تفسير سورة الزخرف

تفسير ابن أبي زمنين
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب تفسير القرآن العزيز المعروف بـتفسير ابن أبي زمنين .
لمؤلفه ابن أبي زَمَنِين . المتوفي سنة 399 هـ
تفسير سورة الزخرف وهي مكية كلها.

قَوْله: ﴿وَالْكتاب الْمُبين﴾ الْبَين وَهَذَا قسم
﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن ﴿قُرْآنًا عَرَبيا لَعَلَّكُمْ تعقلون﴾ لكَي تعقلوا
﴿وَإنَّهُ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن ﴿فِي أُمِّ الْكِتَابِ لدينا﴾ عندنَا ﴿لعَلي﴾ رفيع ﴿حَكِيم﴾ مُحكم، و ﴿أم الْكتاب﴾: (ل ٣١٣) اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، وَتَفْسِيرُ أُمِّ الْكِتَابِ: جملَة الْكتاب وَأَصله.
قَالَ محمدٌ: وَمعنى ﴿جَعَلْنَاهُ﴾ بَيناهُ، كَذَلِك قَالَ غير يحيى.
﴿أفنضرب عَنْكُم الذّكر﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن ﴿صفحا﴾ تَفْسِير الْكَلْبِيّ يَقُول: أَنَذَرُ الذّكْرَ من أجلكم؟! ﴿أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مسرفين﴾ مُشْرِكين أَي: لَا نَذَرُه.
قَالَ مُحَمَّد: تقْرَأ ﴿إِن كُنْتُم﴾ بِالْفَتْح وبالكسر، فَمن فتح فَالْمَعْنى: لِأَن كُنْتُم وَمن كسر فعلى الِاسْتِقْبَال؛ الْمَعْنى: إِن تَكُونُوا مسرفين نضرب عَنْكُم الذّكر.
وَيُقَال: ضربْتُ عَنهُ الذّكر وأضْربتُ بِمَعْنى وَاحِد إِذا امسكت. وَقَوله:
175
﴿صفحا﴾ أَي: إعْرَاضًا يُقَال: صفحت عَن فلانٍ أَي: أَعرَضت عَنهُ، وَالْأَصْل فِي ذَلِك أَنَّك توليه صفحة عُنُقك.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة ٦ إِلَى آيَة ١٠.
176
﴿وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلين﴾ أَي: كثيرا
﴿فأهلكنا أَشد مِنْهُم بطشا﴾ يَعْنِي: أشدّ من مُشْركي الْعَرَب قُوَّة ﴿وَمضى مثل الْأَوَّلين﴾ يَعْنِي: وقائعه فِي الْأُمَم السَّالفة بتكذيبهم رسلهم
﴿وَلَئِن سَأَلتهمْ﴾ يَعْنِي: الْمُشْركين ﴿من خلق السَّمَاوَات وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ﴾
ثمَّ قَالَ: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مهادًا﴾ أَي: بساطًا وفراشًا ﴿وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سبلا﴾ طرقا ﴿لَعَلَّكُمْ تهتدون﴾ لكَي تهتدوا الطّرق.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة ١١ إِلَى آيَة ١٤.
﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقدر﴾.
يَحْيَى: عَنْ عَاصِمِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ،
176
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " مَا عَامٌ بِأَكْثَرِ مَطَرًا مِنْ عَامٍ - أَوْ قَالَ: مَاءٌ - وَلَكِنَّ اللَّهَ يَصْرِفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ ".
﴿فَأَنْشَرْنَا بِهِ﴾ يَعْنِي: فأحيينا بِهِ ﴿بَلْدَةً مَيْتًا﴾ الْيَابِسَة الَّتِي لَيْسَ فِيهَا نَبَات ﴿كَذَلِك تخرجُونَ﴾ يَعْنِي: الْبَعْثَ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا مَنِيًا؛ كَمَنِيِّ الرِّجَالِ فَتَنْبُتُ بِهِ جسمانهم ولحمانهم؛ كَمَا ينْبت الأَرْض الثرى
177
﴿وَالَّذِي خلق الْأزْوَاج كلهَا﴾ تَفْسِير الْحسن: يَعْنِي: الشتَاء والصيف، وَاللَّيْل وَالنَّهَار، وَالسَّمَاء وَالْأَرْض، وكل اثْنَيْنِ، فالواحد مِنْهُمَا زوج. قَالَ محمدٌ: وَقيل: معنى الْأزْوَاج: الْأَصْنَاف، تَقول: عِنْدِي من كل زوجٍ أَي: من كل صنف.
﴿وَجَعَلَ لكم﴾ أَي: خلق لكم ﴿مِنَ الْفُلْكِ والأنعام مَا تَرْكَبُونَ﴾
﴿لتستووا على ظُهُوره﴾ ظُهُور مَا سخر لكم؛ أَي: تركبوه.
﴿وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ﴾ يَعْنِي: مطيقين، قَالَ: تَقول: أَنا مقرنٌ لَك؛ أَي مطيقٌ لَك؛ وَقيل: إِن اشتقاق اللَّفْظَة من قَوْلهم: أَنا قِرْنٌ لفُلَان إِذا كنت مثله فِي الشدَّة، فَإِذا أردْت السنّ قلت: قَرْنُه بِفَتْح الْقَاف.
