تفسير سورة الطلاق

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الطلاق من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن المعروف بـفتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه مجير الدين العُلَيْمي . المتوفي سنة 928 هـ

سورة الطلاق
وتسمى: سورةَ النساء القصرى، وهي مدنية، وآيها: اثنتا عشرة آية، وحروفها: ألف وستون حرفًا، وكلمها: مئتان وتسع وأربعون كلمة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (١)﴾.
[١] ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ أفرد - ﷺ - بالخطاب أولًا تعظيمًا لشأنه، وجمع ثانيًا مع أمته تشريفًا لهم. قرأ نافع: (النَّبِيءٌ إِذَا) بالهمز (١) والمد، وتسهيل الهمزة الثانية، وقرأ الباقون: بتشديد الياء بغير مد ولا همز، وتحقيق الهمزة الثانية (٢)، المعنى: إذا أردتم تطليقهن.
﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ أي: لطهرهن الذي يُحصينه من عدتهن، وهو
(١) "بالهمز" زيادة من "ت".
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤١٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٦٥).
81
أول طهر تعتد به، والمراد: أن يطلقها في طهر لم يُصِبْها فيه، وهو طلاق السنة.
نزلت هذه الآية في عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-، كان قد طلق امرأته في حال الحيض، فقال - ﷺ - لعمر: "مُرْهُ فَلْيراجِعْها، ثم ليمسِكْها حتى تطهر، ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسكَ بعدُ، وإن شاء طلَّقَ قبلَ أن يَمَسَّ، فتلك العِدَّةُ التي أمَرَ الله أن تُطَلَّق لها النساءُ" (١). قرأ ورش عن نافع: (طَلَّقْتُمْ) (فَطَلِّقُوهُنَّ) بتغليظ اللام، وكذلك كل لام مفتوحة مخففة أو مشددة إذا تقدمها صاد أو طاء أو ظاء بفتح أو سكون، وعنه خلاف في (طَالَ) و (فِصَالًا)، وتقدم حكم الطلاق السني والبدعي ومذاهب الأئمة فيه في سورة الأحزاب عند تفسير قوله تعالى: ﴿سَرَاحًا جَمِيلًا﴾ [الآية: ٤٩].
﴿وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ﴾ اضبطوها، واحفظوا عدد أقراء العدة ثلاثًا مستقبلات بلا نقصان؛ لتعلموا وقت الرجعة إن أردتم أن تراجعوهن؛ لأن الرجعة إنما تجوز في زمان العدة إذا كان الطلاق رجعيًّا بالاتفاق.
﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ﴾ في الإضرار بهن.
﴿لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ﴾ اللاتي يسكنها إذا طلقتموهن حتى تنقضي عدتهن، فإذا كان الطلاق رجعيًّا (٢)، فللزوجة السكنى بمنزل الطلاق، وليس لها الخروج منه حتى تنقضي عدتها بالاتفاق، وأما إذا كان الطلاق بائنًا، فعند أحمد: الحقُّ في إسكانها للزوج، فيسكنها حيث شاء مما يصلح
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٤١٣). والحديث رواه "البخاري" (٤٩٥٣)، كتاب: الطلاق، باب قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾، ومسلم (١٤٧١)، كتاب: الطلاق، باب: تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، دون ذكر أن الآية نزلت في قصته.
(٢) "رجعيًّا" زيادة من "ت".
82
لها؛ تحصينًا لفراشه، ولو لم تلزمه نفقة، وعند الثلاثة: يلزمها التربص بمنزل الطلاق إلى انقضاء العدة.
﴿وَلَا يَخْرُجْنَ﴾ بغير اختبارهن.
﴿إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ أي: زنًا، فيخرجن لإقامة الحد، ثم يعدن.
قرأ ابن كثير، وأبو بكر عن عاصم: (مُبَيَّنَةٍ) بفتح الياء، والباقون: بكسرها (١).
﴿وَتِلْكَ﴾ الأحكام المذكورة ﴿حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ لتعريضها للعقاب. قرأ أبو عمرو، وابن عامر، وورش، وحمزة، والكسائي، وخلف: (فَقَد ظَّلَمَ) بإدغام الدال في الظاء، والباقون: بالإظهار (٢).
