تفسير سورة الحجر

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة الحجر من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة الحجر
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم أنها نزلت بمكة وروي ذلك عن قتادة ومجاهد وفي مجمع البيان عن الحسن أنها مكية إلا قوله تعالى :( ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ) وقوله سبحانه :( كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين ) وذكر الجلال السيوطي في الاتقان عن بعضهم استثناء الآية الأولى فقط ثم قال قلت : وينبغي استثناء قوله تعالى : ولقد علمنا المستقدمين الآية لما أخرجه الترمذي وغيره في سبب نزولها وإنها في صفوف الصلاة وعلى هذا فقول أبي حيان ومثله في تفسير الخازن أنها مكية بلا خلاف الظاهر في عدم الاستثناء ظاهر في قلة التتبع وهي تسع وتسعون آية قال الداني : وكذا الطبرسي بالاجماع وتحتوي على ما قيل على خمس آيات نسختها آية السيف ووجه مناسبتها لما قبلها أنها مفتتحة بنحو ما افتتح به السورة السابقة ومشتملة أيضا على شرح أحوال الكفرة يوم القيامة وودادتهم لو كانوا مسلمين وقد اشتملت الأولى على نحو ذلك وأيضا ذكر في الأولى طرف من أحوال المجرمين في الآخرة وذكر هنا طرف مما نال بعضا منهم في الدنيا وأيضا قد ذكر سبحانه في كل مما يتعلق بأمر السماوات والأرض ما ذكر وأيضا فعل سبحانه نحو ذلك فيما يتعلق بإبراهيم عليه السلام وأيضا في كل من تسلية نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم ما فيه إلى غير ذلك مما لا يحصى.

سورة الحجر
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم أنها نزلت بمكة وروي ذلك عن قتادة.
ومجاهد، وفي مجمع البيان عن الحسن أنها مكية إلا قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: ٨٧] وقوله سبحانه: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [الحجر: ٩٠، ٩١]، وذكر الجلال السيوطي في الإتقان عن بعضهم استثناء الآية الأولى فقط ثم قال قلت: وينبغي استثناء قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ
[الحجر: ٢٤] الآية لما أخرج الترمذي. وغيره في سبب نزولها وإنها في صفوف الصلاة وعلى هذا فقول أبي حيان ومثله في تفسير الخازن أنها مكية بلا خلاف الظاهر في عدم الاستثناء ظاهر في قلة التتبع، وهي تسع وتسعون آية، قال الداني: وكذا الطبرسي بالإجماع وتحتوي على ما قيل على خمس آيات نسختها آية السيف.
ووجه مناسبتها لما قبلها أنها مفتتحة بنحو ما افتتح به السورة السابقة ومشتملة أيضا على شرح أحوال الكفرة يوم القيامة وودادتهم لو كانوا مسلمين، وقد اشتملت الأولى على نحو ذلك، وأيضا ذكر في الأول طرف من أحوال المجرمين في الآخرة، وذكر هنا طرف مما نال بعضا منهم في الدنيا، وأيضا قد ذكر سبحانه في كل مما يتعلق بأمر السموات والأرض ما ذكر، وأيضا فعل سبحانه نحو ذلك فيما يتعلق بإبراهيم عليه السلام، وأيضا في كل من تسلية نبينا ﷺ ما فيه إلى غير ذلك مما لا يحصى.
249
الر قد تقدم الكلام فيه تِلْكَ اختار غير واحد أنه إشارة إلى السورة أي تلك السورة العظيمة الشأن آياتُ الْكِتابِ الكامل الحقيق باختصاص اسم الكتاب به على الإطلاق كما يشعر به التعريف أي بعض منه مترجم مستقل باسم خاص فالمراد به جميع القرآن أو جميع المنزل إذ ذاك وَقُرْآنٍ عظيم الشأن كما يشعر به التنكير مُبِينٍ مظهر في تضاعيفه من الحكم والأحكام أو لسبيل الرشد والغي أو فارق بين الحق والباطل والحلال والحرام أو ظاهر معانيه أو أمر إعجازه، فالمبين إما من المتعدي أو اللازم، وفي جمع وصفي الكتابية والقرآنية من تفخيم شأن القرآن ما فيه حيث أشير بالأول إلى اشتماله على صفات كمال جنس الكتب الإلهية فكأنه كلها، وبالثاني إلى كونه ممتازا عن غيره نسيج وحده بديعا في بابه خارجا عن دائرة البيان قرآنا غير ذي عوج ونحو هذا فاتحة سورة النمل خلا أنه أخر هاهنا الوصف بالقرآنية عن الوصف بالكتابية لما أن الإشارة إلى امتيازه عن سائر الكتب بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيره منها أدخل في المدح لئلا يتوهم من أول الأمر أن امتيازه عن غيره لاستقلاله بأوصاف خاصة به من
250
غير اشتماله على نعوت كمال سائر الكتب الكريمة وعكس هناك نظرا إلى حال تقدم القرآنية على حال الكتابية قاله بعض المحققين.
وجوز أن يراد بالكتاب اللوح المحفوظ وذكر أن تقديمه هنا باعتبار الوجود وتأخيره هناك باعتبار تعلق علمنا لأنا إنما نعلم ثبوت ذلك من القرآن. وتعقب بأن إضافة الآيات إليه تعكر على ذلك إذ لا عهد باشتماله على الآيات.
والزمخشري جعل هنا الإشارة إلى ما تضمنته السورة والكتاب وما عطف عليه عبارة عن السورة. وذكر هناك أن الكتاب إما اللوح وإما السورة. وأما القرآن فآثر هاهنا أحد الأوجه هناك.
قال في الكشف: لأن الكتاب المطلق على غير اللوح أظهر، والحمل على السورة أوجه مبالغة كما دل عليه أسلوب قوله تعالى: وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ [الرعد: ١] وليطابق المشار إليه فإنه إشارة إلى آيات السورة ثم قال: وإيثار الحمل على اتحاد المعطوف والمعطوف عليه في الصدق لأن الظاهر من إضافة الآيات ذلك.
ولما كان في التعريف نوع من الفخامة وفي التنكير نوع آخر وكان الغرض الجمع عرف الكتاب ونكر القرآن هاهنا وعكس في النمل وقدم المعرف في الموضعين لزيادة التنويه ولما عقبه سبحانه بالحديث عن الخصوص هنالك قدم كونه قرآنا لأنه أدل على خصوص المنزل على محمد ﷺ للإعجاز، وتعقب تفسير ذلك بالسورة دون جميع القرآن أو المنزل إذ ذاك بأنه غير متسارع إلى الفهم والمتسارع إليه عند الإطلاق ما ذكر وعليه يترتب فائدة وصف الآيات بنعت ما أضيفت إليه من نعوت الكمال لا على جعله عبارة عن السورة إذ هي في الاتصاف بذلك ليست بتلك المرتبة من الشهرة حتى يستغني عن التصريح بالوصف على أنها عبارة عن جميع آياتها فلا بد من جعل تلك إشارة إلى كل واحدة منها، وفيه من التكلف ما لا يخفى. ثم إن الزمخشري بعد أن فسر المتعاطفين بالسورة أشار إلى وجه التغاير بينهما بقوله كأنه قيل: الكتاب الجامع للكمال والغرابة في البيان ورمز إلى أنه لما جعل مستقلا في الكمال والغرابة قصد قصدهما فعطف أحدهما على الآخر فالغرض من ذكر الذات في الموضعين الوصفان، وهذه فائدة إيثار هذا الأسلوب، ومن هذا عده من عده من التجريد قاله في الكشف.
وقال الطيبي بعد أن نقل عن البغوي توجيه التغاير بين المتعاطفين بأن الكتاب ما يكتب والقرآن ما يجمع بعضه إلى بعض، فإن قلت: رجع المآل إلى أن الْكِتابِ- وَقُرْآنٍ وصفان لموصوف واحد أقيما مقامه فما ذلك الموصوف وكيف تقديره؟ فإن قدرته معرفة رفعه وَقُرْآنٍ مُبِينٍ وإن ذهبت إلى أنه نكرة أباه لفظ الْكِتابِ قلت:
أقدره معرفة وَقُرْآنٍ مُبِينٍ في تأويل المعرفة لأن معناه البالغ في الغرابة إلى حد الإعجاز فهو إذا محدود بل محصور إلى آخر ما قال، وهو كلام خال عن التحقيق كما لا يخفى على أربابه، وقيل: المراد بالكتاب التوراة والإنجيل وبالقرآن الكتاب المنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم، وأخرج ذلك ابن جرير عن مجاهد، وقتادة، وأمر العطف على هذا ظاهر جدا إلا أن ذلك نفسه غير ظاهر، وفي المراد بالإشارة عليه خفاء أيضا.
وفي البحر أن الإشارة على هذا القول إلى آيات الكتاب وهو كما ترى ثم إنه سبحانه لما بين شأن الآيات لتوجيه المخاطبين إلى حسن تلقي ما فيها من الأحكام والقصص والمواعظ شرع جل شأنه في بيان المتضمن فقال عز قائلا: رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بما يجب الإيمان به لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ مؤمنين بذلك، وقيل: المراد كفرهم بالكتاب والقرآن وبكونه من عند الله تعالى وودادتهم الانقياد لحكمه والإذعان لأمره، وفيه إيذان بأن كفرهم إنما كان بالجحود، وفيه نظر، وهذه الودادة يوم القيامة عند رؤيتهم خروج العصاة من النار.
أخرج ابن المبارك، وابن أبي شيبة، والبيهقي. وغيرهم عن ابن عباس. وأنس رضي الله تعالى عنهم أنهما تذاكرا
251
هذه الآية فقال: هذا حيث يجمع الله تعالى بين أهل الخطايا من المسلمين والمشركين في النار فيقول المشركون: ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون فيغضب الله تعالى لهم فيخرجهم بفضل رحمته.
وأخرج الطبراني وابن مردويه بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ناسا من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله تعالى أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون: ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله تعالى من النار ثم قرأ رسول الله ﷺ الآية».
وأخرج غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه. وأبي موسى الأشعري. وأبي سعيد الخدري نحو ذلك يرفعه كل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام،
وروي ذلك عن كثير من السلف الصالح، فقول الزمخشري: إن القول به باب من الودادة بيت من السفاهة قعيدته عقيدته الشوهاء، وقال الضحاك: إن ذلك في الدنيا عند الموت وانكشاف وخامة الكفر لهم، وعن ابن مسعود أن الآية في كفار قريش ودوا ذلك يوم بدر حين رأوا الغلبة للمسلمين، وفي رواية عنه وعن أناس من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أن ذلك حين ضربت أعناقهم فعرضوا على النار.
وذكر ابن الأنباري أن هذه الودادة من الكفار عند كل حالة يعذب فيها الكافر ويسلم المسلم، «ورب» على كثرة وقوعها في كلام العرب لم تقع في القرآن إلا في هذه الآية، ويقال فيها رب بضم الراء وتشديد الباء وفتحها ورب بفتح الراء ورب بضمهما وربت بالضم وفتح الباء والتاء وربت بسكون التاء وربت بفتح الثلاثة وربت بفتح الأولين وسكون التاء وتخفيف الباء من هذه السبعة وربتا بالضم وفتح الباء المشددة ورب بالضم والسكون ورب بالفتح والسكون فهذه سبع عشرة لغة حكاها ما عدا ربتا ابن هشام في المغني وحكى أبو حيان إحدى عشر منها- ربتا- وإذا اعتبر ضم الاتصال بما والتجرد منها بلغت اللغات ما لا يخفى، وزعم ابن فضالة (١) في الهوامل والعوامل أنها ثنائية الوضع كقد وأن فتح الباء مخففة دون التاء ضرورة وأن فتح الراء مطلقا شاذ، وهي حرف حر خلافا للكوفية. والأخفش في أحد قوليه. وابن الطراوة زعموا أنها اسم مبني ككم واستدلوا على اسميتها بالإخبار عنها في قوله:
إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن عارا عليك ورب قتل عار
فرب عندهم مبتدأ وعار خبره، وتقع عندهم مصدرا كرب ضربة ضربت، وظرفا كرب يوم سرت، ومفعولا به كرب رجل ضربت، واختار الرضي اسميتها إلا أن إعرابها عنده رفع أبدا على أنها مبتدأ لا خبر له كما اختار ذلك في قولهم: أقل رجل يقول ذلك إلا زيدا، وقال: إنها إن كفت بما فلا محل لها حينئذ لكونها كحرف النفي الداخل على الجملة ومنع ذلك البصريون بأنها لو كانت اسما لجاز أن يتعدى إليها الفعل بحرف الجر فيقال برب رجل عالم مررت، وأن يعود عليها الضمير ويضاف إليها وجميع علامات الاسم منتفية عنها، وأجيب عن البيت بأن المعروف- وبعض- بدل رب، وإن صحت تلك الرواية فعار خبر مبتدأ محذوف أي هو عار كما صرح به في قوله: يا رب هيجا هي خير من دعة. والجملة صفة المجرور أو خبره إذ هو في موضع مبتدأ، ويرد قياسها على كم كما قال أبو علي:
إنهم لم يفصلوا بينها وبين المجرور كما فصلوا بين كم وما تعمل فيه وفي مفادها أقوال: أحدها أنها للتقليل دائما وهو قول الأكثرين، وعد في البسيط منهم الخليل. وسيبويه. والأخفش. والمازني. والفارسي. والمبرد. والكسائي. والفراء.
وهشام. وخلق آخرون. ثانيها أنها للتكثير دائما وعليه صاحب العين. وابن درستويه. وجماعة، وروي عن الخليل.
(١) هو أبو الحسن علي اه منه.
252
ثالثها واختاره الجلال السيوطي وفاقا للفارابي وطائفة أنها للتقليل غالبا والتكثير نادرا. رابعها عكسه وجزم به في التسهيل واختاره ابن هشام في المغني. وخامسها أنها لهما من غير غلبة لأحدهما نقله أبو حيان عن بعض المتأخرين.
سادسها أنها لم توضع لواحد منهما بل هي حرف إثبات لا يدل على تكثير ولا تقليل وإنما يفهم ذلك من خارج واختاره أبو حيان. سابعها أنها للتكثير في المباهاة وللتقليل فيما عداه وهو قول الأعلم. وابن السيد. ثامنها أنها لمبهم العدد وهو قول ابن الباذش وابن طاهر وتصدر وجوبا غالبا، ونحو قوله:
تيقنت أن رب امرئ خيل خائنا أمين وخوان بخال أمينا
وقوله:
ولو علم الأقوام كيف خلفتهم لرب مفد في القبور وحامد
يحتمل أن يكون كما قال الشمني ضرورة، وقال أبو حيان: المراد تصدرها على ما تتعلق به فلا يقال: لقيت رب رجل عالم، وذكروا أنها قد تسبق بألا كقوله:
ألا رب مأخوذ بإجرام غيره فلا تسأمن هجران من كان أجرما
وبيا صدر جواب شرط غالبا كقوله: فإن أمس مكروبا فيا رب فتية. ومن غير الغالب يا رب كاسية الحديث ولا تجر غير نكرة وأجاز بعضهم جرها المعرف بأل احتجاجا بقوله:
ربما الجامل المؤبل فيهم وعناجيج بينهن المهار
وأجاب الجمهور بأن الرواية بالرفع وإن صح الجر فأل زائدة، وفي وجوب نعت مجرورها خلف فقال المبرد.
وابن السراج. والفارسي. وأكثر المتأخرين وعزى للبصريين يجب لإجرائها مجرى حرف النفي حيث لا تقع إلا صدرا ولا يقدم عليها ما يعمل في الاسم بعدها، وحكم حرف النفي أن يدخل على جملة فالأقيس في مجرورها أن يوصف بجملة لذلك، وقد يوصف بما يجري مجراها من ظرف أو مجرور أو اسم فاعل أو مفعول وجزم به ابن هشام في المعنى وارتضاه الرضي، وقال الأخفش. والفراء. والزجاج. وابن طاهر. وابن خروف. وغيرهم لا يجب وتضمنها القلة أو الكثرة يقوم مقام الوصف واختاره ابن مالك وتبعه أبو حيان ونظر في الاستدلال المذكور بما لا يخفى، وتجر مضافا إلى ضمير مجرورها معطوفا بالواو كرب رجل وأخيه ولا يقاس على ذلك عند سيبويه، وما حكاه الأصمعي من مباشرة للمضاف إلى الضمير حيث قال لأعرابية ألفلان أب أو أخ؟ فقالت: رب أبيه رب أخيه تريد رب أب له رب أخ له تقديرا للانفصال لكون أب وأخ من الأسماء التي يجوز الوصف بها فلا يقاس عليه اتفاقا، وتجر ضميرا مفردا مذكرا يفسره نكرة منصوبة مطابقة للمعنى الذي يقصده المتكلم غير مفصولة عنه وسمع جره في قوله:
وربه عطب أنقذت من عطبه على نية من وهو شاذ، وجوز الكوفية مطابقة الضمير للنكرة المفسرة تثنية وجمعا وتأنيثا كما في قوله:
ربها فتية دعوت إلى ما يورث الحمد دائما فأجابوا
والأصح أن هذا الضمير معرفة جرى مجرى النكرة، واختار ابن عصفور تبعا لجماعة أنه نكرة وأن جرها إياها ليس قليلا ولا شاذا خلافا لابن مالك، وأنها زائدة في الإعراب لا المعنى، وإن محل مجرورها على حسب العامل لا لازم النصب بالفعل الذي بعد أو بعامل محذوف خلافا للزجاج ومتابعيه في قولهم: بذلك لما يلزم عليه من تعدي الفعل المتعدي بنفسه إلى مفعوله بالواسطة وهو لا يحتاج إليها فيعطف على محله كما يعطف على لفظه كقوله:
253
وسن (١) كسنيق سناء وسنما... ذعرت بمدلاح الهجير نهوض
وأنها تتعلق كسائر حروف الجر وقال الرماني وابن طاهر لا تتعلق كالحرف الزائدة وإن التعلق بالعامل الذي يكون خبرا لمجرورها أو عاملا في موضعه أو مفسرا له قاله أبو حيان، وقال ابن هشام: قول الجمهور أنها معدية للعامل إن أرادوا المذكور فخطأ إنه يتعدى بنفسه أو محذوفا يقدر بحصل ونحوه كما صرح به جماعة ففيه تقدير ما معنى الكلام مستغنى عنه ولم يلفظ به في وقت، ثم على التعليق قال لكذة: حذفه لحن، والخليل وسيبويه نادر كقوله:
ودوية قفر تمشى نعامها... كمشي النصارى في خفاف اليرندج (٢)
أي قطعتها ويرد لكذة هذا وقولهم: رب رجل قائم ورب ابنة خير من ابن، وقوله:
الا رب من تغتشه لك ناصح... ومؤتمن بالغيب غير أمين
والفارسي والجزولي كثير وبه جزم ابن الحاجب. ورابعها واجب كما نقله صاحب البسيط عن بعضهم وخامسها، ونقل عن ابن أبي الربيع يجب حذفه إن قامت الصفة مقامه وإلا جاز الأمران سواء كان دليل أم لا؟ ويجب عند المبرد. والفارسي. وابن عصفور، وهو المشهور كما قال أبو حيان: ورأى الأكثرين كونه ماضيا معنى، وقال ابن السراج: يأتي حالا، وابن مالك يأتي مستقبلا واختاره في البحر إلا أنه قال بقلته وكثرة وقوع الماضي، وأنشد له قول سليم القشيري:
ومعتصم بالجبن من خشية الردى... سيردى وغاز مشفق سيؤوب
وقول هند:
يا رب قائلة غدا... يا لهف أم معاويه
وجعل كابن مالك الآية من ذلك وتأولها الأكثرون بأنه وضع فيها المضارع موضع الماضي على حد ونفخ في الصور وتعقبه ابن هشام بأن فيه تكلفا لاقتضائه أن الفعل المستقبل عبر به عن ماض متجوز به عن المستقبل، وأجاب الشمني بأنه لا تكلف فيه لأنهم قالوا: إن هذه الحالة المستقبلة جعلت بمنزلة الماضي المتحقق فاستعمل معها ربما المختصة بالماضي وعدل إلى لفظ المضارع لأنه كلام من لا خلف في أخباره فالمضارع عنده بمنزلة الماضي فهو مستقبل في التحقيق ماض بحسب التأويل وهو كما ترى، وعن أبي حيان أنه أجاب عن بيت هند بأنه من باب الوصف بالمستقبل لا من باب تعلق رب بما بعدها وهو نظير قولك، رب مسيء اليوم يحسن غدا أي رب رجل يوصف بهذا الوصف وتأول الكوفيون كما في المطول الآية بأنها بتقدير كان أي ربما كان يود الذين كفروا فحذف لكثرة استعمال كان بعد ربما، وضعف ذلك أبو حيان بأن هذا ليس من مواضع إضمار كان، وفي جمع الجوامع وشرحه أن- ما- تزاد بعد رب فالغالب الكلف وإيلائها حينئذ الفعل الماضي لأن التكثير أو التقليل إنما يكون فيما عرف حده والمستقبل مجهول كقوله:
ربما أوفيت في علم... ترفعن ثوبي شمالات
وقد يليها المضارع ك رُبَما يَوَدُّ الآية وقد يليها الجملة الاسمية نحو: ربما الجامل المؤبل فيهم. وقد لا تكف نحو:
(١) قوله وسن هو الثور الوحشي، وسنيق كقبيط بيت مجصص كما في القاموس والسنم بضم السين المهملة وفتح النون المشددة بقرة الوحش اه همع، وقوله بمدلاح إلخ وصف للفرس اه منه والمدلاح بالحاء المهملة كثير العرق كما في الدسوقي على المغني اه. [.....]
(٢) اليرندج السواد يسود به الخف أو هو الزاج اه قاموس.
254
ربما ضربة بسيف صقيل... بين بصرى وطعنة نجلاء
وقيل: يتعين بعدها الفعلية إذا كفت وإليه ذهب الفارسي وأول البيت على أن ما نكرة موصوفة بجملة حذف مبتدأها أي رب شيء هو الجامل، وقد يحذف الفعل بعدها كقوله:
فذلك إن يلق الكريهة يلقها... حميدا وإن يستغن يوما فربما
وقد تلحق بها ما ولا تكف كقوله:
ماويّ يا ربتما غارة... شعواء كالكية بالميسم
انتهى. وبنحو تأويل الفارسي البيت أول بعضهم الآية فقال: إن ما نكرة موصوفة بجملة يَوَدُّ إلى آخره والعائد محذوف، والفعل المتعلق به رب محذوف أي رب شيء يوده الذين كفروا تحقق وثبت ونحوه قول ابن أبي الصلت:
ربما تجزع النفوس من الأمر... له فرجة كحل العقال
والتزم كون المتعلق محذوفا لأنها حينئذ لا يجوز تعلقها بيود ولا بد لها من فعل تتعلق به على ما صححه جمع، وأما على ما اختاره الرضي من كونها مبتدأ لا خبر له والمعنى قليل أو كثير وداد الذين كفروا فلا حاجة إليه، وهذا التأويل على ما قال السمرقندي أحد قولي البصريين، وتعقبه العلامة التفتازاني بأنه لا يخفى ما فيه من التعسف وبتر النظم الكريم أي قطع لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ عما قبله، ووجه التعسف أن المعنى على تقليل أو تكثير ودادهم لا على تقليل أو تكثير شيء إلا أن يراد رب شيء يودونه من حيث إنهم يودونه، والمختار عندي ما اختاره أبو حيان وكذا صاحب اللب من أن رب تدخل على الماضي والمضارع إلا أن دخولها على الماضي أكثر، ومن تتبع أشعار العرب رأى فيها مما دخلت فيه على المضارع ما يبعد ارتكاب التأويل معه كما لا يخفى على المنصف المتتبع واختلفوا في مفادها هنا فذهب جمع كثير إلى أنه التقليل وهو ظاهر أكثر الآثار حيث دلت على أن ودادهم ذلك عند خروج عصاه المسلمين من جهنم وبقائهم فيها. نعم زعم بعضهم أن الحق أن ما فيها محمول على شدة ودادهم إذ ذاك وأن نفس الوداد ليس مختصا بوقت دون وقت بل هو متقرر مستمر في كل آن يمر عليهم.
ووجه الزمخشري الإتيان بأداة التقليل على هذا بأنه وارد على مذهب العرب في قولهم: لعلك ستندم على فعلك وربما ندم الإنسان على ما فعل ولا يشكون في تندمه ولا يقصدون تقليله ولكنهم أرادوا لو كان الندم مشكوكا فيه أو قليلا لحق عليك أن لا تفعل هذا الفعل لأن العقلاء يتحرزون من التعرض للغم المظنون كما يتحرزون من التعرض للغم المتيقن ومن القليل منه كما من الكثير، وكذلك المعنى في الآية لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة فبالحري أن يسارعوا إليه فكيف وهم يودونه في كل ساعة اه.
والكلام عليه على ما قيل من الكناية الإيمائية وفي ذلك من المبالغة ما لا يخفى، قال ابن المنير: لا شك أن العرب تعبر عن المعنى بما يؤدي عكس مقصوده كثيرا، ومنه والله تعالى أعلم قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ [الصف: ٥] المقصود منه توبيخهم على أذاهم لموسى عليه السلام على توفر علمهم برسالته ومناصحته لهم، وقوله:
قد أترك القرن مصفرا أنامله. فإنه إنما يتمدح بالإكثار من ذلك وقد عبر بقد المفيدة للتقليل، وقد اختلف توجيه علماء البيان لذلك فمنهم من وجهه بما ذكر عن الزمخشري من التنبيه بالأدنى على الأعلى، ومنهم من وجهه بأن المقصود في ذلك الإيذان بأن المعنى قد بلغ الغاية حتى كاد أن يرجع إلى الضد وذلك شأن كل ما بلغ نهايته أن يعود إلى عكسه، وقد أفصح المتنبي عن ذلك بقوله:
255
ولجدت حتى كدت تبخل حائلا للمنتهى ومن السرور بكاء
وكلا الوجهين يحمل الكلام على المبالغة بنوع من الإيقاظ إليها، والعمدة في ذلك على سياق الكلام لأنه إذا اقتضى مثلا تكثيرا فدخلت فيه عبارة يشعر ظاهرها بالتقليل استيقظ السامع لأن المراد المبالغة على إحدى الطريقتين المذكورتين، وقال في الكشف: الأصل في هذا الباب أن استعارة أحد الضدين للآخر تفيد المبالغة للتعكيس ولا تختص بالتهكم والتمليح على ما يوهمه ظاهر لفظ صاحب المفتاح في موضع فهو الذي عد المفازة من هذا القبيل لقصد التفاؤل ثم قد يختصر موقعها بفائدة زائدة كما ذكره الزمخشري في هذا المقام، وليس في ذلك كناية إيمائية وإنما ذلك من فوائد هذه الاستعارة وسيجيء إن شاء الله تعالى فيه كلام أتم بسطا في سورة التكوير اه.
والحق أنه لا مانع من القول بالكناية الإيمائية كما لا يخفى، وقيل: إن التقليل بالنسبة إلى زمان ذهاب عقلهم من الدهشة بمعنى أنه تدهشهم أهوال القيامة فيبهتون فإن وجدت منهم إفاقة ما تمنوا ذلك، وظاهر صنيع العلامة التفتازاني في المطول اختياره، وجوز أن تكون مستعارة للتكثير والقول بالاستعارة له لا يحتاج إليه على القول المحكي عن صاحب العين ومن معه حسبما سمعت، وذكر ابن الحاجب أنها نقلت من التقليل إلى التحقيق كما تنقل قد إذا دخلت على المضارع منه إليه. ومفعول يَوَدُّ محذوف أي الإسلام بدلالة لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ بناء على أن لَوْ للتمني والجملة في موقع الحال أي قائلين لو كانوا مسلمين، وتقدير المفعول ما ذكرنا هو الذي ذهب إليه غير واحد، وقال الشهاب: تقديره النجاة ولا ينبغي تقدير الإسلام لأنه يصير تقديره يودوا الإسلام لو كانوا مسلمين وهو حشو وفيه نظر.
وقال صاحب الفرائد: أن لَوْ كانُوا إلى آخره منزل منزلة المفعول. وتعقب بأنه غير ظاهر إذ ليس ذلك مما يعمل في الجمل إلا أن يكون بمعنى ذكروا التمني ويجري مجرى القول على مذهب بعض النحاة. والغيبة في حكاية ودادتهم كالغيبة في قولك: حلف بالله تعالى ليفعلن ولو قلت لأفلن لجاز، وعلى ذلك جاء قوله تعالى تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ [النمل: ٤٩] بالنون والياء وإيثار الغيبة أكثر لئلا يلبس والتعليل بقلة التقدير ليس بشيء كما كشف ذلك في الكشف، وأنكر قوم ورود لَوْ للتمني، وقالوا ليست قسما برأسها وإنما هي الشرطية أشربت معنى التمني وعلى الأول الأصح لا جواب لها على الأصح. وقد نص على ذلك ابن الضائع وابن هشام الخضراوي، ونقل أنهما قالا تحتاج إلى جواب كجواب الشرط سهو وذكر أبو حيان أن الذي يظهر أنها لا بد لها من جواب لكنه التزم حذفه لإشرابها معنى التمني لأنه متى أمكن تقليل القواعد وجعل الشيء من باب المجاز كان أولى من تكثير القواعد وادعاء الاشتراك لأنه يحتاج إلى وضعين والمجاز ليس فيه إلا وضع واحد وهو الحقيقة، وقيل: إنها هنا امتناعية شرطية والجواب محذوف تقديره لفازوا ومفعول يَوَدُّ ما علمت، وزعم بعضهم مصدريتها فيما إذا وقعت بعد ما يدل على التمني فالمصدر حينئذ هو المفعول وهو على القول بأن ما نكرة موصوفة بدل منها كما في البحر. وقرأ عاصم. ونافع «ربما» بتخفيف الباء وعن أبي عمرو التخفيف والتشديد، وقرأ طلحة بن مصرف وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ربتما بزيادة تاء هذا، وإنما أطنبت الكلام في هذه الآية لا سيما فيما يتعلق- برب- لما أنه قد جرى لي بحث في ذلك مع بعض العظاميين فأبان عن جهل عظيم وحمق جسيم، ورأيته ورب الكعبة أجهل من رأيت من صغار الطلبة- برب- نعم له من العظاميين أمثال أصمهم الله تعالى وأعمى بالهم وقللهم ولا أكثر أمثالهم. ذَرْهُمْ أي اتركهم وقد استغنى غالبا عن ماضيه بماضيه وجاء قليلا وذر،
وفي الحديث «ذروا الحبشة ما وذروكم»
والمراد من الأمر التخلية بينهم وبين شهواتهم إذ لم تنفعهم النصيحة والانذار كأنه قيل: خلهم وشأنهم يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا بدنياهم، وفي تقديم الأكل
256
إيذان بأن تمتعهم إنما هو من قبيل تمتع البهائم بالمآكل والمشارب، والفعل وما عطف عليه مجزوم في جواب الأمر، وأشار في الكشاف أن المراد المبالغة في تخليتهم حتى كأنه عليه السلام أمر أن يأمرهم بما لا يزيدهم إلا ندما، ووجهه المدقق صاحب الكشف فقال: أريد الأمر من حيث المعنى لأنه جعل أكلهم وتمتعهم الغاية المطلوبة من الأمر بالتخلية، والغايات المطلوبة إن صح الأمر بها كانت مأمورا بها بنفس الأمر وأبلغ من صريحه فإذا قلت: لازم سدة العالم تعلم منه ما ينجيك في الآخرة كان أبلغ من قولك: لازم وتعلم لأنك جعلت الأمر وسيلة الثاني فهو أشد مطلوبية وإن لم يصح جعلت مأمورا بها مجازا كقولك: اسلم تدخل الجنة، وما نحن فيه لما جعل غاية الأمر على التجوز صار مأمورا به على ما أرشدت إليه اه، وهو من النفاسة بمكان، وظن أن انفهام الأمر من تقدير لامه، قبل الفعل من بعض الأمر، وما في البحر من أنه إذا جعل ذَرْهُمْ أمرا بترك نصيحتهم وشغل باله ﷺ بهم لا يترتب عليه الجواب لأنهم يأكلون ويتمتعون سواء ترك نصيحتهم أم لا وقوف في ساحل التحقيق كما لا يخفى على من غاص في لجة المعاني فاستخرج درر الأسرار واستظهر أنه أمر بترك قتالهم وتخلية سبيلهم وموادعتهم ثم قال: ولذلك صح أن يكون المذكور جوابا لأنه عليه الصلاة والسلام لو شغلهم بالقتال ومصالتة السيوف وإيقاع الحروب ما هنأهم أكل ولا تمتع ويدل على ذلك أن السورة مكية وهو كما ترى.
ثم المراد على ما قيل دوامهم على ما هم عليه لا إحداث ما ذكر أو تمتعهم بلا استمتاع ما ينغص عيشهم والتمتع كذلك أمر حادث يصلح أن يكون مرتبا على تخليتهم وشأنهم فتأمل وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ويشغلهم التوقع لطول الأعمار وبلوغ الأوطار واستقامة الأحوال وأن لا يلقوا إلا خيرا في العاقبة والمآل عن الإيمان والطاعة أو عن التفكر فيما يصيرون إليه فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه ووخامة عاقبته أو حقيقة الحال التي ألجأتهم إلى التمني.
وظاهر كلام الأكثرين أن المراد علم ذلك في الآخرة، وقيل: المراد سوف يعلمون عاقبة أمرهم في الدنيا من الذل والقتل والسبي وفي الآخرة من العذاب السرمدي، وهذا كما قيل مع كونه وعيدا أيما وعيد وتهديد غب تهديد تعليل للأمر بالترك، وفيه إلزام الحجة ومبالغة في الإنذار إذ لا يتحقق الأمر بالضد حسبما علمت إلا بعد تكرر الإنذار وتقرر الجحود والإنكار ومن أنذر فقد أعذر، وكذلك ما ترتب عليه من الأكل وما بعده، وفي الآية إشارة إلى أن التلذذ والتنعم وعدم الاستعداد للآخرة والتأهب لها ليس من أخلاق من يطلب النجاة، وجاء عن الحسن: ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل.
وأخرج أحمد في الزهد. والطبراني في الأوسط. والبيهقي في شعب الإيمان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لا أعلمه إلا رفعه قال: صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين ويهلك آخرها بالبخل والأمل.
وفي بعض الآثار عن علي كرم الله تعالى وجهه: إنما أخشى عليكم اثنتين طول الأمل واتباع الهوى فإن طول الأمل ينسي الآخرة واتباع الهوى يصد عن الحق.
وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ أي قرية من القرى بالخسف بها وبأهلها الكافرين كما فعل ببعضها أو بإخلائها عن أهلها بعد إهلاكهم كما فعل بآخرين إِلَّا وَلَها في ذلك الشأن كِتابٌ أجل مقدر مكتوب في اللوح مَعْلُومٌ لا ينسى ولا يغفل عنه حتى يتصور التخلف عنه بالتقدم والتأخر، وهذا شرع في بيان سر تأخير عذابهم. وكِتابٌ مبتدأ خبره الظرف والجملة حال من قَرْيَةٍ ولا يلزم تقدمها لكون صاحبها نكرة لأنها واقعة بعد النفي وهو مسوغ لمجيء الحال لأنه في معنى الوصف لا سيما وقد تأكد بكلمة مِنْ والمعنى ما أهلكنا قرية من القرى في حال من الأحوال إلا حال أن يكون لها كتاب معلوم لا نهلكها قبل بلوغه ولا نغفل عنه
257
ليمكن مخالفته، أو مرتفع بالظرف والجملة كما هي حال أيضا أي ما أهلكنا قرية من القرى في حال من الأحوال إلا وقد كان لها في حق إهلاكها أجل مقدر لا يغفل عنه.
وقال الزمخشري الجملة صفة- لقرية- والقياس أن لا يتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ [الشعراء: ٢٠٨] وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال: جاءني زيد عليه ثوب وجاءني وعليه ثوب، ووافقه على ذلك أبو البقاء، وتعقبه في البحر بأنا لا نعلم أحدا قاله من النحاة، وهو مبني على أن ما بعد ألا يجوز أن يكون صفة، وقد صرح الأخفش. والفارسي بمنع ذلك، وقال ابن مالك: أن جعل ما بعد إلا صفة لما قبلها مذهب لم يعرف لبصري ولا كوفي فلا يلتفت إليه وأبطل القول بأن الواو توسطت لتأكيد اللصوق.
ونقل عن منذر بن سعيد أن هذه الواو هي التي تعطي أن الحالة التي بعدها في اللفظ هي في الزمن قبل الحالة التي قبل الواو، ومنه قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: ٧١، ٧٣] واعتذر السكاكي بأن ذلك سهو ولا عيب فيه، ولم يرض بذلك صاحب الكشف وانتصر للزمخشري فقال: قد تكرر هذا المعنى منهم في هذا الكتاب فلا سهو كما اعتذر صاحب المفتاح، وإذا ثبت اقحام الواو كما عليه الكوفيون والقياس لا يدفعه لثبوته في الحال وفيما أضمر بعده الجار في نحو بعت الشاء شاة ودرهما وكم وكم، وهذه تدل على أن الاستعارة شائعة في الواو نوعية بل جنسية فلا نعتبر النقل الخصوصي ولا يكون من إثبات اللغة بالقياس لثبوت النقل عن نحارير الكوفة واعتضاده بالقياس، والمعنى ولا يبعد من صاحب المعاني ترجيح المذهب الكوفي إذا اقتضاه المقام كما رجحوا المذهب التميم على الحجازي (١) في باب الاستثناء عنده، ولا خفاء أن المعنى على الوصف أبلغ وأن هذا الوصف ألصق بالموصوف منه في قوله تعالى: إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ [الشعراء: ٢٠٨] لأنه لازم عقلي وذلك عادي جرى عليه سنة الله تعالى اه. وفي الدر المصون أنه قد سبق الزمخشري إلى ما قاله ابن جني وناهيك به من مقتدى.
قال بعض المحققين: إن الموصوف ليس القرية المذكورة وإنما هو قرية مقدرة وقعت بدلا من المذكورة على المختار فيكون ذلك بمنزلة كون الصفة لها أي ما أهلكنا قرية من القرى إلا قرية لها كتاب معلوم كما في قوله تعالى:
ْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ
[الغاشية: ٦، ٧] فإن لا يُسْمِنُ إلخ صفة لكن لا للطعام المذكور لأنه إنما يدل على انحصار طعامهم الذي لا يسمن ولا يغني من جوع في الضريع، وليس المراد ذلك بل للطعام المقدر بعد إِلَّا أي ليس لهم طعام من شيء من الأشياء إلا طعام لا يسمن إلخ فليس هناك الفصل بين الموصوف والصفة بإلا، وأما توسيط الواو وإن كان القياس عدمه فللإيذان بكمال الاتصال انتهى. ولا يخفى أنه لم يأت في أمر التوسيط بما يدفع عنه القال والقيل، وما ذكره من تقدير الموصوف بعد- إلا- يدفع حديث الفصل لكن نقل أبو حيان عن الأخفش أنه قال بعد منع الفصل بين الصفة والموصوف بالا: ونحو ما جاءني رجل إلا راكب تقديره إلا رجل راكب، وفيه قبح لجعلك الصفة كالاسم، ولعل الجواب عن هذا سهل. وقرأ ابن أبي عبلة إِلَّا لَها بإسقاط الواو، وهو على ما قيل يؤيد القول بزيادتها، ولما بين سبحانه أن الأمم المهلكة كان لكل منهم ومن غيرهم لهم كتاب لا يمكن التقدم عليه ولا التأخر عنه فقال عز قائلا: ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ من الأمم المهلكة وغيرهم- فمن- مزيدة
(١) وذلك أن بني تميم يجوزون الرفع في الاستثناء المنقطع وقد قال تعالى قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ والمعنى الصحيح فيه على الانقطاع وعلى الاتصال يحتاج إلى تكلف لصحة المعنى فافهم اه منه.
258
للاستغراق، وقيل: إنها للتبعيض وليس بذاك أَجَلَها المكتوب في كتابها أي لا يجيء هلاكها قبل مجيء كتابها أولا تمضي أمة قبل مضي أجلها، فإن السبق كما نقل الإمام عن الخليل إذا كان واقعا على زماني فمعناه المجاوزة والتخليف فإذا قلت: سبق زيد عمرا فمعناه أنه جاوزه وخلفه وراءه وأن عمرا قصرا عنه ولم يبلغه وإذا كان واقعا على زمانه كان على عكس ذلك فإذا قلت سبق فلان عام كذا كان معناه مضى قبل إتيانه ولم يبلغه والسر في ذلك على ما في إرشاد العقل السليم أن الزمان يعتبر فيه الحركة والتوجه فما سبقه يتحقق قبل تحققه وأما الزماني فإنما يعتبر فيه الحركة والتوجه إلى ما سيأتي من الزمان فالسابق ما تقدم إلى المقصد، وإيراده بعنوان الأجل باعتبار ما يقتضيه من السبق كما ان إيراده بعنوان الكتاب باعتبار ما يوجبه من الإهلاك وَما يَسْتَأْخِرُونَ أي وما يتأخرون.
وصيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له، وإيثار صيغة المضارع في الفعلين بعد ما ذكر نفي الإهلاك بصيغة الماضي لأن المقصود بيان دوامهما فيما بين الأمم الماضية والباقية، وله نظائر في كتاب الكريم وإسنادهما إلى الأمة بعد إسناد الإهلاك إلى القرية لما أن السبق والاستئخار حال الأمة بدون القرية مع ما في الأمة من العموم لأهل تلك القرى وغيرهم ممن أخرت عقوباتهم إلى الآخرة، وتأخير عدم سبقهم مع كون المقام مقام المبالغة في بيان تحقق عذابهم إما باعتبار تقدم السبق في الوجود وإما باعتبار أن المراد بيان سر تأخير عذابهم مع استحقاقهم لذلك، وأورد الفعل على صيغة جمع المذكر رعاية لمعنى أُمَّةٍ مع التغليب كما روعي لفظها أولا مع رعاية الفواصل ولهذا حذف الجار والمجرور والجملة مبينة لما سبق ولذا فصلت، والمعنى أن تأخير عذابهم إلى يوم الودادة حسبما أشير إليه إنما هو لتأخير أجلهم المقدر لما يقتضيه من الحكم ومن جملة ذلك ما علم الله تعالى من إيمان بعض من يخرج منهم قاله شيخ الإسلام واستدل بالآية على أن كل من مات أو قتل فإنما هو ميت بأجله وقد بين ذلك الإمام.
وَقالُوا شروع في بيان كفرهم بمن أنزل عليه الكتاب المتضمن للكفر به وبيان ما يؤول إليه حالهم، والقائل أهل مكة قال مقاتل: نزلت الآية في عبد الله بن أمية. والنضر بن الحرث. ونوفل بن خويلد. والوليد بن المغيرة وهم الذين قالوا له صلى الله عليه وسلم: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ أي القرآن، وخاطبوه عليه الصلاة والسلام بذلك مع أنهم الكفرة الذين لا يعتقدون نزول شيء استهزاء وتهكما وإشعارا بعلة الباطل في قولهم: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ يعنون يا من يدعي مثل هذا الأمر العظيم الخارق للعادة إنك بسبب تلك الدعوى متحقق جنونك على أتم وجه، وهذا كما يقول الرجل لمن يسمع منه كلاما يستبعده: أنت مجنون، وقيل: حكمهم هذا لما يظهر عليه الصلاة والسلام من شبه الغشي حين ينزل عليه الوحي بالقرآن، والأول على ما قيل هو الأنسب بالمقام، وذهب بعضهم إلى أن المقول الجملة المؤكدة دون النداء أما هو فمن كلام الله تعالى تبرئة له عليه الصلاة والسلام عما نسبوه إليه من أول الأمر. وتعقب بأنه لا يناسب قوله تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ إلخ فإنه كما سيأتي إن شاء الله تعالى رد لإنكارهم واستهزائهم، وقد يجاب بأن ذلك على هذا رد لما عنوه في ضمن قولهم المذكور لكن الظاهر كون الكل كلامهم. وقد سبقهم إلى نظيره فرعون عليه اللعنة بقوله في حق موسى عليه السلام: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: ٢٧] وتقديم الجار والمجرور على نائب الفاعل كما قيل لأن إنكارهم متوجه إلى كون النازل ذكرا من الله تعالى لا إلى كون المنزل عليه رسول الله ﷺ بعد تسليم كون النازل منه تعالى كما في قوله سبحانه: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] فإن الإنكار هناك متوجه إلى كون المنزل عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وإيراد الفعل على صيغة المجهول لإيهام أن ذلك ليس بفعل له فاعل أو لتوجيه الإنكار إلى كون التنزيل عليه لا إلى إسناده إلى الفاعل. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما نزل عليه الذكر بتخفيف نُزِّلَ مبنيا للفاعل ورفع
259
الذِّكْرُ على الفاعلية، وقرئ «يا أيها الذي ألقي عليه الذكر». قال أبو حيان: وينبغي أن تجعل هذه القراءة تفسيرا لمخالفتها سواد المصحف لَوْ ما تَأْتِينا كلمة لَوْ ما كلولا تستعمل في أحد معنيين امتناع الشيء لوجود غيره والتخفيض وعند إرادة الثاني منها لا يليها إلا فعل ظاهر أو مضمر وعند إرادة الأول لا يليها إلا اسم ظاهر أو مقدر عند البصريين، ومنه قول ابن مقبل:
لوما الحياء ولوما الدين عبتكما ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري
وعن بعضهم أن الميم في لَوْ ما بدل من اللام في لولا، ومثله استولى واستومى وخاللته وخالمته فهو خلي وخلمي أي صديقي. وذكر الزمخشري أن لو تركب مع لاوما لمعنيين وهل لا تركب إلا مع لا وحدها للتحضيض، واختار أبو حيان فيهما البساطة وأن الميم ليست بدلا من اللام، وقال المالقي: إن لَوْ ما لا ترد إلا للتحضيض وهو محجوج بالبيت السابق، وأيّا ما كان فالمراد هنا التحضيض أي هلا تأتينا بِالْمَلائِكَةِ يشهدون لك ويعضدونك في الانذار كقوله تعالى حكاية عنهم: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان: ٧] أو يعاقبون على تكذيبك كما كانت تأتي الأمم المكذبة لرسلهم إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك إن قدرة الله تعالى على ذلك مما لا ريب فيه وكذا احتياجك إليه في تمشية أمرك إذ لا نصدقك في ذلك الأمر الخطير بدونه أو إن كنت من جملة تلك الرسل الصادقين الذين عذبت أممهم المكذبة لهم ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بالنون على بناء الفعل لضمير الجلالة من التنزيل، وهي قراءة حفص. والأخوين وابن مصرف وقرأ أبو بكر عن عاصم. ويحيى بن وثاب «تنزّل الملائكة» بضم التاء وفتح النون والزاي مبنيا للمفعول ورفع «الملائكة» على النيابة عن الفاعل وقرأ الحرميان وباقي السبعة «تنزل الملائكة» بفتح التاء والزاي على أن الأصل «تتنزل» بتاءين فحذفت إحداهما تخفيفا ورفع الملائكة على الفاعلية وإبقاء الفعل على ظاهره أولى من جعله بمعنى تنزل الثلاثي. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «ما نزل» ماضيا مخففا مبنيا للفاعل ورفع الملائكة على الفاعلية. والبيضاوي بنى تفسيره على أن الفعل ينزل بالياء التحتية مبنيا للفاعل وهو ضمير الله تعالى والْمَلائِكَةَ
بالنصب على أنه مفعوله، واعترض عليه أنه لم يقرأ بذلك أحد من العشرة بل لم توجد هذه القراءة في الشواذ وهو خلاف ما سلكه في تفسيره، ولعله رحمه الله تعالى قدسها. وهذا الكلام مسوق منه سبحانه إلى نبيه ﷺ جوابا لهم عن مقالتهم المحكية وردا لاقتراحهم الباطل الصادر عن محض التعصب والعناد، ولشدة استدعاء ذلك للجواب قدم رده على ما هو جواب عن أولها أعني قوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ إلخ والعدول عن تطبيقه لظاهر كلامهم بصدد الاقتراح بأن يقال مثلا ما تأتيهم بهم للإيذان بأنهم قد اخطؤوا في الاقتراح وأن الملائكة لعلو رتبتهم أعلى من أن ينسب إليهم مطلق الإتيان الشامل للانتقال من أحد الأمكنة المتساوية إلى الآخر منها بل من الأسفل إلى الأعلى وأن يكون مقصد حركاتهم أولئك الكفرة وأن يدخلوا تحت ملكوت أحد من البشر وإنما الذي يليق بشأنهم النزول من مقامهم العالي وكون ذلك بطريق التنزيل من جناب الرب الجليل قاله شيخ الإسلام.
