث الزوج وميراث الزوجة، ولم يذكره قبل ذلك إلا مرة واحدة في ميراث الأولاد والأبوين؟ فالجواب: أن الموروث في ميراث الزوج هو الزوجة، والموروث في ميراث الزوجة هو الزوج، فكل واحدة قضية مستقلة، فلذلك ذكر ذلك مع كل واحدة، بخلاف الأول فأن الموروث فيه واحد، ذكرَ حكم ما يرث منه أولاده وأبواه، وهي قضية واحدة، فلذلك قال فيه: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ مرة واحدة.
قاله ابن جزي. قال البيضاوي: فرض للرجل بحق الزواج ضِعف ما للمرأة كما في النسب، وهكذا قياس كل رجل وامرأة، إذا اشتركا في الجهة والقرب، ولا يستثنى منه إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة. هـ.
الأشارة: إذا ماتت النفس، ولم تبق لها بقية، وورثت الروحُ ما كان لها من العلوم الكسبية: النقلية والعقلية، وأضافته إلى مَالهَا من العلوم الوهبية، فانقلب الجميع وهبيًا، قال بعض شيوخ أشياخا: (كنتُ أعرف أربعة عشر علمًا، فلما دخلت علم الحقيقة سرطت ذلك كله، فلم يبق إلا الكتاب والسنة)، أو كما قال. وقال أبو سليمان الداراني:
إذا اعتقدت النفوس على ترك الآثام، جالت في الملكوت، ثم عادت إلى صاحبها بطرائف العلوم، من غير أن يؤدي إليها عالم علما.
[سورة النساء (٤) : آية ١٢]
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (١٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَكُمْ أيها الأزواج، من ميراث أزواجكم نِصْفُ ما تركن إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ. فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ وارث، ذكرًا أو أنثى، مفردًا أو متعددًا، من بطنها أو من صلب بنيها أو بني بنيها وإن سفل، منكم أو من غيركم، فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ، بعد قضاء الدين وإخراج الوصية.
وَلَهُنَّ أي: الزوجات من ميراث الزوج الرُّبُعُ مما ترك إِنْ لَمْ يَكُنْ له ولد لاحق، ذكرًا أو أنثى، على وزان ما تقدم في الزوجة، فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ تنفرد به إن كانت واحدة، ويُقسم بينهن إن تعددن، ولا ينقص لأهل السهام مما فرض الله لهم إلا ما نقصه العَوْل على مذهب الجمهور، خلافًا لابن عباس، فإنه لا يقول بالعول.
فإن قيل: لِمَ كرر قوله: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ مع ميراث الزوج وميراث الزوجة، ولم يذكره قبل ذلك إلا مرة واحدة في ميراث الأولاد والأبوين؟ فالجواب: أن الموروث في ميراث الزوج هو الزوجة، والموروث في ميراث الزوجة هو الزوج، فكل واحدة قضية مستقلة، فلذلك ذكر ذلك مع كل واحدة، بخلاف الأول فأن الموروث فيه واحد، ذكرَ حكم ما يرث منه أولاده وأبواه، وهي قضية واحدة، فلذلك قال فيه: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ مرة واحدة.
قاله ابن جزي. قال البيضاوي: فرض للرجل بحق الزواج ضِعف ما للمرأة كما في النسب، وهكذا قياس كل رجل وامرأة، إذا اشتركا في الجهة والقرب، ولا يستثنى منه إلا أولاد الأم والمعتق والمعتقة. هـ.
الأشارة: إذا ماتت النفس، ولم تبق لها بقية، وورثت الروحُ ما كان لها من العلوم الكسبية: النقلية والعقلية، وأضافته إلى مَالهَا من العلوم الوهبية، فانقلب الجميع وهبيًا، قال بعض شيوخ أشياخا: (كنتُ أعرف أربعة عشر علمًا، فلما دخلت علم الحقيقة سرطت ذلك كله، فلم يبق إلا الكتاب والسنة)، أو كما قال. وقال أبو سليمان الداراني:
إذا اعتقدت النفوس على ترك الآثام، جالت في الملكوت، ثم عادت إلى صاحبها بطرائف العلوم، من غير أن يؤدي إليها عالم علما.
475
فإن بقي للنفس بقية، نقص ميراث الروح منها، بقدر البقية، كما أن الزوج ينقص ميراثه مع الفرع، وكذلك إذا ماتت الروح بالرجوع عن طريق الجِد، ورثت النفسُ ما كان لها من العلوم الوهبية، والمعاني والأسرار القدسية، فتأكلها، وتردها نقلية حسية، بعد أن كانت وهبية ذوقية، فتتحسس المعاني، وتتكثف الأواني. والعياذ بالله من السلب بعد العطاء، إلا أن ميراث النفس من الروح أقوى، فإن بقي للروح شيء من الحياة، نقص ميراث النفس منها، كنقص الزوجة مع الفرع من ميراث الزوج، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ميراث الأخ للأخ، فقال:
وَإِنْ كانَ رَجُلٌ...
قلت: الكلالة: انقطاع النسل، بحيث لم يبق للميت فرع ولا أصل، لا ذكر ولا أنثى، وهو مصدر من تَكَلَّلهُ النسبُ، إذا أحاط به كالإكليل، لأن ورثته أحاطوا به ولَيْسوا منه. ونظم بعضهم معنى الكلالة، فقال:
فتحتمل أن تطلق هنا على الميت، أو على الورثة، أو على الوراثة، أو على القرابة أو على المال. فإن كانت على الميت، فإعرابه خبر كان، و (يورث) صفة، أو (يورث) خبر كان، و (كلالة) حال من الضمير في (يورث)، أو «كان» تامة، و (يورث) صفة و (كلالة) حال من الضمير. وإن كانت على الورثة، فهو خبر كان، على حذف مضاف أي: ذا كلالة، وإن كانت الوِرَاثة فهو مصدر في موضع الحال، وإن كانت القرابة، فهو مفعول من أجله، أي: يورث من أجل القرابة. وإن كانت للمال، فهو مفعول ثانِ ليورث، وكل من هذه يحتمل أن تكون «كان» تامة أو ناقصة. قاله ابن جزي. و (غير مضار)، منصوب على الحال، أو العامل فيه (يوصى)، و (مضار) أسم فاعل، ووصية: مصدر ليوصي، أو مفعول (مضار).
يقول الحق جلّ جلاله: وإن كان الميت رجلاً أو امرأة، يُورثان كلالة، بحيث لا فرع لهما ولا أصل، قد انقطع عمود نسبهما، ولهما أخ أو أخت لأم فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ. فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ
ثم ذكر ميراث الأخ للأخ، فقال:
وَإِنْ كانَ رَجُلٌ...
قلت: الكلالة: انقطاع النسل، بحيث لم يبق للميت فرع ولا أصل، لا ذكر ولا أنثى، وهو مصدر من تَكَلَّلهُ النسبُ، إذا أحاط به كالإكليل، لأن ورثته أحاطوا به ولَيْسوا منه. ونظم بعضهم معنى الكلالة، فقال:
إن امرؤٌ يَسْأَلُ عن كَلاَلَة | هو انْقِطاعُ النَّسْلِ لآ مَحَاله |
لا والدُ يَبْقَى ولا مولوُد | قدْ هَلَكَ الأبْنَاءُ والجُدُود |
يقول الحق جلّ جلاله: وإن كان الميت رجلاً أو امرأة، يُورثان كلالة، بحيث لا فرع لهما ولا أصل، قد انقطع عمود نسبهما، ولهما أخ أو أخت لأم فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ. فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ
476
، الذكر والأنثى سواء، لأن الإدلاء للميت بمحض الأنوثة، ومفهوم الآية: أنهما لا يرثان مع الأم والجدة، كما لا يرثان مع البنت وبنت الابن، إذ ليس حينئذٍ بكلالة، وإنما قيدنا الأخ والأخت بكونهما للأم لأن الأخ الشقيق أو للأب سيأتي في آخر السورة. والأخت تقدم أنَّ لها النصف، وأيضًا: قد قرأ سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود: «وله أخ أو أخت لأم».
وهذا كله مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ حال كونه غَيْرَ مُضَارٍّ في الوصية أو الدين، كالوصية بأكثر من الثلث، أو للوارث، أو فِرارًا منه، فإن عُلِم أنه قصد الإضرار، رد ما زاد على الثلث، واختلف في رد الثلث على قولين. قاله ابن جزي. وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ، أي: نوصيكم وصية، أو غير مضار وصية من الله. قال ابن عباس: (الإضرار في الوصية من الكبائر). وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمصالح عبادة، يقسم المال على حسب المصلحة، حَلِيمٌ لا يُعاجِل بالعقوبة من خالف حدوده.
الإشارة: اعلم أن الأخوة في الشيخ كالأخوة في النسب، لأنهم يرضعون من ثدي واحدة ولبن واحد، فإن مات أحدهم، ورث أخوه المدد الذي كان يأخذه من شيخه، وكذا إذا رجع- فإنه موت- فينقلب المدد إلى أخيه، ومثاله كماء فُرِّقَ على قواديس، فإذا انسدت إحدى القواديس رجع الماء إلى الأخرى، فإن كانوا أكثر من واحد فهم شركاء في ذلك المدد، والله تعالى أعلم.
ثم حذَّر الحق- تعالى- من مخالفة ما حدّ فى الوصايا والمواريث، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣ الى ١٤]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نارًا خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)
قلت: توحيد الضمير في (نُدخله) «١» مراعاة للفظ (من). وجمع الحال في (خالدين) مراعاة للمعنى.
و (خالدين) و (خالدًا) : حال مقدرة من ضمير (نُدخله)، كقولك: مررت برجل معه صقر صائداً به غدًا، وليسا صفتين لجنات ونارًا، وإلا لوجب إبراز الضمير لأنهما جرتا على غير مَنْ هما له.
وهذا كله مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ حال كونه غَيْرَ مُضَارٍّ في الوصية أو الدين، كالوصية بأكثر من الثلث، أو للوارث، أو فِرارًا منه، فإن عُلِم أنه قصد الإضرار، رد ما زاد على الثلث، واختلف في رد الثلث على قولين. قاله ابن جزي. وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ، أي: نوصيكم وصية، أو غير مضار وصية من الله. قال ابن عباس: (الإضرار في الوصية من الكبائر). وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمصالح عبادة، يقسم المال على حسب المصلحة، حَلِيمٌ لا يُعاجِل بالعقوبة من خالف حدوده.
الإشارة: اعلم أن الأخوة في الشيخ كالأخوة في النسب، لأنهم يرضعون من ثدي واحدة ولبن واحد، فإن مات أحدهم، ورث أخوه المدد الذي كان يأخذه من شيخه، وكذا إذا رجع- فإنه موت- فينقلب المدد إلى أخيه، ومثاله كماء فُرِّقَ على قواديس، فإذا انسدت إحدى القواديس رجع الماء إلى الأخرى، فإن كانوا أكثر من واحد فهم شركاء في ذلك المدد، والله تعالى أعلم.
ثم حذَّر الحق- تعالى- من مخالفة ما حدّ فى الوصايا والمواريث، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٣ الى ١٤]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٣) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نارًا خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (١٤)
قلت: توحيد الضمير في (نُدخله) «١» مراعاة للفظ (من). وجمع الحال في (خالدين) مراعاة للمعنى.
و (خالدين) و (خالدًا) : حال مقدرة من ضمير (نُدخله)، كقولك: مررت برجل معه صقر صائداً به غدًا، وليسا صفتين لجنات ونارًا، وإلا لوجب إبراز الضمير لأنهما جرتا على غير مَنْ هما له.
(١) قرأ نافع وابن عامر «ندخله» بالنون، وقرأ الآخرون بالياء.
يقول الحق جلّ جلاله: تِلْكَ الأحكام التي شرعناها لكم في أمر الوصايا والمواريث، هي حُدُودُ اللَّهِ حدَّها لكم لتقفوا معها ولا تتعدوها وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ فيما أمر به وحدّه، وَرَسُولَهُ فيما شرَّعه وسنّه يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها. وَذلِكَ هو الْفَوْزُ أي: الفلاح الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ فيما أمر ونهى، وَرَسُولَهُ فيما شرعه، وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ التي حدها، فتجاوز إلى متابعة هواه، يُدْخِلْهُ نارًا خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ. وهذا إذا أنكر مشروعيتها فيكون كافرًا، وإلاَّ كان عاصيًا في حكم المشيئة، ومذهب أهل السنة أنه لا يخلد، وحملوا الآية على الكافر، أو عبارة عن طول المدة، كما في قاتل النفس. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد حدَّ الحق- جل جلاله- لأهل الشريعة الظاهرة حدودًا قام ببيانها العلماء، وحدَّ لأهل الحقيقة- وهي سر الولاية- حدودًا، قام بها الأولياء، فمن قام بحدود الشريعة الظاهرة كان من المؤمنين الصالحين، ومن تعداها كان من العاصين الظالمين، ومن قام بحدود الحقيقة الباطنية، وصحب أهلها كان من المحسنين العارفين المقربين، ودخل جنة المعارف، ومن تعدَّ حدود الحقيقة، أو لم يصحب أهلها كان من عوام أهل اليمين، وله عذاب الحجاب في غم الحساب، وقال في الحاشية: في حد حدوده إشارة للعبودية، في إخراج كل عن نظره واختياره، ثم انقياده وذلته لحكم ربه، والوقوف عند حدوده.
وقال الورتجبي: قيل: (تلك حدود الله) أي: الإظهار من الأحوال للمريدين على حسب طاقتهم لها، فإن التعدي فيها يهلكهم، وقال أبو عثمان: ما هلك امرؤ لزم حده ولم يتعد طوره. هـ. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولمّا فرغ الحق تعالى من الأمر بحفظ الأموال، شرع فى الكلام على حفظ الأنساب، وقدّم الكلام أولا على الزنى إذ به تختلط الأنساب، ويختل نظام حفظها، ثم تكلم بعد على النكاح وما يحرم من النساء وما يحل، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥ الى ١٦]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦)
يقول الحق جلاّ جلاله: وَالنساء اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ أي: الزنى، سُمِّيَ فاحشة لفُحش قبحه وبشاعة فعله شرعًا، مِنْ نِسائِكُمْ المسلمات، فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أي: اطلبوا مَنْ رَمَاهُنَّ بذلك أن يُشْهِدوا
الإشارة: قد حدَّ الحق- جل جلاله- لأهل الشريعة الظاهرة حدودًا قام ببيانها العلماء، وحدَّ لأهل الحقيقة- وهي سر الولاية- حدودًا، قام بها الأولياء، فمن قام بحدود الشريعة الظاهرة كان من المؤمنين الصالحين، ومن تعداها كان من العاصين الظالمين، ومن قام بحدود الحقيقة الباطنية، وصحب أهلها كان من المحسنين العارفين المقربين، ودخل جنة المعارف، ومن تعدَّ حدود الحقيقة، أو لم يصحب أهلها كان من عوام أهل اليمين، وله عذاب الحجاب في غم الحساب، وقال في الحاشية: في حد حدوده إشارة للعبودية، في إخراج كل عن نظره واختياره، ثم انقياده وذلته لحكم ربه، والوقوف عند حدوده.
وقال الورتجبي: قيل: (تلك حدود الله) أي: الإظهار من الأحوال للمريدين على حسب طاقتهم لها، فإن التعدي فيها يهلكهم، وقال أبو عثمان: ما هلك امرؤ لزم حده ولم يتعد طوره. هـ. وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ولمّا فرغ الحق تعالى من الأمر بحفظ الأموال، شرع فى الكلام على حفظ الأنساب، وقدّم الكلام أولا على الزنى إذ به تختلط الأنساب، ويختل نظام حفظها، ثم تكلم بعد على النكاح وما يحرم من النساء وما يحل، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٥ الى ١٦]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (١٥) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (١٦)
يقول الحق جلاّ جلاله: وَالنساء اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ أي: الزنى، سُمِّيَ فاحشة لفُحش قبحه وبشاعة فعله شرعًا، مِنْ نِسائِكُمْ المسلمات، فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أي: اطلبوا مَنْ رَمَاهُنَّ بذلك أن يُشْهِدوا
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ، أي: من عدول المؤمنين يرونهما كالمرود في المكحلة، وإنما جعلوا أربعة مبالغة في الستر على المؤمن، أو ليكون على كل واحد اثنان، فَإِنْ شَهِدُوا عليهن بذلك فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ، واجعلوه سجنًا لهن حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أي: يستوفي أجلّهن الموتُ، أو يتوفاهن ملك الموت، أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا كتعيين الحد المخلّص من السجن، وكان هذا في أول الإسلام ثم نسخ بما في سورة النور من الحدود، ويحتمل أن يراد التوصية بإمساكهن بعد أن يُجلدن كي لا يَعُدْن إلى الزنى بسبب الخروج والتعرض للرجال.
واكتفى بذكر حدِّهن، بما في سورة النور، وهذا الإمساك كان خاصًا بالنساء بدليل قوله وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ أي: الزاني والزانية منكم، (فآذوهما) بالتوبيخ والتقريع- (فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) أي:
اقطعوا عنهما الأذى، أو أعرِضوا عنهما بالإغماض عن ذكر مساوئهما.
قيل: إن هذه الآية سابقة على الأولى نزولاً، وكان عقوبة الزنى الأذى ثم الحبس ثم الجلد، وقيل، الحبس في المساحقات، والإيذاء في اللواطين، وما في سورة النور في الزناة. والذي يظهر. أن الحكم كان في أول الإسلام في الزنا: الإمساك للنساء في البيوت بعد الإيذاء بالتوبيخ، فتُمسك في بيتها حتى تموت، أو يجعل الله لها سبيلاً بالتزوج بمن يعفها عنه. والإيذاء للرجال بالتعيير والتقريع والتحجيم حتى تتحقق توبته، ثم نسخ ذلك كله بالحدود، وهو جَلْد البكر مائة وتغريبة عامًا ورجم المحصن. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للعبد، إذا طَغَتْ عليه نفسُه، وأرادت ارتكاب الفواحش، أن يستشهد عليها الحفظة، الذين يحفظون عليه تلك المعاصي، فإن لم تستحِ، فليعاقبها بالحبس في سجن الجوع والخلوة والصمت، حتى تموت عن تلك الشهوات، أو يجعل الله لها طريقًا بالوصول إلى شيخ يُغيِّبه عنها، أو بوارد قوي مِن خوف مُزعج أو شوق مقلق، فإن تابت وأصلحت، أعرض عنها واشتغل بذكر الله، ثم يغيب عما سواه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر الحق تعالى وقت التوبة التي تقبل، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧ الى ١٨]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)
واكتفى بذكر حدِّهن، بما في سورة النور، وهذا الإمساك كان خاصًا بالنساء بدليل قوله وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ أي: الزاني والزانية منكم، (فآذوهما) بالتوبيخ والتقريع- (فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما) أي:
اقطعوا عنهما الأذى، أو أعرِضوا عنهما بالإغماض عن ذكر مساوئهما.
قيل: إن هذه الآية سابقة على الأولى نزولاً، وكان عقوبة الزنى الأذى ثم الحبس ثم الجلد، وقيل، الحبس في المساحقات، والإيذاء في اللواطين، وما في سورة النور في الزناة. والذي يظهر. أن الحكم كان في أول الإسلام في الزنا: الإمساك للنساء في البيوت بعد الإيذاء بالتوبيخ، فتُمسك في بيتها حتى تموت، أو يجعل الله لها سبيلاً بالتزوج بمن يعفها عنه. والإيذاء للرجال بالتعيير والتقريع والتحجيم حتى تتحقق توبته، ثم نسخ ذلك كله بالحدود، وهو جَلْد البكر مائة وتغريبة عامًا ورجم المحصن. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ينبغي للعبد، إذا طَغَتْ عليه نفسُه، وأرادت ارتكاب الفواحش، أن يستشهد عليها الحفظة، الذين يحفظون عليه تلك المعاصي، فإن لم تستحِ، فليعاقبها بالحبس في سجن الجوع والخلوة والصمت، حتى تموت عن تلك الشهوات، أو يجعل الله لها طريقًا بالوصول إلى شيخ يُغيِّبه عنها، أو بوارد قوي مِن خوف مُزعج أو شوق مقلق، فإن تابت وأصلحت، أعرض عنها واشتغل بذكر الله، ثم يغيب عما سواه. وبالله التوفيق.
ثم ذكر الحق تعالى وقت التوبة التي تقبل، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ١٧ الى ١٨]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٨)
479
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ التي يُستحق عَلَى اللَّهِ قبولُها فضلاً وإحسانًا هي لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ أي: المعاصي متلبسين بِجَهالَةٍ أي: سفاهة وجهل وسوء أدب، فكل من اشتغل بالمعصية فهو جاهل بالله، قد انتزع منه الإيمان حتى يفرغ، وإن كان عالمًا بكونها معصية، ثُمَّ يَتُوبُونَ بعد تلك المعصية مِنْ قَرِيبٍ أي: من زمن قريب، وهو قبل حضور الموت لقوله بعدُ: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ، وقوله- عليه الصلاة والسلام-: «إن الله يقبلُ توبةَّ العبْدِ مَا لمْ يُغَرْغِرُ» وإنما جعله قريبًا لأن الدنيا سريعة الزوال، متاعها قليل وزمانها قريب، فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ تصديقاً لوعده المتقدم، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بإخلاصهم التوبة، حَكِيماً في ترك معاقبة التائب، إذ الحكمة هي وضع الشيء في محله.
وعن الحسن: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لما أُهبط إبليسُ قال: وعزتك وعظمتك لا أفارق ابنَ آدم حتى تفارقَ روحُه جسدَه، قال الله تعالى: وعزتي وعظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يغرغر بها». وعن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: «إنّ الشيطانَ قال: وعزتِك لا أبرح أُغوى عبادكَ، ما دامتْ أرواحهم في أجسادهم. قال الله تعالى: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني».
قال ابن جزي: وإذا تاب العبد توبة صحيحة بشروطها، فيقطع بقبول توبته عند جمهور العلماء. وقال أبو المعالي: يَغُلِب ذلك على الظن ولا يقطع. هـ.
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ مقبولة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ أي: بلغت الحلقوم قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فلا توبة لهم، أُولئِكَ أَعْتَدْنا أي: أعددنا وهيأنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً، قال البيضاوي: سوَّى الحقُ تعالى بين من سوَّف التوبة إلى حضور الموت من الفسقة، وبين مَن مات على الكفر في نفي التوبة للمبالغة في عدم الاعتداد بها في تلك الحالة، وكأنه يقول: توبة هؤلاء وعدم توبة هؤلاء سواء. وقيل: المراد بالذين يعملون السوء: عصاة المؤمنين، وبالذين يعملون السيئات: المنافقون لتضاعف كفرهم، وبالذين يموتون: الكفار. هـ.
الإشارة: توبة العوام ليست كتوبة الخواص، إنَّ الله يمهل العوام ترغيبًا لهم في الرجوع، ويُعاقب الخواص على التأخير على قدر مقامهم في القرب من الحضرة، فكلما عظُم القربُ عظمت المحاسبة على ترك المراقبة، منهم من يسامح له في لحظة، ومنهم في ساعة، ومنهم في ساعتين، على قدر المقام، ثم يُعاتبهم ويردهم إلى الحضرة.
وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي في حاشيته: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي: إنما الهداية بعد الذلة، على الله لأنه الذي يُخلص من قَهْره بكرمه الفياض وبرحمته التي غلبت غضبه، كما قال تعالى:
وعن الحسن: قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لما أُهبط إبليسُ قال: وعزتك وعظمتك لا أفارق ابنَ آدم حتى تفارقَ روحُه جسدَه، قال الله تعالى: وعزتي وعظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي حتى يغرغر بها». وعن أبي سعيد الخدري أن النبي ﷺ قال: «إنّ الشيطانَ قال: وعزتِك لا أبرح أُغوى عبادكَ، ما دامتْ أرواحهم في أجسادهم. قال الله تعالى: وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني لا أزال أغفر لهم ما استغفروني».
قال ابن جزي: وإذا تاب العبد توبة صحيحة بشروطها، فيقطع بقبول توبته عند جمهور العلماء. وقال أبو المعالي: يَغُلِب ذلك على الظن ولا يقطع. هـ.
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ مقبولة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ أي: بلغت الحلقوم قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ فلا توبة لهم، أُولئِكَ أَعْتَدْنا أي: أعددنا وهيأنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً، قال البيضاوي: سوَّى الحقُ تعالى بين من سوَّف التوبة إلى حضور الموت من الفسقة، وبين مَن مات على الكفر في نفي التوبة للمبالغة في عدم الاعتداد بها في تلك الحالة، وكأنه يقول: توبة هؤلاء وعدم توبة هؤلاء سواء. وقيل: المراد بالذين يعملون السوء: عصاة المؤمنين، وبالذين يعملون السيئات: المنافقون لتضاعف كفرهم، وبالذين يموتون: الكفار. هـ.
الإشارة: توبة العوام ليست كتوبة الخواص، إنَّ الله يمهل العوام ترغيبًا لهم في الرجوع، ويُعاقب الخواص على التأخير على قدر مقامهم في القرب من الحضرة، فكلما عظُم القربُ عظمت المحاسبة على ترك المراقبة، منهم من يسامح له في لحظة، ومنهم في ساعة، ومنهم في ساعتين، على قدر المقام، ثم يُعاتبهم ويردهم إلى الحضرة.
وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي في حاشيته: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي: إنما الهداية بعد الذلة، على الله لأنه الذي يُخلص من قَهْره بكرمه الفياض وبرحمته التي غلبت غضبه، كما قال تعالى:
480
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، ونبه على وقوع الذنب بهم قهرًا، ثم تداركهم بالهداية والإنابة، فضلاً على علمه بتربيتهم وتدريجهم لمعرفته بالعلم والحكمة بقوله: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. هـ.
ثم شرع فى أحكام النكاح، وبدأ بالعضل لأنه يتعذر معه العقد، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ١٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩)
قلت: أصل العضل: التضييق، يقال: عضلَت الدجاجة ببيضها إذا ضاقت، ثم أُطلق عُرفًا على منع المرأة من التزوج.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يحل لكم أن تمنعوا النساء من النكاح لترثوا ما لهن كَرْهاً. قال ابن عباس: كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل، وله امرأة، كان قريبه من عصبته أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء تزوجها من غير صداق، إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ولم يُعطها شيئًا، وإن شاء عَضَلهَا وضيَّق عليها لتفتدى منه بما ورثت من الميت، أو تموت فيرثُها، وإن ذهبت إلى أهلها قبل أن يُلقِيَ وليُّ زوجها ثوبَه عليها فهي أحق بنفسها. فكانوا على ذلك في أول الإسلام، حتى توفي أبو قَيس بن الأَسْلتَ الأنصاري، وترك امرأته «كبشة بنت معن الأنصارية»، فقام ابنٌ له من غيرها فطرح ثوبه عليها، ثم تركها ولم يقربها، ولم ينفق عليها، يضارّها لتفتدى منه، فأتت إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله إن أبا قيس تُوفي ووَرِثَ نكاحي ابنُه، وقد أضرَّ بي وطوّل عليّ، فلا هو ينفق عليّ ولا يدخل بي، ولا يخلي سبيلي، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «اقعدي في بيتك حتى يأتَي فيك أمرُ الله». قالت: فانصرفتُ وسمعت بذلك النساءُ في المدينة فأتين النبي ﷺ وهو في مسجد الفضيخ، فقلن: يا رسول الله: ما نحن إلا كهيئة كبشة، غير أنه لا ينكحنا الأبناء، ونكَحَنا أبناء العَم، فنزلت الآية. فمعنى الآية على هذا: لا يحل لكم أن تجعلوا النساء يُورثن عن الرجال كما يُورث المال.
وقيل: الخطاب للأزواج الذين يمسكون المرأة في العصمة ليرثوا مالها، من غير غبطة بها، وإنما يمسكها انتظارًا لموتها، وقيل: الخطاب للأولياء الذين يمنعون ولياتهم من التزوج ليرثوهن دون الزوج.
وَلا يحل لكم أيضًا أيها الأزواج أن تَعْضُلُوهُنَّ، أي: تحبسوهن من غير حاجة لكم فيهن لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ من الصداق افتداء فيه بإضراره. قال ابن عباس رضي الله عنه: (هي أيضًا في الأزواج الذين
ثم شرع فى أحكام النكاح، وبدأ بالعضل لأنه يتعذر معه العقد، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ١٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (١٩)
قلت: أصل العضل: التضييق، يقال: عضلَت الدجاجة ببيضها إذا ضاقت، ثم أُطلق عُرفًا على منع المرأة من التزوج.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يحل لكم أن تمنعوا النساء من النكاح لترثوا ما لهن كَرْهاً. قال ابن عباس: كانوا في الجاهلية إذا مات الرجل، وله امرأة، كان قريبه من عصبته أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء تزوجها من غير صداق، إلا الصداق الأول الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوّجها غيره وأخذ صداقها ولم يُعطها شيئًا، وإن شاء عَضَلهَا وضيَّق عليها لتفتدى منه بما ورثت من الميت، أو تموت فيرثُها، وإن ذهبت إلى أهلها قبل أن يُلقِيَ وليُّ زوجها ثوبَه عليها فهي أحق بنفسها. فكانوا على ذلك في أول الإسلام، حتى توفي أبو قَيس بن الأَسْلتَ الأنصاري، وترك امرأته «كبشة بنت معن الأنصارية»، فقام ابنٌ له من غيرها فطرح ثوبه عليها، ثم تركها ولم يقربها، ولم ينفق عليها، يضارّها لتفتدى منه، فأتت إلى النبي ﷺ فقالت: يا رسول الله إن أبا قيس تُوفي ووَرِثَ نكاحي ابنُه، وقد أضرَّ بي وطوّل عليّ، فلا هو ينفق عليّ ولا يدخل بي، ولا يخلي سبيلي، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «اقعدي في بيتك حتى يأتَي فيك أمرُ الله». قالت: فانصرفتُ وسمعت بذلك النساءُ في المدينة فأتين النبي ﷺ وهو في مسجد الفضيخ، فقلن: يا رسول الله: ما نحن إلا كهيئة كبشة، غير أنه لا ينكحنا الأبناء، ونكَحَنا أبناء العَم، فنزلت الآية. فمعنى الآية على هذا: لا يحل لكم أن تجعلوا النساء يُورثن عن الرجال كما يُورث المال.
وقيل: الخطاب للأزواج الذين يمسكون المرأة في العصمة ليرثوا مالها، من غير غبطة بها، وإنما يمسكها انتظارًا لموتها، وقيل: الخطاب للأولياء الذين يمنعون ولياتهم من التزوج ليرثوهن دون الزوج.
وَلا يحل لكم أيضًا أيها الأزواج أن تَعْضُلُوهُنَّ، أي: تحبسوهن من غير حاجة لكم فيهن لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ من الصداق افتداء فيه بإضراره. قال ابن عباس رضي الله عنه: (هي أيضًا في الأزواج الذين
481
يمسكون المرأة ويُسيئُون عشرتها حتى تفتدى بصداقها)، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ، كالنشوز وسوء العشرة وعدم العفة، فيحل له حينئِذ حبسها حتى تفتدى منه بصداقها، فيأخذه خلعًا على مذهب مالك. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا يحل للمريد أن يُضيق على نفسه تضييقاً يُفضي إلى العطب، فالنفس كالبهيمة: علفها واستخدامها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لا يكن أحدكم كالمنبت، لا أرضا قطع ولا ظهرًا أبقى».
فبعض الناس يسمعون أن من ضيَّق على نفسه أورثته العلوم، فيضيق عليها تضييقًا فاحشًا ليرث ذلك منها كرهًا، وإنما يمنعها من شهواتها الزائدة على قيام البنية، إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، بحيث تطغى عليها، فيضيق عليها بما لا يُفضي إلى الهلاك، وهذا كله إنما ينفعه إذا صح مِلْكُه لها بالعقد الصحيح من الشيخ الكامل، وإلاَّ كان تعبه باطلاً، كمن يريد أن يرى امرأة غيره أو دابة غيره. والله تعالى أعلم.
ثم أمر الحق تعالى بحسن العشرة مع النساء، فقال:
وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ...
يقول الحق جلّ جلاله: وعاشروا النساء بِالْمَعْرُوفِ بأن تلاطفوهن في المقال وتجملوا معهن في الفعال، أو يَتَزَيَّنُ لها كما تتزين له. قال الورتجبي: كونوا في معاشرتهن في مقام الأنس وروح المحبة، وفرح العشق حين أنتم مخصوصون بالتمكين والاستقامة والولاية، فإن معاشرة النساء لا تليق إلا في المستأنس بالله، كالنبى صلّى الله عليه وسلم وجميع المستأنسين من الأولياء والأبدال، حيث أخبر صلّى الله عليه وسلم عن كمال مقام أُنْسِه بالله ورؤيته لجمال مشاهدته حيث قال: «حُبِّبَ إلي من دنياكم ثَلاث: الطيب، والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة.» «١»
ثم قال: عن ذي النون: المستأنس بالله يستأنس بكل شيء مليح ووجه صبيح، وبكل صوت طيب وبكل رائحة طيبة. ثم قال: عن ابن المبارك: العشرة الصحيحة: ما لا يورثك الندم عاجلاً ولا آجلاً، وقال أبو حفص: المعاشرة بالمعروف: حسن الخلق مع العيال فيما ساءك. هـ.
فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فاصبروا فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً إما ولدًا صالحًا أو عاقبة حسنة في الدين. قال ابن عمر: إن الرجل يستخير الله فيخار له فيسخط على ربه، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له. هـ. حكى أن أبا الإمام مالك رضي الله عنه تزوج امرأة فدخل عليها فوجدها سوداء، فبقي متفكرًا
الإشارة: لا يحل للمريد أن يُضيق على نفسه تضييقاً يُفضي إلى العطب، فالنفس كالبهيمة: علفها واستخدامها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لا يكن أحدكم كالمنبت، لا أرضا قطع ولا ظهرًا أبقى».
فبعض الناس يسمعون أن من ضيَّق على نفسه أورثته العلوم، فيضيق عليها تضييقًا فاحشًا ليرث ذلك منها كرهًا، وإنما يمنعها من شهواتها الزائدة على قيام البنية، إلا أن تأتي بفاحشة مبينة، بحيث تطغى عليها، فيضيق عليها بما لا يُفضي إلى الهلاك، وهذا كله إنما ينفعه إذا صح مِلْكُه لها بالعقد الصحيح من الشيخ الكامل، وإلاَّ كان تعبه باطلاً، كمن يريد أن يرى امرأة غيره أو دابة غيره. والله تعالى أعلم.
ثم أمر الحق تعالى بحسن العشرة مع النساء، فقال:
وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ...
يقول الحق جلّ جلاله: وعاشروا النساء بِالْمَعْرُوفِ بأن تلاطفوهن في المقال وتجملوا معهن في الفعال، أو يَتَزَيَّنُ لها كما تتزين له. قال الورتجبي: كونوا في معاشرتهن في مقام الأنس وروح المحبة، وفرح العشق حين أنتم مخصوصون بالتمكين والاستقامة والولاية، فإن معاشرة النساء لا تليق إلا في المستأنس بالله، كالنبى صلّى الله عليه وسلم وجميع المستأنسين من الأولياء والأبدال، حيث أخبر صلّى الله عليه وسلم عن كمال مقام أُنْسِه بالله ورؤيته لجمال مشاهدته حيث قال: «حُبِّبَ إلي من دنياكم ثَلاث: الطيب، والنساء، وجُعلت قرة عيني في الصلاة.» «١»
ثم قال: عن ذي النون: المستأنس بالله يستأنس بكل شيء مليح ووجه صبيح، وبكل صوت طيب وبكل رائحة طيبة. ثم قال: عن ابن المبارك: العشرة الصحيحة: ما لا يورثك الندم عاجلاً ولا آجلاً، وقال أبو حفص: المعاشرة بالمعروف: حسن الخلق مع العيال فيما ساءك. هـ.
فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فاصبروا فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً إما ولدًا صالحًا أو عاقبة حسنة في الدين. قال ابن عمر: إن الرجل يستخير الله فيخار له فيسخط على ربه، فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له. هـ. حكى أن أبا الإمام مالك رضي الله عنه تزوج امرأة فدخل عليها فوجدها سوداء، فبقي متفكرًا
(١) الحديث أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وغيرهم: بدون لفظ: «ثلاث». وقال الحافظ ابن حجر. وليس فى شىء من طرقه لفظ «ثلاث». انظر: الفتح السماوي.
482
ولم يقربها، فقالت له: هل استخرت ربك؟ فقال: نعم، فقالت: أتَتَّهمُ ربك، فدخل بها، فحملت بالإمام مالك صاحب المذهب. وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يَفْرك مؤمنٌ مَؤمنة- أي لا يُبْغِضها- إن سخط منها خُلقَا رضي منها آخر». قال الورتجبي: قيل: غيب عنك العواقب لئلا تسكن إلى مألوف، ولا تفر من مكروه.
الإشارة: إذا طهرت النفس من البقايا، وكملت فيها المزايا، وانقادت بكليتها إلى مولاها، وجب الإحسان إليها والصلح معها ومعاشرتها بالمعروف، فإنما تجب مجاهدتها ما دامت كافرة فإذا أسلمت وانقادت وجب محبتها والإحسان إليها. فإن كرهتها في حال اعوجاجها فجاهدتها ورضتها حتى استقامت كان في عاقبة ذلك خيرٌ كثير، وعادت تأتي إليك بالعلوم اللدنية تشاهد فيها أسرارًا ربانية.
قال الورتجبي: كل أمر من الله- سبحانه- جاء على مخالفة النفس امتحانًا واختبارًا، والنفس كارهة في العبودية فإذا ألزمت عليها حقوق الله بنعت الرياضة والمجاهدة واستقامت في عبودية الله، أول ما يطلع على قلبك أنوار جنان القرب والمشاهدة، قال الله تعالى: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى، وفى أجواف ظلام المجاهدة للعارفين شموس المجاهدات وأقمار المكاشفات. هـ. المراد منه.
فإذا لم يصبر العبد على أذى زوجته، وأراد فراقها، فلا بد أن يؤدى إليها صداقها، كما أشار إلى ذلك الحق جل جلاله، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)
قلت: «بهتانًا» : حال، أو على إسقاط الخافض.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ أَرَدْتُمُ أن تبدلوا زوجًا مَكانَ زَوْجٍ أخرى بأن تُطلقوا الأولى وتتزوجوا غيرها، وقد كنتم أعطيتم إِحْداهُنَّ قِنْطاراً أو أقل أو أكثر، فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً بل أدوه لها كاملاً. ثم وبَّخهم على ما كانوا يفعلون في الجاهلية، فقال: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً، أي: مباهتين وآثمين، أو بالبهتان والإثم الظاهر، والبهتان: الكذب الذي يبهت المكذوب عليه، رُوي أن الرجل كان إذا أراد أن يتزوج امرأة
الإشارة: إذا طهرت النفس من البقايا، وكملت فيها المزايا، وانقادت بكليتها إلى مولاها، وجب الإحسان إليها والصلح معها ومعاشرتها بالمعروف، فإنما تجب مجاهدتها ما دامت كافرة فإذا أسلمت وانقادت وجب محبتها والإحسان إليها. فإن كرهتها في حال اعوجاجها فجاهدتها ورضتها حتى استقامت كان في عاقبة ذلك خيرٌ كثير، وعادت تأتي إليك بالعلوم اللدنية تشاهد فيها أسرارًا ربانية.
قال الورتجبي: كل أمر من الله- سبحانه- جاء على مخالفة النفس امتحانًا واختبارًا، والنفس كارهة في العبودية فإذا ألزمت عليها حقوق الله بنعت الرياضة والمجاهدة واستقامت في عبودية الله، أول ما يطلع على قلبك أنوار جنان القرب والمشاهدة، قال الله تعالى: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى، وفى أجواف ظلام المجاهدة للعارفين شموس المجاهدات وأقمار المكاشفات. هـ. المراد منه.
فإذا لم يصبر العبد على أذى زوجته، وأراد فراقها، فلا بد أن يؤدى إليها صداقها، كما أشار إلى ذلك الحق جل جلاله، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)
قلت: «بهتانًا» : حال، أو على إسقاط الخافض.
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِنْ أَرَدْتُمُ أن تبدلوا زوجًا مَكانَ زَوْجٍ أخرى بأن تُطلقوا الأولى وتتزوجوا غيرها، وقد كنتم أعطيتم إِحْداهُنَّ قِنْطاراً أو أقل أو أكثر، فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً بل أدوه لها كاملاً. ثم وبَّخهم على ما كانوا يفعلون في الجاهلية، فقال: أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً، أي: مباهتين وآثمين، أو بالبهتان والإثم الظاهر، والبهتان: الكذب الذي يبهت المكذوب عليه، رُوي أن الرجل كان إذا أراد أن يتزوج امرأة
جديدة، بهت التي عنده بفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه في تزوج الجديدة، فَنُهُوا عن ذلك.
ثم استعظم ذلك فقال: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ بالمماسة والجماع حتى تقرر الصداق واستحقته بذلك، وقد أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً وهو حسن الصحبة، أو الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان، أو تمكينها نفسها منه، فإنها ما مكنته إلا لوفاء العهد في الصداق ودوام العشرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا كان العبد مشتغلاً بجمع دنياه، عاكفًا على حظوظه وهواه، ثم استبدل مكان ذلك الانقطاع إلى مولاه والاشتغال بذكر الله، حتى أفضى إلى شهود أنوار قدسه وسناه، فلا ينبغي أن يرجع إلى شيء خرج عنه لله.
ولا يلتفت إلى ما ترك من أمر دنياه، فإن الرجوع في الشيء من شيم اللئام وليس من شأن الكرام، وتأمل ما قاله الشاعر:
وكيف تأخذُ ما خرجت عنه لله، وقد أفضيت إلى شهود أنوار جماله وسُكْنَى حماه، فاتحد عندك كل الوجود، وكل شيء عن عين بصيرتك مفقود، بعد أن أخذ عليك مواثيق العهود، ألا ترجع إلى ما كان يقطعك عن حضرة الشهود، وبالله التوفيق. وهو الهادي إلى سواء الطريق.
ثم شرع يتكلم على ما يحرم من النساء، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٢٢]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢)
قلت: أوقع «ما» على ما يعقل لقلة عقل النساء، كما تقدم «١»، أو مصدرية، والاستثناء منقطع أو متصل على وجه المبالغه في التحريم، أي لا تنكحوا ما نكح آباؤكم إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ لآبائكم إن قدرتم عليه، فهو كقول الشاعر:
يقول الحق جلّ جلاله: ولا تتزوجوا ما تزوج به آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ بالعقد في الحرائر والوطء في الإماء، إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ فإن الله قد عفا عنكم بعد فسخه وردَّه، إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً عظيمة عند الله،
ثم استعظم ذلك فقال: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ بالمماسة والجماع حتى تقرر الصداق واستحقته بذلك، وقد أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً وهو حسن الصحبة، أو الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان، أو تمكينها نفسها منه، فإنها ما مكنته إلا لوفاء العهد في الصداق ودوام العشرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا كان العبد مشتغلاً بجمع دنياه، عاكفًا على حظوظه وهواه، ثم استبدل مكان ذلك الانقطاع إلى مولاه والاشتغال بذكر الله، حتى أفضى إلى شهود أنوار قدسه وسناه، فلا ينبغي أن يرجع إلى شيء خرج عنه لله.
ولا يلتفت إلى ما ترك من أمر دنياه، فإن الرجوع في الشيء من شيم اللئام وليس من شأن الكرام، وتأمل ما قاله الشاعر:
إذا انْصَرَفَتْ نفسي عن الشيء لم تكن | إليه بوجهِ آخرَ الدهرِ تُقبِلُ |
ثم شرع يتكلم على ما يحرم من النساء، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٢٢]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (٢٢)
قلت: أوقع «ما» على ما يعقل لقلة عقل النساء، كما تقدم «١»، أو مصدرية، والاستثناء منقطع أو متصل على وجه المبالغه في التحريم، أي لا تنكحوا ما نكح آباؤكم إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ لآبائكم إن قدرتم عليه، فهو كقول الشاعر:
لاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ | فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ «٢» |
(١) راجع: تفسير قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى.. الآية (٣) من هذه السورة.
(٢) البيت للنابغة الزبيانى.
(٢) البيت للنابغة الزبيانى.
ما أحله لأحد من الأمم قبلكم، وَمَقْتاً أي: ممقوتًا فاعله عند الله وعند ذوي المروءات من عباد الله، وكان يسمى ولد الرجل من امرأة أبيه مَقيتًا ومقتيًا. وَساءَ سَبِيلًا، وبئس طريقًا لمن يريد أن يسلكه بعد التحريم.
فالمراد بالنكاح في الآية: العقد، فعلى هذا لا تحرم المرأة على الولد إذا زنا بها أبوه على المشهور، قال في الرسالة:
ولا يحرم بالزنا حلال. هـ.
الإشارة: ما جرى في آباء البشرية يجري في آباء الروحانية من طريق الأدب لا من طريق الشرع، فلا ينبغي للمريد أن يتزوج بامرأة شيخه، مات عنها أو طلقها، فإن ذلك قبيح ومقت عند أرباب الأدب، وأما بنت الشيخ فإن قدر على القيام بتعظيمها فلا بأس، وقد تزوج سيدنا علي- كرّم الله وجهه- بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن السلامة في الترك أكثر.
وهنا إشارة أخرى أرق، وهي أن يشير بالنساء إلى الأحوال، فلا ينبغي للفقير أن يتعاطى أحوال الشيخ، ويفعل مثله. فإن الشيخ في مقام وهو في مقام، فإذا رجع الشيخ إلى الأسباب وتعاطى العلويات، فلا يقتدى به. إلا أن يدرك مقامه، وكان شيخ شيخنا يقول: (لا تقتدوا بالأشياخ في أفعالهم، وإنما اقتدوا بهم في أقوالهم، فإن أقوالهم لكم ولهم، وأفعالهم خاصة بهم). إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ لهم من الأحوال في حال سيرهم، فخذوها وسيروا من حيث ساروا، حتى تدركوا ما أدركوا، وافعلوا ما شئتم. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر بقية المحرمات، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٢٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣)
قلت: «كتاب الله عليكم» : مصدر مؤكد. أي: كتب الله ذلك كتاباً، أو على الإغراء.
فالمراد بالنكاح في الآية: العقد، فعلى هذا لا تحرم المرأة على الولد إذا زنا بها أبوه على المشهور، قال في الرسالة:
ولا يحرم بالزنا حلال. هـ.
الإشارة: ما جرى في آباء البشرية يجري في آباء الروحانية من طريق الأدب لا من طريق الشرع، فلا ينبغي للمريد أن يتزوج بامرأة شيخه، مات عنها أو طلقها، فإن ذلك قبيح ومقت عند أرباب الأدب، وأما بنت الشيخ فإن قدر على القيام بتعظيمها فلا بأس، وقد تزوج سيدنا علي- كرّم الله وجهه- بنت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن السلامة في الترك أكثر.
وهنا إشارة أخرى أرق، وهي أن يشير بالنساء إلى الأحوال، فلا ينبغي للفقير أن يتعاطى أحوال الشيخ، ويفعل مثله. فإن الشيخ في مقام وهو في مقام، فإذا رجع الشيخ إلى الأسباب وتعاطى العلويات، فلا يقتدى به. إلا أن يدرك مقامه، وكان شيخ شيخنا يقول: (لا تقتدوا بالأشياخ في أفعالهم، وإنما اقتدوا بهم في أقوالهم، فإن أقوالهم لكم ولهم، وأفعالهم خاصة بهم). إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ لهم من الأحوال في حال سيرهم، فخذوها وسيروا من حيث ساروا، حتى تدركوا ما أدركوا، وافعلوا ما شئتم. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر بقية المحرمات، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٢٣]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٣)
قلت: «كتاب الله عليكم» : مصدر مؤكد. أي: كتب الله ذلك كتاباً، أو على الإغراء.
485
يقول الحق جلّ جلاله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ من النساء أصنافٌ: منها بالنسب ومنها بالرضاع ومنها بالمصاهرة: فأما التي تحرم بالنسب فهي أُمَّهاتُكُمْ، وهي الأم، والجدة من الأم ومن الأب ما عَلَوْن، وَبَناتُكُمْ وهي البنت وبنت الابن، وبنت البنت ما سفلن، وَأَخَواتُكُمْ وهي الأخت الشقيقة والتي للأب والأخت للأم، (وعماتكم) وهي أخت الوالد وأخت الجد ما علت، شقيقة أو لأب أو لأم، وَخالاتُكُمْ وهي أخت الأم وأخت الجدة ما علت، شقيقة أو لأب أو لأم، وَبَناتُ الْأَخِ الشقيق، أو للأب، وما تناسل منهم. وَبَناتُ الْأُخْتِ، فيدخل كل ما تناسل من الأخت الشقيقه أو للأب أو للأم.
والضابط في ذلك: أنه يحرم على الرجل أصوله وإن علت، وفصوله وإن سفلت، وفصول أبويه ما سفلت، وأول فصل من كل أصل متقدم على أبويه.
ثم ذكر ما يحرم بالرضاع، فقال: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ذكر تعالى صنفين، وحرمت السُّنَّةُ كل ما يحرم من النسب. قال صلّى الله عليه وسلم: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» فيدخل الأصناف السبعة، وهي الأم من الرضاع والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت.
ثم ذكر ما يحرم بالمصاهرة، فقال: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ، وتقدمت زوجة الأب، وسيأتي حليلة الابن، وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ لا مفهوم لهذا القيد، لكنه جرى مجرى الغالب، فهي محرمة، كانت في حجره أم لا، على قول الجمهور، ورُوي عن علي رضي الله عنه أنه أجاز نكاحها إن لم تكن في حجره. وأما قوله:
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فهو معتبر إجماعًا، فلو عقد على المرأة ولم يدخل بها، فله طلاقها ويأخذ ابنتها، ولذلك قال: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أن تَنكحوهن.
وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ وهي التي عقد عليها الابن فحلت له، فتحرم على الأب بمجرد العقد. والحاصل: أن زوجة الأب وزوجة الابن وأم الزوجة يحرمن بالعقد، وأما بنت المرأة فلا تحرم إلا بالدخول بأمها، فالعقد على البنات يُحرم الأمهات، والدخول بالأمهات يُحرم البنات. وقوله تعالى: الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ احترز به من زوجة المتبنِّي فلا تحرم حليلته، كقضية زيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، شقيقتين أو للأب أو للأم، وهذا في النكاح، وأما في الملك دون الوطء فلا بأس، أما في الوطء فمنعه مالك والشافعي وأبو حنيفة، وأجازه الظاهرية، إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ أي: في الجاهلية، فقد عفا عنكم، إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً، قال ابن عباس: (كانت العرب تُحرم كل ما حرمت الشريعة إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فلذلك ذكر الحق تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فيهما.
والضابط في ذلك: أنه يحرم على الرجل أصوله وإن علت، وفصوله وإن سفلت، وفصول أبويه ما سفلت، وأول فصل من كل أصل متقدم على أبويه.
ثم ذكر ما يحرم بالرضاع، فقال: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ ذكر تعالى صنفين، وحرمت السُّنَّةُ كل ما يحرم من النسب. قال صلّى الله عليه وسلم: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ» فيدخل الأصناف السبعة، وهي الأم من الرضاع والبنت والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت.
ثم ذكر ما يحرم بالمصاهرة، فقال: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ، وتقدمت زوجة الأب، وسيأتي حليلة الابن، وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ لا مفهوم لهذا القيد، لكنه جرى مجرى الغالب، فهي محرمة، كانت في حجره أم لا، على قول الجمهور، ورُوي عن علي رضي الله عنه أنه أجاز نكاحها إن لم تكن في حجره. وأما قوله:
اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فهو معتبر إجماعًا، فلو عقد على المرأة ولم يدخل بها، فله طلاقها ويأخذ ابنتها، ولذلك قال: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أن تَنكحوهن.
وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ وهي التي عقد عليها الابن فحلت له، فتحرم على الأب بمجرد العقد. والحاصل: أن زوجة الأب وزوجة الابن وأم الزوجة يحرمن بالعقد، وأما بنت المرأة فلا تحرم إلا بالدخول بأمها، فالعقد على البنات يُحرم الأمهات، والدخول بالأمهات يُحرم البنات. وقوله تعالى: الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ احترز به من زوجة المتبنِّي فلا تحرم حليلته، كقضية زيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، شقيقتين أو للأب أو للأم، وهذا في النكاح، وأما في الملك دون الوطء فلا بأس، أما في الوطء فمنعه مالك والشافعي وأبو حنيفة، وأجازه الظاهرية، إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ أي: في الجاهلية، فقد عفا عنكم، إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً، قال ابن عباس: (كانت العرب تُحرم كل ما حرمت الشريعة إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين، فلذلك ذكر الحق تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فيهما.
486
[سورة النساء (٤) : آية ٢٤]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤)وَحرم الله تعالى- الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ وهُنَّ اللاتي في عصمة أزواجهن، فلا يحل نكاحهن ما دُمْنَ في عصمة الزوج، إِلَّا مَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِّن الغنيمة، فإذا سُبيت الكافرة، ولها زوج، جاز لمن ملكها أن يطأها بالملك بعد الاستبراء، قال في المختصر: وهدم السبيْ النكاحَ، إلا أن تُسبى وتُسلْم في عدتها فهو أحق بها، وقد بعث رسول الله ﷺ جيشًا إلى أَوْطَاس، فأصابوا سبيًا من العدو، ولهن أزواج من المشركين فتأثموا من غشيانهن، فنزلت الآية مُبيحة لذلك، كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي: كتب الله ذلك عليكم كتاباً، وهو ما حرّم في الآية من النساء.
الإشارة: اعلم أن الإنسان لا يصير كاملاً عارفًا حتى يولد ثلاث مرات بعد الأم الحسية، أولها: خروجه من بطن حب الدنيا الدنية، ثم من الغفلة والشهوات الجسمانية، ثم من ضيق الأكوان الظلمانية، إلى فضاء المشاهدة والمعاينة، وقال بعض الأولياء: (ليس منا من لم يولد مرتين) : فاعتبر الأولى والثالثة، فإذا خرج الإنسان من هذه البطون حرَّم الله عليه نكاحها والرجوع إليها.
وكذا يحرم عليه الرجوع إلى ما تولد منه من الزلات، والأحوال الظلمانية، وما كان ألفه وتواخى معه من البطالات والمألوفات، وما وجد عليه أسلافه من التعصبات والحميات والرئاسات، ولا فرق بين ما واجهه من ذلك من قبل الآباء والأمهات، وكذلك ما ارتضع من ثدي الشهوات من لِبان الغفلة، وتراكم الأَكِنَّات «١»، فليبادر إلى نحريمها، وفطام نفسه عنها، قبل تحكمها، كما قال البوصيري رضي الله عنه:
والنَّفْسُ كالطِّفلِ إنْ تُهْمِلْهُ شَبَّ | عَلَى حُبِّ الرَّضاعِ وإنْ تَفْطِمْهُ يَنْفَطِم |
إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ في أيام البطالة، وكذا يحرم على المريد المتجرد المستشرف على المعاني تعاطى العلوم الظاهرة، التي دخل بها أهل الظاهر وأفتضوا بكارتها- إلا ما ملكه قبل التجريد، فلا يضره إن غاب عنها في أسرار التوحيد، والله تعالى أعلم بأسرار غيبه.
(١) الأكنات: الأغطية.
487
ثم ذكر الحق تعالى ما يحلّ من النساء، فقال:
وَأُحِلَّ لَكُمْ...
قلت: «وأُحِلَّ» عطف على الفعل العامل في «كتاب الله عليكم» أي: كتب الله عليكم تحريم ما ذكر، وأحل ما سوى ذلك. ومن قرأ بالبناء للمفعول فعطف على «حُرمت». و (أن تبتغوا) مفعول لأجله، أي: إرادة أن تبتغوا. أو بدل من (وراء ذلكم). و (محصنين) حال من الواو. والسفاح: الزنا، من السفح وهو الصب، لأنه يصب المنيّ في غير مَحِلَّهُ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَأُحِلَّ لَكُمْ أن تتزوجوا من النساء ما سوى ذلكم المحرمات، وما سوى ما حرمته السنة بالرضاع، كما تقدم، والجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، فقد حرَمتْه السُنة، وإنما أحل لكم نكاح النساء إرادة أن تطلبوا بأموالكم الحلال، فتصرفوها في مهور النساء.. حال كونكم مُحْصِنِينَ. أي: أعفة متحصنين بها من الحرام، غَيْرَ مُسافِحِينَ أي: غير زناة، تصبون الماء في غير موضعه، فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ أي: من تمتعتم به من المنكوحات فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي: مهورهن، لأن المهر في مقابلة الاستمتاع فَرِيضَةً، أي: مفروضة مقدرة، لا جَهْلَ فيها ولا إبهام، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من زيادة على المهر المشروط، أو نقص منه، مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، التي وقع العقد عليها، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بمصالح خلقه، حَكِيماً فيما شرع من الأحكام.
وقيل قوله: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ... إلى آخره. نزل في نكاح المتعة، التي كانت ثلاثة أيام في فتح مكة، ثم نُسِخَ بما روى عنه- عليه الصلاة والسلام- أنه أباحه، ثم أصبح يقول: «أيُّهَا النَّاسِ، إِنِّي كُنْتُ أمرتكم بالاسِتْمْتَاعِ مِنَ هذه النَّساء، ألا إنَّ اللهَ حَرَمَ ذَلِكَ إلىَ يَوْمِ القِيَامةِ». وهو النكاح المؤقت بوقت معلوم، سُمي به لأن الغرض منه مجرد الاستمتاع. وتمتعها بما يُعطى لها. وجوَّزه ابن عباس رضي الله عنه ثم رجع عنه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقول الحق جلّ جلاله من طريق الإشارة: إذا خرجتم من بطن الشهوات، ورفضتم ما كنتم عليه من العوائد والمألوفات، وزهدتم فيما يشغل فكرتكم من العلوم الرسميات، حل لكم ما وراء ذلكم من العلوم اللدنية
وَأُحِلَّ لَكُمْ...
قلت: «وأُحِلَّ» عطف على الفعل العامل في «كتاب الله عليكم» أي: كتب الله عليكم تحريم ما ذكر، وأحل ما سوى ذلك. ومن قرأ بالبناء للمفعول فعطف على «حُرمت». و (أن تبتغوا) مفعول لأجله، أي: إرادة أن تبتغوا. أو بدل من (وراء ذلكم). و (محصنين) حال من الواو. والسفاح: الزنا، من السفح وهو الصب، لأنه يصب المنيّ في غير مَحِلَّهُ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَأُحِلَّ لَكُمْ أن تتزوجوا من النساء ما سوى ذلكم المحرمات، وما سوى ما حرمته السنة بالرضاع، كما تقدم، والجمع بين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها، فقد حرَمتْه السُنة، وإنما أحل لكم نكاح النساء إرادة أن تطلبوا بأموالكم الحلال، فتصرفوها في مهور النساء.. حال كونكم مُحْصِنِينَ. أي: أعفة متحصنين بها من الحرام، غَيْرَ مُسافِحِينَ أي: غير زناة، تصبون الماء في غير موضعه، فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ أي: من تمتعتم به من المنكوحات فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي: مهورهن، لأن المهر في مقابلة الاستمتاع فَرِيضَةً، أي: مفروضة مقدرة، لا جَهْلَ فيها ولا إبهام، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ من زيادة على المهر المشروط، أو نقص منه، مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ، التي وقع العقد عليها، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بمصالح خلقه، حَكِيماً فيما شرع من الأحكام.
وقيل قوله: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ... إلى آخره. نزل في نكاح المتعة، التي كانت ثلاثة أيام في فتح مكة، ثم نُسِخَ بما روى عنه- عليه الصلاة والسلام- أنه أباحه، ثم أصبح يقول: «أيُّهَا النَّاسِ، إِنِّي كُنْتُ أمرتكم بالاسِتْمْتَاعِ مِنَ هذه النَّساء، ألا إنَّ اللهَ حَرَمَ ذَلِكَ إلىَ يَوْمِ القِيَامةِ». وهو النكاح المؤقت بوقت معلوم، سُمي به لأن الغرض منه مجرد الاستمتاع. وتمتعها بما يُعطى لها. وجوَّزه ابن عباس رضي الله عنه ثم رجع عنه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يقول الحق جلّ جلاله من طريق الإشارة: إذا خرجتم من بطن الشهوات، ورفضتم ما كنتم عليه من العوائد والمألوفات، وزهدتم فيما يشغل فكرتكم من العلوم الرسميات، حل لكم ما وراء ذلكم من العلوم اللدنية
488
والأسرار الربانية، التي هي وراء طور العقول ولا تدرك بالطروس «١» ولا بالنقول، وإليها أشار ابن الفارض رضي الله عنه حيث قال:
أردنا منكم أن تبتغوا ببذل أمواكم ومُهجكم تلك العلوم المقدسة، والأسرار المطهرة، متحصنين من دنس الحس والهوى، غير مباشرين لنجاسة الدنيا، ولا مصطحبين مع أهلها، لتتمتعوا بشهود أسرارنا، وأنوار قدسنا، فما استمتعتم به من ذلك، فصونوه عن غير أهله، ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من إعطائه لأهله، من بعد حفظه عمن لا يستحقه، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حكم من عجز عن صداق الحرة، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٥ الى ٢٨]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)
قلت: الطول: الغنى والسعة، ويطلق على العلو، مصدر طال طَوْلاً، وهو مفعول «يستطع» أو مصدر له- لتقارب معناهما، و (أن ينكح) بدل منه على الأول، أو مفعول به على الثاني، أي: لأن ينكح، و (محصنات غير مسافحات)، حالان، والعامل فيه: (أنكحوهن)، والخدن: الخليل.
يقول الحق جلّ جلاله: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أي: لم يجد غني يقدر به على نكاح الْمُحْصَناتُ، أي: الحرائر الْمُؤْمِناتِ، فليتزوج مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، من الإماء المؤمنات دون الكافرات، فإن أظهرت الإيمان فاكتفوا بذلك، وعلم الباطن لا يعلمه إلا الله، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ فلا يمنعكم من نكاحهن خوف المعرة، فإنما أنتم جنس واحد، ودينكم واحد، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فلا تستنكفوا من نكاحهن،
ولا تكُ مِمَنْ طَيّشَتْهُ طروسه | بحيثُ استخفت عقَلَهُ واستفزّتِ |
فَثمَ وراء النّقلِ عِلْمٌ يَدِقُّ عن | مَدارِكِ غايات العقولِ السليمهِ |
تَلَقيْتُه منّي وعني أَخَذْتهُ | ونفسي كانت من عَطاءٍ مُمدَّهِ |
ثم ذكر حكم من عجز عن صداق الحرة، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٥ الى ٢٨]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٥) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٦) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (٢٧) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (٢٨)
قلت: الطول: الغنى والسعة، ويطلق على العلو، مصدر طال طَوْلاً، وهو مفعول «يستطع» أو مصدر له- لتقارب معناهما، و (أن ينكح) بدل منه على الأول، أو مفعول به على الثاني، أي: لأن ينكح، و (محصنات غير مسافحات)، حالان، والعامل فيه: (أنكحوهن)، والخدن: الخليل.
يقول الحق جلّ جلاله: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أي: لم يجد غني يقدر به على نكاح الْمُحْصَناتُ، أي: الحرائر الْمُؤْمِناتِ، فليتزوج مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، من الإماء المؤمنات دون الكافرات، فإن أظهرت الإيمان فاكتفوا بذلك، وعلم الباطن لا يعلمه إلا الله، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ فلا يمنعكم من نكاحهن خوف المعرة، فإنما أنتم جنس واحد، ودينكم واحد، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فلا تستنكفوا من نكاحهن،
(١) الطروس: الصحف.
489
فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ، أي أربابهن، حتى يعقدوا لكم نكاحهن، وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ: أي: مهورهن، وهن أحق به دون ساداتهن، على مذهب مالك، بِالْمَعْرُوفِ من غير مطل، ولا نقص، على ما تقتضيه السنة. حال كونهن مُحْصَناتٍ أي: عفيفات غَيْرَ مُسافِحاتٍ أي: غير زانيات وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ. أي: أصحاب يزنون بهن. وكان في الجاهلية مِن النساء مَنْ تتخذ صاحبًا واحدًا تزني معه خاصة، ومنها من لا ترد يد لامس.
قال ابنُ جزي: مذهب مالك وأكثر أصحابه أنه لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا بشرطين: أحدهما: عدم الطول وهو ألاَّ يجد ما يتزوج به حُرة، والآخر: خوف العنت وهو الزنا. لقوله بعد هذا: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ، وأجاز ابن القاسم نكاحهن دون الشرطين، على القول بأن دليل الخطاب لا يُعتبر، واتفقوا على اشتراط الإسلام في الأمة، لقوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ إلا أهل العراق فلم يشترطوه. هـ.
الإشارة: فمن لم يستطع أن ينكح أبكار الحقائق، لكونه لم يقدر أن يدفع عن قلبه الشواغل والعلائق، فليتنزل لنكاح العلوم الرسمية والأعمال الحسية، بأخذها من أربابها، ويحصنها بالإخلاص في أخذها، ويقوم بحقها بقدر الإمكان، وهو بذلها لأهلها، والصبر على نشرها، والله لا يضيع أجرَ من أحسن عملاً، فإن صح قصده، وخلص عمله، قيض الله له وليًا من أوليائه يغنيه بالله، حتى يصير من الأغنياء به، فيتأهل لنكاح الحرائر، ويلتحق بأولياء الله الأكابر، (وَمَا ذلك على الله بعزيز).
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه لما تكلم على ثمرات المحبة- قال: فترى النفس مائلة لطاعته، والعقل متحصنا بمعرفته «١»، والروح مأخوذة في حضرته، والسر مغمورا في مشاهدته، والعبد يستزيد [من حبه «٢» ] فيُزاد ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته، فيكسي حلل التقريب على بساط القربة، ويمس أبكار الحقائق وثيبات العلوم. هـ. فعلم الحقائق أبكار، وما يوصل إليه من علوم الطريقة ثيبات حرائر، وما سواها من علوم الرسوم إماء بالنسبة إلى غيرها، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حدَّ الأمَةِ إذا زنت، فقال:
قلت: أحصن الرجل- بفتح الهمزة وضمها-: صار محصنًا بالفتح والكسر، وهذا مما اتحد فيه البناء للفاعل والمفعول. وقيل بالفتح، معناه: أسلم، وبالضم: تزوج.
قال ابنُ جزي: مذهب مالك وأكثر أصحابه أنه لا يجوز للحر نكاح الأمة إلا بشرطين: أحدهما: عدم الطول وهو ألاَّ يجد ما يتزوج به حُرة، والآخر: خوف العنت وهو الزنا. لقوله بعد هذا: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ، وأجاز ابن القاسم نكاحهن دون الشرطين، على القول بأن دليل الخطاب لا يُعتبر، واتفقوا على اشتراط الإسلام في الأمة، لقوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ إلا أهل العراق فلم يشترطوه. هـ.
الإشارة: فمن لم يستطع أن ينكح أبكار الحقائق، لكونه لم يقدر أن يدفع عن قلبه الشواغل والعلائق، فليتنزل لنكاح العلوم الرسمية والأعمال الحسية، بأخذها من أربابها، ويحصنها بالإخلاص في أخذها، ويقوم بحقها بقدر الإمكان، وهو بذلها لأهلها، والصبر على نشرها، والله لا يضيع أجرَ من أحسن عملاً، فإن صح قصده، وخلص عمله، قيض الله له وليًا من أوليائه يغنيه بالله، حتى يصير من الأغنياء به، فيتأهل لنكاح الحرائر، ويلتحق بأولياء الله الأكابر، (وَمَا ذلك على الله بعزيز).
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضي الله عنه لما تكلم على ثمرات المحبة- قال: فترى النفس مائلة لطاعته، والعقل متحصنا بمعرفته «١»، والروح مأخوذة في حضرته، والسر مغمورا في مشاهدته، والعبد يستزيد [من حبه «٢» ] فيُزاد ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته، فيكسي حلل التقريب على بساط القربة، ويمس أبكار الحقائق وثيبات العلوم. هـ. فعلم الحقائق أبكار، وما يوصل إليه من علوم الطريقة ثيبات حرائر، وما سواها من علوم الرسوم إماء بالنسبة إلى غيرها، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر حدَّ الأمَةِ إذا زنت، فقال:
قلت: أحصن الرجل- بفتح الهمزة وضمها-: صار محصنًا بالفتح والكسر، وهذا مما اتحد فيه البناء للفاعل والمفعول. وقيل بالفتح، معناه: أسلم، وبالضم: تزوج.
(١) فى الأصول: بمعروفه، والمثبت هو ما فى لطائف المنن للسكندرى.
(٢) ما بين المعكوفتين من تدخل الشيخ المفسر فى النقل.
(٢) ما بين المعكوفتين من تدخل الشيخ المفسر فى النقل.
490
يقول الحق جلّ جلاله: إن الإماء إذا تزوجن فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ، وهو الزنا، فعليهن نصف ما على الحرة من الحد، وهو خمسون، لأن حد البكر مائة. ويفهم منه أنها لا ترجم لأن الرجم لا يتبعض. وكذلك الذكور من العبيد عليهم نصف الحدود كلها، ولا رجم عليهم، وسمَى الحد عذابًا، كقوله: وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
الإشارة: بقدر ما يعلو المقام يُشدد العقاب، وبقدر ما يحصل من القرب يُطلَب الآداب، فليست المعصية في البعد كالمعصية في القرب، وليس يُطلب من البعيد ما يُطلب من القريب، وانظر إلى أزواج النبي ﷺ حيث قال تعالى لهن: يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ. وما ذلك إلا لحظوتهن وشدة قربهن من الله. ولذلك كان لا يدخل الحضرة إلا أهل الآداب والتهذيب، بعد التدريج والتدريب، وتأمل قضيةَ الجنيد، حيث قيل له في المنام: مثلُك لا يُرضى منه هذا، حيث خطر على قلبه الاعتراض على السائل، غير أن المقربين يعاتبون، ويردون إلى الحضرة، وأهلُ البُعد يزيدون بُعداً، ولكن لا يشعرون، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر شرط تزوج الأمة لعادم الطَوْل، فقال:
ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ...
قلت: العنت: المشقة والضرر، ولا ضرر أعظم من مواقعة الإثم، ولا سيما بأفحش الفواحش وهو الزنا، (يريد الله ليبين لكم)، أي: لأن يُبين، واللام زائدة في المفعول، لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة.
يقول الحق جلّ جلاله: ذلِكَ أي: نكاح الإماء إنما أبَحْتُهُ لمن خشي الوقوع في الزنا، الذي هو أقبح الفواحش، فنكاح الأمةُ، وإرقاق الولد يباع في الأسواق أخف من الزنا. وَأَنْ تَصْبِرُوا عن نكاحهن، مع التعفف عن الزنا، خَيْرٌ لَكُمْ لئلا يرق أولادكم. وعن أنس قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «من أراد أن يَلْقَى اللهَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا فَلْيَتَزَوَّج الْحَرائِر» وقال أبو هريرة: سمعته صلّى الله عليه وسلم يقول: «الحَرَائِر صَلاحُ البَيْتَ، والإماء هلاك البيت «١» ».
الإشارة: بقدر ما يعلو المقام يُشدد العقاب، وبقدر ما يحصل من القرب يُطلَب الآداب، فليست المعصية في البعد كالمعصية في القرب، وليس يُطلب من البعيد ما يُطلب من القريب، وانظر إلى أزواج النبي ﷺ حيث قال تعالى لهن: يَا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ. وما ذلك إلا لحظوتهن وشدة قربهن من الله. ولذلك كان لا يدخل الحضرة إلا أهل الآداب والتهذيب، بعد التدريج والتدريب، وتأمل قضيةَ الجنيد، حيث قيل له في المنام: مثلُك لا يُرضى منه هذا، حيث خطر على قلبه الاعتراض على السائل، غير أن المقربين يعاتبون، ويردون إلى الحضرة، وأهلُ البُعد يزيدون بُعداً، ولكن لا يشعرون، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر شرط تزوج الأمة لعادم الطَوْل، فقال:
ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ...
قلت: العنت: المشقة والضرر، ولا ضرر أعظم من مواقعة الإثم، ولا سيما بأفحش الفواحش وهو الزنا، (يريد الله ليبين لكم)، أي: لأن يُبين، واللام زائدة في المفعول، لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة.
يقول الحق جلّ جلاله: ذلِكَ أي: نكاح الإماء إنما أبَحْتُهُ لمن خشي الوقوع في الزنا، الذي هو أقبح الفواحش، فنكاح الأمةُ، وإرقاق الولد يباع في الأسواق أخف من الزنا. وَأَنْ تَصْبِرُوا عن نكاحهن، مع التعفف عن الزنا، خَيْرٌ لَكُمْ لئلا يرق أولادكم. وعن أنس قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «من أراد أن يَلْقَى اللهَ طَاهِرًا مُطَهَّرًا فَلْيَتَزَوَّج الْحَرائِر» وقال أبو هريرة: سمعته صلّى الله عليه وسلم يقول: «الحَرَائِر صَلاحُ البَيْتَ، والإماء هلاك البيت «١» ».
(١) الحديث ضعفه السيوطي فى الجامع الصغير.
491
وَاللَّهُ غَفُورٌ لكم فيما سلف من المخالفة، رَحِيمٌ بكم، حيث رخَّص لكم عند خوف الإثم نكاحَ الأمَة، يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ شرائع دينكم، ومصالح أموركم، وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي: مناهج مَنْ تقدمكم من أهل الرشد، كالأنبياء والصالحين، لتسلكوا مناهجهم، كحفظ الأموال والأنساب، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات، فإنهن محرمات على من قبلكم، وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ أي: يغفر ذنوبكم الماضية، أو يرشدكم إلى التوبة، أو يمنعكم من المعاصي بالعصمة. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما أسلفتم وما تستقبلونه من أفعالكم، حَكِيمٌ بما دبر وأبرم.
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ كرره توطئة لقوله: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا عن الحق مَيْلًا عَظِيماً بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات، وكأنه تعالى يقول: إنا نريد توبتكم ورشدكم، والذين يتبعون الشهوات يريدون ميلكم وإضلالكم، والمراد بهم الزناة لأنهم يودون أن يكون الناس كلهم زناة، وأمَّا من تعاطى شهوة النكاح في الحلال، فإنه متبع للحق لا لهم، وقد قال- عليه الصلاة والسلام-:
«تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا، فَإنِّي مُبَاهِ بِكُمُ الأممَ يَوم القِيَامة». وقد كان سيدنا علي- كرّم الله وجهه- أزهدَ الصحابة، وكان له أربع حرائر وسبعُ جواري سُرِّيَّاتٍ، وقيل: سبع عشرة، وقيل: المراد بهم اليهود والنصارى، لأن اليهود يُحلون الأقارب من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت. وقيل: المجوس.
