تفسير سورة الذاريات

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير سورة الذاريات
وهي مكية في قول الجميع.
قوله تعالى :( والذاريات ذروا ) وروى أبو الطفيل أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه خطب وقال : سلوني : فوالله لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة إلا حدثتكم به، سلوني عن كتاب الله، ما من آية نزلت إلا وأنا أعلم بليل نزلت أم بنهار، في سهل أم في جبل، وفيم أنزلت، فقام ابن الكوا وقال : ما لذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا ؟ فقال علي رضي الله عنه سل تفقها، ولا تسأل تعنتا، " والذاريات ذروا " هي الرياح، فالحاملات وقرا " هي السحاب " فالجاريات يسرا " هي السفن " فالمقسمات أمرا هي الملائكة، ومثل هذا عن ابن عباس، وعلى أكثر هذا المفسرين.

قَوْله تَعَالَى: ﴿والذاريات ذَروا﴾ وروى أَبُو الطُّفَيْل أَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ خطب وَقَالَ: سلوني: فوَاللَّه لَا تَسْأَلُونِي عَن شَيْء يكون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا حدثتكم بِهِ، سلوني عَن كتاب الله، مَا من آيَة نزلت إِلَّا وَأَنا أعلم بلَيْل نزلت أم بنهار، فِي سهل أم فِي جبل، وفيم أنزلت، فَقَامَ ابْن الكوا وَقَالَ: مَا لذاريات ذَروا فَالْحَامِلَات وقرا فَالْجَارِيَات يسرا فَالْمُقَسِّمَات أمرا؟ فَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ سل تفقها، وَلَا تسْأَل تعنتا، " والذاريات ذَروا " هِيَ الرِّيَاح، فَالْحَامِلَات وقرا " هِيَ السَّحَاب " فَالْجَارِيَات يسرا " هِيَ السفن " فَالْمُقَسِّمَات أمرا هِيَ الْمَلَائِكَة، وَمثل هَذَا عَن ابْن عَبَّاس، وعَلى أَكثر هَذَا الْمُفَسّرين.
فَقَوله: ﴿والذاريات﴾ هِيَ من ذرت الرّيح التُّرَاب وأذرته إِذا فرقته، وَيُقَال: إِن الذاريات هِيَ النِّسَاء الْحَوَامِل تذرين الْأَوْلَاد، وَالْأول هُوَ الْمُخْتَار.
وَقَوله: ﴿فَالْحَامِلَات وقرا﴾ قيل: إِنَّهَا الرِّيَاح تحمل السَّحَاب، والوقر هُوَ السَّحَاب.
وَقَوله: ﴿فَالْجَارِيَات يسرا﴾ يُقَال: إِنَّهَا الرِّيَاح أَيْضا تجْرِي بسهوله وَيسر، وَيُقَال: ﴿فَالْجَارِيَات يسرا﴾ هِيَ: الْكَوَاكِب السبة: الشَّمْس، وَالْقَمَر، وَالْمُشْتَرِي، وَعُطَارِد، والزهرة، وبهرام، وزحل، وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمُخْتَار.
وَقَوله: ﴿فَالْمُقَسِّمَات أمرا﴾ يُقَال: إِنَّهَا الرِّيَاح أَيْضا. وَمعنى قسْمَة الْأَمر: أَن الرِّيَاح تقسم الْمَطَر فتصب الْبَعْض وَلَا تصب الْبَعْض، وَالْقَوْل الأول هُوَ الْمُخْتَار، وَالْمعْنَى من الْمَلَائِكَة هم أَرْبَعَة: جِبْرِيل، وَمِيكَائِيل، وإسرافيل، وعزرائيل؛ فجبريل على الْوَحْي وَالْعَذَاب، وَمِيكَائِيل على الرزق والمطر والرياح، وإسرافيل على الصُّور، وعزرائيل على قبض الْأَرْوَاح، وَقَالَ الْأَعْشَى فِي وصف السَّحَاب.
250
﴿أمرا (٤) إِنَّمَا توعدون لصَادِق (٥) وَإِن الدّين لوَاقِع (٦) وَالسَّمَاء ذَات الحبك (٧) إِنَّكُم لفي قَول مُخْتَلف (٨) ﴾
251
وَقَوله: ﴿إِنَّمَا توعدون لصَادِق﴾ قَالَ مُجَاهِد مَعْنَاهُ: أَن الْقِيَامَة كائنة.
وَقَوله: ﴿لصَادِق﴾ أَي: ذُو صدق، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْله: ﴿فِي عيشة راضية﴾ أَي: ذَات رضَا، وَيُقَال: سمي الْوَعْد صَادِقا؛ لِأَن الصدْق يَقع عَلَيْهِ، كَمَا يُقَال: ليل نَائِم، وَخبر كَاذِب، وسر كاتم، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَقَوله: ﴿وَإِن الدّين لوَاقِع﴾ قَالَ قَتَادَة: إِن الْجَزَاء لوَاقِع. قَالَ لبيد شعرًا:
(كَأَن مشيتهَا من بَيت جارتها مشي السَّحَاب لَا ريث وَلَا عجل)
(قوم يدينون بالنوعين مثلهمَا بالسوء سوءا وبالإحسان إحسانا)
يَعْنِي: يجازون. فَإِن قيل: مَا معنى الْقسم بالرياح والسفن والسحاب وَمَا أشبه ذَلِك؟ فَكيف يقسم الله بخلقه؟ وَالْجَوَاب مَعْنَاهُ: وَرب الذاريات، وَرب الْحَامِلَات والجاريات. وَيُقَال: إِن قسمه بالشَّيْء يدل على جلالة ذَلِك وَعظم مَنْفَعَة الْعباد بِهِ. وَقيل: التَّقْدِير: أقسم بالذاريات.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالسَّمَاء ذَات الحبك﴾ قَالَ عِكْرِمَة: ذَات الْخلق الْحسن، وَقيل: ذَات التَّأْلِيف، الْمُحكم: وَيُقَال ذَات الطرائق فِي الرمل وَالْمَاء إِذا ضربتها الرِّيَاح حبائك، وَيُقَال: الحبك هُوَ بهاؤها واستواؤها، وَيُقَال: شدتها وإحكامها، قَالَ الشَّاعِر:
(مكلل بأصول النبت تنسجه... ريح خريق مايد حبك)
وَقَالَ أَبُو كثير الْهُذلِيّ:
(مِمَّن حملن بِهِ وَهن عواقد... حبك النطاق تشب غير مهبل)
وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ: وَالسَّمَاء ذَات الحبك أَي: النُّجُوم.