وقيل: لعل هذا جواب لما عسى أن يخطر بخاطره الشريف عليه الصلاة والسلام حين طلبوا منه الإتيان بالملائكة من سؤال التنزيل رغبة في إسلامهم فيكون وجه ذكر التنزيل ظاهرا وهو غير ظاهر كما لا يخفى. إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا تنزيلا ملتبسا بالوجه الذي اقتضته الحكمة فالباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الصفة للمصدر المحذوف مستثنى استثناء مفرغا، وجوز فيه الحالية من الفاعل والمفعول. وجوز أبو البقاء أن تكون الباء للسببية متعلقة بننزل وإليه يشير كلام ابن عطية الآتي إن شاء الله تعالى والأول أولى ومقتضى الحكمة التشريعية والتكوينية على ما قيل أن تكون الملائكة المنزلون بصور البشر وتنزيلهم كذلك يوجب اللبس كما قال الله تعالى وَلَوْ
260
جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ
[الأنعام: ٩] وهذا إشارة إلى نفي ترتب الغرض وعدم النفع في ذلك، وقوله تعالى: وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ إشارة إلى حصول الضرر وترتب نقيض المطلوب وكأنه عطف على مقدر يقتضيه الكلام السابق كأنه قيل: ما ننزل الملائكة عليهم إلا بصور الرجال لأنه الذي تقتضيه الحكمة فيحصل اللبس فلا ينفعون وما كانوا إذا أنزلناهم منظرين أي ويتضررون بتنزيلهم لأنا نهلكهم لا محالة ولا نؤخرهم لأنه قد جرت عادتنا في الأمم قبلهم أنا لم نأتهم بآية اقترحوها إلا والعذاب في أثرها إن لم يؤمنوا وقد علمنا منهم ذلك والمقصود نفي أن يكون لاقتراحهم الإتيان بهم وجه على أتم وجه بالإشارة إلى عدم نفعه أولا والتصريح بضرره ثانيا، وقيل: يقدر المعطوف عليه لا يؤمنون كأنه قيل: ما ننزل الملائكة إلا بصور البشر لاقتضاء الحكمة ذلك فلا يؤمنون وما كانوا إذا منظرين، وفي النفس من هذا ومما قبله شيء.
وقال بعض المحققين: إن المعنى ما ننزل الملائكة إلا ملتبسا بالوجه الذي يحق ملابسة التنزيل به مما تقتضيه الحكمة وتجري به السنة الإلهية، والذي اقترحوه من التنزيل لأجل الشهادة لديهم وهم- هم- ومنزلتهم في الحقائق منزلتهم مما لا يكاد يدخل تحت الصحة والحكمة أصلا فإن ذلك من باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يفتح على غير الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام من أفراد كل المؤمنين فكيف على أمثال أولئك الكفرة اللئام، وإنما الذي يدخل في حقهم تحت الحكمة في الجملة هو التنزيل للتعذيب والاستئصال كما فعل بأضرابهم من الأمم السالفة ولو فعل ذلك لاستؤصلوا بالمرة وما كانوا إذا مؤخرين كدأب سائر الأمم المكذبة المستهزئة، ومع استحقاقهم لذلك قد جرى قلم القضاء بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة حسبما أجمل في الآيات قبل، وحال حائل الحكمة يأباه تماديهم في الكفر والعناد- فما كانوا- إلخ جواب لشرط مقدر أي ولو أنزلناهم ما كانوا إلخ.
واعترض بأن الأوفق بقوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الأنعام: ٩] أن يكون الوجه الذي يحق ملابسة التنزيل به لمثل غرضهم كونهم بصور الرجال وذلك ليس من باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يكون لهم أصلا فلا يتم كلامه، وفيه بحث كما لا يخفى، وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن مجاهد تفسير الحق هنا بالرسالة والعذاب، ووجهت الآية على ذلك نحو هذا التوجيه فقيل: المعنى ما ننزل الملائكة إلا بالرسالة والعذاب ولو نزلناهم عليهم ما كانوا منظرين لأن التنزيل عليهم بالرسالة مما لا يكاد فتعين أن يكون التنزيل بالعذاب، وذكر الماوردي الاقتصار على الرسالة، وروي عن الحسن الاقتصار على العذاب، وفي معنى ذلك ما روي عن ابن عباس من أن المعنى ما ننزل الملائكة إلا بالحق الذي هو الموت الذي لا يقع فيه تقديم ولا تأخير.
وقال ابن عطية: الحق ما يجب ويحق من الوحي والمنافع التي أرادها الله تعالى لعباده، والمعنى ما ننزل الملائكة إلا بحق واجب من وحي ومنفعة لا باقتراحكم، وأيضا لو نزلنا لم تنظروا بعد ذلك بالعذاب لأن عادتنا إهلاك الأمم المقترحة إذا آتيناهم ما اقترحوه، وفيه ما فيه، وقال الزمخشري: المعنى ألا تنزلا ملتبسا بالحكمة والمصلحة ولا حكمة في أن تأتيكم عيانا تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النبي ﷺ لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار، وهو مبني على أن الإنزال بصورهم الحقيقة، ومنه أخذ صاحب القيل المذكور أولا قيله. والبيضاوي جعل المنافي للحكمة إنزالهم بصور البشر حيث قال: لا حكمة في أن تأتيكم بصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لبسا.
وقال بعضهم: أريد أن إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحق وحصول الفائدة بإنزالهم وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفرة أنه لو أنزل إليهم الملائكة لبقوا مصرين على كفرهم فيصير إنزالهم عبثا باطلا ولا يكون حقا، وتعقب الأقوال الثلاثة البعض من المحققين بأنه مع إخلال كل من ذلك بفظيعة الآتي لا يلزم من فرض وقوع شيء من ذلك
261
تعجيل العذاب الذي يفيده قوله سبحانه: وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ومن الناس من تكلف لتوجيه اللزوم على بعض هذه الأقوال بما تكلف، واختار بعضهم كون المراد من الحق الهلاك والجملة بعد جواب سؤال مقدر فكأنه لما قيل:
ما ننزل الملائكة إلا بالهلاك إذ هو الذي يحق لأمثالهم من المعاندين قيل: فليكن ذلك فأجيب بأنه لو فعلنا ما كانوا منظرين أي وهم قد كانوا منظرين كما أجمل فيما قبل من قوله سبحانه: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر: ٣] وحاصل الجواب حينئذ على ما قيل أن ما طلبوه من الإتيان بالملائكة ليشهدوا بصدق النبي ﷺ مما لا يكون لهم لأن ما اقتضته حكمتنا وجرت به عادتنا مع أمثالهم ليس إلا التنزيل بالهلاك دون الشهادة فإن الحكمة لا تقتضيه والعادة لم تجر فيه لأنه إن كان والملائكة بصورهم الحقيقية لم يحصل الإيمان بالغيب ولم يتحقق الاختيار الذي هو مدار التكليف وإن كان وهم بصور البشر حصل اللبس فكان وجوده كعدمه ولزم التسلسل، ويمنع من التنزيل بالهلاك كما فعل مع أضرابهم من المعاندين أنا جعلناهم منظرين فلو نزلنا الملائكة وأهلكناهم عاد ذلك بالنقض لما أبرمناه حسبما نعلم فيه من الحكم، وقيل: في توجيه الآية على تقدير كون اقتراحهم لإتيان الملائكة لتعذيبهم: إن المعنى إنا ما ننزل الملائكة للتعذيب إلا تنزيلا ملتبسا بما تقتضيه الحكمة ولو نزلناهم حسبما اقترحوا ما كان ذلك ملتبسا بما تقتضيه لأنها اقتضت تأخير عذابهم إلى يوم القيامة، وحيث كان في نسبة تنزيلهم للتعذيب إلى عدم موافقة الحكمة نوع إيهام لعدم استحقاقهم التعذيب عدل عما يقتضيه الظاهر إلى ما عليه النظم الكريم فكأنه قيل: لو نزلناهم ما كانوا منظرين وذلك غير موافق للحكمة، فتدبر جميع ذاك والله تعالى يتولى هداك، هذا ولفظة إِذاً قال في الكشاف: جواب وجزاء لأن الكلام جواب لهم وجزاء لشرط مقدر أي ولو نزلنا، وصرح بإفادتها هذا المعنى سيبويه إلا أن الشلوبيين حمل ذلك على الدوام وتكلف له، وأبو علي على الغالب، وقد تتمحض للجواب عنده، وهي حرف بسيط عند الجمهور، وذهب قوم إلى أنها اسم ظرف وأصلها إذا الظرفية لحقها التنوين عوضا من الجملة المضاف إليها ونقلت إلى الجزائية فبقي فيها معنى الربط والسبب وذهب الخليل إلى أنها حرف تركب من إذ وإن وغلب عليها حكم الحرفية ونقلت حركة الهمزة إلى الذال ثم حذفت والتزم هذا النقل فكان المعنى إذا قال القائل أزورك فقلت إذا أزورك قلت حينئذ زيارتي واقعة ولا يتكلم بهذا.
وذهب أبو علي عمر بن عبد المجيد الزيدي إلى أنها مركبة من إذا وإن وكلاهما يعطي ما يعطي كل واحدة منهما فيعطي الربط كإذا والنصب كان ثم حذفت همزة إن ثم ألف إذا لالتقاء الساكنين، والظاهر أنه لو قدر في الكلام شرط كانت لمجرد التأكيد، وجعلوا من ذلك قوله تعالى: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً [البقرة: ١٤٥] إلخ، ونقل عن الكافيجي أنه قال في مثل ذلك: ليست إذا هذه الكلمة المعهودة وإنما هي إذا الشرطية حذفت جملتها التي تضاف إليها وعوض عنها التنوين كما في يومئذ، وله سلف في ذلك فقد قال الزركشي في البرهان بعد ذكره: لإذا معنيين وذكر لها بعض المتأخرين معنى ثالثا وهو أن تكون مركبة من إذا التي هي ظرف زمان ماض ومن جملة بعدها تحقيقا أو تقديرا لكنها حذفت تخفيفا وأبدل منها التنوين كما في قولهم حينئذ، وليست هذه الناصبة للمضارع لأن تلك تختص به وهذه لا بل تدخل على الماضي نحو إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ [الإسراء: ١٠] وعلى الاسم نحو وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء: ٤٢] ثم قال: وهذا المعنى لم يذكره النحويون لكنه قياس ما قالوه في إذ، وفي التذكرة لأبي حيان ذكر لي علم الدين أن القاضي تقي الدين بن رزين كان يذهب إلى أن تنوين إذا عوض من الجملة المحذوفة وليس قول نحوي، وقال الجوني: وأنا أظن أنه يجوز أن تقول لمن قال: أنا آتيك إذا أكرمك بالرفع على معنى إذا أتيتني أكرمك فحذفت أتيتني وعوضت التنوين فسقطت الألف لالتقاء الساكنين والنصب الذي اتفق عليه النحاة لحملها على غير هذا المعنى وهو لا ينفي الرفع إذا أريد بها ما ذكر.
262
وذكر الجلال السيوطي أن الإجماع في القرآن على كتابتها بالألف والوقف عليه دليل على أنها اسم منون لا حرف آخره نون خصوصا إذا لم تقع ناصبة للمضارع، فالصواب إثبات هذا المعنى لها كما جنح إليه شيخنا الكافيجي ومن سبق النقل عنه، وعلى هذا فالأولى حملها في الآية على ما ذكر، وقد ذكرنا فيما مضى بعضا من هذا الكلام فتذكر، ثم إنه تعالى رد انكارهم التنزيل واستهزاءهم برسول الله ﷺ وسلاه عليه الصلاة والسلام بقوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ أي نحن بعظم شأننا وعلو جانبنا نزلنا الذي أنكروه وأنكروا نزوله عليك وقالوا فيك لا دعائه ما قالوا وعملوا منزله حيث بنوا الفعل للمفعول إيماء إلى أنه أمر لا مصدر له وفعل لا فاعل له وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أي من كل ما يقدح فيه كالتحريف والزيادة والنقصان وغير ذلك حتى إن الشيخ المهيب لو غير نقطة يرد عليه الصبيان ويقول له من كان: الصواب كذا ويدخل في ذلك استهزاء أولئك المستهزئين وتكذيبهم إياه دخولا أوليا، ومعنى حفظه من ذلك عدم تأثيره فيه وذبه عنه، وقال الحسن: حفظه بإبقاء شريعته إلى يوم القيامة، وجوز غير واحد أن يراد حفظه بالإعجاز في كل وقت كما يدل عليه الجملة الاسمية من كل زيادة ونقصان وتحريف وتبديل، ولم يحفظ سبحانه كتابا من الكتب كذلك بل استحفظها جلّ وعلا الربانيين والأحبار فوقع فيها ما وقع وتولى حفظ القرآن بنفسه سبحانه فلم يزل محفوظا أولا وآخرا، وإلى هذا أشار في الكشاف ثم سأل بما حاصله أن الكلام لما كان مسوقا لردهم وقد تم الجواب بالأول فما فائدة التذييل بالثاني؟ وإنما يحسن إذا كان الكلام مسوقا لإثبات محفوظية الذكر أولا وآخرا، وأجاب بأنه جيء به لغرض صحيح وأدمج فيه المعنى المذكور إماما هو أن يكون دليلا على أنه منزل من عند الله تعالى آية، فالأول وإن كان ردا كان كمجرد دعوى فقيل ولولا أن الذكر من عندنا لما بقي محفوظا عن الزيادة والنقصان كما سواه من الكلام، وذلك لأن نظمه لما كان معجزا لم يمكن زيادة عليه ولا نقص للإخلال بالاعجاز كذا في الكشف وفيه إشارة إلى وجه العطف وهو ظاهر.
وأنت تعلم أن الإعجاز لا يكون سببا لحفظه عن إسقاط بعض السور لأن ذلك لا يخل بالإعجاز كما لا يخفى، فالمختار أن حفظ القرآن وإبقاءه كما نزل حتى يأتي أمر الله تعالى بالإعجاز وغيره مما شاء الله عزّ وجلّ، ومن ذلك توفيق الصحابة رضي الله تعالى عنهم لجمعه حسبما علمته أول الكاتب. واحتج القاضي بالآية على فساد قول بعض من الإمامية لا يعبأ بهم إن القرآن قد دخله الزيادة والنقصان، وضعفه الإمام بأنه يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه لأن للقائلين بذلك أن يقولوا: إن هذه الآية من جملة الزوائد ودعوى الإعجاز في هذا المقدار لا بد لها من دليل. واحتج بها القائلون بحدوث الكلام اللفظي وهي ظاهرة فيه ومن العجب ما نقله عن أصحابه حيث قال: قال أصحابنا في هذه الآية دلالة على كون البسملة آية من كل سورة لأن الله تعالى قد وعد حفظ القرآن والحفظ لا معنى له إلا أن يبقى مصونا من الزيادة والنقصان فلو لم تكن البسملة آية من القرآن لما كان مصونا عن التغيير ولما كان محفوظا عن الزيادة، ولو جاز إن يظن بالصحابة أنهم زادوا لجاز أن يظن بهم أنهم نقصوا وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجة اه، ولعمري إن تسمية مثل هذا بالخبال أولى من تسميته بالاستدلال، ولا يخفى ما في سبك الجملتين من الدلالة على كمال الكبرياء والجلالة وعلى فخامة شأن التنزيل، وقد اشتملتا على عدة من وجوه التأكيد ونَحْنُ ليس فصلا لأنه لم يقع بين اسمين وإنما هو إما مبتدأ أو توكيد لاسم إن، ويعلم ما قررنا أن ضمير لَهُ للذكر وإليه ذهب مجاهد وقتادة والأكثرون وهو الظاهر، وجوز الفراء وذهب إليه النزر أن يكون راجعا إلى النبي ﷺ أي وإنا للنبي الذي أنزل عليه الذكر لحافظون من مكر المستهزئين كقوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: ٦٧] والمعول عليه الأول، وأخر هذا الجواب مع أنه رد لأول كلامهم الباطل لما أشرنا إليه فيما مر ولارتباطه بما يعقبه من قوله تعالى:
263
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا أي رسلا كما روي عن ابن عباس وإنما لم يذكر لظهور الدلالة عليه مِنْ قَبْلِكَ متعلق بأرسلنا أو بمحذوف وقع نعتا لمفعوله المحذوف أي رسلا كائنة من قبلك فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ أي فرقهم كما قال الحسن والكلبي، وإليه ذهب الزجاج، وهو وكذا أشياع جمع شيعة وهي والفرقة الجماعة المتفقة على طريقة ومذهب مأخوذ من شاع المتعدي بمعنى تبع لأن بعضهم يشايع بعضا ويتابعه، وتطلق الشيعة على الأعوان والأنصار، وأصل ذلك على ما قيل من الشياع بالكسر والفتح صغار الحطب يوقد به الكبار والمناسبة في ذلك نظرا للإطلاق الثاني ظاهرة وللإطلاق الأول أن التابع من حيث إنه تابع أصغر ممن يتبعه، وإضافته إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفته عند الفراء ومن حذف الموصوف عند البصريين أي شيع الأمم الأولين، والجار والمجرور متعلق بأرسلنا.
ومعنى إرسال الرسل في الشيع جعل كل منهم رسولا فيما بين طائفة منهم ليتابعوه في كل ما يأتي ويذر من أمور الدين وكأنه لو قيل- إلى- بدل فِي لم يظهر إرادة هذا المعنى، وقيل: إنما عدل عن إلى إليها للإعلام بمزيد التمكين، وزعم بعضهم أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف هو صفة للمفعول المقدر أو حال ولا يخفى بعده. وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ حكاية حال ماضية كما قال الزمخشري لأن ما لا تدخل على مضارع إلا وهو في موضع الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال وهو قول الأكثرين، وقال بعضهم: إن الأكثر دخول ما على المضارع مرادا به الحال وقد تدخل عليه مرادا به الاستقبال، وأنشد قول أبي ذؤيب:
أودى بنيّ وأودعوني حسرة عند الرقاد وعبرة ما تقلع
وقول الأعشى يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
له نافلات ما يغبّ نوالها وليس عطاء اليوم مانعه غدا
وقال تعالى: ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي [يونس: ١٥] ولعله المختار وإن كان ما هنا على الحكاية، والمراد نفي إتيان كل رسول لشيعته الخاصة به لا نفي إتيان كل رسول لكل واحدة من تلك الشيع جميعا أو على سبيل البدل أي ما أتى شيعة من تلك الشيع رسول خاص بها إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كما يفعله هؤلاء الكفرة، والجملة- كما قال أبو البقاء- في محل النصب على أنها حال من ضمير المفعول في يأتيهم إن كان المراد بالإتيان حدوثه أو في محل الرفع أو الجر على أنها صفة رسول على لفظه أو موضعه لأنه فاعل، وتعقب جعلها صفة باعتبار لفظه بأنه يفضي إلى زيادة من الاستغراقية في الإثبات لمكان إِلَّا وتقدير العمل في النعت بعدها.
وجوز أن تكون نصبا على الاستثناء وإن كان المختار الرفع على البدلية، وهذا كما ترى تسلية لرسول الله ﷺ بأن هذه شنشنة جهال الأمم مع المرسلين عليهم السلام قبل، وحيث كان الرسول مصحوبا بكتاب من عند الله تعالى تضمن ذكر استهزائهم بالرسول استهزاءهم بالكتاب ولذلك قال سبحانه: كَذلِكَ أي مثل السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم وبما جاؤوا به نَسْلُكُهُ أي ندخله يقال: سلكت الخيط في الإبرة والسنان في المطعون أي أدخلت: وقرئ نَسْلُكُهُ و «سلك» و «أسلك» كما ذكر أبو عبيدة بمعنى واحد، والضمير عند جمع ومنهم الحسن على ما ذكره الغزنوي للذكر فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ أي أهل مكة أو جنس المجرمين فيدخلون فيه دخولا أوليا، ومعنى المثلية كونه مقرونا بالاستهزاء غير مقبول لما تقتضيه الحكمة، وحاصله إنه تعالى يلقي القرآن في قلوب المجرمين مستهزأ به غير مقبول لأنهم من أهل الخذلان ليس لهم استحقاق لقبول الحق كما ألقى سبحانه كتب الرسل عليهم السلام في قلوب شيعهم مستهزأ بها غير مقبولة لذلك، وصيغة المضارع لكون المشبه به مقدما في الوجود وهو السلك الواقع في شيع الأولين.
264
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ الضمير للذكر أيضا، والجملة في موضع الحال من مفعول نَسْلُكُهُ أي غير مؤمن به، وهي إما مقدرة وإما مقارنة على معنى أن الإلقاء وقع بعده الكفر من غير توقف فهما في زمان واحد عرفا، ويجوز أن تكون بيانا للجملة السابقة فلا محل لها من الإعراب، قال في الكشف: وهو الأوجه لأن في طريقة الإبهام والتفسير لا سيما في هذا المقام ما يجل موقع الكلام. وفي إرشاد العقل السليم أنه قد جعل ضمير نَسْلُكُهُ للاستهزاء المفهوم من يَسْتَهْزِؤُنَ فتتعين البيانية إلا أن يجعل ضمير بِهِ له أيضا على أن الباء للملابسة أي يسلك الاستهزاء في قلوبهم حال كونهم غير مؤمنين بملابسة الاستهزاء، وقد ذهب إلى جواز إرجاع الضميرين إلى الاستهزاء ابن عطية إلا أنه جعل الباء للسببية، وكذا الفاضل الجلبي، ولا يخفى أن بعد ذلك يغني عن رده. وذهب البيضاوي إلى كون الضمير الأول للاستهزاء وضمير بِهِ للذكر وتفريق الضمائر المتعاقبة على الأشياء المختلفة إذ دل الدليل عليه ليس ببدع في القرآن، وجوز على هذا كون الجملة حالا من الْمُجْرِمِينَ ولا يتعين كونها حالا من الضمير ليتعين رجوعه للذكر، وذكر أن عوده على الاستهزاء لا ينافي كونها مفسرة بل يقويه إذ عدم الإيمان بالذكر أنسب بتمكن الاستهزاء في قلوبهم، وجعل الآية دليلا على أنه تعالى يوجد الباطل في قلوبهم ففيها رد على المعتزلة في قولهم: إنه قبيح فلا يصدر منه سبحانه، وكأنه رحمه الله تعالى ظن أن ما فعله الزمخشري من جعل الضميرين للذكر كان رعاية لمذهبه ففعل ما فعل، ولا يخفى أنه لم يصب المحز وغفل عن قولهم: الدليل إذا طرقه الاحتمال بطل به الاستدلال.
وفي الكشف بعد كلام أن رجع الضمر إلى الاستهزاء أو الكفر مع ما فيه من تنافر النظم لا ينكره أهل الاعتزال إلا كإنكار سلك الذكر بصفة التكذيب والتأويل كالتأويل، وكأنهم غفلوا عما ذكره جار الله في الشعراء حيث أجاب عن سؤال إسناد سلك الذكر بتلك الصفة إلى نفسه جل وعلا بأن المراد تمكنه مكذبا في قلوبهم أشد التمكن كشيء جبلوا عليه ولخص المعنى هاهنا بأنه تعالى يلقيه في قلوبهم مكذبا لا أن التكذيب فعله سبحانه.
نعم أخرج ابن أبي حاتم عن أنس. والحسن تفسير ضمير نَسْلُكُهُ إلى الشرك، وأخرج هو وابن جرير عن ابن زيد أنه قال في الآية: هم كما قال الله تعالى هو أضلهم ومنعهم الإيمان لكن هذا أمر وما نحن فيه آخر، واعترض بعضهم رجوع الضمير إلى الذِّكْرَ بأن نون العظمة لا تناسب ذلك فإنها إنما تحسن إذا كان فعل المعظم نفسه فعلا يظهر له أثر قوي وليس كذلك هنا فإنه تدافع وتنازع فيه. وأجاب بأن المقام إذا كان للتوبيخ يحسن ذلك، ولا يلزم أن تكون العظمة باعتبار القهر والغلبة فقد تكون باعتبار اللطف والإحسان. وتعقب ذلك الشهاب بقوله: لا يخفى أنه باعتبار القهر والغلبة يقتضي أن يؤثر ذلك في قلوبهم وليس كذلك لعدم إيمانهم به، وكذا باعتبار اللطف والإحسان يقتضي أن يكون سلكه في قلوبهم إنعاما عليهم فأي إنعام عليهم بما يقتضي الغضب فلا وجه لما ذكر، وأنت تعلم أنه إذا كان المراد سلك ذلك وتمكينه في قلوبهم مكذبا به غير مقبول فكون الإسناد باعتبار القهر والغلبة مما لا ينبغي أن ينتطح فيه كبشان، والأثر الظاهر القوي لذلك بقاؤهم على الكفر والإصرار على الضلال ولو جاءتهم كل آية، ولا يخفى ما في كَذلِكَ مما يناسب نون العظمة أيضا وقد مر التنبيه عليه غير مرة وَقَدْ خَلَتْ مضت سُنَّةُ طريقة الْأَوَّلِينَ والمراد عادة الله تعالى فيهم على أن الإضافة لأدنى ملابسة لا على أن الإضافة بمعنى في، والمراد بتلك العادة على تقدير أن يكون ضمير نَسْلُكُهُ للاستهزاء الخذلان وسلك الكفر في قلوبهم أن قد مضت عادته سبحانه وتعالى في الأولين ممن بعث إليهم الرسل عليهم السلام أن يخذلهم ويسلك الكفر والاستهزاء في قلوبهم، وعلى تقدير أن يكون للذكر الإهلاك، وعلى هذا قول الزمخشري أي مضت طريقتهم التي سنها الله تعالى في إهلاكهم حين كذبوا برسلهم والمنزل عليهم، وذكر أنه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم، وإلى الأول ذهب الزجاج، وادعى الإمام أنه الأليق
265
بظاهر اللفظ وبين ذلك الطيبي قائلا: إن التعريف في الْمُجْرِمِينَ للعهد، والمراد بهم المكذبون من قوم رسول الله ﷺ لأنهم المذكورون بعد أن مثل ذلك السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين المكذبين للرسل الماضين نسلكه في قلوب هؤلاء المجرمين فلك أسوة بالرسل الماضية مع أممهم المكذبة، ولست بأوحدي في ذلك وقد خلت سنة الأولين، والمقام يقتضي التقرير والتأكيد فيكون في هذا مزيد تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، والوعيد بعيد لأنه لم يسبق لإهلاك الأمم ذكر، وإيثار ذلك لأنه أقرب إلى مذهب الاعتزال اه. وفيه غفلة عن مغزى الزمخشري، وقد تفطن لذلك صاحب الكشف ولله تعالى دره حيث قال: أراد أن موقع قَدْ خَلَتْ إلى آخره موقع الغاية في الشعراء أعني قوله تعالى هنالك: حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس: ٨٨، ٩٧، الشعراء: ٢٠١]. فإنهم لما شبهوا بهم قيل: لا يؤمنون وقد هلك من قبلهم ولم يؤمنوا فكذلك هؤلاء، ومنه يظهر أن الكلام على هذا الوجه شديد الملاءمة، وأما أن الوعيد بعيد لعدم سبق ذكر لإهلاك الأمم ففيه أن لفظ السنة مضافا إلى ما أضيف إليه ينبئ عن ذلك أشد الإنباء، ثم إنه ليس المقصود منه الوعيد على ما قررناه، وقد صرح أيضا بعض الأجلة أن الجملة استئنافية جيء بها تكملة للتسلية وتصريحا بالوعيد والتهديد، ثم ما ذهب إليه الزمخشري من المراد بالسنة مروي عن قتادة. فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عنه أنه قال في الآية: قد خلت وقائع الله تعالى فيمن خلا من الأمم. وعن ابن عباس أن المراد سنتهم في التكذيب، ولعل الإضافة على هذا على ظاهرها.
وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أي على هؤلاء المقترحين المعاندين باباً مِنَ السَّماءِ ظاهره بابا ما لا بابا من أبوابها المعهودة كما قيل: فَظَلُّوا فِيهِ أي في ذلك الباب يَعْرُجُونَ يصعدون حسبما نيسره لهم فيرون ما فيها من الملائكة والعجائب طول نهارهم مستوضحين لما يرونه كما يفيده- ظلوا- لأنه يقال ظل يعمل كذا وإذا فعله في النهار حيث يكون للشخص ظل، وجوز في البحر كون ظل بمعنى صار وهو مع كونه خلاف الأصل مما لا داعي إليه، وأيّا ما كان فضمير الجمع للمقترحين، وهو الظاهر المروي عن الحسن وإليه ذهب الجبائي وأبو مسلم، وأخرج ابن جريج عن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه للملائكة وروي ذلك عن قتادة أيضا أي فظل الملائكة الذين اقترحوا إتيانهم يعرجون في ذلك الباب وهم يرونهم على أتم وجه. وقرأ الأعمش. وأبو حيوة «يعرجون» بكسر الراء وهي لغة هذيل في العروج بمعنى الصعود لَقالُوا لفرط عنادهم وغلوهم في المكابرة وتفاديهم عن قبول الحق: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا أي سدت ومنعت من الإبصار حقيقة وما نراه تخيل لا حقيقة له، أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عن مجاهد، وروي أيضا عن ابن عباس. وقتادة فهو من السكر بالفتح، وقال أبو حيان: بالكسر السد والحبس، وقال ابن السيد: السكر بالفتح سد الباب والنهر وبالكسر السد نفسه ويجمع على سكور، قال الرفاء:
غناؤنا فيه ألحان السكور إذا قل الغناء ورنات النواعير
ويشهد لهذا المعنى قراءة ابن كثير والحسن ومجاهد «سكرت أبصارنا» بتخفيف الكاف مبنيا للمفعول لأن سكر المخفف المتعدي اشتهر في معنى السد، وعن عمرو بن العلاء أن المراد حيرت فهو من السكر بالضم ضد الصحو، وفسروه بأنه حالة تعرض بين المرء وعقله، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشراب وقد يعتري من الغضب والعشق، ولذا قال الشاعر:
سكران سكر هوى وسكر مدامة أنّى يفيق فتى به سكران
والتشديد في ذلك للتعدية لأن سكر كفرح لازم في الأشهر وقد حكى تعديه فيكون للتكثير والمبالغة، وأرادوا بذلك أنه فسدت أبصارنا واعتراها خلل في إحساسها كما يعتري عقل السكران ذلك فيختل إدراكه ففي الكلام على
266
هذا استعارة وكذا على الأول عند بعض ويشهد لهذا المعنى قراءة الزهري «سكرة» بفتح السين وكسر الكاف مخففة مبنيا للفاعل لأن الثلاثي اللازم مشهور فيه ولأن سكر بمعنى سد المعروف فيه فتح الكاف.
واختار الزجاج أن المعنى سكنت عن أبصار الحقائق من سكرت الريح تسكر سكرا إذا ركدت ويقال: ليلة ساكرة لا ريح فيها والتضعيف للتعدية ولهم أقوال أخر متقاربة في المعنى. وقرأ أبان بن تغلب وحملت لمخالفتها سواد المصحف على التفسير سحرت أبصارنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ قد سحرنا محمد ﷺ كما قالوا ذلك عند ظهور سائر الآيات الباهرة، والظاهر على ما قال القطب إنهم أرادوا أولا سكرت أبصارنا لا عقولنا فنحن وإن تخيلنا هذه الأشياء بأبصارنا لكن نعلم بعقولنا أن الحال بخلاف ثم أضربوا عن الحصر في الأبصار وقالوا: بل تجاوز ذلك إلى عقولنا، وفسر الزمخشري الحصر بأن ذلك ليس إلا تسكيرا فأورد عليه بأن إِنَّما تفيد الحصر في المذكور آخرا وحينئذ يكون المعنى ما تقدم وهو مبني على أن تقديم المقصود على المقصور عليه لازم وخلافه ممتنع، وقد قال المحقق في شرح التخليص إنه يجوز إذا كان نفس التقديم يفيد الحصر كما في قولنا: إنما زيدا ضربت فإنه لقصر الضرب على زيد، وقال أبو الطيب:
صفاته لم تزده معرفة... لكنها لذة ذكرناها
أي ما ذكرناها إلا لذة إلا أن هذا لا ينفع فيما نحن فيه. نعم نقل عن عروس الأفراح أن حكم أهل المعاني غير مسلم فإن قولك: إنما قمت معناه لم يقع إلا القيام فهو لحصر الفعل وليس بآخر ولو قصد حصر الفاعل لا نفصل، ثم أورد عدة أمثلة من كلام المفسرين تدل على ما ذكروه في المسألة، فالظاهر أن الزمخشري لا يرى ما قالوه مطردا وهم قد غفلوا عن مراده هنا قاله الشهاب، وما نقله عن عروس الأفراح في إنما قمت من أنه لحصر الفعل ولو كان لحصر الفاعل لا نفصل يخالفه ما في شرح المفتاح الشريفي من أنه إذا أريد حصر الفعل في الفاعل المضمر فإن ذكر بعد الفعل شيء من متعلقاته وجب انفصال الفاعل وتأخيره كما في قولك: إنما ضرب اليوم أنا، وكما في قول الفرزدق:
أنا الذائد الحامي الذمار وإنما... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي
وإن لم يذكر احتمل الوجوب طردا للباب وعدمه بأن يجوز الانفصال نظرا إلى المعنى والاتصال نظرا إلى اللفظ إذ لا فاصل لفظيا اه فإنه صريح في أن إنما قمت لحصر الفاعل وإن لم يجب الانفصال لكن اختار السعد في شرحه وجوب الانفصال مطلقا وحكم بأن الظاهر أن معنى إنما أقول ما أنا إلا أقوم كما نقله السمرقندي. وأبو حيان مع طائفة يسيرة من النحاة أنكروا إفادة إنما للحصر أصلا وليس بالمعول عليه عند المحققين لكنهم قالوا: إنها قد تأتي لمجرد التأكيد وتمام الكلام في هذا المقام يطلب من محله. ووجه الشهاب الإضراب بعد أن قال هو جعل الأول في حكم المسكوت عنه دون النفي ويحتمل الثاني بأنه إضراب لأن هذا ليس بواقع في نفس الأمر بل بطريق السحر أو هو باعتبار ما تفيده الجملة من الاستمرار الذي دلت عليه الاسمية أي مسحوريتنا لا تختص بهذه الحالة بل نحن مستمرون عليها في كل ما يرينا من الآيات، هذا وفي هذه الآية من وصفهم بالعناد وتواطئهم على ما هم فيه من التكذيب والفساد ما لا يخفى، وفي ذلك تأكيد لما يفهم من الآية الأولى، وقد ذكر ابن المنير في المراد منها وجها بعيدا جدا فيما أرى فقال: المراد والله تعالى أعلم إقامة الحجة على المكذبين بأن الله تعالى سلك القرآن في قلوبهم وأدخله في سويدائها كما سلك في قلوب المؤمنين المصدقين فكذب به هؤلاء وصدق به هؤلاء كل على علم وفهم ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ولئلا يكون للكفار على الله تعالى حجة بأنهم ما فهموا وجه الإعجاز كما فهمها من آمن فأعلمهم الله تعالى- وهم في مهلة وإمكان- أنهم ما كفروا إلا على علم معاندين باغين غير
267
معذورين ولذلك عقبه سبحانه بقوله تعالى: وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ إلخ أي هؤلاء فهموا القرآن وعلموا وجوه إعجازه وولج ذلك في قلوبهم ووقر ولكنهم قوم سجيتهم العناد وسمتهم اللداد حتى لو سلك بهم أوضح السبل وأدعاها إلى الإيمان لقالوا بعد الإيضاح العظيم: إنما سكرت أبصارنا وسحرنا وما هذه إلا خيالات لا حقائق تحتها فأسجل سبحانه عليهم بذلك أنهم لا عذر لهم بالتكذيب من عدم سماع ووعي ووصول إلى القلوب وفهم كما فهم غيرهم من المصدقين لأن ذلك كان حاصلا لهم وليس بهم إلا العناد والإصرار لا غير اه فليتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل، ثم إنه تعالى لما ذكر حال منكري النبوة وكانت مفرعة على التوحيد ذكر دلائله السماوية والأرضية فقال عز قائلا: وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً إلخ وإلى هذا ذهب الإمام وغيره في وجه الربط.
وقال ابن عطية: أنه سبحانه لما ذكر أنهم لو رأوا الآية المطلوبة في السماء لعاندوا وبقوا على ما هم فيه من الضلال عقب ذلك بهذه الآية كأنه جل شأنه قال: وإن في السماء لعبرا منصوبة غير هذه المذكورة وكفرهم بها وإعراضهم عنها إصرار منهم وعتو اهـ والظاهر أن الجعل بمعنى الخلق والإبداع فالجار والمجرور متعلق به، وجوز أن يكون بمعنى التصيير فهو متعلق بمحذوف على أنه مفعول ثان له وبروجا مفعوله الأول، والبروج جمع برج وهو لغة القصر والحصن وبذلك فسره هنا عطية، فقد أخرج عنه ابن أبي حاتم أنه قال: جعلنا قصورا في السماء فيها الحرس، وأخرج عن أبي صالح أن المراد بالبروج الكواكب العظام.
وفي البحر عنه الكواكب السيارة وروى غير واحد عن مجاهد وقتادة أنها الكواكب من غير قيد. وروي عن ابن عباس تفسير ذلك بالبروج الاثني عشر المشهورة وهي ستة شمالية ثلاثة ربيعية وثلاثة صيفية وأولها الحمل وستة جنوبية ثلاثة خريفية وثلاثة شتائية وأولها الميزان وطول كل برج عندهم ل درجة وعرضه قف درجة ص منها في جهة الشمال ومثلها في جهة الجنوب وكأنها إنما سميت بذلك لأنها كالحصن أو القصر للكوكب الحال فيها وهي في الحقيقة أجزاء الفلك الأعظم وهو المحدد المسمى بلسانهم الفلك الأطلس وفلك الأفلاك وبلسان الشرع بعكسه ولهذا يسمى الشيخ الأكبر قدس سره الفلك الأطلس بفلك البروج والمشهور تسمية الفلك الثامن وهو فلك الثوابت به لاعتبارهم الانقسام فيه وكأن ذلك لظهور ما تتعين به الأجزاء من الصور فيه وإن كان كل منها منتقلا عما عينه إلى آخر منها لثبوت الحركة الذاتية للثوابت على خلاف التوالي وإن لم يثبتها لها لعدم الإحساس بها قدماء الفلاسفة كما لم يثبت الأكثرون حركتها على نفسها وأثبتها الشيخ أبو علي ومن تبعه من المحققين، وقد صرحوا بأن هذه الصور المسماة بالأسماء المعلومة توهمت على المنطقة وما يقرب منها من الجانبين من كواكب ثابتة تنظمها خطوط موهومة وقعت وقت القسمة في تلك الأقسام ونقل ذلك في الكفاية عن عامة المنجمين وأنهم إنما توهموا لكل قسم صورة ليحصل التفهيم والتعليم بأن يقال: الدبران مثلا عين الأسد.
وتعقب ذلك بقوله: وهذا ليس بسديد عندي لأن تلك الصور لو كانت وهمية لم يكن لها أثر في أمثالها من العالم السفلي مع أن الأمر ليس كذلك فقد قال بطليموس في الثمرة. الصور التي في عالم التركيب مطيعة للصور الفلكية إذ هي في ذواتها على تلك الصور فأدركتها الأوهام على ما هي عليه وفيه بحث ثم هذه البروج مختلفة الآثار والخواص بل لكل جزء من كل منها وإن كان أقل من عاشرة بل أقل الأقل آثار تخالف آثار الجزء الآخر وكل ذلك آثار حكمة الله تعالى وقدرته عز وجل. وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في بعض كتبه أن آثار النجوم وأحكامها مفاضة عليها من تلك البروج المعتبرة في المحدد.
وفي الفصل الثالث من الباب الحادي والسبعين والثلاثمائة من فتوحاته ما منه أن الله تعالى قسم الفلك الأطلس
268
اثني عشر قسما سماها بروجا وأسكن كل برج منها ملكا وهؤلاء الملائكة أئمة العالم وجعل لكل منهم ثلاثين خزانة تحتوي كل منها على علوم شتى يهبون منها للنازل بهم قدر ما تعطيه رتبته وهي الخزائن التي قال الله تعالى فيها:
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر: ٢١] وتسمى عند أهل التعاليم بدرجات الفلك والنازلون بها هم الجواري والمنازل وعيوقاتها من الثوابت والعلوم الحاصلة من تلك الخزائن الإلهية هي ما يظهر في عام الأركان من التأثيرات بل ما يظهر في مقعر فلك الثوابت إلى الأرض إلى آخر ما قال، وقد أطال قدس سره الكلام في هذا الباب وهو بمعزل عن اعتقاد المحدثين نقلة الدين عليهم الرحمة، ثم إن في اختلاف خواص البروج حسبما تشهد به التجربة مع ما اتفق عليه الجمهور من بساطة السماء أدل دليل على وجود الصانع المختار جل جلاله.
وَزَيَّنَّاها أي السماء بما فيها من الكواكب السيارات وغيرها وهي كثيرة لا يعلم عددها إلا الله تعالى. نعم المرصود منها ألف ونيف وعشرون رتبوها على ستر مراتب وسموها اقدارا متزايدة سدسا حتى كان قطر ما في القدر الأول ستة أمثال ما في القدر السادس وجعلوا كل قدر على ثلاث مراتب وما دون السادس لم يثبتوه في المراتب بل إن كان كقطعة السحاب يسمونه سحابيا وإلا فمظلما، وذكر في الكفاية أن ما كان منها في القدر الأول فجرمه مائة وستة وخمسون مرة ونصف عشر الأرض. وجاء في بعض الآثار أن أصغر النجوم كالجبل العظيم واستظهر أبو حيان عود الضمير للبروج لأنها المحدث عنها والأقرب في اللفظ والجمهور على ما ذكرنا حذرا من انتشار الضمير لِلنَّاظِرِينَ أي بأبصارهم إليها كما قاله بعضهم لأنه المناسب للتزيين، وجوز أن يراد بالتزيين ترتيبها على نظام بديع مستتبعا للآثار الحسنة فيراد بالناظرين المتفكرون المستدلون بذلك على قدرة مقدرها وحكمة مدبرها جل شأنه وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ مطرود عن الخيرات، ويطلق الرجم على الرمي بالرجام وهي الحجارة، فالمراد بالرجيم المرمي بالنجوم، ويطلق أيضا على الإهلاك والقتل الشنيع، والمراد بحفظها من الشيطان إما منعه عن التعرض لها على الإطلاق والوقوف على ما فيها في الجملة فالاستثناء في قوله تعالى: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ متصل، وإما المنع عن دخولها والاختلاط مع أهلها على نحو الاختلاط مع أهل الأرض فهو حينئذ منقطع، وعلى التقديرين محل مَنِ النصب على الاستثناء، وجوز أبو البقاء. والحوفي كونه في محل جر على أنه بدل مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ بدل بعض من كل واستغنى عن الضمير الرابط بإلا. واعترض بأنه يشترط في البدلية أن تكون في كلام غير موجب وهذا الكلام مثبت.
ودفع بأنه في تأويل المنفي أي لم نمكن منها كل شيطان أو نحوه وأورد أن تأويل المثبت في غير أبي ومتصرفاته غير مقيس ولا حسن فلا يقال مات القوم إلا زيد بمعنى لم يعيشوا، ولعل القائل بالبدلية لا يسم ذلك، وقد أولوا بالمنفي قوله تعالى: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا [البقرة: ٢٤٩]
وقوله عليه الصلاة والسلام: «العالم هلكى إلا العالمون» الخبر
وغير ذلك مما ليس فيه أبى ولا شيء من متصرفاته لكن الإنصاف ضعف هذه البدلية كما لا يخفى.
وجوز أبو البقاء أيضا أن يكون في محل رفع على الابتداء والخبر جملة قوله تعالى: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ وذكر أن الفاء من أجل أن مَنِ موصول أو شرط والاستراق افتعال من السرقة وهو أخذ الشيء بخفية شبه به خطفتهم اليسيرة من الملأ الأعلى وهو المذكور في قوله تعالى: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ [الصافات: ١٠] والمراد بالسمع المسموع، والشهاب- على ما قال الراغب- الشعلة الساطعة من النار الموقدة ومن العارض في الجو ويطلق على الكوكب لبريقه كشعلة النار.
