تفسير سورة البلد

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة البلد من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
وهي مكية في قول جمهور المفسرين، وقال قوم : هي مدنية١.
١ قال القرطبي في تفسيره: "مكية باتفاق"، وقال الشوكاني في فتح القدير: "وهي مكية بلا خلاف"، وأما أبو حيان في البحر المحيط فقال: "هذه السورة مكية في قول الجمهور، وقيل مدنية"..

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة البلد
وهي مكية في قول جمهور المفسرين، وقال قوم هي مدنية.
قوله عز وجل:
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)
قرأ الحسن بن أبي الحسن «لأقسم» دون ألف، وقرأ الجمهور: «لا أقسم»، واختلفوا فقال الزجاج وغيره: «لا» صلة زائدة مؤكدة، واستأنف قوله أُقْسِمُ، وقال مجاهد لا رد للكلام متقدم للكفار، ثم استأنف قوله أُقْسِمُ، وقال بعض المتأولين لا نفي للقسم بالبلد، أخبر الله تعالى أنه لا يقسم به، ولا خلاف بين المفسرين أن «البلد» المذكور هو مكة، واختلف في معنى قوله وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ فقال ابن عباس وجماعة: معناه وأنت حلال بهذا البلد يحل لك فيه قتل من شئت، وكان هذا يوم فتح مكة، وعلى هذا يتركب قول من قال السورة مدنية نزلت عام الفتح، ويتركب على التأويل قول من قال: لا نافية أي إن هذا البلد لا يقسم الله به، وقد جاء أهله بأعمال توجب إحلال حرمته، ويتجه أيضا أن تكون لا غير نافية. وقال بعض المتأولين: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ معناه: حال ساكن بهذا البلد، وعلى هذا يجيء قول من قال هي مكية، والمعنى على إيجاب القسم بين وعلى نفيه أيضا يتجه على معنى القسم ببلد أنت ساكنه على أذى هؤلاء القوم وكفرهم، وذكر الثعلبي عن شرحبيل بن سعد أن معنى وَأَنْتَ حِلٌّ أي قد جعلوك حلالا مستحل الأذى والإخراج والقتل لك لو قدروا، وإعراب الْبَلَدِ عطف بيان، وقوله تعالى: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ قسم مستأنف على قول من قال لا نافية، ومعطوف على قول من رأى لا غير نافية، واختلف الناس في معنى قوله: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ، فقال مجاهد: هو آدم وجميع ولده، وقال بعض رواة التفسير: هو نوح وجميع ولده، وقال أبو عمران الجوني: هو إبراهيم وجميع ولده، وقال ابن عباس ما معناه: أن الوالد والولد هنا على العموم فهي أسماء جنس يدخل فيها جميع الحيوان، وقال ابن عباس وابن جبير وعكرمة: وَوالِدٍ معناه: كل من ولد وأنسل، وقوله وَما وَلَدَ، لم يبق تحته إلا العاقر الذي ليس بوالد البتة، والقسم واقع على قوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ، واختلف الناس في
483
«الكبد»، فقال جمهور الناس: «الإنسان» اسم الجنس كله، و «الكبد» المشقة والمكابدة، أي يكابد أمر الدنيا والآخرة، ومن ذلك قول لبيد: [المنسرح]
يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم في كبد
وقول ذي الإصبع: [البسيط]
لي ابن عم لو ان الناس في كبد لظل محتجرا بالنبل يرميني
وبالمشقة في أنواع أحوال الإنسان فسره الجمهور، وقال الحسن: لم يخلق الله خلقا يكابد ما يكابد ابن آدم، وقال ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبو صالح والضحاك ومجاهد فِي كَبَدٍ معناه: منتصف القامة واقفا، وقال ابن زيد: «الإنسان» : آدم عليه السلام، وفِي كَبَدٍ معناه: في السماء سماها كبدا، وهذان قولان قد ضعفا والقول الأول هو الصحيح، وروي أن سبب الآية وما بعدها هو أبو الأشدين رجل من قريش شديد القوة، اسمه أسيد بن كلدة الجمحي، كان يحسب أن أحدا لا يقدر عليه، ويقال بل نزلت في عمرو بن ود، ذكره النقاش، وهو الذي اقتحم الخندق بالمدينة وقتله علي بن أبي طالب خلف الخندق، وقال مقاتل: نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل، أذنب فاستفتى النبي ﷺ فأمره بالكفارة فقال: لقد أَهْلَكْتُ مالًا في الكفارات والنفقات مذ تبعت محمدا، وكان كل واحد منهم قد ادعى أنه أنفق مالا كثيرا على إفساد أمر النبي ﷺ أو في الكفارات على ما تقدم، فوقف القرآن على جهة التوبيخ للمذكور، وعلى جهة التوبيخ لاسم الجنس كله. ويَقْدِرَ نصب ب لَنْ وأَنْ مخففة من الثقيلة، وكان قول هذا الكافر: أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً كذبا منه، فلذلك قال: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ أي أنه رئي وأحصي فعله فما باله يكذب؟ ومن قال إن المراد اسم الجنس غير مفرد، جعل قوله تعالى:
أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ بمعنى أيظن الإنسان أن ليس عليه حفظة يرون أعماله ويحصونها إلى يوم الجزاء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وجسمه فيما أبلاه وماله من أين كسبه وأين أنفقه»، واختلف القراء في قوله «لبدا»، فقرأ جمهور القراء بضم اللام وفتح الباء، وقرأ مجاهد «لبدا» بضمهما وذلك جمع لبدة أو جمع لبود بفتح اللام، وقرأ أبو جعفر يزيد «لبّدا» بضم اللام وفتح الباء وشدها فيكون مفردا نحو «زمّل» ويكون جمع لا بد، وقد روي عن أبي جعفر «لبدا» بسكون الباء، والمعنى في هذه القراءات كلها مالا كثيرا متلبدا بعضه فوق بعض من التكاثف والكثرة، وقرأ الأعمش: «لم يره» بسكون الراء لتوالي الحركات، ثم عدد تعالى على الإنسان نعمه التي بها تقوم الحجة، وهي جوارحه. وقرن تعالى «الشفتين» باللسان لأن نعمة العبارة والكلام، لا يصح إلا بالجميع.. وفي الحديث: يقول الله تعالى: «ابن آدم إن نازعك لسانك إلى ما لا يحل، فقد أعنتك عليه بشفتين فأطبقهما عليه». واختلف الناس في النَّجْدَيْنِ فقال ابن مسعود وابن عباس والناس: طريقا الخير والشر، أي عرضنا عليه طريقهما، وليست الهداية هنا بمعنى الإرشاد. وقال ابن عباس أيضا والضحاك: «النجدان» :
ثديا الأم وهذا مثال، والنجد: الطريق المرتفع، وأنشد الأصمعي: [الطويل]
484
قوله عز وجل:
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١١ الى ٢٠]
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥)
أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)
في هذه الآية على عرف كلام العرب، استعارة لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال تشبيه بعقبة الجبل، وهي ما صعب منه وكان صعودا، واقْتَحَمَ معناه: دخلها وجاوزها بسرعة وضغط وشدة، وأما المفسرون فرأوا أن الْعَقَبَةَ يراد بها جبل في جهنم، لا ينجي منه إلا هذه الأعمال ونحوها، قاله ابن عباس وقتادة، وقال الحسن: الْعَقَبَةُ جهنم، قال هو وقتادة فاقتحموها بطاعة الله، وفي الحديث: «إن اقتحامها للمؤمن كما بين صلاة العصر إلى العشاء»، واختلف الناس في قوله فَلَا فقال جمهور المتأولين: هو تحضيض بمعنى «فألا»، وقال آخرون وهو دعاء بمعنى أنه ممن يستحق أن يدعى عليه بأن لا يفعل خيرا، وقيل هي نفي، أي «فما اقتحم»، وقال أبو عبيدة والزجاج وهذا نحو قوله تعالى:
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى [القيامة: ٣١] فهو نفي محض كأنه قال: وهبنا له الجوارح ودللناه على السبيل فما فعل خيرا، ثم عظم الله تعالى أمر العقبة في النفوس بقوله: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ؟ ثم فسر اقتحام العقبة بقوله فَكُّ رَقَبَةٍ وذلك أن التقدير وما أدراك ما اقتحام العقبة؟ هذا على قراءة من قرأ «فكّ رقبة» بالرفع على المصدر، وأما من قرأ «فكّ» على الفعل الماضي ونصب الرقبة، فليس يحتاج أن يقدر وَما أَدْراكَ ما اقتحام، بل يكون التعظيم للعقبة نفسها، ويجيء «فكّ» بدلا من اقْتَحَمَ ومبينا. وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة «فك رقبة أو إطعام»، وقرأ أبو عمرو «فك رقبة» بالنصب، «أو أطعم»، وقرأ بعض التابعين «فكّ رقبة» بالخفض، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو أيضا والكسائي «فكّ رقبة» بالنصب «أو إطعام».
وترتيب هذه القراءات ووجوهها بينة، وفك الرقبة معناه: بالعتق من رقبة الأسر أو الرق، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أعتق نسمة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار». وقال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل أنجو به، فقال: «لئن قصرت القول لقد عرضت المسألة فك رقبة، وأعتق النسمة»، فقال الأعرابي: أليس هما واحد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها».