وَقَوله: ﴿إِنَّكُم لفي قَول مُخْتَلف﴾ يَعْنِي: مُصدق ومكذب، وَيُقَال مَعْنَاهُ: أَن
251
﴿يؤفك عَنهُ من أفك (٩) قتل الخراصون (١٠) الَّذين هم فِي غمرة ساهون (١١) ﴾ بَعضهم يَقُول: هُوَ سَاحر، وَبَعْضهمْ يَقُول: شَاعِر، وَبَعْضهمْ يَقُول: مَجْنُون، وعَلى هَذَا وَقع الْقسم، وَقيل: ﴿إِنَّكُم لفي قَول مُخْتَلف﴾ أَي: مُنَاقض، ذكره الْقفال الشَّاشِي. وَمعنى التَّنَاقُض فِي هَذَا: أَنهم أقرُّوا بالنشأة الأولى، وأنكروا النشأة الْأُخْرَى، وَهَذَا تنَاقض؛ لِأَن من قدر على النشأة الأولى فَهُوَ على النشأة الْأُخْرَى أقدر.
252
وَقَوله: ﴿يؤفك عَنهُ من أفك﴾ أَي: يصرف عَنهُ من صرف، وَقيل: يصرف عَن الْإِقْرَار بِهِ من صرف عَنهُ فِي علم الله وَحكمه، وَيُقَال: من صرف عَن هَذَا الْخَيْر فقد صرف عَن الْخَيْر كُله، كَمَا يُقَال: من حرم عَن كَذَا فقد حرم. وَفِي التَّفْسِير: أَن أَمر النَّبِي لما انْتَشَر من قبائل الْعَرَب جعلُوا يبعثون الْوَاحِد والاثنين يسْأَلُون عَن خَبره، فَكَانَ الْمُشْركُونَ فِي أَيَّام الْمَوْسِم يبعثون النَّاس فِي الطرقات حَتَّى إِذا جَاءَ السَّائِل. [وسألهم] عَن مُحَمَّد قَالُوا: هُوَ مَجْنُون كَذَّاب، وَذكروا أَمْثَال هَذَا، [وَكَانُوا] يرجعُونَ قبل أَن يلقوه، وَيَقُولُونَ: قومه أعلم بِهِ.
وَقَوله: ﴿قتل الخراصون﴾ أَي: لعن الكذابون، وَهَذَا هُوَ الْمُتَّفق عَلَيْهِ من أهل التَّفْسِير. وَعَن بَعضهم: أَنه لَا يعرف قتل بِمَعْنى لعن فِي اللُّغَة، وَمَعْنَاهُ: أَن الخراصين قد أَتَوا بِمَا يسْتَحقُّونَ [بِهِ] الْقَتْل، ولعنة الله إيَّاهُم إهلاك لَهُم، فَهُوَ قَتلهمْ. والخارص هُوَ الَّذِي يَقُول بالحدس وَالظَّن.
وَقَوله: ﴿الَّذين هم فِي غمرة ساهون﴾ قَالَ السدى: فِي غَفلَة لاهون، وَيُقَال: فِي حيرة وعمى، وَقيل: فِي شكّ وجهالة، كَأَن الْجَهْل والعمى غمر حَالهم، وَمِنْه المَاء الْغمر إِذا كَانَ يُغطي من ينزل فِيهِ. وَيُقَال: ساهون يتمادون يَعْنِي: أَن الشَّك والضلالة يتمادى بهم.
252
﴿يسْأَلُون أَيَّانَ يَوْم الدّين (١٢) يَوْم هم على النَّار يفتنون (١٣) ذوقوا فتنتكم هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُون (١٤) إِن الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات وعيون (١٥) آخذين مَا آتَاهُم رَبهم إِنَّهُم كَانُوا من قبل ذَلِك محسنين (١٦) كَانُوا قَلِيلا من اللَّيْل مَا يهجعون (١٧) ﴾
253
وَقَوله: ﴿يسْأَلُون أَيَّانَ يَوْم الدّين﴾ أَي: مَتى يَوْم الْجَزَاء، وَكَانُوا يسْأَلُون عَن ذَلِك تعنتا وتكذيبا.
وَقَوله: ﴿يَوْم هم على النَّار يفتنون﴾ أَي: يُعَذبُونَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: يحرقون، وَذكره القتيبي وَغَيره. وَيُقَال: يفتنون أَي: يدْخلُونَ النَّار، وَمِنْه فتنت الذَّهَب، وَقد بَينا من قبل.
وَقَوله: ﴿ذوقوا فتنتكم﴾ أَي: عذابكم.
وَقَوله: ﴿هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُون﴾ وَمعنى استعجالهم: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ مَتى يَوْم الدّين، مَتى يَوْم الْحساب، مَتى يَوْم الْقِيَامَة، وَالْمرَاد من الْآيَة أَنه يُقَال لَهُم ذَلِك.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الْمُتَّقِينَ فِي جنَّات وعيون﴾ أَي: بساتين وأنهار.
وَقَوله: ﴿آخذين مَا آتَاهُم رَبهم﴾ أَي: آخذين مَا أَعْطَاهُم رَبهم، وَمعنى الْأَخْذ هُوَ دُخُولهمْ الْجنَّة ووصولهم إِلَى مَا وعدوا من الثَّوَاب.
