تفسير سورة الكهف

جامع البيان في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن .
لمؤلفه الإيجي محيي الدين . المتوفي سنة 905 هـ
سورة الكهف مكية قيل إلا قوله ﴿ واصبر نفسك ﴾ الآية وهي مائة وإحدى عشرة آية واثنا عشر ركوعا.

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ ﴾ رتب الحمد على إنزاله القرآن على عبده سيد السادات عليه الصلوات والتسليمات ؛ لأنه أجل نعم وأعظم كرم، فإنه سبب جميع السعادات، ﴿ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ﴾ شيئا من العوج، لا في ألفاظه، ولا في معانيه.
﴿ قَيِّمًا ﴾ : مستقيما معتدلا لا إفراط ولا تفريط، فقيل قيما على سائر الكتب مصدقا لها، منصوب بقدر، أي : جعله قيما، أو حال من الكتاب على أن عطف ولم يجعل بياني حتى لا يلزم العطف قبل تمام الصلة كأنه قال : أنزل على عبده الكتاب الكامل الذي لا يسمى غيره في جنبه الكتاب، ﴿ لِّيُنذِرَ ﴾ : الكافرين ﴿ بَأْسًا ﴾ : عذابا ﴿ شَدِيدًا ﴾ : صادرا ﴿ مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا ﴾ : الجنة.
﴿ مَاكِثِينَ فِيهِ ﴾ : في الأجر ﴿ أَبَدًا ﴾ : دائما.
﴿ وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ﴾ أي : ينذرهم ببأس شديد وخصهم من بين الكفار بالذكر لغلظ كفرهم.
﴿ مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ١ أي : يقولون عن جهل وافتراء وضمير به إما إلى الولد أو إلى الاتخاذ أو إلى القول، ﴿ وَلآبائِهِمْ ﴾ : الذين قالوا ذلك ﴿ كَبُرَتْ ﴾ : عظمت مقالتهم هذه في الكفر ﴿ كلمة ﴾ تمييز، وهو أبلغ من كبرت كلمتهم ﴿ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ﴾ صفة للكلمة٢ مفيدة لاستعظام اجترائهم، فإن هذه الكلمة الردية الشنيعة التي لو خطرت ببال لا يليق أن تظهر بحال هم تكلموا بها ﴿ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا ﴾.
١ وانتقاء العلم بالشيء إما للجهل بالطريق الموصل إليه، وإما لأنه في نفسه محال لا يتفق تعلق العلم به، وهذا من الثاني /١٢ وجيز..
٢ وفي النسخة (ن): لكلمة..
﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ ﴾ : قاتل ﴿ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ ﴾ إذا أعرضوا عن الإيمان، شبهه لما تداخله من الأسف على إعراضهم برجل فارقه أحبته فهو يتساقط حسرات على فراقهم وآثارهم ﴿ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ ﴾ : القرآن ﴿ أَسَفًا ﴾ لفرط ١ الحزن.
١ ولما منعه من هلاك نفسه تأسفا لله بقوله: "إنا جعلنا ما على الأرض" الآية /١٢ وجيز..
﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ ﴾ : مما يصلح أن يكون زينة ﴿ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ ﴾ : نختبرهم ﴿ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا١ : في تناوله وحسن العمل الزهد فيها وترك الاغترار بها.
١ فلا بد منهم من لم يحسن العمل، فلا تحزن على من قضينا عليه الشقاوة /١٢ وجيز..
﴿ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا ﴾ : من الزينة ﴿ صَعِيدًا جُرُزًا١ : مثل أرض ملساء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء في إزالة بهجته وإبطال حسنه يعني نميت الحيوانات، ونجفف النباتات وهو ترغيب وفي الزهد عنها.
١ فيه إشارة إلى التزهيد في الدنيا و الرغبة عنها، وتسلية له ـ صلى الله عليه وسلم ـ عما تضمنته أيدي المترفين من زينتها، إذ مال الكل إلى الفناء، ولما كان لنبلوهم أيهم أحسن عملا دالا على البعث الذي نفاه المعاندون أتى بواقعة مبينة للبعث فقال: "أم حسبت" الآية /١٢ وجيز..
﴿ أَمْ حَسِبْتَ ﴾ بل أحسبت ﴿ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ ﴾ : الغار الواسع في الجبل ﴿ وَالرَّقِيمِ ﴾ هو لوح من رصاص، أو حجر موضوع على باب كهفهم مكتوب في أسماؤهم، أو اسم لذلك الجبل أو الوادي، أو لقرية١ خرجوا منها ﴿ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا ﴾ : آية ﴿ عَجَبًا ﴾ فإن قصتهم بالإضافة إلى ما خلقنا على وجه الأرض من أنواع الحيوانات وغيرها ليس بعجيب.
١ جميع ما نقلنا في تفسير الرقيم أقوال السلف واختار ابن جرير إنه فعيل بمعنى مفعول أي: مرقوم أي: شيئا مكتوبا نحو كتاب مرقوم /١٢ منه. وفي المراد من الرقيم اختلاف كثير والظاهر أنه الفئة المذكورون هنا، و قيل: هم قوم حاله كأصحاب الكهف أخبر الله عن حال أصحاب الكهف ولم يخبر عنهم /١٢ وجيز..
﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ١ إِلَى الْكَهْفِ ﴾ : صاروا إليه وسكنوا فيه هم من أهل الروم، قصد دقيانوس تعذيبهم ليرجعوا إلى الشرك فهربوا بدينهم إلى الكهف٢ ﴿ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ﴾ ترحمنا بها وتسترنا من أعين قومنا ﴿ وَهَيِّئْ لَنَا ﴾ : يسر لنا ﴿ مِنْ أَمْرِنَا ﴾ : الذي نحن فيه من الفرار عن الكفار ﴿ رَشَدًا ﴾ : نصير بسببه راشدين مهديين.
١ الفتية جمع فتى وهو الطري من الشباب، فكانوا في سن الشباب مردا، وكانوا سبعة خرجوا من مدينتهم خائفين على إيمانهم من قومهم الكفار، حيث أمروهم بعبادة غير الله وكذلك ملك المدينة، أمرهم بما ذكر، واسمه دقيانوس ومدينتهم اسمها أفسوس عن أهل الروم؛ لأنها من مدائنهم، واسمها عند العرب طرسوس، فلما أمروهم بعبادة غير الله ذهب كل واحد منهم إلى بيت أبيه وأخذ منه زادا و نفقة وخرجوا فارين هاربين حتى أووا إلى كهف في جبل قريب من المدينة، فاختفوا فيه، وصاروا يعبدون الله ويأكلون و يشربون ويبعثون أحدا منهم خفية ليشتري لهم الطعام من المدينة وهم خائفون من اطلاع أهل المدينة عليهم فيقتلوهم لعدم دخولهم في دينهم، فجلسوا يوما بعد الغروب يتحدثون فألقى الله عليهم النوم وذلك قوله تعالى: "فضربنا على آذانهم" الخ /١٢ فتح..
٢ هكذا ذكره المفسرون من السلف والخلف /١٢ منه.
.

﴿ فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ ﴾ أي : ضربنا عليها حجابا من أن تسمع يعني أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات، فحذف المفعول كما يقال : بنى على امرأته أي : القبة ﴿ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ ﴾ ظرفان لضربنا ﴿ عَدَدًا ﴾ أي : ذوات عدد.
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ ﴾ : أيقظناهم ﴿ لِنَعْلَمَ ﴾ : ليتعلق علمنا تعلقا حاليا، أو لنعلم علم المشاهدة ﴿ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ ﴾ المختلفين منهم ﴿ أَحْصَى ﴾ أضبط ﴿ لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا ﴾ أي : أضبط أمدا لزمان لبثهم فإنهم لما انتبهوا اختلفوا في ذلك كما قال تعالى :" قال قائل منهم كم لبثتم " الآية، أو المراد من الحزبين غيرهم، فقد ذكر أن أهل قريتهم تنازعوا في مدة لبثهم ولصدارة أي لما فيه من معنى الاستفهام علق لنعلم عنه فهو مبتدأ، وأحصى الذي هو فعل ماض خبره، وأمدا مفعوله.
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ﴾ : الصدق، ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ﴾ : شبان ﴿ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ : بالتثبت.
﴿ وربطنا عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ : قويناهم بالصبر والثبات ﴿ إِذْ قَامُوا ﴾ : بين يدي دقيانوس ملكهم حين دعاهم إلى الكفر، وأوعد بأنواع العذاب، ثم القتل إن خالفوا ﴿ فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا ﴾ فإنه يأمرهم بعبادة الأصنام ﴿ لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا١ أي : إن دعونا غير الله، والله لقد قلنا قولا ذا بعد الحق.
١ قوله: "لقد قلنا إذا شططا" إلى قوله: "فمن أظلم ممن افترى الله كذبا" استدل تعالى على عدم الشركاء بعدم الدليل عليها، فثبت أن الاستدلال بعدم الدليل على عدم المدلول طريقة قوية، ثم قال: "فمن أظلم ممن افترى الله كذبا" يعني أن الحكم بثبوت الشيء مع عدم الدليل عليه ظلم وافتراء على الله وكذب، و هذا من أعظم الدلائل على فساد القول بالتقليد /١٢ مفاتيح الغيب المعروف بالكبير..
﴿ هَؤُلاء ﴾ مبتدأ ﴿ قَوْمُنَا ﴾ عطف بيانه ﴿ اتَّخَذُوا مِن دُونِه١ آلِهَةً لَّوْلا ﴾ : هلا ﴿ يَأْتُونَ عَلَيْهِم ﴾ أي : على عبادتهم٢ ﴿ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ ﴾ : بدليل واضح فإن دينا لا دليل عليه فهو باطل ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ : فإنهم افتروا عليه أن له شركاء.
١ و في هذا الإخبار معنى الإنكار وفي الإشارة إليهم تحقير لهم /١٢ فتح..
٢ قال الزمخشري: وفي الآية دليل على فساد التقليد، و أنه لابد في الدين من الحجة حتى يثبت ويتضح /١٢ فتح..
﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ١ خطاب بعضهم لبعض والعامل فيه الجزاء ﴿ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ ﴾ عطف على مفعول اعتزل، وهم يعبدون الأصنام مع الله ﴿ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ ﴾ : يبسط ﴿ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ﴾ : رحمة يستركم بها من قومكم ﴿ ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم ﴾ : الذي أنتم فيه ﴿ مِّرْفَقًا٢ : ما تنتفعون به٣.
١ خطاب من بعضهم لبعض والاعتزال شامل لمفارقة الأوثان ومعتقدات قومهم فهو اعتزال جسماني وقلبي /١٢ وجيز..
٢ أي: من أمركم الذي أنتم فيه ما تنتفعون به من أمر المعيشة وغيره. هنا جمل محذوفة دل عليها ما تقدم، والتقدير: "فأووا إلى الكهف" فألقى الله عليهم النوم واستجاب دعائهم "وترى الشمس" الآية /١٢ وجيز..
٣ وإنما قالوا ذلك ثقة بفضل الله و قوة في رجائهم لتوكلهم عليه، أو أخبرهم به نبي عصرهم /١٢ فتح.
﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ ﴾ : لو رأيتهم ﴿ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ ﴾ : تميل١ ﴿ عَن كَهْفِهِمْ ﴾ فلا يقع شعاعها عليهم لتحترق أبدانهم ولباسهم ﴿ ذَاتَ الْيَمِينِ ﴾ : جهته، ﴿ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ﴾ : تقطعهم وتعدل عنهم، ﴿ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ ﴾ : متسع، ﴿ مِّنْهُ ﴾ : من الكهف فلا يؤذيهم حر الشمس وينالهم روح الهواء وذلك إذا كان باب الكهف على بنات٢ النعش فيقع الشعاع على جنبيه وهم في وسطه فيحلل عفونته ويعدل هواءه، وعند بعضهم أن الله صرف عنهم الشمس بقدرته وحال بينها وبينهم لا لأن باب الكهف على جانب لا تقع الشمس إلا على جنبيه ﴿ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ﴾ حيث أرشدهم إلى غار كذلك ﴿ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ ﴾ : ولم يرشده ﴿ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا ﴾ : من يلي أمرهم ويرشده.
١ وتعدل وتتنحى /١٢ فتح..
٢ بنات النعش وهي الكبرى والصغرى هفت ستاركان در شمال وجنوب جهر ازوى دانعش وسه رابناة كيند /١٢ صراح.
.

﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا ﴾ : لانفتاح عيونهم ليصل إليها الهواء جمع يقظ، كأنكاد في نكد ﴿ وَهُمْ رُقُودٌ ﴾ : نيام ﴿ وَنُقَلِّبُهُمْ١ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ ﴾ : لئلا تأكل الأرض لحومهم، عن ابن عباس في كل سنة مرة، وعن بعضهم مرتين ﴿ وَكَلْبُهُم٢ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ٣ بالفناء وقيل : بالعتبة خارج الكهف ؛ لأن الملك لا يدخل بيتا فيه كلب٤ والأصح أنه كلب صيد لأحدهم وقد نقل أنه كلب تبعهم فطردوه فأنطقه الله وقال : أنا أحب أحباء الله نموا وأنا أحرسكم، ﴿ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ : نظرت إليهم ﴿ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ ﴾ هربت وأعرضت عنهم ﴿ فِرَارًا ﴾ حال أو مفعول له أو مصدر ﴿ وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا٥ : خوفا يملأ صدرك لمهابتهم.
١ ظاهر كلام المفسرين أن التقليب من فعل الله ويجوز أن يكون من ملك بأمر الله والأول أولى /١٢ فتح..
٢ قال مجاهد اسم كلبهم تطمورا وعن الحسن اسمه قطمير قيل: ريان و صهيان قيل كان كلبا أعز، وقيل: فوق القلطى، و دون الكرزي والقلطي كلب صيني وقيل كان أصفر وقيل أسمر اللون، ولا أدري أي تعلق لهذا التدقيق والتحقيق بتفسير الكتاب العزيز وما الذي حملهم على هذا الفضول الذي لا مستند له في السمع ولا في العقل /١٢ فتح..
٣ وفي هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال المحبين للصالحين والأنبياء والعلماء المخالطين للأولياء والأصفياء /١٢..
٤ وذلك لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب أو صورة"، أخرجه البخاري في "اللباس"، باب: تحريم التصاوير، (٢٩٤٩)، وفي مواطن كثيرة من صحيحه، ومسلم في اللباس والزينة، باب: تحريم تصوير صورة الحيوان، (٢١٠٦)..
٥ وسبب الرعب الهبة التي ألبسهم الله إياها، وقيل طول أظافرهم وشعورهم وعظم أجرامهم ووحشة مكانهم، ذكره المهدي و النحاس والزجاج والقشيري ويدفعه قوله: "لبثنا يوما أو بعض يوم" فإن ذلك يدل على أنهم لم ينكروا من حالهم شيئا ولا وجدوا من أظافرهم وشعورهم ما يدل على طول المدة قال ابن عطية: والصحيح في أمرهم أن الله عز وجل حفظ بهم الحالة التي ماتوا عليها لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية فلم يبل لهم ثوب ولم تتغير لهم صفة ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض و البناء، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليهم أهم، ذكره القرطبي /١٢ فتح..
﴿ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ ﴾ : كما أنمناهم آية بعثناهم كذلك ﴿ لِيَتَسَاءلُوا١ بَيْنَهُمْ ﴾ : ليسأل بعضهم بعضا مدة لبثهم فيعرفوا حالهم فيزداد يقينهم ﴿ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا٢ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ ٣يَوْمٍ٤ فإنه غالب مدة نوم نائم كأنهم دخلوا غدوة وانتبهوا عشية، ﴿ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ﴾ كأنه حصل لهم بعض تردد في طول مدتهم لطول أظفارهم وأشعارهم ﴿ فَابْعَثُوا ﴾ يعني لا يصل علمكم إليه فاتركوا المقال وابعثوا ﴿ أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ ﴾ : فضتكم، ﴿ هَذِهِ ﴾ فإنه كان معهم دراهم ﴿ إِلَى الْمَدِينَةِ ﴾ أي : إلى المدينة التي خرجتم عنها وهي طرسوس ﴿ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا ﴾ أي : أهل تلك المدينة ﴿ أَزْكَى طَعَامًا ﴾ : أحل وأطهر، فإن في المدينة المؤمن والكافر ﴿ فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ ﴾ : في الذهاب والإياب والمعاملة حتى لا يطلع على حاله أحد ﴿ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ﴾ : لا يفعلن ما يؤدي إلى شعور أحد بكم.
١ واللام للصيرورة نحو لدوا للموت /١٢..
٢ وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب /١٢ فتح..
٣ وقد استدل ابن عباس أن الصحيح أن عددهم سبعة؛ لأنه قال في الآية: "قال قائل منهم كم لبثتم" وهذا واحد، وقالوا في جوابه: "لبثنا يوما أو بعض يوم" وهو جمع و أقله ثلاثة ثم قالوا: "ربكم أعلم بما لبثتم" وهو قول جمع آخرين فصاروا سبعة /١٢ منه..
٤ الظاهر صدور الشك من المسئولين /١٢..
﴿ إِنَّهُمْ ﴾ : أهل المدينة ﴿ إِن يَظْهَرُوا ﴾ : يظفروا ﴿ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ﴾ : يقتلوكم بأفضح أنواعه ﴿ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ﴾ : كرها والعود بمعنى الصيرورة، أو كانوا على دينهم فهداهم الله للإيمان ﴿ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ﴾ : إن دخلتم في دينهم.
﴿ وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ أي : كما أنمناهم وأيقظناهم أطلعنا عليهم ﴿ لِيَعْلَمُوا ﴾ أي : ليعلم من يطلع عليهم ﴿ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ ﴾ : بالبعث ﴿ حَقٌّ ﴾ : يقاس الموت والبعث بتلك الرقدة، والإيقاظ ﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ ﴾ آتية ﴿ لا رَيْبَ فِيهَا ﴾ فإن من حفظ أبدانهم من التفتت ثلاثمائة سنين يمكن له حفظ النفوس إلى أن يحشر أبدانها ﴿ إِذْ يَتَنَازَعُونَ ﴾ ظرف لأعثرنا ﴿ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ﴾ : أمر دينهم، فإن لأهل ذلك الزمان١ شكا في البعث فمنهم من قال : يبعث الأرواح لا الأجساد فيبعثهم الله حجة لمن يقول تبعث الأرواح والأجساد معا، أو التنازع في البنيان فقال المسلمون : نبني عليهم مسجدا يصلي فيه الناس، لأنهم على ديننا والمشركون يقولون : نبني بنيانا لأنهم من أهل نسبنا أو التنازع في مدة لبثهم وعددهم ﴿ فَقَالُوا ﴾ أي : المرتابون في البعث٢ ﴿ ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ﴾ أي : سدوا عليهم باب الكهف وذروهم على حالهم فإن ربهم أعلم بحالهم وقيل : هذا يدل على أن التنازع في مدة اللبث أو العدد ﴿ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ ﴾ وهم المؤمنون وكانوا غالبين في ذلك الوقت ﴿ لنتخذن عليهم مسجدا ﴾ حكى أن المبعوث إلى الطعام لما أخرج الدرهم للطعام أخذوا درهمه واتهموه بوجدان كنز ؛ لأن الدرهم على ضرب لم يروه فسألوه عن أمره فقال : أنا من هذه المدينة وعهدي بها عشية أمس وضربه ضرب دقيانوس، فنسبوه إلى الجنون فحملوه إلى ولي أمرهم فأخبرهم بأمره فقام متولى البلد وأهلها معه حتى انتهى إلى الكهف فقال : دعوني أتقدم في الدخول فعمى عليهم المدخل وأخفى الله فبنوا ثم مسجدا، وعن بعضهم : دخلوا عليهم ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم ثم كلمهم وودعهم فتوفاهم الله.
١ صرح بذلك ابن عباس وعكرمة وغير واحد من السلف /١٢ منه..
٢ لئلا يتطرق الناس إليهم كما حفظت تربة ـ رسول صلى الله عليه وسلم ـ بالحظيرة /١٢ فتح.
.

﴿ سيقولون ﴾ : القائلون أهل الكتاب والمؤمنون في عهد نبينا عليه الصلاة والسلام ﴿ ثَلاثَةٌ ﴾ أي : هم ثلاثة رجال ﴿ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ﴾ أي : يرمون رميا بلا علم كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه، فإنه لا يكاد يصيب، وإن أصاب فبلا قصد والقائل بهما أهل الكتاب ﴿ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ ﴾ والقائل هم المؤمنون ﴿ وَثَامِنُهُم١ كَلْبُهُمْ ﴾ وفائدة هذا الواو بين الصفة والموصوف تأكيد لصوقها به والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر، وهي التي آذنت بأن هذا القول منهم لا عن رجم بالغيب، بل عن دليل وعلم ﴿ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ ﴾ من الناس وقد صح٢ عن ابن عباس أنه قال : أنا من ذلك القيل كانوا سبعة٣ ﴿ فَلَا تُمَارِ٤ : لا تجادل ﴿ فِيهِمْ ﴾ : في شأن الفتية ﴿ إِلا مِرَاء ظَاهِرًا ﴾ : سهلا هينا، فإن معرفته لا يترتب عليه كثير فائدة، فلا تجهلهم ولا ترد عليهم ﴿ وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا ﴾ : لا تسأل عن قصتهم أحدا منهم، فإنهم لا يقولون إلا ظنا بالغيب.
١ روي أن السيد و العاقب وأصحابهما من نصارى أهل نجران كانوا عند النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فجرى ذكر أصحاب الكهف، فقال السيد وكان يعقوبيا: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم، وقال العاقب وكان نسطوريا: كانوا خمسة سادسهم كلبهم، وقال المسلمون: كانوا سبعة وثامنهم كلبهم، فحقق الله قول المسلمين بعدما حكى قول النصارى فقال: "سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم" /١٢ معالم..
٢ نقله ابن جرير عن عكرمة عن ابن عباس و كذا روى ابن جريج عن عطاء الخرساني عنه /١٢ منه..
٣ الدر المنثور للسيوطي (٤/٣٩٣) وعزاه إلى الطبراني في الأوسط وصحح سنده..
٤ قال ابن عباس: يقول حسبك ما قصصت عليك ثم استثنى سبحانه من المراء ما كان ظاهرا وضحا فقال إلا مراء ظاهرا أي: غير متعمق فيه وهو أن يقص عليهم ما أوحى الله إليه، فحسب من غير تجهيل لهم ومن غير رد عليهم، وقال الرازي: هو أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد، بل يقول: هذا التعيين لا دليل عليه، فوجب التوقف ثم نهاه سبحانه عن الاستفتاء في شأنهم، فقال: "ولا تستفت فيهم منهم أحدا"؛ لأن المفتي يجب أن يكون أعلم من المستفتي، وها هنا الأمر بالعكس ولا سيما في واقعة أهل الكهف، وفيما قص الله عليك في ذلك ما يغنيك عن سؤال ما لا علم له، قال ابن عباس: يعني اليهود، وقال القرطبي: النصارى وهم الأولى، قال البيضاوي: لا تسأل سؤال مسترشد ولا سؤال متعنت يريد فضيحة المسئول وتزييف ما عنده، فإنه يخل بمكارم الأخلاق، وفي الآية دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم /١٢.
.