قال القاضي أبو محمد: وكذلك فك الأسير إن شاء الله، وفداؤه أن ينفرد الفادي به، ثم قال النبي ﷺ للأعرابي: «وأبق على ذي الرحمن الظالم، فإن لم تطق هذا كله، فكف لسانك إلا من خير»، و «المسغبة» : المجاعة. والساغب: الجائع. وقرأ جمهور الناس «ذي مسغبة» على نعت يَوْمٍ، وقرأ علي بن أبي طالب والحسن وأبو رجاء «ذا مسغبة» على أن يعمل فيها «أطعم» أو «إطعام» على القراءتين المذكورتين، وفي هذا حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، لأن التقدير إنسانا ذا مسغبة ووصفت الصفة لما قامت مقام موصوفها المحذوف، وأشبهت الأسماء، و «المسغبة» : الجوع العام، وقد
485
يقال في الخاص: سغب الرجل إذا جاع. وقوله تعالى: ذا مَقْرَبَةٍ معناه: ذا مقربة لتجتمع الصدقة والصلة، وهذا نحو ما قال رسول الله ﷺ لزينب امرأة عبد الله بن مسعود: «تصدقي على زوجك فهي صدقة لك وصلة»، وأَوْ في قوله أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ فيها معنى الإباحة ومعنى التخيير، لأن الكلام يتضمن معنى الحض والأمر فيها أيضا معنى التفضيل المجرد، لأن الكلام يجري مجرى الخبر الذي لا تكون أَوْ فيه إلا منفصلة، وأما معنى الشك أو الإبهام فلا مدخل لها في هذه الآية، والإبهام نحو قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ [سبأ: ٢٤]، وقول أبي الأسود: [الوافر]
كميش الإزار خارج نصف ساقه صبور على الأرزاء طلاع أنجد
أحب محمدا حبا شديدا وعباسا وحمزة أو عليا
وذا مَتْرَبَةٍ معناه: مذقعا قد لصق بالتراب وهذا مما ينحو إلى أن المسكين أشد فاقة من الفقير، قال سفيان: هم المطروحون على ظهر الطريق قعودا على التراب لا بيوت لهم. وقال ابن عباس هو الذي يخرج من بيته ثم يقلب وجهه إلى بيته مستيقنا أنه ليس فيه إلا التراب، وقوله تعالى: ثُمَّ كانَ معطوف على قوله اقْتَحَمَ وتوجه فيه معاني، فَلَا اقْتَحَمَ المذكورة من النفي والتحضيض والدعاء، ورجح أبو عمرو بن العلاء قراءته فك بقوله ثُمَّ كانَ، ومعنى قوله ثُمَّ كانَ أي كان وقت اقتحامه العقبة مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وليس المعنى أنه يقتحم، ثم يكون بعد ذلك لأن الاقتحام كان يقع من غير مؤمن وذلك غير نافع.
وقوله تعالى: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ معناه: على طاعة الله وبلائه وقضائه وعن الشهوات والمعاصي.
وبِالْمَرْحَمَةِ، قال ابن عباس: كل ما يؤدي إلى رحمة الله تعالى. وقال آخرون: هو التراحم وعطف بعض من الناس على بعض، وفي ذلك قوام الناس ولو لم يتراحموا جملة هلكوا، والْمَيْمَنَةِ مفعلة، وهي فيما روي عن يمين العرش، وهو موضع الجنة ومكان المرحومين من الناس، والْمَشْأَمَةِ الجانب الأشأم وهو الأيسر، وفيه جهنم، وهو طريق المعذبين يؤخذ بهم ذات الشمال، وهذا مأخوذ من اليمن والشام للواقف بباب الكعبة متوجها إلى مطلع الشمس، واليد الشؤمى هي اليسرى، وذهب الزجاج وقوم إلى ذلك من اليمن والشؤم، وقرأ ابن كثير وابن عامر ونافع والكسائي وأبو بكر عن عاصم «موصدة» على وزن موعدة وكذلك في سورة الهمزة، وقرأ أبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم «مؤصدة» بهمز الواو في السورتين، ومعناهما جميعا، مطبقة معلقة. يقال: أوصدت وآصدت، بمعنى أطبقت وأغلقت، فهي «موصدة» دون همز من أوصدت، وقد يحتمل أن يهمز من يراها من أوصدت من حيث قبل الواو حرف مضموم على لغة من قرأ بالسوق، ومنه قول الشاعر [جرير] :
أحب المؤقدان إليّ مؤسى بالهمز فيهما، و «مؤصدة» من آصدت، ويحتمل أن تسهل الهمزة فتجيء «موصدة» من أصدت ومن اللفظة الوصيد. وقال الشاعر [الأعشى] :[الكامل]
486
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
قوما يعالج قملا أبناؤهم وسلاسلا حلقا وبابا موصدا