﴿لَا تَدْرِي﴾ أيها النبي ﴿لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ﴾ الطلاق.
﴿أَمْرًا﴾ أي: رغبة في الرجعة، وهذا دليل على استحباب تفريق الثلاث.
﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (٢)﴾.
[٢] ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ قارَبْنَ انقضاء العدة ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ راجعوهن.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٩٥)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٨٣)، و"معجم القراءات القرانية" (٧/ ١٦٥ - ١٦٦).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٦٩)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤١٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٦٦).
﴿أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ اتركوهن حتى تنقضي عدتهن، فَيَبِنَّ منكم.
﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ على الطلاق، وأما الرجعة، فلا يشترط لها الإشهاد بالاتفاق، وروي عن الشافعي اشتراطه، وهو القديم من مذهبه.
واختلفوا في حصولها بالفعل، فقال الشافعي: لا تصح إلا بالقول، فلا تحصل بفعل كوطء، وقال الثلاثة: تصح بالفعل، فتحصل عند أبي حنيفة بالوطء واللمس والنظر إلى الفرج بشهوة فيهما، وعند مالك بالوطء والمباشرة والتقبيل إذا نوى بذلك الرجعة، وعند أحمد بوطئها، نوى به الرجعة أو لم ينو، ولا تحصل بمباشرتها ولا النظر إلى فرجها ولا الخلوة بها لشهوة، ولا خلف بينهم في حصولها بالقول، واستحباب الإشهاد لها.
﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ﴾ أيها الشهود.
﴿لِلَّهِ﴾ لأجل الله تعالى خاصة، ولا تنظروا في المشهود عليه.
﴿ذَلِكُمْ﴾ الحث على الشهادة وأدائها ﴿يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ﴾ فيطلِّقْ للسُّنة ﴿يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ إلى الرجعة.
﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (٣)﴾.
[٣] ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾ لم يخطر بباله.
﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ شرطٌ مبتدأ، جوابُه ﴿فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ يكفيه ما أهمه.
قال - ﷺ -: "لو أَنَّكم تتوكَّلون على الله حَقَّ تَوَكُّلِه، لرزقَكم كما يرزق
الطير، تغدو خِماصًا، وتَروح بِطَانًا" (١)، والتوكل: سكون القلب في كل موجود ومفقود، وقطعُ القلب عن كل علاقة، والتعلقُ بالله في جميع الأحوال.
﴿إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ قرأ حفص عن عاصم: (بَالِغُ) بغير تنوين (أَمْرِهِ) بالخفض بإضافة (بالغ) إليه، وقرأ الباقون: بالتنوين، ونصب (أَمْرَهُ) (٢)، والمعنى على القراءتين: منفذٌ حكمَه.
﴿قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ نهاية.
﴿وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (٤)﴾.
[٤] ولما نزل ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: ٢٢٨]، قال خلاد بن النعمان (٣) بن قيس الأنصاري: يا رسول الله! فما عدة من لا تحيض، والتي لم تحض، وعدة الحبلى؟ فأنزل الله تعالى: {وَاللَّائِي
(١) رواه الترمذي (٢٣٤٤)، كتاب: الزهد، باب: في التوكل على الله، وقال: حسن صحيح، وابن ماجه (٤١٦٤)، كتاب: الزهد، باب: التوكل واليقين، وأحمد في "المسند" (١/ ٣٠)، وابن حبان في "صحيحه" (٧٣٠)، والحاكم في "المستدرك" (٧٨٩٤) من حديث عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٣٩)، و"التيسير" للداني (ص: ٢١١)، و"تفسير البغوي" (٤/ ٤١٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٦٦).
(٣) "بن النعمان" زيادة من "ت".
85
يَئِسْنَ} (١) لكبرهن ﴿مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ شككتم في حكم عدتهن؛ لانقطاع دمهن لكبرهن.
﴿فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ﴾ الجملة خبر المبتدأ.