177
قَالَ قَتَادَة: قد بيَّن الله لكم مَا تَقُولُونَ إِذَا رَكِبْتُمْ فِي الْبر، وَمَا تَقولُونَ إِذا ركبتم فِي الْبَحْرِ؛ إِذَا رَكِبْتُمْ فِي الْبَرِّ قَلْتُمْ: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ﴾ وَإِذَا رَكِبْتُمْ فِي الْبَحْرِ قُلْتُمْ: ﴿بِسم الله مجْراهَا وَمرْسَاهَا﴾ الْآيَةَ.
يحيى: عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ مُوسَى، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: إِذَا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ: بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ ازْوِ لَنَا الأَرْضَ وَهَوِّنْ عَلَيْنَا السَّفَرَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ وعثاء السّفر وكآبة المنقلب وَسُوء المنظر فِي الْأَهْل وَالْمَال ".
178
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة ١٥ إِلَى آيَة ٢٠.
179
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣:﴿ لتستووا على ظهوره ﴾ ظهور ما سخر لكم ؛ أي : تركبوه.
﴿ وما كنا له مقرنين( ١٣ ) ﴾ يعني : مطيقين، قال : تقول : أنا مقرن لك ؛ أي مطيق لك ؛ وقيل : إن اشتقاق اللفظة من قولهم : أنا قرن لفلان إذا كنت مثله في الشدة، فإذا أردت السن قلت : قرنه بفتح القاف.
قال قتادة : قد بين الله لكم ما تقولون إذا ركبتم في البر، وما تقولون إذا ركبتم في البحر ؛ إذا ركبتم في البر قلتم :﴿ سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين( ١٣ ) وإنا إلى ربنا لمنقلبون( ١٤ ) ﴾ وإذا ركبتم في البحر قلتم ﴿ بسم الله مجراها ومرساها... ﴾ الآية.
يحيى : عن إبراهيم بن محمد، عن أيوب بن موسى، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا ركب راحلته :" بسم الله اللهم ازو لنا الأرض وهون علينا السفر، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل، اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال " ١.
١ رواه أحمد في المسند (٢/٤٠١، ٤٣٣) وأبو داود (٢٥٩١) والترمذي (٣٤٣٨) والنسائي (٥٥١٦) ومالك في الموطأ (٢/٧٤٤)،(٣٤) والنسائي في الكبرى (١٠٣٣٤) والطبراني في الدعاء (٨٠٨) وابن السني في اليوم والليلة (٤٩٨) وغيرهم من حديث أبي هريرة وابن عمر به فذكره نحوه..

﴿وَجعلُوا لَهُ﴾ يَعْنِي: الْمُشْركين ﴿مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا﴾ قَالَ مُجَاهِد: يَعْنِي: الْمَلَائِكَة حَيْثُ جعلوهم بَنَات الله ﴿إِنَّ الإِنْسَانَ لكفور مُبين﴾ يَعْنِي: الْكَافِر
﴿أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ﴾ على الِاسْتِفْهَام ﴿وأصفاكم بالبنين﴾ أَي: لم يفعل
﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ للرحمن مثلا﴾ أَي: بِالْأُنْثَى لما كَانُوا يَقُولُونَ أَن الْمَلَائِكَة بَنَات الله؛ فألحقوا الْبَنَات بِهِ، فيقتلون بناتهم ﴿ظَلَّ وَجهه مسودا﴾ أَي: مغيرا ﴿وَهُوَ كظيم﴾ يَعْنِي: كُظِم على الغيظ والحزن، أَي: رَضوا لله مَا كَرهُوا لأَنْفُسِهِمْ.
قَالَ محمدٌ: الكظم أَصله فِي اللُّغَة: الْحَبْس.
﴿أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ﴾ وَهَذَا تبعٌ للْكَلَام الأول ﴿أَمِ اتخذ مِمَّا يخلق بَنَات﴾ يَقُول: أنتخذ من ينشأ فِي الحُلى - يَعْنِي: النِّسَاء - بَنَات؟! ﴿وَهُوَ فِي الْخِصَام﴾ الْخُصُومَة.
﴿غير مُبين﴾ أَي: لَا تبين عَن نَفسهَا من ضعفها (ل ٣١٤} (وأصفاكم
179
بالبنين} اي: لم يفعل
180
﴿وَجَعَلُوا الْمَلاَئِكَةَ﴾ قَالَ السّديّ: يَعْنِي: وصفوا.
قَالَ مُحَمَّد: الْجعل هَا هُنَا فِي معنى القَوْل، وَالْحكم تَقول: جعلت فلَانا أعلم النَّاس؛ أَي: قد وَصفته بذلك وحكمت بِهِ.
﴿الَّذِينَ هُمْ عِند الرَّحْمَنِ إِنَاثًا﴾، كَقَوْلِه: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته﴾ وَقَرَأَ ابْن عَبَّاس: ﴿الَّذِينَ هُمْ عباد الرَّحْمَن﴾ كَقَوْلِه سُبْحَانَهُ: ﴿بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ﴾ ﴿أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ﴾ أَي: أَنهم لم يشْهدُوا خلقهمْ ﴿سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ﴾ عَنْهَا يَوْم الْقِيَامَة
﴿وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم﴾ أَي: لَو كره الله هَذَا الدّين الَّذِي نَحن عَلَيْهِ لحوَّلنا عَنهُ إِلَى غَيره، ولكنَّ الله لم يكرههُ. قَالَ الله: ﴿مَّا لَهُم بِه مِنْ عِلْمٍ﴾ بِأَنِّي أمرت أَن يعبدوا غَيْرِي، إِنَّمَا قَالُوا ذَلِك على الشَّك وَالظَّن.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة ٢١ إِلَى آيَة ٢٣.