وَقَوله: ﴿إِنَّهُم كَانُوا قبل ذَلِك محسنين﴾ أَي: من قبل أَن ينالوا مَا نالوا محسنين فِي الدُّنْيَا. وَمعنى الْإِحْسَان هَاهُنَا هُوَ طَاعَة الله تَعَالَى، ثمَّ فسر فَقَالَ: ﴿كَانُوا قَلِيلا من اللَّيْل مَا يهجعون﴾ قل إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: كَانُوا يقومُونَ أَكثر اللَّيْل. وَعَن الضَّحَّاك أَن قَوْله: ﴿قَلِيلا﴾ يَقع على النَّاس، وَمَعْنَاهُ: أَن قَلِيلا من النَّاس كَانُوا لَا يهجعون. وَعَن سعيد بن جُبَير أَن مَعْنَاهُ: قَلما مرت عَلَيْهِم لَيْلَة لم يصلوا فِيهَا. وَقَالَ الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ: مدوا الصَّلَاة إِلَى السحر، ثمَّ اسْتَغْفرُوا الله. وَعَن أنس بن مَالك مَعْنَاهُ: كَانُوا يصلونَ بَين الْعشَاء وَالْعَتَمَة، وَهَذَا أثر مُسْند. وَيُقَال: إِنَّه فِي أهل قبَاء كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك. وَعَن بَعضهم أَن مَعْنَاهُ: كَانُوا لَا ينامون حَتَّى يصلوا الْعشَاء الْآخِرَة.
253
﴿وبالأسحار هم يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوَالهم حق للسَّائِل والمحروم (١٩) وَفِي﴾
254
وَقَوله: ﴿وبالأسحار هم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الاسْتِغْفَار نَفسه، وَالْآخر أَن مَعْنَاهُ: الصَّلَاة. وَقد كَانَ فِي قيام اللَّيْل من دأب أَصْحَاب رَسُول الله وَالتَّابِعِينَ من بعد. رُوِيَ عَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب وَكَانَ جارا لعمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: عجبا لعمر نَهَاره صِيَام وحوائج النَّاس، وَلَيْلَة قيام. وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ يُصَلِّي أَكثر اللَّيْل. وَعَن عُثْمَان أَنه كَانَ يحيي اللَّيْل بِرَكْعَة، وَهِي وتره. وَعَن ابْن عمر أَنه كَانَ لَا ينَام من اللَّيْل إِلَّا الْقَلِيل. وَعَن شَدَّاد بن أَوْس أَنه كَانَ إِذا مَال إِلَى فرَاشه يكون كالحية على المقلاة، ثمَّ يَقُول: إِن النَّار منعتني النّوم، ثمَّ يقوم فَيصَلي حَتَّى يصبح. وَحَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ مَعْرُوف " أَنه كَانَ يقوم اللَّيْل ويصوم النَّهَار إِلَى أَن سهل عَلَيْهِ رَسُول الله بعض ذَلِك ".
وَقَوله: ﴿وَفِي أَمْوَالهم حق﴾ يُقَال: إِنَّه الزَّكَاة الْمَفْرُوضَة، وَيُقَال: مَا سوى الزَّكَاة من الْحُقُوق، وَذَلِكَ أَن يحمل كلا، أَو يصل رحما، أَو يُعْطي فِي نائبة، أَو يعين ضَعِيفا.
وَقَوله: ﴿للسَّائِل﴾ هُوَ الطّواف على الْأَبْوَاب. وَيُقَال: كل من سَأَلَ.
وَقَوله: ﴿والمحروم﴾ فِيهِ أَقْوَال: قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ المحارف، وَهُوَ الَّذِي لَا يَتَيَسَّر لَهُ كسب وَلَا معيشة. وَعَن بَعضهم: هُوَ الَّذِي لَا سهم لَهُ من الْغَنِيمَة، وَقد ضعف هَذَا القَوْل؛ لِأَن السُّورَة مَكِّيَّة، والغنائم كَانَت بعد الْهِجْرَة.
وَيُقَال: المحروم هُوَ الَّذِي لَا يسْأَل النَّاس، وَلَا يفْطن لَهُ فَيعْطى.
وَعَن الْحسن بن مُحَمَّد الْحَنَفِيَّة: هُوَ الَّذِي أَصَابَته (الْجَائِحَة) فِي مَاله، وَهَذَا قَول حسن يشْهد لَهُ قَوْله تَعَالَى فِي سُورَة " ن " ﴿فَلَمَّا رَأَوْا قَالُوا إِنَّا لضالون بل نَحن محرومون﴾ وَكَانَ قد هلك مَالهم بالجائحة. وَيُقَال: المحروم هُوَ الْكَلْب، ذكره النقاش فِي تَفْسِيره، وَرَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن، وَعمر بن عبد الْعَزِيز. رُوِيَ
254
﴿الأَرْض آيَات للموقنين (٢٠) وَفِي أَنفسكُم أَفلا تبصرون (٢١) وَفِي السَّمَاء رزقكم وَمَا توعدون (٢٢) فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْض إِنَّه لحق مثل مَا أَنكُمْ تنطقون (٢٣) هَل﴾ أَن عمر بن عبد الْعَزِيز كَانَ يَأْكُل وَثمّ كلب، فَأمر أَن يلقى لَهُ الطَّعَام، وَقَالَ: إِنِّي إخال أَنه المحروم.
255
وَقَوله: ﴿وَفِي الأَرْض آيَات للموقنين﴾ أَي: دلالات وَعبر.
وَقَوله: ﴿وَفِي أَنفسكُم أَفلا تبصرون﴾ قَالَ عبد الله بن الزبير مَعْنَاهُ: سَبِيل الْخَلَاء وَالْبَوْل. وَيُقَال: مَا يدْخل فِي جَوْفه وَمَا يخرج مِنْهُ. وَالْأولَى أَن يُقَال: هُوَ سَائِر الْآيَات الَّتِي فِي النَّفس مِمَّا يدل على أَن لَهَا خَالِقًا وصانعا.
وَقَوله: ﴿وَفِي السَّمَاء رزقكم﴾ أَي: الْمَطَر، وَيُقَال: إِن مَعَ كل قَطْرَة مَكْتُوب رزق فلَان.
وَقَوله: ﴿وَمَا توعدون﴾ قَالَ عَطاء: الثَّوَاب وَالْعِقَاب. وَالْعِقَاب.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ: الْخَيْر وَالشَّر. وَالْمَعْرُوف أَنه الْجنَّة؛ لِأَنَّهَا فِي السَّمَاء عِنْد سِدْرَة الْمُنْتَهى، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿عِنْدهَا جنَّة المأوى﴾ وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: ﴿وَفِي السَّمَاء رزقكم﴾ الثَّلج، وكل مَا نزل من السَّمَاء فَهُوَ مذاب من الثَّلج.