﴿ وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ ﴾ أي : لأجل شيء تعزم عليه ﴿ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ ﴾ : الشيء، ﴿ غَدًا ﴾ أي : فيما يستقبل من الزمان، ولم يرد خصوصية الغد.
﴿ إِلا أَن يَشَاء اللَّهُ ﴾ : إلا بأن يشاء الله، أي : متلبسا بمشيئته، يعني إلا أن يقول إن شاء الله، فهو استثناء من النهي، نزلت حين سأل أهل مكة عن الروح وأصحاب الكهف وذي القرنين، فقال عليه السلام :" أخبركم غدا "، ولم يقل إن شاء الله، فلبث الوحي أياما نزلت هذه الآية تعليما وتأديبا، وقيل معناه : لا تقولن ذلك القول إلا أن يشاء الله أن تقوله، بأن يأذن لك فيه ﴿ وَاذْكُر رَّبَّكَ ﴾ أي : مشيئته، وقل إن شاء الله ﴿ إِذَا نَسِيتَ ﴾ : إذا فرط منك نسيان، يعني : إذا أنسيت كلمة الاستثناء ثم تنبهت عليها فتداركها بالذكر. وعن ابن عباس : للحالف أن يستثني ولو بعد سنة، قال ابن جرير : السنة أن يقول ذلك حتى ولو كان بعد الحنث، ليكون أتيا بسنة الاستثناء لا لأن يكون رافعا للحنث مسقطا للكفارة، وقال : هذا هو الصحيح الأليق بحمل كلامه عليه، وقد نقل عن ابن عباس إن هذا خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم أي إنه لا يحنث إ ن استثنى ولو بعد سنين، وقيل معناه إنه تعالى أرشد من نسى الشيء من كلامه إلى أن يذكر الله، فإن النسيان منشؤه الشيطان، وذكر الله يطرده فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان ﴿ قُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا ﴾ أي : يدلني ويعطيني من الآيات الدالة على نبوتي ما يكون أقرب وأدل في الرشد من قصة أصحاب الكهف، وقيل معناه إذا سئلت عن شيء لا تعلمه فتوجه إلى الله في أن يوفقك لأقرب طريق إليه وقيل معناه واذكر ربك إذا نسيت شيئا، واذكر ربك أن تقول عند نسيانه عسى ربي أن يهدين لشيء آخر بدل المنسي أقرب من المنسي رشدا.
﴿ وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ ﴾ هذا إخبار من الله بمقدار لبثهم منذ أرقدهم الله إلى أن بعثهم، وسنين : عطف بيان لثلاثمائة عند من قرأ مائة بالتنوين ﴿ وَازْدَادُوا تِسْعًا١ فإن مقداره ثلاث مائة سنة وتسع بالهلالية، فيكون بالشمسية ثلاث مائة سنة، لأن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين.
١ ولما كان الخطاب للعرب وحسابهم القمرية زيدت التسع لاتفاق الحسابين /١٢ وجيز..
﴿ قُلِ ﴾ : يا محمد ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا١ فلا تختلفوا بعد ما أخبركم الله بمدته ﴿ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ جملة مستأنفة لتعليل الأعلمية وعن قتادة أن قوله ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة حكاية قول أهل الكتاب٢ وقد رده الله بقوله :" قل الله أعلم " والأول قول أكثر السلف والخلف ﴿ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ﴾ هما صيغتا التعجب أي : ما أبصره وما أسمعه، فالضمير الراجع إلى الله فاعل والباء صلة ﴿ مَا لَهُم ﴾ الضمير لأهل السماوات والأرض ﴿ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ ﴾ : يلي أمرهم ﴿ وَلا يُشْرِكُ ﴾ : الله ﴿ فِي حُكْمِهِ ﴾ : قضائه ﴿ أَحَدًا ﴾ : منهم.
١ اختلف الناس في زمان أصحاب الكهف وفي مكانهم، أما الزمان الذي حصلوا فيه، فقيل: إنهم كانوا قبل موسى عليه السلام وإن موسى ذكرهم في التوراة، ولهذا السبب؛ اليهود سألوا عنهم، وقيل: دخلوا الكهف قبل المسيح، وأخبر المسيح بخبرهم، ثم بعثوا في الوقت الذي بين عيسى عليه السلام وبين محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وقيل: إنهم دخلوا الكهف بعد المسيح وحكى القفال هذا القول عن محمد بن إسحاق، وقال قوم: إنهم لم يموتوا ولا يموتون إلى يوم القيامة، وأما مكان هذا الكهف فحكى القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي النجم أن الواثق أنفذه ليعرف حال أصحاب الكهف إلى الروم، قال: فوجه ملك الروم معي أقواما إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه، قال: وإن الرجل الموكل بذلك الموضع منعني من الدخول عليهم، قال: فدخلت ورأيت الشعور على صدورهم، قال: وعرفت إنه تمويه واحتيال، و إن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأودية المجففة، لأبدان الموتى لتصونها عن البلى مثل التلطيخ بالصبر وغيره، ثم قال القفال: والذي عندنا لا يعرف أن ذلك الموضع هو موضع أصحاب الكهف، أو موضع آخر، والذي أخبر الله عنه وجب القطع به ولا عبرة بقول أهل الروم إن ذلك الموضع هو موضع أصحاب الكهف، وأقول: العلم بذلك الزمان وبذلك المكان ليس للعقل فيه مجال، وإنما يستفاد ذلك من نص وذلك مفقود وثبت أنه لا سبيل إليه /١٢ كبير ملخصا..
٢ وكان في مصحف عبد الله قالوا لبثوا في كهفهم / كذا في البحر ١٢ وجيز..
﴿ وَاتْلُ١ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ ﴾ : من القرآن ﴿ لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ : لا أحد يقدر على تبديلها ﴿ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا ﴾ : ملجأ تعدل إليه إن لم تتل ولم تتبع.
١ ولما أنزل ما أنزل من قصة أهل الكهف التي سألوها امتحانا أمره بأن يقص على معاصريه ما أوحي إليه في شأنهم و في غيرهم فقال: "واتل ما أحي" الآية /١٢ وجيز..
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ ﴾ : احبسها ﴿ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾ : طرفي النهار ﴿ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ : يريدون الله لا عوضا من الدنيا نزلت في أشرف قريش حين طلبوا أن يفرد لهم مجلسا لا يكون فيه فقراء الصحابة١ فيه ولذلك قال الله :﴿ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ﴾ : لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الغنى والزينة، واستعماله بعن مع أنه مستعمل بغير واسطة لتضمينه معنى نبا٢ يقال : نبت عنه عينه إذا ازدرته ولم تتعلق به ﴿ تُرِيدُ ﴾ حال من كاف عيناك ﴿ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ أي : مجالسة الأشراف ﴿ وَلا تُطِعْ ﴾ : في تبعيد الفقراء ﴿ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ ﴾ : جعلنا قلبه غافلا ﴿ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ : متقدما للصواب نابذا له وراء ظهره يقال : فرس فرط، أي : متقدم للخيل.
١ الذين يؤدوننا رائحة جيبهم كعمار وابن مسعود وصهيب وسلمان وبلال ـ رضي الله عنهم ـ وأرضاهم /١٢ وجيز..
٢ نبا كمنع: ارتفع / قاموس.
.

﴿ وَقُلِ ﴾ : يا محمد ﴿ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ﴾ أي : هذا هو الحق حال كونه من ربكم أو الحق ما يكون من ربكم ﴿ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ﴾ : فإني لا أبالي وهو تخيير بمعنى التهديد ﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا ﴾ : هيأنا ﴿ لِلظَّالِمِينَ ﴾ أي : الكافرين ﴿ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ﴾ : نسطاطها شبه به ما يحيط بهم من النار أو دخانها ﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُوا ﴾ : من العطش ﴿ يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ ﴾ : كمذاب النحاس عن ابن عباس هو ماء غليظ كدردي الزيت ﴿ يَشْوِي الْوُجُوهَ ﴾ : من حره إذا قدم ليشرب ﴿ بِئْسَ الشَّرَابُ ﴾ : المهل ﴿ وَسَاءتْ ﴾ : النار﴿ مُرْتَفَقًا ﴾ : متكئا أو منزلا.
﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ﴾ قوله :" من أحسن عملا " هو عين من آمن وعمل صالحا فجاز أن يكون " إنا لا نضيع " خبر إن أو تقديره إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا منهم أو هو جملة معترضة وخبره قوله :﴿ أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساورمن ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسنت مرتفقا ﴾.
﴿ أولئك لهم جنات عدن ﴾ سميت عدنا لخلود المؤمنين فيها يقال : عدن بالمكان، إذا أقام فيه ﴿ تجري من تحتهم ﴾ أي : من تحت غرفهم ﴿ الأنهار يحلون ﴾ : يزينون ﴿ فيها من أساور ﴾ جمع أسورة أو أسوار في جمع سوار ومن للابتداء ﴿ من ذهب ﴾ صفة أساور، ومن للبيان ﴿ ويلبسون ثيابا حضرا من سندس ﴾ : رقيق الديباج ﴿ وإستبرق ﴾ : غليظ منه فإن ما يلي البدن رقيق وما فوقه غليظ كما في الدنيا ﴿ متكئين فيها ﴾ الاتكاء الاضطجاع أو التربع في الجلوس ﴿ على الأرائك ﴾ : السرور، ﴿ نعم الثواب ﴾ : الجنة ونعيمها ﴿ وحسنت ﴾ : الأرائك أو الجنات ﴿ مرتفقا ﴾ : متكئا أو منزلا.
﴿ واضرب١ لهم مثلا رجلين ﴾ بيان لمثلا، أو بدل لحذف المضاف أي مثل رجلين قيل : هما أخوان من بني إسرائيل ورثا مالا فاشترى أحدهما بميراثه ضياعا وزينة، وصرفه الآخر في وجوه الخير ﴿ جعلنا ﴾ الجملة بيان التمثيل أو صفة رجلين ﴿ لأحدهما جنتين ﴾ : بستانين ﴿ من أعناب وحففناهما بنخل ﴾ أي : جعلنا النخل محيطة بهما والباء للتعدية إلى المفعول الثاني يقال : حففته بهم إذا جعلتهم حافين حوله ﴿ وجعلنا بينهما ﴾ : وسط النخل والكرم ﴿ زرعا ﴾.
١ أي لهؤلاء المتجبرين الطالبين طرد الضعفاء من المؤمنين لفقرهم المفتخرين بما هو في معرض الزوال من الأنصار والمال "مثلا رجلين" الآية /١٢ وجيز..
﴿ كلتا الجنتين آتت أكلها ﴾ وإفراد الضمير لإفراد كلتا ﴿ ولم تظلم ﴾ : تنقص ﴿ منه ﴾ : من أكلها ﴿ شيئا ﴾ : كما يعهد نقصها في سائر البساتين ﴿ وفجرنا خلالهما ﴾ : وسط الجنتين ﴿ نهرا ﴾.
﴿ وكان له ﴾ : لصاحب البستانين ﴿ ثمر ﴾ : أنواع من المال ﴿ فقال ١ لصاحبه٢ : الذي صرف ميراثه لوجه الله ﴿ وهو يحاوره٣ : يراجعه في الكلام لا أنه يجادله ﴿ أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا ﴾ : حشما عشيرة وأولادا ذكورا.
١ حاصل ما قاله الكافر من القول الشنيع ثلاث مقالات:
الأولى: أنا أكثر منك مالا الخ، الثانية: ودخل جنته الخ. الثالثة: وما أظن الساعة قائمة الخ. وقد تعقبه المؤمن في الثلاثة على سبيل اللف والنشر المشوش فوبخه على الأخيرة بقوله: "أكفرت بالذي خلقك" الخ ووعظه ونصحه على الثانية بقوله: "ولولا إذ دخلت جنتك" الخ. وقرعه على الأول بقوله: "فعسى ربي" الخ /١٢ فتوحات الإلهية للشيخ سليمان الجمل..