﴿أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ﴾ من قبل الْقُرْآن فِيهِ مَا يدّعون من قَوْلهم أَن الْمَلَائِكَة بَنَات الله [وَقَوْلهمْ]: لَو كره اللَّهُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ لَحَوَّلَنَا عَنهُ إِلَى غَيره
180
﴿فهم﴾ بذلك الْكتاب ﴿مستمسكون﴾ يحاجوننا بِهِ أَي: لم نؤتهم كتابا فِيهِ مَا يَقُولُونَ
181
﴿بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا على أمة﴾ مِلَّة، وَهِي ملَّة الشّرك ﴿وَإِنَّا على آثَارهم مهتدون﴾ أَي: أَنهم كَانُوا على هدى وَنحن نتبعهم على ذَلِك الْهدى،
قَالَ الله: ﴿وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِير﴾ نَبِي ينذرهم الْعَذَاب ﴿إِلا قَالَ مترفوها﴾ وهم أهل السُّمعَة والقادة فِي الشّرك ﴿وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ أَي: أَنهم كَانُوا مهتدين فَنحْن نقتدي بهداهم.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة ٢٤ إِلَى آيَة ٣٠.
قَالَ اللَّه للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ﴿قَالَ أَوَ لَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ﴾ ثمَّ رَجَعَ إِلَى قصَّة الْأُمَم، فَأخْبر بِمَا قَالُوا لأنبيائهم ﴿قَالُوا﴾ لَهُم: ﴿إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون﴾.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله: ﴿قل أَو لَو جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُم﴾ الْمَعْنى: أتتبعون مَا وجدْتُم عَلَيْهِ آبَاءَكُم وَإِن جِئتُكُمْ بأهدى مِنْهُ؟!
﴿فانتقمنا مِنْهُم﴾ يَعْنِي: الَّذين كذبُوا رسلهم (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
181
الْمُكَذِّبِينَ} أَي: كَانَ عاقبتهم أَن دمر الله عَلَيْهِم ثمَّ صيرهم إِلَى النَّار
182
﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ﴾
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله ﴿برَاء﴾ بِمَعْنى بريءٌ، وَالْعرب تَقول للْوَاحِد مِنْهَا: أَنا البراءُ مِنْك، وَكَذَلِكَ الِاثْنَان وَالْجَمَاعَة، وَالذكر وَالْأُنْثَى يَقُولُونَ: نَحن الْبَراء مِنْك، والخَلاء مِنْك، لَا يَقُولُونَ: نَحن البراآن مِنْك وَلَا نَحن البراءون مِنْك، الْمَعْنى: أَنا ذُو الْبَراء مِنْك، وَنحن ذَوُو الْبَراء مِنْك، كَمَا تَقول: رجلٌ عَدْلٌ، وامرأةٌ عدْلٌ، وَقوم عدل؛ الْمَعْنى: ذُو عدل، و [ذَات] عدل هَذَا أفْصح اللُّغَات.
﴿إِلاَ الَّذِي فَطَرَنِي﴾ لَكِن أعبد الَّذِي فطرني: خلقني ﴿فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ أَي: يثيبني على الْإِيمَان.
﴿وَجَعَلَهَا كَلِمَةً﴾ يَعْنِي: لَا إِلَه إِلَّا الله ﴿بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ﴾ تَفْسِير مُجَاهِد: فِي وَلَده ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ لكَي يرجِعوا إِلَى الْإِيمَان
﴿بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَء وَآبَاءهُمْ﴾ يَعْنِي: قُريْشًا لم أعذبهم ﴿حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ﴾ مُحَمَّد صلى اللَّه عَلَيْهِ وَسلم.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة ٣١ إِلَى آيَة ٣٣.
﴿وَقَالُوا لَوْلاَ﴾ هلا ﴿نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ القريتين: مَكَّة والطائف أَي لَو كَانَ هَذَا الْقُرْآن حقًّا لَكَانَ هَذَانِ الرّجلَانِ أَحَق
182
بِهِ مِنْك يَا مُحَمَّد؛ يعنون: الْوَلِيد بن الْمُغيرَة المَخْزُومِي وَأَبا مَسْعُود الثَّقَفِيّ؛ فِي تَفْسِير قَتَادَة.
قَالَ محمدٌ: ﴿عَلَى رَجُلٍ مِنَ القريتين﴾ الْمَعْنى: على رجل من رَجُلَيِ القريتين عَظِيم.
183
قَالَ الله: ﴿أهم يقسمون رَحْمَة رَبك﴾ يَعْنِي: النُّبُوَّة؛ أَي: لَيْسَ ذَلِك فِي أَيْديهم فيضعون النُّبُوَّة حَيْثُ شَاءُوا ﴿وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَات﴾ فِي الرزق ﴿لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سخريا﴾ أَي: يملك بَعضهم من بَاب السخرة ﴿وَرَحْمَة رَبك﴾ النُّبُوَّة ﴿خير مِمَّا يجمعُونَ﴾ خير مِمَّا يجمع الْمُشْركُونَ من الدُّنْيَا.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: فَكَمَا فضلنَا بَعضهم على بعضٍ فِي الرزق وَفِي الْمنزلَة كَذَلِك (ل ٣١٥) اصْطَفَيْنَا للرسالة من نشَاء.