وأصله من الشهبة وهي بياض مختلط بسواد وليست البياض الصافي كما يغلط فيه العامة فيقولون فرس أشهب للقرطاسي، والمراد- بمبين- ظاهر أمره للمبصرين ومعنى اتبعه تبعه عند الأخفش نحو ردفته وأردفته فليست الهمزة فيه
269
للتعدية، وقيل: أتبعه أخص من تبعه لما قال الجوهري تبعت القوم تبعا وتباعة بالفتح إذا مشيت خلفهم أو مروا بك فمضيت معهم وأتبعت القوم على أفعلت إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم واستحسن الفرق بينهما الشهاب، ولما كان الاتباع محتملا للإهلاك وغيره اختلف العلماء في ذلك فحكى القرطبي عن ابن عباس أن الشهاب يجرح ويحرق ولا يقتل، وعن الحسن وطائفة أنه يقتل، وادعى أن الأول أصح، ونقل غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى السماء الدنيا يسترقون السمع من الملائكة عليهم السلام فيرمون بالكواكب فلا تخطئ أبدا فمنهم من تقتله ومنهم من تحرق وجهه أو جنبه أو يده أو حيث يشاء الله تعالى ومنهم من تخبله فيصير غولا فيضل الناس في البراري، ومما لا يعول عليه ما يروى من أن منهم من يقع في البحر فيكون تمساحا ومن الناس من طعن كما قال الإمام في أمر هذا الاستراق والرمي من وجوه. أحدها أن انقضاض الكواكب مذكور في كتب قدماء الفلاسفة وذكروا فيه أن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس فإذا بلغ كرة النار التي دون الفلك احترق بها فتلك الشعلة هي الشهاب. وقد يبقى زمانا مشتعلا إذا كان كثيفا وربما حميت الأدخنة في برد الهواء للتعاقب فانضغطت مشتعلة، وجاء أيضا في شعر الجاهلية قال بشر بن أبي حازم:
والعير يلحقها الغبار وجحشها ينقض خلفهما انقضاض الكوكب
وقال أوس بن حجر:
وانقض كالدريّ يتبعه نقع يثور تخاله طنبا
إلى غير ذلك. وثانيها أن هؤلاء الشياطين كيف يجوز فيهم أن يشاهدوا ألوفا من جنسهم يسترقون السمع فيحترقون ثم إنهم مع ذلك يعودون لصنيعهم فإن من له أدنى عقل إذا رأى هلاك أبناء جنسه من تعاطي شيء مرارا امتنع منه. وثالثها أن يقال: إن ثخن السماء خمسمائة عام فهؤلاء الشياطين إن نفذوا في جرمها وخرقوها فهو باطل لنفي أن يكون لها فطور على ما قال سبحانه: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: ٣] وإن كانوا لا ينفذون فكيف يمكنهم سماع أسرار الملائكة عليهم السلام مع هذا البعد العظيم. ورابعها أن الملائكة عليهم السلام إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة إما لأنهم طالعوها من اللوح المحفوظ أو لأنهم تلقفوها بالوحي، وعلى التقديرين لم لم يسكتوا عن ذكرها حتى لا تتمكن الشياطين من الوقوف عليها؟. وخامسها أن الشياطين مخلوقون من النار والنار لا تحرق النار بل تقويها فكيف يعقل زجرهم بهذه الشهب؟. وسادسها أنكم قلتم: إن هذا القذف لأجل النبوة فلما دام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم؟. وسابعها أن هذه الشهب إنما تحدث بقرب الأرض بدليل أنا نشاهد حركاتها ولو كانت قريبة من الفلك لما شاهدناها كما لم نشاهد حركات الأفلاك والكواكب، وإذا ثبت أنها تحدث بالقرب من الأرض فكيف يقال: إنها تمنع الشياطين من الوصول إلى الفلك؟. وثامنها أن هؤلاء الشياطين لو كان يمكنهم أن ينقلوا أخبار الملائكة عليهم السلام عن المغيبات إلى الكهنة فلم لم ينقلوا أسرار المؤمنين إلى الكفار حتى يتوصلوا بواسطة وقوفهم على أسرارهم إلى إلحاق الضرر بهم؟. وتاسعها لم لم يمنعهم الله تعالى من الصعود ابتداء حتى لا يحتاج في دفعهم إلى هذه الشهب؟
وقال بعضهم: أيضا: إن السماع إنما يفيدهم إذا عرفوا لغة الملائكة فلم لم يجعلهم الله سبحانه جاهلين بلغتهم لئلا يفيدهم السماع شيئا، وأيضا ان انقطع الهواء دون مقعر فلك القمر لم يحدث هناك صوت إذ هو من تموج الهواء والمفروض عدمه وإن لم ينقطع كان دون ذلك أصوات هائلة من تموج الهواء بحركة الأجرام العظيمة وهي تمنع من سماع أصوات الملائكة عليهم السلام في محاوراتهم ولا يكاد يظن أن أصواتهم في المحاورات تغلب هاتيك الأصوات لتسمع معها، وأيضا ليس في السماء الدنيا إلا القمر ولا نراه يرمي به وسائر السيارات فوق كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [الأنبياء: ٣٣] والثوابت في الفلك الثامن والرمي بشيء من ذلك يستدعي خرق السماء وتشققها ليصل
270
الشهاب إلى الشيطان وهو مما لا يكاد يقال. وأجاب الإمام عن الأول. أولا بأن الشهب لم تكن موجودة قبل البعثة وهذا قول ابن عباس،
فقد روي عنه أنه قال: «كان الجن يصعدون إلى السماء فيستمعون الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها أشياء من عند أنفسهم فلما بعث النبي ﷺ منعوا مقاعدهم ولم يكن النجوم يرمى بها قبل ذلك فقال لهم إبليس: ما هذا إلا لأمر حدث» الخبر.
وروي عن أبي بن كعب أنه قال: «لم يرم بنجم منذ رفع عيسى عليه السلام حتى بعث رسول الله ﷺ فرمى بها فرأت قريش (١) ما لم تر قبل فجعلوا يسيبون أنعامهم ويعتقون رقابهم يظنون أنه الفناء فبلغ ذلك كبيرهم فقال: لم تفعلون؟ فقالوا: رمي بالنجوم فقال: اعتبروا فإن تكن نجوم معروفة فهو وقت فناء الناس وإلا فهو أمر حدث فنظروا فإذا هي لا تعرف فأخبروه فقال: في الأمر مهلة وهذا عند ظهور نبي» الخبر،
وكتب الأوائل قد توالت عليها التحريفات فلعل المتأخرين ألحقوا هذه المسألة بها طعنا في هذه المعجزة، وكذا الأشعار المنسوبة إلى أهل الجاهلية لعلها مختلفة عليهم. وثانيا وهو الحق بأنها كانت موجودة قبل البعثة لأسباب أخر ولا ننكر ذلك إلا أنه لا ينافي أنها بعد البعثة قد توجد بسبب دفع الشياطين وزجرهم. يروى أنه قيل للزهري: أكان يرمى في الجاهلية؟ قال: نعم قيل: أفرأيت قوله تعالى: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الجن: ٩] قال: غلظ وشدد أمرها حيث بعث النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى نحو هذا يخرج ما روي عن ابن عباس. وأبي رضي الله تعالى عنهم إن صح. وعن الثاني بأنه إذا جاء القدر عمي البصر فإذا قضى الله تعالى على طائفة منهم الحرق لطغيانهم وضلالهم قيض لهم من الدواعي ما تقدم معه على الفعل المفضي إلى الهلاك. وعن الثالث بأن البعد بين الأرض والسماء خمسمائة عام فأما ثخن الفلك فإنه لا يكون عظيما. وعن الرابع بأنه
روي عن الزهري (٢) عن علي بن الحسين بن علي كرم الله تعالى وجهه عن ابن عباس قال: بينا النبي ﷺ جالس في نفر من أصحابه إذ رمي بنجم فاستنار فقال عليه الصلاة والسلام: «ما كنتم تقولون في الجاهلية إذا حدث مثل هذا؟» قالوا: كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم قال عليه الصلاة والسلام: «فإنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تعالى إذا قضى الأمر في السماء سبحت حملة العرش ثم سبح أهل السماء وسبح أهل كل سماء حتى ينتهي التسبيح إلى هذه السماء ويستخير أهل السماء حملة العرش ماذا قال ربكم؟ فيخبرونهم ولا يزال ينتهي الخبر إلى هذه السماء فيتخطفه الجن فيرمون فما جاؤوا به فهو حق ولكنهم يزيدون فيه».
وعن الخامس بأن النار قد تكون أقوى من نار أخرى فالأقوى تبطل ما دونها. وعن السادس بأنه إنما دام لأنه عليه الصلاة والسلام أخبر ببطلان الكهانة فلو لم يدم هذا القذف لعادت الكهانة وذلك يقدح في خبر الرسول ﷺ عن بطلانها. وعن السابع بأن البعد على مذهبنا غير مانع من السماع فلعله سبحانه وتعالى أجرى عادته بأنهم إذا وقفوا في تلك المواضع سمعوا كلام الملائكة عليهم السلام. وعن الثامن بأنه لعل الله تعالى أقدرهم على استماع الغيوب من الملائكة وأعجزهم عن إيصال أسرار المؤمنين إلى الكفار. وعن التاسع بأنه عز وجل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وبهذا يجاب عن الأول فيما قيل.
وأجيب عن الثاني بأنا نختار انقطاع الهواء والسماع عندنا بخلق الله تعالى ولا يتوقف على وجود الهواء وتموجه، وقد يختار عدم الانقطاع ويقال: إنه تعالى شأنه قادر على منع الهواء من التموج بحركة هاتيك الأجرام، وكذا هو سبحانه قادر على إسماعهم مع هاتيك الأصوات الهائلة السر وأخفى. وعن الثالث بأن كون الثوابت في الفلك الثامن هو الذي
(١) يروي أنه أول من فزع للرمي بالنجوم هذا الحي من ثقيف وأنهم جاؤا إلى رجل منهم يقال له عمرو بن أمية أحد بني علاج وكان أدهى العرب فقال لهم نحو ما ذكر في هذا الخبر اه منه.
(٢) وقد روى هذا الخبر مسلم اه منه.
271
ذهب إليه الفلاسفة واحتجوا عليه بأن بعضها فيه فيجب أن يكون كلها كذلك، أما الأول فلأن الثوابت التي تكون قريبة من المنطقة تنكسف بالسيارات فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة، وأما الثاني فلأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة كل مائة سنة أو أقل على الخلاف درجة فلا بد أن تكون مركوزة في كرة واحدة، وهو احتجاج ضعيف لأنه لا يلزم من كون بعض الثوابت فوق السيارات كون كلها هنا لأنه لا يبعد وجود كرة تحت كرة القمر وتكون في البطء مساوية لكرة الثوابت وتكون الكواكب المركوزة فيما يقارب القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة، وعلى هذا لا يمتنع أن تكون هذه النجوم في السماء الدنيا، وقد ذكر الجلال السيوطي وغيره أنه جاء في بعض الآثار أن الكواكب معلقة بسلاسل من نور بأيدي ملائكة في السماء الدنيا يسيرونها حيث شاء الله تعالى وكيف شاء إلا أن في صحة ذلك ما فيه، على أن ما ذكر في السؤال من أن ذلك يستلزم الخرق وهو مما لا يكاد يقال إما أن يكون مبنيا على القول بامتناع الخرق والالتئام على الفلك المحدد وغيره فقد تقرر فساد ذلك وحقق إمكان الخرق والالتئام بما لا مزيد عليه في غير كتاب من كتب الكلام، وإما أن يكون مبنيا على مجرد الاستبعاد فهو مما لا يفيد شيئا لأن أكثر الممكنات مستبعدة وهي واقعة ولا أظنك في مرية من ذلك بل قد يقال: نحن لا نلتزم أن الكوكب نفسه يتبع الشيطان فيحرقه، والشهاب ليس نصا في الكوكب لما علمت ما قيل في معناه وإن قيل: إنه بنفسه ينقض ويرمي الشيطان ثم يعود إلى مكان لظاهر إطلاق الرجوم على النجوم وقولهم رمي بالنجم مثلا.
وكذا لا نلتزم القول بأنه ينفصل عن الكوكب شعلة كالقبس الذي يؤخذ من النار فيرمى بها كما قاله غير واحد لنحتاج في الجواب عن السؤال بما تقدم إذ يجوز أن يقال: إنه يؤثر حين كان بإذن الله تعالى هذه الشعلة المسماة بالشهاب ويحرق بها من شاء الله تعالى من الشياطين، وإطلاق الرجوم على النجوم وقولهم: رمي بالنجم يحتمل أن يكون مبينا على الظاهر للرائي كما في قوله تعالى في الشمس: تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [الكهف: ٨٦] وقال الإمام:
إن هذه الشهب ليست هي الثوابت المركوزة في الفلك والإظهار نقصان كثير في أعدادها مع أنه لم يوجد نقصان أصلا. وأيضا إن في جعلها رجوما ما يوجب النقصان في زينة السماء بل هي جنس آخر غيرها يحدثها الله تعالى ويجعلها رجوما للشياطين، ولا يأباه قوله تعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ [الملك:
٥] حيث أفاد أن تلك المصابيح هي الرجوم بأعيانها لأنا نقول: كل نير يحصل في الجو العالي فهو مصباح لأهل الأرض إلا أن المصابيح منها باقية على وجه الدهر أمنة من التغير والفساد ومنها ما لا يكون كذلك والشهاب من هذا القسم وحينئذ يزول الاشكال انتهى. والجرح والتعديل بين القولين مفوضان إلى شهاب ذهنك الثقاب، وفي أجوبته السابقة رحمه الله تعالى ما لا يخفى ضعفه، وكذا شاهدة عليه بقلة الاطلاع على الأخبار الصحيح المشهورة، ألا ترى قوله في الجواب عن ثالث الأسئلة التسعة: إن البعد بين السماء والأرض خمسمائة عام وأما ثخن الفلك فإنه لا يكون عظيما فإنه مخالف لما نطقت به الشريعة وهذت به الفلسفة، أما مخالفته للأول فلأنه قد صح أن سمك كل سماء خمسائة عام كما صح أن بين السماء والأرض كذلك، وأما مخلفته للثاني فلأنه لم يقل أحد من الفلاسفة: أن بين السماء والأرض هذه المسافة التي ذكرها، والافلاك عندهم مخالفتة في الثخن، وقد بينوا ثخن كل بالفراسخ حسبما ذكر في كتب الأجرام والابعاد، وذكروا في ثخن المحدد ما يشهد بمزيد عظمة الله جل جلاله لكن لا مستند لهم قطعي في ذلك بل إن قولهم: لا فضل في الفلكيات مع كونه أشبه شيء بالخطابيات يعكر عليه. وقوله في الجواب عن السادس: إنه إنما دام لئلا يقدح انقطاعه في خبر الرسول ﷺ عن بطلان الكهانة فإنه مستلزم للدور إذ الظاهر أنه عليه
272
الصلاة والسلام إنما أخبر بذلك لعلمه بدوام القذف المانع من تحقق ما تتوقف عليه الكهانة. وقوله في الجواب عن الخامس: إن النار قد تكون أقوى من نار أخرى فتبطلها ظاهر في أن الشياطين نار صرفة وليس كذلك بل الحق أنهم يغلب عليهم العنصر الناري وقد حصل لهم بالتركيب ولو مع غلبة هذا العنصر ما ليس للنار الصرفة وهو ظاهر.
هذا ثم اعلم أنه يجوز أن يكون استراق السمع من الملائكة الذين عند السماء لا من الملائكة الذين بين كل سماء وسماء ليجيء حديث الثخن واستبعاد السماع معه، ويشهد لهذا ما
رواه البخاري عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله تعالى عنهم قالت: «سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون مع الكلمة مائة كذبة من عند أنفسهم»
ولا ينافيه ما
رواه أيضا عن عكرمة أنه قال: «سمعت أبا هريرة يقول: إن النبي ﷺ قال: إذا أقضي الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة أجنحتها خضعانا لقوله سبحانه كأنه سلسلة على صفوان فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا: الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع» الخبر،
إذ ليس فيه أكثر من سماع المسترق الكلمة بعد قول الملائكة عليهم السلام بعضهم لبعض، وعدم منافاة هذا لذاك ظاهر عند من ألقي السمع وهو شهيد، وأنه ليس في الآيات ما هو نص في أن ما نراه من الشهب لا يكون إلا لرمي شيطان يسترق بل غاية ما فيها أنه إذا استرق شيطان أتبعه شهاب ورمي بنجم وأين هذا من ذاك؟ نعم في خبر الزهري ما يحتاج معه إلى تأمل، وعلى هذا فيجوز أن يكون حدوث بعض ما نراه من الشهب لتصاعد البخار حسبما تقدم عن الفلاسفة، وكذا يجوز أن يكون صعود الشياطين للاستراق في كل سنة مثلا مرة، ولا يخفى نفع هذا في الجواب عن السؤال الثاني.
ومن الناس من أجاب عنه بأنه لا يبعد أن يكون المسترقون صنفا من الشياطين تقتضي ذواتهم التصاعد نظير تصاعد الأبخرة، بل يجوز أن يكون أولئك الشياطين أبخرة تعلقت بها أنفس خبيثة على نحو ما ذكر الفلاسفة من أنه قد يتعلق بذوات الأذناب نفس فتغيب وتطلع بنفسها وفيه بحث. ونقل الإمام عن الجبائي أنه قال في الجواب عن ذلك:
إن الحالة التي تعتريهم ليس لها موضع معين وإلا لم يذهبوا إليه وإنما يمنعون من المصير إلى مواضع الملائكة ومواضعها مختلفة فربما صاروا إلى موضعهم فتصيبهم الشهب وربما صاروا إلى غيره ولا يصادفون الملائكة فلا يصيبهم شيء فلما هلكوا في بعض الأوقات وسلموا في بعضها جاز أن يصيروا إلى موضع يغلب على ظنونهم أنها لا تصيبهم فيه كما يجوز فيمن يسلك البحر أن يسلكه في موضع يغلب على ظنه حصول النجاة فيه.
وتعقبه بقوله: ولقائل أن يقول: إنهم إن صعدوا فإما أن يصلوا إلى مواضع الملائكة أو إلى غيرها فإن وصلوا إلى الأول احترقوا وإن إلى الثاني لم يظفروا بمقصود أصلا، فعلى كلا التقديرين المقصود غير حاصل فإذا حصلت هذه التجربة وثبت بالاستقراء أن الفوز بالمقصود محقق وجب أن يمتنعوا، وهذا بخلاف حال المسافر في البحر فإن الغالب على المسافرين فيه الفوز بالمقصود، ثم قال: فالأقرب في الجواب أن نقول: هذه الواقعة إنما تتفق في الندرة فلعلها لا تشتهر بسبب كونها نادرة فيما بين الشياطين اه.
وأنت تعلم أن هذا لا يكاد يتم إلا مع القول بأنه ليس كل ما نراه من الشهب يحرق به الشياطين والأمر مع هذا القول سهل كما لا يخفى. وذكر البيضاوي أن استراق السمع خطفتهم اليسيرة من قطان السموات لما بينهم من المناسبة في الجوهر. أو بالاستدلال من أوضاع الكواكب وحركاتها، وذكر عند قوله تعالى: إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء: ٢١٢] أن السمع مشروط بمشاركتهم في صفات الذات وقبول فيضان الحق والانتقاش بالصورة الملكوتية ونفوسهم خبيثة ظلمانية شريرة بالذات لا تقبل ذلك، ولا يخفى ما فيه، فإنه ظاهر في أن الاستراق يقتضي
273
مناسبة الجوهر والسمع التام يقتضي المشاركة المذكورة وهو لا يتمشى على أصول الشرع، وفي أن تلقيهم يكون من الأوضاع الفلكية وهو مخالف لصريح النظم والأحاديث مع أنه يقتضي أن يكون قطان السماء بمعنى الكواكب وشمول مَنِ شياطين الانس من المنجمين وهو كما ترى. وذكر هو وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الشياطين كانوا لا يحجبون عن السموات فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سموات ولما ولد النبي ﷺ منعوا من السموات كلها اه.
ومن الناس من ذهب أخذا ببعض الظواهر إلى أن المنع عند البعثة والله تعالى أعلم «بقي هاهنا إشكال» ذكره الإمام مع جوابه فقال: ولقائل أن يقول: إذا جوزتم في الجملة أن يصعد الشيطان إلى السماء ويسمع أخبار الغيوب من الملائكة عليهم السلام ثم يلقيها إلى الكهنة وجب أن يخرج الأخبار عن المغيبات عن كونه معجزا دالا على الصدق لأن كل غيب يخبر عنه الرسول عليه الصلاة والسلام يقوم فيه هذا الاحتمال، ولا يقال: إن الله تعالى أخبر أنهم عجزوا عن ذلك بعد مولده ﷺ لأنا نقول: هذا المعجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكونه عليه الصلاة والسلام رسولا وبكون القرآن حقا والقطع بهذا لا يمكن إلا بواسطة المعجز، وكون الإخبار عن الغيوب معجزا لا يثبت إلا بعد إبطال هذا الاحتمال وحينئذ يلزم الدور وهو محال. ويمكن أن يجلب عنه بأنا نثبت كونه ﷺ رسولا بسائر المعجزات ثم بعد العلم بثبوت ذلك نقطع بأن الله تعالى أعجز الشياطين عن تلقف الغيب بهذا الطريق وعند ذلك يصير الإخبار عن الغيوب معجزا ولا يلزم الدور اه فتدبر والله سبحانه ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق.
وَالْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها، قال الحسن: أخذ الله تعالى طينة فقال لها: انبسطي فانبسطت، وعن قتادة أنه قال: ذكر لنا أن أم القرى مكة ومنها دحيت الأرض وبسطت، وعن ابن عباس أنه قال: بسطناها على وجه الماء، وقيل:
يحتمل أن يكون المراد جعلناها ممتدة في الجهات الثلاث الطول والعرض والعمق، والظاهر أن المراد بسطها وتوسعتها ليحصل بها الانتفاع لمن حلها ولا يلزم من ذلك نفي كرويتها لما أن الكرة العظيمة لعظمها ترى كالسطح المستوي، ونسب الْأَرْضَ على الحذف على شريطة التفسير وهو في مثل ذلك أرجح من الرفع على الابتداء للعطف على الجملة الفعلية أعني قوله تعالى: وَلَقَدْ جَعَلْنا إلخ وليوافق ما بعده أعني قوله سبحانه: وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت جمع راسية جمع رأس على ما قيل، وقد بين حكمة إلقاء ذلك فيها في قوله سبحانه: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ [النحل: ١٥، لقمان: ١٠].
قال ابن عباس: إن الله تعالى لما بسط الأرض على الماء مالت كالسفينة فأرساها بالجبال الثقال لئلا تميل بأهلها، وقد تقدم الكلام في ذلك. وزعم بعضهم (١) أنه يجوز أن يكون المراد أنه تعالى فعل ذلك لتكون الجبال دالة على طرق الأرض ونواحيها فلا تميد الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال، ثم قال: وهذا الوجه ظاهر الاحتمال. وأنت تعلم أنه لا يسوغ الذهاب إليه مع وجود أخبار تأباه كالجبال وَأَنْبَتْنا فِيها أي في الأرض، وهي إما شاملة للجبال لأنها تعد منها أو خاصة بغيرها لأن أكثر النبات وأحسنه في ذلك. وجوز أن يكون الضمير للجبال والأرض بتأويل المذكورات مثلا أو للأرض بمعنى ما يقابل السماء بطريق الاستخدام، وعوده على الرواسي لقربها وحمل الإنبات على إخراج المعادن بعيد مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ أي مقدر بمقدار معين تقتضيه الحكمة فهو مجاز مستعمل في لازم معناه أو كناية أو من كل شيء مستحسن متناسب من قولهم: كلام موزون، وأنشد المرتضى في
(١) هو الإمام الرازي اه منه.
274
درره لهذا المعنى قول عمر بن أبي ربيعة:
وحديث ألذه وهو مما... تشتهيه النفوس يوزن وزنا
وقد شاع استعمال ذلك في كلام العجم والمولدين فيقولون: قوام موزون أي متناسب معتدل، أو ما له قدر واعتبار عند الناس في أبواب النعمة والمنفعة، وقال ابن زيد: المراد ما يوزن حقيقة كالذهب والفضة وغيرهما، ومِنْ كما في البحر للتبعيض، وقال الأخفش: هي زائدة أي كل شيء وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ما تعيشون به من المطاعم والمشارب والملابس وغيرها مما يتعلق به البقاء وهي بياء صريحة. وقرأ الأعرج وخارجة عن نافع بالهمز، قال ابن عطية: والوجه تركه لأن الياء في ذلك عين الكلمة، والقياس في مثله أن لا يبدل همزة وإنما يبدل إذا كان زائدا كياء شمائل وخبائث. لكن لما كان الياء هنا مشابها للياء هناك في وقوعه بعد مدة زائدة في الجمع عومل معاملته على خلاف القياس وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ عطف على معايش أي وجعلنا لكم من لستم برازقيه من العيال والمماليك والخدم والدواب وما أشبهها على طريقة التغليب كما قال الفراء وغيره، وذكرهم بهذا العنوان لرد حسبان بعض الجهلة أنهم يرتزقون منهم أو لتحقيق أن الله تعالى يرزقهم وإياهم مع ما في ذلك من عظيم الامتنان، ويجوز عطفه على محل لَكُمْ وجوز الكوفيون ويونس والأخفش. وصححه أبو حيان العطف على الضمير المجرور وإن لم يعد الجار، والمعنى على التقديرين سواء أي وجعلنا لكم معايش ولمن لستم له برازقين، وقال الزجاج: إن مَنْ في محل نصب بفعل محذوف والتقدير وأعشنا من لستم إلخ أي أمما غيركم لأن المعنى أعشناكم، وقيل: إنه في محل رفع على الابتداء وخبره محذوف لدلالة المعنى عليه أي ومن لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش وهو خلاف الظاهر، وقال أبو حيان: لا بأس به فقد أجازوا ضربت زيدا وعمرو بالرفع على الابتداء أي وعمرو ضربته فحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن مجاهد أن المراد ب مَنْ لَسْتُمْ إلخ الدواب والأنعام، وعن منصور الوحش، وعن بعضهم ذاك والطير- فمن- على هذه الأقوال لما لا يعقل وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِنْ نافية ومِنْ مزيدة للتأكيد وشَيْءٍ في محل الرفع على الابتداء أي ما شيء من الأشياء الممكنة فيدخل فيها ما ذكر دخولا أوليا والاقتصار عليه قصور. وزعم ابن جريج وغيره أن الشيء هنا المطر خاصة.
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ الظرف خبر للمبتدأ وخَزائِنُهُ مرتفع به على أنه فاعله لاعتماده أو مبتدأ والظرف خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول، والخزائن جمع خزانة ولا تفتح وهي اسم للمكان الذي يحفظ فيه نفائس الأموال لا غير غلبت- على ما قيل- في العرف على ما للملوك والسلاطين من خزائن أرزاق الناس، شبهت مقدوراته تعالى الغائبة للحصر المندرجة تحت قدرته الشاملة في كونها مستورة عن علوم العالمين ومصونة عن وصول أيديهم مع وفور رغبتهم فيها وكونها متهيئة متأتية لإيجاده وتكوينه بحيث متى تعلقت الإرادة بوجودها وجدت بلا تأخر بنفائس الأموال المخزونة في الخزائن السلطانية فذكر الخزائن على طريقة الاستعارة التخييلية قاله غير واحد، وجوز أن يكون قد شبه اقتداره تعالى على كل شيء وإيجاده لما يشاء بالخزائن المودعة فيها الأشياء المعدة لأن يخرج منها ما شاء فذكر ذلك على سبيل الاستعارة التمثيلية، والمراد ما من شيء إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه، وقيل: الأنسب أنه مثل لعلمه تعالى بكل معلوم، ووجهه- على ما قيل- أنه يبقى شَيْءٍ على عمومه لشموله الواجب والممكن بخلاف القدرة ولأن عند أنسب بالعلم لأن المقدور ليس عنده إلا بعد الوجود. وتعقب بأن كون المقدورات في خزان القدرة ليس باعتبار الوجود الخارجي بل الوجود العلمي، وقال قوم: الخزائن على حقيقتها وهي الأماكن التي تحفظ
275
فيها الأشياء وإن للريح مكانا وللمطر مكانا ولكل مكان حفظة من الملائكة عليهم السلام، ولا يخفى أنه لا يمكن مع تعميم الشيء وَما نُنَزِّلُهُ أي نوجد ما نكون شيئا من تلك الأشياء ملتبسا بشيء من الأشياء إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ أي إلا ملتبسا بمقدار معين تقتضيه الحكمة وتستدعيه المشيئة التابعة لها من بين المقدورات الغير المتناهية فإن تخصيص كل شيء بصفة معينة وقدر معين ووقت محدود دون ما عدا ذلك مع استواء الكل في الأشكال وصحة تعلق القدرة به لا بد له من حكمة تقتضي اختصاص كل من ذلك بما اختص به.
وهذا لبيان سر عدم تكون الأشياء على وجه الكثرة حسبما هو في الخزائن، وهو إما عطف على مقدر أي ننزله وما ننزله إلا بقدر إلى آخره أو حال مما سبق أي عندنا خزائن كل شيء والحال أنا ما ننزله إلا بقدر إلى آخره، فالأول لبيان سعة القدرة، والثاني لبيان بالغ الحكمة قاله. مولانا شيخ الإسلام. وقرأ الأعمش «وما نرسله إلا» إلى آخره، وهي على ما في البحر قراءة تفسير لمخالفتها لسواد المصحف، والأولى في التفسير ما ذكرنا، وإنما عبر عن إيجاد ذلك وإنشائه بالتنزيل لما أنه بطريق التفضل من العالم العلوي إلى العالم السفلي وقيل: لما أن فيه إخراج الشيء مما تميل إليه ذاته من العدم إلى ما لا تميل إليه ذاته من الوجود، وهذا كما في قوله تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ
[الزمر: ٦] وقوله سبحانه: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد: ٢٥] وكأن من حمل الشيء على المطر غره ظاهر التنزيل فارتكب خلاف ظاهره وجدا، وكأنه لما كان ذلك بطريق التدريج عبر عنه بالتنزيل، وجيء بصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار. واستدل بعض القائلين يشيئية المعدوم على ذلك بهذه الآية، وقد بين وجهه والجواب عنه الإمام ونحن مع القائلين بالشيئية وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ عطف على جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وما بينهما اعتراض لتحقيق ما سبق وترشيح ما لحق، واللواقح جمع لاقح بمعنى حامل يقال: ناقة لاقح أي حامل، ووصف الرياح بذلك على التشبيه البليغ، شبهت الريح التي بالسحاب الماطر بالناقة الحامل لأنها حاملة لذلك السحاب أو للماء الذي فيه، وقال الفراء: إنها جمع لاقح على النسب كلابن وتامر أي ذات لقاح وحمل، وذهب إليه الراغب، ويقال لضدها ريح عقيم، وقال أبو عبيدة: لَواقِحَ أي ملاقح جمع ملقحة كالطوائح في قوله:
لبيك يزيد ضارع لخصومة ومختبط مما تطيح الطوائح
أي المطاوح جمع مطيحة، وهو من ألقح الفحل الناقة إذا ألقى ماءه فيها لتحمل، والمراد ملقحات للسحاب أو الشجر فيكون قد استعير اللقح لصب المطر في السحاب أو الشجر، وإسناده إليها على الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز إذ الملقى في الشجر السحاب لا الريح والرياح اللواقح هي ريح الجنوب كما
رواه ابن أبي الدنيا عن قتادة مرفوعا، وروى الديلمي بسند ضعيف عن أبي هريرة نحوه، وأخرج ابن جرير وغيره عن عبيد بن عمير قال: يبعث الله تعالى المبشرة فتقم الأرض قما ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب فتجعله كسفا ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فيجعله ركاما ثم يبعث اللواقح فتلقحه فيمطر.
وقرأ حمزة «وأرسلنا الريح» بالإفراد على تأويل الجنس فتكون في معنى الجمع فلذا صح جعل لَواقِحَ حالا منها وذلك كقولهم: أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، ولا تخالف هذه القراءة ما قالوه
في حديث «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا»
من أن الرياح تستعمل للخير والريح للشر لما قال الشهاب من أن ذلك ليس من الوضع وإنما هو من الاستعمال وهو أمر أغلبي لا كلي فقد استعملت الريح في الخير أيضا نحو قوله تعالى: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يونس: ٢٢] أو هو محمول على الإطلاق بأن لا يكون معه قرينة كالصفة والحال، وأما كون المراد بالخير الدعاء بطول العمر ليرى رياحا كثيرة فلا وجه له.
فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ بعد ما أنشأنا بتلك الرياح سحابا ماطرا ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ جعلناه لكم سقيا تسقون به
276
مزارعكم ومواشيكم وهو على ما قيل أبلغ من سقيناكم لما فيه من الدلالة على جعل الماء معدا لهم ينتفعون به متى شاؤوا، وقد فرق بين أسقى وسقى غير واحد فقد قال الأزهري: العرب تقول لكل ما كان من بطون الأنعام أو من السماء أو من نهر جار أسقيته أي جعلت شربا له وجعلت له منه مسقى فإذا كان للشفة قالوا سقى ولم يقولوا أسقى، وقال أبو علي: يقال سقيته حتى روي وأسقيته نهرا جعلته شربا له، وربما استعملوا سقى بلا همزة كأسقى كما في قول لبيد يصف سحابا:
أقول وصوته مني بعيد يحط اللث (١) من قلل الجبال
سقى قومي بني نجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال
فإنه لا يريد بسقى قومي ما يروي عطاشهم ولكن يريد رزقهم سقيا لبلادهم يخصبون بها وبعيد أن يسأل لقومه ما يروي ولغيرهم ما يخصبون به، ولا يرد على قول الأزهري أنه لا يقال أسقي في سقيا الشفة قول ذي الرمة:
وأسقيه حتى كاد مما أبثه يكلمني أحجاره وملاعبه
قال الإمام: لأنه أراد بأسقيه أدعو له بالسقيا ولا يقال في ذلك كما قال أبو عبيد سوى أسقي، هذا وقد جاء الضمير هنا متصلا بعد ضمير منصوب متصل أعرف منه ومذهب سيبويه في مثل ذلك وجوب الاتصال.
وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ نفى سبحانه عنهم ما أثبته لجنابه بقوله جل جلاله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ كأنه قيل: نحن القادرون على إيجاده وخزنه في السحاب وإنزاله، وما أنتم على ذلك بقادرين، وقيل: المراد نفي حفظه أي وما أنتم له بحافظين في مجاريه عن أن يغور فلا تنتفعون به وعن سفيان أن المعنى وما أنتم له بمانعين لإنزاله من السماء وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة لها وَنُمِيتُ بإزالتها عنها فالحياة صفة وجودية وهي كما قيل صفة تقتضي الحس والحركة الإرادية والموت زوال تلك الصفة، وقال بعضهم: إنه صفة وجودية تضاد الحياة لظاهر قوله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ [الملك: ٢] وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك، وقد يعمم الإحياء والإماتة بحيث يشمل الحيوان والنبات مثل أن يقال: المراد إعطاء قوة النماء وسلبها، وتقديم الضمير للحصر، وهو إما توكيد للأول أو مبتدأ خبره الجملة بعده والمجموع خبر لإنا، وجوز كونه ضمير فصل ورده أبو البقاء بوجهين أحدهما أنه لا يدخل على الخبر الفعلي والثاني أن اللام لا تدخل عليه، وتعقب ذلك في الدر المصون بأن الثاني غلط فإنه ورد دخول اللام عليه في قوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ [آل عمران: ٦٢] ودخوله على المضارع مما ذهب إليه الجرجاني وبعض النحاة، وجعلوا من ذلك قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [البروج: ١٣] ولعل ذلك المجوز ممن يرى هذا الرأي والعجب من أبي البقاء فإنه رد ذلك هنا وجوزه في قوله تعالى: وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ [فاطر:
١٠] كما نقله في المغني.
وَنَحْنُ الْوارِثُونَ أي الباقون بعد فناء الخلق قاطبة المالكون للملك عند انقضاء زمان الملك المجازي، الحاكمون في الكل أولا وآخرا أو ليس لأحد إلا التصرف الصوري والملك المجازي وفي هذا تنبيه على أن المتأخر ليس بوارث للمتقدم كما يتراءى من ظاهر الحال، وتفسير الوارث بالباقي مروي عن سفيان وغيره، وفسر بذلك في
قوله عليه الصلاة والسلام: «اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا»
وهو من باب الاستعارة وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ من مات وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ من هو حي لم يمت بعد أخرجه ابن أبي
(١) يقال ألث المطر إذا أقام أياما لا يقلع ولعل المراد باللث هنا المطر الدائم اه منه.
277
حاتم وغيره عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه المستقدمين آدم عليه السلام ومن مضى من ذريته والمستأخرين من في أصلاب الرجال، وروي مثله عن قتادة، وعن مجاهد المستقدمين من مضى من الأمم والْمُسْتَأْخِرِينَ أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: من تقدم ولادة وموتا ومن تأخر كذلك مطلقا وهو من المناسبة بمكان وروي عن الحسن أنه قال:
من سبق إلى الطاعة ومن تأخر فيها، وروي عن معتمر أنه قال: بلغنا أن الآية في القتال فحدثت أبي فقال: لقد نزلت قبل أن يفرض القتال، فعلى هذا أخذ الجهاد في عموم الطاعة ليس بشيء، على أنه ليس في تفسير ذلك بالمستقدمين والمستأخرين فيها كمال مناسبة، والمراد من علمه تعالى بهؤلاء علمه سبحانه بأحوالهم، والآية لبيان كمال علمه جل وعلا بعد الاحتجاج على كمال قدرته تعالى فإن ما يدل عليها دليل عليه ضرورة أن القادر على كل شيء لا بد من علمه بما يصنعه وفي تكرير قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْنَا ما لا يخفى من الدلالة على التأكيد. وأخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم وصححه والبيهقي في سننه. وجماعة من طريق أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله ﷺ حسناء من أحسن الناس فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها ويستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله تعالى الآية، وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر عن أبي الجوزاء أنه قال في الآية ولقد علمنا المستقدمين منكم في الصفوف في الصلاة ولم يذكر من حديث المرأة شيئا، قال الترمذي: هذا أشبه أن يكون أصح، وقال الربيع بن أنس: حرض النبي ﷺ على الصف الأول في الصلاة فازدحم الناس عليه وكان بنو عذرة دورهم قاصية عن المسجد فقالوا: نبيع دورنا ونشتري دورا قريبة من المسجد فأنزل الله تعالى الآية، وأنت تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ومن هنا قال بعضهم:
الأولى الحمل على العموم أي علمنا من اتصف بالتقدم والتأخر في الولادة والموت والإسلام وصفوف الصلاة وغير ذلك وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ للجزاء، وتوسيط الضمير قيل للحصر أي هو سبحانه يحشرهم لا غير، وقيل عليه: إنه في مثل ذلك يكون الفعل مسلم الثبوت والنزاع في الفاعل وهاهنا ليس كذلك فالوجه جعله لإفادة التقوى. وتعقب بأن هذا في القصر الحقيقي غير مسلم وتصدير الجملة بإن لتحقيق الوعد والتنبيه على ما سبق يدل على صحة الحكم، وفي الالتفات والتعرض لعنوان الربوبية إشعار بعلته، وفي الإضافة إلى ضميره ﷺ دلالة على اللطف به عليه الصلاة والسلام.
وقرأ الأعمش «يحشرهم» بكسر الشين إِنَّهُ حَكِيمٌ بالغ الحكمة متقن في أفعاله. والحكمة عندهم عبارة عن العلم بالأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي عَلِيمٌ وسع علمه كل شيء، ولعل تقديم وصف الحكمة للإيذان باقتضائها للحشر والجزاء، وقد نص بعضهم على أن الجملة مستأنفة للتعليل وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي هذا النوع بأن خلقنا أصله وأول فرد من أفراده خلقا بديعا منطويا على خلق سائر أفراده انطواء إجماليا.
مِنْ صَلْصالٍ أي طين يابس يصلصل أي يصوت إذا نقر. أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة ونقله في الدر المصون عن أبي عبيدة ونقل عنه أبو حيان أنه قال: هو الطين المخلوط بالرمل وهو رواية عن ابن عباس، وفي رواية أخرى عنه أنه الطين المرقق الذي يصنع منه الفخار، وفي أخرى نحو الأول، وقيل: هو من صلصال إذ أنتن تضعيف صل يقال: صل اللحم وأصل إذا أنتن وهذا النوع من المضعف مصدر يفتح أوله ويكسر كالزلزال ووزنه عند جمهور البصريين فعلال، وقال الفراء: وكثير من النحويين فعفع كررت الفاء والعين ولا لام، وغلطهم في الدر المصون لأن أقل الأصول ثلاثة فاء وعين ولام، وقال بعض البصريين والكوفيين: فعفل ونسب أيضا إلى الفراء بل قيل هو المشهور عنه، وعن بعض آخر من الكوفيين أن وزنه فعل بتشديد العين والأصل صلل مثلا فلما اجتمع ثلاثة أمثال أبدل الثاني من جنس
278
إلقاء، وخص بعضهم هذا الخلاف بما إذا لم يختل المعنى بسقوط الثالث كلملم وكبكب فإنك تقول لم وكب فلو لم يصح المعنى بسقوطه نحو سمسم فلا خلاف في أصالة الجميع، وقال اليمني: ليس معنى قولهم: إن الأصل صلل أنه زيد فيه صاد بل هو رباعي كزلزل والاشتراك في أصل المعنى لا يقتضي أن يكون منه إذ الدليل دال على أن الفاء لا تزاد لكن زيادة الحرف تدل على زيادة المعنى، وذكر في البحر أن صلصال بمعنى مصلصل كالقضاض بمعنى المقضقض فهو مصدر بمعنى الوصف ومثله كثير. مِنْ حَمَإٍ من طين تغير واسود من مجاورة الماء ويقال للواحدة حمأة، قال الليث: بتحريك الميم ووهم في ذلك وقالوا: لا نعرف الحمأة في كلام العرب إلا ساكنة الميم وعلى هذا أبو عبيدة والأكثرون، والجار والمجرور في موضع الصفة لصلصال كما هو السنة الشائعة في الجار والمجرور بعد النكرة أي من صلصال كائن من حمإ، وقال الحوفي: هو بدل مما قبله بإعادة الجار فكأنه قيل خلقناه من حمإ مَسْنُونٍ أي مصور من سنة الوجه وهي صورته، وأنشد لذلك ابن عباس قول عمه حمزة يمدح النبي صلى الله عليه وسلم:
أغر كأن البدر سنة وجهه جلا الغيم عنه ضوؤه فتبددا
وأنشد غيره قول ذي الرمة:
تريك سنة وجه غير مقرفة (١) ملساء ليس بها خال ولا ندب (٢)
أو مصبوب من سن الماء صبه ويقال شن بالشين أيضا أي مفرغ على هيئة الإنسان كما تفرغ الصور من الجواهر المذابة في القوالب، وقال قتادة ومعمر: المسنون المنتن، قيل: وهو من سننت الحجر على الحجر إذا حككته به فالذي يسيل بينهما سنين ولا يكون إلا منتنا، وقيل: هو من سننت الحديدة على المسن إذا غيرتها بالتحديد، وأصله الاستمرار في جهة من قولهم: هو على سنن واحد وهو صفة الحمإ، ويجوز أن يكون صفة لصلصال ولا ضير في تقدم الصفة الغير الصريحة على الصريحة، فقد قال الرضي: إذا وصفت النكرة بمفرد أو ظرف أو جملة قدم المفرد في الأغلب وليس بواجب خلافا لبعضهم، والدليل عليه قوله تعالى: وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ [الأنبياء: ٥٠] لكنه يحتاج إلى نكتة لا سيما في كلام الله تعالى لأنه لا يعدل عن الأصل لغير مقتض، ولعل النكتة هاهنا مناسبة المقدم لما قبله في أن كلا منهما من جنس المادة، وقيل: إنما أخرت الصفة الصريحة تنبيها على أن ابتداء مسنونيته ليس في حال كونه صلصالا بل في حال كونه حمأ كأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصور من ذلك تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صوت ثم غيره طورا بعد طور حتى نفخ فيه من روحه فتبارك الله أحسن الخالقين، وقيل: المسنون المنسوب أي نسب إليه ذريته وهو كما ترى. وَالْجَانَّ هو أبو الجن كما روي عن ابن عباس ويجمع على جنان كحائط وحيطان وراع ورعيان قاله الطبرسي، وقيل: هو إبليس وروي عن الحسن وقتادة لكن في الدر المصون أنه هو أبو الجن، وقال ابن بحر: هو اسم لجنس الجن وتشعب الجنس لما كان من فرد واحد مخلوق من مادة واحدة كان الجنس مخلوقا منها.
وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد «والجأن» بالهمز وانتصابه بفعل يفسره خَلَقْناهُ وهو هنا أقوى من الرفع للعطف على الجملة الفعلية مِنْ قَبْلُ أي من قبل خلق الإنسان، قيل: ومن هنا يظهر جواز كون الرماد بالمستقدمين أحد الثقلين وبالمستأخرين الآخر والخطاب بقوله تعالى: مِنْكُمْ للكل وهو بعيد غاية البعد.
مِنْ نارِ السَّمُومِ أي الريح الحارة التي تقتل. وروي ذلك عن ابن عباس، وأكثر ما تهب في النهار وقد تهب
(١) من قرفت الجرح قشرته اه منه.
(٢) بالتحريك أثر الجرح اه منه.
279
ليلا. وسميت سموما لأنها بلطفها تنفذ في مسام البدن ومنه السم القاتل، ويقال: سم يومنا يسم إذا هبت فيه تلك الريح، وقيل: السموم نار لا دخان لها ومنها تكون الصواعق، وروى ذلك أبو روق عن الضحاك عن ابن عباس فالإضافة من إضافة العام إلى الخاص، وقيل: السموم إفراط الحر والإضافة من إضافة الموصوف إلى الصفة، والمراد من النار المفرطة الحرارة، وقد جاء في بعض الآثار ما يدل على أن النار التي خلق منها الجان أشد حرارة من النار المعروفة.
فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي ﷺ أنه قال: «رؤيا المسلم جزء من سبعين جزءا من النبوة وهذه النار جزء من سبعين جزءا من السموم التي خلق منها الجان وتلا عليه الصلاة والسلام الآية»
واستشكل الخلق من النار بأنه كيف تخلق الحياة فيها وهي بسيطة ليست متركبة من أجزاء مختلفة الطبع والحياة كالمزاج لا تكون إلا في المركبات وقد اشترط الحكماء فيها البنية المركبة.