٢ وهذا دال على أنه ليس أخاه /١٢ وجيز..
٣ أي: حال كونه يراجعه في الكلام ولا يغاضبه /١٢ وجيز..
﴿ ودخل جنته ﴾ : حين أخذ بيد صاحبه وأدخله بستانه يطوف به فيها يفاخره بها ﴿ وهو ظالم لنفسه ﴾ : بسبب عجبه وكفره ﴿ قال ما أظن أن تبيد ﴾ : تفنى ﴿ هذه أبدا ﴾ : راقه حسنها وغرته زهرتها فتوهم أنها لا تفنى، والله در صاحب الكشاف حيث قال : وترى أكثر الأغنياء من المسلمين وإن لم يطلقوا بنحو هذا ألسنتهم فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه١.
١ والأمر كما قال، قال الله تعالى: "الذي جمع مالا وعدده يحسب أن ماله أخلده" (الهمزة: ٢، ٣)، فإنه لفرط غروره وطول أمله لا يخطر الموت بباله فيعمل أعمال ما يظن الخلود /١٢ وجيز..
﴿ وما أظن الساعة قائمة ﴾ : كائنة، ﴿ ولئن رددت إلى ربي ﴾ يعني : وإن فرضنا حقيقة البعث ﴿ لأجدن خيرا منها ﴾ : من الجنة ﴿ منقلبا ﴾ : مرجعا وعاقبة ؛ لأنه ما أعطاني في الدنيا إلا لاستئهالي لذلك والآخرة لو كانت خير وأبقى.
﴿ قال له صاحبه ﴾ : المؤمن ﴿ وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك ﴾ أي : خلق١ أصل مادتك ﴿ من تراب ثم من نطفة ﴾ : فإنها مادتك القريبة ﴿ ثم سواك رجلا ﴾ : عدلك وكملك إنسانا ذكرا بالغا.
١ فإن آدم من تراب وقيل: أراد أن ماء الرجل يتولد من أغذية راجعة إلى التراب /١٢ وجيز..
﴿ لكنا ﴾ أصله : لكن أنا، حذفت الهمزة وأدغمت النونان ﴿ هو ﴾ ضمير الشأن ﴿ الله ربي ﴾ والجملة خبر أنا، كأنه قال أنت كافر لكني مؤمن١ ﴿ ولا أشرك بربي أحدا ﴾.
١ والاستفهام في "أكفرت" لما كان للتوبيخ والتقرير أدى هذا المؤدى ولا شك أن الكفر يقابله الإيمان، فجاز الاستدراك /١٢ منه. كأنه قال: أنت كافر بالله لكن أنا مؤمن /١٢ بيضاوي..
﴿ ولولا إذ دخلت جنتك قلت ﴾ أي : هلا قلت حين دخلت ﴿ ما شاء الله ﴾ ما موصولة أي : الأمر ما شاء الله أو ما شاء كائن ﴿ لا قوة إلا بالله ﴾ إقرارا بأنها بمشيئته الله إن شاء أبقاها وإن شاء أفناها واعترفا بالعجز على نفسك والقدرة لله قال بعض السلف : من أعجبه١ شيء فيلقل ما شاء الله لا قوة إلا بالله ﴿ إن ترن أنا ﴾ ضمير الفصل أو تأكيد للمفعول ﴿ أقل منك مالا وولدا ﴾.
١ قد روي في حديث مرفوع أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده: ولكن ضعفه الحافظ أبو الفتح الأزدي /١٢ منه وجيز وفي الفتح أخرج أبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ما أنعم الله على عبده نعمة في أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله دفع الله عنه كل آفة حتى تأتيه منيته وقرأ هذه الآية"، وفي إسناده عيسى بن عون وروي عن أنس نحوه موقوفا و قد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له: "ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة لا حول ولا قوة إلا بالله" /١٢. [أخرجه البخاري (٦٤٠٩).]
.

﴿ فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك ﴾ في الآخرة أو في الدنيا أيضا ﴿ ويرسل عليها ﴾ على جنتك ﴿ حسبانا من السماء ﴾ مراقي جمع حسبانة وهي الصاعقة ﴿ فتصبح ﴾ الجنة ﴿ صعيدا ﴾ أرضا ﴿ زلقا ﴾ ملساء لا يثبت فيه قدم.
﴿ أو يصبح ماؤها غورا ﴾ غائرا في الأرض مصدر وصف به كالزلق ﴿ فلن تستطيع له ﴾ للماء الغائر ﴿ طلبا ﴾ في رده.
﴿ وأحيط بثمره ﴾ عبارة عن إهلاكه ﴿ فأصبح يقلب كفيه ﴾ ظهرا لأبطن تأسفا ﴿ على ما أنفق فيها ﴾ متعلق بيقلب لأنه في معنى يتحسر أي : يتحسر على ما أنفق في عمارتها ﴿ وهي خاوية ﴾ ساقطة ﴿ على عروشها ﴾ فإن كرومها المعرشة سقطت عروشها على الأرض وسقطت الكروم فوقها ﴿ ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا ﴾ : تذكر موعظة أخيه، وتمنى لو لم يكن مشركا حتى لا يهلك الله بستانه.
﴿ ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله ﴾ أي : يقدرون على نصرته من دون الله، وحمل ينصرونه حيث لم يقل تنصره على المعنى دون اللفظ ﴿ وما كان منتصرا ﴾ : ممتنعا عن انتقام الله تعالى منه، أي : لا يقدر أحد ولا هو نفسه على انتصاره.
﴿ هنالك الولاية لله الحق ﴾ من القراء من يقف على هنالك، فعلى هذا معناه منتصرا في ذلك الموطن الذي به عذاب الله، ومن لم يقف عليه فمعناه في ذلك الموطن الذي نزل عليه عذاب الله النصرة له وحده، لا يقدر عليها غيره أو ينصر فيها أولياءه على أعدائه، و من قرأ الولاية بكسر الواو فمعناه : في تلك الحالة السلطان له وحده لا يبعد غيره، وكل أحد من مؤمن أو كافر يرجع إلى الله وإلى موالاته والخضوع له كما قال الله تعالى :" فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده " والحق : صفة الولاية أو صفة لله على القراءتين ﴿ هو خير ثوابا ﴾ لأهل طاعته لو كان غيره يثيب ﴿ وخير عقبا١ أي : عاقبة طاعته خير من عاقبة طاعة غيره.
١ ونصب ثوابا وعقبا بالتمييز أي: الله خير ثوابا لأهل طاعته لو كان غيره مثيبا، وخير عاقبة طاعته من غير طاعة غيره سبحانه، والأصح أن الرجلين رفيقان ورثا مالا فاشترى أحدهما ضياعا و صرف عمره وماله فيها، والآخر صرف ماله في وجوه الخير وعمره في الطاعة، فلم يبق في يد الأول سوى الندم والجزع والخسران، والثاني وجد ما قر عينيه، كذلك حال صناديد القريش المتمنعين عن فقراء المؤمنين المفتخرين بثيابهم و طيب رائحتهم و بقاء راحتهم وفسحة ساحتهم، فساء صباح المنذرين، ولما أتم المثل الأول لدنياهم الخاصة بهم التي أبطرتهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ضرب لدار الدنيا العامة لذوي العقول في قلة بقائها وسرعة فنائها فقال: "واضرب مثلا" الآية /١٢ وجيز..
﴿ واضرب لهم مثل الحياة الدنيا ﴾ : اذكر لهم ما يشبه الحياة الدنيا في زهرتها وسرعة زوالها١ ﴿ كماء ﴾ أي : هو كماء ﴿ أنزلناه من السماء فاختلط به ﴾ : التف بسببه وتكاثف حتى خالط بعضه بعضا ﴿ نبات الأرض فأصبح هشيما ﴾ : يابسا مكسورا، ﴿ تذروه ﴾ : تفرقه وتطيره ﴿ الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا ﴾ : قادرا.
١ واغترار الناس بها / ١٢..
﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ ﴾ : اللذان يفتخر بهما الأغنياء ﴿ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ : لا زينة الآخرة ﴿ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ ﴾ أي : الأعمال الصالحة، و عن كثير من السلف١ إنها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ٢ ﴿ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا ﴾ أفضل جزاء وثوابا ﴿ وَخَيْرٌ أَمًَلا ﴾، لأن صاحبها ينال ما يؤمل بها في الدنيا.
١ صرح بذلك ابن عباس وعثمان وابن عمر ومجاهد والحسن وقتادة وفيه أحاديث تدل على ما زعموا /١٢ منه. والظاهر أن الباقيات الصالحات كل عمل خير، عن قتادة: كل شيء من طاعة الله فهو من الباقيات الصالحات فيندرج فيها ما فسرت به من الصلوات الخمس، وأعمال الحج والعمرة وصيام رمضان والكلام الطيب وغير ذلك اندراجا أوليا /١٢ فتح..
٢ و قد ورد فيه حديث ضعيف مرفوعا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم ولفظه: "استكثروا من الباقيات الصالحات: التسبيح والتهليل و التحميد والتكبير، ولا حول ولا قوة إلا بالله" وانظر ضعيف الجامع.].
﴿ وَيَوْمَ١ أي : اذكر يوم ﴿ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ ﴾ : نقلعها٢ ونسيرها كالسحاب ﴿ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً ﴾ : ظاهرة قاعا صفصفا سطحا مستويا لا وادي فيها ولا جبل ﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ ﴾ الواو للعطف أو للحال أي : وقد حشرنا جمع الخلق وأحييناهم قبل تسيير الجبال ليعاينوا ما أنكروا ﴿ فَلَمْ نُغَادِرْ ﴾ : لم نترك، ﴿ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾.
١ ولما ذكر ما يئول إليه حال الدنيا من النفاد أعقبه بأوائل أحوال القيامة حتى تيقن عندك ضرب المثل فقال: "ويوم نسير الجبال.." الآية /١٢ وجيز..
٢ من أصولها كما نسير نبات الأرض بعد أن صيرناه هشيما /١٢..
﴿ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ ﴾ : كما يعرض الجند على السلطان ليأمر فيهم ﴿ صَفًّا ﴾ : مصطفين لا يحجب أحد أحدا ﴿ لَّقَدْ جِئْتُمُونَا ﴾ حال من نسير أي : قائلين لهم ذلك، وجاز أن يكون تقديره : قلنا لهم ذلك فهو العامل في يوم نسير الجبال، ولا نقدر اذكر ﴿ كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ : عراة بلا مال ولا ولد ﴿ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا ﴾ للبعث، والجزاء والخطاب للبعض قيل بل للخروج من القصة إلى أخرى.
﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ ﴾ أي : صحف الأعمال في أيمانهم وشمائلهم ﴿ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ ﴾ : خائفين ﴿ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا ﴾ ينادون هلكتهم من بين الهلكات ﴿ مَا لِهَذَا الْكِتَابِ ﴾ تعجيبا١ من شأنه، ﴿ لا يُغَادِرُ ﴾ : لا يترك، ﴿ صَغِيرَةً ﴾ أي : هنة٢ صغيرة من أعمالنا ﴿ وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا ﴾ : عدها وحصرها ﴿ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ﴾ : في الصحف أو جزاء ما عملوا حاضرا عندهم ﴿ وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا٣، فيكتب عليه ما لم يفعل أو بأن يعاقبه بما لم يفعل.
١ كأنه قال: يا ويلتنا تعالي وانظري إلى الكتاب وتعجبي منه /١٢ منه..
٢ هن كأخ معناه شيء؛ ويقال هنة للمؤنث والجمع هنات وهنوات ويقال: في فلان هنات أي: خصلات الشر ولا يقال ذلك في الخير /١٢ صراح..
٣ ولما ذكر الحشر وخوف المجرمين من أعمالهم وإبليس هو حاملهم على المعاصي بين عداوته القديمة مع أبيهم ليتخذوه عدوا فقال: "وإذ قلنا للملائكة" /١٢ وجيز..
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا ِلآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ١ ذكره بعد ذكر صنيع المفتخرين بالأبناء، والأولاد ليعلموا أن الكبر من سنن إبليس، أو لما نفرهم عن الاغترار بزهرة الدنيا نبههم بقدم عداوة إبليس معهم ﴿ كَانَ مِنَ الْجِنِّ ﴾ : استئناف كأنه قيل لم لم يسجد ؟ ! فقال : لأنه كان من الجن وقد مر خلاف بين السلف في أنه من الملائكة الذين يقال لهم الجن، أو من الجن حقيقة ﴿ فَفَسَقَ ﴾ : خرج، ﴿ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ : بترك السجود والفاء مشعر بأن سبب عصيانه كونه جنيا فإن الملك لا يعصى ﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ ﴾ الهمزة للإنكار والتعجب أي أعقيب ما صدر منه تتخذونه ﴿ وَذُرِّيَّتَهُ ﴾ عن بعضهم هم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم وقيل : يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين، ﴿ أَوْلِيَاء مِن دُونِي ﴾ : فتطيعونهم بدل طاعتي ﴿ وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا ﴾ : من الله إبليس وذريته٢.
١ روى الضحاك عن ابن عباس أنه كان من أشرف الملك وكان خازنا على الجنان وله سلطان السماء الدنيا و الأرض، فرأى لنفسه شرفا على أهل السماء، فوقع في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله سبحانه فأمره الله بالسجود لاستخراج ذلك الكبر منه، فاستكبر وأظهر ما هو كائن فيه فذكر حاله بعد حكاية صناديد قريش والرجل المفتخر بالبستان والأولاد في غاية المناسبة ليعلموا أن الكبر من سنته /١٢ وجيز..
٢ أي: استبدلوا بطاعة الله طاعة إبليس..
﴿ مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ ﴾ أي : ما أحضرت الشياطين زمان خلقي الدنيا لأستعين بهم فأنا المستقل بيس معي شريك فمالكم اتخذتموهم شركاء لي ! ﴿ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا١ : أعوانا، وفي وضع المضلين موضع الضمير ذم لهم واستبعاد للاعتصام بهم.
١ ولما ثبت جهل من أطاع الشياطين بين أنهم يضرونهم في أحوج زمان، ومكان، فقال: "ويوم يقول" /١٢ وجيز.
.

﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ ﴾ أي : الله للكافرين :﴿ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ ﴾ : أنهم شركائي أو أنهم شفعاؤكم ﴿ فَدَعَوْهُمْ ﴾ : للإغاثة ﴿ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا ﴾ : مهلكا فلا وصول لهم إلى آلهتهم، بل بينهما مهلك وعن بعضهم هو واد في النار أو نهر من قيح ودم، وعن بعض السلف أن ضمير بينهم إلى المؤمنين والكافرين أي نفرق نجعل بينهم حاجزا.
﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا ﴾ : أيقنوا، ﴿ أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا ﴾ : مخالطوها١ واقعون فيها، فيكون ذلك من باب تعجيل حزنهم وغمهم ﴿ وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ﴾ : مكانا ينصرفون إليه.
١ مخالطوها: واقعون فيها من مسيرة أربعين سنة كذا في الحديث لتعجيل غمهم وتقدم خوفهم قبل الوقوع فيها والظن بمعنى اليقين أو على ظاهره لرجاء الخلاص من رحمة الله /١٢ وجيز..
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا ﴾ : بينا وكررنا ﴿ فِي هَذَا الْقُرْآنِ ﴾ : الواضح المبين، ﴿ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ﴾ : يحتاجون إليه، ﴿ وَكَانَ الإنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ ﴾ : يتأتى منه الجدل ﴿ جَدَلا١ : خصومة ومعارضة للحق بالباطل إلا من عصمه الله ونصبه بالتمييز.
١ و الظاهر العموم، فإن هذا النوع أكثر شيء يتأتى منه الجدل ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث على أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ طرقه وفاطمة ليلا فقال: ألا تصليان فقلت: يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إلى شيئا ثم سمعته يضرب فخذه ويقول: "كان الإنسان أكثر شيء جدلا" /١٢ فتح..
﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ ﴾ من ﴿ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى ﴾ : الرسول والقرآن ﴿ وَيَسْتَغْفِرُوا١ رَبَّهُمْ ﴾ عطف على يؤمنوا أي : من أن يستغفروا ﴿ إِلا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ﴾ أي : إلا تقدير أن يأتيهم عذاب الاستئصال فإنه تعالى قدر عليهم العذاب فذلك هو المانع من إيمانهم، أو إلا طلب أن يأتيهم العذاب الموعود وأخذهم عن آخرهم كما قالوا :" فأسقط علينا كسفا من السماء. . " الآية ( الشعراء : ١٨٧ )، " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر " ( الأنفال : ٣٢ ). أو إلا انتظار أن تأتيهم كما يقال لمن حان له الرواح عن منزله وهو غير رائح : ما تنتظر إلا الهلاك ﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبًُلا٢ عيانا وهو بضم القاف والباء لغة في قبلا بكسر القاف وفتح الباء أو جمع قبيل بمعنى أنواع.
١ كما قال: "فإذا هو خصيم مبين" (يس: ٧٧)، لا يذعن للأدلة اليقينية والأمثال الواضحة /١٢.
.

٢ وفيه إشارة إلى أن جبلة قريش كجبلة عاد و ثمود وليس الجدال وعدم قبول الحق من خواصهم /١٢ وجيز..
﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلا مُبَشِّرِينَ ﴾ : للمؤمنين، ﴿ وَمُنذِرِينَ ﴾ : للكافرين، ﴿ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِل ﴾ كما قالوا :" أبعث الله بشرا رسولا " ( الإسراء : ٩٤ )، " ولولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم " ( الزخرف : ٣١ )، وأمثال ذلك ﴿ لِيُدْحِضُوا ﴾ : ليزيلوا، ﴿ بِهِ ﴾ : الجدال، ﴿ الْحَقَّ ﴾ الذي جاءهم عن مقره ويبطلوه ﴿ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي ﴾ الحجج والبراهين ﴿ وَمَا أُنذِرُوا ﴾ أي : ما أنذروه من العقاب أو ما مصدرية أي : إنذارهم ﴿ هُزُوًا ﴾ : استهزاء.
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ﴾ : بالقرآن، ﴿ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ﴾ تركها ولم يؤمن بها ولم يتفكر فيها ﴿ وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ ﴾ : ما سلف من معاصيه، ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ﴾ : أغطية وغشاوة تعليل للإعراض والنسيان ﴿ أن يَفْقَهُوهُ ﴾ أي : كراهة أن يفهموه، ولما كان المراد بالآيات القرآن ذكر الضمير وأفرده ﴿ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾ : صمما وثقلا معنويا عن استماع الحق حق استماعه ﴿ وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا ﴾ إذا جواب وجزاء كأن قوله :" إنا جعلنا على قلوبهم أكنة " في معنى لا تدعهم ثم نزل حرصه عليه الصلاة والسلام على إيمانهم منزلة قوله مالي لا أدعوهم فأجيب بقوله وإن تدعهم إلى الآخر.
﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ﴾ : البليغ المغفرة، ﴿ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا ﴾ : من الذنوب، ﴿ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ ﴾ : في الدنيا، ﴿ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ ﴾ هو يوم القيامة وقيل : بدر ﴿ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ ﴾ : من دون الله في ذلك الموعد، ﴿ مَوْئِلا ﴾ : منجا، وقيل : لن يجدوا من دون ذلك الموعد ومن عنده منجا ومهربا.
﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى ﴾ أي : أصحابها أي قرى عاد وثمود وأضرابهم مرفوع بالمبتدأ وقوله :﴿ أَهْلَكْنَاهُمْ ﴾ خبره أو منصوب بشريطة التفسير ﴿ لَمَّا ظَلَمُوا ﴾ بأن كفروا وعاندوا ﴿ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم ﴾ : لهلاكهم ﴿ مَّوْعِدًا ﴾ : وقتا معينا لا يزيد ولا ينقص فكذلك أنتم يا قريش احذروا أن يصيبكم ما أصابهم فقد ظلمتم مثل ما ظلموا، بل أشد ومن قرأ المهلك بكسر اللام أي : وقت هلاكهم أو مصدر كالمرجع والمحيص.
﴿ وَإِذْ قَالَ١ أي : واذكر إذ قال ﴿ مُوسَى لِفَتَاهُ ﴾ : يوشع بن نون كان يخدمه :﴿ لا أَبْرَحُ ﴾ حذف خبره للقرينة أي : لا أزال أسير ﴿ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ ﴾ : ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق فإنه فيه موعد لقاء الخضر ﴿ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ﴾ : أو أسير دهرا أو عن بعضهم هو ثمانون أو سبعون سنة، أي : حتى يقع إما بلوغ المجمع أو مضى الحقب قيل : أو بمعنى إلا أن أمضي حقبا من الدهر فأتيقن معه فوات المجمع وقصته أن كليم الله قام خطيبا في بني إسرائيل فسئل أي : الناس أعلم ؟ فقال : أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم ٢ إلى الله فأوحى الله إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك فقال : يا رب كيف لي به ؟ قال : خذ حوتا فحيث ما فقدته فهو ثمه.
١ ولما علم اليهود قريشا أن يسألوا رسول الله ـ صلى الله عليه و على آله وسلم ـ من ثلاثة أشياء امتحانا عن نبوته فسألوا أولا عن أصحاب الكهف وأجاب بما أجاب، وأعقبه بضرب أمثال ونصائح شرع في حكاية موسى بن عمران نبي الله، الدال على أن النبي لا يجب أن يعلم جميع الوقائع فلو لم يجب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أسئلتهم لا يلزم منه أن يكون نبيا، فقال "وإذ قال موسى لفتاه" الآية /١٢ وجيز..
٢ كما وقع من نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه جزم بأن يجيبهم غدا فتأخر الوحي مدة وفرح الأعداء السائلون شامتين /١٢ وجيز..
﴿ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا ﴾ أي : البحرين ظرف أضيف إليه على الاتساع كشهادة بينكم أو بمعنى الوصل ﴿ نَسِيَا حُوتَهُمَا ﴾ نسى موسى أن يطلبه ويوشع أن يذكر له ما رأى من حياته، أو نسيا تفقده ﴿ فَاتَّخَذَ ﴾ : الحوت، ﴿ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا ﴾ : مسلكا وهو مفعول ثان لاتخذ أي : أمسك الله جرية الماء على الحوت فصار كالطاق عليه١ وقد نقل أنه حوت مملوح في مكتل وكان في ذاك٢ المجمع نهر ماء الحياة، فوصل إلى الحوت قطرة منه فحيى٣.
١ كذا في الحديث والصحيح /١٢ وجيز. [أخرج القصة بطولها البخاري في "التفسير"، باب: ﴿فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما، فاتخذ سبيله في البحر سربا﴾، (٤٧٢٦)، وفي غير موضع من صحيحه، ومسلم في "الفضائل" باب: من فضائل الخضر (٥/٢٣٠ ـ ٢٣٥) ط الشعب.].
٢ في النسخة (ن): ذلك..
٣ في النسخة (ن): فنجى.
﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا ﴾ : مجمع البحرين ﴿ قَالَ لِفَتَاهُ ﴾ : يوشع١، ﴿ آتِنَا غَدَاءنَا ﴾ : ما نتغذى به ﴿ لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ﴾ : تعبا٢ ولم يتعب موسى عليه السلام في سفر غيره فلهذا قيده باسم الإشارة، وعن بعضهم ما تعب إلا بعد مجاوزة المجمع.
١ وإنما سمى فتى موسى عليه السلام لأنه كان ملازما له يأخذ عنه العلم و يخدمه ويتبعه وهذا وجه إضافته لموسى /١٢ فتح..
٢ قيل: سارا بعد الصخرة يوما وليلة وألقى عليه التعب بعد أن جاوز الموعد /١٢ وجيز..
﴿ قَالَ أَرَأَيْتَ ﴾ : ما دهاني١ ﴿ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ ﴾ : التي في الموضع الموعود ﴿ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ ﴾ أي : ذكره ﴿ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ﴾ : بدل من الضمير٢ ﴿ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ﴾ أي : سبيلا عجبا، وهو كالأول ثاني مفعولي اتخذ وقيل : تقديره أعجب عجبا، قاله يوشع في آخر كلامه تعجبا.
١ دهاك: أصابك/١٢..
٢ في أنسانيه /١٢..
﴿ قَالَ ﴾ : موسى، ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي : أمر الحوت ﴿ مَا كُنَّا نَبْغِ ﴾ : نطلبه فإنه أمارة الظفر بالطلبة١ ﴿ فَارْتَدَّا ﴾ : رجعا، ﴿ عَلَى آثَارِهِمَا ﴾ : طريقهما : طريقها الذي جاء فيه ﴿ قَصَصًا ﴾ : يقصان أو حال بمعنى مقتصين.
١ من لقاء العبد الصالح /١٢.
.