وَعَن بَعضهم: أَنه يحْتَمل " وَفِي لسماء رزقكم " أَي: تَقْدِير رزقكم.
وَقَوله: ﴿فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْض إِنَّه الْحق﴾ يعْنى أَن الْوَعْد حق وَمَا ذكرت أَن فِي السَّمَاء رزقكم وَمَا توعدون حق. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: إِنَّه لحق يَعْنِي: مَا سبق من أول السُّورَة إِلَى هَذَا الْموضع.
وَقَوله: ﴿مثل مَا أَنكُمْ تنطقون﴾ رُوِيَ عَن رَسُول الله أَنه قَالَ: " ويل لقوم يقسم لَهُم رَبهم ثمَّ لَا يصدقونه " رَوَاهُ الْحسن مُرْسلا. وَمعنى قَوْله: ﴿مثل مَا أَنكُمْ تنطقون﴾ يَعْنِي: أَنه حق مثل نطقكم، كَمَا يَقُول الْقَائِل لغيره: إِنَّه لحق كَمَا أَنَّك
255
﴿أَتَاك حَدِيث ضيف إِبْرَاهِيم الْمُكرمين (٢٤) إِذْ دخلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاما قَالَ سَلام قوم منكرون (٢٥) فرَاغ إِلَى أَهله فجَاء بعجل سمين (٢٦) ﴾ هَاهُنَا، أَو مَا كَمَا أَنَّك تَتَكَلَّم.
256
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَل أَتَاك حَدِيث ضيف إِبْرَاهِيم الْمُكرمين﴾ قد ذكرنَا من قبل، وإكرامه إيَّاهُم هُوَ خدمتهم بِنَفسِهِ. وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي شُرَيْح الْخُزَاعِيّ وَغَيره أَن النَّبِي قَالَ: " من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَليُكرم ضَيفه وَمن كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فليحسن إِلَى جَاره وَمن كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر فَلْيقل خيرا أَو ليصمت ".
قَالَ رَضِي الله عَنهُ: أخبرنَا أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة، أخبرنَا ابْن فراس، أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد الْمُقْرِئ، أخبرنَا جدي مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد، عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن نَافِع بن جُبَير، عَن [أبي] شُرَيْح، عَن النَّبِي الحَدِيث.
والكرامة إيَّاهُم هُوَ تَعْجِيل الطَّعَام.
وَقَوله: ﴿إِذْ دخلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاما﴾ وَقُرِئَ: " فَقَالُوا سلما " فَمَعْنَى قَوْله: ﴿سَلاما﴾ أَي: سلمُوا سَلاما، وَمعنى قَوْله: " سلما " أَي: عَن سلم.
وَقَوله: ﴿قَالَ سَلام﴾ هُوَ جَوَاب سلامهم.
وَقَوله: ﴿قوم منكرون﴾ إِنَّمَا قَالَ ذَلِك لِأَنَّهُ أنكر هيئتهم، وَلم يكن رَآهُمْ من قبل.
قَالَ الشَّاعِر:
(فأنكرتني وَمَا كَانَ الَّذِي (نكرت)
من الْحَوَادِث إِلَّا الشيب والصلعا)
وَيُقَال: ﴿قوم منكرون﴾ أَي: يخَافُونَ، يُقَال: أنْكرت فلَانا إِذا خفته.
وَقَوله: ﴿فرَاغ إِلَى أَهله فجَاء بعجل سمين﴾ فِي الْقِصَّة: أَن أَكثر أَمْوَال إِبْرَاهِيم
256
﴿فقربه إِلَيْهِم قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فأوجس مِنْهُم خيفة قَالُوا لَا تخف وبشروه بِغُلَام عليم (٢٨) فَأَقْبَلت امْرَأَته فِي صرة فصكت وَجههَا وَقَالَت عَجُوز عقيم (٢٩) قَالُوا﴾ كَانَ هُوَ الْبَقر، وَكَانَ يُسمى أَبَا الضيفان، وَيُقَال: كَانَ يمشي ميلًا وميلين فِي طلب (الضَّيْف)، فَكَانَ لَا يَأْكُل إِلَّا مَعَ الضَّيْف.
وَقَوله: ﴿فرَاغ﴾ أَي: ذهب خُفْيَة.
257
وَقَوله: ﴿فقربه إِلَيْهِم قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ﴾ فِي الْآيَة حذف، وَتَقْدِيره: فقربه إِلَيْهِم فَلم يَأْكُلُوا قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ. وَفِي الْقِصَّة: أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ إِذا قعد مَعَ الضَّيْف نكس رَأسه، وَجعل يَأْكُل وَلَا ينظر إِلَى الضَّيْف، فَفعل مثل ذَلِك مَعَ الْمَلَائِكَة، وهم أَربع: جِبْرِيل، وَمِيكَائِيل، وروبيل، وَملك آخر، فَقَالَت سارة: ارْفَعْ رَأسك فهم لَا يَأْكُلُون، فَرفع رَأسه وَقَالَ: أَلا تَأْكُلُونَ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فأوجس مِنْهُم خيفة﴾ أَي: دخل فِي نَفسه مِنْهُم خيفة. وَفِي التَّفْسِير: أَن السَّبَب فِي ذَلِك أَن الرجل كَانَ إِذا طرقه ضيف (فَقدم) إِلَيْهِ شَيْئا وَأكله أَمن مِنْهُ، وَإِن لم يَأْكُل خَافَ شَره.
وَقَوله: ﴿قَالُوا لَا تخف﴾ يَعْنِي: نَحن مَلَائِكَة الله فَلَا تخف.
وَقَوله: ﴿وبشروه بِغُلَام عليم﴾ أجمع الْمُفَسِّرُونَ على أَنه إِسْحَاق عَلَيْهِ السَّلَام.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَأَقْبَلت امْرَأَته فِي صرة﴾ أَي: صَيْحَة، كَأَنَّهَا ولولت مثل مَا تفعل النِّسَاء، وَيُقَال: فِي صرة هُوَ حِكَايَة صَوتهَا فِي الضحك، وَقد قَالَ فِي مَوضِع آخر: ﴿فَضَحكت﴾ وَهُوَ مثل: صرير الْبَاب، وخرير المَاء، والقهقهة غير ذَلِك، فالقهقهة أخذت من حِكَايَة صَوت الضاحك.