﴿وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَة﴾ تَفْسِير الْحسن: لَوْلَا أَن تجتمعوا على الْكفْر.
﴿لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا من فضَّة ومعارج عَلَيْهَا﴾ اي: درج ﴿عَلَيْهَا يظهرون﴾ أَي: يرقون إِلَى ظُهُور بُيُوتهم.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة ٣٤ إِلَى آيَة ٣٩.
﴿ولبيوتهم﴾ أَي: لجعلنا لبيوتهم ﴿أبوابا﴾ من فضَّة ﴿وسررا﴾ من فضَّة ﴿عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ﴾
﴿وَزُخْرُفًا﴾ والزخرف: الذَّهَب ﴿وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لما مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ يُسْتَمتع بِهِ ثمَّ يذهب ﴿وَالآخِرَةُ﴾ يَعْنِي: الْجنَّة ﴿عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
قَالَ محمدٌ: واحدُ المعارج: مَعْرَجٌ، وَيُقَال: ظَهرت على الْبَيْت إِذا عَلَوْت سطحه.
﴿وَمن يَعش عَن ذكر﴾ أَي: وَمن يعم عَن ذكر ﴿الرَّحْمَن﴾ أَي: الْمُشرك.
قَالَ محمدٌ: قِرَاءَة يحيى ﴿يغش﴾ بِفَتْح الشين، وَمن قَرَأَ ﴿يَعْشُ﴾ بِضَم الشين فَالْمَعْنى: وَمن يعرض عَن ذكر الرَّحْمَن، هَذَا قَول الزّجاج، قَالَ ابْن قُتَيْبَة المعني: يظلم بَصَره كَقَوْلِه: ﴿الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي﴾ قَالَ: وَالْعرب تَقول: عشوت إِلَى النَّار؛ إِذا استدللت إِلَيْهَا ببصر ضَعِيف، وَأنْشد للحُطيْئة.
184
185
قَوْله: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ﴾ سَبِيل الْهدى
﴿حَتَّى إِذا جَاءَنَا﴾ يَعْنِي: هُوَ وقرينه: شَيْطَانه ﴿قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين فبئس القرين﴾.
يَحْيَى: عَنْ أَبِي الأَشْهَبِ، عَنِ أبي مَسْعُود الجُرَيْري قَالَ: " إِن الْكَافِرَ إِذَا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ، وجد عِنْد رَأسه شَيْطَانه، فَيَأْخُذ بِيَدِهِ فَيَقُول: أَنا قرينك حَتَّى أَدخل أَنا وَأَنت جَهَنَّم ".
قَالَ محمدٌ: عِنْد ذَلِك يَقُول: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فبئس القرين!
قَالَ محمدٌ: قيل: معنى المشرقين هَا هُنَا الْمشرق وَالْمغْرب؛ كَمَا قَالُوا: سُنَّة العمرين؛ يُرَاد أَبُو بكر وَعمر، وَمثل هَذَا من الشّعْر:
(لنا قمراها والنجوم الطوالع... )
185
يُرِيد: الشَّمْس وَالْقَمَر.
186
قَوْله ﴿وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظلمتم﴾ إِذْ أشركتم ﴿أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مشتركون﴾ يقرن هُوَ وشيطانه فِي سلسلة وَاحِدَة، يتبرأ كل واحدٍ مِنْهُمَا من صَاحبه، ويلعن كل واحدٍ مِنْهُمَا صَاحبه.
قَالَ مُحَمَّد: ذكر مُحَمَّد بن يزِيد المبَرِّد أَن معنى هَذِه الْآيَة: أَنهم مُنِعُوا روحَ التأسِّي؛ لِأَن التأسِّي يُسَهِّل الْمُصِيبَة، فأعلموا أَنه لَا يَنْفَعهُمْ الِاشْتِرَاك فِي الْعَذَاب. وَأنْشد للخنساء.
(مَتى تأته تَفْشُو إِلَى ضوْء ناره تَجِد خير نَار عِنْدهَا خير موقد)
(وَلَوْلَا كَثْرَة الباكين حَولي على إخْوَانهمْ لقتلتُ نَفسِي)
(فَمَا يَبْكُونَ مثلَ أخي وَلَكِن أُعزِّي النَّفس عَنهُ بالتأسي)
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة ٤٠ إِلَى آيَة ٤٧.
قَوْله: ﴿أفأنت تسمع الصم﴾ يَعْنِي النَّبِي، تسمع الصم عَن الْهدى ﴿أَوْ تهدي الْعمي﴾ عَن الْعَمى، يَقُوله على الِاسْتِفْهَام، أَي: أَنَّك لَا تسمعهم وَلَا تهديهم يَعْنِي: من لَا يُؤمن.