﴿ فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا ﴾ : هو خضر وكان مسجى بثوب فسلم موسى عليه فقال : وأني بأرضك السلم ﴿ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا ﴾ : علم الباطن إلهاما من رحمتنا. قال البغوي وغيره : أكثر أهل العلم على أنه كان نبيا بل كان١ وليا٢ ﴿ وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا ﴾ مما يختص بنا لا يحصل بالكسب ﴿ عِلْمًا ﴾.
١ في الوجيز: والأصح أنه ولي من أولياء الله باق إلى الآن، وفي المنهية قيل: ملك وقيل: نبي وأما كونه باقيا إلى الآن، فالنووي وابن الصلاح على ترجيح القول بالبقاء وآثار السلف وواقعات الأولياء تدلان عليه /١٢..
٢ كذا نقل، وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح"، (٦/٥٠٠): "حكى ابن عطية البغوي عن أكثر أهل العلم أنه نبي، ثم اختلفوا هل هو رسول أم لا؟ ونقل عن القرطبي قوله: هو نبي عند الجمهور والآية تشهد بذلك، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا يتعلم ممن هو دونه، ولأن الحكم بالباطن لا يطلع عليه إلا الأنبياء. ا هـ. والآية التي أشار إليها في كلامه هي قول الخضر لموسى: "وما فعلته عن أمري" وبها استدل على نبوته. وانظر تفسير القرطبي (٥/٤٠١)، وابن كثير (٣/١٠٠). وقال أبو جعفر ابن المناوي بعدما قرر أن الخضر نبي: أو عقدة تحل من عقد زندقة الصوفية هو أن يكون الخضر نبيا، إذا إنهم يثبتون له بالولاية وستدلون بذلك أن الولي أرفع درجة من النبي!! فانتبه..
﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى ﴾ بعد أن قال له الخضر : من أنت ؟ قال : أنا موسى. قال : موسى بني إسرائيل ؟ قال نعم. ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ ﴾ أصاحبك ﴿ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ ﴾ حال من مفعول أتبع ﴿ مِمَّا عُلِّمْتَ ﴾ مفعول تعلمن ومفعول علمت ضمير محذوف عائد إلى ما والصيغتان من علم الذي بمعنى عرف ﴿ رُشْدًا ﴾ أي : علما ذا رشد فحذف المضاف أو مفعول له لأتبعك ولا نقص أن يكون نبي يتعلم من غيره في غير أصول الدين وفروعه فإنه لابد أن يكون أعلم أهل زمانه فيهما لا في غيرهما وقد نقل أنه قال الخضر : كفاك بالتوراة علما. فقال له موسى : إن الله أمرني بهذا فجئتك.
﴿ قَالَ ﴾ : الخضر ﴿ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ﴾ لما ترى من الأفعال التي تخالف شريعتك.
﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ﴾ أي : وكيف تصبر وأنت نبي على أمور لم يحط ببواطنها خبرك وظواهرها مناكير، فنصب خبرا على التمييز أو مصدر ؛ لأن " لم تحط " بمعنى لم تخبر.
﴿ قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا ﴾ : معك، ﴿ وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ﴾ عطف على صابرا أي : غير عاص أو عطف١ على ستجدني.
١ فلا يكون مقيدا بالمشيئة لفظا ولهذا قيل: قيد الصبر بالمشيئة فصبر، وأطلق عصيانه فعصاه، حيث قال: لا تسألني فسأل وفيه شبهة فانظر إلى قوله: "ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا" /١٢ وجيز.
.

﴿ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ ﴾ : لا تفاتحني بالسؤال عما صدر عني ﴿ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ أي : حتى أكون أنا الفاتح عليك.
﴿ فَانطَلَقَا ﴾ : على الساحل يطلبان سفينة ﴿ حَتَّى إِذَا ركبا في السفينة خرقها ﴾ : عرف أهل السفينة الخضر وحملوهما بغير نول، فأخذ الخضر قدوما وقلع من ألواح السفينة لوحا١ ﴿ قال ﴾ : موسى :﴿ أخرقتها لتغرق ﴾ قيل : اللام لام العاقبة لا لام التعليل ﴿ أهلها لقد جئت شيئا إمرا ﴾ : عظيما من أمر الأمر إذا عظم.
١ هكذا منقول في البخاري عن سعيد بن جبير / منه. [البخاري (٤٧٢٥) وقد تقدم قريبا].
.

﴿ قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا قال ﴾ : له موسى :﴿ لا تؤاخذني بما نسيت ﴾، ما يحتمل الموصولية والمصدرية يعني نسيت وصيتك ولا مؤاخذة على الناسي، وفي الحديث الصحيح١ كانت الأولى من موسى نسيانا٢ ﴿ ولا ترهقني ﴾ : لا تغشني، ﴿ من أمري عسرا ﴾ : بالمؤاخذة على المنسي وعسرا ثاني مفعوليه يقال رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه.
١ سبق تخريج الحديث..
٢ فالمعاني الأخر في معنى النسيان باطل كقول من قال: إنه من معاريض الكلام والمراد شيء آخر نسيه وكذا ما قيل المراد بالنسيان الترك /١٢. كذا في المنهية والوجيز..
﴿ فانطلقا ﴾ بعدما خرجا من السفينة ﴿ حتى إذا لقيا غلاما ﴾ : يلعب مع الغلمان، وكان أحسنهم ﴿ فقتله ﴾ : الخضر بأن أخذ رأسه فاقتلعه، أو ذبحه أو ضرب رأسه بحجر ﴿ قال أقتلت نفسا زكية ﴾ : طاهرة من الذنوب فإنه صغير١ ﴿ بغير نفس ﴾ أي : لم تقتل نفسا وجب عليها القتل ﴿ لقد جئت شيئا٢ نكرا ﴾ : منكر لما كان هذا أقبح بحسب الظاهر بالغ في إنكاره.
١ حكى القرطبي أنه عليه السلام لما قال للخضر واقتلع كتف الغلام الأيسر وقشر اللحم عنه فإذا في عظمه مكتوب كافر لا يؤمن بالله أبدا /١٢ وجيز وما روى ابن حاتم عن أبي العالية أن الخضر كان عبدا لا تراه الأعين إلا من أراد الله أن يريه إياه، فلم يره القوم إلا موسى، ولو رآه القوم لحالوا بينه وبين السفينة و بين قتل الغلام فمخالف للحديث الصحيح "فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول" الحديث كذا في الفتح /١٢..
٢ قيل النكر: أقل من الأمر، فإن قتل نفس واحدة أهون من إغراق جمع قيل: أنكر من الأول؛ لأن الخرق يمكن سده والقتل لا يتدارك /١٢ وجيز..
﴿ قال ألم أقل لك ﴾ زاد في هذه المرة لك زيادة لعتابه على رفض وصيته وقلة صبره ﴿ إنك لن تستطيع معي صبرا ﴾.
﴿ قال إن سألتك عن شيء بعدها ﴾ سؤال اعتراض وإنكار ﴿ فلا تصاحبني فد بلغت ﴾ : وجدت، ﴿ من لدني ﴾ : من قبلي، ﴿ عذرا ﴾ : لما خالفتك مرارا وفي الحديث :" رحمة الله علينا وعلى موسى لو لبث مع صاحبه لأبصر١ العجب٢ ".
١ ذكره ابن جرير و صححه /١٢ منه، [سبق تخريج الحديث]..
٢ سبق تخريج الحديث..
﴿ فانطلقا حتى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ ﴾ هي أنطاكية، وقيل أيلة ﴿ اسْتَطْعَمَا١ أَهْلَهَا ﴾ : سألاهم الطعام ﴿ فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا٢ فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ ﴾ استعار الإرادة للمداناة والمشارفة، كما استعير الهم والعزم لذلك، يقال : عزم السراج أن إذا قرب، وانقض : إذا أسرع سقوطه، ﴿ فَأَقَامَهُ ﴾ قال : بيده فأقامه٣ أو هدمه فبناه ﴿ قَالَ لَوْ شِئْتَ ﴾ : أن تأخذ جعلا ﴿ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ والتاء من تخذ أصل كتبع، وليس من الأخذ يعني : قد علمت أنا جياع حتى افتقرنا إلى المسألة، فما وجدنا مواسيا فلو أخذت على عملك أجرا.
١ أخطأ من استدل بهذه على جواز السؤال كقول بعض الأدباء الذين يسألون الناس:
فإن رددت فما في الرد منقصة علي قد رد موسى قبل الخضر
وقد ثبت في السنة تحريم السؤال بما لا يمكن دفعه /١٢ فتح..