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ فلذلك شرع لكم الشريعة الحنيفية السمحة السهلة، ورخص لكم عند المضايق في نكاح الأمة. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً في كل شيء، لأنه خُلق من ضعف، ويؤول إلى ضعف، أسير جَوعة، صريع شبعة، وخصوصًا عن شهوة النساء، فإنه لا يصبر عن الجماع، ولا يكون في شيء أضعفَ منه في أمر النساء، وعن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أنه قال: (ألا تروني أني لا أقوم إلا رفدًا «١»، ولا آكل إلا ما لُيِّن لي، وقد مات صاحبي- يعني ذكره- منذ زمان، وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي، وأن لي ما تطلع عليه الشمس، مخافة أن يأتيني الشيطان فيحركه، على أنه لا سمع له ولا بصر.).
قال ابن عباس: ثماني آيات في سورة النساء، هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ...
الآية، إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ.... الآية، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ... ، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ...
الآية، مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ... الآية. هـ.
الأشارة: إنما ينزل المريد إلى العلوم الرسمية، أو الأعمال الحسية، إذا خشي الانمحاق أو الاصطلام في بحر الحقائق، وإن صبر وتماسك، حتى يتقوى على حمل أعبائها، فهو خير له، لأن الرجوع إلى الحس، لا يؤمن من
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ كرره توطئة لقوله: وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا عن الحق مَيْلًا عَظِيماً بموافقتهم على اتباع الشهوات واستحلال المحرمات، وكأنه تعالى يقول: إنا نريد توبتكم ورشدكم، والذين يتبعون الشهوات يريدون ميلكم وإضلالكم، والمراد بهم الزناة لأنهم يودون أن يكون الناس كلهم زناة، وأمَّا من تعاطى شهوة النكاح في الحلال، فإنه متبع للحق لا لهم، وقد قال- عليه الصلاة والسلام-:
«تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا، فَإنِّي مُبَاهِ بِكُمُ الأممَ يَوم القِيَامة». وقد كان سيدنا علي- كرّم الله وجهه- أزهدَ الصحابة، وكان له أربع حرائر وسبعُ جواري سُرِّيَّاتٍ، وقيل: سبع عشرة، وقيل: المراد بهم اليهود والنصارى، لأن اليهود يُحلون الأقارب من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت. وقيل: المجوس.
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ فلذلك شرع لكم الشريعة الحنيفية السمحة السهلة، ورخص لكم عند المضايق في نكاح الأمة. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً في كل شيء، لأنه خُلق من ضعف، ويؤول إلى ضعف، أسير جَوعة، صريع شبعة، وخصوصًا عن شهوة النساء، فإنه لا يصبر عن الجماع، ولا يكون في شيء أضعفَ منه في أمر النساء، وعن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه أنه قال: (ألا تروني أني لا أقوم إلا رفدًا «١»، ولا آكل إلا ما لُيِّن لي، وقد مات صاحبي- يعني ذكره- منذ زمان، وما يسرني أني خلوت بامرأة لا تحل لي، وأن لي ما تطلع عليه الشمس، مخافة أن يأتيني الشيطان فيحركه، على أنه لا سمع له ولا بصر.).
قال ابن عباس: ثماني آيات في سورة النساء، هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ، وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ، إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ...
الآية، إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ.... الآية، إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ... ، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ...
الآية، مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ... الآية. هـ.
الأشارة: إنما ينزل المريد إلى العلوم الرسمية، أو الأعمال الحسية، إذا خشي الانمحاق أو الاصطلام في بحر الحقائق، وإن صبر وتماسك، حتى يتقوى على حمل أعبائها، فهو خير له، لأن الرجوع إلى الحس، لا يؤمن من
(١) أي: إلّا بمعاونة غيرى.
492
الحبس، والله غفور لمن تنزل لعلة ما تقدم، رحيم حين جعل له الرخصة، يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ سلوك الطريق إلى عين التحقيق، ويهديكم طرق الوصول، كما هدى مَنْ قبلكم، ويتوب فيما خطر ببالكم، من الفترة أو الوقفة، والله يريد أن يتعطف عليكم، لترجعوا إليه بكليتكم. وأهل الغفلة المنهمكون في الشهوات، يريدون ميلكم عن طريق الوصول إلى حضرة ربكم، يريد الله أن يخفف عنكم، فلا يُحملكم من الواردات إلا ما تطيقه طاقتكم، لأنكم ضعفاء إلا إن قوَّاكُم. اللهم قونا على ما نريد، وأيدنا فيما تريد، إِنك على كل شيءٍ قدير.
ولمّا ذكر ما يتعلق بحفظ أموال اليتامى وأموال النساء، وانجر الكلام إلى ما يتعلق بهن من حدودهن، وما يحل وما يحرم منهن، ذكر ما بقي من حفظ أموال الرجال، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠)
قلت: الاستثناء منقطع، وكان تامة لمن رفَع، وناقصه لمن نصب، واسمها: ضمير الأموال، على حذف مضاف، إلاَّ أن تكون الأموال أموالَ تجارة.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ الذي لا تُجوزه الشريعة، كالربا والقمار، والغصب والسرقة، والخيانة والكهانة والسحر وغير ذلك. إِلَّا أَنْ تَكُونَ، أي: لكن إن وجدت تِجارَةً صحيحة عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ أي: اتفاق منكم على البيع، وبه استدلت المالكية على انعقاد البيع بالعقد ولو لم يحصل تفرق بالأبدان.
وقال الشافعي: إنما يتم بالتفرق بالأبدان، لقوله- عليه الصلاة والسلام: «البَيِّعَان بالخِيَار مَا لَمْ يتَفَرَّقَا». وحمله مالك على التفرق بالكلام، وقال أكثر المفسرين: التخيير، هو أن يُخير كلُ واحد منهما صاحبة بعد عقد البيع. وقد ابتاع عمرو ابن جرير فرسًا، ثم خَيَّر صاحبه بعد البيع، ثم قال: سمعت أبا هريرة يقول: البيع عن تراض. قال البيضاوي:
وتخصيص التجارة من الوجوه التي يحل بها انتقال مال الغير، لأنها أغلب وأوفق لذوي المروءات، ويجوز أن يُراد بها الانتقال مطلقًا. وقيل: المقصود بالنهي: صرف المال فيما لا يرضاه الله تعالى، وبالتجارة: صرفه فيما يرضى. هـ.
الإشارة: لا تصرفوا أموالكم ولا أحوالكم في غير ما يُقربكم إلى الحق فإن ما سوى الحق كله باطل، كما قال الشاعر:
ولمّا ذكر ما يتعلق بحفظ أموال اليتامى وأموال النساء، وانجر الكلام إلى ما يتعلق بهن من حدودهن، وما يحل وما يحرم منهن، ذكر ما بقي من حفظ أموال الرجال، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (٣٠)
قلت: الاستثناء منقطع، وكان تامة لمن رفَع، وناقصه لمن نصب، واسمها: ضمير الأموال، على حذف مضاف، إلاَّ أن تكون الأموال أموالَ تجارة.
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ الذي لا تُجوزه الشريعة، كالربا والقمار، والغصب والسرقة، والخيانة والكهانة والسحر وغير ذلك. إِلَّا أَنْ تَكُونَ، أي: لكن إن وجدت تِجارَةً صحيحة عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ أي: اتفاق منكم على البيع، وبه استدلت المالكية على انعقاد البيع بالعقد ولو لم يحصل تفرق بالأبدان.
وقال الشافعي: إنما يتم بالتفرق بالأبدان، لقوله- عليه الصلاة والسلام: «البَيِّعَان بالخِيَار مَا لَمْ يتَفَرَّقَا». وحمله مالك على التفرق بالكلام، وقال أكثر المفسرين: التخيير، هو أن يُخير كلُ واحد منهما صاحبة بعد عقد البيع. وقد ابتاع عمرو ابن جرير فرسًا، ثم خَيَّر صاحبه بعد البيع، ثم قال: سمعت أبا هريرة يقول: البيع عن تراض. قال البيضاوي:
وتخصيص التجارة من الوجوه التي يحل بها انتقال مال الغير، لأنها أغلب وأوفق لذوي المروءات، ويجوز أن يُراد بها الانتقال مطلقًا. وقيل: المقصود بالنهي: صرف المال فيما لا يرضاه الله تعالى، وبالتجارة: صرفه فيما يرضى. هـ.
الإشارة: لا تصرفوا أموالكم ولا أحوالكم في غير ما يُقربكم إلى الحق فإن ما سوى الحق كله باطل، كما قال الشاعر:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل | وكل نعيم لا محالة زائل «١» |
(١) راجع التعليق على هذا البيت عند إشارة الآية [١٥٠] من سورة البقرة. [.....]
493
إلا أن يكون صرفه في تجارة رابحة، تقربكم من الحبيب، وتجلبُكم إلى حضرة القريب، فتلك تجارة رابحة وصفقة نافعة. والله تعالى أعلم.
ثم تكلم على بعض ما يتعلق بحفظ الأبدان، وسيأتي تمامه في قوله: (وَمَا كَانَ لمؤمن... ) إلى آخر الآيات، فقال:
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ...
يقول الحق جلّ جلاله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، بالخنق أو بالنخع «١» أو بالجرح، الذي يؤدي إلى الموت، أو بالإلقاء إلى التهلكة. وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله ﷺ في غَزوة ذَات السَّلاَسِلِ، فأجنَبتُ في لَيْلَة بَارِدَة، فَأشْفَقْتُ على نفسي وصَليْتُ بأصحَابِي صَلاة الصُبح بالتيمم. فلَمّا قَدِمتُ ذَكَرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا عَمرُو صلَّيتَ بأصحَابِكَ وأنت جُنُب؟» قلت: نعم يا رسول الله، أشفقت إن اغتسلتُ أن أهلك، فذكرت قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئاً).
أو: ولا تقتلوا إخوانكم في الإسلام، فإن المؤمنين كنفس واحدة. قال البيضاوي: جمع في التوصية بين حفظ النفس والمال- الذي هو شقيقها من حيث إنه سبب قوامها- استبقاء لهم. هـ.
وإنما نهاكم عن قتل أنفسكم رأفة، ورحمة بكم، إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً، فقد أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم، وأنتم نهاكم عنه. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ القتل. أو جميع ما سبق من المحرمات عُدْواناً وَظُلْماً، أي:
إفراطًا في التجاوز عن الحد، وإتيانًا بما لا يستحق، أو تعديًا على الغير وظلمًا على النفس، بتعريضها للعقاب، فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نارًا أي: نحرقه ونشويه فيها. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً.
وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم: «مَن قَتَل نفسَهُ بِشَيءٍ عذب به في نار جهنم خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا» وهو تغليظ، أو لمن استحل ذلك. وهذا الوعيد الذي ذكره الحق هنا في قتل الإنسان بيده، أهون مما ذكره في قتل الغير، الذي يأتي، لأنه زاد هناك الغضب واللعنة والعذاب العظيم، أما قول ابن عطية: إنه أجمع المفسرون أن هذه الآية في قتل بعضهم بعضًا، فليس بصحيح، والله تعالى أعلم.
ثم تكلم على بعض ما يتعلق بحفظ الأبدان، وسيأتي تمامه في قوله: (وَمَا كَانَ لمؤمن... ) إلى آخر الآيات، فقال:
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ...
يقول الحق جلّ جلاله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، بالخنق أو بالنخع «١» أو بالجرح، الذي يؤدي إلى الموت، أو بالإلقاء إلى التهلكة. وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (بعثني رسول الله ﷺ في غَزوة ذَات السَّلاَسِلِ، فأجنَبتُ في لَيْلَة بَارِدَة، فَأشْفَقْتُ على نفسي وصَليْتُ بأصحَابِي صَلاة الصُبح بالتيمم. فلَمّا قَدِمتُ ذَكَرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا عَمرُو صلَّيتَ بأصحَابِكَ وأنت جُنُب؟» قلت: نعم يا رسول الله، أشفقت إن اغتسلتُ أن أهلك، فذكرت قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يقل شيئاً).
أو: ولا تقتلوا إخوانكم في الإسلام، فإن المؤمنين كنفس واحدة. قال البيضاوي: جمع في التوصية بين حفظ النفس والمال- الذي هو شقيقها من حيث إنه سبب قوامها- استبقاء لهم. هـ.
وإنما نهاكم عن قتل أنفسكم رأفة، ورحمة بكم، إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً، فقد أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم، وأنتم نهاكم عنه. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ القتل. أو جميع ما سبق من المحرمات عُدْواناً وَظُلْماً، أي:
إفراطًا في التجاوز عن الحد، وإتيانًا بما لا يستحق، أو تعديًا على الغير وظلمًا على النفس، بتعريضها للعقاب، فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نارًا أي: نحرقه ونشويه فيها. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً.
وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم: «مَن قَتَل نفسَهُ بِشَيءٍ عذب به في نار جهنم خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا» وهو تغليظ، أو لمن استحل ذلك. وهذا الوعيد الذي ذكره الحق هنا في قتل الإنسان بيده، أهون مما ذكره في قتل الغير، الذي يأتي، لأنه زاد هناك الغضب واللعنة والعذاب العظيم، أما قول ابن عطية: إنه أجمع المفسرون أن هذه الآية في قتل بعضهم بعضًا، فليس بصحيح، والله تعالى أعلم.
(١) النخع: هو القتل الشديد، مشتق من قطع النخاع.
494
الإشارة: ولا تقتلوا أنفسكم باتباع الشهوات وتراكم الغفلات، فإنه يفوتها الحياة الحقيقية. وقال الفضيل بن عياض رضي الله عنه: (لا تغفلوا عن حظ أنفسكم، فمن غفل عن حظ نفسه، فكأنما قتلها). وحظ النفس هو تزكيتها وتحليتها بالكمالات، أو قُوتها من العلم اليقين، والمعرفة وصحة التمكين، والمراد بالنفس هنا الروح، وأما ما اصطلحت عليه الصوفية من أن النفس يجب قتلها، فإن مرادهم بذلك النفس الأمارة، فإن الروح ما دامت مُظلمة بالمعاصي والهوى سُميت نفساً، فإذا تطهرت وتزكت سميت روحًا. وهو المراد هنا. سماها نفسًا باعتبار ما كانت عليه. والله تعالى أعلم.
ثم إن قتل النفس من الكبائر، فمن اجتنبه مع غيره من الكبائر غفرت له الصغائر، كما أشار إلى ذلك ترغيبا فى اجتناب ما ذكر، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٣١]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)
قلت: المدخل- بالضم: مصدر، بمعنى الإدخال، وبالفتح: المكان، ويحتمل المصدر.
يقول الحق جلّ جلاله: إن تجتنبوا كبائر الذنوب التي تُنهون عنها نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ الصغائر وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً وهو الجنة، أو إدخالاً مصحوبًا بالكرامة والتعظيم، واختلف في الكبائر، هل تعرف بالعد أو بالحد؟ فقيل: سبع، وقيل: سبعون، وقيل: سبعمائة، وقيل: كل معصية فهى كبيرة. وعنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتَنِبُوا السَّبعَ المُوبِقَاتِ: الإشراك باللهِ، والسَّحرَ، وقَتلَ النَّفس بغير حقها، وأكل الرّبا، وأكلَ مَالِ اليَتِيمِ، والفرار مِن الزَّحفِ، ورَمي المُحصنَاتٍ الغَافِلاتِ المُؤمِنَاتِ».
قال ابن جزي: لا شك أن هذه مِنَ الكبائر لنص الشارع عليها، وزاد بعضهم عليها أشياء ورد النص عليها في الحديث أنها من الكبائر، منها عقوق الوالدين، وشهادة الزور، واليمين الغموس، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والنهبة، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، ومنع ابن السبيل الماء، والإلحاد في البيت الحرام، والنميمة، وترك التحرّز من البول، والغلول، واستطالة الرجل في عرض أخيه، والجور في الحكم.
وقيل في حدّها: كل جريمة تؤذن بقلة الدين ورقة الديانة، وقيل: ذنوب الظاهر صغائر، وذنوب الباطن كبائر.
وقيل: كل ما فيه حق الغير فهو كبائر، وما كان بينك وبين الله تعالى صغائر، واحتج هذا بقوله- عليه الصلاة والسلام-: «يُنَادِي يومَ القيامة مناد من بُطنان العرش «١» : يا أمّة أحمد، أن الله تعالى يقول: أمَّا ما كان لي قِبلَكُمُ فقد وهبتهُ لكم، وبقيت التباعات، فتواهبوها، وادخلوا الجنة».
ثم إن قتل النفس من الكبائر، فمن اجتنبه مع غيره من الكبائر غفرت له الصغائر، كما أشار إلى ذلك ترغيبا فى اجتناب ما ذكر، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٣١]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (٣١)
قلت: المدخل- بالضم: مصدر، بمعنى الإدخال، وبالفتح: المكان، ويحتمل المصدر.
يقول الحق جلّ جلاله: إن تجتنبوا كبائر الذنوب التي تُنهون عنها نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ الصغائر وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً وهو الجنة، أو إدخالاً مصحوبًا بالكرامة والتعظيم، واختلف في الكبائر، هل تعرف بالعد أو بالحد؟ فقيل: سبع، وقيل: سبعون، وقيل: سبعمائة، وقيل: كل معصية فهى كبيرة. وعنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «اجتَنِبُوا السَّبعَ المُوبِقَاتِ: الإشراك باللهِ، والسَّحرَ، وقَتلَ النَّفس بغير حقها، وأكل الرّبا، وأكلَ مَالِ اليَتِيمِ، والفرار مِن الزَّحفِ، ورَمي المُحصنَاتٍ الغَافِلاتِ المُؤمِنَاتِ».
قال ابن جزي: لا شك أن هذه مِنَ الكبائر لنص الشارع عليها، وزاد بعضهم عليها أشياء ورد النص عليها في الحديث أنها من الكبائر، منها عقوق الوالدين، وشهادة الزور، واليمين الغموس، والزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والنهبة، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، ومنع ابن السبيل الماء، والإلحاد في البيت الحرام، والنميمة، وترك التحرّز من البول، والغلول، واستطالة الرجل في عرض أخيه، والجور في الحكم.
وقيل في حدّها: كل جريمة تؤذن بقلة الدين ورقة الديانة، وقيل: ذنوب الظاهر صغائر، وذنوب الباطن كبائر.
وقيل: كل ما فيه حق الغير فهو كبائر، وما كان بينك وبين الله تعالى صغائر، واحتج هذا بقوله- عليه الصلاة والسلام-: «يُنَادِي يومَ القيامة مناد من بُطنان العرش «١» : يا أمّة أحمد، أن الله تعالى يقول: أمَّا ما كان لي قِبلَكُمُ فقد وهبتهُ لكم، وبقيت التباعات، فتواهبوها، وادخلوا الجنة».
(١) بطنان العرش: أي من وسطه، وقيل من أصله، وقيل: البطنان جمع بطن. يريد من دواخل العرش. انظر النهاية.
الأشارة: كل ما يُبعد العبد عن حضرة ربه فهو من أكبر الكبائر، فمن اجتنب ذلك واتقى كلَّ ما يشغله عن الله أدخله الله مدخلاً كريمًا، وهو حضرة الشهود والتلذذ برؤية المعبود، والترقي في أسرار الحبيب الودود. قال الورتجبي: قال أبو تراب: أمر الله باجتناب الكبائر، وهي الدعاوى الفاسدة، والإشارات الباطلة، وإطلاق اللفظ بغير الحقيقة. هـ.
ولما قسّم الله المواريث على ما تقدم، قال بعض النساء: ليتنا استوينا مع الرجال، أو يكون لنا سهمان لأننا أحوج منهم، فأنزل الله:
[سورة النساء (٤) : آية ٣٢]
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ من الميراث «١» بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ، كتضعيف الذكر على الأنثى، فللرجال نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا أي: مما أصابوا وأحرزوا في القسمة، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ منه، قلَّ أو كثر، فلتقنع بما قسم الله لها، ولا تعترض على أحكام الشريعة، ولكن سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ يُعطكم من غير الميراث، هكذا فسرها ابن عباس.
وقال مجاهد: قالت أُم سلمة: يغزو الرجال ولا نغزو، فليتنا رجال نغزو، ونبلغ ما يبلغ الرجال. فنزلت. فيكون المعنى: وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله به الرجال على النساء كالغزو وغيره، فللرجال نصيب مما اكتسبوا من ثواب الجهاد وسائر أعمالهم، (وللنساء نصيب مما اكتسبن) من طاعة أزواجهن وحفظ فروجهن وسائر بقية أعمالهن.
والتحقيق أنها عامة في جميع المراتب الدينية والدنيويه لأن ذلك ذريعة إلى التحاسد والتعادي، ومعربة عن عدم الرضا بما قسم الله له. ، وإلى التشهي لحصول الشيء له من غير طلب، وهو مذموم لأن تمنّي ما لم يقدر له، معارضة لحِكمة القدر، وتمنّي ما قدر له بكسب، بطالة وتضييع حظ، وتمنّي ما قدر له بغير كسب، ضياع ومحال، قاله البيضاوي. فللرجال نصيب من أجل ما اكتسبوا من الأعمال، وتحملوا من المشاق، فيعطيهم الله على قدر ما اكتسبوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ كذلك، فلا فائدة في تمني ما للناس، ولكن (اسألوا الله من فضله) يُعطكم مثله، أو أكثر من خزائنه التي لا تنفد. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً وهو يعلم ما يستحقه
ولما قسّم الله المواريث على ما تقدم، قال بعض النساء: ليتنا استوينا مع الرجال، أو يكون لنا سهمان لأننا أحوج منهم، فأنزل الله:
[سورة النساء (٤) : آية ٣٢]
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٣٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ من الميراث «١» بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ، كتضعيف الذكر على الأنثى، فللرجال نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا أي: مما أصابوا وأحرزوا في القسمة، وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ منه، قلَّ أو كثر، فلتقنع بما قسم الله لها، ولا تعترض على أحكام الشريعة، ولكن سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ يُعطكم من غير الميراث، هكذا فسرها ابن عباس.
وقال مجاهد: قالت أُم سلمة: يغزو الرجال ولا نغزو، فليتنا رجال نغزو، ونبلغ ما يبلغ الرجال. فنزلت. فيكون المعنى: وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله به الرجال على النساء كالغزو وغيره، فللرجال نصيب مما اكتسبوا من ثواب الجهاد وسائر أعمالهم، (وللنساء نصيب مما اكتسبن) من طاعة أزواجهن وحفظ فروجهن وسائر بقية أعمالهن.
والتحقيق أنها عامة في جميع المراتب الدينية والدنيويه لأن ذلك ذريعة إلى التحاسد والتعادي، ومعربة عن عدم الرضا بما قسم الله له. ، وإلى التشهي لحصول الشيء له من غير طلب، وهو مذموم لأن تمنّي ما لم يقدر له، معارضة لحِكمة القدر، وتمنّي ما قدر له بكسب، بطالة وتضييع حظ، وتمنّي ما قدر له بغير كسب، ضياع ومحال، قاله البيضاوي. فللرجال نصيب من أجل ما اكتسبوا من الأعمال، وتحملوا من المشاق، فيعطيهم الله على قدر ما اكتسبوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ كذلك، فلا فائدة في تمني ما للناس، ولكن (اسألوا الله من فضله) يُعطكم مثله، أو أكثر من خزائنه التي لا تنفد. إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً وهو يعلم ما يستحقه
(١) سيذكر الشيخ بعد أن الآية عامة.
كل إنسان، فيُفَضِّل من شاء بما شاء عن علم وبيان، ومناسبة الآية حينئِذ لما قبلها: أن تجنب الكبائر فضل من الله ونعمة، وهو أفضل ممن يقع فيها، لكن لا ينبغي تمني ذلك من غير عمل، ولكن يسأل الله من فضلِهِ حتى يُلحقه بأهل العصمة. وبالله التوفيق.
الإشارة: قد وقع التفضيل في مقامات الأولياء كالأنبياء، لكن لا ينبغي تعيين الفاضل من المفضول، لِما يؤدي إليه من التنقيص فيؤدي إلى الغيبة، والتفضيل يقع بزيادة اليقين وصحة التمكين، والترقي في أنوار التوحيد وأسرار التفريد. ويكون أيضًا بهداية الخلق على يده، وظهور إحسانه ورفده، فإذا رأى العبدُ أنه لم يبلغ إلى مقام غيره فلا يتمنى ذلك المقام بعينه، فقد يكون مقامه عند الله في علمه أعظم، وقد يكون أدون، فيُسيء الأدب، فالخير كله في العبودية والرضى بأحكام الربوبية، فللأقوياء نصيب مما اكتسبوا بالقوة والمجاهدة التي خلق الله فيهم، حكمةً وفضلاً، وللضعفاء نصيب مما اكتسبوا قسمة وعدلاً، ولكن يسأل الله من فضله العظيم، فإن الله بكل شيء عليم، فقد يُعطى بلا سبب ويُبَلِّغ بلا تعب.
وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «سَلُوا الله مِن فَضلِهِ فَإنَّ اللهَ يُحِبُ أن يُسألَ». وفي حديث أخر: «مَن لَم يَسألِ اللهَ يَغضَب عَلَيهِ». وقال الورتجبي: أمر بالسؤال ونهى عن التمني لأن السؤال افتقار، والتمني، اختيار. هـ. والله تعالى أعلم.