وأجيب بمنع ذلك لأنها إذا خلقت في المجردات كالملائكة على قول والعقول التي أثبتها الفلاسفة فبالطريق الأولى البسائط بل لا مانع أيضا أن تخلق في الأجزاء الفردة خلافا للمعتزلة حيث اشترطوا البنية المركبة من الجواهر وليس لهم سوى شبه أوهن من بين العنكبوت على أن ذلك غير وارد رأسا لأن معنى كون الجن مخلوقة من نار أنها الجزء الأعظم الغالب عليها كالتراب في الإنسان فليست بسيطة، وقال بعضهم: إن الجن أجسام هوائية أو نارية بمعنى أنهم يغلب عليهم ذلك وهم مركبون من العناصر الأربعة كالملائكة عليهم السلام على قول.
ثم إن النقل الظاهر عن أكثر الفلاسفة إنكار الجن وليس ذلك مذهب جميعهم فقد ذهب جمع عظيم من قدمائهم إلى وجودهم وهو مذهب جمهور أرباب الملل وأصحاب الروحانيات ويسمونهم بالأرواح السفلية وزعموا أنهم أسرع إجابة من الأرواح الفلكية إلا أنها أضعف. نعم اختلف المثبتون فمنهم من زعم أنهم ليسوا أجساما ولا حالين فيها بل هم جواهر قائمة بأنفسها لكنها أنواع مختلفة بالماهية كاختلاف ماهيات الأعراض بعد استوائها في الحاجة إلى المحل فبعضها كريمة حرة محبة للخيرات وبعضها دنية خسيسة محبة للشرور ولا يعلم عدد أنواعهم إلا الله تعالى ولا يبعد أن يكون من أنواعها من يقدر على أفعال شاقة يعجز عنها قدرة البشر وكذا لا يبعد لكل نوع منها تعلق بنوع مخصوص من أجسام هذا العالم. ومن الناس من زعم أن هذه الأرواح البشرية والنفوس الناطقة إذا فارقت أبدانها وازدادت قوة وكمالا بسبب ما في ذلك العالم الروحاني من انكشاف الأسرار الروحانية فإذا اتفق حدوث بدن مشابه للبدن الذي فارقته فبسبب تلك المشابهة يحصل لتلك النفس المفارقة تعلق ما بهذا البدن وتصير معاونة لنفس ذلك البدن في أفعالها وتدبيرها لذلك البدن فإن اتفقت هذه الحالة في النفوس الخيرة سمي ذلك المعين ملكا وتلك الإعانة إلهاما، وإن اتفقت في النفوس الشريرة سمي ذلك المعين شيطانا وتلك الإعانة وسوسة، ومنهم من قال: إنهم أجسام لكن اختلفوا فقال بعضهم: هي مختلفة الماهية وإن اشتركت في صفة، وقال آخرون: إنها متساوية في تمام الماهية، وقد أطال الكلام في ذلك الإمام في تفسير سورة الجن، وذكر في تفسير هذه الآية أنهم اختلفوا في الجن فقال بعضهم:
إنهم جنس غير الشياطين، والأصح أن الشياطين قسم من الجن، فكل من كان منهم مؤمنا فإنه لا يسمى بالشيطان، وكل من كان منهم كافرا سمي بهذا الاسم، والدليل على صحة ذلك أن لفظ الجن مشتق من الاستتار فكل من كان كذلك كان من الجن اه، وما ذكره من الأصح هو الذي ذهب إليه المعظم لكن ما ذكره من الدليل ضعيف.
وقال وهب: إن من الجن من يولد له ويأكلون ويشربون بمنزلة الآدميين، ومنهم من هو بمنزلة الريح لا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون وهم الشياطين. وذكر ابن عربي أن تناسل الجن بإلقاء الهواء في رحم الأنثى كما أن التناسل في البشر بإلقاء الماء في الرحم، وأنهم محصورون في اثنتي عشرة قبيلة أصولا ثم يتفرعون إلى أفخاذ، ويقع بينهم حروب
280
وبعض الزوابع يكون عند حربهم، فإن الزوبعة تقابل ريحين تمنع كل صاحبتها أن تخترقها فيؤدي ذلك إلى الدور وما كل زوبعة حرب.
وأخرج البيهقي في الأسماء وأبو نعيم والديلمي وغيرهم بإسناد صحيح- كما قال العراقي- عن أبي ثعلبة مرفوعا الجن ثلاثة أصناف فصنف لهم أجنحة يطيرون في الهواء. وصنف حيات وكلاب. وصنف يحلون ويظعنون،
وفي هذه القسمة عندي إشكال يظهر بالتدبر، ولعل حاصلها أن صنفا منهم يغلب عليهم الطيران في الهواء، وصنف يغلب عليهم الحل والارتحال، وصنف يغلب عليهم المكث والتوطن ببعض المواطن، وعبر عنهم بالحيات والكلاب لكثرة تشكلهم بذلك دون الصنفين الآخرين، فإنهم وإن جاز عليهم التشكل بالأشكال المختلفة لأنهم من الجن، وقد قالوا: إنهم قادرون على ذلك وإن نوزع فيه بأنه يستلزم أن لا تبقى ثقة بشيء. ورد بأن الله تعالى قد تكفل لهذه الأمة بعصمتها عن أن يقع فيها ما يترتب عليه الريبة في الدين ورفع الثقة بعالم وغيره فاستحال شرعا الاستلزام المذكور- إلا أنهم لا يكثر تشكلهم بذلك، وربما يقال: إن القدرة على التشكل إنما هي لصنف المتوطنين، وإثباتها في كلامهم للجن يكفي فيه صحتها باعتبار بعض الأصناف لكنه بعيد جدا فليتدبر حقه، وقد قال الهيتمي: إن رجال هذا الحديث وثقوا وفي بعضهم ضعف، فإن كان الحديث لذلك ضعيفا فلا قيل ولا قال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال، وسيأتي إن شاء الله تعالى استيفاء الكلام في هذا المقام بعون الله تعالى الملك العلام، ثم إن مساق الآية الكريمة- على ما قيل- كما هو للدلالة على كمال قدرته تعالى شأنه وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على مقدمة يتوقف عليها إمكان الحشر وهي قبول المواد للجمع والإحياء فتدبر.
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ نصب بإضمار أذكر، وتذكير الوقت لما مر مرارا من أنه أدخل في تذكير ما وقع فيه، وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام إشعار بعلة الحكم وتشريف له ﷺ أي أذكر وقت قوله تعالى: لِلْمَلائِكَةِ الظاهر أن المراد بهم ملائكة السماء والأرض، وزعم بعض الصوفية أن المراد بهم ملائكة الأرض ولا دليل له عليه إِنِّي خالِقٌ فيما سيأتي وفيه ما ليس في صيغة المضارع من الدلالة على أنه تعالى فاعل لذلك البتة من غير صارف ولا عاطف بَشَراً أي إنسانا، وعبر به عنه اعتبارا بظهور بشرته وهي ظاهر الجلد عكس الأدمة خلافا لأبي زيد حيث عكس وغلطه في ذلك أبو العباس. وغيره من الصوف والوبر ونحوهما، ولبعض أكابر الصوفية وجه آخر في التسمية سنذكره إن شاء الله تعالى في باب الإشارة، ويستوي فيه الواحد والجمع.
وذكر الراغب أنه جاء جمع البشرة بشرا وأبشارا، وقيل: أريد جسما كثيفا يلاقي ويباشر أو جسما بادي البشرة ولم يرد إنسانا وإن كان هو إياه في الواقع، وبعض من قال إنه المراد قال: ليس هذا صيغة عين الحادثة وقت الخطاب بل الظاهر أن يكون قد قيل لهم: ٧ ني خالق خلقا من صفته كيت وكيت ولكن اقتصر عند الحكاية على الاسم مِنْ صَلْصالٍ متعلق- بخالق- أو بمحذوف وقع صفة بَشَراً مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ تقدم تفسيره وإعرابه فتذكر فما في العهد من قدم فَإِذا سَوَّيْتُهُ فعلت فيه ما يصير به مستويا معتدلا مستعدا لفيضان الروح وقيل: صورته بالصور الإنسانية والخلقة البشرية وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي النفح في العرف إجراء الريح من الفم أو غيره في تجويف جسم صالح لإمساكها والامتلاء بها، والمراد هنا تمثيل إفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها وليس هناك نفخ حقيقة.
وقال حجة الإسلام: عبر بالنفخ الذي يكون سببا لاشتعال فتيلة القابل من الطين الذي تعاقبت عليه الأطوار حتى اعتدل واستوى واستعد استعدادا تاما بنور الروح كما يكون سببا لاشتعال الحطب القابل مثلا بالنار عن نتيجته ومسببه
281
وهو ذلك الاشتعال. وقد يكنى بالسبب عن الفعل المستفاد الذي يحصل منه على سبيل المجاز وإن لم يكن الفعل المستفاد على صورة الفعل المستفاد منه. ثم هذا الروح عنده وكذا عند جماعة من المحققين ليس بجسم يحل البدن حلول الماء في الإناء مثلا، ولا هو عرض يحل القلب أو الدماغ حلول السواد في الأسود والعلم في العالم بل هو جوهر مجرد ليس داخل البدن ولا خارجه ولا متصلا به ولا منفصلا عنه، ولهم على ذلك عدة أدلة.
الدليل الأول: أن الإنسان يمكنه إدراك الأمور الكلية وذلك بارتسام صور المدركات في المدرك فمحل تلك الصور إن كان جسما فإما أن يحل غير منقسم أو منقسما، والأول محال لأن الذي لا ينقسم من الجسم طرف نقطي والنقطة تمتنع أن تكون محلا للصور العقلية لأنها مما لا يعقل حصول المزاج لها حتى يختلف حال استعدادها في القابلية وعدمها بل إن كانت قابلة للصور المذكورة وجب أن يكون ذلك القبول حاصلا أبدا ولو كان كذلك لكان المقبول حاصلا أبدا لما أن المبادي الفعالة المفارقة عامة الفيض فلا يتخصص إلا لاختلاف أحوال القوابل فلو كان القابل تام الاستعداد لكان المقبول واجب الحصول وحينئذ يكون جميع الأجسام ذوات النقط عاقلة، ويجب أيضا أن يبقى البدن بعد الموت عاقلا لبقاء محل الصور على استعداده وليس كذلك، والثاني أيضا محال لأن الحال في المنقسم منقسم فيلزم أن تكون تلك الصورة منقسمة أبدا وذلك محال لوجوه مقررة فيما بينهم.
الدليل الثاني: ما عول عليه الشيخ وزعم أنه أجل ما عنده في هذا الباب وهو أنه يمكننا أن نعقل ذواتنا وكل من عقل ذاتا فله ماهية ذلك الذات فإذا لنا ماهية ذاتنا فلا يخلو إما أن يكون تعقلنا لذاتنا لأجل صورة أخرى مساوية لها تحصل فيها وإما أن لا يكون بل لأجل أن نفسها حاضرة لها، والأول محال لأنه يفضي إلى الجمع بين المثلين فتعين الثاني، وكل ما ذاته حاصل لذاته كان قائما بذاته، فإذن القوة العاقلة وهي الروح والنفس الناطقة قائمة بنفسها، وكل جسم أو جسماني فإنه غير قائم بنفسه، وأكثر تلامذته من الاعتراضات وأجاب عنها.
الدليل الثالث: ما عول عليه أفلاطون وهو أنا نتخيل صورا لا وجود لها في الخارج ونميز بينها وبين غيرها فهذه الصور أمور وجودية ومحلها يمتنع أن يكون جسمانيا فإن جملة بدننا بالنسبة إلى الأمور المتخيلة لنا قليل من كثير فكيف ينطبق الصور العظيمة على المقادير الصغيرة؟ وليس يمكن أن يقال: إن بعض تلك الصور منطبعة في أبداننا وبعضها في الهواء المحيط بنا إذ الهواء ليس من جملة أبداننا ولا آلة لنفوسنا في أفعالها أيضا وهو ظاهر، فإذن محل هذه الصور شيء غير جسماني وذلك هو النفس الناطقة.
الدليل الرابع: لو كان محل الإدراكات شيئا جسمانيا لصح أن يقوم ببعض ذلك الجسم علم وبالبعض الآخر جهل فيكون الشيء الواحد عالما جاهلا بشيء واحد في حالة واحدة.
الدليل الخامس: أن الروح لو كان منطبعا في جسم مثل قلب أو دماغ لكان إما أن يعقل دائما ذلك الجسم أو لا يعقله كذلك أو يعقله في وقت دون وقت والأقسام باطلة فالقول بانطباعه باطل، وبيان ذلك أن تعقل الروح لذلك الجسم إما أن يكون لأجل أن الآلة حاضرة عنده أو لأن صورة أخرى من تلك الآلة تحصل له فإن كان الأول فالروح إن أمكنه إدراك تلك الآلة وإدراك نفس مقارنتها له فما دامت الآلة مقارنة وجب أن يعقلها الروح فيكون دائم الإدراك لتلك الآلة وإن امتنع على الروح إدراك الآلة وجب أن لا يدركها أبدا فظاهر أنه لو كان تعقل الروح لتلك الآلة لأجل المقارنة لوجب أن يعقلها دائما أو لا يعقلها كذلك وكلا القسمين باطلا، وأما إن كان تعقله لها لأجل حصول صورة أخرى منها فالروح إن كانت في تلك الآلة والصورة الثانية حاصلة فيه يكون الصورة الثانية للآلة حالة أيضا في الآلة لأن الحال
282
في الحال في الشيء حال في ذلك الشيء فيلزم الجمع بين المثلين وإن لم يكن الروح في تلك الحالة بل مجردة فذلك المطلوب واستدل بغير ذلك أيضا.
وقد ذكر الإمام في المباحث من الأدلة اثني عشر دليلا منها ما ذكر وأطال الكلام في ذلك جرحا وتعديلا وعول في إثبات هذا المطلب على غير ذلك فقال: والذي نعول عليه أن نقول: إن كل عاقل يجد من نفسه أنه الذي كان قبل فهويته إما أن تكون جسما وإما أن تكون قائمة بالجسم وإما أن لا تكون شيئا من الأمرين والأول بالباطل، أما أولا فلأن الإنسان قد يكون عالما بهويته عند ذهوله عن جملة أعضائه الظاهرة والباطنة، وأما ثانيا فلأن الأبعاض الجسمانية دائمة التحلل والتبدل لأن الأسباب المحالة من الحرارة الخارجية والداخلية والحركات النفسانية والبدنية مما لا تختص بجز دون جزء والبدن مركب من الأعضاء المركبة وهي مركبة من الأعضاء البسيطة مثل اللحم والعظم فيكون كل جزء من اللحم مثل الآخر في الاستعداد للتحلل فإذا كانت الأجزاء كلها متساوية في ذلك كانت نسبة المحللات إلى كل واحد من الأجزاء كنسبته إلى الجزاء الآخر فلم يكن عروض التحلل لبعض أولى من عروضه للبعض الآخر فثبت أن هوية الإنسان ليست جسما وليست أيضا قائمة بالجسم لأن القائم به يجب أن يتبدل عند تبدله لاستحالة انتقال الأعراض فكان يلزم أن لا يجد الإنسان من نفسه أنه الذي كان موجودا قبل، ولما كان هذا العلم من العلوم البديهية علمنا أن هوية الإنسان ليست جسما ولا محتاجة إليه فهو جوهر مجرد وهو المطلوب. ولا يلزم أن يكون لسائر الحيوانات هذا الجوهر لأنا وإن عرفنا أنها تعلم هويات أنفسها لكن لا نعرف أنها تعلم من أنفسها أنها هي التي كانت موجودة قبل ويمكن أن يحتج أيضا على هذا المطلب بأنا قد دللنا على أن المدرك بجميع أصناف الإدراكات لجميع المدركات شيء واحد في الإنسان فنقول ذلك المدرك إما أن يكون جسما أو قائما به ولا، والأول ظاهر الفساد لأن الجسم من حيث هو جسم لا يمكن أن يكون مدركا، والثاني أيضا باطل لأن تلك الصفة إما أن تكون قائمة بجميع أجزاء البدن أو ببعض دون بعض والأول باطل وإلا لكان كل جزء من أجزاء البدن مبصرا سامعا متخيلا متفكرا عاقلا وليس كذلك، وبطل أيضا أن يقال: إن بعض الأعضاء قامت به القوة المدركة لجميع هذه المدركات لأنه يلزم أن يكون في البدن عضو واحد سامع مبصر متخيل متفكر عاقل ولسنا نجد ذلك فينا، وبهذا ظهر أيضا فساد ما قيل: لعل القوة المدركة لجميع المدركات قائمة بجسم لطيف محصور في بعض الأعضاء لظهور أنا لا نجد من أبداننا موضعا مشتملا على هذا الجسم اللطيف السامع المبصر المتخيل المتفكر العاقل، وليس لأحد أن يقول: هب أنكم لا تعرفون هذا الموضع لكن ذلك لا يدل على عدمه لأنا نقول إنا قد دللنا على أنا السامعون المبصرون المتخيلون العاقلون فلو كان بعض الأجسام سواء كان جزءأ من البدن أو محصورا في جزء منه موصوفا بالقوة المتعلقة بجميع هذه المدركات لم يكن حقيقتنا وهويتنا إلا ذلك الجسم فلو لم نعرفه لكنا لا نعرف حقيقة أنفسنا وذلك باطل فثبت أن الموصوف بالقوة المدركة لجميع المدركات ليس جسما أصلا ولا قائما به فهو جوهر مجرد وهو المطلوب، وذكر هؤلاء الذاهبون إلى التجرد أنه متعلق بالبدن كتعلق العاشق عشقا جبليا إلهاميا بالمعشوق حتى أنه لا ينقطع ذلك التعلق ما دام البدن مستعدا لأن يتعلق به بل تعلق الروح أقوى من هذا التعلق بكثير وهو تعلق التدبير والتصريف وإضافته إلى ضميره تعالى في الآية لأنه سبحانه وتعالى خلقه من غير واسطة تجري مجرى الأصل والمادة أو للتشريف، وسئل حجة الإسلام عن ذلك فقال: لو نطقت الشمس وقالت: أفضت على الأرض من نوري يكون ذلك صدقا ويكون معنى النسبة أن النور الحاصل للأرض من جنس نور الشمس بوجه من الوجوه. وإن كان في غاية من الضعف بالنسبة إليه وقد عرفت أن الروح منزه عن الجهة والمكان وفي وقوته العلم بجميع الأشياء وذلك مضاهاة ومناسبة ولذلك خص بالإضافة وهذه المضاهاة ليست للجسمانيات أصلا، وليس لأحد أن يقول: إن في تنزيه الروح عن المكان وصفا له بصفة الله
283
تعالى شأنه وتقدست صفاته بل بأخص صفاته سبحانه ويلزم من ذلك عدم التميز فقد قالوا: كما يستحيل اجتماع جسمين في مكان واحد يستحيل أن يجتمع اثنان لا في مكان لأنه إنما استحال اجتماع جسمين في مكان لأنه لو اجتمعا لم يتميز
أحدهما عن الآخر فكذلك لو وجد اثنان كل واحد منهما ليس في مكان لم يحصل التميز والفرق بينهما ولذا قالوا: لا يجتمع سوادان في محل واحد حتى قيل المثلان كالضدين لأنا نقول: التميز غير منحصر بالمكان بل يكون به لجسمين في مكانين وبالزمان كسوادين في جوهر واحد في زمانين وبالحد والحقيقة كالأعراض المختلفة في محل واحد مثل الطعم واللوم والبرودة والرطوبة في جسم واحد فإن تميز كل منها عن الآخر بذاته لا بمكان ولا زمان ومثل ذلك العلم والإرادة والقدرة فإن تميز كل أيضا بذاته وإن كان الجميع لشيء واحد فإذا تصور أعراض مختلفة الحقائق في محل واحد فبأن يتصور أشياء مختلفة الحقائق بذواتها في غير مكان أولى، وكون الوجود لا في مكان أخص صفاته سبحانه في حيز المنع بل الأخص أنه جل شأنه قيوم أي قائم بذاته وكل ما سواه قائم به وأنه تبارك وتعالى موجود بذاته وكل ما سواه تعالى موجود لا بذاته بل ليس للأشياء من ذواتها إلا العدم وإنما لها الوجود من غيرها على سبيل العارية والوجود له سبحانه ذاتي غير مستعار فالقيومية ليس إلا لله عزّ وجلّ انتهى.
وهذا الذي قالوه من تجرد الروح خلاف ما عليه جمهور أهل السنة. قال الشيخ عبد الرؤوف المناوي: قد خاض سائر الفرق غمرة الكلام في الروح فما ظفروا بطائل ولا رجعوا بنائل وفيها أكثر من ألف قول وليس فيها- على ما قال ابن جماعة- قول صحيح بل كلها قياسات وتجليات عقلية، وجمهور أهل السنة على أنها جسم لطيف يخالف الأجسام بالماهية والصفة متصرف في البدن حال فيه حلول الزيت في الزيتون والنار في الفحم يعبر عنه بأنا وأنت.
وإلى ذلك ذهب إمام الحرمين، وقال اللقاني: جمهور المتكلمين على أنها جسم مخالف بالماهية للجسم الذي تتولد منه الأعضاء نوراني علوي خفيف حي لذاته نافذ في جوهر الأعضاء سار فيه سريان ماء الورد في الورد والنار في الفحم لا يتطرق إليه تبدل ولا انحلال بقاؤه في الأعضاء حياة وانفصاله عنها إلى عالم الأرواح موت.
وزعم بعضهم أن الإنسان هو هذا الهيكل المحسوس وروحه عرض قائم به وعزاه بعض المتأخرين من المعاصرين إلى جمهور المتكلمين وجعله وامتناع اتحاد القابل والفاعل دليلا على إبطال كون العبد خالقا لأفعاله، وقد رد الإمام في التفسير ذلك الزعم وارتضى ما نقلناه عن الجمهور فقال: إنهم قالوا لا يجوز أن يكون الإنسان عبارة عن هذا الهيكل المحسوس (١) لأن أجزاءه أبدا في الذبول والنمو والزيادة والنقصان والاستكمال والذوبان ولا شك أن الإنسان من حيث هو- هو- أمر باق من أول عمره إلى آخره وغير الباقي غير الباقي فالمشار إليه عند كل أحد بقوله أنا وجب أن يكون مغايرا لهذا الهيكل.
ثم اختلفوا عند ذلك في أن المشار إليه بأنا أي شيء هو؟ والأقوال فيه كثيرة إلى أن أسدها تحصيلا وتلخيصا أنها أجزاء جسمانية سارية في هذا الهيكل سريان الماء في الورد والدهن في السمسم ثم إن المحققين منهم قالوا إن الأجسام التي هي باقية من أول العمر إلى آخره مخالفة بالماهية لما تركب منه الهيكل وهي حية لذاتها مدركة لذاتها نورانية لذاتها فإذا خالطت ذلك وصارت سارية فيه صار مستنيرا بنورها متحركا بتحريكها ثم إنه أبدا في الذوبان والتحلل والتبدل وتلك الأجزاء لمخالفتها له بالماهية باقية بحالها وإذا فسد انفصلت عنه إلى عالم القدس إن كانت سعيدة أو عالم الآفات إن كانت شقية اه، ومنه يعلم بطلان الاستدلال على تجرد الروح بإبطال كون الإنسان عبارة
(١) وبه يرد على بعض المعاصرين أيضا تدبر اه منه.
284
عن الهيكل المحسوس كما يقتضيه كلام صاحب الهياكل حسبما يدل عليه كلام شارحه الجلال حيث قال في الهيكل الثاني: أنت لا تغفل عن ذاتك أبدا وما جزء من أجزاء بدنك إلا تنساه أحيانا ولا يدرك الكل إلا بأجزائه فلو كنت أنت هذه الجملة ما كان يستمر شعورك بذاتك مع نسيانها فأنت وراء هذا البدن وقال الجلال: فلا تكون النفس جسما أصلا لأن غاية ذلك إثبات النفس وراء هذا البدن لا إثبات أنها مع ذلك مجردة لجواز أن تكون جسما لطيفا كما علمت. وزعم القاضي أن مذهب أكثر المتكلمين أن الروح عرض وأنها هي الحياة واختاره الأستاذ أبو إسحاق ولم يبال بلزوم قيام العرض بالعرض. واعترض هذا الزاعم القول بالجسمية بأنها لو كانت جسما لجاز عليها الحركة والسكون كسائر الأجسام فيلزم أن تكون كلها أرواحا ولوجب أن يكون للروح روح أخرى لا إلى نهاية، وفيه أنه إنما يلزم ما ذكر أن لو كان الجسم إنما كان روحا لكونه جسما وليس فليس فإنه إنما كان روحا لمعنى خصه الله تعالى به وقد علمت أن القائل بالجسمية يقول: إنه حي لذاته فلا يلزم التسلسل وبينه وبين الجسم عنده علاقة بحسب بخار لطيف يعبر عنه بالروح الحيواني، وعرفه في الهياكل بأنه جسم لطيف بخاري يتولد من لطائف الأخلاط وينبعث من التجويف الأيسر من القلب وينبث في البدن بعد أن يكتسب السلطان النوري من النفس الناطقة ولولا لطفه لما سرى وهو مطية تصرفات النفس ومتى انقطع انقطع تصرفها، وقال بعضهم: إنه اعتدال مزاج دم القلب والأمر في ذلك سهل، وذهب بعض المحققين إلى أن الروح تطلق على الروح التي ذكر أنها جسم لطيف سار في البدن سريان ماء الورد في الورد وهو غير الروح الحيواني وعلى أمر رباني شريف له إشراق على ذلك الجسم اللطيف ولعل ذلك هو سبب حياة الروح بالمعنى الأول وإدراكها ونورانيتها ويعبر عنه بالروح الأمري وهو المراد من الروح في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ [الإسراء: ٨٥] الآية، ويطلقون كثيرا على الروح بالمعنى الأول النفس الإنسانية وعليها بالمعنى الثاني النفس الناطقة والذي يقال فيه: إنه جوهر مجرد ليس جسما ولا جسمانيا ولا متصلا ولا منفصلا ولا داخل العالم ولا خارجه وأنه نور من أنوار الله تعالى القائمة لا في أين من الله عزّ وجلّ مشرقه وإليه سبحانه مغربه هو الروح بهذا الإطلاق، واختلفوا في أن حدوثها هل هو قبل الأبدان أو بعدها فقال حجة الإسلام: الحق أن الأرواح حدثت عند استعداد الجسد للقبول كما حدثت الصورة في المرآة بحدوث الصقالة وإن كان ذو الصورة سابق الوجود على الصقيل، وقد قال بذلك من الفلاسفة أرسطو ومتبعوه، واستدلوا عليه بأنها لو كانت موجودة قبل الأبدان فإما أن تكون واحدة أو كثيرة وعلى الأول إما أن تتكثر عند التعلق بالبدن أو لا فإن لم تتكثر كانت الروح الواحدة روحا لكل بدن ولو كان كذلك لكان ما علمه إنسان علمه الكل وما جهله جهله وذلك محال، وإن تكثرت لزم انقسام ما ليس له حجم وهو أيضا محال، وعلى الثاني لا بد أن يمتاز كل واحدة منها عن صاحبتها إما بالماهية أو لوازمها أو عوارضها، والأولان محالان لأن الأرواح متحدة بالنوع والواحد بالنوع يتساوى جميع أفراده بالذاتيات ولوازمها، وأما العوارض فحدوثها إنما هو بسبب المادة وهي هنا البدن فقبله لا مادة فلا يمكن أن يكون هناك عوارض مختلفة وبعد أن ساق حجة الإسلام الدليل على هذا الطرز قيل له: ما تقول
في خبر «إن الله تعالى خلق الأرواح قبل الأجسام بألفي عام» ؟
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول الأنبياء خلقا وآخرهم بعثا وكنت نبيا وآدم بين الماء والطين»
فقال رحمه الله تعالى: نعم هذا يدل بظاهره على تقدم وجود الروح على الجسد ولكن أمر الظواهر هين لسعة باب التأويل، وقد قالوا: إن البرهان القاطع لا يدرأ بالظاهر بل يؤول له الظاهر كما في ظواهر الكتاب والسنة في حق الله تعالى المنافية لما يدل عليه البرهان القطعي، وحينئذ يقال: لعل المراد من الأرواح في الخبر الأول الملائكة عليهم السلام وبالأجساد أجساد العالم من العرش والكرسي والسموات ونحوها، وإذا تفكرت في عظم هذه الأجساد لم تكد تستحضر أجساد الآدميين ولم تفهمها من مطلق لفظ الأجساد، ونسبة أرواح البشر إلى أرواح الملائكة عليهم السلام كنسبة أجسادهم إلى أجساد العالم ولو انفتح عليك باب معرفة أرواح الملائكة
285
لرأيت الأرواح البشرية كسراج اقتبس من نار عظيمة طبقت العالم وتلك النار هي الروح الأخيرة من أرواح الملائكة.
وأما
قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا أول الأنبياء خلقا»
فالخلق فيه بمعنى التقدير دون الإيجاد فإنه ﷺ قبل أن يولد لم يكن مخلوقا موجودا ولكن الغايات سابقة في التقدير ولا حقة في الوجود، وهو معنى قوله الحكيم: أول الفكر آخر العمل، فالدار الكاملة أول الأشياء في حق المهندس مثلا تقديرا وآخرها وجودا وما يتقدم على وجودها من ضرب اللبن ونحوه وسيلة إليها ومقصود لأجلها، ولما كان المقصود من فطرة الآدميين إدراكهم لسعادة القرب من الحضرة الإلهية ولم يمكنهم ذلك إلا بتعريف الأنبياء عليهم السلام كانت النبوة مقصودة والمقصود كمالها وغايتها لا أولها وتمهيد أولها وسيلة إلى ذلك وكمالها به ﷺ فلذلك كان أولا في التقدير وآخرا في الوجود، وقوله عليه الصلاة والسلام: «كنت نبيا وآدم بين الماء والطين» إشارة إلى هذا أيضا وإنه لم يشأ سبحانه خلق آدم إلا لينتزع الصافي من ذريته ولم يزل يستصفي تدريجا إلى أن بلغ كمال الصفاء، ولا يفهم هذا إلا بأن يعلم أن للدار مثلا وجودين وجودا في ذهن المهندس حتى كأنه ينظر إلى صورتها ووجودا خارج الذهن مسببا عن الوجود الأول فهو سابق عليه لا محالة.
وحينئذ يقال: إن الله تعالى يقدر أولا ثم يوجد على وفق التقدير ثانيا والتقدير يرسم في اللوح المحفوظ كما يرسم تقدير المهندس أولا في لوح أو قرطاس فتصير الدار موجودة بكمال صورتها نوعا من الوجود يكون سببا للوجود الحقيقي، وكما أن هذه الصورة ترتسم في لوح المهندس بواسطة القلم والقلم يجري على وفق العلم بل العلم يجريه كذلك تقرير صورة الأمور الإلهية ترتسم أولا في اللوح المحفوظ بواسطة القلم الإلهي والقلم يجري على وفق العلم السابق الأزلي، واللوح عبارة عن موجود قابل لنقش الصور، والقلم عبارة عن موجود منه تفيض الصور على اللوح وليس من شرطهما أن يكونا جسمين ولا يبعد أن يكون قلم الله تعالى ولوحه لائقين لأصبعه ويده وكل ذلك على ما يليق بذاته الإلهية ويقدس عن حقيقة الجسمية، وقد يقال: إنهما جوهران روحانيان أحدهما متعلم وهو اللوح والآخر معلم وهو القلم، وقد أشير إلى ذلك بقوله سبحانه: عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق: ٤] فإذا فهمت معنيي الوجود فقد كان نبينا ﷺ قبل بالمعنى الأول منهما دون المعنى الثاني اه.
واعترض على الاستدلال من وجوه منها ما هو جار على رأي الفلاسفة المستدلين بذلك أيضا ومنها ما لا اختصاص له برأيهم. الأول لم لا يجوز أن يقال: إنها كانت قبل الأبدان واحدة ثم تكثرت ولا يقال: الكل لو كان واحدا وكان قابلا للانقسام يلزم أن تكون وحدته اتصالية فيكون جسما لأنا نقول: مسلم أن كل ما وحدته اتصالية فإنه واحد قابل للانقسام ولا نسلم أن كل واحد قابل للانقسام فوحدته اتصالية لأن الموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها.
الثاني سلمنا أنها كانت متكثرة لكن لم قلتم لا بد أن يختص كل بصفة مميزة لأنه لو كان التميز للاختصاص بأمر ما لكان ذلك الأمر أيضا متميزا عن غيره فإما أن يكون تميزه بما به تميزه فيلزم الدور أو بثالث فيلزم التسلسل ولأن التميز لا يختص بشيء بعينه إلا بعد تميزه فلو كان تميز الشيء عن غيره باختصاصه بشيء لزم الدور. الثالث سلمنا أنه لا بد من مميز فلم لا يجوز أن يكون بذاتي، وبيانه ما بينوه من اختلاف النفوس بالنوع. الرابع سلمنا أنها لا تتميز بشيء من الذاتيات فلم لا يجوز أن تتميز بالعوارض قولكم: إن حدوثها بسبب المادة وهي هنا البدن ولا بدن فنقول لم لا يجوز أن يكون هناك بدن تتعلق به وقبله آخر وهكذا ولا مخلص من هذا إلا بإبطال التناسخ فتوقف حجة إثبات حدوث الأرواح على ذلك الإبطال مع أن الحكماء بنوا ذلك على الحدوث حيث قالوا بعد الفراغ من دليله: إذا ثبت حدوث النفس فلا بد وأن يكون لحدوثها سبب وذلك هو حدوث البدن فإذا حدث البدن وتعلقت به نفس على سبيل التناسخ وثبت أن حدوث النفس سبب لأن يحدث عن المبادئ المفارقة نفس أخرى فحينئذ يلزم اجتماع نفسين في بدن
286
فيجيء الدور. الخامس سلمنا عدم تعلقها ببدن قبل لكن لم لا يجوز أن تكون موصوفة بعارض باعتباره كانت متميزة ثم يكون كل عارض بسبب عارض آخر لا إلى أول.
السادس: المعارضة وهي أن الأرواح عند الفريقين باقية بعد المفارقة ولا يكون تمايزها بالماهية ولوازمها بل بالعوارض لكن الأرواح الهيولانية التي لم تكتسب شيئا من العوارض إذا فارقت لا يكون فيها شيء من العوارض سوى أنها كانت متعلقة بأبدان فإن كفى هذا القدر في وقوع التمايز فليكف أيضا كونها بحيث يحدث لها بعد التعلق بأبدان متمايزة، قولهم: لم لا يجوز أن تكون قبل واحدة فتكسرت، قلنا: لا يجوز لأن كل ما انقسم وجوب أن يكون جزؤه مخالفا لكله ضرورة أن الشيء مع غيره ليس هو لا مع غيره فتلك المخالفة إن كانت بالماهية أو لوازمها وجب أن يكون كل واحد من الأجزاء مخالفا للآخر بالماهية فتكون تلك الأجزاء قد كانت متميزة أبدا وكانت موجودة قبل التعلق.
فهذه الأمور المتعلقة الآن بالأبدان كانت متميزة قبل التعلق بها وإن كانت المخالفة لا بالماهية ولا بلوازمها فلا بد أن يكون الجزء أصغر مقدارا من الكل وإلا لم يكن أحدهما أولى بأن يكون جزء الآخر من العكس، فثبت أن كل واحد قابل للانقسام فلا بد أن يكون ذا مقدار. سلمنا أن المجرد لا يمكن أن ينقسم بعد وحدته لكن تعينات تلك الأجزاء إنما تحدث بعد الانقسام الحاصل بعد التعلق بالبدن فيكون تعين كل واحد من تلك الأجزاء بعد التعلق بالبدن فيكون تعين كل واحدة من تلك النفوس من حيث هي حادثا وهو المطلوب.
وقولهم: لم قلتم إن الامتياز لا يوجد إلا عند عند الاختصاص بوصف، قلنا: يجاب بنحو ما ذكروه في تشخص التشخص، وقولهم لم قلتم: إن النفوس لا يجوز أن تتمايز بالصفات المقومة؟ قلنا: هب أن الأمر كما قلتموه إلا أنا لا نعرف بالبديهة أن كل نوع من أنواعها فإنها مقولة على أشخاص عدة بالضرورة فإنا نعلم أنه ليس يجب أن يكون كل إنسان مخالفا لجميع الناس في الماهية، وإذا وجد في كل نوع من أنواعها شخص فقد تمت الحجة.
وقولهم: إن هذه الحجة مبنية على إبطال التناسخ. قلنا: ليس كذلك. لأنا إذا وجدنا من النوع الواحد شخصين علمنا أن تلك الشخصية ليست معلولة لتلك الماهية لأن كل ما كان كذلك كان نوعه في شخصه، ولما لم يكن كذلك علمنا أن شخصيته ليست من لوازم ماهيته فهي إذن لعلة خارجية، وقد عرفت أن العلة هي المادة ومادة النفس هي البدن فإذن تعينها لا بد وأن يكون للتعلق ببدن معين فتكون لا محالة غير متعينة قبل ذلك البدن فهي معدومة قبله.
وبهذا يظهر أن كل ما نوعه مقول على كثيرين بالفعل فهو محدث، فاتضح من هذا أنه متى سلم كون النفوس متحدة في النوع يلزم حدوثها وأنه لا يحتاج في ذلك إلى إبطال التناسخ ليجيء الدور السابق. قولهم: لم لا يجوز أن تكون موصوفة بعارض إلخ؟ قلنا: لا يجوز أن يكون امتيازها بذلك لأن النفس المعينة عن غيرها حكم معين لا بد له من علة معينة، وتلك العلة لا يمكن أن تكون حالة فيها لأن ذلك متوقف على امتيازها عن غيرها فلو توقف ذلك الامتياز على حلول ذلك الحال لزم الدور، فإذن تلك العلة أمر عائد إلى القابل وقبل البدن لا قابل فلا تميز. والمتكلمون يبطلون مثل ما ذكر بلزوم التسلسل الذي يبطله برهان التطبيق.
وأما المعارضة فالجواب عنها بأن النفوس الهيولانية يتميز بعضها عن البعض أولا بسبب تعلقها بالقابل المعين ثم إنه يلزم من تعين كل واحد منها شعورها بذاتها الخاصة وقد بين أن شعور الشيء بذاته حالة زائدة على ذاته ثم إن ذلك الشعور يستمر فلا جرم يبقى الامتياز.
والحاصل أن الامتياز لا بد وأن يحصل أولا بسبب آخر حتى يحصل لكل من النفوس شعور بذاته الخاص
287
وذلك السبب في النفوس الهيولانية تعلقها بالأبدان، وأما التي قبل الأبدان فلو تميزت لكان المميز سوى الشعور حتى يترتب هو عليه، وقد بين أنه ليس هناك مميز فلا جرم استحال حصول التميز وظهر الفرق والله تعالى الموفق.
وقد استدل صاحب المعتبر على حدوثها بأنها لو كانت موجودة قبل الأبدان لكانت إما متعلقة بأبدان أخر أو لا والأول باطل لأنه قول بالتناسخ وهو باطل لأن أنفسنا لو كانت من قبل في بدن آخر لكنا نعلم الآن شيئا من الأحوال الماضية ونتذكر ذلك البدن وليس فليس، والثاني كذلك لأنها تكون حينئذ معطلة ولا معطل في الطبيعة وهو دليل بجميع مقدماته ضعيف جدا فلا تعتبره، وزعم قوم من قدماء الفلاسفة قدمها وأوردوا لذلك أمورا.
الأول: أن كل ما يحدث فلا بد أن يكون له مادة تكون سببا لأن يصير أولى بالوجود بعد أن كان أولى بالعدم فلو كانت النفوس حادثة لكانت مادية وليس فليس. الثاني أنها لو كانت حادثة لكان حدوثها لحدوث الأبدان لكن الأبدان الماضية غير متناهية فالنفوس الآن غير متناهية لكن ذلك محال لكونها قابلة للزيادة والنقصان والقابل لهما متناه فهي الآن متناهية، فإذن ليس حدوث الأبدان علة لحدوثها فلا يتوقف صدورها عن عللها على حدوث أمر فتكون قديمة.
الثالث: أنها لو لم تكن أزلية لم تكن أبدية لما ثبت أن كل كائن فاسد لكنها أبدية إجماعا فهي أزلية، ويرد عليهم أنه إن أريد بكونها مادية أن حدوثها يكون متوقفا على حدوث البدن فالأمر كذلك، وإن أريد به أنها تكون منطبعة في البدن فلم قلتم: إنه لو توقف حدوثها على حدوث البدن وجب أن تكون منطبعة فيه، وأيضا للمانع أن يمنع فساد لزوم كون النفوس الآن غير متناهية، والمقدمة القائلة إن كل قابل للزيادة والنقصان متناه ليست من الأوليات قطعا كما هو ظاهر فإذن لا تصح إلا ببرهان وهو لا يتقرر إلا فيما يحتمل الانطباق على ما بين في محله، وقولهم: لو لم تكن أزلية لم تكن أبدية قضية لا حجة لهم على تصحيحها فلا تقبل، ثم إن كون النفوس متحدة بالنوع مما قد صرح به جماعة من المتكلمين كالغزالي وغيره، وإليه ذهب الشيخ من الفلاسفة إلا أنه لم يأت لذلك بشبهة فضلا عن حجة واستدل غيره بأمور:
الأول: أن النفوس مشتركة في أنها نفوس بشرية فلو انفصل بعضها عن بعض بمقوم ذاتي مع هذا الاشتراك لزم التركيب فكانت جسمانية.
الثاني: أنا نرى الناس مشتركين في صحة العلم بالمعلومات، وفي صحة التخلق بالأخلاق فالنفوس متساوية في صحة اتصافها بالأفعال الإدراكية والتحريكية، وذلك يوجب أن تكون متساوية مطلقا لأنا لا نعقل من صفاتها إلا كونها مدركة ومتحركة بالإرادة وهي متساوية فيهما فهي إذن متساوية في جميع صفاتها المعقولة فلو اختلفت بعد ذلك لكان اختلافها في صفات غير معقولة، ولو فتحنا هذا الباب لزم تعذر الحكم بتماثل شيئين لجواز اختلافهما في غير معقول عندنا وذلك يؤدي إلى القدح في تماثل المتماثلات.
الثالث: أنه بين في محله أن كل ماهية مجردة لا بد وأن تكون عاقلة لحقيقة ذاتها لكن نفس زيد مثلا مجردة فهي عاقلة لذلك ثم إنها لا تعقل إلا ماهية قوية على الإدراك والتحريك فإذن ماهيته هذا القدر وهو مشترك بينه وبين سائر النفوس بالأدلة التي ذكروها في بيان أن الوجود مشترك فيكون حينئذ تمام ماهيته مقولا على سائر النفوس، ويمتنع أن يكون هذا المشترك فصل مقوم في غيره إذ هو غير محتاج إليه في زيد إلى فصل يميزه عن غيره (١) فلا يحتاج في
(١) قوله فصل مقوم في غيره إذ هو غير محتاج إليه في زيد إلى فصل يميزه عن غيره هكذا بخطه اه.
288
غيره أيضا إلى فصل فإن الطبيعة الواحدة لا تكون محتاجة غنية معا، فثبت الاتفاق في النوع وهي أدلة واهية.
أما الأول فلقائل أن يقول: لم لا يجوز أن هذه النفوس وإن كانت مختلفة بالنوع فهي غير متشاركة في الجنس فلا يلزم من ذلك الاختلاف كونها مركبة؟ والاشتراك في كونها نفوسا بشرية ونحوه يجوز أن يكون اشتراكا في أمور لازمة لجوهرها ولا تكون مقومة لها فتكون مختلفة في تمام ماهياتها، ومشتركة في اللوازم الخارجية مثل اشتراك الفصول المقومة لأنواع جنس واحد في ذلك الجنس فلا يلزم التركيب، ولو سلمنا أن هذه الأوصاف ذاتية فلم لا يجوز أن تكون النفوس مركبة في ماهياتها مع عدم كونها جسمانية فالسواد والبياض مثلا مندرجان تحت جنس وهو اللون فيكون كل منهما مركبا لا تركيبا جسمانيا، ومثل هذا يقال هنا كيف لا وقد قالوا: الجوهر مقول على النفس والجسم.
وأما الثاني فمداره الاستقراء، ويضعف ذلك لوجهين: أحدهما: أنه لا يمكننا أن نحكم على كل إنسان بكونه قابلا لجميع المدركات. وثانيهما أنه لا يمكننا أن نحكم على النفس التي علمنا قبولها لصفة أنها قابلة لجميع الصفات كيف وضبط الصفات غير ممكن.
وأما الثالث: فهو يقتضي أن يكون جميع المفارقات نوعا واحدا وهو مما لا سبيل إليه، وذهب شرذمة إلى اختلافها بالنوع، وهذا المعتبر عند صاحب المعتبر وطول الكلام في ذلك، وأحسن ما عول عليه في الاستدلال له اختلاف الناس في العلم والجهل والقوة والضعف والغضب والتحمل وغير ذلك فقال: ليس ذلك لاختلاف المزاج لما أنا نجد متساويين مزاجا مختلفين أخلاقا وبالعكس، وأيضا أن نفس النبي عليه الصلاة والسلام تبلغ قوتها إلى حيث تكون قوية على التصرف في هيولى هذا العالم ومعلوم أن ذلك ليس لقوة مزاجه فليس ذلك الاختلاف إلا لاختلاف الجواهر، وأنت تعلم أن هذا ليس في الحقيقة من البراهين بل هو من الإقناعات الضعيفة فتدبر جميع ما ذكرناه وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة للكلام في هذا المقام وهو لعمر الله تعالى طويل الذيل، وبالجملة أن الوقوف على حقيقة الروح أمر عسر والطريق إليه وعر، وقد جعل الله سبحانه ذلك من أعظم آياته الدالة على جلال ذاته وكمال صفاته فسبحانه من إله ما أجله ومن رب ما أكمله.
فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أمر للملائكة عليهم السلام بالسجود لآدم عليه السلام على وجه التحية والتعظيم أو لله تعالى وهو عليه السلام بمنزلة القبلة حيث ظهرت فيه تعاجيب آثار قدرته عزّ وجلّ كقول حسان:
أليس أول من صلى لقبلتكم وأعلم الناس بالقرآن والسنن
وفي أمرهم بالوقوع أي السقوط دليل على أن ليس المأمور به مجرد الانحناء كما قيل بل السجود بالمعنى المتبادر.
فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ أي فخلقه فسواه فنفخ فيه من روحه فسجد له الملائكة كُلُّهُمْ بحيث لم يشذ منهم أحد أَجْمَعُونَ بحيث لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن أحد بل أوقعوا الفعل مجتمعين في وقت واحد، هذا على ما ذهب إليه الفراء والمبرد من دلالة أجمعين على الاجتماع في وقت الفعل، وقال البصريون: إنها ككل لإفادة العموم مطلقا.
ومن هنا منع تعاطفهما فلا يقال جاء القوم كلهم وأجمعون وردوا على ذلك بقوله تعالى حكاية عن إبليس:
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٢] لظهور أن لا اجتماع هناك. ورده في الكشف بأن الاشتقاق من الجمع يقتضيه لأنه ينصرف إلى أكمل الأحوال فإذا فهمت الإحاطة من لفظ آخر وهو كل لم يكن بد من كونه في وقت واحد وإلا كان لغوا، والرد بالآية منشؤه عدم تصور وجه الدلالة، ومنه يعلم وجه فساد النظر بأنه لو كان الأمر كذلك لكان حالا لا
289
تأكيدا، فالحق في المسألة مع الفراء والمبرد وذلك هو الموافق لبلاغة التنزيل، وزعم البصريون أنه إنما أكد بتأكيدين للمبالغة في التعميم ومنع التخصيص.
وزعم غير واحد أنه لا يؤكد بأجمع دون كل اختيارا والمختار وفاقا لأبي حيان جوازه لكثرة وروده في الفصيح ففي القرآن عدة آيات من ذلك
وفي الصحيح «فله سلبه أجمع. فصلوا جلوسا أجمعون»
ولعل منشأ الزعم وجوب تقديم كل عند الاجتماع، ويرده أن النفس يجب تقديمها على العين إذا اجتمعا مع جواز التأكيد بالعين على الانفراد، وما ذكروه من وجوب تقديم كل إنما هو بناء على ما علمت من الحق لرعاية البساطة والتركيب هذا. ثم إنه قد تقدم الكلام في تحقيق أن سجدوهم هذا هل ترتب على ما حكي من الأمر التعليقي كما يقتضيه هذه الآية الكريمة أو على الأمر التنجيزي كما يستدعيه بعض الآيات فتذكر.
إِلَّا إِبْلِيسَ استثناء متصل إما لأنه كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة فعد منهم تغليبا وإما لأن من الملائكة جنسا يتوالدون يقال لهم جن وهو منهم وإما لأنه ملك لا جني، وقوله تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ [الكهف:
٥٠] مؤول كما ستعلمه إن شاء الله تعالى، وقوله سبحانه: أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ استئناف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء بناء على أنه من الإثبات نفي ومن النفي إثبات وهو الذي تميل إليه النفس فإن مطلق عدم السجود قد يكون مع التردد وبه علم أنه مع الإباء والاستكبار، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا فجملة أَبى إلخ متصلة بما قبلها، ووجه ذلك بأن إلا بمعنى لكن وإبليس اسمها، والجملة خبرها كذا قيل: وفي الهمع أن البصريين يقدرون المنقطع بلكن المشددة ويقولون: إنما يقدر بذلك لأنه في حكم جملة منفصلة عن الأولى فقولك: ما في الدار أحد إلا حمارا في تقدير لكن فيها حمارا على أنه استدراك يخالف ما بعد لكن فيها ما قبلها غير أنهم اتسعوا فأجروا إلا مجرى لكن لكن لما كانت لا يقع بعدها إلا المفرد بخلاف لكن فإنه لا يقع بعدها إلا كلام تام لقبوه بالاستثناء تشبيها بها إذا كانت استثناء حقيقة وتفريقا بينها وبين لكن، والكوفيون يقدرونه بسوى، وقال قوم منهم ابن يسعون: إلا مع الاسم الواقع بعدها في المنقطع يكون كلاما مستأنفا، وقال في قوله: وما بالربع من أحد إلا الاواري- إلا فيه بمعنى لكن الاواري اسم لها منصوب بها والخبر محذوف كأنه قال: لكن الأواري بالربع وحذف خبر إلا كما حذف خبر لكن في قوله ولكن زنجيا عظيم المشافر. اه.
والظاهر منه أن البصريين وإن قدروه بلكن لا يعربونه هذا الإعراب فهو تقدير معنى لا تقدير إعراب، ولعل التوجيه السابق مبني على مذهب ابن يسعون إلا أنه لم يصرح فيه بورود الخبر مصرحا به، نعم صرح بعضهم بذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة لهذا المبحث في هذه السورة فافهم، ووجه الانقطاع ظاهر لأن المشهور أنه ليس من جنس الملائكة عليهم السلام، والانقطاع- على ما قال غير واحد- يتحقق بعدم دخوله في المستثنى منه أو في حكمه، وما قيل: إنه حينئذ لا يكون مأمورا بالسجود فلا يلزم والاعتذار عنه بأن الجن كانوا مأمورين أيضا واستغني بذكر الملائكة عليهم السلام عنهم وأنه معنى الانقطاع وتوجه اللوم من ضيق العطن. قالَ استئناف مبني على سؤال من قال: فماذا قال الرب تعالى عند إبائه؟ فقيل قال سبحانه: يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أي أي سبب لك كما يقتضيه الجواب، وقوله تعالى: ما منعك أَلَّا تَكُونَ أي في أن لا تكون مَعَ السَّاجِدِينَ لما خلقت مع أنهم هم ومنزلتهم في الشرف منزلتهم، وكأن في صيغة الاستقبال إيماء إلى مزيد قبح حاله، ولعل التوبيخ ليس لمجرد تخلفه عن أولئك الكرام بل لأمور حكيت متفرقة إشعارا بأن كلّا منها كاف في التوبيخ وإظهار بطلان ما ارتكبه وشناعته، وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا في غير سورة اكتفاء بحكايتها في موضع آخر، والظاهر أن قول الله تعالى له ذلك لم يكن بواسطة وهو
290
منصب عال إذا كان على سبيل الإعظام والإجلال دون الإهانة والإذلال كما لا يخفى. قالَ استئناف على نحو ما تقدم لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ اللام لتأكيد النفي أي ينافي حالي ولا يستقيم مني أن أسجد لِبَشَرٍ جسماني كثيف خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ إشارة إجمالية إلى ادعاء خيريته وشرف مادته، وقد نقل عنه لعنه الله تعالى التصريح بذلك في آية أخرى، وقد عنى اللعين بهذا الوصف بيان مزيد خسة أصل من لم يسجد له وحاشاه وقد اكتفى في غير موضع بحكاية بعض ما زعمه موجبا للخسة، وفي عدوله عن تطبيق جوابه على السؤال روم للتفصي عن المناقشة وأنى له ذلك كأنه قيل: لم أمتنع عن الانتظام في سلك الساجدين بل عما لا يليق بشأني من السجود للمفضول، وقد أخطأ اللعين حيث ظن أن الفضل كله باعتبار المادة وما درى أنه يكون باعتبار الفاعل وباعتبار الصورة وباعتبار الغاية بل إن ملاك الفضل والكمال هو التخلي عن الملكات الردية والتحلي بالمعارف الربانية:
فشمال والكأس فيها يمين ويمين لا كاس فيها شمال
ولله تعالى در من قال:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا يغنيك مضمونه عن النسب
إن الفتى من يقول ها أنا ذا ليس الفتى من يقول كان أبي
على أن فيما زعمه من فضل النار على التراب منعا ظاهرا وقد تقدم الكلام في ذلك. قالَ استئناف كما تقدم أيضا فَاخْرُجْ مِنْها قيل: الظاهر أن الضمير للسماء وإن لم يجر لها ذكر، وأيد بظاهر قوله تعالى: فَاهْبِطْ مِنْها [الأعراف: ١٣] وقيل لزمرة الملائكة عليهم السلام ويلزم خروجه من السماء إذ كونه بانزوائه عنهم في جانب لا يعد خروجا في المتبادر وكفى به قرينة، وقيل: للجنة لقوله تعالى: اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة: ٣٥، الأعراف: ١٩] ولوقوع الوسوسة فيها ورد بأن وقوعها كان بعد الأمر بالخروج فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مطرود من كل خير وكرامة فإن من يطرد يرجم بالحجارة فالكلام من باب الكناية، وقيل: أي شيطان يرجم بالشهب وهو وعيد بالرجم بها، وقد تضمن هذا الكلام الجواب عن شبهته حيث تضمن سوء حاله، فكأنه قيل: إن المانع لك عن السجود شقاوتك وسوء خاتمتك وبعدك عن الخير لا شرف عنصرك الذي تزعمه، وقيل: تضمنه ذلك لأنه علم منه أن الشرف بتشريف الله تعالى وتكريمه فبطل ما زعمه من رجحانه إذ أبعده الله تعالى وأهانه وقرب آدم عليه الصلاة والسلام وكرمه، وقيل:
تضمنه للجواب بالسكوت كما قيل: جواب ما لا يرتضي السكوت، وفي تفسير الرجيم بالمرجوم بالشهب إشارة لطيفة إلى أن اللعين لما افتخر بالنار عذب بها في الدنيا فهو كعابد النار يهواها وتحرقه. وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ الإبعاد على سبيل السخط وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة وفي الدنيا انقطاع من قبول فيضه تعالى وتوفيقه سبحانه، ومن الإنسان دعاء بذلك والظاهر أن المراد لعنة الله تعالى لقوله سبحانه: وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي [ص: ٧٨] إِلى يَوْمِ الدِّينِ إلى يوم الجزاء، وفيه إشعار بتأخير جزائه إليه وإن اللعنة مع كمال فظاعتها ليست جزاء لفعله وإنما يتحقق ذلك يومئذ، وفيه من التهويل ما فيه، وجعل ذلك غاية أمد اللعنة قيل ليس لأنها تنقطع هنالك بل لأنه عند ذلك يعذب بما ينسى به اللعنة من أفانين العذاب فتصير هي كالزائل، وقيل: إنما غيا بذلك لأنه أبعد غاية يضربها الناس في كلامهم فهو نظير قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [هود: ١٠٧، ١٠٨] على قول.
وقال بعضهم: إن المراد باللعنة لعن الخلائق له لعنة الله تعالى عليه وذلك منقطع إذا نفخ في الصور وجاء يوم الدين دون لعن الله تعالى له وإبعاده إياه فإنه متصل إلى الأبد. قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي امهلني وأخرني ولا تمتني والفاء متعلقة بمحذوف مفهوم من الكلام أي إذ جعلتني رجيما فامهلني إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أي آدم عليه السلام وذريته
291
للجزاء وأراد بذلك أن يجد فسحة لإغوائهم ويأخذ منهم ثأره، قيل: ولينجو من الموت إذ لا موت بعد البعث وهو المروي عن ابن عباس والسدي، وكأنه عليه اللعنة طلب تأخير موته لذلك ولم يكتف بما أشار إليه سبحانه في التغيي من التأخير لما أنه يمكن كون تأخير العقوبة كسائر من أخرت عقوباتهم إلى الآخرة من الكفرة.
قالَ الرب سبحانه فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ أي من جملتهم ومنتظم في سلكهم قال بعض الأجلة: إن في ورود الجواب جملة اسمية مع التعرض لشمول ما سأله الآخرين على وجه يؤذن بكون السائل تبعا لهم في ذلك دليلا على أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم لا لإنشاء إنظار خاص به وقع إجابة لدعائه أي أنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا حسبما تقتضيه حكمة التكوين، فالفاء لربط الإخبار بالإنظار بالاستنظار كما في قوله:
فإن ترحم فأنت لذاك أهل وإن تطرد فمن يرحم سواكا
لا لربط نفس الإنظار به وأن استنظاره لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه من جملتهم لا لتأخير العقوبة كما قيل، ونظمه في سلك من أخرت عقوبتهم إلى الآخرة في علم الله تعالى ممن سبق من الجن ولحق من الثقلين لا يلائم مقام الاستنظار مع الحياة ولأن ذلك التأخير معلوم من إضافة اليوم إلى الدين مع إضافته في السؤال إلى البعث انتهى، وقيل:
إن الفاء متعلقة كالفاء الأولى بمحذوف والكلام إجابة له في الجملة أي إذ دعوتني فإنك من المنظرين إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو وقت النفخة الأولى كما روي عن ابن عباس، وعليه الجمهور.
ووصفه بالمعلوم إما على معنى أن الله تعالى استأثر بعلمه أو على معنى معلوم حاله وأنه يصعق فيه من في السموات ومن في الأرض إلا ما شاء الله تعالى، وقال آخرون: إنه عليه اللعنة أعطي مسؤوله كملا وليس إلا البقاء إلى وقت النفخة الأولى وهو آخر أيام التكليف والوقت المشارف للشيء المتصل به محدود منه فأول يوم الدين وأول يوم البعث كأنه من ذلك الوقت، واستظهر ذلك بأن الملعون عالم فلا يسأل ما يعلم أنه لا يجاب إليه وبأن ما في الأعراف لعدم ذكر الغاية فيه يدل على الإجابة واعترض على الأول بأنه غير بين ولا مبين وكونه على غالب الظن لا يجدي في مثله، وعلى الثاني بأن ترك الغاية في سورة الأعراف يحتمل أن يكون كترك الفاء في الاستنظار والانظار تعويلا على ما ذكر هاهنا وفي سورة ص فإن إيراد كلام واحد على أساليب متعددة غير عزيز في الكتاب العزيز. ومن الناس القائلين بالمغايرة من قال: إن المراد باليوم المعلوم اليوم الذي علم الله تعالى فيه انقضاء أجله وهو يوم خروج الدابة فإنها هي التي تقتله، وقد قدمنا نقل هذا القول عن بعض السلف وهو من الغرابة بمكان، وأغرب منه ما قيل: إنه هلك في بعض غزواته صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا قبل أن هذا مما لا يكاد يقبل بظاهره أصلا، والمشهور المعول عليه عند الجمهور هو ما ذكرناه من أنه يموت عند النفخة الأولى وبينها وبين النفخة الثانية التي يقوم فيها الخلق لرب العالمين أربعون سنة، ونقل عن الأحنف ابن قيس عليه الرحمة أنه قال: قدمت المدينة أريد أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه فإذا أنا بحلقة عظيمة وكعب الأحبار فيها يحدث وهو يقول: لما حضر آدم عليه السلام الوفاة قال: يا رب سيشمت بي عدوي إبليس إذا رآني ميتا وهو منتظر إلى يوم القيامة فأجيب أن يا آدم إنك سترد إلى الجنة ويؤخر اللعين إلى النظرة ليذوق ألم الموت بعدد الأولين والآخرين، ثم قال لملك الموت: صف لي كيف تذيقه الموت؟ فلما وصفه قال: يا رب حسبي فضج الناس وقالوا: يا أبا إسحاق كيف ذلك؟ فأبى وألحوا فقال: يقول الله سبحانه لملك الموت عقيب النفخة الأولى قد جعلت فيك قوة أهل السموات وأهل الأرضين السبع وإني اليوم ألبستك أثواب السخط والغضب كلها فابرز بغضبي وسطوتي على رجيمي إبليس فأذقه الموت واحمل عليه فيه مرارة الأولين والآخرين من الثقلين أضعافا مضاعفة وليكن معك من الزبانية سبعون ألفا قد امتلؤوا غيظا وغضبا وليكن مع كل منهم سلسلة من سلاسل جهنم وغل من أغلالها
292
وانزع روحه المنتن بسبعين ألف كلاب من كلاليبها وناد مالكا ليفتح أبواب النيران فينزل الملك بصورة لو نظر إليها أهل السموات والأرضين لماتوا بغتة من هولها فينتهي إلى إبليس فيقول: قف لي يا خبيث لأذيقنك الموت كم من عمر أدركت وقرن أضللت وهذا هو الوقت المعلوم قال: فيهرب اللعين إلى المشرق فإذا هو بملك الموت بين عينيه فيهرب إلى المغرب فإذا هو به بين عينيه فيغوص البحار فيثير منها البخار فلا تقبله فلا يزال يهرب في الأرض ولا محيص له ولا ملاذ ثم يقوم في وسط الدنيا عند قبر آدم عليه السلام ويتمرغ في التراب من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق حتى إذا كان في الموضع الذي أهبط فيه آدم عليه السلام وقد نصبت له الزبانية الكلاليب وصارت الأرض كالجمرة احتوشته الزبانية وطعنوه بالكلاليب فيبقى في النزع والعذاب إلى حيث يشاء الله تعالى، ويقال: آدم وحواء عليهما السلام اطلعا اليوم على عدوكما يذوق الموت فيطلعان فينظران إلى ما هو فيه من شدة العذاب فيقولان ربنا أتممت علينا نعمتك، وجاء في بعض الأخبار أنه حين لا يجد مفرا يأتي قبر آدم عليه السلام فيحثو التراب على رأسه وينادي يا آدم أنت أصل بليتي فيقال له: يا إبليس اسجد الآن لآدم عليه السلام فيرتفع عنك ما ترى فيقول: كلا لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا، وهذا إن صح يدل على أن اللعين من العناد بمكان لا تصل إلى غايته الأذهان.
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي أي بسبب إغوائك إياي لَأُزَيِّنَنَّ أي أقسم لأزينن لَهُمْ أي لذريته وهو مفهوم من السياق وإن لم يجر له ذكر، وقد جاء مصرحا به في قوله تعالى حكاية عن اللعين أيضا: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ [الإسراء:
٦٢] ومفعول لَأُزَيِّنَنَّ محذوف أي المعاصي فِي الْأَرْضِ أي هذا الجرم المدحو وكأن اللعين أشار بذلك إلى أني أقدر على الاحتيال لآدم والتزيين له الأكل من الشجرة في السماء فأنا على التزيين لذريته في الأرض أقدر، ويجوز أنه أراد بالأرض الدنيا لأنها محل متاعها ودارها، وذكر أن هذا المعنى عرفي للأرض وأنها إنما ذكرت بهذا اللفظ تحقيرا لها، ولعل التقييد على ما قيل للإشارة إلى أن للتزيين محلّا يقوي قبوله أي لأزينن لهم المعاصي في الدنيا التي هي دار الغرور، وجوز أن يكون يراد بها هذا المعنى وينزل الفعل منزلة اللازم ثم يعدى بفي، وفي ذلك دلالة على أنها مستقر التزيين وأنه تمكن المظروف في ظرفه، ونحوه قول ذي الرمة:
فإن تعتذر بالمحل من ذي ضروعها إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي
والمعنى لأحسنن الدنيا وأزيننها لهم حتى يشتغلوا بها عن الآخرة، وجوز جعل الباء للقسم و «ما» مصدرية أيضا أي أقسم بإغوائك إياي لأزينن، وإقسامه بعزة الله تعالى المفسرة بسلطانه وقهره لا ينافي إقسامه بهذا فإنه فرع من فروعها وأثر من آثارها فلعله أقسم بهما جميعا فحكى تارة قسمه بهذا وأخرى بذاك، وزعم بعضهم أن السببية أولى لأنه وقع في مكان آخر فَبِعِزَّتِكَ [ص: ٨٢] والقصة واحدة والحمل على محاورتين لا موجب له ولأن القسم بالإغواء غير متعارف انتهى، وفيه نظر ظاهر فإن قوله: فَبِعِزَّتِكَ يحتمل القسمية أيضا، وقد صرح الطيبي بأن مذهب الشافعية أن القسم بالعزة والجلال يمين شرعا فالآية على الزاعم لا له. نعم إن دعواه عدم تعارف القسم بالإغواء مسلمة وهو عندي يكفي لأولوية السببية ولعدم التعارف مع عدم الإشعار بالتعظيم لا يعد القسم بها يمينا شرعا فإن القائلين بانعقاد القسم بصفة له تعالى يشترطون أن تشعر بتعظيم ويتعارف مثلها، وفي نسبة الإغواء إليه تعالى بلا إنكار منه سبحانه قول بأن الشر كالخير من الله عزّ وجلّ، وأول المعتزلة ذلك وقالوا: المراد النسبة إلى الغي كفسقته نسبته إلى الفسق لا فعلته أو أن المراد فعل به فعلا حسنا أفضى به لخبثه إلى الغي حيث أمره سبحانه بالسجود فأبى واستكبر أو أضله عن طريق الجنة وترك هدايته واللطف به واعتذروا عن إنظار الله تعالى إياه مع أنه مفض إلى الإغواء القبيح بأنه تعالى قد علم منه
293
وممن اتبعه أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار أنظر أم لم ينظر وأن في إنظاره تعريضا لمن خالفه لاستحقاق مزيد الثواب.
وأنت تعلم أن في إنظار إبليس عليه اللعنة وتمكينه من الإغواء وتسليطه على أكثر بني آدم ما يأبى القول وجوب رعاية الأصلح المشهور عن المعتزلة، وأيضا من زعم أن حكيما أو غيره يحصر قوما في دار ويرسل فيها النار العظيمة والأفاعي القاتلة الكثيرة ولم يرد أذى أحد من أولئك القوم بالإحراق أو اللسع فقد خرج عن الفطرة البشرية.
فحينئذ الذي تحكم به الفطرة أن الله تعالى أراد بالإنظار إضلال بعض الناس فسبحانه من إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وتمسك بعض المعتزلة في تأويل ما تقدم بقوله: وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ حيث أفاد أن الإغواء فعله فلا ينبغي أن ينسب إلى الله تعالى، وأجيب بأن المراد به هنا الحمل على الغواية لا إيجادها وتأويل اللاحق للسابق أولى من العكس، وبالجملة ضعف الاستدلال ظاهر فلا يصلح ذلك متمسكا لهم أَجْمَعِينَ أي كلهم فهو لمجرد الإحاطة هنا.
إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ بفتح اللام وهو قراءة الكوفيين ونافع والحسن والأعرج أي الذين أخلصتهم لطاعتك وطهرتهم من كل ما ينافي ذلك، وكان الظاهر وإن منهم من لا أغويه مثلا، وعدل عنه إلى ما ذكر لكون الإخلاص والتمحض لله تعالى يستلزم ذلك فيكون من ذكر السبب وإرادة مسببه ولازمه على طريق الكناية وفيه إثبات الشيء بدليله فهو من التصريح به، وقرأ باقي السبعة والجمهور بكسر اللام أي الذين أخلصوا العمل لك ولم يشركوا معك فيه أحدا.
قالَ الله سبحانه وتعالى: هذا صِراطٌ عَلَيَّ أي حق لا بد أن أراعيه مُسْتَقِيمٌ لا انحراف فيه فلا يعدل عنه إلى غيره، والإشارة إلى ما تضمنه الاستثناء وهو تخلص المخلصين من إغوائه وكلمة عَلَيَّ تستعمل للوجوب والمعتزلة يقولون به حقيقة لقولهم بوجوب الإصلاح عليه تعالى، وقال أهل السنة: إن ذلك وإن كان تفضلا منه سبحانه إلا أنه شبه بالحق الواجب لتأكد ثبوته وتحقق وقوعه بمقتضى وعده جل وعلا فجيء- بعلي- لذلك أو إلى ما تضمنه الْمُخْلَصِينَ بالكسر من الإخلاص على معنى أنه طريق يؤدي إلى الوصول إلي من غير اعوجاج وضلال وهو على نحو طريقك علي إذا انتهى المرور عليه، وإيثار حرف الاستعلاء على حرف الانتهاء لتأكيد الاستقامة والشهادة باستعلاء من ثبت عليه فهو أدل على التمكن من الوصول، وهو تمثيل فلا استعلاء لشيء عليه سبحانه تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وليست عَلَيَّ فيه بمعنى إلي. نعم أخرج ابن جرير عن الحسن أنه فسرها بها، وأخرج عن زياد بن أبي مريم وعبد الله بن كثير أنهما قرآ «هذا صراط مستقيم» وقالا: «علي» هي إلي وبمنزلتها والأمر في ذلك سهل، وهي متعلقة بيمر مقدرا وصِراطٌ متضمن له فيتعلق به.
وقال بعضهم: الإشارة إلى انقسامهم إلى قسمين أي ذلك الانقسام إلى غاو وغيره أمر مصيره إلي وليس ذلك لك، والعرب تقول: طريقك في هذا الأمر على فلان على معنى إليه يصير النظر في أمرك، وعن مجاهد وقتادة أن هذا تهديد للعين كما تقول لغيرك افعل ما شئت فطريقك علي أي لا تفوتني، ومثله على ما قال الطبرسي قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: ١٤] والمشار على هذا إليه ما أقسم مع التأكيد عليه، وأظهر هذه الأوجه على ما قيل هو الأول، واختار في البحر كونها إلى الإخلاص، وقيل: الأظهر أن الإشارة لما وقع في عبارة إبليس عليه اللعنة حيث قال:
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [الأعراف: ١٦] إلخ، ولا أدري ما وجه كونه أظهر.
294
وقرأ الضحاك وإبراهيم وأبو رجاء وابن سيرين ومجاهد وقتادة وحميد وأبو شرف مولى كندة ويعقوب، وخلق كثير «عليّ مستقيم» برفع «عليّ» وتنوينه أي عال لارتفاع شأنه إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي تسلط وتصرف بالإغواء والمراد بالعباد المشار إليهم بالمخلصين فالإضافة للعهد، والاستثناء على هذا في قوله تعالى: إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ منقطع واختار ذلك غير واحد، واستدل عليه بسقوط الاستثناء في الإسراء، وجوز أن يكون المراد بالعباد العموم والاستثناء متصل والكلام كالتقرير لقوله: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ولذا لم يعطف على ما قبله، وتغيير الوضع لتعظيم المخلصين بجعلهم هم الباقين بعد الاستثناء.
وفي الآية دليل لمن جوز استثناء الأكثر وإلى ذلك ذهب أبو عبيد والسيرافي وأكثر الكوفية، واختاره ابن خروف والشلوبين وابن مالك وأجاز هؤلاء أيضا استثناء النصف، وذهب بعض البصرية إلى أنه لا يجوز كون المستثنى قدر نصف المستثنى منه أو أكثر ويتعين كونه أقل من النصف واختاره ابن عصفور والآمدي وإليه ذهب أبو بكر الباقلاني من الأصوليين، وذهب البعض الآخر من علماء البلدين إلى أنه يجوز أن يكون المخرج النصف فما دونه ولا يجوز أن يكون أكثر وإليه ذهب الحنابلة، واتفق النحويون كما قال أبو حيان وكذا الأصوليون عند الإمام والآمدي خلافا لما اقتضاه نقل القرافي عن المدخل لابن طلحة على أنه لا يجوز أن يكون المستثنى مستغرقا للمستثنى منه، ومن الغريب نقل ابن مالك عن الفراء جواز له على ألف إلا ألفين، وقيل: إن كان المستثنى منه عددا صريحا يمتنع فيه استثناء النصف والأكثر وإن كان غير صريح لا يمتنعان، وتحقيق هذه المسألة في الأصول، والمذكور في بعض كتب العربية عن أبي حيان أنه قال: المستقرأ من كلام العرب إنما هو استثناء الأقل وجميع ما استدل به على خلافه محتمل التأويل وأنت تعلم أن الآية تدفع مع ما تقدم قول من شرط الأقل لما يلزم عليه من الفساد لأن استثناء الغاوين هنا يستلزم على ذلك أن يكونوا أقل من المخلصين الذين هم الباقون بعد الاستثناء من جنس العباد، واستثناء المخلصين هناك يستلزم أن يكونوا أقل من الغاوين الذين هم الباقون بعد الاستثناء من ذلك فيكون كل من المخلصين والغاوين أقل من نفسه وهو كما ترى.
وأجاب بعضهم بأن المستثنى منه هنا جنس العباد الشامل للمكلفين وغيرهم ممن مات قبل أن يكلف ولا شك أن الغاوين أقل من الباقي منهم بعد الاستثناء وهم المخلصون ومن مات غير مكلف والمستثنى منه هناك المكلفون إذ هم الذين يعقل حملهم على الغواية والضلال إذ غير المكلف لا يوصف فعله بذلك والمخلصون أقل من الباقي منهم بعد الاستثناء أيضا ولا محذور في ذلك، وذكر بعضهم أن الكثرة والقلة الادعائيتين تكفيان لصحة الشرط فقد ذكر السكاكي في آخر قسم الاستدلال وكذا لا تقول لفلان علي ألف إلا تسعمائة وتسعين إلا وأنت تنزل ذلك الواحد منزلة الألف بجهة من الجهات الخطابية مع أنه ممن يشترط كون المستثنى أقل من الباقي اه، وظاهر كلام الأصوليين ينافيه، وجوز أن يكون الاستثناء منقطعا على تقدير إرادة الجنس أيضا ويكون الكلام تكذيبا للملعون فيما أوهم أن له سلطانا على من ليس بمخلص من عباده سبحانه فإن منتهى قدرته أن يغرهم ولا يقدر على جبرهم على اتباعه كما قال:
وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم: ٢٢].
فحاصل المعنى أن من اتبعك ليس لك عليهم سلطان وقهر بل أطاعوك في الإغواء واتبعوك لسوء اختيارهم ولا يضر في الانقطاع دخول الغاوين في العباد بناء على ما قالوا من أن المعتبر في الاتصال والانقطاع الحكم، ويفهم كلام البعض أنه يجوز أن تكون الآية تصديقا له عليه اللعنة في صريح الاستثناء وتكذيبا في جعل الإخلاص علة للخلاص حسبما يشير إليه كلامه فإن الصبيان والمجانين خلصوا من إغوائه مع فقد هذه العلة.
ومَنِ على جميع الأوجه المذكورة لبيان الجنس أي الذين هم الغاوون. واستدل الجبائي بنفي أن يكون له
295
سلطان على العباد على رد قول من يقول: إن الشيطان يمكنه صرع الناس وإزالة عقولهم، وقد تقدم الكلام في إنكار المعتزلة تخبط الشيطان والرد عليهم وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ الضمير لمن اتبع أو للغاوين ورجح الثاني بالقرب وظهور ملاءمته للضمير، والأول بأن اعتباره أدخل في الزجر عن اتباعه مع أن الثاني جيء به لبيانه وأَجْمَعِينَ توكيد للضمير، وجوز أن يكون حالا منه ويجعل على هذا الموعد مصدرا ميميا ليتحقق شرط مجيء الحال من المضاف إليه وهو كون المضاف مما يعمل عمل الفعل فإنهم اشترطوا ذلك أو كون المضاف جزء المضاف إليه أو كجزئه على ما ذكره ابن مالك وغيره ليتحد عامل الحال وصاحبها حقيقة أو حكما لكن يقدر حينئذ مضاف قبله لأن جهنم ليست عين الموعد بل محله فيقدر محل وعدهم أو مكانه، وليس بتأويل اسم المفعول كما وهم، وجوز أن يكون الموعد اسم مكان، وحينئذ لا يحتاج إلى تقدير المضاف إلا أن في جواز الحالية بحثا لأن اسم المكان لا يعمل عمل فعله كما حقق في النحو، وكون العامل معنى الإضافة وهو الاختصاص على القول بأنه الجار للمضاف إليه غير مقبول عند المحققين لأن ذلك من المعاني التي لا تنصب الحال، ولا يخفى ما في جعل جهنم موعدا لهم من التهكم والاستعارة فكأنهم كانوا على ميعاد، وفيه أيضا إشارة إلى أن ما أعد لهم فيها مما لا يوصف في الفظاعة لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ أي سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في الغواية والمتابعة روي ذلك عن عكرمة وقتادة،
وأخرج أحمد في الزهد والبيهقي في البعث وغيرهما من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: «أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض فيملأ الأول ثم الثاني ثم الثالث حتى تملأ كلها».
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها جهنم والسعير ولظى والحطمة وسقر والجحيم والهاوية وهي أسفلها، وجاء في ترتيبها عن الأعمش وابن جريج وغيرهما غير ذلك، وذكر السهيلي في كتاب الاعلام أنه وقع في كتب الرقائق أسماء هذه الأبواب ولم ترد في أثر صحيح وظاهر القرآن والحديث يدل على أن منها ما هو من أوصاف النار نحو السعير والجحيم والحطمة والهاوية ومنها ما هو علم للنار كلها نحو جهنم وسقر ولظى فلذا أضربنا عن ذكرها اه، وأقرب الآثار التي وقفنا عليها إلى الصحة فيما أظن ما روي عن علي كرم الله تعالى وجهه لكثرة مخرجيه، وتحتاج جميع الآثار إلى التزام أن يقال: إن جهنم تطلق على طبقة مخصوصة كما تطلق على النار كلها، وقيل: الأبواب على بابها والمراد أن لها سبعة أبواب يدخلونها لكثرتهم والإسراع بتعذيبهم.
والجملة- كما قال أبو البقاء- يجوز أن تكون خبرا ثانيا ويجوز أن تكون مستأنفة ولا يجوز أن تكون حالا من جهنم لأن إن لا تعمل في الحال لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ من الاتباع والغواة جُزْءٌ مَقْسُومٌ فريق معين مفروز من غيره حسبما يقتضيه استعداده، فباب للموحدين العصاة وباب لليهود وباب للنصارى وباب للصابئين وباب للمجوس وباب للمشركين وباب للمنافقين، وروي هذا الترتيب في بعض الآثار، وعن ابن عباس أن جهنم لمن ادعى الربوبية ولظى لعبدة النار والحطمة لعبدة الأصنام وسقر لليهود والسعير للنصارى والجحيم للصابئين والهاوية للموحدين العاصين، وروي غير ذلك، وبالجملة في تعيين أهلها كترتيبها اختلاف في الروايات.
ولعل حكمة تخصيص هذا العدد انحصار مجامع المهلكات في المحسوسات بالحواس الخمس ومقتضيات القوة الشهوانية الغضبية أو أن أصول الفرق الداخلين فيها سبعة، وقرأ ابن القعقاع «جزّ» بتشديد الزاي من غير همز ووجهه أنه حذف الهمزة وألقى حركتها على الزاي ثم وقف بالتشديد ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، وقرأ ابن وثاب «جزء» بضم الزاي والهمز «ومنهم» حال من «جزء» وجاء من النكرة لتقدمه ووصفها أو حال من ضميره في الجار والمجرور الواقع خبرا له، ورجح أن فيه سلامة مما في وقوع الحال من المبتدأ، والتزم بعضهم لذلك كون المرفوع
296
فاعلا بالظرف ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في مَقْسُومٌ لأنه صفة جُزْءٌ فلا يصح عمله فيما قبل الموصوف، وكذا لا يجوز أن يكون صفة بابٍ لأنه يقتضي أن يقال منها، وتنزيل الأبواب منزلة العقلاء لا وجه له هنا كما لا يخفى والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ فيه إشارة إلى ذم من كان همه بطنه وتنفيذ شهواته، قال أبو عثمان: أسوأ الناس حالا من كان همه ذلك فإنه محروم عن الوصول إلى حرم القرب وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ رموه وحاشاه ﷺ بالجنون مشيرين إلى أن سببه دعواه عليه الصلاة والسلام نزول الذكر الذي لم تتسع له عقولهم. والإشارة في ذلك أنه لا ينبغي لمن لم يتسع عقله لما من الله سبحانه به على أوليائه من الأسرار أن يبادروهم بالإنكار ويرموهم بما لا ينبغي كما هو عادة كثير من المنكرين اليوم على الأولياء الكاملين حيث نسبوهم فيما تكلموا به من الأسرار الإلهية والمعارف الربانية إلى الجنون وزعموا أن ما تكلموا به من ذلك ترهات وأباطيل خيلت لهم من الرياضات، ولا أعني بالأولياء الكاملين سوى من تحقق لدى المنصفين موافقتهم للشرع فيما يأتون ويذرون دون الذين يزعمون انتظامهم في سلكهم وهم أولياء الشيطان وحزبهم حزبه كبعض متصوفة هذا الزمان فإن الزنادقة بالنسبة إليهم أتقياء موحدون كما لا يخفى على من سبر أحوالهم إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ قال ابن عطاء: أي إنا نزلنا هذا الذكر شفاء ورحمة وبيانا للهدى فينتفع به من كان موسوما بالسعادة منورا بتقديس السر عن دنس المخالفة وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ في قلوب أوليائنا فهي خزائن أسرارنا وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ أشار سبحانه إلى سماء الذات وبروج الصفات والجلال فيسير في ذلك القلب والسر والعقل والروح فيحصل للروح التوحيد والتجريد والتفريد وللعقل المعارف والكواشف وللقلب العشق والمحبة والخوف والرجاء والقبض والبسط والعلم والخشية والأنس والانبساط وللسر الفناء والبقاء والسكر والصحو وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ إشارة إلى منع كشف جمال صفاته سبحانه وجلال ذاته عزّ وجلّ عن أبصار البطالين والمدعين والمبطلين الزائغين عن الحق إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ اختلس شيئا من سكان هاتيك الحضائر القدسية من الكاملين فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ نار التحير فهلك في بوادي التيه أو صار غولا يضل السائرين السالكين لتحصيل ما ينفعهم، وقيل الإشارة في ذلك: إنا جعلنا في سماء العقل بروج المقامات ومراتب العقول من العقل الهيولاني والعقل بالملكة والعقل بالفعل والعقل المستفاد وزيناها بالعلوم والمعارف للناظرين المتفكرين وحفظناها من شياطين الأوهام الباطلة إلا من اختطف الحكم العقلي باستراق السمع لقربه من أفق العقل فأتبعه شهاب البرهان الواضح فطرده وأبطل حكمه اه ولا يخفى ما في تزيين كل مرتبة من مراتب العقول المذكورة بالعلوم والمعارف للمتفكرين من النظر على من تفكر، وقيل: الإشارة إلى أنه تعالى جعل في سماء القلوب بروج المعارف تسير فيها سيارات الهمم، وجعلها زينة للناظرين إليها المطلعين عليها من الملائكة والروحانيين وحفظها من الشياطين فلو دنا إبليس أو جنوده من قلب عارف احترق بنور معرفته ورد خاسئا. وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ إشارة إلى أنه تعالى بسط بأنوار تجلي جماله وجلاله سبحانه أرض قلوب أوليائه حتى أن العرش وما حوى بالنسبة إليها كحلقة في فلاة بل دون ذلك بكثير،
وفي الخبر «ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن»
ثم إنه تعالى لما تجلى عليها تزلزلت من هيبته فألقى عليها رواسي السكينة فاستقرت وأنبت فيها بمياه بحار زلال نور غيبه من جميع نباتات المعارف والكواشف والمواجيد والحالات والمقامات والآداب وكل من ذلك موزون بميزان علمه وحكمته.
297
وقال بعضهم: نفوس العابدين أرض العبادة وقلوب العارفين أرض المعرفة وأرواح المشتاقين أرض المحبة، والرواسي الرجاء والخوف والرغبة والرهبة، والازدهار الأنوار التي أشرقت فيها من نور اليقين ونور العرفان ونور الحضور ونور الشهود ونور التوحيد إلى غير ذلك، وقيل: أشير بالأرض إلى أرض النفس أي بسطنا أرض النفس بالنور القلبي وألقينا فيها رواسي الفضائل وأنبتنا فيها كل شيء من الكمالات الخلقية والأفعال الإرادية والملكات الفاضلة والإدراكات الحسية معين مقدر بميزان الحكمة والعدل وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ بالتدابير الجزئية وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ ممن ينسب إليكم ويتعلق بكم، قال بعضهم: إن سبب العيش مختلف فعيش المريدين بيمن إقباله تعالى وعيش العارفين بلطف جماله سبحانه وعيش الموحدين بكشف جلاله جل جلاله.
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي ما من شيء إلا له عندنا خزانة في عالم القضاء وَما نُنَزِّلُهُ في عالم الشهادة إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ من شكل وقدر ووضع ووقت ومحل حسبما يقتضيه استعداده، قيل: إن الإشارة في ذلك إلى دعوة العباد إلى حقائق التوكل وقطع الأسباب والإعراض عن الأغيار، ومن هنا قال حمدون: إنه سبحانه قطع أطماع عبيده جل وعلا بهذه الآية فمن رفع بعد هذا حاجة إلى غيره تعالى شأنه فهو جاهل ملوم، وكان الجنيد قدس سره إذا قرأ هذه الآية يقول: فأين تذهبون؟ ويقال: خزائنه تعالى في الأرض قلوب العارفين وفيها جواهر الأسرار، ومنهم من قال:
النفوس خزائن التوفيق والقلوب خزائن التحقيق والألسنة خزائن الذكر إلى غير ذلك وَأَرْسَلْنَا على القلوب الرِّياحَ النفحات الإلهية لَواقِحَ بالحكم والمعارف، قال ابن عطاء: رياح العناية تلقح الثبات على الطاعات ورياح الكرم تلقح في القلوب معرفة المنعم ورياح التوكل تلقح في النفوس الثقة بالله تعالى والاعتماد عليه، وكل من هذه الرياح تظهر في الأبدان زيادة وفي القلوب زيادة وشقي من حرمها فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ أي سماء الروح ماءً من العلوم الحقيقية فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وأحييناكم به وَما أَنْتُمْ لَهُ أي لذلك الماء بِخازِنِينَ لخلوكم عن العلوم قبل أن نعلمكم وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي القلوب بماء العلم والمشاهدة وَنُمِيتُ النفوس بالجد والمجاهدة، وقيل:
نحيي بالعلم ونميت بالإفناء في الوحدة، وقيل: نحيي بمشاهدتنا قلوب المطيعين من موت الفراق ونميت نفوس المريدين بالخوف منا وقهر عظمتنا عن حياة الشهوات، وقال الواسطي: نحيي من نشاء بنا ونميت من نشاء عنا، وقال الوراق: نحيي القلوب بنور الإيمان ونميت النفوس باتباع الشيطان وقيل وقيل: وَنَحْنُ الْوارِثُونَ للوجود والباقون بعد الفناء وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وهم المشتاقون الطالبون للتقدم وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ وهم المنجذبون إلى عالم الحس باستيلاء صفات النفس الطالبون للتأخر عن عالم القدس وروضات الأنس، ومن هنا قال ابن عطاء: من القلوب قلوب همتها مرتفعة عن الأدناس والنظر إلى الأكوان ومنها ما هي مربوطة بها مقترنة بنجاستها لا تنفك عنها طرفة عين، وقيل: المستقدمين الطالبون كشف أنوار الجمال والجلال والمستأخرين أهل الرسوم الطالبون للحظوظ والأعراض، وقيل: الأولون هم أرباب الصحو الذين يتسارعون إذا دعو إلى الطاعة والآخرون سكارى التوحيد والمعرفة والمحبة، وقيل: الأولون هم الآخذون بالعزائم والآخرون هم الآخذون بالرخص، وقيل: غير ذلك وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فيه إشارة إلى عظم شأن آدم عليه السلام حيث أخبر سبحانه بخلقه قبل أن يخلقه، وسماه بشرا لأنه جل شأنه باشر خلقه بيديه، ولم يثن سبحانه اليد لأحد إلا له، وهو النسخة الإلهية الجامعة لصفات الجمال والجلال فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ أضاف سبحانه الروح إلى نفسه تشريفا لها وتعظيما لقدرها لما أنها سر خفي من أسراره جل وعلا، ولذا قيل: من عرف نفسه عرف ربه، وعلق تبارك شأنه الأمر بالسجود بالتسوية والنفخ لما أن أنوار الأسماء والصفات وسناء سبحات الذات إنما
298
تظهر إذ ذاك، ولذا لما تم الأمر وجلدت (١) النسخة فظهرت أنوار الحق وقرئت سطور الأسرار استصغروا أنفسهم فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ لما أعمى الله تعالى عينه عن مشاهدة ما شاهدوه أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ولو شاهد ذلك لسجد كما سجدوا قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ غلط اللعين في زعمه أنه خير من آدم عليه السلام ولم يخطر في باله أيضا أن المحب الصادق يمتثل أمر محبوبه كيف كان، ومن هنا قيل:
لو قال تيها قف على جمر الغضى... لوقفت ممتثلا ولم أتوقف
وقال بعض أهل الوحدة: إن الملعون ظن أنه مستحكم في توحيده حيث لم يسجد لغيره تعالى، وقد أخطأ أيضا لأنه لا غير هناك لأن في حقيقة جمع الجمع ترتفع الغيرية وتزول الاثنينية. وأنت تعلم أن هذا بمراحل عما يدل عليه كلامه وأن الغيرية إذا ارتفعت في هذا المقام ترتفع مطلقا فلا تبقى غيرية بين آدم وإبليس بل ولا بينهما وبين شخص من الأشخاص الخارجية والذهنية، ومن هنا قال قائلهم:
ما آدم في الكون ما إبليس... ما ملك سليمان وما بلقيس
الكل عبارة وأنت المعنى... يا من هو للقلوب مغناطيس
وقال الحسين بن منصور:
جحودي لك تقديس... وعقلي فيك منهوس (٢)
فمن آدم إلاك... ومن في البين إبليس
وقد انتشر مثل هذا الكلام اليوم في الأسواق ومجالس الجهلة والفساق واتسع الخرق على الراقع وتفاقم الأمر وما له سوى الله تعالى من دافع قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ طريد عن ساحة القرب إذ القرب يقتضي الامتثال وكلما ازداد العبد قربا من ربه ازداد خضوعا وخشوعا وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ لم يرد سبحانه أنه بعد ذلك يحصل له القرب خلافا لبعض أهل الوحدة بل أراد جل وعلا بعض ما قدمناه.
قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أي لأزينن لهم الشهوات في الجهة السفلية وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصتهم لك واصطفيتهم لمحبتك أو المخلصين في طاعتهم لك ولا يلتفتون لأحد سواك، وفيه من مدح الإخلاص ما فيه،
وفي الخبر «العالم هلكى إلا العالمون والعالمون هلكى إلا العاملون والعاملون هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر»
أي شرف عظيم كما ذكره السيد السند في بعض تعليقاته.
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ أي الذين يناسبونك في الغواية والبعد وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ عدد الحواس الخمس والقوتين الشهوية والغضبية وهاتان القوتان بابان عظيمان للضلالة المفضية إلى النار.
أخرج ابن جرير عن يزيد بن قسيط قال: كانت للأنبياء عليهم السلام مساجد خارجة من قراهم فإذا أراد أحدهم أن يستنبئ ربه عن شيء خرج إلى مسجده فصلى ما كتب الله تعالى ثم سأل ما بدا
(١) هي كلمة مستعملة عند العامة يقولون جلدت الكتاب أي وضعت له جلدا وبهذا المعنى استعملت هنا جريا على المتعارف عندهم وإلا فقد قال بعض الأفاضل: جلدت الكتاب بمعنى أزلت جلده فليحفظ اه منه.