٢ وفي الحديث أنهما كانا يمشيان على مجالسهم يستطعمانهم وهذه عبرة مصرحة بهوان الدنيا على الله سبحانه وتعالى /١٢ وجيز..
٣ قول ابن عباس /١٢..
﴿ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ١ إشارة إلى الفراق الموعود فقوله : لا تصاحبي كهذا أخي إشارة إلى الأخ، أو إشارة إلى السؤال الثالث أي : هذا الاعتراض سبب فراقنا، أو إشارة إلى الوقت أي : هذا وقت فراقنا، وإضافة إلى البين من إضافة المصدر إلى الظرف للاتساع ﴿ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا ﴾.
١ في الحديث: "رحمة الله علينا وعلى موسى لو لبث لقص الله علينا من خبره لكن قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني". أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي والحاكم وصححه/١٢ فتح. [وقال الشيخ الألباني في "صحيح سنن أبي داود" (٣٣٧١): صحيح دون قوله "لكن قال..."]..
﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ١ قيل : فيه دليل على أن المسكين يطلق على ما لا يملك شيئا يكفيه ﴿ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾ : أجعلها ذات عيب ﴿ وَكَانَ وَرَاءهُم ﴾ أي : أمامهم ﴿ مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ ﴾ : صالحة ﴿ غَصْبًا ﴾ نصب بالحال أو بالمفعول له.
١ والظاهر أنه من المساكين ها هنا هو المسكين في قوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين /١٢ منه. [صححه الشيخ الألباني في "صحيح الجامع" (١٢٦١)]..
﴿ وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا ﴾ : يغشيهما ﴿ طُغْيَانًا وَكُفْرًا ﴾ يعني : يحملهما حبه على متابعته على الفساد والكفر، وفي الحديث :" الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافرا " ١.
١ جزء من حديث موسى والخضر أخرجاه في الصحيحين، وقد سبق تخريجه، واللفظ هنا لمسلم (٥/٢٣٩) ط الشعب..
﴿ فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا ﴾ : يرزقهما بدله ولدا ﴿ خَيْرًا مِّنْهُ زَكَاةً ﴾ : طهارة وتقوى ﴿ وَأَقْرَبَ رُحْمًا ﴾ : رحمة وعطفا على والديه عن كثير من السلف : أبدلهما الله جارية : فقيل : تزوجها نبي وولدت نبيا هدى الله به أمة من الأمم١، و عن ابن جريج لما قتله الخضر كانت أمه حاملا بغلام مسلم، ونصب رحما و زكاة على التمييز.
١ انظر فتح الباري للحافظ ابن حجر (٨/٢٧٥)..
﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ ﴾ أي : في تلك المدينة ﴿ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا ﴾ أي : ما وعن كثير من السلف١ أنه لوح من ذهب مكتوب فيه بسم الله الرحمن الرحيم عجبا لمن أيقن بالموت كيف يفرح ؟ ! عجبا لمن آمن بالقدر كيف ينصب ؟ ! عجبا لمن أيقن بالرزق كيف يتعب ؟ ! عجبا لمن أيقن بالحسنات كيف يعقل ؟ !عجبا لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن ؟ ! لا إله إلا الله محمد رسول الله* وفي بعض الروايات : عجبا لمن عرف النار كيف يضحك ؟ ! وقيل : مكتوب في الجانب الآخر أنا الله لا إله إلا أنا و حدي لا شريك لي خلقت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير فأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه، وعن بعض السلف أنه كنز علم. قيل : لا منافاة بين الأقوال ؛ لأن اللوح الذهبي هو مال، وما كتب في كنز علم ﴿ وكان أَبُوهُمَا٢ صَالِحًا ﴾ كان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء وكان نساجا، ويعلم منه أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته ﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا ﴾ : حلمهما وكمال رأيهما ﴿ وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا ﴾ ولو سقط الجدار لتلف الكنز ﴿ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ نصب على المفعول له، ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ ﴾ أي : ما رأيت ﴿ عَنْ أَمْرِي ﴾ : رأيي واختياري، بل فعلته بأمر الله ﴿ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تستطع٣ أي : تستطع حذف التاء تخفيفا ﴿ عَّلَيْهِ صَبْرًا٤.
١ كابن عباس والحسن البصري وجعفر بن محمد وغيرهم لكن الروايات مختلفة في أن المكتوب هذا الذي نقلناه بتمامه أو بعضه بزيادة ونقصان /١٢منه..
٢ والظاهر أن أباهما الذي ولدهما، لكن صرح جعفر بن محمد وغيره أن بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء /١٢ وجيز..
٣ ذكر في هنا تسطع بحذف التاء لأن الثاني كالفذلكة والتأكيد للأول فالتخفيف يناسبه، ولما فرغ عن قصة من طاف في الأرض لتحصيل العلم أعقبه بقصة من طاف في الأرض للجهاد، وهي من الأسئلة التي سألها قريش بتعليم اليهود امتحانا لنبوته وتبكيتا له فقال: "ويسألونك عن ذي القرنين" الآية /١٢ وجيز..
٤ وقد اختلف أهل العلم في حياة الخضر قال ابن الصلاح : هو حي عند جماهير العلماء والصلحاء والعامة منهم، وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث: أنه مات قبل انقضاء مائة سنة من الهجرة، ونصره أبو بكر بن العربي بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في آخر حياته: "لا يبقى على وجه الأرض بعد مائة سنة ممن هو عليها اليوم" وله ألفاظ عند الشيخين وغيرهما عن جابر وابن عمر، وأجاب من أثبت حياته بأنه كان حينئذ على وجه البحر وما أبرد هذا الجواب وأبعده عن الصواب. وأما اجتماعه مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتعزيته لأهل البيت وهم مجتمعون لغسله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال لهم على: هو الخضر، فقد ذكره ابن عبد البر في التمهيد وقيل: اجتمع إلياس مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإذا جاز ذلك جاز بقاء الخضر، رواه ابن أبي الدنيا عن أنس وتعقبه الحافظ أبو الخطاب ابن دحية، وقال: لم يصح من طرقه شيء ولا يثبت اجتماعه مع أحد من الأنبياء إلا مع موسى كما قصه الله من خبره وجميع ما ورد في حياته لا يصح منه شيء باتفاق أهل النقل، وأما ما جاء من المشايخ فهو ما يتعجب منه كيف يجوز العاقل أن يلقى شيخا لا يعرفه فيقول له أنا فلان فيصدقه، وحديث التعزية المتقدم موضوع وفيه ابن محرز متروك وقال مسلم صاحب الصحيح: فلما رأيته كانت بعرة أحب إلى منه، وما روى عن أنس فموضوع أيضا، وقد نقل تكذيبه عن أحمد ويحيى وإسحاق أبي زرعة وسياق المتن ظاهر النكارة وأنه من المجازفات. انتهى كلامه ملخصا /١٢ فتح..
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ ﴾ بعث قريش إلى الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : سلوه عن رجل طاف في الأرض، وعن فتية لا يدرى ما صنعوا، وعن الروح. فنزلت سورة الكهف١، والمشهور أنه الإسكندر الرومي، وما يعلم من تاريخ الأرزقي وغيره أنه غيره، وهذا الرومي كان قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة ووزيره أرسطاطاليس الفيلسوف، وأما هذا الإسكندر فقد كان في زمن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، وطاف بالبيت معه ووزيره الخضر ووجه تسميته أنه كان صفحتا رأسه من نحاس، وقد صح عن علي أنه قال : كان عبدا ناصح الله فناصحه، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الأيمن فمات، فأحياه الله فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه الأيسر فمات فسمي ذا القرنين٢، أو لأنه بلغ طرفي الدنيا من حيث تطلع قرنا الشمس وتغرب ﴿ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم ﴾ : أيها السائلون، ﴿ مِّنْهُ ﴾ من ذي القرنين ﴿ ذِكْرًا٣.
١ ذكره محمد بن إسحاق بسند فيه مجهول كما في تفسير ابن كثير، (٣/٢٧، ٣٧). وعزاه السيوطي في الدر المنثور (٤/٣٨٠) إلى ابن جرير وابن إسحاق وابن المنذر وأبي نعيم والبيهقي كليهما في الدلائل..
٢ قال بعض أهل الكتاب: لأنه ملك الروم والفارس، وقال بعضهم: كان في رأسه شبه القرنين والله أعلم بصحته /١٢ منه..
٣ يحتمل أن يراد من الذكر القرآن، ويحتمل أن يراد الخبر والحديث ولهذا الأمر مناسب؛ لأنه لما تأخر الوحي وفرح قريش شامتين ناسب أن يقال لهم لا تفرحوا فإني سأتلو عليكم ما يحزنكم ثم يأخذ بتفصيل الحكاية "إنا مكنا له" الآية /١٢ وجيز..
﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُّ ﴾ : أمره، ﴿ فِي الأرْضِ ﴾ : بأن تصرف فيها كيف١ شاء ﴿ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ : أراده، ﴿ سَبَبًا٢ وصلة توصله إليه من العلم والقدرة والآلة.
١ وفي الحديث الذين ملكوا الدنيا أربعة مؤمنان: سليمان، وذو القرنين، وكافران نمرود وبختنصر /١٢ وجيز. وزاد في الفتح عن القرطبي: سيملكها من هذه الأمة خامس لقوله تعالى: "ليظهر على الدين كله" (التوبة: ٣٣)، وهو المهدي /١٢..
٢ وأصل السبب ثم توسع فيه حتى صار يطلق على كل ما يتوصل إلى الغرض/١٢ وجيز..
﴿ فَأَتْبَعَ سَبَبًا ﴾ يوصله إلى المغرب.
﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ﴾ أي : رأى الشمس١ في منظره تغرب في عين ذات حمئة أي : طين أسود، ومن قرأ حامية، أي : حارة والجمع بين القراءتين أن تكون العين جامعة للوصفين ﴿ وَوَجَدَ عِندَهَا ﴾ : عند تلك العين ﴿ قَوْمًا ﴾ أمة عظيمة من الأمم كفار ﴿ قُلْنَا٢ يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ ﴾ : بقتلهم وسبيهم ﴿ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ﴾ : بإرشادهم وتعليمهم الشرائع أو بالمن والفداء ؟ أو بأسرهم ؛ فإنه إحسان في جنب القتل.
١ قلنا في منظره؛ لأن الشمس في السماء الرابع، فكيف تغيب في عين كذا؟! وهذا شأن من كل من انتهى إلى ساحل البحر المحيط يراها تغرب فيه /١٢ منه..
٢ ظاهره أنه وحي وقيل كلمه كفاحا كما لكم موسى، ويبعد أن يكون إلهاما /١٢ وجيز..
﴿ قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ ﴾ : بأن يصر على الكفر ﴿ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ﴾ : بالقتل في الدنيا ﴿ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ ﴾ إشارة إلى الحشر والبعث ﴿ فَيُعَذِّبُهُ ﴾ : الله في الآخرة ﴿ عَذَابًا نُّكْرًا ﴾ : منكرا لم يعهد مثله.