ثم تكلم على ميراث الحليف على ما كان في أول الإسلام، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٣٣]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣)
قلت: التنوين في «كل» : للعوض، و «مما ترك» بيان للمعوض منه، أي: ولكل مال مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي، أي: ورثة، وهم الذرية والعصبة يرثون من ذلك المال، والوالدان على هذا فاعل، ويحتمل أن يكون مبتدأ والتنوين عوض عن الميت الموروث، أي: ولكل ميت جعلنا ورثة يرثون مما ترك ذلك الميت، وهم الوالدان والأقربون فيوقف على (ترك)، و (مما) يتعلق بمحذوف، و (الذين) مبتدأ، و (فآتوهم) خبر، دخلت الفاء لما في المبتدأ من العموم.
يقول الحق جلّ جلاله: ولكل ميت جعلنا ورثة يرثون مِمَّا تَرَكَ ذلك الميت، وهم الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ، أو لكل تركة جعلنا لها مَوالِيَ أي: ورثة يرثون مما ترك الوالدان والأقربون، وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ وهم موالي الحِلف، كانوا يتحالفون في الجاهلية على النصرة والمؤازرة، يقول الرجل لآخر: دمي دمك،
الإشارة: قد وقع التفضيل في مقامات الأولياء كالأنبياء، لكن لا ينبغي تعيين الفاضل من المفضول، لِما يؤدي إليه من التنقيص فيؤدي إلى الغيبة، والتفضيل يقع بزيادة اليقين وصحة التمكين، والترقي في أنوار التوحيد وأسرار التفريد. ويكون أيضًا بهداية الخلق على يده، وظهور إحسانه ورفده، فإذا رأى العبدُ أنه لم يبلغ إلى مقام غيره فلا يتمنى ذلك المقام بعينه، فقد يكون مقامه عند الله في علمه أعظم، وقد يكون أدون، فيُسيء الأدب، فالخير كله في العبودية والرضى بأحكام الربوبية، فللأقوياء نصيب مما اكتسبوا بالقوة والمجاهدة التي خلق الله فيهم، حكمةً وفضلاً، وللضعفاء نصيب مما اكتسبوا قسمة وعدلاً، ولكن يسأل الله من فضله العظيم، فإن الله بكل شيء عليم، فقد يُعطى بلا سبب ويُبَلِّغ بلا تعب.
وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «سَلُوا الله مِن فَضلِهِ فَإنَّ اللهَ يُحِبُ أن يُسألَ». وفي حديث أخر: «مَن لَم يَسألِ اللهَ يَغضَب عَلَيهِ». وقال الورتجبي: أمر بالسؤال ونهى عن التمني لأن السؤال افتقار، والتمني، اختيار. هـ. والله تعالى أعلم.
ثم تكلم على ميراث الحليف على ما كان في أول الإسلام، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٣٣]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٣٣)
قلت: التنوين في «كل» : للعوض، و «مما ترك» بيان للمعوض منه، أي: ولكل مال مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي، أي: ورثة، وهم الذرية والعصبة يرثون من ذلك المال، والوالدان على هذا فاعل، ويحتمل أن يكون مبتدأ والتنوين عوض عن الميت الموروث، أي: ولكل ميت جعلنا ورثة يرثون مما ترك ذلك الميت، وهم الوالدان والأقربون فيوقف على (ترك)، و (مما) يتعلق بمحذوف، و (الذين) مبتدأ، و (فآتوهم) خبر، دخلت الفاء لما في المبتدأ من العموم.
يقول الحق جلّ جلاله: ولكل ميت جعلنا ورثة يرثون مِمَّا تَرَكَ ذلك الميت، وهم الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ، أو لكل تركة جعلنا لها مَوالِيَ أي: ورثة يرثون مما ترك الوالدان والأقربون، وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ وهم موالي الحِلف، كانوا يتحالفون في الجاهلية على النصرة والمؤازرة، يقول الرجل لآخر: دمي دمك،
وهدمي هدمك، وثأري ثأرك. فيضرب بعضهم على يد الآخر في عقد ذلك الحلف. فلذلك قال: عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فكان في أول الإسلام يرث من حليفه السدس، وإليه أشار بقوله: فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ، ثم نسخ.
وقيل: نزلت في المؤاخاة التي آخى رسول الله ﷺ بين المهاجرين والأنصار، فكان يرث السدس، ثم نُسخ بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ. وعن أبي حنيفة: لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صح وورث. وقال ابن عباس: آتوهم نصيبهم من النصرة التي تعاقدوا عليها، فيُوفي لهم بها، فلا نسخ.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً، هو تهديد لمن تعدى الحدود، ونقض العهود. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ولكل زمان جعلنا أولياء كبراء، يرثون مما ترك أشياخهم من خصوصية الولاية وسر العناية، إلى يوم القيامة فالأرض لا تخلو ممن يقوم بالحجة ويظهر المحجة، فيقال لهم: والذين عقدت أيمانكم في الصحبة معكم، فظهر صدقهم، وبانت خدمتهم، فآتوهم نصيبهم مما خصكم الله به من سر الولاية ولطف العناية، (إِن الله كان على كل شيء شهيدًا)، لا يخفى عليه مَن يستحق الخلافة ويرث سرَ الولاية. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن حكمة تفضيل الرجال على النساء فى المواريث وغيرها، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٣٤]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤)
قلت: (فالصالحات) مبتدأ، وما بعده إخبار عنه، وأتى بالفاء المؤذنة بالسببية والتفريع، وكأنه تعالى يقول:
الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء، فمن كانت صالحة قام عليها بما تستحقه من حسن المعاشرة، ومن كانت ناشزة عاملها بما تستحقه من الوعظ وغيره. وكل ما هنا من لفظ (ما) فهي مصدرية. إلا ما قرأ به أبو جعفر: [بما حفظ الله]، بالنصب، فهي عنده موصولة اسمية، أي: بالأمر الذي حفظ الله وهو طاعتها لله فحفظها بذلك، وقيل إنها مصدرية. انظر الثعلبي.
يقول الحق جلّ جلاله: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ أي: قائمون عليهن قيام الولاة على الرعية، في التأديب والإنفاق والتعليم، ذلك لأمرين: أحدهما وهبي، والآخر كسبي فالوهبي: هو تفضيل الله لهم على
وقيل: نزلت في المؤاخاة التي آخى رسول الله ﷺ بين المهاجرين والأنصار، فكان يرث السدس، ثم نُسخ بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ. وعن أبي حنيفة: لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صح وورث. وقال ابن عباس: آتوهم نصيبهم من النصرة التي تعاقدوا عليها، فيُوفي لهم بها، فلا نسخ.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً، هو تهديد لمن تعدى الحدود، ونقض العهود. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ولكل زمان جعلنا أولياء كبراء، يرثون مما ترك أشياخهم من خصوصية الولاية وسر العناية، إلى يوم القيامة فالأرض لا تخلو ممن يقوم بالحجة ويظهر المحجة، فيقال لهم: والذين عقدت أيمانكم في الصحبة معكم، فظهر صدقهم، وبانت خدمتهم، فآتوهم نصيبهم مما خصكم الله به من سر الولاية ولطف العناية، (إِن الله كان على كل شيء شهيدًا)، لا يخفى عليه مَن يستحق الخلافة ويرث سرَ الولاية. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن حكمة تفضيل الرجال على النساء فى المواريث وغيرها، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٣٤]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (٣٤)
قلت: (فالصالحات) مبتدأ، وما بعده إخبار عنه، وأتى بالفاء المؤذنة بالسببية والتفريع، وكأنه تعالى يقول:
الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء، فمن كانت صالحة قام عليها بما تستحقه من حسن المعاشرة، ومن كانت ناشزة عاملها بما تستحقه من الوعظ وغيره. وكل ما هنا من لفظ (ما) فهي مصدرية. إلا ما قرأ به أبو جعفر: [بما حفظ الله]، بالنصب، فهي عنده موصولة اسمية، أي: بالأمر الذي حفظ الله وهو طاعتها لله فحفظها بذلك، وقيل إنها مصدرية. انظر الثعلبي.
يقول الحق جلّ جلاله: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ أي: قائمون عليهن قيام الولاة على الرعية، في التأديب والإنفاق والتعليم، ذلك لأمرين: أحدهما وهبي، والآخر كسبي فالوهبي: هو تفضيل الله لهم على
498
النساء بكمال العقل وحسن التدبير ومزيد القوة في الأعمال والطاعات، ولذلك خُصوا بالنبوة، والإمامة، والولاية، وإقامة الشعائر، والشهادة، في مجامع القضايا، ووجوب الجهاد والجمعة ونحوهما، والتعصيب، وزيادة السهم في الميراث، والاستبداد بالطلاق. والكسبي هو: (بما أنفقوا من أموالهم) في مهورهن، ونفقتهن، وكسوتهن.
فيجب على الزوج أن يقوم بالعدل في أمر نسائه، فالمرأة الصالحة القانتة، أي: المطيعة لزوجها ولله تعالى، الحافظة للغيب، أي: لما غاب عن زوجها من مال بيته وفرجها وسر زوجها، حفظت ذلك بحفظ الله، أي: بما جعل الله فيها من الأمانة والحفظ، وبما ربط على قلبها من الديانة، أو بحفظها حق الله، فلما حفظت حقوق الله حفظها الله بعصمته، لقوله- عليه الصلاة والسلام-: «احفَظَ اللهَ يَحفَظكَ». فمن كانت على هذا الوصف من النساء فيجب على الزوج حُسن القيام بها، ومقابلتها في القيام بما قابلته من الإحسان، وعنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «خير النساء أمرأةٌ إن نَظَرتَ إلَيهَا سَرَّتكَ، وإن أمرتها أطَاعَتكَ، وإن غبت عنها حفظتك في مَالِها ونَفسِهَا». وتلا هذه الآية.
وأما النساء التي تَخافُونَ أي: تتيقنون نُشُوزَهُنَّ أي: ترفعهن عن طاعة أزواجهن وعصيانهن، فَعِظُوهُنَّ بالقول، فإن لم ينفع فاهجروهن في المضاجع، أي: لا تدخلوا معهن في لحاف، أو لا تجامعوهن، فإن لم ينفع فاضربوهن ضربًا غير مؤلم ولا شائن. قال صلّى الله عليه وسلم: «عَلِّق السَّوطَ حَيثُ يَرَاهُ أهلُ البيت». وعن أسماء بنت أبي بكر- رضى الله عنهما- قالت: (كنتُ رابعَ نسوة عند الزبير بن العوام، فإذا غضب على إحدانا، ضربها بعود المِشجب، حتى ينكسر). والمشجب: أعواد مركبة يجعل عليها الثياب.
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ يا معشر الأزواج، أو عقدن التوبة مما مضى، فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي: لا تطلبوا عليهن طريقًا تجعلونه سبيلاً لإيذائهن، بل اجعلوا ما كان منها من النشوز كأن لم يكن، (فإنَّ التَّائِبَ مِن الذَّنبِ كَمَن لا ذَنَب لَهُ). وقال ابن عُيَيْنَة: أي لا تكلفوهن بحبكم. هـ. وقال الورتجبي: إذا حصل منهن صورة طاعة الرجال فلا يطلب منهن موافقة الطباع، فإن ذلك منازعة للقدر. قال تعالى: لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، وذكر حديث: «الأروَاح جُنودٌ مُجنَّدةٌ».
ثم هدد الأزواج فقال: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً فاحذروه، فإنه أقدر عليكم منكم على من تحت ولايتكم، أو: إنه على علو شأنه، يتجاوز عن سيئاتكم، فأنتم أولى بالعفو عن نسائكم، أو: أنه يتعالى ويَكبر أن يظلم أحدًا أو يُنقص حقه.
فيجب على الزوج أن يقوم بالعدل في أمر نسائه، فالمرأة الصالحة القانتة، أي: المطيعة لزوجها ولله تعالى، الحافظة للغيب، أي: لما غاب عن زوجها من مال بيته وفرجها وسر زوجها، حفظت ذلك بحفظ الله، أي: بما جعل الله فيها من الأمانة والحفظ، وبما ربط على قلبها من الديانة، أو بحفظها حق الله، فلما حفظت حقوق الله حفظها الله بعصمته، لقوله- عليه الصلاة والسلام-: «احفَظَ اللهَ يَحفَظكَ». فمن كانت على هذا الوصف من النساء فيجب على الزوج حُسن القيام بها، ومقابلتها في القيام بما قابلته من الإحسان، وعنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «خير النساء أمرأةٌ إن نَظَرتَ إلَيهَا سَرَّتكَ، وإن أمرتها أطَاعَتكَ، وإن غبت عنها حفظتك في مَالِها ونَفسِهَا». وتلا هذه الآية.
وأما النساء التي تَخافُونَ أي: تتيقنون نُشُوزَهُنَّ أي: ترفعهن عن طاعة أزواجهن وعصيانهن، فَعِظُوهُنَّ بالقول، فإن لم ينفع فاهجروهن في المضاجع، أي: لا تدخلوا معهن في لحاف، أو لا تجامعوهن، فإن لم ينفع فاضربوهن ضربًا غير مؤلم ولا شائن. قال صلّى الله عليه وسلم: «عَلِّق السَّوطَ حَيثُ يَرَاهُ أهلُ البيت». وعن أسماء بنت أبي بكر- رضى الله عنهما- قالت: (كنتُ رابعَ نسوة عند الزبير بن العوام، فإذا غضب على إحدانا، ضربها بعود المِشجب، حتى ينكسر). والمشجب: أعواد مركبة يجعل عليها الثياب.
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ يا معشر الأزواج، أو عقدن التوبة مما مضى، فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي: لا تطلبوا عليهن طريقًا تجعلونه سبيلاً لإيذائهن، بل اجعلوا ما كان منها من النشوز كأن لم يكن، (فإنَّ التَّائِبَ مِن الذَّنبِ كَمَن لا ذَنَب لَهُ). وقال ابن عُيَيْنَة: أي لا تكلفوهن بحبكم. هـ. وقال الورتجبي: إذا حصل منهن صورة طاعة الرجال فلا يطلب منهن موافقة الطباع، فإن ذلك منازعة للقدر. قال تعالى: لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، وذكر حديث: «الأروَاح جُنودٌ مُجنَّدةٌ».
ثم هدد الأزواج فقال: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً فاحذروه، فإنه أقدر عليكم منكم على من تحت ولايتكم، أو: إنه على علو شأنه، يتجاوز عن سيئاتكم، فأنتم أولى بالعفو عن نسائكم، أو: أنه يتعالى ويَكبر أن يظلم أحدًا أو يُنقص حقه.
499
وسبب نزول الآية: أن سَعدَ بنَ الرَّبِيع، وَكَانَ مِن النُقَبَاءِ، لَطَمَ امرأته حَبيبَةَ بِنتَ زَيدِ بن أبي زُهَيرِ، وكانت نَشَزَتَ عَليهِ، فَانطَلَقَ أبُوُها معَهَا إلى رسول الله ﷺ فقال: أفرَشتُهُ كَرِيمَتِي فَلَطَمَها، فقال- عليه الصلاة والسلام-:
لِتقتَصَّ مِنهُ، فَانصرَفَت لتقتصّ منه، فقال صلّى الله عليه وسلم: ارجعوا، هذا جِبرِيلُ أتَاني وأنزَلَ الله هَذِهِ الآية: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ إلى آخرها، فقال عليه الصلاة والسلام: «أَرَدنَا أمرًا، وأرَادَ اللهُ أمرًا، والَّذِي أرَاد اللهُ خَير» فرفع القِصَاص. وقيل: نزلت في غيره ممن وقع له مثل هذا من النشوز. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الرجال الأقوياء قوامون على نفوسهم قهارون لها، بفضل القوة التي مكنهم الله منها، وبما أنفقوا عليها من المجاهدات والرياضات، فهم ينظرون إليها ويتهمونها في كل حين، فإن صلحت وأطاعت وانقادت لما يراد منها من أحكام العبودية، والقيام بوظائف الربوبية، عاملوها بالإكرام والإجمال، ورفعوا عنها الآداب والنكال، وإن نشزت وترفعت أدبوها وهجروها عن مواطن شهواتها ومضاجع نومها، وضربوها على قدر لجاجها وغفلتها.
وكان الشيخ أبو يزيد يأخذ قبضة من القضبان ويذهب إلى خلوته، فكلما غفلت ضربها، حتى يكسرها كلها، وكان بعض أصحابنا يأخذ خشبة ويذهب إلى خلوته، فكلما غفل ضرب رأسه بها، حتى يأتي رأسُه كلَّه مفلول.
ويلغنى أن بعض أصحابنا كان يُدخل في لحمة رجله سكيناً كلما غفل قلبه، وهذا إغراق، وخير الأمور أوسطها.
وبالله التوفيق.
ولمّا تكلم على حكم المرأة الطائعة والناشزة، تكلم على ما إذا أشكل الأمر، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٣٥]
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)
قلت: الشقاق: المخالفة والمساورة، وأضيف إلى الظرف توسعًا كقوله: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ، والأصل: شقاقًا بينهما، والضمير في (يُريدا) للحكمين، وفي (بينهما) للزوجين، وقيل: للحكمين معًا، وقيل: للزوجين معًا.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنْ خِفْتُمْ يا معشر الحكام، أي علمتم خلافَا بين الزوجين ومشاورة، ولم تدروا الظالم من المظلوم، فَابْعَثُوا رجلين أمينين يحكمان بينهما، يكون أحدهما من أهله والآخر من أهلها، لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للإصلاح، فإن بعثهما الحاكمُ أجنبيين صح، وكذا إن أقامهما الزوجان.
وما اتفق عليه الحكمان لزم الزوجين من خُلع أو طلاق أو وفاق. وقال أبو حنيفة: ليس لهما التطليق إلاَّ أن يجعل لهما، وإذا اختلفا لم يلزم شيء، ويستأنفان الحكم، قال ابن جُزَي: ومشهور مذهب مالك: أن الحاكم هو الذي يبعث
لِتقتَصَّ مِنهُ، فَانصرَفَت لتقتصّ منه، فقال صلّى الله عليه وسلم: ارجعوا، هذا جِبرِيلُ أتَاني وأنزَلَ الله هَذِهِ الآية: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ إلى آخرها، فقال عليه الصلاة والسلام: «أَرَدنَا أمرًا، وأرَادَ اللهُ أمرًا، والَّذِي أرَاد اللهُ خَير» فرفع القِصَاص. وقيل: نزلت في غيره ممن وقع له مثل هذا من النشوز. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الرجال الأقوياء قوامون على نفوسهم قهارون لها، بفضل القوة التي مكنهم الله منها، وبما أنفقوا عليها من المجاهدات والرياضات، فهم ينظرون إليها ويتهمونها في كل حين، فإن صلحت وأطاعت وانقادت لما يراد منها من أحكام العبودية، والقيام بوظائف الربوبية، عاملوها بالإكرام والإجمال، ورفعوا عنها الآداب والنكال، وإن نشزت وترفعت أدبوها وهجروها عن مواطن شهواتها ومضاجع نومها، وضربوها على قدر لجاجها وغفلتها.
وكان الشيخ أبو يزيد يأخذ قبضة من القضبان ويذهب إلى خلوته، فكلما غفلت ضربها، حتى يكسرها كلها، وكان بعض أصحابنا يأخذ خشبة ويذهب إلى خلوته، فكلما غفل ضرب رأسه بها، حتى يأتي رأسُه كلَّه مفلول.
ويلغنى أن بعض أصحابنا كان يُدخل في لحمة رجله سكيناً كلما غفل قلبه، وهذا إغراق، وخير الأمور أوسطها.
وبالله التوفيق.
ولمّا تكلم على حكم المرأة الطائعة والناشزة، تكلم على ما إذا أشكل الأمر، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٣٥]
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (٣٥)
قلت: الشقاق: المخالفة والمساورة، وأضيف إلى الظرف توسعًا كقوله: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ، والأصل: شقاقًا بينهما، والضمير في (يُريدا) للحكمين، وفي (بينهما) للزوجين، وقيل: للحكمين معًا، وقيل: للزوجين معًا.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنْ خِفْتُمْ يا معشر الحكام، أي علمتم خلافَا بين الزوجين ومشاورة، ولم تدروا الظالم من المظلوم، فَابْعَثُوا رجلين أمينين يحكمان بينهما، يكون أحدهما من أهله والآخر من أهلها، لأن الأقارب أعرف ببواطن الأحوال، وأطلب للإصلاح، فإن بعثهما الحاكمُ أجنبيين صح، وكذا إن أقامهما الزوجان.
وما اتفق عليه الحكمان لزم الزوجين من خُلع أو طلاق أو وفاق. وقال أبو حنيفة: ليس لهما التطليق إلاَّ أن يجعل لهما، وإذا اختلفا لم يلزم شيء، ويستأنفان الحكم، قال ابن جُزَي: ومشهور مذهب مالك: أن الحاكم هو الذي يبعث
الحكمين، وقيل: الزوجان، وجرت عادة القضاء أن يبعثوا امرأة أمينة ولا يبعثوا الحكمين، قال بعض العلماء: هو تغيير للقرآن والسنة الجارية. هـ.
فإن بُعِث الحكمان، فإن أرادا إصلاحًا بين الزوجين، واتفقا عليه، وفق الله بينهما ببركة قصدهما، وفيه تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتحراه أصلح الله مبتغاه. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً بما في الظواهر والبواطن، فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق.
الإشارة: وإن خفتم، أيها الشيوخ، على صاحبكم منازعة النفس والروح فكانت النفس تجمح به إلى أسفل سافلين، بمتابعة هواها وعصيان مولاها، والروح تجنح به إلى أعلى عليين، بجهاد هواها ومشاهدة مولاها، فابعثوا له واردين قويين، إما شوق مقلق يرحل الروح إلى مولاها، أو خوف مزعج يزجر النفس عن هواها. فإن أراد الله بذلك العبد إصلاحًا لحاله أرسلهما معًا متفقين على تخليصه وارتفاعه، فيتقدم الخوف المزعج ويستدركه الشوق المقلق، فيلتحق بأهل التحقيق من أهل التوفيق، وما ذلك على الله بعزيز، وفي الحكم: «لا يُخرِج الشهوةَ من القلب إلا خوف مُزعج، أو شوقٍ مقلق». والله تعالى أعلم.
ولما فرغ الحق جل جلاله من الكلام على حفظ الأموال، وحفظ الأنساب، وبعض حفظ الأبدان، شرع يتكلم على حفظ الأديان، وما يتعلق بذلك، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٣٦]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦)
قلت: الجُنب- بالضم-: البعيد، يقال فيه: جُنُب وأجنب وأجنبي، وسمي الجُنبُ جُنُبًا لأنه يبعد من المسجد وعن الصلاة وعن التلاوة، و (مختال) أسم فاعل، وأصله: مختيل، بالكسر، من الخُيَلاَء وهو التكبر.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ أي: وَحِّدُوه وأطيعوه وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً جليًا أو خفيًا في اعتقادكم أو في عبادتكم، فمن قصد الحج والتجارة، فقد أشرك مع الله في عبادته، وأحسنوا بالوالدين إحسانًا حسنًا، وهو برهما والقيام بحقهما، وَبِذِي الْقُرْبى، أي: القرابة في النسب، أو الدين وَالْيَتامى لضعف حالهم، وَالْمَساكِينِ لقلة ما بيدهم، وقد شكى بعض الناس قساوة قلبه، فقال له عليه الصلاة والسلام: «إن أردتَ أن يلين قلبُك، فأطعم والمسكين وامسح رأس اليتيم، وأطعمه».
فإن بُعِث الحكمان، فإن أرادا إصلاحًا بين الزوجين، واتفقا عليه، وفق الله بينهما ببركة قصدهما، وفيه تنبيه على أن من أصلح نيته فيما يتحراه أصلح الله مبتغاه. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً بما في الظواهر والبواطن، فيعلم كيف يرفع الشقاق ويوقع الوفاق.
الإشارة: وإن خفتم، أيها الشيوخ، على صاحبكم منازعة النفس والروح فكانت النفس تجمح به إلى أسفل سافلين، بمتابعة هواها وعصيان مولاها، والروح تجنح به إلى أعلى عليين، بجهاد هواها ومشاهدة مولاها، فابعثوا له واردين قويين، إما شوق مقلق يرحل الروح إلى مولاها، أو خوف مزعج يزجر النفس عن هواها. فإن أراد الله بذلك العبد إصلاحًا لحاله أرسلهما معًا متفقين على تخليصه وارتفاعه، فيتقدم الخوف المزعج ويستدركه الشوق المقلق، فيلتحق بأهل التحقيق من أهل التوفيق، وما ذلك على الله بعزيز، وفي الحكم: «لا يُخرِج الشهوةَ من القلب إلا خوف مُزعج، أو شوقٍ مقلق». والله تعالى أعلم.