﴿وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ لصغرهن مبتدأ محذوفُ الخبر؛ أي: فعدتهن ثلاثة أشهر، حذف الخبر لدلالة المذكور عليه، فالصغيرة التي لم تحض، والكبيرة التي أيست من الحيض، عدةُ كلِّ واحدة منهما (٢) من الطلاق ثلاثةُ أشهر بالاتفاق، والشابة التي كانت تحيض، فارتفع حيضها قبل بلوغها سنَّ الآيسات، فعند أبي حنيفة والشافعي: لا تنقضي عدتها حتى يعاودها الدم، فتعتد بثلاثة أقراء، أو تبلغ سنَّ الآيسات، فتعتد بثلاثة أشهر، وعند مالك وأحمد: إذا ارتفع حيضها، لا تدري ما رفعه، تعتد به سنةً: تسعة أشهر للحمل، وثلاثة للعدة، فتحل عقب السنة، كان علمت ما رفعه من مرض أو رضاع ونحوه، فلا تزال في عدة حتى يعود الحيض، فتعتد به، إلا أن تصير آيسة، فتعتد عدة آيسة حينئذ.
وسن الإياس عند أبي حنيفة خمس وخمسون سنة، وعند مالك سبعون، وعند الشافعي اثنتان وستون وعند أحمد خمسون، وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين بالاتفاق.
وعدة المتوفَّى عنها زوجها إذا لم تكن حاملًا أربعة أشهر وعشر بالاتفاق.
واختلاف القراء في (وَالَّلِائي) في الحرفين كاختلافهم في نظيره في سورة الأحزاب [الآية: ٤].
(١) انظر: "تفسير البغوي" (٤/ ٣٥٨).
(٢) "منهما" زيادة من "ت".
86
﴿وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ﴾ أي: الحبالى، مطلقاتٍ كُنَّ أو تُوفي عنهن أزواجُهن.
﴿أَجَلُهُنَّ﴾ أي: انقضاء عدتهن التي يجوز بعدها النكاح، مبتدأ، خبره ﴿أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ وهما خبر (أُولاَتُ)، فإذا كانت المرأة حاملًا، وطُلقت، أو مات زوجها، فعدتها بوضع الحمل بالاتفاق.
﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ يسهِّلْ عليه أمر الدارين، ويخلِّصْه من شدائدهما.
﴿ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (٥)﴾.
[٥] ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من الأحكام ﴿أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ﴾ في أحكامه ﴿يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ﴾ فإن الحسنات يذهبن السيئات.
﴿وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ بالمضاعفة.
﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (٦)﴾.
[٦] ﴿اسْكِنوُهُنَّ﴾ يعني: مطلقاتِ نسائِكم ﴿مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ﴾ أي: مكانًا من سُكناكم ﴿مِنْ وُجْدِكُمْ﴾ قرأ روح عن يعقوب: (وِجْدِكُمْ) بكسر الواو،
87
والباقون: بضمها (١)؛ أي: من سَعَتكم وهو بيان لقوله: (مِنْ حَيْثُ)، وأبو عمرو يدغم الثاء في السين من قوله (حَيْث سَّكَنْتُمْ) (٢).
﴿وَلَا تُضَارُّوهُنَّ﴾ تؤذوهن ﴿لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ ليخرُجْنَ، وتقدم في أول السورة اختلاف الأئمة في حكم السكنى للرجعية والبائن.
﴿وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ فيخرجن من العدة، فالبائن بالطلاق إذا كانت حاملًا لها النفقة والسكنى بالاتفاق، وأما البائن الحائل، فتستحق النفقة والسكنى عند أبي حنيفة كالحامل إلى أن تنقضي عدتها بالحيض، أو بالأشهر؛ خلافًا للثلاثة، ولا نفقةَ من التركة لمتوفًّى عنها زوجُها، ولا كسوةَ، ولو كانت حاملًا بالاتفاق.
﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ﴾ أي: المطلقات ولدًا ﴿لَكُمْ﴾ منهن، أو من غيرهن.
﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ على الإرضاع، وتقدم اختلاف الأئمة في حكم إرضاع الأمهات، وأخذِهن الأجرةَ في زمن العصمة وبعد الطلاق في سورة البقرة عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ﴾ [البقرة: ٢٣٣].
﴿وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾ أي: ليأمر بعضكم بعضًا بالمعروف في الإرضاع والأجر.
(١) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٨٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٦٨).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٣٦٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٦٨).
88
﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ﴾ تضايقتم في الرضاع، وامتنع الأب عن إعطاء الأجرة، والأم عن إرضاعه.