وَقَوله: ﴿فصكت وَجههَا﴾ أَي: ضربت وَجههَا مثل مَا تفعل النِّسَاء.
وَقَوله: ﴿وَقَالَت عَجُوز عقيم﴾ وَإِنَّمَا فعلت ذَلِك؛ لِأَنَّهَا أنْكرت وِلَادَتهَا غُلَاما وَقد
257
﴿كَذَلِك قَالَ رَبك إِنَّه هُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم (٣٠) قَالَ فَمَا خطبكم أَيهَا المُرْسَلُونَ (٣١) قَالُوا إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم مجرمين (٣٢) لنرسل عَلَيْهِم حِجَارَة من طين (٣٣) مسومة عِنْد رَبك للمسرفين (٣٤) فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ (٣٥) فَمَا وجدنَا فِيهَا﴾ صَارَت عجوزا عقيما، وَقد ذكرنَا سنّهَا، أَنَّهَا كَانَت بنت تسع وَتِسْعين سنة.
258
وَقَوله: ﴿قَالُوا كَذَلِك قَالَ رَبك إِنَّه هُوَ الْحَكِيم الْعَلِيم﴾ أَي: الْحَكِيم فِيمَا يدبر، الْعَلِيم بِأُمُور خلقه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ فَمَا خطبكم أَيهَا المُرْسَلُونَ﴾ أَي: مَا شَأْنكُمْ؟ ولأي شَيْء أرسلتم؟
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا إِنَّا أرسلنَا إِلَى قوم مجرمين﴾ أَي: كَافِرين، وَقيل: ذَوي جرم.
وَقَوله: ﴿لنرسل عَلَيْهِم حِجَارَة من طين مسومة﴾ أَي: معلمة، وَيُقَال: العلامات هِيَ اخواتيم على الْأَحْجَار، وَقيل: كَانَ اسْم كل من يهْلك بذلك الْحجر من الْكفَّار مَكْتُوبًا على ذَلِك الْحجر. وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: ﴿مسومة﴾ أَي: حمرَة فِي بَيَاض. وَيُقَال: مخططة.
وَقَوله: ﴿عِنْد رَبك للمسرفين﴾ أَي: الْمُشْركين، وهم الَّذين أَسْرفُوا فِي الْمعاصِي، وكل مُشْرك مُسْرِف فِي الْمعْصِيَة. فَإِن قيل: مَا معنى قَوْله: ﴿حِجَارَة من طين﴾ وَكَيف تكون الْحِجَارَة من طين؟ وَالْجَوَاب من وُجُوه: أَحدهَا: أَن كَانَ فِي الأَصْل طينا فاستحجر بشروق الشَّمْس عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنه كَانَ مطبوخا من طين كَمَا يطْبخ الْآجر.
وَالثَّالِث: أَن قَوْله: ﴿جَارة من طين﴾ ذكر الطين هَاهُنَا لكَي يعلم أَنه لم يرد بِهِ الْبرد، وَالْعرب تسمي الْبرد النَّازِل من السَّمَاء حِجَارَة.
وقوله :( عند ربك للمسرفين ) أي : المشركين، وهم الذين أسرفوا في المعاصي، وكل مشرك مسرف في المعصية. فإن قيل : ما معنى قوله :( حجارة من طين ) وكيف تكون الحجارة من طين ؟ والجواب من وجوه : أحدها : أن كان في الأصل طينا فاستحجر بشروق الشمس عليه.
والثاني : أنه كان مطبوخا من طين كما يطبخ الآجر.
والثالث : أن قوله :( حجارة من طين ) ذكر الطين هاهنا لكي يعلم أنه لم يرد به البرد، والعرب تسمي البرد النازل من السماء حجارة.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من الْمُؤمنِينَ فَمَا وجدنَا فِيهَا غير بَيت من الْمُسلمين﴾ فِيهِ دَلِيل لمن قَالَ: إِن الْإِسْلَام وَالْإِيمَان وَاحِد، وَقد بَينا من قبل. وَعَن
258
﴿غير بَيت من الْمُسلمين (٣٦) وَتَركنَا فِيهَا آيَة للَّذين يخَافُونَ الْعَذَاب الْأَلِيم (٣٧) وَفِي مُوسَى إِذْ أرسلناه إِلَى فِرْعَوْن بسُلْطَان مُبين (٣٨) ﴾ قَتَادَة أَنه قَالَ: لَو كَانَ فِي قريات لوط بَيت من الْمُسلمين غير بَيت لوط لم يُهْلِكهُمْ الله تَعَالَى؛ ليعرف قدر الْإِيمَان عِنْد الله تَعَالَى. وَاخْتلف القَوْل أَنه هَل كَانَ آمن بلوط عَلَيْهِ السَّلَام أحد. فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنه كَانَ آمن بِهِ بضع [عشرَة] نفسا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه لم يكن آمن بِهِ أحد إِلَّا ابنتاه.
259
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٥:وقوله تعالى :( فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ) فيه دليل لمن قال : إن الإسلام والإيمان واحد، وقد بينا من قبل. وعن قتادة أنه قال : لو كان في قريات لوط بيت من المسلمين غير بيت لوط لم يهلكهم الله تعالى ؛ ليعرف قدر الإيمان عند الله تعالى. واختلف القول أنه هل كان آمن بلوط عليه السلام أحد. فأحد القولين : أنه كان آمن به بضع [ عشرة ]١ نفسا.
والقول الثاني : أنه لم يكن آمن به أحد إلا ابنتاه.
١ -في الاصل، وك )) : عشر، و الصواب ما أثبتناه..

قَوْله تَعَالَى: ﴿وَتَركنَا فِيهَا آيَة للَّذين يخَافُونَ الْعَذَاب الْأَلِيم﴾ أَي: عِبْرَة، وَالْعبْرَة فِي قريات لوط بَيِّنَة لمن مر بهَا، فَإِنَّهَا أَرض سَوْدَاء (مبيئة). وَيُقَال: معنى الْآيَة الْمَذْكُورَة فِي قريات لوط هُوَ مَا بَقِي من الْحِجَارَة فِيهَا.