(٢) أصله القليل اللحم من الرجال اه منه.
299
له فبينما نبي في مسجده إذ جاء إبليس حتى جلس بينه وبين القبلة فقال النبي: أعوذ بالله تعالى من الشيطان الرجيم ثلاثا فقال إبليس: أخبرني بأي شيء تنجو مني؟ قال النبي: بل أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم فأجد كل واحد منهما على صاحبه فقال النبي: إن الله تعالى يقول: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ قال إبليس: قد سمعت هذا قبل أن تولد قال النبي: ويقول الله تعالى وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف: ٢٠٠، فصلت: ٣٦] وإني والله تعالى ما أحسست بك قط إلا استعذت بالله تعالى منك قال إبليس:
صدقت بهذا تنجو مني فقال النبي: أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم قال: آخذه عند الغضب وعند الهوى لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ
فيكون لكل باب فرقة تغلب عليها قوة ذلك الباب، نسأل الله تعالى أن يجيرنا منها بحرمة سيد ذوي الألباب صلى الله عليه وسلم.
300
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ أي مستقرون في ذلك خالدون فيه، والمراد بهم- على ما في الكشاف عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما- الذين اتقوا الكفر والفواحش ولهم ذنوب تكفرها الصلوات وغيرها، وفيه أن المتقي على الإطلاق من يتقي ما يجب اتقاؤه مما نهي عنه، ونقل الإمام عن جمهور الصحابة والتابعين وذكر أنه المنقول عن الخير أن المراد بهم الذين اتقوا الشرك ثم قال: وهذا هو الحق الصحيح، والذي يدل عليه أن المتقي هو الآتي بالتقوى مرة واحدة كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة فليس من شرط صدق الوصف بكونه متقيا كونه آتيا بجميع أنواع التقوى، والذي يقرر ذلك أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتيا بالتقوى فإن الفرد مشتمل على الماهية بالضرورة وكل آت بالتقوى يجب أن يكون متقيا فالآتي بفرد يجب كونه متقيا، ولهذا قالوا: ظاهر الأمر لا يفيد التكرار فظاهر الآية يقتضي حصول الجنات والعيون لكل من اتقى عن ذنب واحد إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم، وأيضا هذه الآية وردت عقيب قول إبليس: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ وعقيب قوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ فلذا اعتبر الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزاد فيه قيد آخر لأن تخصيص العام لما كان خلاف الظاهر، فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق بمقتضى الأصل والظاهر فثبت أن الحكم المذكور يتناول جميع القائلين لا إله إلا الله محمد رسول الله ﷺ ولو كانوا من أهل المعصية، وهذا تقرير بين وكلام ظاهر اه. وقد يقال: لا شبهة في أن السياق يدل على أن المتقين هم المخلصون السابق ذكرهم وأن المطلق يحمل على الكامل والكامل ما أشار إليه الزمخشري ولا بأس بالحمل عليه وقيل إنه الأنسب.
وإخراج العصاة من النار ثابت بنصوص أخر، وكذا إدخال التائبين الجنة بل غيرهم أيضا فلا يلزم القائل بذلك القول بما عليه المعتزلة من تخليد أصحاب الكبائر كما لا يخفى، وأل للاستغراق وهو إما مجموعي فيكون لكل واحد من المتقين جنة وعين أو إفرادي فيكون لكل جنات وعيون، والمراد بالعيون يحتمل كما قيل أن يكون الأنهار المذكورة في قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [محمد: ١٥] الآية، ويحتمل أن يكون منابع مغايرة لتلك الأنهار وهو الظاهر، وهل كل من المتقين مختص بعيونه أو ليس مختصا بل تجري من بعض إلى بعض احتمالان فإنه يمكن أن يكون لكل واحد عين وينتفع بها من في معيته، ويمكن أن تجري العين من بعضهم إلى بعض لأنهم مطهرون عن الحقد والحسد، وضم العين من عُيُونٍ هو الأصل وبه قرأ نافع وأبو عمرو وحفص وهشام وقرأ الباقون بالعكس وهو لمناسبة الياء. ادْخُلُوها أمر لهم بالدخول من قبله تعالى، وهو بتقدير القول على أنه حال أي وقد قيل لهم ادخلوها، فلا يرد أنه بعد الحكم بأنهم في الجنة كيف يقال
301
لهم ادخلوها، وجوز أن يقدر مقولا لهم ذلك والمقارنة عرفية لاتصالهما، وقيل: يقدر يقال لهم فيكون مستأنفا، ووجه ذكر هذا الأمر بعد الحكم السابق بأنهم لما ملكوا جنات كثيرة كانوا كلما خرجوا من جنة إلى أخرى قيل لهم ادخلوها إلى آخره، وهو إنما يجري على تقدير أن يكون لكل جنات وبغير ذلك مما فيه دخل. وقرأ الحسن «أدخلوها» على أنه ماض مبني للمفعول من باب الأفعال والهمزة فيه للقطع، وأصل القياس أن لا يكسر التنوين قبلها إلا أن الحسن كسره على أصل التقاء الساكنين إجراء لهمزة القطع مجرى همزة الوصل في الإسقاط. وقرأ يعقوب في رواية رويس كذلك إلا أنه ضم التنوين بإلقاء حركة همزة القطع عليه، وعنه «أدخلوها» بفتح الهمزة عليه وكسر الخاء على أنه أمر للملائكة بإدخالهم إياها، وفتح في هذه القراءة التنوين بإلقاء فتحة الهمزة عليه وعلى القراءة بصيغة الماضي لا حاجة إلى تقدير القول، والفاعل عليها هو الله تعالى أي أدخلهم الله سبحانه إياها بِسَلامٍ أي ملتبسين به أي سالمين أو مسلما عليكم وعلى الأول يراد سلامتهم من الآفة والزوال في الحال، ويراد بالأمن في وقوله سبحانه: آمِنِينَ الأمن من طرو ذلك في الاستقبال فلا حاجة إلى تخصيص السلامة بما يكون جسمانيا والأمن بغيره وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي حقد، وأصله على ما قيل من الغلالة وهو ما يلبس بين الثوبين الشعار والدثار وتستعار للدرع كما يستعار الدرع لها، وقيل: قيل للحقد غل أخذا له من انغل في كذا وتغلل إذا دخل فيه، ومنه قيل للماء الجاري بين الشجر غلل، وقد يستعمل الغل فيما يضمر في القلب مما يذم كالحسد والحقد وغيرهما، وهذا النزع قيل في الدنيا،
فقد أخرج ابن أبي حاتم وابن عساكر عن كثير النوا قال: قلت لأبي جعفر إن فلانا حدثني عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية نزلت في أبي بكر وعمر وعلي رضي الله تعالى عنهم (١) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ قال: والله إنها لفيهم أنزلت وفيمن تنزل إلا فيهم؟ قلت: وأي غل هو؟ قال: غل الجاهلية إن بني تيم وبني عدي وبني هاشم كان بينهم في الجاهلية فلما أسلم هؤلاء القوم تحابوا فأخذت أبا بكر الخاصرة فجعل علي كرم الله تعالى وجهه يسخن يده فيكوي بها خاصرة أبي بكر رضي الله تعالى عنه فنزلت هذه الآية،
ويشعر بذلك على ما قيل ما
أخرجه سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر والحاكم وغيرهم من طرق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال لابن طلحة: إني لأرجو أن أكون أنا وأبوك من الذين قال الله تعالى: وَنَزَعْنا الآية فقال رجل من همذان: إن الله سبحانه أعدل من ذلك فصاح علي كرم الله تعالى وجهه عليه صيحة تداعى لها القصر، وقال: فمن إذن إن لم نكن نحن أولئك؟ وقيل: إن ذلك في الآخرة بعد دخول الجنة،
فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق القاسم عن أبي أمامة قال: يدخل أهل الجنة الجنة على ما في صدورهم في الدنيا من الشحناء والضغائن حتى إذا تدانوا وتقابلوا على السرر نزع الله تعالى ما في صدورهم في الدنيا من غل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الكريم بن رشيد قال: ينتهي أهل الجنة إلى باب الجنة وهم يتلاحظون تلاحظ القيران فإذا دخلوها نزع الله تعالى ما في صدورهم من الغل،
وقيل: فيها قبل الدخول،
فقد أخرج ابن أبي حاتم أيضا عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله ﷺ قال: «يحيس أهل الجنة بعد ما يجوزون الصراط حتى يؤخذ لبعضهم من بعض ظلاماتهم في الدنيا ويدخلون الجنة وليس في قلوب بعضهم على بعض غل».
وهذا ونحوه يؤيد ما قاله الإمام في المتقين، وقيل: معنى الآية طهر الله تعالى قلوبهم من أن يتحاسدوا على الدرجات في الجنة ونزع سبحانه منها كل غل وألقى فيها التواد والتحاب، والآية ظاهرة في وجود الغل في صدورهم
(١) رأيت في بعض النسخ زيادة وعثمان رضي الله تعالى عنه وآخر الخبر لا يقتضيها فتأمل اه منه.
302
قبل النزع فتأمل.
إِخْواناً حال من الضمير فِي جَنَّاتٍ وهي حال مترادفة إن جعل ادْخُلُوها حالا من ذلك أيضا أو حال من فاعل ادْخُلُوها وهي مقدرة إن كان النزع في الجنة أو من ضمير آمِنِينَ أو الضمير المضاف إليه في صُدُورِهِمْ وجاز لأن المضاف بعض من ذلك وهي حال مقدرة أيضا، ويقال نحو ذلك في قوله تعالى: عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ويجوز أن يكونا صفتين- لإخوانا- أو حالين من الضمير المستتر فيه لأنه في معنى المشتق أي متصافيين، ويجوز أن يكون مُتَقابِلِينَ حالا من المستتر في عَلى سُرُرٍ سواء كان حالا أو صفة، وأبو حيان لا يرى جواز الحال من المضاف إليه إذا كان جزأه أو كجزئه ويخصه فيما إذا كان المضاف مما يعمل في المضاف إليه الرفع أو النصب، وزعم أن جواز ذلك في الصورتين السابقتين مما تفرد به ابن مالك. ولم يقف على أنه نقله في فتاويه عن الأخفش وجماعة وافقوه فيه، واختار كون إِخْواناً منصوبا على المدح والسرر بضمتين جمع سرير وهو معروف وأخذه من السرور إذ كان ذلك لأولي النعمة، وإطلاقه على سرير الميت للتشبيه في الصورة وللتفاؤل بالسرور الذي يلحق الميت برجوعه إلى جوار الله عزّ وجلّ وخلاصه من سجنه المشار إليه بما جاء
في بعض الآثار «الدنيا سجن المؤمن».
وكلب وبعض بني تميم يفتحون الراء وكذا كل مضاعف فعيل، ويجمع أيضا على أسرة، وهي على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من ذهب مكللة باليواقيت والزبرجد والدر، وسعة كل كسعة ما بين صنعاء إلى الجابية. وفي كونهم على سرر إشارة إلى أنهم في رفعة وكرامة تامة.
وروي عن مجاهد أن الأسرة تدور بهم حيثما داروا فهم في جميع أحوالهم متقابلون لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض، فالتقابل التواجه وهو نقيض التدابر، ووصفهم بذلك إشارة إلى أنهم على أشرف أحوال الاجتماع. وقيل: هو إشارة إلى أنهم يجتمعون ويتنادمون، وقيل: معنى مُتَقابِلِينَ متساوين في التواصل والتزاور.
وفي بعض الأخبار أن المؤمن في الجنة إذا أراد أن يلقى أخاه المؤمن سار كل واحد منهم إلى صاحبه فيلتقيان ويتحدثان لا يَمَسُّهُمْ فِيها أي في تلك الجنات نَصَبٌ تعب ما إما بأن لا يكون لهم فيها ما يوجبه من السعي في تحصيل ما لا بد لهم منه لحصول كل ما يشتهونه من غير مزاولة عمل أصلا، وإما بأن لا يعتريهم ذلك وإن باشروا الحركات العنيفة لكمال قوتهم. وفي بعض الآثار أن قوة الواحد منهم قوة أربعين رجلا من رجال الدنيا والجملة استئناف نحوي أو بياني أو حال من الضمير في فِي جَنَّاتٍ أو من الضمير في إِخْواناً أو من الضمير في مُتَقابِلِينَ أو من الضمير في عَلى سُرُرٍ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ أي هم خالدون فيها. فالمراد استمرار النفي وذلك لأن إتمام النعمة بالخلود، وهذا متكرر مع آمِنِينَ إن أريد منه الأمن من زوالهم عن الجنة وانتقالهم منها، وارتكب ذلك للاعتناء والتأكيد وإن أريد به الأمن من زوال ما هم عليه من النعيم والسرور والصحة لا يتكرر، وبحث بعضهم في لزوم التكرار بأن الأمن من الشيء لا يستلزم عدم وقوعه كأمن الكفرة من مكر الله تعالى مثلا وأنه يجوز أن يكون المراد زوال أنفسهم بالموت لا الزوال عن الجنة، وتعقب بأن الثاني في غاية البعد فإنه لا يقال للميت: إنه فيها وإن دفن بها كالأول فإن الله تعالى إذا بشرهم بالأمن منه كيف يتوهم عدم وقوعه نَبِّئْ عِبادِي قيل: مطلقا، وقيل:
الذين عبر عنهم بالمتقين أي أخبرهم أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ وهذا إجمال لما سبق من الوعد والوعيد وتأكيد له، وأَنَا إما مبتدأ أو تأكيد أو فصل، وهو إما مبتدأ أو فصل، وأن وما بعدها- قال أبو حيان:- ساد مسد مفعولي نَبِّئْ إن قلنا: إنها تعدت إلى ثلاثة ومسد واحد إن قلنا تعدت إلى اثنين، وفي ذكر المغفرة إشعار على ما قيل بأن ليس المراد بالمتقين من يتقي جميع الذنوب إذ لو أريد ذلك لم يكن لذكرها موقع،
303
وقيل: إن ذكرها حينئذ لدفع توهم أن غير أولئك المتقين لا يكون في الجنة بأنه يدخلها وإن لم يتب لأنه تعالى الغفور الرحيم، وله وجه، وفي توصيف ذاته تعالى بالمغفرة والرحمة دون التعذيب حيث لم يقل سبحانه: وإني أنا المعذب المؤلم ترجيح لجانب الوعد على الوعيد وإن كان الأليم على ما قال غير واحد في الحقيقة صفة العذاب، وكذا لا يضر في ذلك الإضافة لأنها لا تقتضي حصول المضاف إليه بالفعل كما إذا قيل ضربي شديد فإنه يصح أن يراد منه ذاك شدبد إذا وقع ويكفي في الإضافة أدنى ملابسة، ويقوي أمر الترجيح الإتيان بالوصفين بصيغتي المبالغة، وكذا ما
أخرج ابن جرير وابن مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح عن رجل من أصحاب النبي ﷺ قال: اطلع علينا رسول الله ﷺ من الباب الذي منه بنو شيبة فقال: ألا أراكم تضحكون ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال: إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن الله تعالى يقول لم تقنط عبادي؟ نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الآية،
وتقديم الوعد أيضا يؤيد ذلك، وفيه إشارة إلى سبق الرحمة حسبما نطق به الخبر المشهور.
ومع هذا كله في الآية ما تخشع منه القلوب،
فقد أخرج عبد بن حميد وجماعة عن قتادة أنه قال في الآية: بلغنا أن نبي الله ﷺ قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله تعالى لما تورع من حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه»
وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «إن الله سبحانه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله تعالى من العذاب لم يأمن من النار»
ثم إنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد ذكر ما يحقق ذلك لما تضمنه من البشرى والإهلاك بقوله سبحانه: وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ إلخ، وقيل: إنه تفصيل لما تضمنته الآية السابقة منهما لا من الوعيد فقط كما قيل، والمراد بضيف إبراهيم الملائكة عليهم السلام الذين بشروه بالولد وبهلك قوم لوط عليه السلام، وإنما سموا ضيفا لأنهم في صورة من كان ينزل به عليه السلام من الأضياف وكان لا ينزل به أحد إلا أضافه، وكان لقصره عليه السلام أربعة أبواب من كل جهة باب لئلا يفوته أحد، ولذا كان يكنى أبا الضيفان، واختلف في عددهم كما تقدم، وهو في الأصل مصدر والأفصح أن لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث للمثنى والمجموع والمؤنث فلا حاجة إلى تكلف إضمار أي اصحاب ضيف كما قاله النحاس وغيره، ولم يتعرض سبحانه لعنوان رسالتهم لأنهم لم يكونوا مرسلين إليه عليه السلام بل إلى قوم لوط عليه السلام كما يأتي إن شاء الله تعالى ذكره.
وقرأ أبو حيوة «ونبيهم» بإبدال الهمزة ياء إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ نصب على أنه مفعول بفعل محذوف معطوف على نَبِّئْ أي واذكر وقت دخولهم عليه أو ظرف- لضيف- بناء على أنه مصدر في الأصل، وجوز أبو البقاء كونه ظرفا له بناء على أنه مصدر الآن مضاف إلى المفعول حيث كان التقدير أصحاب ضيف حسبما سمعته عن النحاس وغيره، وأن يكون ظرفا لخبر مضافا إلى ضَيْفِ أي خبر ضيف إبراهيم حين دخولهم عليه فَقالُوا عند ذلك:
سَلاماً مقتطع من جملة محكية بالقول وليس منصوبا به أي سلمت سلاما من السلامة أو سلمنا سلاما من التحية، وقيل: هو نعت لمصدر محذوف تقديره فقالوا قولا سلاما قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ
أي خائفون فإن الوجل اضطراب النفس لتوقع مكروه، وقوله عليه السلام هذا كان- عند غير واحد- بعد أن قرب إليهم العجل الحنيذ فلم يأكلوا منه، وكان العادة أن الضيف إذا لم يأكل مما يقدم له ظنوا أنه لم يجىء بخير، وقيل: كان عند ابتداء دخولهم حيث دخلوا عليه عليه الصلاة والسلام بغير إذن وفي وقت لا يطرق في مثله، وتعقب بأنه لو كان كذلك لأجابوا حينئذ بما أجابوا به
304
ولم يكن عليه السلام ليقرب إليهم الطعام، وأيضا قوله تعالى: فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً [هود: ٧٠] ظاهر فيما تقدم ولعل هذا التصريح كان بعد الإيجاس.
وقيل: يحتمل أن يكون القول هنا مجازا بأن يكون قد ظهرت عليه عليه الصلاة والسلام مخايل الخوف حتى صار كالقائل المصرح به، وإنما لم يذكر هنا تقريب الطعام اكتفاء بذكره في غير هذا الموضع كما لم يذكر رده عليه السلام السلام عليهم لذلك، وقد تقدم ما ينفعك هنا مفصلا في هود فتذكره. قالُوا لا تَوْجَلْ لا تخف وقرأ الحسن «لا توجل» بضم التاء مبنيا للمفعول من الإيجال، وقرئ «لا تواجل» من واجله بمعنى أوجله و «لا تأجل» بإبدال الواو ألفا كما قالوا تابة في توبة. إِنَّا نُبَشِّرُكَ استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل فإن المبشر لا يكاد يحوم حول ساحته خوف ولا حزن كيف لا وهي بشارة ببقائه وبقاء أهله في عافية وسلامة زمانا طويلا.
بِغُلامٍ هو إسحاق عليه السلام لأنه قد صرح به في موضع آخر، وقد جعل سبحانه البشارة هنا لإبراهيم وفي آية أخرى لامرأته ولكل وجهة، ولعلها هنا كونها أوفق بإنباء العرب عما وقع لجدهم الأعلى عليه السلام، ولعله سبحانه لم يتعرض ببشارة يعقوب اكتفاء بما ذكر في سورة هود، والتنوين للتعظيم أي بغلام عظيم القدر عَلِيمٍ ذي علم كثير، قيل: أريد بذلك الإشارة إلى أنه يكون نبيا فهو على حد قوله تعالى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا [الصافات:
١١٢] قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي بذلك عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ وأثر في والاستفهام للتعجب، وعَلى بمعنى مع مثلها في قوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة: ١٧٧] على أحد القولين في الضمير، والجار والمجرور في موضع الحال فيكون قد تعجب عليه السلام من بشارتهم إياه مع هذه الحال المنافية لذلك، ويجوز أن يكون الاستفهام للإنكار وعَلى على ما سمعت بمعنى أنه لا ينبغي أن تكون البشارة مع الحال المذكورة. وزعم بعض المنتمين إلى أهل العلم أن الأول جعل عَلى بمعنى في مثلها في قوله تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ [القصص:
١٥] وقوله سبحانه: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [البقرة: ١٠٢] لوجهين الاستغناء عن التقدير وكون المصاحبة لصدقها بأول المس لا تنافي البشارة، وهو لعمري ضرب من الهذيان كما لا يخفى على إنسان ثم إنه عليه السلام زاد في ذلك فقال: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ أي فبأي أعجوبة تبشرون أو بأي شيء تبشرون فإن البشارة بما لا يقع عادة بشارة بغير شيء، وجوز أن تكون الباء للملابسة والاستفهام سؤال عن الوجه والطريقه أي تبشرون ملتبسين بأي طريقة ولا طريق لذلك في العادة.
وقرأ الأعرج «بشرتمون» بغير همزة الاستفهام، وابن محيصن «الكبر» بضم الكاف وسكون الباء. وقرأ ابن كثير بكسر النون مشددة بدون ياء على إدغام نون الجمع في نون الوقاية والاكتفاء بالكسرة عن الياء. وقرأ نافع بكسر النون مخففة، واعترض على ذلك أبو حاتم بأن مثله لا يكون إلا في الشعر وهو مما لا يلتفت إليه، وخرج على حذف نون الرفع كما هو مذهب سيبويه استثقالا لاجتماع المثلين ودلالة بإبقاء نون الوقاية على الياء. وقيل: حذفت نون الوقاية وكسرت نون الرفع وحذفت الياء اجتزاء بالكسرة وحذفها كذلك كثير فصيح وقد قرئ به في مواضع عديدة، ورجح الأول بقلة المئونة واحتمال عدم حذف نون في هذه القراءة بأن يكون اكتفى بكسر نون الرفع من أول الأمر خلاف المنقول في كتب النحو والتصريف وإن ذهب إليه بعضهم.
وقرأ الحسن كابن كثير إلا أنه أثبت الياء وباقي السبعة يقرؤون بفتح النون وهو نون الرفع.
قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ أي بالأمر المحقق لا محالة أو باليقين الذي لا لبس فيه أو بطريقة هي حق، وهو أمر من له الأمر القادر على خلق الولد من غير أبوين فكيف بإيجاده من شيخ وعجوز فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ أي الآيين
305
من خرق العادة لك فإن ظهور الخوارق على يد الأنبياء عليهم السلام كثير حتى لا يعد بالنسبة إليهم مخالفا للعادة، وكأن مقصده عليه السلام استعظام نعمته تعالى عليه في ضمن التعجب العادي المبني على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين عباده جلّ وعلا لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرته جل جلاله، فإنه عليه السلام بل النبي مطلقا أجل قدرا من ذلك، وينبئ عنه قول الملائكة عليهم السلام: فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ على ما فيه من المبالغة دون أن يقولوا: من الممترين ونحوه قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ استفهام إنكاري أي لا يقنط مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ أي الكفرة المخطئون طريق معرفة الله تعالى فلا يعرفون سعة رحمته وكمال علمه وقدرته سبحانه وتعالى، وهذا كقول ولده يعقوب: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف: ٨٧] ومراده عليه السلام نفي القنوط عن نفسه بأبلغ وجه أي ليس بي قنوط من رحمته تعالى وإنما الذي أقول لبيان منافاة حالي لفيضان تلك النعمة الجليلة علي، وفي التعرض لعنوان الربوبية والرحمة ما لا يخفى من الجزالة.
وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش وأبو عمرو في رواية «القنطين» والنحويان والأعمش «يقنط» بكسر النون، وباقي السبعة بفتحها، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والأشهب بضمها، وهو شاذ وماضيه مثله في التثليث. واستدل بالآية على تفسير «الضالين» بما سمعت لما سمعت من الآية على أن القنوط وهو- كما قال الراغب:- اليأس من الخير كفر، والمسألة خلافية، والشافعية على أن ذاك وكذا الأمن من المكر من الكبائر
«للحديث الموقوف على ابن مسعود أو المرفوع من الكبائر الإشراك بالله تعالى واليأس من روح الله تعالى والأمن من مكر الله تعالى»
وقال الكمال بن أبي شريف: العطف على الإشراك بمعنى مطلق الكفر يقتضي المغايرة فإن أريد باليأس إنكار سعة الرحمة الذنوب وبالأمن اعتقاد أنه لا مكر فكل منهما كفر اتفاقا لأنه رد للقرآن العظيم، وإن أريد استعظام الذنوب واستبعاد العفو عنها استبعادا يدخل في حد اليأس وغلبة الرجاء المدخل له في حد الأمن فهو كبيرة اتفاقا اه وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر.
قالَ فَما خَطْبُكُمْ أي أمركم وشأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ لعله عليه السلام علم أن كمال المقصود ليس البشارة من مقالة لهم في أثناء المحاورة مطوية هنا، وتوسيط قالَ بين كلاميه عليه السلام مشيرا إلى أن هناك ما طوي ذكره، وخطابه لهم عليهم السلام بعنوان الرسالة بعد ما كان خطابه السابق مجردا عن ذلك مع تصديره بالفاء ظاهر في أن مقالتهم المطوية كانت متضمنة ما فهم منه ذلك فلا حاجة إلى الالتجاء أن علمه عليه السلام بأن كل المقصود ليس البشارة بسبب أنهم كانوا ذوي عدد والبشارة لا تحتاج إلى عدد ولذلك اكتفى بواحد في زكريا ومريم عليهما السلام ولا إلى أنهم بشروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل ولو كانت تمام المقصود لابتدءوا بها على أن فيما ذكر بحثا فقد قيل: إن التعذيب كالبشارة لا يحتاج أيضا إلى العدد ألا يرى أن جبريل عليه السلام قلب مدائنهم بأحد جناحيه، وأيضا يرد على قوله: ولذلك اكتفى إلخ أن زكريا عليه السلام لم يكتف في بشارته بواحد كما يدل عليه قوله تعالى: فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى [آل عمران: ٣٩] وأما مريم عليها السلام فإنما جاءها الواحد لنفخ الروح والهبة كما يدل عليه قوله: لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
[مريم: ١٩] وقوله تعالى: فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [الأنبياء: ٩١، التحريم: ١٢] وأما التبشير فلازم لتلك الهبة وفي ضمنها وليست مقصودة بالذات، وأيضا يخدش قوله: ولو كانت تمام المقصود لابتدؤوا بها ما في قصة مريم عليها السلام قالت: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا
[مريم:
١٨، ١٩].
فيجوز أن يكون قولهم: لا تَوْجَلْ تمهيدا للبشارة. وأجيب عن هذا بأنه لا ورود له لأن مريم عليها السلام
306
لنزاهة شأنها أول ما أبصرته متمثلا عاجلته بالاستعاذة فلم تدعه يبتدئ بالبشارة بخلاف ما نحن فيه، وعما تقدم بأن المعنى إن العادة الجارية بين الناس ذلك فيرسل الواحد للبشارة والجمع لغيرها من حرب وأخذ ونحو ذلك والله تعالى يجري الأمور للناس على ما اعتادوه فلا يرد قصة جبريل عليه السلام في ذلك وإن قيل: المراد بالملائكة في تلك الآية جبريل عليه السلام كقولهم فلان يركب الخيل ويلبس الثياب أي الجنس الصادق بالواحد من ذلك قاله بعض المحققين، وتعقب ما تقدم من كون العلم من كلام وقع في أثناء المحاورة وطوى ذكره بأنه بعيد وتوسيط قالَ والفاء والخطاب بعنوان الرسالة لا يقربه، أما الأول فلجواز أن يكون لما أن هناك انتقالا إلى بحث آخر ومثله كثير في الكلام، وأما الثاني فلجواز أن تكون فصيحة على معنى إذا تحقق هذا فأخبروني ما أمركم الذي جئتم له سوى البشرى؟، وأما الثالث فلجواز أن يقال: إنه عليه السلام لم يعلم بأنهم ملائكة مرسلون من الله تعالى إلا بعد البشارة ولم يك يحسن خطابهم بذلك عند الإنكار أو التعجب من بشارتهم، وكذا لا يحسن في الجواب كما لا يخفى على أرباب الأذواق السليمة بل قد يقال: إنه لا يحسن أيضا عند قوله: إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ على تقدير أن يكون علم عليه السلام ذلك قبل البشارة لما أن المقام هناك ضيق من أن يطال فيه الكلام بنحو ذلك الخطاب فتدبر.
قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ هم قوم لوط عليه السلام، وجيء بهم بطريق التنكير ووصفوا بالإجرام استهانة بهم وذما لهم إِلَّا آلَ لُوطٍ قال الزمخشري: يجوز أن يكون استثناء من قوم بملاحظة الصفة فيكون الاستثناء منقطعا لأنهم ليسوا قوما مجرمين، واحتمال التغليب مع هذه الملاحظة ليتصل الاستثناء ليس مما يقتضيه المقام، ولو سلم فغير ضار فيما ذكر لأنه مبني على الحقيقة ولا ينافي صحة الاتصال على تقدير آخر، ويجوز أن يكون استثناء من الضمير المستتر في مُجْرِمِينَ فيكون الاستثناء متصلا لرجوع الضمير إلى القوم فقط فيكون الآل على الأول مخرجين من حكم الإرسال المراد به إرسال خاص وهو ما كان للإهلاك لا مطلق البعث لاقتضاء المعنى له، وقوله تعالى إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ خبر الأبناء على ما سمعت سابقا، وعن الرضي أن المستثنى المنقطع منتصب عند سيبويه بما قبل إلا من الكلام كما انتصب المتصل به وإن كانت إلا بمعنى لكن وأما المتأخرون من البصريين فلما رأوها بمعنى لكن قالوا إنها الناصبة بنفسها نصب لكن للأسماء وخبرها في الأغلب محذوف نحو جاءني القوم إلا حمارا أي لكن حمارا لم يجىء قالوا وقد يجيء خبرها ظاهرا نحو قوله تعالى إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ [يونس:
٩٨] وقال الكوفيون إلا في ذلك بمعنى سوى والنصب بعدها في الانفصال كالنصب في الاتصال، وتأويل البصريين أولى لأن المستثنى المنقطع يلزم مخالفته لما قبله نفيا وإثباتا كما في لكن وفي سوى لا يلزم ذلك لأنك تقول: لي عليك ديناران سوى الدينار الفلاني وذلك إذا كان صفة، وأيضا معنى لكن الاستدراك، والمراد به فيها دفع توهم المخاطب دخول ما بعدها في حكم ما قبلها مع أنه ليس بداخل وهذا هو معنى الاستثناء المنقطع بعينه انتهى، وزعم بعضهم أن في كون إلا الاستثنائية تعمل عمل لكن خفاء من جهة العربية وقال: إنه في المعنى خبر وليس خبرا حقيقيا كما صرح به النحاة، ومما نقلناه يعلم ما فيه من النظر. نعم صرح الزمخشري بأن الجملة على تقدير الانقطاع جارية مجرى خبر لكن وهو ظاهر في أنها ليست خبرا في الحقيقة وذكر أنه إنما قال ذلك لأن الخبر محذوف أي لكن آل لوط ما أرسلنا إليهم والمذكور دليله لتلازمهما ولذا لم يجعله نفس الخبر بل جار مجراه، وفيه غفلة عن كونه مبنيا على ما نقل عن سيبويه، وزعم بعض أنه قال ذلك لأن الجملة المصدرة بأن يمتنع أن تكون خبرا للكن فليراجع، وقيل:
قال ذلك لأن المذكور إلا لا لكن وهو كما ترى، وعلى تقدير الاتصال يكون الآل مخرجين من حكم المستثنى منه وهو الإجرام داخلين في حكم الإرسال بمعنى مطلقا فيكون الملائكة قد أرسلوا إليهم جميعا ليهلكوا هؤلاء وينجوا
307
هؤلاء، وجملة إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ على هذا مستأنفة استئنافا بيانا كأن إبراهيم عليه السلام قال لهم حين قالوا: إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ فما حال آل لوط، فقالوا: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ
إلخ وقوله سبحانه: إِلَّا امْرَأَتَهُ على التقديرين عند جار الله مستثنى من الضمير المجرور في لمنجوهم ولم يجوز أن يكون من الاستثناء من الاستثناء في شيء قال: لأن ذلك إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه كقوله المطلق أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة والمقر لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما، وهاهنا قد اختلف الحكمان لأن آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين وإِلَّا امْرَأَتَهُ تعلق- بمنجوهم- فأنى يكون استثناء من استثناء انتهى.
وقد يتوهم أن الإرسال إذا كان بمعنى الإهلاك فلا اختلاف إذ التقدير إلا آل لوط لم نهلكهم فهو بمعنى منجوهم فيكون من الاستثناء من الاستثناء على أحد التقديرين. وأجاب عن ذلك صاحب التقريب بأن شرط الاستثناء المذكور أن لا يتخلل لفظ بين الاستثناءين متعدد يصلح أن يكون مستثنى منه وهاهنا قد تخلل لَمُنَجُّوهُمْ ولو قيل إلا آل لوط إلا امرأته لجاز ذلك وتعقب بأنه لا يدفع الشبهة لأن السبب حينئذ في امتناعه وجود الفاصل لا اختلاف الحكمين فلا وجه للتعبير به عنه، وفي الكشف المراد من اتحاد الحكم اتحاده شخصا وعددا فلا يرد أن الإرسال إذا كان بمعنى الإهلاك كان قوله سبحانه: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ وقوله تعالى: إِلَّا آلَ لُوطٍ في معنى واحد فالاستثناء من الأول في المعنى، وإنما شرط الاتحاد لأن المتصل كاسمه لا يجوز تخلل جملة بين العصا ولحائها وكذلك في المنقطع وبه يتضح حال ما تقدم أتم اتضاح، وفيه أيضا، فإن قلت: لم لا يرجع الاستثناء إليهما؟ قلت: لأن الاستثناء متعلق بالجملة المستقلة والخلاف في رجوعه إلى الجملتين فصاعدا لا إلى جملة، وبعض جملة سابقة، هذا والمعنى مختلف في ذلك ومحل الخلاف الجمل المتعاطفة لا المنقطع بعضها عن بعض انتهى، والأمر كما ذكر في تعيين محل الخلاف، والمسألة قل من تعرض لها من النحاة وفيها مذاهب. الأول وهو الأصح وعليه ابن مالك أن الاستثناء يعود للكل إلا أن يقوم دليل على إرادة البعض كما في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ [النور: ٦] الآية فإن إِلَّا الَّذِينَ فيه عائد إلى فسقهم وعدم قبول شهادتهم معالا إلى الجلد للدليل، ولا يضر اختلاف العامل لأن ذلك مبني على أن إلا هي العاملة الثاني أنه يعود للكل إن سيق الكل لغرض واحد نحو حبست داري على أعمامي ووقفت بستاني على أخوالي وسبلت سقايتي لجيراني إلا أن يسافروا وإلا فللأخيرة فقط نحو أكرم العلماء واحبس دارك على أقاربك وأعتق عبيدك إلا الفسقة منهم. الثالث إن كان العطف بالواو عاد للكل أو بالفاء أو ثم عاد للأخيرة وعليه ابن الحاجب، الرابع أنه خاص بالأخيرة واختاره أبو حيان. الخامس إن اتحد العامل فللكل أو اختلف فللأخيرة إذ لا يمكن حمل المختلفات في مستثنى واحد وعليه البهاباذي، وهو مبني على أن عامل المستثنى الأفعال السابقة دون إلا، هذا ويوهم كلام بعضهم أنه لو جعل الاستثناء من آلَ لُوطٍ لزم أن تكون امرأته غير مهلكة أو غير مجرمة وهو توهم فاحش لأن الاستثناء من آلَ لُوطٍ إن قلنا به بملاحظة الحكم عليهم بالإنجاء وعدم الإهلاك أو بعدم الإجرام والصلاح فتكون الامرأة محكوما عليها بالإهلاك أو الإجرام. ويرشدك إلى هذا ما ذكره الرضي فيما إذا تعدد الاستثناء وأمكن استثناء كل تال من متلوه نحو جاءني المكيون إلا قريشا إلا بني هاشم إلا بني عقيل حيث قال: لا يجوز في الموجب حينئذ في كل وتر إلا النصب على الاستثناء لأنه عن موجب، والقياس أن يجوز في كل شفع الإبدال والنصب على الاستثناء لأنه غير موجب والمستثنى منه مذكور، والكلام في وتر وشفع غير الموجب على عكس هذا، وهو مبني على ما ذهب إليه الجمهور من أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي خلافا للكسائي حيث قال: إن المستثنى مسكوت عن نفي الحكم عنه أو ثبوته له، ولا دلالة في الكلام على شيء من ذلك، واستفادة الإثبات في كلمة التوحيد من عرف الشرع، وكما
308
وقع الخلاف في هذه المسألة بين النحويين وقع بين الأئمة المجتهدين وتحقيق ذلك في محله. واختار ابن المنير كون إِلَّا آلَ لُوطٍ مستثنى من قَوْمٍ مُجْرِمِينَ على أنه منقطع قال: وهو أولى وأمكن لأن في استثنائهم من الضمير العائد على قوم منكرين بعدا من حيث إن موقع الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل المستثنى في حكم الأول، وهنا الدخول متعذر مع التنكير ولذلك قلما تجد النكرة يستثنى منها إلا في سياق نفي لأنها حينئذ تعم فيتحقق الدخول لولا الاستثناء، ومن ثمة لم يحسن رأيت قوما إلا زيدا وحسن ما رأيت أحدا إلا زيدا انتهى. ورد بأن هذا ليس نظير رأيت قوما إلا زيدا بل من قبيل رأيت قوما أساؤوا إلا زيدا فالوصف يعينهم ويجعلهم كالمحصورين، قال في همع الهوامع:
ولا يستثنى من النكرة في الموجب ما لم تفد فلا يقال: جاء قوم إلا رجلا ولا قام رجال إلا زيدا لعدم الفائدة، فإن أفاد جاز نحو فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً [العنكبوت: ١٤] وقام رجال كانوا في دارك إلا رجلا، على أن المراد بالقوم أهل القرية كما صرح به في آية أخرى فهم معنى محصورون، ونقل المدقق عن السكاكي أنه صرح في آخر بحث الاستدلال من كتابه بأن الاستثناء من جمع غير محصور جائز على المجاز، مع أن بعض الأصوليين أيضا جوزوا الاستثناء من النكرة في الإيجاب وأطلقوا القول في ذلك. نعم المصرح به في كثير من كتب النحو نحو ما في الهمع.
وزعم بعضهم أنه ينبغي أن يكون الاستثناء من الظاهر والضمير منقطعا، وعلل ذلك بأن الضمير في الصفة هو عين الموصوف المقيد بالصفة، وذكر الجلال السيوطي أن بعض الفضلاء رفع هذا مع عدة أسئلة نثرا ونظما إلى الكمال ابن الهمام ولم يذكر أنه أجاب عنها، والجواب عما زعمه هنا قد مرت إليه الإشارة، وأما الجواب عن سائر ما استشكله وسئل عنه الكمال فيغني عنه الاطلاع على السؤال فإنه مما يتعجب منه، ومن هنا قال الشهاب: أظن أن ابن الهمام إنما سكت عن جواب (١) ذلك لوضوح اندفاعه وأنه لا ينبغي أن يصدر عمن تحلى بحلية الفضل، نعم بعد كل حساب الذي ينساق إلى الذهن أن الاستثناء من الظاهر لكن الرضي أنه إذا اجتمع شيئان فصاعدا يصلحان لأن يستثنى منهما فهناك تفصيل فإما أن يتغايرا معنى أولا فإن تغايرا وأمكن اشتراكهما في ذلك الاستثناء بلا بعد اشتركا فيه نحو ما بر أب وابن إلا زيدا أي زيد أب بار وابن بار، فإن لم يمكن الاشتراك نحو فضل ابن أبا إلا زيدا أو كان بعيدا نحو ما ضرب أحد أحدا إلا زيدا فإن الأغلب مغايرة الفاعل للمفعول نظرنا فإن تعين دخول المستثنى في أحدهما دون الآخر فهو استثناء منه وليه أولا نحو ما فدى وصي نبيا إلا عليا كرم الله تعالى وجهه، وإن احتمل دخوله في كل واحد منهما فإن تأخر عنهما المستثنى فهو من الأخير نحو ما فضل ابن أبا إلا زيدا وكذا ما فضل أبا ابن إلا زيد لأن اختصاصه بالأقرب أولى لما تعذر رجوعه إليهما، وإن تقدمهما معا فإن كان أحدهما مرفوعا لفظا أو معنى فالاستثناء منه لأن مرتبته بعد الفعل فكأن الاستثناء وليه بعده نحو ما فضل إلا زيدا أبا ابن أو من ابن، وإن لم يكن أحدهما مرفوعا فالأول أولى به لقربه نحو ما فضلت إلا زيدا واحدا على أحد ويقدر للأخير عامل، وإن توسطهما فالمتقدم أحق به لأن أصل المستثنى تأخره عن المستثنى منه نحو ما فضل أبا إلا زيد ابن ويقدر أيضا للأخير عامل، وإن لم يتغايرا معنى اشتركا فيه، وإن اختلف العاملان فيهما نحو ما ضرب أحد وما قتل إلا خالدا لأن فاعل قتل ضمير أحد انتهى.
وجزم ابن مالك فيما إذا تقدم شيئان مثلا يصلح كل منهما للاستثناء منه بأن الاستثناء من الأخير وأطلق القول في ذلك فليتأمل ذاك مع ما نحن فيه، وقال القاضي البيضاوي: إنه على الانقطاع يجوز أن يجعل إِلَّا امْرَأَتَهُ مستثنى
(١) وكلا الأمرين مذكور في حواشيه على البيضاوي فارجع إليها إن أردت ذلك اه منه. [.....]
309
من آلَ لُوطٍ أو من ضمير لَمُنَجُّوهُمْ وعلى الاتصال يتعين الثاني لاختلاف الحكمين اللهم إلا إذا جعلت جملة إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ معترضة انتهى، ومخالفته لما نقل عن الزمخشري ظاهرة حيث جوز الاستثناء من المستثنى في الانقطاع ومنعه الزمخشري مطلقا، وحيث جعل اختلاف الحكمين في الاتصال وأثبته الزمخشري مطلقا أيضا وبين اختلاف الحكمين بنحو ما بين به في كلام الزمخشري، ولم يرتض ذلك مولانا سري الدين وقال: المراد بالحكمين المفاد بطريق استثناء الثاني من الأول وهو على تقدير الاتصال إجرام الامرأة والحكم المقصود بالإفادة وهو الحكم عليها بالإهلاك وبين اتحاد هذا الحكم المقصود مع الحكم المفاد بالاستثناء على تقدير الانقطاع بأنه على ذلك التقدير تكون إلا بمعنى لكن وإِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ خبرا له ثابتا كالإخراج منه فيكون الحكم الحاصل من الاستثناء منه بعينه هو الحكم المقصود بالإفادة ويقال على تقدير الاتصال والاعتراض إن الحكمين وإن اختلفا ظاهرا إلا أنه لما كانت الجملة المعترضة كالبيان لما يقتضيه الاستثناء الأول كان في المعنى كأنه هو وصار الإخراج منه، كالإخراج منه وهذا بخلاف ما إذا كان استئنافا فإنه يكون منقطعا ويكون جوابا لسؤال مقدر ولا يتم الجواب بدون الاستثناء ولا يخلو عن الاعتراض. وقال بعضهم في توجيه الاستثناء على هذا: إن هناك حكمين الإجرام والإنجاء فيجر الثاني الاستثناء إلى نفسه كيلا يلزم الفصل إلا إذا جعل اعتراضا فإن فيه سعة حتى يتخلل بين الصفة وموصوفها فيجوز أن يكون استثناء من آلَ لُوطٍ ولذا جوز الرضي أن يقال: أكرم القوم والنحاة بصريون إلا زيدا، ويرد عليه أن كون الحكم المفاد بالاستثناء غير الحكم المقصود بالإفادة باقيا بحاله ولا يحتاج الأمر إلى ما سمعت وهو كما سمعت، والذي ينساق إلى الذهن ما ذكره الزمخشري. وفي الحواشي الشهابية أنه الحق دراية ورواية. أما الأول فلأن الحكم المقصود بالإخراج منه هو الحكم المخرج منه الأول والثاني حكم طارئ من تأويل إلا بلكن وهو أمر تقديري، وأما الثاني فلما ذكر في التسهيل من أنه إذا تعدد الاستثناء فالحكم المخرج منه حكم الأول، ومما يدل عليه أنه لو كان الاستثناء مفرغا في هذه الصورة كما إذا قلت: لم يبق في الدار إلا اليعافير أبقاها الزمان إلا يعفور صيد منها فإنه يتعين إعرابه بحسب العامل الأول كقولك: ما عندي إلا عشرة إلا ثلاثة، ثم إن كلامه مبني على أمر ومانع معنوي لا على عدم جواز تخلل كلام منقطع بين المستثنى والمستثنى منه كما قيل وإن كان مانعا أيضا كما صرح به الرضي فتدبر انتهى، فافهم ذاك والله سبحانه يتولى هداك. وقرأ الاخوان «لمنجوهم» بالتخفيف.
قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ أي الباقين في عذاب الله تعالى كما أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أو الباقين مع الكفرة لتهلك معهم، وأصله من الغبرة وهي بقية اللبن في الضرع، وقرأ أبو بكر عن عاصم «قدرنا» بالتخفيف، وكسرت همزة «أن» لتعليق الفعل بوجود لام الابتداء التي لها صدر الكلام، وعلق مع أن التعليق في المشهور من خواص أفعال القلوب- قال الزمخشري- لتضمن فعل التقدير معنى العلم، ولذلك فسره العلماء تقدير الله تعالى أفعال العباد بالعلم، والمراد بتضمنه ذلك قيل المعنى المصطلح، وقيل: التجوز عن معناه الذي كأنه في ضمنه لأنه لا يقدر إلا ما يعلم ذكره المدقق توجيها لكلام الزمخشري، ثم قال: وليس ذلك من باب تضمين الفعل معنى فعل آخر في شيء حتى يعترض بأنه لا ينفع الزمخشري لبقاء معنى الفعلين. نعم هو على أصلهم من أنه كناية معلوم محقق لا مقدر مراد، وقال القاضي: جاز أن يقال: أجري مجرى القول لأن التقدير بمعنى القضاء قول، وأما أنا فلا أنكر على جار الله أن التعليق لتضمن معنى العلم وإنما أنكر نفي كونه مقدورا مرادا انتهى، وإنما أنكره لأنه اعتزال تأباه الظواهر، ومن هنا قال إبراهيم النخعي فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم: بيني وبين القدرية هذه الآية وتلاها.