﴿فَسَتُرْضِعُ لَهُ﴾ امرأة ﴿أُخْرَى﴾ وفيه معاتبة للأم على المعاسرة.
﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (٧)﴾.
[٧] ﴿لِيُنْفِقْ﴾ لام أمر.
﴿ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ﴾ على المطلقات والمرضعات على قدر غناه.
﴿وَمَن قُدِرَ﴾ ضُيِّق ﴿عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾ من المال على مقداره.
﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾ أعطاها من المال.
﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ عاجلًا أو آجلًا. قرأ أبو جعفر: (عُسُرًا) و (يُسُرًا) بضم السين فيهما، والباقون: بالإسكان (١)، وتقدم في سورة النور اختلاف الأئمة فيمن أعسر بصَداق زوجته وكسوتها ونفقتها، وحكم النسخ بذلك.
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (٨)﴾.
[٨] ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ﴾ تقدم تفسير (وَكَأَيِّنْ)، واختلاف القراء فيه في
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٤١٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٦٩).
سورة الحج عند تفسير قوله تعالى: ﴿فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾ [الحج: ٤٥].
﴿عَتَتْ﴾ أي: عتا أهلها بالتجبر ﴿عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا﴾ ﴿وَرُسُلِهِ﴾ أي: وأمر رسله.
﴿فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا﴾ أي: لم يغتفر لهم ذلة، بل أُخذوا بالدقائق من الذنوب.
﴿وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا﴾ عظيمًا، وهو النار في الآخرة، والتعبير بلفظ الماضي في الحساب والعذاب لتحقيق وقوعهما في المستقبل. قرأ نافع، وأبو جعفر، ويعقوب، وابن ذكوان عن ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم: (نُكُرًا) بضم الكاف، والباقون: بإسكانها (١)
﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (٩)﴾.
[٩] ﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا﴾ عقوبةَ كفرها.
﴿وَكَانَ عَاقِبَةُ﴾ آخِرُ (٢) ﴿أَمْرِهَا خُسْرًا﴾ خسرانًا لا ربح فيه.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٣٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢١٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٧٠).
(٢) "آخر" زيادة من "ت".
﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (١٠)﴾.
[١٠] ﴿أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ تكرير للوعيد.
﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ وقوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ صفة (لأُولِي الأَلْبَابِ).
﴿قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا﴾ يعني: القرآن.
﴿رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (١١)﴾.
[١١] ﴿رَسُولًا﴾ هو محمد - ﷺ -، والمعنى: بعث رسولًا، لكن الإيجاز اقتضى اختصار الفعل الناصب للرسول.
﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ﴾ صفة (رَسُولًا). قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وخلف، وحفص عن عاصم: (مُبَيِّنَاتٍ) بكسر الياء، والباقون: بفتحها (١)، ثم علل الإنزال والإرسال، فقال:
﴿لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ﴾ الكفر ﴿إِلَى النُّورِ﴾ الإيمان.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٦٢)، و"الكشف" لمكي (١/ ٣٨٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٧٠).
﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر: (نُدْخِلْهُ) بالنون، والباقون: بالياء (١).
﴿جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ﴾ حال ﴿فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا﴾ أي: ما أحسنَ ما رزقه الله! يعني الجنة التي لا ينقطع نعيمها.
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (١٢)﴾.
[١٢] ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ﴾ مبتدأ وخبر.
﴿وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ﴾ في العدد، ونصبه عطف (٢) على (سَبْعَ) أي: وخلق من الأرض مثلَهن، قيل: ليس في القرآن آية تدل على أن الأرضين سبع إلا هذه الآية، وفي التفسير بين كل سماءين مسيرة خمس مئة عام، وكذلك غلظ كل سماء، والأرضون مثل السموات.
﴿يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ﴾ بالوحي من السماء السابعة إلى الأرض السفلى، ثم علل الخلق والتنزيل فقال: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ فلا يخفى عليه شيء، وهو عموم على إطلاقه، ونصب (عِلْمًا) على المصدر المؤكد؛ لأن المعنى: وأن الله قد علم كل شيء علمًا، والله أعلم.
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٦٣٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٤٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٧/ ١٧٠ - ١٧١).
(٢) "عطف" زيادة من "ت".
Icon