وَفِي الْقِصَّة عَن ابْن عَبَّاس: أَن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام أَدخل جنَاحه تَحت الأَرْض السَّابِعَة، واقتلع مَدَائِن قوم لوط من أَصْلهَا، ورفعها حَتَّى بلغ بهَا السَّمَاء الدُّنْيَا، وَحَتَّى تسمع أهل السَّمَاء الدُّنْيَا نباح الْكلاب وَصَوت الديكة مِنْهَا، ثمَّ قَلبهَا وَأرْسل الله تَعَالَى حِجَارَة على مَا بَينا، وَيُقَال: أرسل الْحِجَارَة على الشذاذ والمسافرين مِنْهُم حَتَّى أهلكهم كلهم.
وَفِي الْقِصَّة أَيْضا: أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أصبح جَالِسا فِي مَسْجده بعد أَن ذهبت الْمَلَائِكَة مَكَثُوا عِنْد إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى قَالُوا قيلولة، ثمَّ راحوا إِلَى مَدَائِن لوط، وَكَانَ بَين قَرْيَة إِبْرَاهِيم وَمَدَائِن لوط أَرْبَعَة فراسخ فَلَمَّا اصبح إِبْرَاهِيم رأى دخانا ساطعا فِي السَّمَاء من مَدَائِن لوط، فَعرف أَنهم قد عذبُوا.
قَوْله: ﴿وَفِي مُوسَى إِذْ أرسلناه إِلَى فِرْعَوْن بسُلْطَان مُبين﴾ أَي: وَفِي إرْسَال مُوسَى آيَة وعبرة.
وَقَوله: ﴿بسُلْطَان مُبين﴾ أَي: بِحجَّة بَيِّنَة.
259
﴿فَتَوَلّى بركنه وَقَالَ سَاحر أَو مَجْنُون (٣٩) فأخذناه وَجُنُوده فنبذناهم فِي اليم وَهُوَ مليم (٤٠) وَفِي عَاد إِذْ أرسلنَا عَلَيْهِم الرّيح الْعَقِيم (٤١) ﴾
260
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَتَوَلّى بركنه﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: بجمعه وَجُنُوده. وَعَن قَتَادَة: بقوته فِي نَفسه. وَعَن بَعضهم: برهطه الَّذين يتقوى بهم. وركن الشَّيْء مَا يتقوى بِهِ الشَّيْء، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى مخبرا عَن لوط عَلَيْهِ السَّلَام ﴿أَو آوى إِلَى ركن شَدِيد﴾ أَي: إِلَى رَهْط وَقوم أتقوى بهم، وَكَذَلِكَ هَاهُنَا أَيْضا مَعْنَاهُ: أعرض مُعْتَمدًا على رهطه وَقَومه الَّذين يتقوى بهم، وَقيل: تولى بركنه أَي: نأى بجانبه.
وَقَوله: ﴿وَقَالَ سَاحر أَو مَجْنُون﴾ قَالَ أهل الْعلم: هَذَا تنَاقض؛ لِأَن السحر لَا يكون إِلَّا بعقل كَامِل، وَالْمَجْنُون هُوَ الَّذِي لَا عقل لَهُ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فأخذناهم وَجُنُوده فنبذناهم فِي اليم﴾ أَي: (طرحناهم) وألقيناهم فِي الْبَحْر.
وَقَوله: ﴿وَهُوَ مليم﴾ يُقَال: ألام الرجل فَهُوَ مليم، إِذْ أَتَى بِمَا يلام عَلَيْهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَفِي عَاد إِذْ أرسلنَا عَلَيْهِم الرّيح الْعَقِيم﴾ الرّيح الْعَقِيم هِيَ الرّيح الَّتِي لَا خير فِيهَا أصلا، كَأَنَّهَا لَا تلقح شَجرا، وَلَا تثير سحابا، وَلَا تَأتي بمطر. وَفِي بعض التفاسير: أَن الرّيح الْعَقِيم ريح محبوسة تَحت الأَرْض السَّابِعَة أرسل مِنْهَا على مِقْدَار منخر ثَوْر، حَتَّى أهلكت عَاد ودمرتهم، ثمَّ ردهَا إِلَى مَوضِع حَبسهَا. وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " نصرت بالصبا وأهلكت عَاد بالدبور ".
وَعَن سعيد بن الْمسيب وَالزهْرِيّ: أَنهم أهلكوا بالجنوب، فَقيل لسَعِيد: إِن الْجنُوب تَأتي بِالرَّحْمَةِ، فَقَالَ: إِن الله يصرفهَا كَيفَ يَشَاء.
وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: الرّيح الْعَقِيم هِيَ النكباء.
260
﴿مَا تذر من شَيْء أَنْت عَلَيْهِ إِلَّا جعلته كالرميم (٤٢) وَفِي ثَمُود إِذْ قيل لَهُم تمَتَّعُوا حَتَّى حِين (٤٣) فَعَتَوْا عَن أَمر رَبهم فَأَخَذتهم الصاعقة وهم ينظرُونَ (٤) فَمَا اسْتَطَاعُوا من قيام وَمَا كَانُوا منتصرين (٤٥) وَقوم نوح من قبل إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين (٤٦) ﴾
261
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا تذر من شَيْء أَنْت عَلَيْهِ إِلَّا جعلته كالرميم﴾ قَالَ السدى: كالتراب. وَعَن مؤرج قَالَ: كالرماد بلغه حَضرمَوْت. وَيُقَال: كالعظم الْبَالِي المنسجق وَمِنْه الرمة. وَيُقَال كالنبت الَّذِي يبس وديس بِالرجلِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَفِي ثَمُود إِذْ قيل لَهُم تمتوا حَتَّى حِين﴾ أَي: إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام، وَقد بَينا هَذَا من قبل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فعنتوا عَن أَمر رَبهم﴾ أَي: عصوا، وَيُقَال: خالفوا أَمر رَبهم.
وَقَوله: ﴿فَأَخَذتهم الصاعقة﴾ وَقُرِئَ: " الصعقة " وهما بِمَعْنى وَاحِد، وَيُقَال: الصعقة الصَّيْحَة، والصاعقة فاعلة من الصعقة.