ولما فرغ الحق جل جلاله من الكلام على حفظ الأموال، وحفظ الأنساب، وبعض حفظ الأبدان، شرع يتكلم على حفظ الأديان، وما يتعلق بذلك، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٣٦]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (٣٦)
قلت: الجُنب- بالضم-: البعيد، يقال فيه: جُنُب وأجنب وأجنبي، وسمي الجُنبُ جُنُبًا لأنه يبعد من المسجد وعن الصلاة وعن التلاوة، و (مختال) أسم فاعل، وأصله: مختيل، بالكسر، من الخُيَلاَء وهو التكبر.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ أي: وَحِّدُوه وأطيعوه وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً جليًا أو خفيًا في اعتقادكم أو في عبادتكم، فمن قصد الحج والتجارة، فقد أشرك مع الله في عبادته، وأحسنوا بالوالدين إحسانًا حسنًا، وهو برهما والقيام بحقهما، وَبِذِي الْقُرْبى، أي: القرابة في النسب، أو الدين وَالْيَتامى لضعف حالهم، وَالْمَساكِينِ لقلة ما بيدهم، وقد شكى بعض الناس قساوة قلبه، فقال له عليه الصلاة والسلام: «إن أردتَ أن يلين قلبُك، فأطعم والمسكين وامسح رأس اليتيم، وأطعمه».
501
وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى الذي قّرُب جواره أو نسبه، وَالْجارِ الْجُنُبِ الذي بَعُد مكانه أو نسبه، وحَدَّد بعضُهم الجوار بأربعين دارًا من كل ناحية. وقال ابن عباس: الجار ذي القربى: الجار الذي بينك وبينه قرابة، والجار الجنب: الجار من قوم آخرين. هـ.
قيل يا رسول الله: ما حق الجار على الجار قال: «إن دعاك أجبتَه، وإن أصابته فاقةٌ عُدتَ عليه، وإن استقرضك أقرضته، وإن أصابه خير هنأته، وإن مرض عدته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإن توفي شهدت جنازته، ولا تستعل عليه بالبنيان لتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقُتار قدرك- أي: بخارها- إلا أن تغرف له منها، وإن ابتعت فاكهة فأهد له منها، فإن لم تفعل فأدخلها سرًا، ولا يخرج ولدك منها بشيء فيغيظ ولده» ثم قال: «الجيران ثلاثة: فَجَارٌ له ثلاثة حقوق: حق الجوَارِ، وحق القرابة، وحق الإسلام، وجار له حقان: حق الجِوَار، وحق الإسلام، وجَارٌ له حق واحد: وهو المشرك من أهل الكتاب».
وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ، وهو الرفيق في أمر حسن، كتعلم وتصرف وصناعة وسفر، فإنه صحبك بجنبك، وعن عليّ- كرّم الله وجهه- (أنها الزّوجة)، فيتأكد في حقها الإحسان زيادة على المعاشرة بالمعروف، قال بعضهم: أول قدم في الولاية كف الأذى وحمل الجفا، ومعيار ذلك حسن معاشرة الأهل والولد، وقال- عليه الصلاة السلام-: «خَيرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِنسَائِه، وأنَا خَيْرُكُمْ لِنسَائِي». وَابْنِ السَّبِيلِ، وهو الضيف أو المسافر لغرابته، وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، من الإماء والعبيد، وكَانَ آخر كلام النبي- عليه الصلاة والسلام-: «الصلاةَ الصَلاةَ وَمَا مَلَكتْ أيمانُكُمْ».
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا أي: متكبراً، يأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم، فَخُوراً يتفاخر عليهم بماله وجاهه، وما خوله الله من نعمه، فهو جدير أن تسلب منه.
الإشارة: واعبدوا الله، أي: بالقيام بوظائف العبودية، ومشاهدة عظمة الربوبية، وقال بعض الحكماء:
العبودية: ترك الاختيار، وملازمة الذل والافتقار. وقيل: العبودية أربعة أشياء: الوفاء بالعهود، والحفظ للحدود، والرضا بالموجود، والصبر على المفقود، وعنوان ذلك صفاء التوحيد، ولذلك قال: وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً أي:
لا تَرَوْا معه غيره، كما قال القائل:
وقال آخر: (لو كلفت أن أرى غيره، لم أستطع، فإنه لا غير معه حتى أشهده). فإذا حصلت العبودية في الظاهر، وتحقق التوحيد في الباطن، ظهرت عليه مكارم الأخلاق فيُحسن إلى الأقارب والأجانب، ويجود عليهم
قيل يا رسول الله: ما حق الجار على الجار قال: «إن دعاك أجبتَه، وإن أصابته فاقةٌ عُدتَ عليه، وإن استقرضك أقرضته، وإن أصابه خير هنأته، وإن مرض عدته، وإن أصابته مصيبة عزيته، وإن توفي شهدت جنازته، ولا تستعل عليه بالبنيان لتحجب عنه الريح إلا بإذنه، ولا تؤذه بقُتار قدرك- أي: بخارها- إلا أن تغرف له منها، وإن ابتعت فاكهة فأهد له منها، فإن لم تفعل فأدخلها سرًا، ولا يخرج ولدك منها بشيء فيغيظ ولده» ثم قال: «الجيران ثلاثة: فَجَارٌ له ثلاثة حقوق: حق الجوَارِ، وحق القرابة، وحق الإسلام، وجار له حقان: حق الجِوَار، وحق الإسلام، وجَارٌ له حق واحد: وهو المشرك من أهل الكتاب».
وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ، وهو الرفيق في أمر حسن، كتعلم وتصرف وصناعة وسفر، فإنه صحبك بجنبك، وعن عليّ- كرّم الله وجهه- (أنها الزّوجة)، فيتأكد في حقها الإحسان زيادة على المعاشرة بالمعروف، قال بعضهم: أول قدم في الولاية كف الأذى وحمل الجفا، ومعيار ذلك حسن معاشرة الأهل والولد، وقال- عليه الصلاة السلام-: «خَيرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِنسَائِه، وأنَا خَيْرُكُمْ لِنسَائِي». وَابْنِ السَّبِيلِ، وهو الضيف أو المسافر لغرابته، وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، من الإماء والعبيد، وكَانَ آخر كلام النبي- عليه الصلاة والسلام-: «الصلاةَ الصَلاةَ وَمَا مَلَكتْ أيمانُكُمْ».
إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا أي: متكبراً، يأنف عن أقاربه وجيرانه وأصحابه ولا يلتفت إليهم، فَخُوراً يتفاخر عليهم بماله وجاهه، وما خوله الله من نعمه، فهو جدير أن تسلب منه.
الإشارة: واعبدوا الله، أي: بالقيام بوظائف العبودية، ومشاهدة عظمة الربوبية، وقال بعض الحكماء:
العبودية: ترك الاختيار، وملازمة الذل والافتقار. وقيل: العبودية أربعة أشياء: الوفاء بالعهود، والحفظ للحدود، والرضا بالموجود، والصبر على المفقود، وعنوان ذلك صفاء التوحيد، ولذلك قال: وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً أي:
لا تَرَوْا معه غيره، كما قال القائل:
مُذْ عَرفْتُ الإِلَهَ لَمْ أَرَ غَيْراً | وكَذّا الْغَيْرُ عندنا ممْنُوعُ |
502
بالحس والمعنى، لأن الفتوة من شأن أهل التوحيد، ومن شيم أهل التجريد، كما هو معلوم من حالهم، نفعنا الله بذكرهم، وخرطنا في سلكهم. آمين.
قال الورتجبي: «الوالدين» : مشايخ المعرفة. ثم نقل عن الجنيد، أنه قال: أمرني أبي أمرًا، وأمرني السري أمرًا.
فقدمت أمر السري على أمر أبي، وكل ما وجدت فهو من بركاته. هـ. وذوو القربى هم الأخوة في الشيخ، واليتامى: من قصدهم من المتفقرة الجاهلة، والمساكين: ضعفاء اليقين من العامة، أمر الله تعالى أهل الخصوصية بالإحسان إليهم والبرور بهم، وهو أن يقرهم في طريقهم، ويحوشهم إلى ربهم.
والجار ذي القربى وهو جارك في السكنى وأخوك في النسبة، فيستحق عليك زيادة الإحسان. والجار الجنب: من جاورك من العوام فتنصحه وترشده، والصاحب بالجنب: من رافقك في أمر من العوام، كَسَفَرٍ وغيره، وابن السبيل:
من نزل بأهل الخصوصية من الأضياف، فلهم حق الضيافة عليهم حسًّا ومعنًى، وما ملكت أيمانكم: مالكم تصرف عليهم من الأهل والبنين والإماء والعبيد، فتقربونهم إلى حضرة الملك المجيد. ثم أمرهم بالتواضع والإقبال على الخاص والعام. فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن حال أضداد هؤلاء، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩)
قلت: (الذين) بدل مِن: «مَن كان»، أو منصوب على الذم، أو مرفوع عليه، أي: هم. أو مبتدأ حُذف خبره، أي: نعذبهم عذابًا مُهينًا، أو أحقاء بكل ملامة، و (الذين ينفقون) : عطف على الأولى، أو مبتدأ حُذف خبره، أي:
الشيطان قرينهم. والبخل فيه لغتان: البُخل والبَخَل بحركتين.
يقول الحق جلّ جلاله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بأموالهم على أقاربهم وجيرانهم، وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ من الغنى، فيظهرون القلة والعيلة، أو يكتمون العلم بصفة النبي صلى الله عليه وسلم، هم أحقاء بكل لوم وعتاب. وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ منهم عَذاباً مُهِيناً يُهينهم ويُخزيهم، نزلت في اليهود، كانوا يقولون
قال الورتجبي: «الوالدين» : مشايخ المعرفة. ثم نقل عن الجنيد، أنه قال: أمرني أبي أمرًا، وأمرني السري أمرًا.
فقدمت أمر السري على أمر أبي، وكل ما وجدت فهو من بركاته. هـ. وذوو القربى هم الأخوة في الشيخ، واليتامى: من قصدهم من المتفقرة الجاهلة، والمساكين: ضعفاء اليقين من العامة، أمر الله تعالى أهل الخصوصية بالإحسان إليهم والبرور بهم، وهو أن يقرهم في طريقهم، ويحوشهم إلى ربهم.
والجار ذي القربى وهو جارك في السكنى وأخوك في النسبة، فيستحق عليك زيادة الإحسان. والجار الجنب: من جاورك من العوام فتنصحه وترشده، والصاحب بالجنب: من رافقك في أمر من العوام، كَسَفَرٍ وغيره، وابن السبيل:
من نزل بأهل الخصوصية من الأضياف، فلهم حق الضيافة عليهم حسًّا ومعنًى، وما ملكت أيمانكم: مالكم تصرف عليهم من الأهل والبنين والإماء والعبيد، فتقربونهم إلى حضرة الملك المجيد. ثم أمرهم بالتواضع والإقبال على الخاص والعام. فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً. والله تعالى أعلم.
ثم بيّن حال أضداد هؤلاء، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (٣٧) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (٣٨) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (٣٩)
قلت: (الذين) بدل مِن: «مَن كان»، أو منصوب على الذم، أو مرفوع عليه، أي: هم. أو مبتدأ حُذف خبره، أي: نعذبهم عذابًا مُهينًا، أو أحقاء بكل ملامة، و (الذين ينفقون) : عطف على الأولى، أو مبتدأ حُذف خبره، أي:
الشيطان قرينهم. والبخل فيه لغتان: البُخل والبَخَل بحركتين.
يقول الحق جلّ جلاله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بأموالهم على أقاربهم وجيرانهم، وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ من الغنى، فيظهرون القلة والعيلة، أو يكتمون العلم بصفة النبي صلى الله عليه وسلم، هم أحقاء بكل لوم وعتاب. وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ منهم عَذاباً مُهِيناً يُهينهم ويُخزيهم، نزلت في اليهود، كانوا يقولون
للأنصار: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر، وكتموا صفته- عليه الصلاة والسلام-. ووضع الظاهر موضع المضمر وكأنه يقول: وأعتدنا لهم، إشعارًا بأن مَن هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله تعالى، ومن كفر بنعمة الله وأهانها استحق عذابًا مهينًا.
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ طلبا لمدحهم وخوفًا من ذمهم، وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، يتحرّون بإنفاقهم مراضية، فالشيطان قرينهم لا يفارقهم، وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً، فلمّا كان الشيطان قرينهم زين لهم التهالك على الأموال والرياء في الأعمال، وإنما أشرك أهل الرياء مع البخلاء في الوعيد من حيث إنهما طَرَفَا تفريط وإفراط، وهما سواء في القبح واستجلاب الذم.
وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ أي: لا ملامة عليهم ولا تبعة تحيق بهم لو أخلصوا الإيمان وأنفقوا مما رزقهم الكريم المنان. قال البيضاوي: وفيه تنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يُجيب إليه احتياطاً، فكيف إذا تضمن المنافع. وإنما قدم الإيمان هاهنا وأخره في الآية الأخرى: لأن القصد بذكره هنا التخصيص، وثَم التقليل. هـ. وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً لا يخفى عليه شيء من أمورهم وقصدهم.
الإشارة: قال بعض الصوفية: (مِن أقبح كل قبيح صوفي شحيح)، فالصوفية العارفون- رضى الله عنهم- الذين هم صفوة العباد متخلقون بأضداد ما وسم به الحق- تعالى- أهل العناد، فهم يجودون بأنفسهم وما خصهم الله بهم من العلوم اللدنية والأسرار القدسية، على من يستحقه من أهل التخلية والتحلية، ويأمرون الناس بالسخاء ومكارم الأخلاق، ويتحدثون بما منحهم الملك الخلاق، ويظهرون الغنى بالله والاكتفاء به عن كل ما سواه، وإذا بذلوا أموالهم أعطوها لله وبالله ومن الله وإلى الله وابتغاء مرضاة الله، هجم عليهم اليقين، وتمكنوا من شهود رب العالمين، فلا يقرب ساحتهم الشيطان، ولا يرون في الدارين إلا الملك الديان، تحبهم ملائكة الرحمن، ويحن إليهم الأنس والجان. نفعنا الله بمحبتهم، وخرطنا في مسلكهم، آمين.
ثم رغّب الحق- تعالى- فى الإنفاق مع الإخلاص، الذي هو عنوان الدين الخاص، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٤٠]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠)
قلت: الذرة: النملة الصغيرة الحمراء. وتطلق على جزء من أجزاء الهباء. ومن نَصَب (حسنة) فَخَبَرُ كان.
وأُنث الضمير باعتبار الخبر. أو لإضافة مثقال إلى ذرة، فاكتسب التأنيث، ومن رفع فهي تامة، وحذف نونها على غير قياس، تشبيهًا لها بحروف العلة. وضاعف وضّعف بمعنى واحد.
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ طلبا لمدحهم وخوفًا من ذمهم، وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، يتحرّون بإنفاقهم مراضية، فالشيطان قرينهم لا يفارقهم، وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً، فلمّا كان الشيطان قرينهم زين لهم التهالك على الأموال والرياء في الأعمال، وإنما أشرك أهل الرياء مع البخلاء في الوعيد من حيث إنهما طَرَفَا تفريط وإفراط، وهما سواء في القبح واستجلاب الذم.
وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ أي: لا ملامة عليهم ولا تبعة تحيق بهم لو أخلصوا الإيمان وأنفقوا مما رزقهم الكريم المنان. قال البيضاوي: وفيه تنبيه على أن المدعو إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يُجيب إليه احتياطاً، فكيف إذا تضمن المنافع. وإنما قدم الإيمان هاهنا وأخره في الآية الأخرى: لأن القصد بذكره هنا التخصيص، وثَم التقليل. هـ. وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً لا يخفى عليه شيء من أمورهم وقصدهم.
الإشارة: قال بعض الصوفية: (مِن أقبح كل قبيح صوفي شحيح)، فالصوفية العارفون- رضى الله عنهم- الذين هم صفوة العباد متخلقون بأضداد ما وسم به الحق- تعالى- أهل العناد، فهم يجودون بأنفسهم وما خصهم الله بهم من العلوم اللدنية والأسرار القدسية، على من يستحقه من أهل التخلية والتحلية، ويأمرون الناس بالسخاء ومكارم الأخلاق، ويتحدثون بما منحهم الملك الخلاق، ويظهرون الغنى بالله والاكتفاء به عن كل ما سواه، وإذا بذلوا أموالهم أعطوها لله وبالله ومن الله وإلى الله وابتغاء مرضاة الله، هجم عليهم اليقين، وتمكنوا من شهود رب العالمين، فلا يقرب ساحتهم الشيطان، ولا يرون في الدارين إلا الملك الديان، تحبهم ملائكة الرحمن، ويحن إليهم الأنس والجان. نفعنا الله بمحبتهم، وخرطنا في مسلكهم، آمين.
ثم رغّب الحق- تعالى- فى الإنفاق مع الإخلاص، الذي هو عنوان الدين الخاص، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٤٠]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (٤٠)
قلت: الذرة: النملة الصغيرة الحمراء. وتطلق على جزء من أجزاء الهباء. ومن نَصَب (حسنة) فَخَبَرُ كان.
وأُنث الضمير باعتبار الخبر. أو لإضافة مثقال إلى ذرة، فاكتسب التأنيث، ومن رفع فهي تامة، وحذف نونها على غير قياس، تشبيهًا لها بحروف العلة. وضاعف وضّعف بمعنى واحد.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ أحدًا بحيث ينقص من ثواب عمله، أو يزيد فى عقاب ما يستحقه، ولو مثقال ذرة. بل يجازي كلاً على قدر عمله. فإن كان صالحًا، ولو صغر قدره، عظم أجره. وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها بعشر أمثالها إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة، بحسب الإخلاص. قال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت النبي ﷺ يقول: «إنَّ اللهَ يُعْطِي المُؤمنَ عَلى الحَسَنة ألفي ألف حَسَنة»، ثم تلا إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ الآية.
وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً، وخيرًا جسيمًا، فضلاً منه وإحسانا. قال صلّى الله عليه وسلم: «إنَّ الله لا يَظْلِمُ المُؤمنَ حَسنةً، بل يُثاب عَلَيها الرزْقَ فِي الدُنيَا ويجزيه بها في الآخِرَةِ. والكَافِر يعطيه بها في الدُّنيَا، فإذا كان يوم القيامة لم يكُن لَهُ حَسَنةٌ».
الإشارة: كما أنَّ الحق تعالى لا يظلم طالبي الأجور، بل يضاعف لهم في زيادة الحور والقصور، كذلك لا يبخس طالبي القرب والحضور، ورفع الحُجب والستور. بل كلما فعلوا من أنواع المجاهدات ضاعف لهم أنوار المشاهدات. وكلما نقص لهم من الحس- ولو مثقال ذرة- زادهم في المعنى قَدْرَهُ وأكثر شهودًا ونظرة. وكلما يقهر النفس ولو مقدار الفتيل، شربوا مقداره وأكثر من خمرة الجليل، وهذا كله مع صحبة المشايخ أهل التربية، وإلاَّ فلا تزيده مجاهدته إلا حَجبًا وبعدًا عن الخصوصية. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى الموطن الذي تظهر فيه مقادير الأعمال، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (٤٢)
قلت: (كيف) إذا كان الكلام بعدها تامًا أُعربت حالاً، كقولك: كيف جاء زيد؟ وإذا كان ناقصًا، كانت خبرًا، كقولك: كيف زيد؟ وهي هنا خبر، أي: كيف الأمر أذا... الخ. وهي مبنية لتضمنها معنى الاستفهام، والعامل في (إذا) مضمون المبتدأ، أو الخبر، أي: كيف يستقر الأمر أو يكون إذا جئنا؟ ومن قرأ (تَسوّى) بالشد، فأصله تتسوى، أدغمت الأولى في الثانية، ومن قرأ (لو تُسوّى) بالبناء للمفعول فحذف الثانية.
يقول الحق جلّ جلاله: فَكَيْفَ يكون حال هؤلاء الكفرة واليهود إِذا قامت القيامة وجِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ يشهد عليها بخيرها وشرها، وهو نبيهم الذي أرسل اليهم، وَجِئْنا بِكَ أنت يا محمد عَلى هؤُلاءِ الأمة التي بعثت إليهم شَهِيداً عليهم، أو على صدق هؤلاء الشهداء شهيدًا، تشهد على صدق رسالتهم وتبليغهم؟ لعلمك بعقائدهم واستجماع شرعك مجامع قواعدهم، وقيل: عَلى هؤُلاءِ الكفرة المستفهم عن حالهم،
وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً، وخيرًا جسيمًا، فضلاً منه وإحسانا. قال صلّى الله عليه وسلم: «إنَّ الله لا يَظْلِمُ المُؤمنَ حَسنةً، بل يُثاب عَلَيها الرزْقَ فِي الدُنيَا ويجزيه بها في الآخِرَةِ. والكَافِر يعطيه بها في الدُّنيَا، فإذا كان يوم القيامة لم يكُن لَهُ حَسَنةٌ».
الإشارة: كما أنَّ الحق تعالى لا يظلم طالبي الأجور، بل يضاعف لهم في زيادة الحور والقصور، كذلك لا يبخس طالبي القرب والحضور، ورفع الحُجب والستور. بل كلما فعلوا من أنواع المجاهدات ضاعف لهم أنوار المشاهدات. وكلما نقص لهم من الحس- ولو مثقال ذرة- زادهم في المعنى قَدْرَهُ وأكثر شهودًا ونظرة. وكلما يقهر النفس ولو مقدار الفتيل، شربوا مقداره وأكثر من خمرة الجليل، وهذا كله مع صحبة المشايخ أهل التربية، وإلاَّ فلا تزيده مجاهدته إلا حَجبًا وبعدًا عن الخصوصية. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق تعالى الموطن الذي تظهر فيه مقادير الأعمال، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (٤١) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (٤٢)
قلت: (كيف) إذا كان الكلام بعدها تامًا أُعربت حالاً، كقولك: كيف جاء زيد؟ وإذا كان ناقصًا، كانت خبرًا، كقولك: كيف زيد؟ وهي هنا خبر، أي: كيف الأمر أذا... الخ. وهي مبنية لتضمنها معنى الاستفهام، والعامل في (إذا) مضمون المبتدأ، أو الخبر، أي: كيف يستقر الأمر أو يكون إذا جئنا؟ ومن قرأ (تَسوّى) بالشد، فأصله تتسوى، أدغمت الأولى في الثانية، ومن قرأ (لو تُسوّى) بالبناء للمفعول فحذف الثانية.
يقول الحق جلّ جلاله: فَكَيْفَ يكون حال هؤلاء الكفرة واليهود إِذا قامت القيامة وجِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ يشهد عليها بخيرها وشرها، وهو نبيهم الذي أرسل اليهم، وَجِئْنا بِكَ أنت يا محمد عَلى هؤُلاءِ الأمة التي بعثت إليهم شَهِيداً عليهم، أو على صدق هؤلاء الشهداء شهيدًا، تشهد على صدق رسالتهم وتبليغهم؟ لعلمك بعقائدهم واستجماع شرعك مجامع قواعدهم، وقيل: عَلى هؤُلاءِ الكفرة المستفهم عن حالهم،
وقيل: على المؤمنين لقوله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ أي: الذين جمعوا بين الكفر والعصيان يتمنون أن تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ فيكونون ترابًا لما يرون من هول المطلع، فإذا شهدت عليهم الرسل بالكفر قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، فيُنطق ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بشركهم فيفتضحون وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً واحدًا، لأنهم كلما هموا بالكتمان شهدت عليهم جوارحهم بالكفر والعصيان.
وقيل: إن القيامة مواطن، في موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همسًا، وفي موطن يتكلمون ويقولون: واللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مشركين، إلى غير ذلك من اختلاف أحوالهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا بد أن يحصل الندم لمن فاته صحبة أهل الخصوصية، حتى مات محجوباً عن مشاهدة أسرار الربوبية، لا سيما إذا انضم إليهم كفرهم بخصوصيتهم والإنكار عليهم، وذلك حين يكشف له عن مقامهم البهي وحالهم السني، مصاحبين للمقربين في جوار الأنبياء والمرسلين، وهو في مقام أهل اليمين، ثم يعاتب على ما أسر عليه من الكبائر، وهي معاصي القلوب والضمائر، وهذا إذا مات على الإسلام، وإلا فالإنكار على الأولياء شُؤمُه سوء الخاتمة. والعياذ بالله من ذلك. وقد تقدم أن العارفين بالله يشهدون على العلماء، والعلماء يشهدون على العموم، ونبينا- عليه الصلاة والسلام- يزكي من يحتاج إلى التزكية. والله تعالى أعلم.
ثم تكلم على عماد الدين وهى الصلاة، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٤٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)
قلت: جملة (وأنتم سكارى) : حال، وسكارى: جمع سكران، ويجمع على سُكارى بالفتح، وسكْرى بالسكون، و (لا جُنُبًا) عطف على جملة الحال، و (جُنب) يستوي فيه الواحد والاثنان والجماعة والمذكر والمؤنث، لأنه يجري مجرى المصدر، فلا يُثنى ولا يُجمع. و (إلا عابري) مستثنى من عام الأحوال، وأصل الغائط: الموضع المنخفض من الأرض، ثم أطلق على الواقع فيه مما يخرج من الإنسان.