والظاهر أن هذا من كلام الملائكة عليهم السلام وإنما أسندوا ذلك إلى أنفسهم وهو فعل الله سبحانه لما لهم من
310
الزلفى والاختصاص، وهذا كما يقول حاشية السلطان أمرنا ورسمنا بكذا والآمر هو في الحقيقة، وقيل: ولا يخفى بعده هو من كلام الله تعالى فلا يحتاج إلى تأويل قيل: وكذا لا يحتاج إليه إذا كان المراد بالتقدير العلم مجازا.
فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ شروع في بيان إهلاك المجرمين وتنجية آل لوط، ووضع الظاهر موضع الضمير للإيذان بأن مجيئهم لتحقيق ما أرسلوا به من ذلك، وليس المراد به ابتداء مجيئهم بل مطلق كينونتهم عند آل لوط فإن ما حكي عنه عليه السلام بقوله تعالى قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ إنما قاله عليه السلام بعد اللتيا والتي حين ضاقت عليه الحيل وعيت به العلل ولم يشاهد من المرسلين عند مقاساة الشدائد ومعاناة المكائد من قومه الذين يريدون بهم ما يريدون ما هو المعهود والمعتاد من الإعانة والإمداد فيما يأتي ويذر عند تجشمه في تخليصهم إنكارا لخذلانهم وتركهم نصره في مثل المضايقة المعترية له بسببهم حيث لم يكونوا عليهم السلام مباشرين معه لأسباب المدافعة والممانعة حتى ألجأته إلى أن قال لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود: ٨٠] حسبما فصل في سورة هود لا أنه عليه السلام قاله عند ابتداء ورودهم له على معنى أنكم قوم تنكركم نفسي وتنفر منكم فأخاف أن تطرقوني بشر كما قيل كيف لا وهم بجوابهم المحكي بقوله سبحانه قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ
أي بالعذاب الذي كنت تتوعدهم به فيمترون ويشكون ويكذبونك فيه، قد قشروا العصا وبينوا له عليه السلام جلية الأمر فأنى يعتريه بعد ذلك المساءة وضيق الذرع قاله العلامة أبو السعود وهو كلام معقول. وجعل بَلْ إضرابا عما حسبه عليه السلام من ترك النصرة له والمعنى ما خذلناك وما خلينا بينك وبينهم بل جئناك بما يدمرهم من العذاب الذي كانوا يكذبونك فيه حين تتوعدهم به.
وجعله غير واحد بعد أن فسر قوله عليه السلام: بما سمعت إضرابا عن موجب الخوف المذكور على معنى ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل جئناك بما فيه فرحك وسرورك وتشفيك من عدوك وهو العذاب الذي كنت تتوعدهم به ويكذبونك، ولم يقولوا- بعذابهم- مع حصول الغرض ليتضمن الكلام الاستئناس من وجهين تحقق عذابهم وتحقق صدقه عليه السلام ففيه تذكير لما كان يكابد منهم منهم من التكذيب. قيل: وقد كنى عليه السلام عن خوفه ونفاره بأنهم منكرون فقابلوه عليه السلام بكناية أحسن وأحسن. ولا يمتنع فيما أرى حمل الكلام على الكناية على ما نقلناه عن العلامة أيضا، ولعل تقديم هذه المقاولة على ما جرى بينه وبين أهل المدينة من المجادلة- كما قال- للمسارعة إلى ذكر بشارة لوط عليه السلام بإهلاك قومه المجرمين وتنجية آل عقيب ذكر بشارة إبراهيم عليه السلام بهما، وحيث كان ذلك مستدعيا لبيان كيفية النجاة وترتيب مباديها أشير إلى ذلك اجمالا ثم ذكر فعل القوم وما فعل بهم، ولم يبال بتغيير الترتيب الوقوعي ثقة بمراعاته في موضع آخر، ونسبة المجيب بالعذاب إليه عليه السلام مع أنه نازل بالقوم بطريق تفويض أمره إليه كأنهم جاؤوه به وفوضوا أمره إليه ليرسله عليهم حسبما كان يتوعدهم به فالباء للتعدية، وجوز أن تكون للملابسة، وجوز الوجهان في الباء في قوله سبحانه: وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ أي بالأمر المحقق المتيقن الذي لا مجال للامتراء والشك فيه وهو عذابهم، عبر عنه بذلك تنصيصا على نفي الامتراء عنه، وجوز أن يراد بِالْحَقِّ الإخبار بمجيء العذاب المذكور.
وقوله تعالى: وَإِنَّا لَصادِقُونَ تأكيد له أي أتيناك فيما قلنا بالخبر (١) الحق أي المطابق للواقع وإنا لصادقون في ذلك الخبر أو في كل خبر فيكون كالدليل على صدقهم فيه، وعلى الأول تأكيدا إثر تأكيد، ومن الناس من جوز
(١) ويجوز وصف الخبر بالحق وإن كان الأكثر وصفه بالصدق اه منه.
311
كون الباء للملابسة وجعل الجار والمجرور في موضع الحال من ضمير المفعول، ولا يخفى حاله.
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ شروع في ترتيب مبادئ النجاة أي اذهب بهم في الليل. وقرأ الحجازيان بالوصل على أنه من سرى لا من أسرى كما في قراءة الجمهور وهما بمعنى على ما ذهب إليه أبو عبيدة وهو سير الليل. وقال الليث: يقال:
أسرى في السير أول الليل وسرى في السير آخره، وروى صاحب الإقليد «فسر» من سار وحكاها ابن عطية وصاحب اللوامح عن اليماني وهو عام، وقيل: إنه مختص في السير بالنهار وليس مقلوبا من سرى.
بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ بطائفة منه أو من آخره، ومن ذلك قوله:
افتحي الباب وانظري في النجوم كم علينا من قطع ليل بهيم
وقيل: هو بعد ما مضى منه شيء صالح، وفي الكلام تأكيد أو تجريد على قراءة الجماعة على ما قيل، وعلى قراءة «سر» لا شيء من ذلك، وسيأتي لهذا تتمة إن شاء الله تعالى. وحكى منذر بن سعيد أن فرقة قرأت «بقطع» بفتح الطاء.
وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وكن على اثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على أحوالهم، ولعل إيثار الاتباع على السوق مع أنه المقصود بالأمر كما قيل للمبالغة في ذلك إذ السوق ربما يكون بالتقدم على بعض مع التأخر عن بعض ويلزمه عادة الغفلة عن حال المتأخر، والالتفات المنهي عنه بقوله تعالى: وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أي منك ومنهم أَحَدٌ فيرى ما وراء من الهول ما لا يطيقه أو فيصيبه العذاب فالالتفات على ظاهره، وجوز أن يكون المعنى لا ينصرف أحدكم ولا يتخلف لغرض فيصيبه ما يصيب المجرمين فالالتفات مجاز لأن الالتفات إلى الشيء يقتضي محبته وعدم مفارقته فيتخلف عنده، وذكر جار الله أنه لما بعث الله تعالى الهلاك على قومه ونجاه وأهله إجابة لدعوته عليهم وخرج مهاجرا لم يكن له بد من الاجتهاد في شكر الله تعالى وإدامة ذكره وتفريغ باله لذلك فأمر بأن يقدمهم لئلا يشتغل بم خلفه قلبه وليكون مطلعا عليهم وعلى أحوالهم فلا تفرط منهم التفاتة احتشاما منه ولا غيرها من الهفوات في تلك الحال المهولة المحذورة ولئلا يتخلف أحد منهم لغرض فيصيبه العذاب وليكون مسيره مسير الهارب الذي يقدم سربه ويفوت به، ونهوا عن الالتفات لئلا يروا ما ينزل بقومهم فيرقوا لهم وليوطنوا نفوسهم على المهاجرة ويطيبوها عن مساكنهم ويمضوا قدما غير ملتفتين إلى ما وراءهم كالذي يتحسر على مفارقة وطنه فلا يزال يلوي له أخادعه كما قال:
تلفت نحو الحي حتى وجدتني وجعت من الإصغاء ليتا وأخذعا
أو جعل النهي عن الالتفات كناية عن مواصلة السير وترك التواني والتوقف لأن من يتلفت لا بد له في ذلك من أدنى وقفة اه. قال المدقق: وخلاصة ذلك أن فائدة الأمر والنهي أن يهاجر عليه الصلاة والسلام على وجه يمكنه وأهله التشمر لذكر الله تعالى والتجرد لشكره وفيه مع ذلك إرشاد إلى ما هو أدخل في الحزم للسير وأدب المسافرة وما على الأمير والمأمور فيها وتنبيه على كيفية السفر الحقيقي وأنه أحق بقطع العوائق وتقديم العلائق وأحق وإشارة إلى أن الإقبال بالكلية على الله تعالى إخلاص فلله تعالى در التنزيل ولطائفه التي لا تحصى اه، وأنت تعلم أن كون الفائدة المهاجرة على وجه يمكن معه التشمر لذكر الله تعالى والتجرد لشكره غير متبادر كما لا يخفى، ولعله لذلك تركه بعض مختصري كتابه وإنما لم يستثن سبحانه إلا مرأة عن الإسراء أو الالتفات اكتفاء بما ذكر في موضع آخر وليس نحو ذلك بدعا في التنزيل وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ قيل: أي إلى حيث يأمركم الله تعالى المضي إليه وهو الشام على ما روي عن ابن عباس والسدي، وقيل: مصر وقيل: الأردن وقيل: موضع نجاة غير معين فعدى امْضُوا إلى حَيْثُ وتؤمرون إلى الضمير المحذوف على الاتساع.
312
واعترض بأن هذا مسلم في تعدية تؤمرون إلى حيث فإن صلته وهي الباء محذوفة إذ الأصل تؤمرون به أي بمضيه فأوصل بنفسه وأما تعدية امْضُوا إلى حيث فلا اتساع فيها بل هي على الأصل لكونه من الظروف المبهمة إلا أن يجعل ما ذكر تغليبا، وأجيب بأن تعلق حَيْثُ بالفعل هنا ليس تعلق الظرفية ليتجه تعدي الفعل إليه بنفسه لكونه من الظروف المبهمة فإنه مفعول به غير صريح نحو سرت إلى الكوفة، وقد نص النحاة على أنه قد يتصرف فيه فالمحذوف ليس في بل إلى فلا إشكال اه، والمذكور في كتب العربية أن الأصل في حيث أن تكون ظرف مكان وترد للزمان قليلا عند الأخفش كقوله:
للفتى عقل يعيش به... حيث تهدي ساقه قدمه
أراد حين تهدي، ولا تستعمل غالبا إلا ظرفا وندر جرها بالباء في قوله:
كان منا بحيث يفكى الإزار وبإلى في قوله:
إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم وبفي في قوله:
فأصبح في حيث التقينا شريدهم... طليق ومكتوف اليدين ومرعف
وقال ابن مالك: تصرفها نادر، ومن وقوعها مجردة عن الظرفية قوله:
إن حيث استقر من أنت راعيه... حمى فيه عزة وأمان
فحيث اسم إن، وقال أبو حيان: إنه غلط لأن كونها اسم إن فرع عن كونها تكون مبتدأ ولم يسمع في ذلك البتة بل اسم إن في البيت- حمى- وحيث- الخبر لأنه ظرف، والصحيح أنها لا تتصرف فلا تكون فاعلا ولا مفعولا به ولا مبتدأ اه، ونقل ابن هشام وقوعها مفعولا به عن الفارسي، وخرج عليه قوله تعالى: «الله أعلم حيث يجعل رسالته» وذكر أنها قد تخفض بمن وبغيرها وأنها لا تقع اسما لأن خلافا لابن مالك، وزعم الزجاج أنها اسم موصول، ومما ذكرنا يظهر حال التصرف فيها، واعترض ما ذكره المجيب بأنه وإن رفع به إشكال التعدي لكنه غير صحيح لأنهم قد صرحوا بأن الجمل المضاف إليها لا يعود منها ضمير إلى المضاف، قال نجم الأئمة: اعلم أن الظرف المضاف إلى الجملة لما كان ظرفا للمصدر الذي تضمنته الجملة لم يجز أن يعود من الجملة ضمير إليه فلا يقال: يوم قدم زيد فيه لأن الربط الذي يطلب حصوله حصل بإضافة الظرف إلى الجملة وجعله ظرفا لمضمونها فيكون كأنك قلت: يوم قدوم زيد فيه اه، و «حيث» على ما ذكروا تلزم في الغالب الإضافة إلى الجملة وكونها فعلية أكثر وإضافتها إلى مفرد قليلة نحو:
بيض المواضي حيث ليّ العمائم وحيث سهيل طالعا، ولا يقاس على ذلك عند غير الكسائي، وأقل من ذلك عدم إضافتها لفظا بأن تضاف إلى محذوفة معوضا عنها ما كقوله:
إذا ريدة من حيث ما نفحت له أي من حيث هبت وهي هنا مضافة للجملة بعدها فكيف يقدر الضمير في «يؤمرون» عائدا عليها، وقد نص بعضهم على أن حَيْثُ لا يصح عود الضمير عليها والذي في البحر أنها ظرف مكان مبهم تعدى إليها امْضُوا بنفسه كما تقول: قعدت حيث قعد زيد، والظاهر أن تعلق الفعل بها كما قال المجيب ليس تعلق الظرفية فلعل ذلك مبني على تضمين فعل صالح لأن يتعلق به الظرف المذكور كالحلول والتوطن وغيرهما.
313
ونقل عن بعضهم القول بأن حَيْثُ هنا ظرف زمان أي امضوا حين أمرتم، والمراد بهذا الأمر ما سبق من قوله تعالى: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ورد بأن الظاهر على هذا أمرتم دون تُؤْمَرُونَ مع أن فيه استعمال حَيْثُ في أقل معنييها ورودا من غير موجب، وظاهر كلام بعض الأجلة أن المضارع مستعمل في مقام الماضي على المعنى الذي أشير إليه أولا وهو يقتضي تقدم أمر بالمضي إلى مكان فإن كان فصيغة المضارع لاستحضار الصورة، وإيثار المضي إلى ذلك على ما قيل دون الوصول إليه واللحوق به للإيذان بأهمية النجاة ولمراعاة المناسبة بينه وبين ما سلف من الغابرين. وَقَضَيْنا أي أوحينا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ مقضيا مثبتا فقضى مضمن معنى أوحى ولذا عدى تعديته، وجعل المضمن حالا كما أشرنا إليه أحد الوجهين المشهورين في التضمين وذلك مبهم يفسره أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ على أنه بدل منه كما قال الأخفش، وجوز أبو البقاء كونه بدلا من الأمر إذا جعل بيانا لذلك لا بدلا، وعن الفراء أن ذاك على إسقاط الباء أي بأن دابر إلخ، ولعل المشار إليه بذلك الأمر عليه الأمر الذي تضمنه قوله تعالى:
وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال أي أوحينا ذلك الأمر المتعلق بنجاته ونجاة آله ملابسا لبيان حال قومه المجرمين من قطع دابرهم، وهو حسن إلا أنه لا يخلو عن بعد، وقرأ زيد بن علي، والأعمش رحمهم الله تعالى «إن» بكسر الهمزة وخرج على الاستئناف البياني كأنه قيل: ما ذلك الأمر؟ فقيل في جوابه: إن دابر إلخ أو على البدلية بناء على أن في الوحي معنى القول، قيل: ويؤيده قراءة عبد الله «وقلنا إن دابر» إلخ وهي قراءة تفسير لا قرآن لمخالفتها لسواد المصحف، والدابر الآخر وليس المراد قطع آخرهم بل استئصالهم حتى لا يبقى منهم أحد مُصْبِحِينَ أي داخلين في الصباح فإن الافعال يكون للدخول في الشيء نحو أتهم وأنجد. وهو من أصبح التامة حال من هؤُلاءِ وجاز بناء على أن المضاف بعضه، وقد قيل: بجواز مجيء الحال من المضاف إليه فيما كان المضاف كذلك، وليس العامل معنى الإضافة خلافا لبعضهم. وكونه اسم الإشارة توهم لأن الحال لم يقل أحد إن صاحبها يعمل فيها، وليس العامل معنى الإضافة خلافا لبعضهم، وكونه اسم الإشارة توهم لأن الحال لم يقل أحد إن صاحبها يعمل فيها، واختار أبو حيان كونه حالا من الضمير المستكن في مَقْطُوعٌ الراجع إلى دابِرَ وجاز ذلك مع الاختلاف افرادا وجمعا رعاية للمعنى لأن ذلك في معنى دابري هؤلاء فيتفق الحال وصاحبها جمعية.
وقدر الفراء وأبو عبيد إذا كانوا مصبحين كما تقول: أنت راكبا أحسن منك ماشيا. وتعقب بأنه إن كان تقدير معنى فصيح وإن كان بيان إعراب فلا ضرورة تدعو إلى ذلك كما لا يخفى وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ شروع في حكاية ما صدر من القوم عند وقوفهم على مكان الأضياف من الفعل وما ترتب عليه مما أشير إليه أولا على سبيل الإجمال، وهذا مقدم وقوعا على العلم بهلاكهم كما سمعت والواو لا تدل على الترتيب، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون هذا بعد العلم بذلك وما صدر منه عليه السلام من المحاورة معهم كان على جهة التكتم عنهم والإملاء لهم والتربص بهم، ولا يخفى أن كون المساءة وضيق الذرع من باب التكتم والإملاء أيضا مما يأبى عنه الطبع السليم، والمراد بالمدينة سذوم (١) وبأهلها أولئك القوم المجرمون، ولعل التعبير عنهم بذلك للإشارة إلى كثرتهم مع ما فيه من الإشارة إلى مزيد فظاعة فعلهم، فإن اللائق بأهل المدينة أن يكرموا الغرباء الواردين على مدينتهم ويحسنوا المعاملة معهم فهم عدلوا عن هذا اللائق مع من حسبوهم غرباء واردين إلى قصد الفاحشة إلى ما سبقهم بها أحد من العالمين وجاؤوا منزل لوط عليه
(١) بفتح السين على وزن فعول بفتح الفاء وذاله معجمة وروي إهماله، وقيل: إنه خطأ، وفي الصحاح والدال غير معجمة، وهو معرب ولذا قيل إنه بالإعجام بعد التعريب والإهمال قبله، وسميت هذه المدينة باسم ملك من بقايا اليونان وكان ظلوما غشوما وكان بمدينة سرمين من أرض قنسرين قاله الطبري اه منه.
314
السلام يَسْتَبْشِرُونَ مستبشرين مسرورين إذ قيل لهم: إن عنده عليه السلام ضيوفا مردا في غاية الحسن والجمال فطمعوا قاتلهم الله تعالى فيهم قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي الضيف كما قدمنا في الأصل مصدر ضافه فيطلق على الواحد والجمع ولذا صح جعله خبرا- لهؤلاء-، وإطلاقه على الملائكة عليهم السلام بحسب اعتقاده عليه السلام لكونهم في زي الضيف، وقيل: بحسب اعتقادهم لذلك، والتأكيد ليس لإنكارهم ذلك بل لتحقيق اتصالهم به وإظهار اعتنائه بهم عليهم السلام وتشميره لمراعاة حقوقهم وحمايتهم عن السوء، ولذلك قال: فَلا تَفْضَحُونِ أي عندهم بأن تتعرضوا لهم بسوء فيعلموا أنه ليس لي عندكم قدر أولا تفضحوني بفضيحة ضيفي فإن من أسيء إلى ضيفه فقد أسيء إليه، يقال: فضحته فضحا وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه به العار، ويقال: فضح الصبح إذا تبين للناس وَاتَّقُوا اللَّهَ في مباشرتكم لما يسوءني وَلا تُخْزُونِ أي لا تذلوني ولا تهينوني بالتعرض بالسوء لمن أجرتهم فهو من الخزي بمعنى الذل والهوان، وحيث كان التعرض لهم بعد أن نهاهم عنه بقوله: فَلا تَفْضَحُونِ أكثر تأثيرا في جانبه عليه السلام وأجلب للعار إليه إذ التعرض للجار قبل العلم ربما يتسامح فيه وأما بعد العلم والمناصبة بحمايته والذب عنه فذاك أعظم العار، عبر عليه السلام عما يعتريه من جهتهم بعد النهي المذكور بسبب لجاجهم ومجاهرتهم بمخالفته بالخزي وأمرهم بتقوى الله تعالى في ذلك، وجوز أن يكون ذلك من الخزاية وهي الحياء أي لا تجعلوني أستحيي من الناس بتعرضكم لهم بالسوء، واستظهر بعضهم الأول، وإنما لم يصرح عليه السلام بالنهي عن نفس تلك الفاحشة قيل: لأنه كان يعرف أنه لا يفيدهم ذلك، وقيل: رعاية لمزيد الأدب مع ضيفه حيث لم يصرح بما يثقل على سمعهم وتنفر عنه طباعهم ويرى الحر الموت ألذ طعما منه، وقال بعض الأجلة: المراد باتقوا الله أمرهم بتقواه سبحانه عن ارتكاب الفاحشة. وتعقب بأنه لا يساعد ذلك توسيطه بين النهيين المتعلقين بنفسه عليه السلام. وكذلك قوله تعالى: قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ أي عن إجارة أحد منهم وحيلولتك بيننا وبينه أو عن ضيافة أحد منهم، والهمزة للإنكار والواو على ما قال غير واحد للعطف على مقدر أي ألم نتقدم إليك ولم ننهك عن ذلك فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد من الغرباء بالسوء وكان عليه السلام ينهاهم عن ذلك بقدر وسعه ويحول بينهم وبين من يعرضون له وكانوا قد نهوه عن تعاطي مثل ذلك فكأنهم قالوا: ما ذكرت من الفضيحة والخزي إنما جاءك من قبلك لا من قبلنا إذ لولا تعرضك لما تتصدى له لما اعتراك، ولما رآهم لا يقلعون عما هم عليه قالَ هؤُلاءِ بَناتِي يعني نساء القوم أو بناته حقيقة. وقد تقدم الكلام في ذلك، واسم الإشارة مبتدأ وبَناتِي خبره، وفي الكلام حذف أي فتزوجوهن، وجوز أن يكون بَناتِي بدلا أو بيانا والخبر محذوف أي أطهر لكم كما في الآية الأخرى، وأن يكون هؤُلاءِ في موضع نصب بفعل محذوف أي تزوجوا بناتي، والمتبادر الأول. إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ شك في قبولهم لقوله فكأنه قال: إن فعلتم ما أقول لكم وما أظنكم تفعلون، وقيل: إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله تعالى دون ما حرم، والوجه الأول كما في الكشف أوجه.
وفي الحواشي الشهابية أنه أنسب بالشك، ويفهم صنيع بعضهم ترجيح الثاني قيل لتبادره من الفعل، وعلى الوجهين المفعول مقدر، وجوز تنزيل الوصف منزلة اللازم، وجواب الشرط محذوف أي فهو خير لكم أو فاقضوا ذلك لَعَمْرُكَ قسم من الله تعالى بعمر نبينا ﷺ على ما عليه جمهور المفسرين.
وأخرج البيهقي في الدلائل وأبو نعيم وابن مردويه وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: ما خلق الله تعالى وما ذرأ وما برأ نفسا أكرم عليه من محمد ﷺ وما سمعت الله سبحانه أقسم بحياة أحد غيره قال تعالى:
لَعَمْرُكَ إلخ، وقيل: هو قسم من الملائكة عليهم السلام بعمر لوط عليه السلام، وهو مع مخالفته للمأثور محتاج لتقدير القول أي قالت الملائكة للوط عليهم السلام: لَعَمْرُكَ إلخ، وهو خلاف الأصل وإن كان سياق القصة شاهدا له وقرينة عليه، فلا يرد ما قاله صاحب الفرائد من أنه تقدير من غير ضرورة ولو ارتكب مثله لأمكن إخراج كل نص عن
315
معناه بتقدير شيء فيرتفع الوثوق بمعاني النص، وأيّا ما كان- فعمرك- مبتدأ محذوف الخبر وجوبا أي قسمي أو يميني أو نحو ذلك، والعمر بالفتح والضم البقاء والحياة إلا أنهم التزموا الفتح في القسم لكثرة دوره فناسب التخفيف وإذا دخلته اللام التزم فيه الفتح وحذف الخبر في القسم، وبدون اللام يجوز فيه النصب والرفع وهو صريح، وهو مصدر مضاف للفاعل أو المفعول، وسمع فيه دخول الباء وذكر الخبر قليلا، وذكر أنه إذا تجرد من اللام لا يتعين للقسم، ونقل ذلك عن الجوهري، وقال ابن يعيش: لا يستعمل إلا فيه أيضا وجاء شاذا «عملي» وعدوه من القلب، وقال أبو الهيثم:
معنى لَعَمْرُكَ لدينك الذي تعمر ويفسر بالعبادة، وأنشد:
أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان
أراد عبادتك الله تعالى فإنه يقال- على ما نقل عن ابن الأعرابي- عمرت ربي أي عبدته، وفلان عامر لربه أي عابد، وتركت فلانا يعمر ربه أي يعبده وهو غريب. وفي البيت توجيهات فقال سيبويه فيه: الأصل عمرتك الله تعالى تعميرا فحذف الزوائد من المصدر وأقيم مقام الفعل مضافا إلى مفعوله الأول، ومعنى عمرتك أعطيتك عمرا بأن سألت الله تعالى أن يعمرك فلما ضمن عمر معنى السؤال تعدى إلى المفعول الثاني- أعني الاسم الجليل- فهو على هذا منصوب، وأجاز الأخفش رفعه ليكون فاعلا أي عمرك الله سبحانه تعميرا، وجوز الرضي أن يكون- عمرك- فيه منصوبا على المفعول به لفعل محذوف أي أسأل الله تعالى عمرك وأسأل متعد إلى مفعولين، أو يكون المعنى أسألك بحق تعميرك الله تعالى أي اعتقادك بقاءه وأبديته تعالى فيكون انتصابه بحذف حرف القسم نحو الله لأفعلن، وهو مصدر محذوف الزوائد مضاف إلى الفاعل والاسم الجليل مفعول به له، ولا بأس بإضافة- عمر- إليه تعالى، وقد جاء مضافا كذلك قال الشاعر:
إذا رضيت علىّ بنو قشير لعمر الله أعجبني رضاها
وقال الأعشى:
ولعمر من جعل الشهور علامة منها تبين نقصها وكمالها
وزعم بعضهم أنه لا يجوز أن يقال: لعمر الله تعالى لأنه سبحانه أزلي أبدي، وكأنه توهم أن العمر لا يقال إلا فيما له انقطاع وليس كذلك، وجاء في كلامهم إضافته لضمير المتكلم، قال النابغة لعمري وما عمري عليّ بهين.
وكره النخعي ذلك لأنه حلف بحياة المقسم، ولا أعرف وجه التخصيص فإن في لَعَمْرُكَ خطابا لشخص حلفا بحياة المخاطب وحكم الحلف بغير الله تعالى مقرر على أتم وجه في محله.
وقرأ ابن عباس رضي الله تعالى عنهما و «عمرك» بدون لام إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ أي لفي غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين خطئهم والصواب الذي يشار به إليهم يَعْمَهُونَ يتحيرون فكيف يسمعون النصح، وأصل العمه عمى البصيرة وهو مورث للحيرة وبهذا الاعتبار فسر بذلك، والضمائر لأهل المدينة، والتعبير بالمضارع بناء على المأثور في الخطاب لحكاية الحال الماضية، وقيل: ونسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما الضمائر لقريش، واستبعده ابن عطية وغيره لعدم مناسبة السباق والسياق، ومن هنا قيل: الجملة اعتراض وجملة يَعْمَهُونَ حال من الضمير في الجار والمجرور، وجوز أن تكون حالا من الضمير المجرور في سَكْرَتِهِمْ والعامل السكرة أو معنى الإضافة، ولا يخفاك حاله، وقرأ الأشهب «سكرتهم» بضم السين، وابن أبي عبلة «سكراتهم» بالجمع، والأعمش «سكرهم» بغير تاء، وأبو عمرو في رواية الجهضمي «أنهم» بفتح الهمزة، قال أبو البقاء: وذلك على
316
تقدير زيادة اللام، ومثله قراءة سعيد بن جبير «ألا إنهم ليأكلون الطعام (١) » بالفتح بناء على أن لام الابتداء إنما تصحب إن المكسورة الهمزة وكأن التقدير على هذه القراءة لعمرك قسمي على أنهم فافهم.
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ يعني صيحة هائلة، والتعريف للجنس، وقيل: صيحة جبريل عليه السلام فالتعريف للعهد وقال الإمام: ليس في الآية دلالة على هذا التعيين فإن ثبت بدليل قوي قيل به.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في الآية: الصيحة مثل الصاعقة فكل شيء أهلك به قوم فهو صاعقة وصيحة مُشْرِقِينَ داخلين في وقت شروق الشمس، قال المدقق: والجمع بين- مصبحين ومشرقين- باعتبار الابتداء والانتهاء بأن يكون ابتداء العذاب عند الصبح وانتهاؤه عند الشروق وأخذ الصيحة قهرها إياهم وتمكنها منهم، ومنه الأخيذ الأسير، ولك أن تقول: مَقْطُوعٌ بمعنى يقطع عما قريب انتهى، وقيل: مُشْرِقِينَ حال مقدرة فَجَعَلْنا عالِيَها أي المدينة كما هو الظاهر. وجوز رجوعه إلى القرى وإن لم يسبق ذكرها والمراد بعاليها وجه الأرض وما عليه وهو المفعول الأول لجعل وسافِلَها الثاني له، وقد تقدم الكلام في ذلك وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ في تضاعيف ذلك حِجارَةً كائنة مِنْ سِجِّيلٍ من طين متحجر وهو في المشهور معرب سنك كل، وذهب أبو عبيد وطائفة إلى أنه عربي وأنه يقال فيه «سجين» بالنون واحتجوا بقول تميم بن مقبل:
ضربا تواصى به الأبطال سجينا وهو كما ترى. وسئل الأصمعي عن معناه في البيت فقال: لا أفسره إذ كنت أسمع وأنا حدث- سخينا- بالخاء المعجمة أي سخنا وسجين بالجيم أيضا، وقيل: هو مأخوذ من السجل وهو الكتاب أي من طين كتب عليه أسماؤهم أو كتب الله تعذيبهم به، وقد مر الكلام في ذلك أيضا.
إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من القصة لَآياتٍ لعلامات يستدل بها على حقيقة الحق لِلْمُتَوَسِّمِينَ قال ابن عباس: للناظرين،
وقال جعفر بن محمد رضي الله تعالى عنهما: للمتفرسين،
وقال مجاهد: للمعتبرين، وقيل غير ذلك وهي معان متقاربة. وفي البحر التوسم تفعل من الوسم وهو العلامة التي يستدل بها على مطلوب، وقال ثعلب:
التوسم النظر من القرن إلى القدم واستقصاء وجوه التعريف، قال الشاعر:
أو كلما وردت عكاظ قبيلة بعثوا إليّ عريفهم يتوسم
وذكر أن أصله التثبت والتفكر مأخوذ من الوسم وهو التأثير بحديدة محماة في جلد البعير أو غيره، ويقال:
توسمت فيه خيرا أي ظهرت علاماته لي منه، قال عبد الله بن رواحة في رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إني توسمت فيك الخير أعرفه والله يعلم أني ثابت البصر
والجار والمجرور في موضع الصفة لَآياتٍ أو متعلق به، وهذه الآية- على ما قال الجلال السيوطي- أصل في الفراسة،
فقد أخرج الترمذي من حديث أبي سعيد مرفوعا «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى»
ثم قرأ الآية وكان بعض المالكية يحكم بالفراسة في الأحكام جريا على طريق إياس بن معاوية وَإِنَّها أي المدينة المهلكة وقيل القرى لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ أي طريق ثابت يسلكه الناس ويرون آثارها وقيل: الضمير للآيات، وقيل: للحجارة، وقيل:
للصيحة أي وإن الصيحة لبمرصد لمن يعمل عملهم لقوله تعالى: وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ [هود: ٨٣] ومُقِيمٍ قيل معلوم، وقيل: معتد دائم السلوك إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من المدينة أو القرى أو في كونها بمرأى من
(١) سورة الفرقان، الآية: ٢٠.
317
الناس يشاهدونها عند مرورهم عليها لَآيَةً عظيمة لِلْمُؤْمِنِينَ بالله تعالى ورسوله ﷺ فإنهم الذين يعرفون أن سوء صنيعهم هو الذي ترك ديارهم بلاقع، وأما غيرهم فيحملون ذلك على الاتفاق أو الأوضاع الفلكية، وافراد الآية بعد جمعها فيما سبق قيل لما أن المشاهد هاهنا بقية الآثار لا كل القصة كما فيما سلف، وقيل: للإشارة إلى أن المؤمنين يكفيهم آية واحدة وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ هم قوم شعيب عليه السلام والأيكة في الأصل الشجرة الملتفة واحدة الأيك، قال الشاعر:
تجلو بقادمتي حمامة أيكة بردا أسف لثاته بالإثمد
والمراد بها غيضة أي بقعة كثيفة الأشجار بناء على ما روي أن هؤلاء القوم كانوا يسكنون الغيضة وعامة شجرها الدوم- وقيل السدر- فبعث الله تعالى إليهم شعيبا فكذبوه فأهلكوا بما ستسمعه إن شاء الله تعالى، وقيل: بلدة كانوا يسكنونها، وإطلاقها على ما ذكر إما بطريق النقل أو تسمية المحل باسم الحال فيه ثم غلب عليه حتى صار علما، وأيد القول بالعلمية أنه قرئ في [الشعراء: ١٧٦، وص: ١٣] «ليكة» ممنوع الصرف، وإِنْ عند البصريين هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف واللام هي الفارقة، وعند الفراء هي النافية ولا اسم لها واللام بمعنى إلا، والمعول عليه الأول أي وأن الشأن كان أولئك القوم متجاوزين عن الحد فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ جازيناهم على جنايتهم السابقة بالعذاب والضمير لأصحاب الأيكة.
وزعم الطبرسي أنه لهم ولقوم لوط وليس بذاك. روى غير واحد عن قتادة قال: ذكر لنا أنه جل شأنه سلط عليهم الحر سبعة أيام لا يظلهم منه ظل ولا يمنعهم منه شيء ثم بعث سبحانه عليهم سحابة فجعلوا يلتمسون الروح منها فبعث عليهم منها نارا فأكلتهم فهو عذاب يوم الظلة وَإِنَّهُما أي محلي قوم لوط وقوم شعيب عليهما السلام وإلى ذلك ذهب الجمهور، وقيل: الضمير للأيكة ومدين، والثاني وإن لم يذكر هنا لكن ذكر الأول يدل عليه لإرسال شعيب عليه الصلاة والسلام إلى أهلها.
فقد أخرج ابن عساكر وغيره عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله ﷺ إن مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله تعالى إليهم شعيبا عليه السلام»
ولا يخلو عن بعد بل قيل: إن القول الأول كذلك أيضا لأن الأخبار عن مدينة قوم لوط عليه السلام بأنها لَبِإِمامٍ مُبِينٍ أي لبطريق واضح يتكرر مع الاخبار عنها آنفا، بأنها لبسبيل مقيم على ما عليه أكثر المفسرين، وجمع غيرها معها في الأخبار لا يدفع التكرار بالنسبة إليها وكأنه لهذا قال بعضهم: الضمير يعود على لوط وشعيب عليهما السلام أي وإنهما لبطريق من الحق واضح.
وقال الجبائي: الضمير لخبر هلاك قوم لوط وخبر هلاك قوم شعيب، والإمام اسم لما يؤتم به وقد سمي به الطريق واللوح المحفوظ ومطلق اللوح المعد للقراءة وزيج البناء ويراد به على هذا اللوح المحفوظ.
وقال مؤرج الإمام: الكتاب في لغة حمير، والاخبار عنهما بأنهما في اللوح المحفوظ إشارة إلى سبق حكمه تعالى بهلاك القومين لما علمه سبحانه من سوء أفعالهم وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ يعني ثمود الْمُرْسَلِينَ حين كذبوا رسولهم صالحا عليه السلام، فإن من كذب واحدا من رسل الله سبحانه فكأنما كذب الجميع لاتفاق كلمتهم على التوحيد والأصول التي لا تختلف باختلاف الأمم والأعصار، وقيل: المراد بالمرسلين صالح عليه السلام ومن معه من المؤمنين على التغليب وجعل الأتباع مرسلين كما قيل: الخبيبون لخبيب بن الزبير وأصحابه، وقال الشاعر:
قدني من نصر الخبيبين قدي
318
والقول بأنه أنزل كل من الناقة وسقبها منزلة رسول لأنه كالداعي لهم إلى اتباع صالح عليه السلام فجمع بهذا الاعتبار لا اعتبار له أصلا فيما أرى.
والحجر واد بين الحجاز والشام كانوا يسكنونه، قال الراغب: يسمى ما أحيط به الحجارة حجرا وبه سمي حجر الكعبة وديار ثمود، وقد نهى ﷺ أصحابه رضي الله تعالى عنهم كما في صحيح البخاري وغيره عن الدخول على هؤلاء القوم إلا أن يكونوا باكين حذرا من أن يصيبهم مثل ما أصابهم.
وجاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن الناس عام غزوة تبوك استقوا من مياه الآبار التي كانت تشرب منها ثمود وعجنوا منها ونصبوا القدور باللحم فأمرهم النبي ﷺ بإهراق القدور وأن يعلفوا الإبل العجين وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت ترد الناقة وَآتَيْناهُمْ آياتِنا من الناقة وسقبها وشربها ودرها.
وذكر بعضهم أن في الناقة خمس آيات خروجها من الصخرة. ودنو نتاجها عند خروجها. وعظمها حتى لم تشبهها ناقة. وكثرة لبنها حتى يكفيهم جميعا، وقيل: كانت لنبيهم عليه السلام معجزات غير ما ذكر ولا يضرنا أنها لم تذكر على التفصيل، وهو على الإجمال ليس بشيء، وقيل: المراد بالآيات الأدلة العقلية المنصوبة لهم الدالة عليه سبحانه المبثوثة في الأنفس والآفاق وفيه بعد، وقيل: آيات الكتاب المنزل على نبيهم عليه السلام.
وأورد عليه أنه عليه السلام ليس له كتاب مأثور إلا أن يقال: الكتاب لا يلزم أن ينزل عليه حقيقة بل يكفي كونه معه مأمورا بالأخذ بما فيه ويكون ذلك في حكم نزوله عليه، وقد يقال: بتكرار النزول حقيقة ولا يخفى قوة الإيراد، وقيل: يجوز أن يراد بالآيات ما يشمل ما بلغهم من آيات الرسل عليهم السلام، ومتى صح أن يقال: إن تكذيب واحد منهم في حكم تكذيب الكل فلم لم يصح أن يقال: إن ما يأتي به واحد من الآيات كأنه أتى به الكل وفيه نظر، وبالجملة الظاهر هو التفسير الأول فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ غير مقبلين على العمل بما تقتضيه، وتقديم المعمول لرعاية تناسب رؤوس الآي.
وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ من نزول العذاب بهم، وقيل: من الموت لاغترارهم بطول الأعمار، وقيل: من الانعدام ونقب اللصوص وتحزيب الأعداء لمزيد وثاقتها، وقال ابن عطية: أصح ما يظهر لي في ذلك أنهم كانوا يأمنون عواقب الآخرة فكانوا لا يعملون بحسبها بل يعملون بحسب الأمن، وتفريع قوله تعالى:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ أظهر في تأييد الأول ووقع في سورة [الأعراف: ٧٨، ٩١، ١٥٥] فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ووفق بينهما بأن الصيحة تفضي إلى الرجفة أو هي مجاز عنها، واستشكل التقييد- بمصبحين- مع ما روي في ترتيب أحوالهم بعد أن أوعدهم عليه السلام بنزول العذاب من أنه لما كانت ضحوة اليوم الرابع تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت لها قلوبهم، فإن هذا يقتضي أن أخذ الصيحة إياهم بعد الضحوة لا مصبحين. وأجيب بأنه إن صحت الرواية يحمل مُصْبِحِينَ على كون الصيحة في النهار دون الليل أو أطلق الصبح على زمان ممتد إلى الضحوة وقيل: يجمع بين الآية والخبر بنحو ما جمع به بين الآيتين آنفا، وفيه تأمل فتأمل.
فَما أَغْنى عَنْهُمْ ولم يدفع عنهم ما نزل بهم ما كانُوا يَكْسِبُونَ من نحت البيوت الوثيقة أو منه ومن جمع الأموال والعدد بل خروا جاثمين هلكى- فما- الأولى نافية وتحتمل الاستفهام وما الثانية يحتمل أن تكون مصدرية وأن تكون موصولة واستظهره أبو حيان والعائد عليه محذوف أي الذي كانوا يكسبونه.
319
وفي الإرشاد أن الفاء لترتيب عدم الإغناء الخاص بوقت نزول العذاب حسبما كانوا يرجونه لا عدم الإغناء المطلق فإنه أمر مستمر، وفي الآية من التهم بهم ما لا يخفى.
وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا خلقا متلبسا بالحق والحكمة بحيث لا يلائم استمرار الفساد واستقرار الشرور، وقد اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء دفعا لفسادهم وإرشادا لمن بقي إلى الصلاح وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ولا بد فننتقم أيضا من أمثال هؤلاء، فالجملة الأولى إشارة إلى عذابهم الدنيوي والثانية إلى عقابهم الأخروي، وفي كلتا الجملتين من تسليته ﷺ ما لا يخفى مع تضمن الأولى الإشارة إلى وجه إهلاك أولئك بأنه أمر اقتضته الحكمة، وفي التفسير الكبير في وجه النظم أنه تعالى لما ذكر إهلاك الكفار فكأنه قيل: كيف يليق ذلك بالرحيم؟ فأجاب سبحانه بأنه إنما خلقت الخلق ليكونوا مشتغلين بالعبادة والطاعة فإذا تركوها وأعرضوا عنها وجب في الحكمة إهلاكهم وتطهير الأرض.
وتعقبه المفسر بأنه إنما يستقيم على قول المعتزلة، ثم ذكر وجها آخر لذلك وهو أن المقصود من هذه القصة تصبير النبي ﷺ على سفاهة قومه فإنه عليه الصلاة والسلام إذا سمع أن الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياءهم عليهم السلام بمثل هذه المعاملات الفاسدة هان عليه عليه الصلاة والسلام تحمل سفاهة قومه، ثم إنه تعالى لما بين إنزال العذاب على الأمم السالفة المكذبة قال له ﷺ إن الساعة لآتية وإن الله تعالى ينتقم لك فيها من أعدائك ويجاريك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم فإنه سبحانه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالعدل والإنصاف فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك، وإلى جواز تفسير الحق بالعدل ذهب شيخ الإسلام وأشار إلى أن الباء للسببية وإن المعنى ما خلقنا ذلك إلا بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال، وذكر أنه ينبئ عن ذلك الجملة الثانية ولعل جعل كل جملة إشارة إلى شيء حسبما أشرنا إليه أولى.
واستدل بالأولى بعض الأشاعرة على أن أفعال العباد مطلقا مخلوقة له تعالى لدخولها فيما بينهما، وزعم بعض المعتزلة الرد بها على القائلين بذلك لأن المعاصي من الأفعال باطلة فإذا كانت مخلوقة له سبحانه لكانت مخلوقة بالحق والباطل لا يكون مخلوقا بالحق، وهو كلام خال عن التحقيق فَاصْفَحِ أي أعرض عن الكفرة المكذبين الصَّفْحَ الْجَمِيلَ وهو ما خلا عن عتاب على ما روى غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفسر الراغب الصَّفْحَ نفسه بترك التثريب وذكر أنه أبلغ من العفو وفي أمره ﷺ بذلك إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام قادر على الانتقام منهم فكأنه قيل: أعرض عنهم وتحمل أذيتهم ولا تعجل بالانتقام منهم وعاملهم معاملة الصفوح الحليم، وحاصل ذلك أمره ﷺ بمخالفتهم بخلق رضي وحلم وتأن بأن ينذرهم ويدعوهم إلى الله تعالى قبل القتال ثم يقاتلهم، وعلى هذا فالآية غير منسوخة، وعن ابن عباس وقتادة ومجاهد والضحاك أنها منسوخة بآية السيف، وكأنهم ذهبوا إلى أن المراد بها مداراتهم وترك قتالهم، وآثر هذا الأخير العلامة الطيبي قال: ليكون خاتمة القصص جامعة للتسلي والأمر بالمداراة وتخلصا إلى مشرع آخر وهو قوله تعالى الآتي: وَلَقَدْ إلى آخره ففيه حديث الإعراض عن زهرة الحياة الدنيا وهو من أعظم أنواع الضر لكن ذكر في الكشف أن الذي يقتضيه النظم أن قوله تعالى: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ إلى آخره جمع بين حاشيتي مفصل الآيات البرهانية والامتنانية ملخص منها مع زيادة مبالغة من الحصر ليقيه المحتج به إلى المعاندين ويتسلى به عن استهزاء الجاحدين وتمهيد لتطرية ذكر المقصود من كون الذكر كاملا في شأن الهداية وافيا بكل ما علق به من الغرض القائم له بحق الرعاية، ثم قال: ومنه يظهر أن الآية عطف على وَما خَلَقْنَا إلخ عطف الخاص على العام إشارة إلى أن أتم النعم وأحق دليل وأحق ما يتشفى به عن
320
الغليل وإن من أوتيه لا يضره فقد شيء سواه ومن طلب الهوى في غيره ترك وهواه اه فتدبر إِنَّ رَبَّكَ الذي يبلغك إلى غاية الكمال هُوَ الْخَلَّاقُ لك ولهم ولسائر الأشياء على الإطلاق الْعَلِيمُ بأحوالك وأحوالهم وبكل شيء فلا يخفى عليه جل شأنه شيء مما جرى بينك وبينهم فحقيق أن تكل الأمور إليه ليحكم بينكم أو هو الذي خلقكم وعلم تفاصيل أحوالكم وقد علم سبحانه أن الصفح الجميل اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح، فهو تعليل للأمر بالصفح على التقديرين على ما قيل، وقال بعض المدققين: إنه على الأخير تذييل للأمر المذكور وعلى الأول لقوله سبحانه: إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والجحدري والأعمش ومالك بن دينار «هو الخالق» وكذا في مصحف أبي. وعثمان رضي الله تعالى عنهما وهو صالح للقليل والكثير والْخَلَّاقُ مختص بالكثير والْعَلِيمُ أوفق به، وهو على ما قيل أنسب بما تقدم من قوله سبحانه: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً أي سبع آيات وهي الفاتحة وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود وأبي جعفر وأبي عبد الله والحسن ومجاهد وأبي العالية والضحاك وابن جبير وقتادة رضي الله تعالى عنهم.