وَقَوله: ﴿وهم ينظرُونَ﴾ أَي: نَهَارا جهارا، وهم يرَوْنَ نزُول الْعَذَاب، وَمَعْنَاهُ: أَنه لم يكن بلَيْل وهم نيام وَلم يشعروا بِهِ.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَمَا اسْتَطَاعُوا من قيام﴾ أَي: وَقَعُوا وقوعا لم يستطيعوا بعده الْقيام. وَيُقَال: لم يستطيعوا أَن يدفعوا عَن أنفسهم الْعَذَاب أَي: أَن يقومُوا بِالدفع. يَقُول الرجل: أَنا لَا أَسْتَطِيع أَن أقوم بِهَذَا الْأَمر أَي: لَا أَسْتَطِيع دفع هَذَا الْأَمر عَن نَفسِي.
وَقَوله: ﴿وَمَا كَانُوا منتصرين﴾ أَي: ممتنعين من نزُول الْعَذَاب بهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقوم نوح من قبل إِنَّهُم كَانُوا قوما فاسقين﴾ أَي: خَارِجين عَن طَاعَة الله تَعَالَى.
وَقَوله: ﴿من قبل﴾ أَي: من قبل عَاد وَثَمُود، أهلكناهم كَمَا أهلكنا عادا وَثَمُود.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالسَّمَاء بنيناها بأيد﴾ أَي: بِقُوَّة وقدرة.
261
﴿وَالسَّمَاء بنيناها بأيد وَإِنَّا لموسعون (٤٧) وَالْأَرْض فرشناها فَنعم الماهدون (٤٨) وَمن كل شَيْء خلقنَا زَوْجَيْنِ﴾
وَقَوله: ﴿وَإِنَّا لموسعون﴾ قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ يسع قدرتنا أَن تخلق سَمَاء مثلهَا، وَيُقَال: ﴿وَإِنَّا لموسعون﴾ أَي: فِي وسعنا خلق مَا هُوَ أحكم وَأَرْفَع من هَذِه السَّمَاء الَّتِي ترونها، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَن هَذَا الَّذِي خلقنَا لَيْسَ هُوَ جهد قدرتنا، فَإِن فِي وسعنا أَن نخلق أَمْثَال هَذَا وأضعافه. وَيُقَال: وَإِنَّا لموسعون أَي: فِي رزق الْعباد. وَيُقَال: فِي تَدْبِير أَمر الْعباد.
262
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالْأَرْض فرشناها﴾ أَي: بسطناها. وَفِي تَفْسِير النقاش: أَنَّهَا مسيرَة خَمْسمِائَة عَام.
وَقَوله: ﴿فنغم الماهدون﴾ أَي: الباسطون، وَالْمعْنَى: أَنا بسطنا الأَرْض على الْهَيْئَة الَّتِي يسْتَقرّ عَلَيْهَا الْعباد، وَلَا تنكفئ بهم على مَا يبسط الْإِنْسَان فرشا يمهد بِهِ لغيره مَوضِع اسْتِقْرَار وَسُكُون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمن كل شَيْء خلقنَا زَوْجَيْنِ﴾ أَي: صنفين. وَيُقَال: مَعْنَاهُ زَوْجَيْنِ زَوْجَيْنِ، وَذَلِكَ مثل: السَّمَاء وَالْأَرْض، وَاللَّيْل وَالنَّهَار، والنور والظلمة، وَالذكر وَالْأُنْثَى، وَالْبر وَالْبَحْر، وَعَن مُجَاهِد قَالَ: الْكفْر وَالْإِيمَان، والشقاوة والسعادة، وَالْهدى والضلالة. وَعَن الْكَلْبِيّ قَالَ: السَّمَاء وَالْأَرْض زوج، وَاللَّيْل وَالنَّهَار زوج، وَالشَّمْس وَالْقَمَر زوج، وعد بِهِ أَشْيَاء من ذَلِك، ثمَّ قَالَ: وَالله هُوَ الْوتر. وروى حُذَيْفَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله خَالق كل شَيْء، صانع وصنعته ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار أَيْضا عَن النَّبِي مخبرا عَن الله تَعَالَى: " لَا إِلَه إِلَّا أَنا،
262
﴿لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ (٤٩) فَفرُّوا إِلَى الله إِنِّي لكم مِنْهُ نَذِير مُبين (٥٠) وَلَا تجْعَلُوا مَعَ الله إِلَهًا آخر إِنِّي لكم مِنْهُ نَذِير مُبين (٥١) كَذَلِك مَا أَتَى الَّذين من قبلهم من رَسُول إِلَّا قَالُوا سَاحر أَو مَجْنُون (٥٢) ﴾ خلقت الشَّرّ، وخلقت من يجْرِي على يَده الشَّرّ، فويل لمن خلقته للشر وأجريت الشَّرّ على يَده، وخلقت الْخَيْر، وخلقت من يجْرِي الْخَيْر على يَده، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريت الْخَيْر على يَده " وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره بِرِوَايَة سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن الله خلق الْإِيمَان وحفه بالسماحة وَالْحيَاء، وَخلق الْكفْر وحفه بالشح والجفاء ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار أَيْضا: أَن الله خلق الرِّفْق فَلَو رَأَيْته رَأَيْت شَيْئا حسنا، وَخلق الْخرق فَلَو رَأَيْته رَأَيْت شَيْئا قبيحا.
وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ﴾ أَي: تتعظون.
263
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَفرُّوا إِلَى الله﴾ أَي: من مَعْصِيَته إِلَى طَاعَته، وَيُقَال: من سخطه إِلَى رَحمته، وَمن عِقَابه إِلَى عَفوه.
وَقَوله: ﴿إِنِّي لكم مِنْهُ نَذِير مُبين﴾ قد بَينا من قبل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تجْعَلُوا مَعَ الله إِلَهًا آخر إِنِّي لكم مِنْهُ نَذِير مُبين﴾ الْآيَة. قد بَينا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿كَذَلِك مَا أَتَى الَّذين من قبلهم من رَسُول إِلَّا قَالُوا سَاحر أَو مَجْنُون﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وَهَذَا تَسْلِيَة للنَّبِي أَي: كَمَا قيل لَك فقد قيل لمن قبلك من الرُّسُل.