وقيل: إن القيامة مواطن، في موطن لا يتكلمون ولا تسمع إلا همسًا، وفي موطن يتكلمون ويقولون: واللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مشركين، إلى غير ذلك من اختلاف أحوالهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا بد أن يحصل الندم لمن فاته صحبة أهل الخصوصية، حتى مات محجوباً عن مشاهدة أسرار الربوبية، لا سيما إذا انضم إليهم كفرهم بخصوصيتهم والإنكار عليهم، وذلك حين يكشف له عن مقامهم البهي وحالهم السني، مصاحبين للمقربين في جوار الأنبياء والمرسلين، وهو في مقام أهل اليمين، ثم يعاتب على ما أسر عليه من الكبائر، وهي معاصي القلوب والضمائر، وهذا إذا مات على الإسلام، وإلا فالإنكار على الأولياء شُؤمُه سوء الخاتمة. والعياذ بالله من ذلك. وقد تقدم أن العارفين بالله يشهدون على العلماء، والعلماء يشهدون على العموم، ونبينا- عليه الصلاة والسلام- يزكي من يحتاج إلى التزكية. والله تعالى أعلم.
ثم تكلم على عماد الدين وهى الصلاة، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٤٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (٤٣)
قلت: جملة (وأنتم سكارى) : حال، وسكارى: جمع سكران، ويجمع على سُكارى بالفتح، وسكْرى بالسكون، و (لا جُنُبًا) عطف على جملة الحال، و (جُنب) يستوي فيه الواحد والاثنان والجماعة والمذكر والمؤنث، لأنه يجري مجرى المصدر، فلا يُثنى ولا يُجمع. و (إلا عابري) مستثنى من عام الأحوال، وأصل الغائط: الموضع المنخفض من الأرض، ثم أطلق على الواقع فيه مما يخرج من الإنسان.
506
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى: لا تقوموا إليها وأنتم سكارى من خمر، أو غلبة نوم، أو شدة غفلة، حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ في صلاتكم، وتتدبروا ما تقرءون فيها، فالصلاة من غير حضور خاوية، وعند الخصوص باطلة، رُوِي أن عبد الرحمن بن عَوف صنَع مأدبة، ودَعَا إليها نفرًا من الصحابة، حين كانت الخمر مباحة، فأكلوا وشربوا حتى ثَمِلُوا، وجاء وقت صلاة المغرب، فتقدم أحدهم ليصلي بهم، فقرأ: أعبدُ ما تعبدون- من غير نفي- فنزلت الآية قبل تحريم الخمر، ثم حرمت بآية المائدة.
ولا تقربوها حالة جنابتكم في آي حال كان، إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أي: في وقت سفركم، حيث لم تجدوا ماءً، بدليل ما يأتي، فيتيمم ويقرب الصلاة وهو جنب، وفيه دليل أن التيمم لا يرفع الحدث، قيل المراد بالصلاة مواضعها، وهي المساجد فلا يدخلها الجنب إلا مارًا، وبه قال الشافعي- رضى الله عنه- وقال أبو حنيفة: لا يجوز المرور، إلاَّ إذا كان فيه الماء والطريق. وقال مالك: لا يدخل إلا بالتيمم ولا يمر به أصلاً.
فلا تقربوا الصلاة وأنتم جنب حَتَّى تَغْتَسِلُوا.
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى تخافون ضرر الماء، أو زيادته، أو تأخر برء، أو منع الوصول إلى الماء، أَوْ عَلى سَفَرٍ لم تجدوه فيه، أَوْ كنتم في الحضر مُحدِثِين حيث جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ، أو البول، أو بغيره من الأحداث، أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أي: مست بشرتكم بشرتهن، بقصد اللذة أو عند وجدانها، وبه قال مالك.
وقال الشافعي: ينقض مطلقًا، قصد أم لا، وجد أم لا، ولو بميتة، وقال أبو حنيفة: إن كانت ملامسه فاحشة بحيث يحصل الانتشار نقضت، وإلا فلا.
وقال ابن عباس والحسن البصري ومحمد بن الحسن: لا تنقض الملامسة مطلقًا، ويقاس على اللمس سائر نواقض الأسباب، فتحصَّل أن «أو» تبقى على أصلها من التقسيم، فتكون الآية نصًا في تيمم الحاضر الصحيح، وبه قال مالك، ولا يعيد. وقال الشافعي: يُصلي بالتيمم ويُعيد، وقال أبو حنيفة: لا يُصلي حتى يجد الماء، ومن قال: «أو» بمعنى الواو فخروج عن الأصل بلا داع.
ثم قيّد التيمم في هذه الأحوال بفقد الماء، فقال: فَلَمْ تَجِدُوا ماء كافيًا، أو لم تقدروا على استعماله، فَتَيَمَّمُوا أي: اقصدوا صَعِيداً طَيِّباً أي: طاهرا، وهو ما صعد على وجه الأرض من جنسها كتراب، وهو الأفضل، وثلج وخضخاض «١» وحجر ومدر، لا شجر وحشيش ومعدن ذهب وفضة، وما التحق بالعقاقير، كشب، وملح، وكبريت، وغاسول «٢» وشبهه، فلا يجوز. وقال أبو حنيفة: بكل شيء من الأرض وما اتصل بها كشجر
ولا تقربوها حالة جنابتكم في آي حال كان، إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ أي: في وقت سفركم، حيث لم تجدوا ماءً، بدليل ما يأتي، فيتيمم ويقرب الصلاة وهو جنب، وفيه دليل أن التيمم لا يرفع الحدث، قيل المراد بالصلاة مواضعها، وهي المساجد فلا يدخلها الجنب إلا مارًا، وبه قال الشافعي- رضى الله عنه- وقال أبو حنيفة: لا يجوز المرور، إلاَّ إذا كان فيه الماء والطريق. وقال مالك: لا يدخل إلا بالتيمم ولا يمر به أصلاً.
فلا تقربوا الصلاة وأنتم جنب حَتَّى تَغْتَسِلُوا.
وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى تخافون ضرر الماء، أو زيادته، أو تأخر برء، أو منع الوصول إلى الماء، أَوْ عَلى سَفَرٍ لم تجدوه فيه، أَوْ كنتم في الحضر مُحدِثِين حيث جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ، أو البول، أو بغيره من الأحداث، أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أي: مست بشرتكم بشرتهن، بقصد اللذة أو عند وجدانها، وبه قال مالك.
وقال الشافعي: ينقض مطلقًا، قصد أم لا، وجد أم لا، ولو بميتة، وقال أبو حنيفة: إن كانت ملامسه فاحشة بحيث يحصل الانتشار نقضت، وإلا فلا.
وقال ابن عباس والحسن البصري ومحمد بن الحسن: لا تنقض الملامسة مطلقًا، ويقاس على اللمس سائر نواقض الأسباب، فتحصَّل أن «أو» تبقى على أصلها من التقسيم، فتكون الآية نصًا في تيمم الحاضر الصحيح، وبه قال مالك، ولا يعيد. وقال الشافعي: يُصلي بالتيمم ويُعيد، وقال أبو حنيفة: لا يُصلي حتى يجد الماء، ومن قال: «أو» بمعنى الواو فخروج عن الأصل بلا داع.
ثم قيّد التيمم في هذه الأحوال بفقد الماء، فقال: فَلَمْ تَجِدُوا ماء كافيًا، أو لم تقدروا على استعماله، فَتَيَمَّمُوا أي: اقصدوا صَعِيداً طَيِّباً أي: طاهرا، وهو ما صعد على وجه الأرض من جنسها كتراب، وهو الأفضل، وثلج وخضخاض «١» وحجر ومدر، لا شجر وحشيش ومعدن ذهب وفضة، وما التحق بالعقاقير، كشب، وملح، وكبريت، وغاسول «٢» وشبهه، فلا يجوز. وقال أبو حنيفة: بكل شيء من الأرض وما اتصل بها كشجر
(١) الخضخاض درب من القطران أسود رقيق تطلى به الإبل الجربى.
(٢) الغاسول: عشب ينبت فى الصحراء.
(٢) الغاسول: عشب ينبت فى الصحراء.
507
وكحل، وزرنيخ، وشب ونورة، وجص، وجوهر، إلا منخالة الذهب والفضة والرصاص. وقال الشافعي: لا يجوز إلا بالتراب المنبت خاصة، وبه فسر الطيب، واشترط علوق التراب بيده، ولم يشترطه غيره.
ثم علّم الكيفية فقال: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ. قال مالك: اليد اسم للكف بدليل قطع السارق منه، فجعل المسح إلى المرفق سنة. وقال الشافعي: فرض، قياسًا على الوضوء، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً فلذلك يسَّر عليكم ورخص لكم في التيمم.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا صلاة الحضرة القدسية، وأنتم سكارى بحب الدنيا الدنية، حتى يذهب عنكم سُكر حبها، وتعلموا ما تقولون في مناجاة خالقها، ولا جنبًا من جنابة الغفلة، إلا ما يمر بالخواطر على سبيل الندرة والقلة، حتى تغتسلوا بماء الغيب، الذي يحصل به طهارة الجنان، ويغيب المتطهر به عن رؤية الأكوان.
وإليه أشار ابن العربي الحاتمي: كما في طبقات الشعراني، ونسبها غيرُه للجنيد- رضى الله عنهم أجمعين- وهو الأصح، بقوله:
أي: إن لم تقدر على الطهارة الأصلية وهي الغيبة عن الأحداث الكونية، فاقصد العبادة الحسية، وقَّدم الشريعة أو من قام بها من أهل التربية النبوية أمامك، بعد أن كان يطلبك قبل أن تعرفه، وأجمع ظُهر الشريعة لعصر الحقيقة، فهذه صلاة العارفين، فإن كنت منهم فانضح بَرَّ ظاهرك بحقيقة باطنك، فما كمن في غيب السرائر ظهر في شهادة الظواهر. لهذا أشار تعالى بقوله: (وإن كنتم مرضى) بحب الهوى، (أو على سفر) في عجلة شغل الدنيا، أو جاء أحد منكم من غائط الحس، أو لامستم العلوم الرسمية، وانطبع صُورُ خيالها في قلوبكم، ولم تجدوا من يسقيكم ماء الغيب، وهي الخمرة الآزلية، فاقصدوا الأعمال الحسية، فلعلها توصلكم إلى الأعمال الباطنية، (إن الله كان عفوًا غفورًا)، وفي الحِكَم: «كيف يشرق قلبٌ صورُ الأكوان منطبعة في مرآته؟ أم كيف يرحل إلى الله وهو مُكَبَّل بشهواته، أم كيف يطمع أن يدخل حضرة الله وهو لم يتطهر من جنابة غفلاته؟ أم كيف يرجو أن يفهم دقائق الأسرار وهو لم يتب من هفواته؟».
ثم علّم الكيفية فقال: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ. قال مالك: اليد اسم للكف بدليل قطع السارق منه، فجعل المسح إلى المرفق سنة. وقال الشافعي: فرض، قياسًا على الوضوء، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً فلذلك يسَّر عليكم ورخص لكم في التيمم.
الإشارة: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا صلاة الحضرة القدسية، وأنتم سكارى بحب الدنيا الدنية، حتى يذهب عنكم سُكر حبها، وتعلموا ما تقولون في مناجاة خالقها، ولا جنبًا من جنابة الغفلة، إلا ما يمر بالخواطر على سبيل الندرة والقلة، حتى تغتسلوا بماء الغيب، الذي يحصل به طهارة الجنان، ويغيب المتطهر به عن رؤية الأكوان.
وإليه أشار ابن العربي الحاتمي: كما في طبقات الشعراني، ونسبها غيرُه للجنيد- رضى الله عنهم أجمعين- وهو الأصح، بقوله:
تَوَضَّأ بماءِ الغَيبِ إن كُنتَ ذا سِرٍّ | وإلاَّ تَيَمَّم بالصَّعِيدِ أو الصَّخر |
وقّدَّم إمَامًا كُنتَ أنتَ إمَامَه | وصَلِّ صلاة الظُّهرِ فى أول العصر |
فَهَذِي صَلاةُ العَارِفينَ بربّهِم | فإن كنت منهم فانضح البرِّ بالبَحر. |
508
ثم نبه الحق تعالى على عداوة اليهود، وأنّ من شأنهم إذا سمعوا عليكم مثل ما وقع من تحريف الآية الذي صدر من المصلى فى حال السكر فرحوا بذلك، فحذّر المؤمنين من العود لمثل ذلك، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (٤٥)
قلت: دخلت الباء على الفاعل في (كفى بالله)، لتضمنه معنى أكتف بالله وكيلاً.
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ يا محمد، أو يا مَن يسمع، ببصرك أو بقلبك، إِلَى حال الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً يسيرًا مِنَ علم الْكِتابِ أي: التوراة، وهم أحبار اليهود، يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ بالهدى، أي:
يستبدلونها بها بعد تمكنهم منها عادة، وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ أي: الطريق الموصلة إلى الحق، أي:
يتمنون انحرافكم عنها، فإذا سمعوا عنكم ما يحرفكم عنها فرحوا واستبشروا، لأنهم انحرفوا عنها فحرفوا كتابهم وبدلوا، فتمنوا أن تكونوا مثلهم، فاحذروا ما يتوقع منكم أعداؤكم، فإن الله أعلم بهم منكم، فسيكفيكم الله أمرهم، فثقوا به وتوكلوا عليه، فكفى بالله وليًا وكفى بالله نصيرًا، فسيتولى أمركم وينصركم على من عاداكم. وبالله التوفيق.
الإشارة: من شأن أهل الإنكار، ولا سيما من سلف له في أسلافه رياسة أو إظهار، إذا سمعوا بأهل النسبة وقع لهم شيء من الأكدار، فرحوا واستبشروا، وودوا لو حادوا كلهم عن سبيل الحق، والله مطلع على أسرارهم، وكاف بأسهم وشرهم، (وكفى بالله وليًا) لأوليائه ونصيرًا لأحبابه. والله تعالى أعلم.
ثم بيّنهم، أو ذكر حال فريق منهم، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٤٦]
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦)
قلت: (من الذين هادوا) : خبر عن محذوف، أي: منهم قوم يحرفون، أو بيان للذين قبله، أو متعلق بأعدائكم.
يقول الحق جلّ جلاله: من اليهود قوم تمردوا في الكفر وهم أحبارهم، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ وهو التوراة عَنْ مَواضِعِهِ أي: يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها، بإزالة لفظه أو تأويله. وقال ابن عباس:
(لا يقدر أحد أن يُحرّف كلام الله ولكن يفسرونه على غير وجهه)، وَيَقُولُونَ لمن دعاهم إليه، وهو
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (٤٤) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (٤٥)
قلت: دخلت الباء على الفاعل في (كفى بالله)، لتضمنه معنى أكتف بالله وكيلاً.
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ يا محمد، أو يا مَن يسمع، ببصرك أو بقلبك، إِلَى حال الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً يسيرًا مِنَ علم الْكِتابِ أي: التوراة، وهم أحبار اليهود، يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ بالهدى، أي:
يستبدلونها بها بعد تمكنهم منها عادة، وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ أي: الطريق الموصلة إلى الحق، أي:
يتمنون انحرافكم عنها، فإذا سمعوا عنكم ما يحرفكم عنها فرحوا واستبشروا، لأنهم انحرفوا عنها فحرفوا كتابهم وبدلوا، فتمنوا أن تكونوا مثلهم، فاحذروا ما يتوقع منكم أعداؤكم، فإن الله أعلم بهم منكم، فسيكفيكم الله أمرهم، فثقوا به وتوكلوا عليه، فكفى بالله وليًا وكفى بالله نصيرًا، فسيتولى أمركم وينصركم على من عاداكم. وبالله التوفيق.
الإشارة: من شأن أهل الإنكار، ولا سيما من سلف له في أسلافه رياسة أو إظهار، إذا سمعوا بأهل النسبة وقع لهم شيء من الأكدار، فرحوا واستبشروا، وودوا لو حادوا كلهم عن سبيل الحق، والله مطلع على أسرارهم، وكاف بأسهم وشرهم، (وكفى بالله وليًا) لأوليائه ونصيرًا لأحبابه. والله تعالى أعلم.
ثم بيّنهم، أو ذكر حال فريق منهم، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٤٦]
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (٤٦)
قلت: (من الذين هادوا) : خبر عن محذوف، أي: منهم قوم يحرفون، أو بيان للذين قبله، أو متعلق بأعدائكم.
يقول الحق جلّ جلاله: من اليهود قوم تمردوا في الكفر وهم أحبارهم، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ وهو التوراة عَنْ مَواضِعِهِ أي: يميلونه عن مواضعه التي وضعه الله فيها، بإزالة لفظه أو تأويله. وقال ابن عباس:
(لا يقدر أحد أن يُحرّف كلام الله ولكن يفسرونه على غير وجهه)، وَيَقُولُونَ لمن دعاهم إليه، وهو
الرسول صلّى الله عليه وسلم: سَمِعْنا قولك، وَعَصَيْنا أمرك، وَاسْمَعْ منا غَيْرَ مُسْمَعٍ قولك، أي: لا نلتفت إليه، أو دعاء بالصمم: أي: لا سمعت، أو غير مسمع منا مكروهًا، نفاقًا، ويقولون له مكان انظرنا: راعِنا قاصدين بذلك الشتم والسخرية، من الرعونة، وقد كان الصحابة يخاطبون به الرسول- عليه الصلاة والسلام- ومعناه:
انظرنا. أو راعنا بقلبك، فوجد اليهود بها سبيلاً إلى الشتم، فنهاهم الله عن ذلك، وبقيت اليهود تقولها شتماً واستهزاءً لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ، أي: فَتلاً لها عن معناها، من الانتظار إلى ما قصدوا من رَميِه بالرُّعُونة، وَطَعْناً فِي الدِّينِ أي: استهزاء به، وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا مكان سمعنا وعصينا، وَاسْمَعْ منا فقط، مكان: واسمع غير مسمع، وَانْظُرْنا مكان راعنا، لَكانَ قولهم ذلك خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وأعدل، وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي: طردهم وأبعدهم بسبب كفرهم، فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إيمانًا قَلِيلًا لا يعبأ به وهو الإيمان بالبعض والكفر بالبعض من الآيات والرسل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: والله ما ربح من ربح، إلا بالأدب والتعظيم، وما خسر من خسر إلا من فقدهما. قال بعضهم:
«اجعل عَمَلك مِلحًا، وأدبك دقيقا». وآداب الظاهر عنوان آداب الباطن، ويظهر الأدب في حسن الخطاب، ورد الجواب، وفي حسن الأفعال، وظهور محاسن الخلال. والله تعالى أعلم.
ثم دعاهم إلى الإيمان بعد أن وسمهم بالعصيان، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٤٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٤٧)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِن اليهود آمِنُوا بِما نَزَّلْنا من القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التوراة مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً أي: نغير صُورها ونمحو تخطيط أشكالها، فلا تبقى عين ولا أنف ولا حاجب، فَنَرُدَّها عَلى هيئة أَدْبارِها من الأقفاء، أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا، أَوْ نَلْعَنَهُمْ أي: نخزيهم بالمسخ، كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ، فمسخناهم قردة وخنازير، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا، لا مرد له، ولعله كان مشروطاً بعدم إيمان بعضهم، أو يراد بطمس الوجوه ما يكسوها من الذلة والصغار. ويراد باللعن حقيقته، أي: نلعنهم على لسانك كما لُعنوا على لسان داوود وعيسى بن مريم.
انظرنا. أو راعنا بقلبك، فوجد اليهود بها سبيلاً إلى الشتم، فنهاهم الله عن ذلك، وبقيت اليهود تقولها شتماً واستهزاءً لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ، أي: فَتلاً لها عن معناها، من الانتظار إلى ما قصدوا من رَميِه بالرُّعُونة، وَطَعْناً فِي الدِّينِ أي: استهزاء به، وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا مكان سمعنا وعصينا، وَاسْمَعْ منا فقط، مكان: واسمع غير مسمع، وَانْظُرْنا مكان راعنا، لَكانَ قولهم ذلك خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وأعدل، وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أي: طردهم وأبعدهم بسبب كفرهم، فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إيمانًا قَلِيلًا لا يعبأ به وهو الإيمان بالبعض والكفر بالبعض من الآيات والرسل. والله تعالى أعلم.
الإشارة: والله ما ربح من ربح، إلا بالأدب والتعظيم، وما خسر من خسر إلا من فقدهما. قال بعضهم:
«اجعل عَمَلك مِلحًا، وأدبك دقيقا». وآداب الظاهر عنوان آداب الباطن، ويظهر الأدب في حسن الخطاب، ورد الجواب، وفي حسن الأفعال، وظهور محاسن الخلال. والله تعالى أعلم.
ثم دعاهم إلى الإيمان بعد أن وسمهم بالعصيان، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٤٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (٤٧)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِن اليهود آمِنُوا بِما نَزَّلْنا من القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التوراة مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً أي: نغير صُورها ونمحو تخطيط أشكالها، فلا تبقى عين ولا أنف ولا حاجب، فَنَرُدَّها عَلى هيئة أَدْبارِها من الأقفاء، أو ننكسها إلى ورائها في الدنيا، أَوْ نَلْعَنَهُمْ أي: نخزيهم بالمسخ، كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ، فمسخناهم قردة وخنازير، وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا، لا مرد له، ولعله كان مشروطاً بعدم إيمان بعضهم، أو يراد بطمس الوجوه ما يكسوها من الذلة والصغار. ويراد باللعن حقيقته، أي: نلعنهم على لسانك كما لُعنوا على لسان داوود وعيسى بن مريم.
وهذه الآية كانت سبب إسلام كعب الأحبار، سمعها من بعض الصحابة فأسلم في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والمسخ جائز على هذه الأمة، كما وقع فى الأمم السابقة، بدليل ما في كتاب الأشربة من البخاري أن النبي ﷺ قال: «ليكوننَّ من أمَّتي أقوام يَستحلُّون الحِر والحَريرَ، والخمر والمعازف، ولينزلنَّ أقوام إلى جَنِب علَمِ، يَروحُ عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة، فيقولون: ارجع إلينا غَدًا، فيُبيَّتُهم الله، ويضع عليهم العَلَم، ويَمسَخُ آخرين قِردَة وخنازيرَ إلى يوم القيامة».
الإشارة: حملة الشريعة يخاطبون بالإيمان بأهل الحقيقة، لأنها لبها وصفاؤها، فإن امتنعوا من الإيمان بها ومن الإذعان لأهلها، طمس الله وجوه قلوبهم، وملأها خوفًا وجزعًا وحبًا للدنيا، وردها على أدبارها، فلا تفهم أسرارَ الكتاب ولا تفقه إشارة الخطاب، فإن قصّروا عن حقوق الشريعة، وغيَّروا أحكامها مُسخوا قردة وخنازير. وفي نوادر الأصول بسنده إلى رسول الله ﷺ قال: «تَكُونُ فِي أُمَّتي قزَعةٌ «١»، فَيَصيرُ النَّاسُ إلى عُلَمَائِهِمْ، فإذا هُم قِردَةٌ وخَنَازِيرُ».
قال الترمذي الحكيم: فالمسخ: تغيير الخلقة عن جهتها، فإنما حل بهم المسخ لأنهم غيَّروا الحق عن جهته، وحرفوا الكلم عن مواضعه، فمسخوا عن أعين الخلق، وقلوبُهم عن رؤية الحق. فمسخ الله صورهم وبدَّل خِلقتهم، كما بدلوا الحق باطلاً. هـ. وبالله التوفيق.
ولمَّا دعاهم إلى الإيمان، أخبرهم أنهم إن داموا على الكفر لا مطمع لهم فى الغفران، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٤٨]
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ لأنه بتَّ الحكم على خلود عذابه، لأن الله تعالى غيور لا أحد أغير منه. كما في الحديث، ومن عادة الملوك إذا خرج أحدٌ من رعيته ونصر غيره لا يقبل منه إلا الرجوع أو الموت. ولا شفاعة تنفع فيه غير الرجوع عنه، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ الشرك لِمَنْ يَشاءُ من الكبائر والصغائر. تاب أم لا. فالعصاة أذا لم يتوبوا في مشيئة الله، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً ارتكب ما تستحقر دونه الآثام. وهو إشارة إلى المعنى الفارق بينه وبين سائر الذنوب، والله تعالى أعلم.
الإشارة: حملة الشريعة يخاطبون بالإيمان بأهل الحقيقة، لأنها لبها وصفاؤها، فإن امتنعوا من الإيمان بها ومن الإذعان لأهلها، طمس الله وجوه قلوبهم، وملأها خوفًا وجزعًا وحبًا للدنيا، وردها على أدبارها، فلا تفهم أسرارَ الكتاب ولا تفقه إشارة الخطاب، فإن قصّروا عن حقوق الشريعة، وغيَّروا أحكامها مُسخوا قردة وخنازير. وفي نوادر الأصول بسنده إلى رسول الله ﷺ قال: «تَكُونُ فِي أُمَّتي قزَعةٌ «١»، فَيَصيرُ النَّاسُ إلى عُلَمَائِهِمْ، فإذا هُم قِردَةٌ وخَنَازِيرُ».
قال الترمذي الحكيم: فالمسخ: تغيير الخلقة عن جهتها، فإنما حل بهم المسخ لأنهم غيَّروا الحق عن جهته، وحرفوا الكلم عن مواضعه، فمسخوا عن أعين الخلق، وقلوبُهم عن رؤية الحق. فمسخ الله صورهم وبدَّل خِلقتهم، كما بدلوا الحق باطلاً. هـ. وبالله التوفيق.