﴿فإمَّا نذهبن بك﴾ أَي: نتوفينك إِلَى قَوْله: ﴿مُقْتَدِرُونَ﴾ أنزل الله آيَات فِي الْمُشْركين هَذِه وأشباهها مِمَّا وعدهم بِهِ من الْعَذَاب؛ فَكَانَ بعض ذَلِك يَوْم بدر، وَبَعضه يكون مَعَ قيام السَّاعَة بالنفخة الأولى؛ بهَا يكون هلاكُ كفَّار آخر هَذِه الْأمة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤١:﴿ فإما نذهبن بك... ﴾ أي : نتوفينك إلى قوله ﴿ مقتدرون( ٤١ ) ﴾ أنزل الله آيات في المشركين هذه وأشباهها مما وعدهم به من العذاب، فكان بعض ذلك يوم بدر، وبعضه يكون مع قيام الساعة بالنفخة الأولى ؛ بها يكون هلاك كفار آخر هذه الأمة.
﴿فَاسْتَمْسك بِالَّذِي أُوحِي إِلَيْك﴾ الْقُرْآن ﴿إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ وَهُوَ الْإِسْلَام.
﴿وَإنَّهُ لذكر لَك ولقومك﴾ يَعْنِي: قُريْشًا، أَي شرفٌ لَك ولقومك ﴿وسوف تسْأَلُون﴾ يَوْم الْقِيَامَة، قَالَ بَعضهم: عَن أَدَاء شكره.
﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ من رسلنَا﴾ تَفْسِير بَعضهم: كَانَ هَذَا لَيْلَة أسرِي بِهِ.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإهِ﴾ يَعْنِي: قومه.
﴿إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ﴾ استهزاء وتكذيبا.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة ٤٨ إِلَى آيَة ٥٦.
﴿وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أكبر من أُخْتهَا﴾ تَفْسِير الْحسن: كَانَت اليدُ أكبر من الْعَصَا ﴿وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ﴾ لَعَلَّ مَنْ بعدهمْ ممّن كَانَ على دينهم من الْكفَّار ﴿يَرْجِعُونَ﴾ إِلَى الْإِيمَان
﴿وَقَالُوا يَا أَيهَا السَّاحر ادْع لنا رَبك﴾ سَلْ لنا رَبك ﴿بِمَا عَهِدَ عنْدك﴾ فِيمَن آمن مِمَّن كشف الْعَذَاب عَنْهُم لَعَلَّهُم يُؤمنُونَ
﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هم ينكثون﴾ (ل ٣١٦) أَي: ينقضون عَهدهم.
﴿ونادى فِرْعَوْن فِي قومه﴾ حِين جَاءَهُ مُوسَى يَدعُوهُ إِلَى الله ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تجْرِي من تحتي﴾ أَي: فِي ملكي ﴿أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾
ثمَّ اسْتَأْنف الْكَلَام فَقَالَ: ﴿أَمْ أَنا خير﴾ أَي: بل أَنا خيرٌ ﴿مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مهين﴾ ضَعِيف ﴿وَلَا يكَاد يبين﴾ يَعْنِي: الْعقْدَة الَّتِي كَانَت فِي لِسَانه من الْجَمْرَة الَّتِي أَلْقَاهَا فِي فِيهِ وَهُوَ صَغِير حِين تنَاول لحية فِرْعَوْن، وَقد ذكرنَا ذَلِك قبل هَذَا
﴿فلولا﴾ فَهَلا، يَقُوله فِرْعَوْن ﴿أُلْقِيَ عَلَيْهِ﴾ على مُوسَى ﴿أَسْاوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ﴾ تَفْسِير الْحسن: مالٌ من الذَّهَب.
قَالَ محمدٌ: قيل: أَسَاورة جمعُ: أَسْوِرَة.
﴿أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مقترنين﴾ يَمْشُونَ جَمِيعًا عيَانًا يصدقونه بمقالته بِأَنَّهُ رَسُول الله.
﴿فَلَمَّا آسفونا﴾ أغضبونا
﴿فجعلناهم سلفا ومثلا﴾ قَالَ مُجَاهِد: يَقُول: جعلنَا كفارهم سلفا لكفار أمة مُحَمَّد ﴿وَمَثَلا للآخرين﴾ أَي: عِبْرَة لمن بعدهمْ.
188
قَالَ مُحَمَّد: وَمعنى ﴿سلفا﴾ أَي: قدمًا تقدَّموا؛ فِي قِرَاءَة من قَرَأَهَا بِفَتْح السِّين وَاللَّام.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة ٥٧ إِلَى آيَة ٦٠.
189
﴿وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلا إِذا قَوْمك مِنْهُ يصدون﴾ أَي: يَضْحَكُونَ؛ فِي قِرَاءَة من قَرَأَهَا بِكَسْر الصَّاد، وَمن قَرَأَهَا برفعها ﴿يصُدُّون﴾ فَهُوَ من الصدود؛ أَي: يفرون.