وجاء ذلك مرفوعا أيضا إلى رسول الله ﷺ من حديث أبيّ وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما، وقيل: سبع سور وهي الطول وروي ذلك أيضا عن عمر وابن عباس وابن مسعود وابن جبير ومجاهد وهي في رواية: البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة سورة واحدة، وفي أخرى عد براءة دون الأنفال السابعة، وفي أخرى عد يونس دونهما، وفي أخرى عد الكهف، وقيل: السبع آل حم، وقيل: سبع صحف من الصحف النازلة على الأنبياء عليهم السلام، على معنى أنه عليه الصلاة والسلام أوتي ما يتضمن سبعا منها وإن لم يكن بلفظها وهي الأسباع، وعن زياد بن أبي مريم هي أمور سبع: الأمر والنهي والبشارة والانذار وضرب الأمثال وتعداد النعم وأخبار الأمم، وأصح الأقوال الأول. وقد أخرجه البخاري وأبو داود والترمذي ورفعوه، وقال أبو حيان: إنه لا ينبغي العدول عنه بل لا يجوز ذلك. وأورد على القول بأنها السبع الطول أن هذه السورة مكية وتلك السبع مدنية، وروي هذا عن الربيع، فقد أخرج البيهقي في الشعب وابن جرير وغيرهما أنه قيل له: إنهم يقولون: هي السبع الطول فقال: لقد أنزلت هذه الآية وما نزل من الطول شيء وأجيب بأن المراد بإيتائها إنزالها إلى السماء الدنيا ولا فرق بين المدني والمكي فيها. واعترض بأن ظاهر آتَيْناكَ يأباه، وقيل: إنه تنزيل للمتوقع منزلة الواقع في الامتنان ومثله كثير مِنَ الْمَثانِي بيان للسبع وهو- على ما قال في موضع من الكشاف- جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر ويجوز أن يكون مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير والإعادة كما في قوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك: ٤] أي كرة بعد كرة ونحو قولهم لبيك وسعديك وأراد كما في الكشف أنه جمع لمعنى التكرير والإعادة كما ثنى لذلك لكن استعمال المثنى في هذا المعنى أكثر لأنه أول مراتب التكرار ويحتمل أن يريد أن مثنى بمعنى التكرير والإعادة كما أن صريح المثنى كذلك في نحو كَرَّتَيْنِ ثم جمع مبالغة وقوله من التثنية إيضاح للمعنى لأنه من الثني بمعنى التثنية والأول أرجح نظرا إلى ظاهر اللفظ والثاني نظرا إلى الأصل وقال في موضع آخر: إنه من التثنية أو الثناء والواحدة مثناة أو مثنية بفتح الميم على ما في أكثر النسخ وإلا قيس على ما قال المدقق بحسب اللفظ أن ذلك مشتق من الثناء أو الثنى جمع مثنى مفعل منهما إما بمعنى المصدر جمع لما صير صفة أو بمعنى المكان في الأصل نقل إلى الوصف مبالغة نحو أرض مأسدة لأن محل الثناء يقع على سبيل المجاز على الثاني والمثنى عليه وكذلك محل الثني ولا بعد في باب العدل أن يكون منقولا عنه لا مخترعا ابتداء، وإطلاق ذلك على الفاتحة لأنها تكرر قراءتها في الصلاة وروي هذا عن الحسن وأبي عبد الله رحمهما الله تعالى وعن الزجاج لأنها تثنى بما يقرأ بعدها من القرآن وقيل ونسب إلى الحسن أيضا: لأنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة. وتعقب بأنها كانت مسماة بهذا الاسم قبل نزولها الثاني إذ السورة كما سمعت غير مرة مكية وقيل: لأن
321
كثيرا من ألفاظها مكرر كالرحمن والرحيم وإياك والصراط وعليهم، وقيل: لاشتمالها على الثناء على الله تعالى والقولان كما ترى، وقيل ونسب إلى ابن عباس ومجاهد أن إطلاق المثاني على الفاتحة لأن الله سبحانه استثناها وادخرها لهذه الأمة فلم يعطها لغيرهم، وروي هذا الادخار في غيرها أيضا وفي غيرها أن ذلك لأنه تكرر قراءته وألفاظه أو قصصه ومواعظه أو لما فيه من الثناء عليه تعالى بما هو أهله جل شأنه أو لأنه مثنى عليه بالبلاغة والإعجاز أو يثنى بذلك على المتكلم به، وعن أبي زيد البلخي أن إطلاق المثاني على ذلك لأنه يثني أهل الشر عن شرهم فتأمل، وجوز أن يراد بالمثاني القرآن كله وأخرج ذلك ابن المنذر وغيره عن أبي مالك وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام في توجيه إطلاقها عليه مع الاختلاف في الإفراد والجمع، وأن يراد بها كتب الله تعالى كلها- فمن- للتبعيض وعلى الأول للبيان وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ بالنصب
عطف على سبعا فإن أريد بها الآيات أو السور أو الأمور السبع التي رويت عن زياد فهو من عطف الكل على الجزء بأن يراد بالقرآن مجموع ما بين الدفتين أو من عطف العام على الخاص بأن يراد به المعنى المشترك بين الكل والبعض وفيه دلالة على امتياز الخاص حتى كأنه غيره كما في عكسه وإن أريد بها الأسباع فهو من عطف أحد الوصفين على الآخر كما في قوله: إلى الملك القرم وابن الهمام. البيت، بناء على أن القرآن في نفسه الأسباع أي ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم، واختار بعضهم تفسير الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ كالسبع المثاني بالفاتحة لما
أخرجه البخاري عن أبي سعيد بن المعلى قال: «قال رسول الله ﷺ «الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته»
وفي الكشف كونهما الفاتحة أوفق لمقتضى المقام لما مر في تخصيص الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ [الحجر: ١] بالسورة وأشد طباقا للواقع فلم يكن إذ ذاك قد أوتي ﷺ كله اه، وأمر العطف معلوم مما قبله. وقرأت فرقة «والقرآن» بالجر عطفا على الْمَثانِي، وأبعد من ذهب إلى أن الواو مقحمة والتقدير سبعا من المثاني القرآن العظيم لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لا تطمع بنظرك طموح راغب ولا تدم نظرك إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ من زخارف الدنيا وزينتها أَزْواجاً مِنْهُمْ أصنافا من الكفرة اليهود والنصارى والمشركين، وقيل: رجالا مع نسائهم، والنهي قيل له ﷺ وهو لا يقتضي الملابسة ولا المقاربة، وقيل: هو لأمته وإن كان الخطاب له عليه الصلاة والسلام، وأيد بما أخرجه ابن جرير. وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: نهي الرجل أن يتمنى مال صاحبه نعم كان ﷺ بعد نزول الآية شديد الاحتياط فيما تضمنته، فقد أخرج أبو عبيد. وابن المنذر عن يحيى بن أبي كثير أنه عليه الصلاة والسلام مر بإبل لحي يقال لهم بنو الملوح أو بنو المصطلق قد عنست في أبوالها وأبعارها من السمن فتقنع بثوبه ومر ولم ينظر إليها لقوله تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الآية، ويعد نحو هذا الفعل من باب سد الذرائع. ومنهم من أيد الأول بهذا وبدلالة ظاهر السياق عليه، وحاصلها مع ما قبل قد أوتيت النعمة العظمى التي كل نعمة وإن عظمت فهي بالنسبة إليها حقيرة فعليك أن تستغني بذلك ولا ترغب في متاع الدنيا، وجعل من ذلك
قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس منا من لم يتغن بالقرآن»
بناء على أن «يتغن» من الغنى المقصور كيستغني وليس مقصورا على الممدود، ويشهد لذلك ما
في الحديث الصحيح في الخيل «وأما التي هي له ستر فرجل ربطها تغنيا وتعففا»
وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي من الدنيا أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا. وقد أخرج ابن المنذر عن سفيان بن عيينة ما هو بمعناه، وقال العراقي: إن الخبر مروي لكن لم أقف على روايته عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه في شيء من كتب الحديث.
وحكى بعضهم في سبب نزول الآية أنه وافت من بصرى وأذرعات سبع قوافل لقريظة والنضير في يوم واحد فيها أنواع من البر والطيب والجواهر فقال المسلمون: لو كانت لنا لتقوينا بها ولأنفقناها في سبيل الله تعالى فنزلت،
322
فكأنه سبحانه يقول: قد أعطيتكم سبعا هي خير من سبع قوافل، وروي هذا عن الحسن بن الفضل. وتعقب بأنه ضعيف أو لا يصح لأن السورة مكية وقريظة والنضير كانوا بالمدينة فكيف يصح أن يقال ذلك وهو كما ترى. نعم
روي أنه ﷺ وافى بأذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها إلخ
وهو غير معروف، وقد قالوا: إنه لم يعهد سفره ﷺ للشام، واستؤنس بخبر النزول على أن النهي معني به سيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام كالنهي في قوله تعالى:
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ حيث إنهم لم يؤمنوا، وكان ﷺ يود أن يؤمن كل من بعث إليه وشق عليه الصلاة والسلام لمزيد شفقته بقاء الكفرة على كفرهم ولذلك قيل له: وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وكأن مرجع الجملة الأولى إلى النهي عن الالتفات إلى أموالهم ومرجع هذه الجملة إلى النهي عن الالتفات إليهم، وليس المعنى لا تحزن عليهم حيث إنهم المتمتعون بذلك فإن التمتع به لا يكون مدارا للحزن عليهم، وكون المعنى لا تحزن على تمتعهم بذلك فالكلام على حذف مضاف لا يخفى ما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر من غير داع إليه وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ كناية عن التواضع لهم والرفق بهم، وأصل ذلك أن الطائر إذا أراد أن يضم فرخه إليه بسط جناحيه له، والجناحان من ابن آدم جانباه وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أي المنذر الكاشف نزول عذاب الله تعالى ونقمه المخوفة بمن لم يؤمن كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ قيل: إنه متعلق بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ إلخ على أن يكون في موضع نصب نعتا لمصدر من آتينا محذوف أي اتيناك سبعا من المثاني إيتاء كإنزالنا أنزلنا وهو في معنى أنزلنا عليك ذلك إنزالا كإنزالنا على أهل الكتاب الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أي قسموه إلى حق وباطل حيث قالوا عنادا وعداوة: بعضه موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما، وتفسير الْمُقْتَسِمِينَ المذكورين بأهل الكتاب مما روي عن الحسن. وغيره، وفي الدر المنثور أخرج البخاري وسعد بن منصور والحاكم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: هم أهل الكتاب جزؤوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه، وجاء ذلك مرفوعا أيضا،
فقد أخرج الطبراني في الأوسط عن الحبر قال: «سأل رسول الله ﷺ قال: أرأيت قول الله تعالى: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ قال عليه الصلاة والسلام: اليهود والنصارى قال: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ما عضين؟ قال صلى الله عليه وسلم:
آمنوا ببعض وكفروا ببعض»

أو اقتسموه لأنفسهم استهزاء به فقد روي عن عكرمة أن بعضهم كان يقول: سورة البقرة لي وبعضهم سورة آل عمران لي وهكذا، وجوز أن يراد بالمقتسمين أهل الكتاب ويراد من القرآن معناه اللغوي أي المقروء من كتبهم أي الذين اقتسموا ما قرؤوا من كتبهم وحرفوه وأقروا ببعض وكذبوا ببعض، وحمل توسط قوله تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ
إلخ بين المتعلق والمتعلق على امداد ما هو المراد بالكلام من التسلية. وتعقب القول بهذا التعلق بأنه جل هذا المقام عن التشبيه فلقد أوتي ﷺ ما لم يؤت أحد قبله ولا بعده مثله، وفي حمل القرآن على معناه اللغوي ما فيه، وقيل: هو متعلق بقوله تعالى: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ لأنه في قوة الأمر بالإنذار كأنه قيل: أنذر قريشا مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين يعني اليهود هو ما جرى على قريظة. والنضير بأن جعل المتوقع كالواقع وقد وقع كذلك. وتعقب بأن المشبه به العذاب المنذر ينبغي أن يكون معلوما حال النزول وهذا ليس كذلك فيلغو التشبيه، وتنزيل المتوقع منزلة الواقع له موقع جليل من الاعجاز لكن إذا صادف مقاما يقتضيه كما في قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: ١] ونظائره، على أن تخصيص الاقتسام باليهود بمجرد اختصاص العذاب المذكور بهم مع شركتهم للنصارى في الاقتسام المتفرع على الموافقة والمخالفة، وفي الاقتسام بمعنى التحريف الشامل للكتابين بل تخصيص العذاب المذكور بهم مع كونه من نتائج الاقسام تخصيص من غير مخصص، وجوز أن يراد بالمقتسمين جماعة من قريش وهي اثنا عشر، وقال ابن السائب: ستة عشر رجلا حنظلة بن أبي سفيان وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاص بن هشام وأبو قيس بن الوليد وقيس بن الفاكه وزهير بن أمية وهلال بن عبد الأسود
323
والسائب بن صيفي والنضر بن الحارث. وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الحجاج وأمية بن خلف وأوس بن المغيرة، أرسلهم الوليد بن المغيرة أيام الموسم ليقفوا على مداخل طرق مكة لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله ﷺ فانقسموا على هاتيك المداخل يقول بعضهم: لا تغتروا بالخارج فإنه ساحر، ويقول الآخر: كذاب، والآخر: شاعر إلى غير ذلك من هذيانهم فأهلكهم الله تعالى يوم بدر وقبله بآفات، ويجعل الذين منصوبا- بالنذير- على أنه مفعوله الأول وكَما مفعوله الثاني أي أنذر المعضين الذين يجزئون القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين الذين اقتسموا مداخل مكة وهذوا مثل هذيانهم.
وتعقب بأن فيه مع ما فيه من المشاركة لما سبق في عدم كون العذاب الذي شبه به العذاب المنذر واقعا ومعلوما للمنذرين أنه لا داعي إلى تخصيص وصف التعضية بهم وإخراج المقتسمين من بينهم مع كونهم أسوة لهم في ذلك فإن وصفهم لرسول الله ﷺ بما وصفوا به من السحر والشعر والكذب متفرع على وصفهم للقرآن بذلك وهل هو إلا نفس التعضية ولا إلى إخراجهم من حكم الإنذار، على أن ما نزل بهم من العذاب لم يكن من الشدة بحيث يشبه به عذاب غيرهم ولا مخصوصا بهم بل هو عام لكلا الفريقين وغيرهم، مع أن بعض من عد من المنذرين على قول كالوليد بن المغيرة والأسود وغيرهما قد هلكوا قبل مهلك أكثر المقتسمين يوم بدر، ولا إلى تقديم المفعول الثاني على الأول كما ترى، وقيل: إنه صفة لمفعول الذين أقيم مقامه بعد حذفه والمقتسمون هم القاعدون في مداخل الطرق كما حرر، أي النذير عذابا مثل العذاب الذي أنزلناه على المقتسمين.
وتعقب أيضا بأن فيه مع ما مر أنه يقتضي أن يكون كَما أَنْزَلْنا من مقول الرسول ﷺ وهو لا يصلح لذلك، واعتذر له بأنه كما يقول بعض خواص الملك أمرنا بكذا والآمر الملك كما تقدم غير بعيد أو حكاية لقول الله تعالى، وفيه من التعسف ما لا يخفى، وأيضا فيه إعمال الوصف الموصوف في المفعول وهو مما لا يجوز.
وأجيب بأن الكوفية تجوزه والقائل بنى الكلام على ذلك أو أن المراد بالمفعول المفعول الغير الصريح وتقديره بعذاب وهو لا يمنع الوصف من العمل فيه، وقيل: المراد بالمقتسمين على تقدير الوصفية الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحا عليه السلام فأهلكهم الله تعالى، والاقتسام بمعنى التقاسم، ولا إشكال في التشبيه لأن عذابهم أمر محقق نطق به القرآن العظيم فيصح أن يقع مشبها به للعذاب المنذر، والموصول إما مفعول أول- للنذير- أو لما دل هو عليه من أنذر. وتعقب أيضا بأن فيه بعد إغماض العين عما في المفعولية من الخلاف أو الخفاء أنه لا يكون للتعرض لعنوان التعضية في حيز الصلة ولا لعنوان الاقتسام بالمعنى المزبور في حيز المفعول الثاني فائدة لما أن ذلك إنما يكون للإشعار بعلية الصلة والصفة للحكم الثابت للموصول والموصوف فلا يكون هناك وجه شبه يدور عليه تشبيه عذابهم بعذابهم خاصة لعدم اشتراكهم في السبب، فإن المعضين بمعزل من التقاسم على التبييت الذي هو السبب لهلاك أولئك مع أن أولئك بمعزل من التعضية التي هي السبب لهلاك هؤلاء ولا علاقة بين السببين مفهوما ولا وجودا تصحح وقوع أحدهما في جانب والآخر في جانب، واتفاق الفريقين على مطلق الاتفاق على الشرور المفهوم من الاتفاق على الشر المخصوص الذي هو التبييت المدلول عليه بالتقاسم غير مفيد إذ لا دلالة لعنوان التعضية على ذلك وإنما يدل عليه اقتسام المداخل، وجعل الموصول مبتدأ على أن خبره الجملة القسمية لا يليق بجزالة التنزيل وجلالة شأنه الجليل اه، وهذا الجعل مروي عن ابن زيد، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجها البيهقي. وأبو نعيم في الدلائل ما يقتضيه، ومن هنا قيل بمنع عدم اللياقة، وبعض من يسلمها يقول: يجوز أن يكون الموصول صفة الْمُقْتَسِمِينَ مرادا بهم أولئك الرهط، ومعنى جعلهم القرآن عضين حكمهم بأنه مفترى وتكذيبهم به والمراد منه
324
معناه اللغوي فيؤول إلى وصفهم بتكذيبهم بكتابهم وإعراضهم عن الإيمان به والعمل بما فيه ويوافق ما مر من قوله تعالى فيهم وفي قومهم: وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ [الحجر: ٨١] بناء على أن المراد بالآيات آيات الكتاب المنزل على نبيهم عليه السلام حسبما قيل به فيما سبق، وإن أبيت ذلك بناء على ما سمعت هنالك التزمنا كون الموصول مفعولا وقلنا: فائدة التعرض للعنوانين المذكورين على الوجه المذكور الإشارة إلى تفظيع أمر التكذيب وكونه في سببيته للعذاب كالاقتسام على قتل النبي، ويلتزم ما يشعر به هذا من أفظعية الاقتسام المزبور لأنه لا يكون إلا عن تكذيب ومزيد عداوة للنبي، وفيه بحث، وقيل: المصحح لوقوع أحد العنوانين في جانب والآخر في جانب أن التكذيب ينجر بزعم المكذبين إلى إبطال أمر النبي عليه الصلاة والسلام وإطفاء نوره وهو العلة الغائية لذلك والاقتسام المذكور كذلك وهو كما ترى، وقال أبو البقاء وليته لم يقل: كَما أَنْزَلْنا متعلق بقوله تعالى: مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وهو في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف أي متعناهم تمتيعا كما أنزلنا، والمعنى نعمنا بعضهم كما عذبنا بعضهم. وذكر ابن عطية وغيره أنه يحتمل أن يكون المعنى قل إني أنا النذير المبين كما قد أنزلنا في الكتب أنك ستأتي نذيرا على المقتسمين أي أهل الكتاب، ومرادهم على ما قيل أن ما في كَما موصولة، والمراد من المشابهة المستفادة في الكاف الموافقة وهي مع ما في حيزها في محل النصب على الحالية من مفعول قُلْ أي قل هذا القول حال كونه كما أنزلنا على أهل الكتابين أي موافقا لذلك، والأنسب على هذا حمل الاقتسام على التحريف ليكون وصفهم بذلك تعريضا بما فعلوا من تحريفهم وكتمانهم لنعت النبي صلى الله عليه وسلم. وأنت تعلم أن فيه بعدا لكنه أولى بالنسبة إلى بعض ما تقدم، وقريب منه ما قيل: المعنى ولقد آتيناك سبعا من المثاني إيتاء موافقا للإيتاء الذي أنزلناه على أهل الكتابين وأخبرناهم به في كتبهم، وفيه ما فيه.
وأما جعلها زائدة والمعنى أنا النذير المبين ما أنزلنا فحاله غني عن التنبيه عليه، وقال العلامة أبو السعود بعد نقل أقوال عقبها بما عقبها: والأقرب من الأقوال المذكورة أن كَما أَنْزَلْنا متعلق بقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ إلخ، وأن المراد بالمقتسمين أهل الكتابين، وأن الموصول مع صلته صفة مبينة لكيفية اقتسامهم ومحل الكاف النصب على المصدرية، وحديث جلالة المقام عن التشبيه من لوائح النظر الجليل.
والمعنى لقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم إيتاء مماثلا لإنزال الكتابين على أهلهما، وعدم التعرض لذكر ما أنزل عليهم من الكتابين لأن الغرض بيان المماثلة بين الإيتاءين لا بين متعلقيهما، والعدول عن تطبيق ما في جانب المشبه به على ما في جانب المشبه بأن يقال: كما آتينا المقتسمين حسبما وقع في قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ إلخ للتنبيه على ما بين الإيتاءين من التنائي فإن الأول على وجه التكرمة والامتنان فشتان بينه وبين الثاني، ولا يقدح ذلك في وقوعه مشبها به فإن ذلك إنما هو لمسلميته عندهم. وتقدم وجوده على المشبه زمانا لا لمزية تعود إلى ذاته، ونظير ذلك ما قيل في الصلوات الإبراهيمية فليس في التشبيه إشعار بأفضلية المشبه به من المشبه فضلا عن إيهام ما تعلقب به الأول مما تعلق به الثاني، وإنما ذكروا بعنوان الاقتسام إنكارا لاتصافهم به مع تحقق ما ينفيه من الإنزال المذكور وإيذانا بأنهم كان من حقهم أن يؤمنوا بكله حسب إيمانهم بما أنزل عليهم بحكم الاشتراك في العلة والاتحاد في الحقيقة التي هي مطلق الوحي، وتوسيط قوله تعالى: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلخ لكمال اتصاله بما هو المقصود من بيان حال ما أوتي النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد بين أولا علو شأنه ورفعة مكانه ﷺ بحيث يستوجب اغتباطه عليه الصلاة والسلام بمكانه واستغناءه به عما سواه، ثم نهي عن الالتفات إلى زهرة الدنيا وعبر سبحانه عن إيتائها لأهلها بالتمتع المنبئ عن وشك زوالها عنهم، ثم
325
عن الحزن لعدم إيمان المنهمكين فيها، وأمر بمراعاة المؤمنين والاكتفاء بهم عن غيرهم وبإظهار قوامه بمواجب الرسالة ومراسم النذارة حسبما فصل في تضاعيف ما أوتي من القرآن العظيم. ثم رجع إلى كيفية إتيانه على وجه أدمج فيه ما يزيح شبه المنكرين ويستنزلهم من العناد من بيان مشاركته لما لا ريب لهم في كونه وحيا صادقا، فتأمل والله تعالى عنده علم الكتاب اه وهو كلام ظاهر عليه مخايل التحقيق.
وفي البحر بعد نقل أكثر هذه الأقوال: وهذه أقوال وتوجيهات مكلفة والذي يظهر لي أنه تعالى لما أمره ﷺ بأن لا يحزن على من لم يؤمن وأمره عليه الصلاة والسلام بخفض جناحه للمؤمنين أمره ﷺ أن يعلم المؤمنين وغيرهم أنه هو النذير المبين لئلا يظن المؤمنون أنهم لما أمر ﷺ بخفض جناحه لهم خرجوا من عهدة النذارة فأمر ﷺ بأن يقول لهم: إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ لكم ولغيركم كما قال سبحانه: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: ٤٥] وتكون الكاف نعتا لمصدر محذوف، والتقدير وقل قولا مثل ما أنزلنا على المقتسمين أنك نذير لهم، فالقول للمؤمنين في النذارة كالقول للكفار المقتسمين لئلا يظن إنذارك للكفار مخالفا لإنذار المؤمنين بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة تنذر المؤمن كما تنذر الكافر كما قال تعالى: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (١) لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف: ١٨٨] اه بحروفه، وهو كما ترى ركيك لفظا ومعنى والله تعالى أعلم بمراده وعنده علم الكتاب، وعضين جمع عضه وأصلها عضوة بكسر العين وفتح الضاد بمعنى جزء فهو معتل اللام من عضاه بالتشديد جعله أعضاء وأجزاء فالمعنى جعلوا القرآن أجزاء.
وقيل: العضه في لغة قريش السحر فيقولون للساحر: عاضه وللساحرة عاضهة،
وفي حديث رواه ابن عدي في الكامل، وأبو يعلى في مسنده «لعن الله تعالى العاضهة والمستعضهة»
وأراد ﷺ الساحرة والمستسحرة أي المستعملة لسحر غيرها، وهو على هذا مأخوذ من عضهته فاللام المحذوفة هاء كما في شفة وشاة على القول بأن أصلهما شفهة وشاهة بدليل جمعهما على شفاه وشياه وتصغيرهما على شفيهة وشويهة.
وعن الكسائي أنه من عضهه عضها وعضيهة رماه بالبهتان، قيل: وأخذ العضه بمعنى السحر من هذا لأن البهتان لا أصل له والسحر تخييل أمر لا حقيقة له، وذهب الفراء إلى أنه من العضاه وهي شجرة تؤذي كالشوك واختار بعضهم الأول، وجمع السلامة لجبر ما حذف منه كعزين وسنين وإلا فحقه أن لا يجمع جمع السلامة المذكر لكونه غير عاقل ولتغير مفرده ومثل هذا كثير مطرد، ومن العرب من يلزمه الياء ويجعل الإعراب على النون فيقول: عضينك كسنينك وهذه اللغة كثيرة في تميم وأسد، وفي التعبير عن تجزئة القرآن بالتعضية التي هي تفريق الأعضاء من ذي الروح المستلزم لإزالة حياته وإبطال اسمه دون مطلق التجزئة والتفريق اللذين ربما يوجدان فيما لا يضره التبعيض للتنصيص على قبح ما فعلوه بالقرآن العظيم فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ أي لنسألنّ يوم القيامة أصناف الكفرة مطلقا المقتسمين وغيرهم سؤال تقريع وتوبيخ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ في الدنيا من قول وفعل وترك فيدخل فيه ما ذكر من الاقتسام والتعضية دخولا أوليا أو لنجازينهم على ذلك، وعلى التقديرين لا منافاة بين هذه الآية وقوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: ٣٩] لأن المراد هنا حسبما أشرنا إليه إثبات سؤال التقريع والتوبيخ أو المجازاة بناء على أن السؤال مجاز عنها وهناك نفي سؤال الاستفهام لأنه تعالى عالم بجميع أعمالهم وروي هذا عن ابن عباس، وضعف هذا الإمام بأنه لا معنى لتخصيص نفي سؤال الاستفهام بيوم القيامة لأن ذلك السؤال محال عليه تعالى في كل وقت.
(١) وقع في الأصل بشير ونذير إلخ والتلاوة كما ذكرنا اه.
326
وأجيب بأنه بناء على زعمهم كقوله تعالى: وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً [إبراهيم: ٢١] فإنه يظهر لهم في ذلك اليوم أنه سبحانه لا يخفى عليه شيء فلا يحتاج إلى الاستفهام. وقيل: المراد لا سؤال يومئذ منه تعالى ولا من غيره بخلاف الدنيا فإنه ربما سأل غيره فيها. ورد بأن قوله: لأنه سبحانه عالم بجميع أعمالهم يأباه.
واختار غير واحد في الجمع أن النفي بالنسبة إلى بعض المواقف والإثبات بالنسبة إلى بعض آخر، وسيأتي تمام الكلام في ذلك، واستظهر بعضهم عود الضمير في لَنَسْئَلَنَّهُمْ إلى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ للقرب، وجوز أن يعود على الجميع من مؤمن وكافر لتقدم ما يشعر بذلك من قوله سبحانه: وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ وما للعموم كما هو الظاهر، وأخرج ابن جرير: وغيره وعن أبي العالية أنه قال في الآية: يسأل العباد كلهم يوم القيامة عن خلتين عما كانوا يعبدون وعما أجابوا به المرسلين.
وأخرج الترمذي وجماعة عن أنس عن النبي ﷺ أنه قال: «يسألون عن قول لا إله إلا الله» وأخرجه البخاري في تاريخه، والترمذي من وجه آخر عن أنس موقوفا، وروي أيضا عن ابن عمر، ومجاهد،
والمعنى على ما في البحر يسألون عن الوفاء بلا إله إلا الله والتصديق لمقالها بالأعمال، والفاء قيل لترتيب الوعيد على أعمالهم التي ذكر بعضها، وقيل:
لتعليل النهي والأمر فيما سبق، وزعم أنها الفاء الداخلة على خبر الموصول كما في قولك: الذي يأتيني فله درهم مبني على أن الذين مبتدأ وقد علمت حال ذلك، وفي التعرض لوصف الربوبية مضافا إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى من إظهار اللطف به ﷺ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ قال الكلبي: أي أظهره واجهر به يقال: صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا، ومن ذلك قيل للفجر صديع (١) لظهوره.
وجوز أن يكون أمرا من صدع الزجاجة وهو تفريق أجزائها أي افرق بين الحق والباطل، وأصله على ما قيل الإبانة والتمييز، والباء على الأول صلة وعلى الثاني سببية، و «ما» جوز أن تكون موصولة والعائد محذوف أي بالذي تؤمر به فحذف الجار فتعدى الفعل إلى الضمير فصار تؤمره ثم حذف، ولعل القائل بذلك لم يعتبر حذفه مجرورا لفقد شرط حذفه بناء على أنه يشترط في حذف العائد المجرور أن يكون مجرورا بمثلما جر به الموصول لفظا ومعنى ومتعلقا، وقيل: التقدير فاصدع بما تؤمر بالصدع به فحذفت الباء الثانية ثم الثالثة ثم لام التعريف ثم المضاف ثم الهاء، وهو تكلف لا داعي له ويكاد يورث الصداع، والمراد بما يؤمر به الشرائع مطلقا، وقول مجاهد: كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم إن المعنى اجهر بالقرآن في الصلاة يقتضي بظاهره التخصيص ولا داعي له أيضا كما لا يخفى، وأظهر منه في ذلك ما روي عن ابن زيد أن المراد بِما تُؤْمَرُ القرآن الذي أوحي إليه ﷺ أن يبلغهم إياه، وأن تكون مصدرية أي فاصدع بمأموريتك وهو الذي عناه الزمخشري بقوله: أي بأمرك مصدر من المبني للمفعول، وتعقبه أبو حيان بأنه مبني على مذهب من يجوز أن يراد بالمصدر أن والفعل المبني للمفعول والصحيح أن ذلك لا يجوز. ورد بأن الاختلاف في المصدر الصريح هل يجوز انحلاله إلى حرف مصدري وفعل مجهول أم لا أما أن الفعل المجهول هل يوصل به حرف مصدري فليس محل النزاع، فإن كان اعتراضه على الزمخشري في تفسيره بالأمر وأنه كان ينبغي أن يقول بالمأمورية فشيء آخر سهل، ثم لا يخفى ما في الآية من الجزالة، وقال أبو عبيدة: عن رؤية ما في القرآن منها، ويحكى أن بعض العرب سمع قارئا يقرأها فسجد فقيل له في ذلك فقال: سجدت لبلاغة هذا الكلام، ولم يزل ﷺ مستخفيا كما روي عن عبد الله بن مسعود قبل نزول ذلك فلما نزلت خرج هو وأصحابه عليه الصلاة والسلام وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ
(١) كما في قوله. كأن بياض غرته صديع. اه منه.
327
أي لا تلتفت إلى ما يقولون ولا تبال بهم فليست الآية منسوخة، وقيل: هي من آيات المهادنة التي نسختها آية السيف، وأخرج ذلك ابن أبي حاتم وأبو داود في ناسخه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بك أو بك وبالقرآن كما روي عن ابن عباس بقمعهم وتدميرهم.
أخرج الطبراني في الأوسط، والبيهقي وأبو نعيم كلاهما في الدلائل، وابن مردويه بسند حسن قال: المستهزءون الوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب والحارث بن عطيل السهمي والعاص بن وائل فأتاه جبريل عليه السلام فشكاهم إليه فأراه الوليد فأومأ جبريل عليه السلام ألى أكحله فقال صلى الله عليه وسلم: ما صنعت شيئا قال: كفيتكه، ثم أراه الأسود ابن المطلب فأوما إلى عينيه فقال: ما صنعت شيئا قال: كفيتكه. ثم أراه الأسود بن عبد يغوث فأومأ إلى رأسه فقال: ما صنعت شيئا قال: كفيتكه ثم أراه الحارث فأومأ إلى بطنه فقال: ما صنعت شيئا قال: كفيتكه، ثم أراه العاص بن وائل فأومأ إلى أخمصه فقال: ما صنعت شيئا قال: كفيتكه. فأما الوليد فمر برجل من خزاعة وهو يريش نبلا فأصاب أكحله فقطعها، وأما الأسود بن المطلب فنزل تحت سمرة فجعل يقول: يا بني ألا تدفعون عني قد هلكت أطعن بالشوك في عيني فجعلوا يقولون: ما نرى شيئا فلم يزل كذلك حتى عميت عيناه، وأما الأسود بن عبد يغوث فخرج في رأسه قروح فمات منها وأما الحارث فأخذه الماء الأصفر في بطنه حتى خرج رجيعه من فيه فمات منه، وأما العاص فركب إلى الطائف فربض على شبرقة فدخل في أخمص قدمه شوكة فقتلته،
وقال الكرماني في شرح البخاري: إن المستهزئين هم السبعة الذين ألقوا الأذى ورسول الله ﷺ يصلي كما جاء في حديث البخاري وهم: عمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد، وفي الأعلام للسهيلي أنهم قذفوا بقليب بدر وعدهم بخلاف ما ذكر. وفي الدر المنثور وغيره روايات كثيرة مختلفة في عدتهم (١) وأسمائهم وكيفية هلاكهم وعد الشعبي منهم هبار بن الأسود. وتعقبه في البحر بأن هبارا أسلم يوم الفتح ورحل إلى المدينة فعده وهم، وهذا متعين إذا كانت كفايته عليه السلام إياهم بالإهلاك كما هو الظاهر، وقد ذكر الإمام نحو ما ذكرنا من اختلاف الروايات ثم قال: ولا حاجة إلى شيء من ذلك، والقدر المعلوم أنهم كانوا طائفة لهم قوة وشوكة لأن أمثالهم هم الذين يقدرون على مثل هذه السفاهة مع رسول الله ﷺ في علو قدره وعظم منصبه، ودل القرآن على أن الله سبحانه أفناهم وأبادهم وأزال كيدهم.
الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي اتخذوا إلها يعبدونه معه تعالى، وصيغة الاستقبال لاستحضار الحال الماضية، وفي وصفهم بذلك تسلية لرسول الله ﷺ وتهوين للخطب عليه عليه الصلاة والسلام بالإشارة إلى أنهم لم يقتصروا على الاستهزاء به ﷺ بل اجترءوا على العظيمة التي هي الإشراك به سبحانه فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ما يأتون ويذرون وفيه من الوعيد ما لا يخفى.
وفي البحر أنه وعيد لهم بالمجازاة على استهزائهم وشركهم في الآخرة كما جوزوا في الدنيا وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ من كلمات الشرك والاستهزاء، وتحلية الجملة بالتأكيد لإفادة تحقق ما تتضمنه من التسلية. وصيغة المضارع لإفادة استمرار العلم حسب استمرار متعلقه باستمرار ما يوجبه من أقوال الكفرة فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فافزع إلى ربك فيما نابك من ضيق الصدر بالتسبيح ملتبسا بحمده أي قل: سبحان الله والحمد لله أو فنزهه عما يقولون حامدا له سبحانه على أن هداك للحق، فالتسبيح والحمد بمعناهما اللغوي كما أنهما على الأول بمعناهما العرفي أعني قول تينك الجملتين، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره ﷺ ما لا يخفى من
(١) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا ثمانية اه منه.
328
اللطف به عليه الصلاة والسلام والإشعار بعلة الحكم أعني الأمر المذكور وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ أي المصلين ففيه التعبير عن الكل بالجزء. وهذا الجزء على ما ذهب إليه البعض أفضل الأجزاء لما صح من
قوله ﷺ «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد»
وليس هذا موضع سجدة خلافا لبعضهم. وفي أمره ﷺ بما ذكر إرشاد له إلى ما يكشف به الغم الذي يجده كأنه قيل: افعل ذلك يكشف عنك ربك الغم والضيم الذي تجده في صدرك ولمزيد الاعتناء بأمر الصلاة جيء بالأمر بها كما ترى مغايرا للأمر السابق على هذا الوجه المخصوص. وفي ذلك من الترغيب فيها ما لا يخفى. وقد كان ﷺ إذا أحزنه أمر فزع إلى الصلاة.
وصح «حبب لي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة»
وذكر بعضهم أن في الآية إشارة إلى الترغيب بالجماعة فيها. وإن في عدم تقييد السجود بنحو له أو لربك إشارة إلى أنه مما لا يكاد يخطر بالبال إيقاعه لغيره تعالى فتدبر.
وَاعْبُدْ رَبَّكَ دم على ما أنت عليه من عبادته سبحانه، قيل: وفي الإظهار بالعنوان السالف آنفا تأكيد لما سبق من إظهار اللطف به ﷺ والإشعار بعلة الأمر بالعبادة حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي الموت كما روي عن ابن عمر والحسن وقتادة وابن زيد، وسمي بذلك لأنه متيقن اللحوق بكل حي، وإسناد الإتيان إليه للإيذان بأنه متوجه إلى الحي طالب للوصول إليه، والمعنى دم على العبارة ما دمت حيّا من غير إخلال بها لحظة، وقال ابن بحر: اليقين النصر على الكافرين الذي وعده صلى الله عليه وسلم، وأيا ما كان فليس المراد به ما زعمه بعض الملحدين مما يسمونه بالكشف والشهود، وقالوا: إن العبد متى حصل له ذلك سقط عنه التكليف بالعبادة وهي ليست إلا للمحجوبين، ولقد مرقوا بذلك من الدين وخرجوا من ربقة الإسلام وجماعة المسلمين.
وذكر بعض الثقات أن هذا الأمر كان بعد الإسراء والعروج إلى السماء، أفترى أنه ﷺ لم يتضح له ليلتئذ صبح الكشف والشهود ولم يمن عليه باليقين عظيم الكرم والجود؟ الله أكبر لا يتجاسر على ذلك من في قلبه مثقال ذرة من إيمان أو رزق حبة خردل من عقل ينتظم به في سلك الإنسان، وأيضا لم يزل ﷺ ما دام حيا آتيا بمراسم العبادة قائما بأعباء التكليف لم ينحرف عن الجادة قدر حادة أفيقال: إنه لم يأته عليه الصلاة والسلام حتى توفي ذلك اليقين ولذلك بقي في مشاق التكليف إلى أن قدم على رب العالمين؟ لا أرى أحدا يخطر له ذلك بجنان ولو طال سلوكه في مهامه الضلالة وبان. نعم ذكر بعض العلماء الكرام في قوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ إلخ كلاما متضمنا شيئا مما يذكره الصوفية لكنه بعيد بمراحل عن مرام أولئك اللئام، ففي الكشف أنه تعالى بعد ما هدم قواعد جهالات الكفرة وأبرق وأرعد بما أظهر من صنيعه بالقائلين نحو مقالات أولئك الفجرة فذلك الكلام بقوله سبحانه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ مؤكدا هذا التأكيد البالغ الصادر عن مقام تسخط بالغ وكبرياء لينفس عن حبيبه عليه الصلاة والسلام أشد التنفيس، ثم أرشد إلى ما هو أعلى من ذلك مما تأهله لمسامرة الجليس للجليس وقال تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ إشارة إلى التوجه إليه بالكلية والتجرد التام عن الأغيار والتحلي بصفات من توجه إليه بحسن القبول والافتقار إذ ذلك مقتضى التسبيح والحمد لمن عقلهما، ثم قال سبحانه: وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ دلالة على الاقتراب المضمر فيه لأن السجود غاية الذلة والافتقار وهو مظهر الفناء حتى نفسه وشرك البقاء بمن أمره بخمسه، وقوله تعالى شأنه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ إلخ ظاهره ظاهر وباطنه يومي إلى أن السفر في الله تعالى لا ينقطع والشهود الذي عليه يستقر لا يحصل أبدا فما من طامة إلا وفوقها طامة.
إذا تغيبت بدا... وإن بدا غيبني
وعن لسان هذا المقام رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: ١١٤] اه، هذا ولا يخفى مما ذكره غير واحد من المفسرين
329
مناسبة خاتمة هذه السورة لفاتحتها، وأن قوله سبحانه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ إلخ في مقابلة وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [الحجر: ٦] والله تعالى أعلم وأحكم.
ومن باب الإشارة فيما تقدم من الآيات: ما قالوه مما ملخصه نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي أخبرهم بأني أغفر خطرات قلوب العارفين بعد إدراكهم مواضع خطرها وتداركهم ما هو مطلوب منهم وأرحمهم بأنواع الفيوضات وأوصلهم إلى أعلى المكاشفات والمشاهدات وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ وهو عذاب الاحتجاب والطرد عن الباب.
وقال ابن عطاء: هذه الآية إرشاد له ﷺ إلى كيفية الإرشاد كأنه قيل: أقم عبادي بين الخوف والرجاء ليصح لهم سبيل الاستقامة في الطاعة فإن من غلب عليه رجاؤه عطله ومن غلب عليه خوفه أقنطه وذكر بعضهم أن فيها إشارة إلى ترجيح جانب الخوف على الرجاء لأنه سبحانه أجرى وصفي الرحمة على نفسه عزّ وجلّ ولم يجر العذاب على ذلك السنن، وأنت تعلم أن المذكور في كثير من الكتب أنه ينبغي للإنسان أن يكون معتدل الرجاء والخوف إلا عند الموت فينبغي أن يكون رجاؤه أزيد من خوفه، وفي المقام كلام طويل يطلب من موضعه لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ قال النووي: أي بحياتك التي خصصت بها من بين العالمين، وقال القرشي: هذا قسم بحياة الحبيب صلى الله عليه وسلم.
وإنما أقسم سبحانه بها لأنها كانت به تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي المتفرسين، وذكروا أن للفراسة مراتب فبعضها يحصل بعين الظاهر، وبعضها ما يدركه آذان العارفين مما ينطق به الحق بألسنة الخلق، وبعضها ما يبدو في صورة المتفرس من أشكال تصرف الحق سبحانه وإنطاقه وجوده له حتى ينطق جميع شعرات بدنه بألسنة مختلفة فيرى ويسمع من ظاهر نفسه ما يدل على وقوع الأمور الغيبية، وبعضها ما يحصل بحواس الباطن حيث وجدت بلطفها أوائل المغيبات باللائحة، وبعضها ما يحصل من النفس الأمارة بما يبدو فيها من التمني والاهتزاز وذلك سر محبته فإن الله تعالى إذا أراد فتح الغيب ألقى في النفس آثار بواديه إما محبوبة فتتمنى وإما مكروهة فتنفر ولا يعرف ذلك إلا رباني الصفة، وبعضها ما يحصل للقلب إما بالإلهام وإما بالكشف، وبعضها ما يحصل للعقل وذلك ما يقع من أثقال الوحي الغيبي عليه، وبعضها ما يحصل للروح بالواسطة وغير الواسطة، وبعضها ما يحصل لعين السر وسمعه، وبعضها ما يحصل في سر السر ظهور عرائس أقدار الغيبة ملتبسات بإشكال إلهية ربانية روحانية فيبصر تصرف الذات في الصفات ويسمع الصفات بوصف الحديث والخطاب من الذات بلا واسطة وهناك منتهى الكشف والفراسة. وسئل الجنيد رضي الله تعالى عنه عن الفراسة فقال: آيات ربانية تظهر في أسرار العارفين فتنطق ألسنتهم بذلك فتصادف الحق، ولهم في ذلك عبارات أخرى.
فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ
روى عمرو بن دينار عن محمد بن الحنفية عن أبيه علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: الصفح الجميل صفح لا توبيخ فيه ولا حقد بعده مع الرجوع إلى ما كان قبل ملابسة المخالفة،
وقيل: الصفح الجميل مواساة المذنب برفع الخجل عنه ومداواة موضع آلام الندم في قلبه وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وهي الصفات السبعة أعني الحياة والعلم والقدرة والإرادة والبصر والسمع والكلام، ومعنى كونها مثاني أنها ثنى وكرر ثبوتها له صلى الله عليه وسلم، فكانت له عليه الصلاة والسلام أولا في مقام وجود القلب وتخلقه بأخلاقه واتصافه بأوصافه، وثانيا في مقام البقاء بالوجود الحقاني، وقيل: معنى كونها مثاني أنها ثواني الصفات القائمة بذاته سبحانه عزّ وجلّ ومواليدها،
وجاء «لا زال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به» الحديث
وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وهو عندهم: الذات الجامع لجميع الصفات لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ إلى
330
آخره. قال بعضهم في ذلك: غار الحق سبحانه عليه عليه الصلاة والسلام أن يستحسن من الكون شيئا ويعيره طرفه وأراد منه ﷺ أن تكون أوقاته مصروفة إليه وحالاته موقوفة عليه وأنفاسه النفيسة حبيسة عنده، وكان ﷺ كما أراد منه سبحانه ولذلك وقع في المحل الأعلى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: ١٧] فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ قد مر عن الكشف ما فيه مقنع لمن أراد الإشارة من المسترشدين، هذا وأسأل الله سبحانه أن يحفظنا من سوء القضا ويمن علينا بالتوفيق إلى ما يحب ويرضى بحرمة النبي ﷺ وأصحابه رضي الله تعالى عنهم أجمعين ما جرى في تفسير كتاب الله تعالى قلم
331
Icon