ولمَّا دعاهم إلى الإيمان، أخبرهم أنهم إن داموا على الكفر لا مطمع لهم فى الغفران، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٤٨]
إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (٤٨)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ لأنه بتَّ الحكم على خلود عذابه، لأن الله تعالى غيور لا أحد أغير منه. كما في الحديث، ومن عادة الملوك إذا خرج أحدٌ من رعيته ونصر غيره لا يقبل منه إلا الرجوع أو الموت. ولا شفاعة تنفع فيه غير الرجوع عنه، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ الشرك لِمَنْ يَشاءُ من الكبائر والصغائر. تاب أم لا. فالعصاة أذا لم يتوبوا في مشيئة الله، وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً ارتكب ما تستحقر دونه الآثام. وهو إشارة إلى المعنى الفارق بينه وبين سائر الذنوب، والله تعالى أعلم.
(١) فى الأصول «فزعة» بالفاء، والمثبت هو الذي الجامع الكبير للسيوطى وكنز العمال. والقزعة: قطعة من الغيم وجمعها: قزع.
انظر النهاية فى غريب الحديث (قزع).
انظر النهاية فى غريب الحديث (قزع).
الإشارة: ولما رأت الصوفية أن الشرك لا يُغفر، ولا يُسمح في شيء منه، جليًا أو خفيًا، حققوا إخلاصهم، ودققوا معاملتهم مع ربهم، وفتشوا على قلوبهم، هل بقي فيها شيء من محبة غير مولاهم، أو خوفٌ من شيء دونه، وطهروا توحيدهم من نسبة التأثير لشيء من الكائنات، فتوجهوا إلى الله في إزالة ذلك عنهم.
قال بعضهم: شربتُ لبنًا فأصابني انتفاخ، فقلت ضرني ذلك اللبن، فلما كنت ذات يوم أتلو، وبلغت هذه الآية قلت: يا رب أنا لا أشرك بك شيئًا، فقال لي هاتفٌ: ولا يوم اللبن، فبادرت إلى التوبة. أ. هـ. بالمعنى. والله تعالى أعلم.
ثم عاتبهم على تزكية أنفسهم بالدعوى، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠)
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ يا محمد إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، وهم اليهود، قالوا: نَحنُ أبنَاءُ اللهِ وَأحبَّاؤُه، وقيل: طائفة منهم، أتَوا بأطفَالِهِم إلى رسول الله ﷺ فقالوا: هَل عَلَى هؤُلآءِ ذَنبٌ؟ قال: «لآ».
قَالوُا: واللهِ مَا نَحنُ إلا كَهَيئَتِهِم، مَا عَمِلنَا بالنّهَارِ يُكَفَّر عَنَّا باللَّيلِ، وما عملنا باللَّيلِ يُكَفَّر عَنَّا بالنّهَارِ، فنزلت فيهم الآية. وفي معناهم: من زكى نفسه وأثنى عليها قبل معرفتها.
بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ لأنه العالم بخفيات النفوس وكمائنها، وما انطوت عليه من قبيح أو حسن، فيزكي من يستحق التزكية، ويفضح المُدَّعِين، وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا، وهو الخيط الذي في شق النواة، يضرب مثلاً لحقارة الشيء، فأن الله لا يظلم مثقال ذرة، انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في زعمهم أنهم أبناء الله، أو أنهم معغفور لهم، وَكَفى بِهِ أي: بالافتراء، إِثْماً مُبِيناً أي: ظاهرًا لا يخفى على أحد.
الإشارة: قال بعض الصوفية: للنفس من النقائص ما لله من الكمالات، فلا ينبغي للعبد أن يُزكي نفسه، ولو بلغ فيها من التطهير ما بلغ، ولا يرضى عنها ولو عملت من الأعمال ما عملت. قال أبو سليمان الداراني: لي أربعون سنة وأنا مُتَّهٍمٌ لنفسي. وفي الحِكَم: «أصل كل معصيةٍ وغفلةٍ وشهوةٍ: الرضا عن النفس، وأصلُ كل طاعةٍ ويقظةٍ وعفةٍ: عدمُ الرضا منك عنها، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خير من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه فأيُّ علمٍ لعالمٍ يرضى عن نفسه؟! وأيّ جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه؟!».
قال بعضهم: شربتُ لبنًا فأصابني انتفاخ، فقلت ضرني ذلك اللبن، فلما كنت ذات يوم أتلو، وبلغت هذه الآية قلت: يا رب أنا لا أشرك بك شيئًا، فقال لي هاتفٌ: ولا يوم اللبن، فبادرت إلى التوبة. أ. هـ. بالمعنى. والله تعالى أعلم.
ثم عاتبهم على تزكية أنفسهم بالدعوى، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (٥٠)
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ يا محمد إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ، وهم اليهود، قالوا: نَحنُ أبنَاءُ اللهِ وَأحبَّاؤُه، وقيل: طائفة منهم، أتَوا بأطفَالِهِم إلى رسول الله ﷺ فقالوا: هَل عَلَى هؤُلآءِ ذَنبٌ؟ قال: «لآ».
قَالوُا: واللهِ مَا نَحنُ إلا كَهَيئَتِهِم، مَا عَمِلنَا بالنّهَارِ يُكَفَّر عَنَّا باللَّيلِ، وما عملنا باللَّيلِ يُكَفَّر عَنَّا بالنّهَارِ، فنزلت فيهم الآية. وفي معناهم: من زكى نفسه وأثنى عليها قبل معرفتها.
بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ لأنه العالم بخفيات النفوس وكمائنها، وما انطوت عليه من قبيح أو حسن، فيزكي من يستحق التزكية، ويفضح المُدَّعِين، وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا، وهو الخيط الذي في شق النواة، يضرب مثلاً لحقارة الشيء، فأن الله لا يظلم مثقال ذرة، انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في زعمهم أنهم أبناء الله، أو أنهم معغفور لهم، وَكَفى بِهِ أي: بالافتراء، إِثْماً مُبِيناً أي: ظاهرًا لا يخفى على أحد.
الإشارة: قال بعض الصوفية: للنفس من النقائص ما لله من الكمالات، فلا ينبغي للعبد أن يُزكي نفسه، ولو بلغ فيها من التطهير ما بلغ، ولا يرضى عنها ولو عملت من الأعمال ما عملت. قال أبو سليمان الداراني: لي أربعون سنة وأنا مُتَّهٍمٌ لنفسي. وفي الحِكَم: «أصل كل معصيةٍ وغفلةٍ وشهوةٍ: الرضا عن النفس، وأصلُ كل طاعةٍ ويقظةٍ وعفةٍ: عدمُ الرضا منك عنها، ولأن تصحب جاهلاً لا يرضى عن نفسه خير من أن تصحب عالماً يرضى عن نفسه فأيُّ علمٍ لعالمٍ يرضى عن نفسه؟! وأيّ جهل لجاهل لا يرضى عن نفسه؟!».
ثم وبخهم على سجودهم للأصنام. وشهادتهم لأهل الكفر بأنهم أهدى من أهل الإسلام، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢)
قلت: الجبت في الأصل: اسم صنم، فاستعمل في كل ما عُبد من دون الله، والطاغوت: كل باطل من معبود أو غيره، أو الجبت: السحر، والطاغوت: الساحر، وبالجملة: هو كل ما عُبد أو أطيع من دون الله، وقال الجوهري:
الجبت: اسم لكل صنم ولكل عاصٍ ولكل ساحر وكل مُضِلّ، والطاغوت: الشيطان، وأصله: طغيوت، فعلوت، من الطغيان، ثم قلب فصار طيَغوت، ثم قلبت الياء ألفًا.
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ علم الْكِتابِ، وهم أحبار اليهود يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ يقرون بصحة عبادتهما، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ الكفرة أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا طريقًا، نزلت في اليهود- لعنهم الله-: كانوا يقولون: إن عبادة الأصنام أرضى عند الله مما يدعو إليه محمد صلّى الله عليه وسلم، وقيل: في حُيي بن أخطب وكعب بن الأشرف، خرجا في سبعين راكبًا إلى مكة يُحالفون قريشًا على محاربة رسول الله ﷺ بعد وقعة أُحد، وينقضون العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل كَعبُ على أبي سفيان، فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش. فقال أهل مكة: أنتم أهل كتاب، ومحمدٌ صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكيدة منكم، فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين، وآمنوا بهما، ففعلوا، فذلك قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ.
ثم قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأيُّنا أهدى سبيلاً وأقرب إلى الحق، نحن أو محمد؟ قال كعب: اعرضوا عليَّ دينَكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكومَاءَ- أي: العظيمة- من النوق- ونسقي الماء، ونَقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمدٌ فارقَ دينَ أبائه، وقطع الرحم وفارق الحرم، فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلاً. هـ.
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وأبعدهم وأسحقهم، وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ينصره من عذاب الله. فقد قُتل هؤلاء كلهم شر قتلة، وذهبوا إلى الهاوية. عائذاً بالله.
الإشارة: قال الورتجبي: وبَّخ الله تعالى أهل ظاهر العلم الذين اختاروا الرياسة، وأنكروا على أهل الولاية، وآثروا صحبة المخالفين، يقبلون هواجس نفَوسهم التي هي الجبت، ويخطون على آثار الطاغوت، التي هي إبليس. هـ.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (٥١) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (٥٢)
قلت: الجبت في الأصل: اسم صنم، فاستعمل في كل ما عُبد من دون الله، والطاغوت: كل باطل من معبود أو غيره، أو الجبت: السحر، والطاغوت: الساحر، وبالجملة: هو كل ما عُبد أو أطيع من دون الله، وقال الجوهري:
الجبت: اسم لكل صنم ولكل عاصٍ ولكل ساحر وكل مُضِلّ، والطاغوت: الشيطان، وأصله: طغيوت، فعلوت، من الطغيان، ثم قلب فصار طيَغوت، ثم قلبت الياء ألفًا.
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ علم الْكِتابِ، وهم أحبار اليهود يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ يقرون بصحة عبادتهما، وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ الكفرة أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا طريقًا، نزلت في اليهود- لعنهم الله-: كانوا يقولون: إن عبادة الأصنام أرضى عند الله مما يدعو إليه محمد صلّى الله عليه وسلم، وقيل: في حُيي بن أخطب وكعب بن الأشرف، خرجا في سبعين راكبًا إلى مكة يُحالفون قريشًا على محاربة رسول الله ﷺ بعد وقعة أُحد، وينقضون العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزل كَعبُ على أبي سفيان، فأحسن مثواه، ونزلت اليهود في دور قريش. فقال أهل مكة: أنتم أهل كتاب، ومحمدٌ صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكيدة منكم، فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين، وآمنوا بهما، ففعلوا، فذلك قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ.
ثم قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم، ونحن أميون لا نعلم، فأيُّنا أهدى سبيلاً وأقرب إلى الحق، نحن أو محمد؟ قال كعب: اعرضوا عليَّ دينَكم، فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكومَاءَ- أي: العظيمة- من النوق- ونسقي الماء، ونَقري الضيف، ونفك العاني، ونصل الرحم، ونعمر بيت ربنا، ونطوف به، ونحن أهل الحرم، ومحمدٌ فارقَ دينَ أبائه، وقطع الرحم وفارق الحرم، فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلاً. هـ.
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وأبعدهم وأسحقهم، وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً ينصره من عذاب الله. فقد قُتل هؤلاء كلهم شر قتلة، وذهبوا إلى الهاوية. عائذاً بالله.
الإشارة: قال الورتجبي: وبَّخ الله تعالى أهل ظاهر العلم الذين اختاروا الرياسة، وأنكروا على أهل الولاية، وآثروا صحبة المخالفين، يقبلون هواجس نفَوسهم التي هي الجبت، ويخطون على آثار الطاغوت، التي هي إبليس. هـ.
قلت: وينسحب التوبيخ على من فضّل أهل الظاهر على أهل الباطن، وفضَّل العلماء على الأولياء، ويقولون:
هم أهدى منهم سبيلاً. هيهات! بينهم من البَون ما بين السماء والأرض.
والكلام إنما هو في التفضيل بين العارفين بالله، الذين جمعوا بين الفناء والبقاء، وبين العلماء والأتقياء. وأما العُبَّاد والزهاد والصالحون فلا شك أن العلماء الأتقياء أفضل منهم، وإليهم أشار صلّى الله عليه وسلم بقوله: «فَضلُ العَالِمِ على العابِد كَفَضِلِي عَلَى أدناكُم». وكذلك الأحاديث التي وردت في تفضيل العلماء. وأما العارفون بالله فهم أعظم العلماء، لأن علمهم متعلق بذات الله كشفًا وذوقًا، وعلماء الظاهر علمهم متعلق بأحكام الله. مفرقُون عن الله، بل هم أشد حجابًا من غيرهم عن الله. قال بعض الأولياء: أشد الناس حجابًا عن الله: العلماء ثم العباد ثم الزهاد. هـ. لأن حلاوة ما هم فيه تمنعهم عن الانتقال عنه، وقد تقدم الكلام عند قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «١» بأبلغ من هذا. والله تعالى أعلم.
ثم ردّ الحق تعالى على اليهود، حيث ادعوا أن الملك سيصير إليهم، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٥٣]
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣)
قلت: «أم» : منقطعة، بمعنى بل، والهمزة للإنكار، وهو إنكار وجحدٌ لما زعمت اليهود من أنَّ المُلكَ سيصيرُ لهم، و (إذًا) إن فُصل بينها وبين المضارع ب- «لا» ففيها الإهمال والإعمال، وقد قرئ: (وإذًا لا يلبثوا)، والنقير:
النقرة التي في ظهر النواة، وهو هنا كناية عن نهاية بخلهم.
يقول الحق جلّ جلاله منكرا على اليهود: أيحصل لهم نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ والرياسة؟ هيهات، لا يكون هذا أبدًا، فكيف يكون لهم الملك وهم أبخل الناس؟. فإذا أُوتوا شيئًا من الملك لا يُعطون الناس نقيرًا، فما بالك بأكثر، والملك والنصر لا يكونان إلا لأجل الكرم والجود والشجاعة، وإصابة الرأي وحسن التدبير، وهم بعداء من هذه المكارم.
الإشارة: لا يُمكن اللهُ من العز والنصر والتصرف الظاهر أو الباطن إلا أهل السخاء والجود، فمن جاد بمالِهِ حتى لا يبالي كم أعطى ولا لمن أعطى، مكّنه الله من العز والتصرف الحسي، ومن جاد بنفسه وجاهه، وبذلهما في مرضاة ربه، مكّنه الله من العز والنصر والتصرف المعنوي يتصرف بهمته في الوجود بأسره، من عرشه إلى فرشه، ويدوم عزه ونصره إلى أبد الأبد. والله تعالى أعلم.
هم أهدى منهم سبيلاً. هيهات! بينهم من البَون ما بين السماء والأرض.
والكلام إنما هو في التفضيل بين العارفين بالله، الذين جمعوا بين الفناء والبقاء، وبين العلماء والأتقياء. وأما العُبَّاد والزهاد والصالحون فلا شك أن العلماء الأتقياء أفضل منهم، وإليهم أشار صلّى الله عليه وسلم بقوله: «فَضلُ العَالِمِ على العابِد كَفَضِلِي عَلَى أدناكُم». وكذلك الأحاديث التي وردت في تفضيل العلماء. وأما العارفون بالله فهم أعظم العلماء، لأن علمهم متعلق بذات الله كشفًا وذوقًا، وعلماء الظاهر علمهم متعلق بأحكام الله. مفرقُون عن الله، بل هم أشد حجابًا من غيرهم عن الله. قال بعض الأولياء: أشد الناس حجابًا عن الله: العلماء ثم العباد ثم الزهاد. هـ. لأن حلاوة ما هم فيه تمنعهم عن الانتقال عنه، وقد تقدم الكلام عند قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «١» بأبلغ من هذا. والله تعالى أعلم.
ثم ردّ الحق تعالى على اليهود، حيث ادعوا أن الملك سيصير إليهم، فقال:
[سورة النساء (٤) : آية ٥٣]
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (٥٣)
قلت: «أم» : منقطعة، بمعنى بل، والهمزة للإنكار، وهو إنكار وجحدٌ لما زعمت اليهود من أنَّ المُلكَ سيصيرُ لهم، و (إذًا) إن فُصل بينها وبين المضارع ب- «لا» ففيها الإهمال والإعمال، وقد قرئ: (وإذًا لا يلبثوا)، والنقير:
النقرة التي في ظهر النواة، وهو هنا كناية عن نهاية بخلهم.
يقول الحق جلّ جلاله منكرا على اليهود: أيحصل لهم نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ والرياسة؟ هيهات، لا يكون هذا أبدًا، فكيف يكون لهم الملك وهم أبخل الناس؟. فإذا أُوتوا شيئًا من الملك لا يُعطون الناس نقيرًا، فما بالك بأكثر، والملك والنصر لا يكونان إلا لأجل الكرم والجود والشجاعة، وإصابة الرأي وحسن التدبير، وهم بعداء من هذه المكارم.
الإشارة: لا يُمكن اللهُ من العز والنصر والتصرف الظاهر أو الباطن إلا أهل السخاء والجود، فمن جاد بمالِهِ حتى لا يبالي كم أعطى ولا لمن أعطى، مكّنه الله من العز والتصرف الحسي، ومن جاد بنفسه وجاهه، وبذلهما في مرضاة ربه، مكّنه الله من العز والنصر والتصرف المعنوي يتصرف بهمته في الوجود بأسره، من عرشه إلى فرشه، ويدوم عزه ونصره إلى أبد الأبد. والله تعالى أعلم.
(١) راجع إشارة الآية ١١٠ من سورة آل عمران.
ولمّا كان الحسد والبخل رذيلتين متناهيتين فى الذم وصفهم الحق- تعالى- أيضا به «١»، فقال:
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥٤ الى ٥٧]
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧)
قلت: (أم) بمعنى بل، و (سعيرًا) تمييز.
يقول الحق جلّ جلاله توبيخًا لليهود على الحسد: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ، أي: العرب حيث انتقلت النبوة إليهم، وقد كانت في أسلافهم، عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وهو ظهور النبوة فيهم، أو رسول الله ﷺ لأنه اجتمع فيه ما افترق في سائر الناس، حسدوه على ما آتاه الله من فضله، من النبوة وغيرها، وقالوا- لعنهم الله-: ماله همٌّ إلا النساء، ولو كان نبيًا لشغله أمر النبوة عن النساء.
فكَّذبهم الله- تعالى- وردَّ عليهم بقوله: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ وهم: يوسف وداود وسليمان، الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أي: النبوّة، وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً، فقد اجتمع لداود عليه السلام مائة امرأة. ولسليمان- عليه السلام- ألف امرأة: ثلاثمائة مهيرة، - أي بالمهر- وسبعمائة سرية، فقال لهم- عليه الصلاة والسلام- حين نزلت الآية: ألف امرأة عند رجل، ومائة امرأة عند آخر، أكثر من تسع نسوة، فسكتوا «٢».
فَمِنْهُمْ أي: اليهود، مَنْ آمَنَ بِهِ أي: بمحمد- عليه الصلاة والسلام- كعبد الله بن سلام وأصحابة، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أي: أعرض عنه، أو: من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم، ومنهم من صدّ عنه، ولم يكن في ذلك توهين لقدر إبراهيم، فكذلك لا يُوهن كفرُ هؤلاء أمرَك، أو: من أسلافهم من آمن بما أُوتي آل إبراهيم من الكتاب والحكمة والمُلك، ومنهم مَن صدّ عنه، كما فعلوا مع سليمان وغيره. وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً لمن كفر بما جاء به أحد من الرسل، أي: فإن لم يُعاجَلوا بالعقوبة فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم.
[سورة النساء (٤) : الآيات ٥٤ الى ٥٧]
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (٥٤) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (٥٧)
قلت: (أم) بمعنى بل، و (سعيرًا) تمييز.
يقول الحق جلّ جلاله توبيخًا لليهود على الحسد: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ، أي: العرب حيث انتقلت النبوة إليهم، وقد كانت في أسلافهم، عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ، وهو ظهور النبوة فيهم، أو رسول الله ﷺ لأنه اجتمع فيه ما افترق في سائر الناس، حسدوه على ما آتاه الله من فضله، من النبوة وغيرها، وقالوا- لعنهم الله-: ماله همٌّ إلا النساء، ولو كان نبيًا لشغله أمر النبوة عن النساء.
فكَّذبهم الله- تعالى- وردَّ عليهم بقوله: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ وهم: يوسف وداود وسليمان، الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ أي: النبوّة، وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً، فقد اجتمع لداود عليه السلام مائة امرأة. ولسليمان- عليه السلام- ألف امرأة: ثلاثمائة مهيرة، - أي بالمهر- وسبعمائة سرية، فقال لهم- عليه الصلاة والسلام- حين نزلت الآية: ألف امرأة عند رجل، ومائة امرأة عند آخر، أكثر من تسع نسوة، فسكتوا «٢».
فَمِنْهُمْ أي: اليهود، مَنْ آمَنَ بِهِ أي: بمحمد- عليه الصلاة والسلام- كعبد الله بن سلام وأصحابة، وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أي: أعرض عنه، أو: من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم، ومنهم من صدّ عنه، ولم يكن في ذلك توهين لقدر إبراهيم، فكذلك لا يُوهن كفرُ هؤلاء أمرَك، أو: من أسلافهم من آمن بما أُوتي آل إبراهيم من الكتاب والحكمة والمُلك، ومنهم مَن صدّ عنه، كما فعلوا مع سليمان وغيره. وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً لمن كفر بما جاء به أحد من الرسل، أي: فإن لم يُعاجَلوا بالعقوبة فقد كفاهم ما أعد لهم من سعير جهنم.
(١) أي بالحسد، فقد ذكر البخل فى الآية السابقة.
(٢) راجع تفسير البغوي.
(٢) راجع تفسير البغوي.
515
ثم بيَّن مآل مَن كفر، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا المنزلة على رسلنا، أو الدالة على وحدانيتنا، سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نارًا أي: نحرقهم بها ونشويهم، كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ أي: لانت واحترقت بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها، قال صلّى الله عليه وسلم: «تُبدَّلُ في ساعةٍ مائةَ مَرَّة». وقال الحسن: (تأكلهم النارُ في كل يوم سبعين ألف مرة، كلما أكلتهم وأنضجتهم قيل لهم: عودوا فيعودوان كما كانوا). وقال مجاهد: (ما بين جلده ولحمه دود، لها جلبة- أي حركة- وهرير كجلبة حمر الوحش). رَوى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «غلظٌ جِلدِ الكَافِرِ اثنَانٍ وأربعَونَ ذرَاعًا، وضِرسه مِثلُ أحُد».
وإنما بدلت جلودهم لِيَذُوقُوا ألم الْعَذابَ، أي: يدوم لهم ذلك بخلق جلد آخر مكانه، والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية لا لآلة إدراكها، فلا محذور، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً لا يمتنع عليه ما يريد، حَكِيماً يعاقب على قدر حكمته.
ثم ذكر مقابل هؤلاء فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ مما يستفذر وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا أي: دائمًا لا تنسخه شمس، ولا يصحبه برد. قدَّم وعيد الكفار على وعد المؤمنين، لأن الكلام فيهم، وذكر المؤمنين بالعرض. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الحسد خلق مذموم، لا يتطهر منه إلا الصديقون، وكل من بقي فيه بقية من الحسد لا يشم رائحة المعرفة، إذ لو عرف الله لم يجد من يحسد، وقد قيل: الحسود لا يسود. وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الحَسدُ يأكُلُ الحسنَاتِ كما تأكلُ النَّارُ الحَطَبَ». وقال سفيان: (بلغني إنَّ الله تبارك وتعالى يقول: الحاسدُ عدو نعمتي، غيرُ راضٍ بقسمتي التي قسمت بين عبادي). وأنشدوا:
وقال آخر:
وإنما بدلت جلودهم لِيَذُوقُوا ألم الْعَذابَ، أي: يدوم لهم ذلك بخلق جلد آخر مكانه، والعذاب في الحقيقة للنفس العاصية لا لآلة إدراكها، فلا محذور، إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً لا يمتنع عليه ما يريد، حَكِيماً يعاقب على قدر حكمته.
ثم ذكر مقابل هؤلاء فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ مما يستفذر وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا أي: دائمًا لا تنسخه شمس، ولا يصحبه برد. قدَّم وعيد الكفار على وعد المؤمنين، لأن الكلام فيهم، وذكر المؤمنين بالعرض. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الحسد خلق مذموم، لا يتطهر منه إلا الصديقون، وكل من بقي فيه بقية من الحسد لا يشم رائحة المعرفة، إذ لو عرف الله لم يجد من يحسد، وقد قيل: الحسود لا يسود. وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الحَسدُ يأكُلُ الحسنَاتِ كما تأكلُ النَّارُ الحَطَبَ». وقال سفيان: (بلغني إنَّ الله تبارك وتعالى يقول: الحاسدُ عدو نعمتي، غيرُ راضٍ بقسمتي التي قسمت بين عبادي). وأنشدوا:
ألاَ قُل لمَن كانَ لي حَاسِدًا | أتدري على مَن أسَأتَ الأدَب |
أسَأتَ على اللهِ في فِعلِه | إذا أنتَ لم تَرضَ لي مَا وَهَب |
جَزَاؤُكَ منه الزيادةُ لي | وألاَّ تَنَالَ الذِي تَطَّلِب |