تَفْسِير الْكَلْبِيّ: " لما نزلت ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ قَامَ رَسُول الله مُقَابِلَ بَابِ الْكَعْبَةِ، ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِه الْآيَة، فوجَد مِنْهَا أهل مَكَّة وجدا شَدِيدا؛ فَدخل عَلَيْهِم ابْن الزِّبَعْرَى الشَّاعِر وقريش يَخُوضُونَ فِي ذكر هَذِه الْآيَة، فَقَالَ: أمحمدٌ تكلم بِهَذِهِ؟ ﴿قَالُوا: نعم، قَالَ: وَالله إِن اعْترف لي بِهَذَا لأَخْصُمَنَّه، فَلَقِيَهُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَرَأَيْتَ الْآيَةَ الَّتِي قَرَأْتَ آنِفا، أفينا وَفِي آلِهَتنَا نزلت خَاصَّةً أَمْ فِي الْأُمَمِ وَآلِهَتِهِمْ؟ قَالَ: لَا؛ بَلْ فِيكُمْ وَفِي آلِهَتكُم وَفِي الْأُمَم وآلهتهم: فقالي: خصمتُك وربِّ الْكَعْبَة﴾ أَلَيْسَ تُثْنِي على عِيسَى وَمَرْيَم وَالْمَلَائِكَة خيرا، وَقد علمت أَن النَّصَارَى تعبد عِيسَى
189
وَأُمِّهِ، وَإِنَّ طَائِفَةً مِنَ النَّاسِ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةِ، أَفَلَيْسَ هَؤُلَاءِ مَعَ أَلِهَتِنَا فِي النَّارِ؟! فَسَكَتَ رَسُولُ الله وضحكت قُرَيْش وضجوا،
190
وَقَالُوا: ﴿ءآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُو﴾ يعنون عِيسَى.
قَالَ اللَّه للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جدلا﴾ وَأنزل فِي عِيسَى وَأمه وَالْمَلَائِكَة ﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحسنى أُولَئِكَ عَنْهَا مبعدون﴾.
وَقد مضى تَفْسِير هَذَا.
قَالَ مُحَمَّد: قَوْله ﴿إِلَّا جدلا﴾ أَي: طلبا للمجادلة، يُقَال: جَدِلَ الرجل جَدَلًا فَهُوَ صَاحب جَدَلٍ.
﴿إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ﴾ بِالنُّبُوَّةِ؛ يَعْنِي: عِيسَى ﴿وَجَعَلْنَاهُ مَثَلا﴾ يَعْنِي: عِبْرَة ﴿لبني إِسْرَائِيل﴾ تَفْسِير مُجَاهِد: جعله الله عِبْرَة لَهُم بِمَا كَانَ يصنع من تِلْكَ الْآيَات، مِمَّا يبرىء الأكمه والأبرص وَمِمَّا علمه الله.
﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْض يخلفون﴾ أَي: يعْمرون الأَرْض بَدَلا مِنْكُم.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة ٦١ إِلَى آيَة ٦٦.
﴿وَإنَّهُ لعلم للساعة﴾ رَجَعَ إِلَى ذكر عِيسَى، قَالَ قَتَادَة: يَعْنِي: نزُول عِيسَى ﴿فَلا تمترن بهَا﴾ لَا تشكن فِيهَا.
قَالَ محمدٌ: قَوْله: ﴿لعلم للساعة﴾ فِي قِرَاءَة من قَرَأَ بِكَسْر الْعين، الْمَعْنى: نُزُوله؛ يُعْلَم بِهِ قرب السَّاعَة.
قَوْله ﴿وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ وَهُوَ الْإِسْلَام
﴿وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بعض الَّذِي تختلفون فِيهِ﴾ يَعْنِي: من تبديلهم التَّوْرَاة، وَكَانَ من الْبَينَات إحياؤه الْمَوْتَى بِإِذن الله وإبراؤه الأكمه والأبرص، وَمَا كَانَ يُخْبِرهُمْ بِهِ مِمَّا كَانُوا يَأْكُلُون ويدَّخرون فِي بُيُوتهم، وَمن البيِّنات الَّتِي جَاءَ بهَا أَيْضا: الْإِنْجِيل؛ فِيهِ مَا أُمروا بِهِ ونهوا عَنهُ، قَالَ: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وأطيعون﴾ يَقُوله عِيسَى لَهُم
﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هَذَا صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ يَعْنِي: الْإِسْلَام
﴿فَاخْتلف الْأَحْزَاب من بَينهم﴾ يَعْنِي: النَّصَارَى.
قَالَ قَتَادَة: " ذُكر لنا أَنه لما رُفع عِيسَى انتخبت بَنو إِسْرَائِيل أَرْبَعَة من فقهائهم فَقَالُوا للْأولِ: مَا تَقول فِي عِيسَى؟ قَالَ: هُوَ الله هَبَط إِلَى الأَرْض، فخلق مَا خلق، وَأَحْيَا مَا أَحْيَا، ثمَّ صعد إِلَى السَّمَاء. فتابعه على ذَلِك أنَاس (ل ٣١٧) فَكَانَت اليعقوبية من النَّصَارَى، فَقَالَ الثَّلَاثَة الْآخرُونَ: نشْهد أَنَّك كاذبٌ! فَقَالُوا للثَّانِي: مَا تَقول فِي عِيسَى؟ فقالي هُوَ ابْن الله فتابعه على ذَلِك
191
أناسٌ، فَكَانَت النسطورية من النَّصَارَى، فَقَالَ الِاثْنَان الْآخرَانِ: نشْهد إِنَّك كاذبٌ ﴿فَقَالُوا للثَّالِث: مَا تَقول فِي عِيسَى؟ فَقَالَ: هُوَ إِلَه وَأمه إِلَه وَالله إِلَه. فتابعه على ذَلِك أناسٌ من النَّاس، فَكَانَت الإسرائيلية من النَّصَارَى، فَقَالَ الرَّابِع: أشهد أَنَّك كاذبٌ﴾ وَلكنه عبد الله وَرَسُوله وَكلمَة الله وروحه. فاختصم الْقَوْم، فَقَالَ المسلمُ: أنْشدكُمْ الله، هَل تعلمُونَ أَن عِيسَى كَانَ يَطِعم الطَّعَام، وَأَن الله لَا يَطعم الطَّعَام؟ ﴿قَالُوا: اللَّهُمَّ نعَمْ. قَالَ: هَل تعلمُونَ أَن عِيسَى كَانَ ينَام، وَأَن الله لَا ينَام؟﴾ قَالُوا: اللَّهُمَّ نعم. فخصمهم الْمُسلم؛ فاقتتل الْقَوْم، فذُكر لنا أَن اليعقوبية ظَهرت يَوْمئِذٍ وَأُصِيب الْمُسلم ".