263
﴿أتواصوا بِهِ بل هم قوم طاغون (٥٣) فتول عَنْهُم فَمَا أَنْت بملوم (٥٤) وَذكر فَإِن الذكرى تَنْفَع الْمُؤمنِينَ (٥٥) وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون (٥٦) مَا أُرِيد مِنْهُم من رزق وَمَا أُرِيد أَن يطْعمُون (٥٧) ﴾
264
قَوْله تَعَالَى: ﴿أتواصوا بِهِ﴾ أَي: أوصى بَعضهم بَعْضًا بِهَذَا القَوْل، وَيُقَال: أوصى الأول الْأَخير بالتكذيب.
قَوْله: ﴿بل هم قوم طاغون﴾ أَي: عاصون يبالغون فِي الْعِصْيَان.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فتول عَنْهُم فَمَا أَنْت بملوم﴾ فِي بعض الْآثَار عَن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة حزن أَصْحَاب رَسُول الله حزنا شَدِيدا، وظنوا أَنه لَا ينزل الْوَحْي بعد ذَلِك حَيْثُ أَمر النَّبِي بِالْإِعْرَاضِ والتولي، وَعذر بقوله: ﴿فَمَا أَنْت بملوم﴾
فَأنْزل الله تَعَالَى: ﴿وَذكر فَإِن الذكرى تَنْفَع الْمُؤمنِينَ﴾ فَفَرِحُوا، وَقيل: إِن هَذِه الْآيَة قبل نزُول آيَة السَّيْف، ثمَّ نسخت بِآيَة السَّيْف.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون﴾ فِي قِرَاءَة أبي بن كَعْب " وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس من الْمُؤمنِينَ إِلَّا ليعبدون " وَهُوَ تَفْسِير الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة.
قَالَ الضَّحَّاك: الْآيَة عَامَّة أُرِيد بهَا الْخَاص، وهم الْمُؤْمِنُونَ، وَهَذَا القَوْل اخْتِيَار الْفراء والقتيبي وَغَيرهمَا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون أَي: لآمرهم بِالْعبَادَة. وَقَالَ مُجَاهِد: لآمرهم وأنهاهم، وَحكى بَعضهم هَذَا عَن عَليّ.
وَالْقَوْل الثَّالِث: وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون أَي: لينقادوا ويخضعوا لي، وانقيادهم وخضوعهم هُوَ استمرارهم على مَشِيئَته وَحكمه، وَهُوَ معنى خضوع السَّمَوَات وَالْأَرضين وطواعيتها وانقيادها، وَالْمُخْتَار هُوَ القَوْل الأول.
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا أُرِيد مِنْهُم من رزق﴾ أَي: أَن يرزقوا عبَادي، وَيُقَال: أَن يرزقوا أنفسهم.
﴿وَمَا أُرِيد أَن يطْعمُون﴾ هُوَ على الْمَعْنيين الْأَوَّلين، أَي: يطعموا عبَادي، أَو يطعموا أنفسهم، فَإِذا قلت فِي الأول هُوَ رزق أنفسهم فَمَعْنَى هَذَا إطْعَام الْعباد، وَإِذا
264
﴿إِن الله هُوَ الرَّزَّاق ذُو الْقُوَّة المتين (٥٨) فَإِن للَّذين ظلمُوا ذنوبا مثل ذنُوب أَصْحَابهم فَلَا يستعجلون (٥٩) فويل للَّذين كفرُوا من يومهم الَّذِي يوعدون (٦٠) ﴾ قلت فِي الأول رزق الْعباد فَمَعْنَى هَذَا إطعامهم أنفسهم، وَإِنَّمَا قَالَ: ﴿يطْعمُون﴾ لِأَن الْخلق عباد الله، فَإِذا أطْعمهُم (فَكَأَنَّهُ) أطْعم الله على الْمجَاز.
وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ حاكيا عَن الله تَعَالَى فِيمَا يَقُول لعَبْدِهِ يَوْم الْقِيَامَة: " استطعمتك فَلم تطعمني، فَيَقُول: يَا رب، وَكَيف أطعمك، وَأَنت رب الْعَالمين؟ فَيَقُول:
265
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن الله هُوَ الرَّزَّاق ذُو الْقُوَّة المتين﴾، الرَّزَّاق بِمَعْنى الرازق، وَيُقَال: يَقْتَضِي مُبَالغَة وتكثيرا.
وَقَوله: ﴿ذُو الْقُوَّة المتين﴾ أَي: الْقُوَّة الْبَالِغَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِن للَّذين ظلمُوا ذنوبا مثل ذنُوب أَصْحَابهم﴾ أَي: نصيب من الْعَذَاب مثل نصيب أَصْحَابهم، أَي: أمثالهم من الْمُشْركين الَّذين تقدمُوا، فجعلهم أَصْحَابهم لما اجْتَمعُوا فِي الْكفْر، وَإِن تَفَرَّقت بهم الْقُرُون. والذنُوب فِي اللُّغَة: هُوَ الدَّلْو لعَظيم، وَمِنْه أَخذ النَّصِيب.
وَقَوله: ﴿فَلَا يستعجلون﴾ أَي: الْعَذَاب نَازل بهم فَلَا يَنْبَغِي أَن يستعجلوا، وَقد تقدم ذكر استعجالهم فِيمَا سبق.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فويل للَّذين كفرُوا من يومهم الَّذِي يوعدون﴾ قد بَينا معنى الويل. وَقَوله: ﴿من يومهم الَّذِي الَّذِي يوعدون﴾ هُوَ يَوْم الْقِيَامَة، وَهُوَ الْيَوْم الْمَوْعُود المنتظر لجزاء الْعباد، ونسأل الله حسن الْعَاقِبَة بفضله وَمِنْه (آمين).
265

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿وَالطور (١) وَكتاب مسطور (٢) ﴾
تَفْسِير سُورَة الطّور
وَهِي مَكِّيَّة. وَقد ثَبت بِرِوَايَة جُبَير بن مطعم أَنه قَالَ: " سَمِعت النَّبِي يقْرَأ فِي الْمغرب سُورَة الطّور ".
266
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
استطعمك عَبدِي فلَان فَلم تطعمه وَلَو أطعمته لوجدته عِنْدِي الْخَبَر إِلَى آخِره ".