قَالَ الله: ﴿فويل للَّذين ظلمُوا﴾ أشركوا، الْآيَة.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة ٦٧ إِلَى آيَة ٧٣.
192
﴿الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ اسْتثْنى من الأخلاء الْمُتَّقِينَ، فَقَالَ: إِلَّا الْمُتَّقِينَ مِنْهُم؛ فَإِنَّهُم لَيْسُوا بأعداء بَعضهم لبَعض
(يَا
192
عِبَاديِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} يَقُوله يَوْم الْقِيَامَة.
قَالَ محمدٌ: ﴿يَا عبَادي﴾ بِإِثْبَات الْيَاء وحذفها، وَقد تقدم القَوْل فِي مثل هَذَا.
193
﴿ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ﴾ يَعْنِي: وحلائلكم ﴿تُحْبَرُونَ﴾ تكرمون.
قَالَ محمدٌ: الحَبْرة فِي كَلَام الْعَرَب الْمُبَالغَة فِي الْإِكْرَام، والحَبْرة أَيْضا الْمُبَالغَة فِيمَا وصف بالجمال.
﴿يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ﴾ يطوف على أَدْنَاهُم منزلَة سَبْعُونَ ألف غُلَام بسبعين ألف صَحْفَة من ذهب، يُغْدى عَلَيْهِ بهَا، فِي كل واحدةٍ مِنْهَا لون لَيْسَ فِي صاحبتها؛ يَأْكُل من آخرهَا كَمَا يَأْكُل من أَولهَا، ويجد طعم آخرهَا كَمَا يجد طعم أَولهَا لَا يشبه بعضُه بَعْضًا، وَيرَاح عَلَيْهِ بِمِثْلِهَا، وَيَطوف على أرفعهم منزلَة كل يَوْم سَبْعمِائة ألف غُلَام، مَعَ كل غُلَام سَبْعمِائة ألف صَحْفَة من ذهب فِيهَا لون من الطَّعَام لَيْسَ فِي صاحبتها، يَأْكُل من آخرهَا كَمَا يَأْكُل من أَولهَا، ويجد طعم آخرهَا كَمَا يجد طعم أَولهَا، وَلَا يشبه بعضه بَعْضًا، قَالَ: ﴿وَأَكْوَابٍ﴾ أَي: وَيُطَاف عَلَيْهِم بأكواب، قَالَ قَتَادَة: الكوب: الْمُدَوَّرُ الْقَصِيرُ الْعُنُقِ الْقَصِيرُ الْعُرْوَةِ، والإبريق الطَّوِيل الْعُنُق الطَّوِيل العروة ﴿وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ﴾ مَا خطر على بالهم من شيءٍ أَتَاهُم من غير أَن
193
يدعوا بِهِ، وَإِن أحدهم ليَكُون فِي فَمه الطَّعَام، فيخطر على باله طعامٌ غَيره، فيتحول ذَلِك الطَّعَام فِي فِيهِ.
قَالَ محمدٌ: تقْرَأ (تشْتَهي) و (تشتهيه) بِإِثْبَات الْهَاء، وَأكْثر الْمَصَاحِف بِغَيْر هَاء، وَفِي بَعْضهَا الْهَاء. ذكره الزّجاج.
194
﴿وَتلك الْجنَّة﴾ الَّتِي وصف ﴿أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ على قدر أَعْمَالهم، ورَّث الله الْمُؤمنِينَ منَازِل الْكفَّار الَّتِي أُعدت لَهُم لَو آمنُوا مَعَ مَنَازِلهمْ، وَهِي مثل الَّتِي فِي الْمُؤمنِينَ ﴿أُولَئِكَ هم الوارثون﴾.
﴿لكم فِيهَا فَاكِهَة كَثِيرَة﴾.
يحيى (عَنْ عُثْمَانَ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ لَيَتَنَاوَلُونَ مِنْ قُطُوفِهَا وَهُمْ مُتَّكِئُونَ عَلَى فُرُشِهِمْ فَمَا تَصِلُ إِلَى فِي أَحَدِهِمْ؛ حَتَّى يُبْدِلَ اللَّهُ مَكَانهَا أُخْرَى ".
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة ٧٤ إِلَى آيَة ٨٠.
﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ﴾ ﴿الْمُشْركين﴾ (فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}
﴿لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ﴾.
194
الْعَذَاب ﴿وهم فِيهِ مبلسون﴾ يائسون من أَن يخرجُوا مِنْهَا،
195
قَالَ: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ﴾ يَعْنِي: كفار الْأُمَم كلهَا؛ فنعذبهم فِي الْآخِرَة بِغَيْر ذَنْب ﴿وَلَكِنْ كَانُوا هم الظَّالِمين﴾ لأَنْفُسِهِمْ بكفرهم.
قَالَ محمدٌ: ﴿هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ هم هَا هُنَا صلَة؛ فَلَا مَوضِع لَهَا فِي الْإِعْرَاب.
﴿وَنَادَوْا يَا مَالك﴾ وَهُوَ خَازِن النَّار مَلَكٌ من الْمَلَائِكَة ﴿ليَقْضِ علينا رَبك﴾ (ل ٣١٨) أَي: يميتنا، يدعونَ مَالِكًا؛ فَلَا يُجِيبهُمْ مِقْدَار ثَمَانِينَ سنة، ثمَّ يكون جَوَاب مَالك إيَّاهُم: ﴿إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ﴾.
﴿لقد جئناكم بِالْحَقِّ﴾ بِالْقُرْآنِ؛ يَقُوله للأحياء ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ للحق كَارِهُون﴾ يَعْنِي: من لَا يُؤمن
﴿أم أبرموا أمرا﴾ كَادُوا كيدًا بمحمدٍ ﴿فَإِنَّا مُبْرِمُونَ﴾ كائدون لَهُم بِالْعَذَابِ، وَذَلِكَ مَا كَانُوا اجْتَمعُوا لَهُ فِي دَار الندوة فِي أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قَوْله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ الْآيَة، وَقد مضى تَفْسِير ذَلِك فِي سُورَة الْأَنْفَال.
﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سرهم ونجواهم﴾ مَا كَانُوا يتناجون فِيهِ من أَمر النَّبِي ﴿بلَى وَرُسُلنَا﴾ (الْمَلَائِكَة) الْحفظَة ﴿لديهم﴾ عِنْدهم ﴿يَكْتُبُونَ﴾ أَعْمَالهم.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة ٨١ إِلَى آيَة ٨٧.
﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ﴾ أَي: مَا كَانَ للرحمن ولدٌ، ثمَّ انْقَطع الْكَلَام، ثمَّ قَالَ: ﴿فَأَنا أول العابدين﴾ تَفْسِير بَعضهم: فَأَنا أول الدائنين من هَذِه الْأمة بِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ولد.
﴿سُبْحَانَ رب السَّمَاوَات وَالْأَرْض﴾ ينزِّه نَفسه: رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} عَمَّا يكذبُون.
﴿فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا﴾ فقد أَقمت عَلَيْهِم الْحجَّة ﴿حَتَّى يُلاَقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَهَذَا قبل أَن يُؤمر بقتالهم.
﴿وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ﴾ هُوَ إِلَه أهل السَّمَاء، وإله أهل الأَرْض ﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ﴾ فِي أمره ﴿الْعَلِيمُ﴾ بخلقه.
قَالَ محمدٌ: الْمَعْنى: هُوَ المُوَحَّدُ فِي السَّمَاء وَفِي الأَرْض؛ وَإِلَيْهِ ذهب يحيى.
﴿وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ﴾ علم مَجِيء السَّاعَة، لَا يعلم علم مجيئها غَيره.
﴿وَلاَ يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ﴾ يَعْنِي: الْأَوْثَان لَا تملك أَن تشفع لعابدها ﴿إِلاَ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ﴾ يَقُول: إِنَّمَا الشَّفَاعَة لمن شهد بِالْحَقِّ فِي الدُّنْيَا ﴿وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ أَنه الْحق؛ تشفع لَهُم الْمَلَائِكَة.
﴿فَأنى يؤفكون﴾ يصدون فيعبدون غَيره.
تَفْسِير سُورَة الزخرف من الْآيَة ٨٨ إِلَى آيَة ٨٩.
﴿وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلاَء قَوْمٌ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ هَذَا قَول النَّبِي يشكو قومه إِلَى الله.
قَالَ يحيى: وَهِي تُقرأ على ثَلَاثَة أوجه: ﴿قيلَه﴾ و ﴿قيلُه﴾ و ﴿قيلِه﴾ فَمن قَرَأَهَا بالنْصب رَجَعَ إِلَى قَوْله: ﴿أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نسْمع سرهم ونجواهم﴾ وَلَا نسْمع قيلَه، وَمن قَرَأَهَا بِالْجَرِّ رَجَعَ إِلَى قَوْله: ﴿وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ ملك السَّمَاوَات وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَة﴾ وَعلم قيله، وَمن قَرَأَهَا بِالرَّفْع فَهُوَ كَلَام مُبْتَدأ يُخْبَر بقوله.
قَالَ الله: ﴿فاصفح عَنْهُم﴾ وَهِي منسوخةٌ نسختها الْقِتَال ﴿وَقُلْ سَلام﴾ كلمة حلمٍ، وَكَانَ ذَلِك أَيْضا قبل أَن يُؤمر بقتالهم ﴿فَسَوف تعلمُونَ﴾ يَوْم الْقِيَامَة، وَهِي كلمة وَعِيد.
197
تفسيرسورة الدُّخان وَهِي مَكِّيَّة كلهَا

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

تَفْسِير سُورَة الدُّخان من الْآيَة ١ إِلَى آيَة ٩.
198
Icon