﴿ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى ﴾ أي : فله المثوبة الحسنى، وجزاء تمييز أو حال أي : مجزيا بها أو تقديره يجزى بها جزاء ومن قرأ برفع جزاء أي فله أن يجازى المثوبة الحسنى وهي الجنة، أو جزاء فعلته الحسنى وهي أعماله الصالحة ﴿ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا١ : لا نأمره بالصعب الشاق، بل بالسهل المتيسر أي : ذا يسر.
١ لما ذكر ما أعد الله له من الحسنى جزاءه لم يناسب أن يذكر جزاء بالفعل بل اقتصر على القول أدبا مع الله، وإن كان يعلم أنه يحسن إليه قو لا وفعلا /١٢ وجيز.
﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ﴾ : طريقا إلى المشرق.
﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ ﴾ أي : الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولا، ومن قرأ بفتح اللام فهو بحذق مضاف أي : مكان طلوعها فإن المطلع مصدر ﴿ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا ﴾ : من دون الشمس ﴿ سِتْرًا ﴾ ليس لهم أبنية تكنهم فإن أرضهم لا تمسك الأبنية ولا أشجار تظلهم، فهم حين طلوع الشمس في أسراب١ أو في ماء فإذا زالت خرجوا.
١ هكذا قال الحسين وسعيد بن جبير وقتادة وابن جريج /١٢ منه..
﴿ كَذَلِكَ ﴾ خبر مبتدأ أي : أمره كما وصفنا في رفعه أو أمره كأمره في أهل المغرب١، أو صفة قوم أي : تطلع على قوم مثل ذلك القبيل أي : أهل المغرب أو صفة : مصدر محذوف أي : بلغ مطلعها بلوغا مثل بلوغه مغربها ﴿ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ ﴾ من أسبابه ﴿ خُبْرًا ﴾ : علما ؛ لأنا أعطيناه ذلك، فيه تكثير ما لديه كأنه بلغ مبلغا لا يحيط به علم أحد إلا علم الله.
١ يعني أنهم كفرة مثلهم وحكمهم و في تعذيبه لمن بقى منهم على الكفر وإحسانه إلى من آمن منهم، وقيل كذلك صفة سترا أي: مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الجبال والحصون والأبنية والأشجار وغيرها /١٢ منه..
﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا ﴾ : طريقا ثالثا بين المشرق والمغرب وهو الشمال.
﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ ﴾ أي : بين الجبلين المبني بينهما السد، وهما جبلان عاليان في أقصى الترك من ورائهما يأجوج ومأجوج، والصحيح أنهم من أولاد آدم وبين هاهنا مفعول به، فإنه من الظروف التي تستعمل أسماء وظروفا ﴿ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا ﴾ يعني لعجمهم وقلة فطانتهم لا يفهمون كلام أحد، ومن قرأ بضم الياء وكسر القاف أي : لا يفهمون السامع لغرابة لغتهم.
﴿ قَالُوا يَا ذَا١ الْقَرْنَيْنِ ﴾ عن بعض السلف أنه يعلم جميع الألسنة ﴿ إِنَّ يَأْجُوجَ٢ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ ﴾ أي : في أرضنا بأنواع المفاسد ﴿ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا ﴾ : جعلا نخرجه من أموالنا ﴿ عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا ﴾ : فلا يمكن لهم الوصول إلينا.
١ هذا دليل على أنه معروف بهذا الاسم بين الحلق لا لما نقلناه، ولا يبعد صحة ما قيل كان في رأسه شبه القرنين والله أعلم /١٢ وجيز..
٢ الصحيح أنهما قبيلتان من أولاد آدم عليه السلام قال السدي والضحاك: الترك شرذمة منهم /١٢ وجيز..
﴿ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي ﴾ : من المال والملك ﴿ خَيْرٌ ﴾ من خراجكم لا حاجة بي إليه ﴿ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ ﴾ أي : بأيديكم و قوتكم وآلات بنائكم لا بمالكم ﴿ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا ﴾ حاجزا حصينا.
﴿ آتوني زبر الْحَدِيدِ١ أي : قطعة، والزبرة : القطعة الكبيرة ﴿ حَتَّى إِذَا ساوى ﴾ أي : فجاءوا بها حتى إذا ساوى ﴿ بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ ﴾ الصدفان : جانبا الجبلين ؛ لأنهما يتصادفان أي : يتقاربان أي : امتلأ بينهما من زبر الحديد ﴿ قَالَ ﴾ : للعملة ﴿ انفُخُوا ﴾ فإنه جعل الفحم والحطب في خلال زبر الحديد ﴿ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ ﴾، الضمير للمنفوخ فيه ﴿ نَارًا ﴾ أي : كالنار بالإحماء ﴿ قَالَ آتُونِي ﴾ : قطرا ﴿ أُفْرِغْ٢ عَلَيْهِ قِطْرًا ﴾ أي : نحاسا مذابا على الحديد المحمي حتى التصق بعضه ببعض، فحذف مفعول آتوني لدلالة الثاني٣ عليه.
١ استدعى مناولة قطع الحديد أي: أحضروا /١٢..
٢ وفيه كيفية إفراغ النحاس المذاب على الحديد المحمي الذي هو كالجبل في الطول إشكال بين لم يبينه أحد، ولا يمكن أن يحام حوله وعلمها عند الله سبحانه وتعالى فلا يغفل /١٢ وجيز..
٣ فهو من باب التنازع /١٢..
﴿ فَمَا اسْطَاعُوا ﴾ بحذف التاء ﴿ أَن يَظْهَرُوهُ ﴾ : يعلوه لطوله وملامسته ﴿ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ﴾ : من أسفله لشدته.
﴿ قَالَ ﴾ : ذو القرنين، ﴿ هَذَا ﴾ أي : السد ﴿ رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي ﴾ : على عباده ﴿ فَإِذَا جَاء وَعْدُ ١رَبِّي ﴾ أي : وقت وعده بقيام الساعة أو بخروجهم ﴿ جَعَلَهُ دَكَّاء ﴾ أي : أرضا مستوية ومن قرأ " دكا " بغير مد يكون مصدرا بمعنى المفعول أي : مدكا مسوى بالأرض ﴿ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا٢ كائنا البتة.
١ في الصحيحين أنه عليه السلام استيقظ يوما من نوم محمر وجهه وهو يقول: لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح من ردم يأجوج مثل هذا وحلق عقد تسعين /١٢ منه. [البخاري (٣٣٤٦) ومسلم (٥/٧٢٩) ط الشعب]..
٢ و لما ذكر ذو القرنين وأن سده عند الوعد مدكوك بين تعالى بعض حال ذلك اليوم فقال: "وتركنا بعضهم يومئذ" الآية /١٢..
﴿ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ ﴾ أي : بعض يأجوج ومأجوج ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ : يوم فتح السد ﴿ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ﴾ : يختلط بعضهم ببعض كموج الماء لكثرتهم، أو جعلنا بعض الخلق من الإنس والجن يوم قيام الساعة يختلط إنسهم بجهنم حيارى١ ﴿ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ﴾ : قرن ينفخ فيه إسرافيل لقيام الساعة ﴿ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ﴾ : للحساب.
١ وهذا التفسير أليق /١٢ وجيز..
﴿ وَعَرَضْنَا ﴾ : أبرزنا وأظهرنا ﴿ جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضًا ﴾ : فعاينوها.
﴿ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء ﴾ : غشاوة، ﴿ عَن ذِكْرِي ﴾ عن رؤية آياتي الدالة على توحيدي ﴿ وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا ﴾ : لكلامي كأنهم أصمت مسامعهم بالكلية.
﴿ أَفَحَسِبَ ﴾ همزة الاستفهام للإنكار ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي ﴾ : كالملائكة وعيسى أو الشياطين ﴿ مِن دُونِي أَوْلِيَاء ﴾ : معبودين وثاني حسب محذوف للقرينة أي : ظنوا اتخاذهم معبودين نافعا لهم ﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلا ﴾ أي : منزل أو ما يهيأ للضيف حين نزوله مما حضر، وفيه تنبيه على أن لهم وراءها عذابا أشد.
﴿ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالا ﴾ تمييز وجمعه لتنوع الأعمال.
﴿ الَّذِينَ ضَلَّ ﴾ أي : هم الذين بطل وضاع ﴿ سَعْيُهُمْ ﴾ أو نصب على الذم ﴿ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا١ : لاعتقادهم أنهم على الحق.
١ وهذا ينادي بالويل على أهل البدع /١٢ منه..
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ ﴾ : الدالة على توحيده ﴿ وَلِقَائِهِ ﴾ : بالبعث ﴿ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ﴾ : بسبب كفرهم ﴿ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ : ليس لهم خطر ولا مقدار ولا اعتبار عند الله.
﴿ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ ﴾ مبتدأ وخبر ﴿ جهَنَّمُ ﴾ عطف بيان للخبر، أو هو خبر وجزاؤهم بدل من المبتدأ أو تقديره : الأمر ذلك والجملة مبنية له ﴿ بِمَا كَفَرُوا ﴾ ما مصدرية ﴿ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا ﴾.
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ ﴾ هي أوسط الجنة وأعلاها، ومنه تفجر الأنهار ﴿ نُزُلا ﴾ فيه تفسيران كما مر.
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا ﴾ حال مقدرة ﴿ لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلا١ : تحولا إذ لا يتصورون منزلا أطيب منها.
١ لما ذكر ما أعد للكافرين ذكر ما أعد للمؤمنين بقوله: "إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات" الآية، ثم لما لأتم الجواب عن مسائلهم التي سألوه رجاء عجزه ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الجواب وأعقبه ببعض أهول القيامة التي أنكروها أشار إلى أنه عليه السلام مغترف من بحر لا ينفد فمن حام حول نقصه غرق في بحر لا ساحل له من الندم، فقال: "قل لو كان البحر" الآية /١٢ وجيز..
﴿ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ ﴾ أي : ماء البحر ﴿ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ١ رَبِّي ﴾ : لكلمات علمه وحكمته ﴿ لنفذ البحر ﴾ أي : ماؤه ﴿ قَبْلَ أَن تَنفَدَ٢ كَلِمَاتُ ٣رَبِّي ﴾ فإن ماء البحر متناه وعلم الله غير متناه ﴿ ولو جِئْنَا بِمِثْلِهِ ﴾ : بمثل البحر الموجود ﴿ مَدَدًا ﴾ : زيادة معونة ؛ لأن المجموع أيضا متناه نزلت حين قالت اليهود : إنا قد أوتينا الحكمة، وفي كتابك : ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، ثم تقول : وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أو لما نزلت :{ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " قالت اليهود أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فنزلت { قل لو كان البحر ٤ " الآية
١ قوله تعالى: "قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي" الآية. فيه أن الله تعالى لم يزل متكلما إذا شاء و كما شاء و أن كلماته لا نهاية لها وقد قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره من الأئمة: لم يزل الله سبحانه وتعالى متكلما إذا شاء وهو يتكلم بمشيئته وقدرته يتكلم بشيء بعد شيء وهو مذهب سلف الأمة، وأئمة السنة وكثير من أهل الكلام كالهشامية والكرامية، وأصحاب أبي معاذ التومني وزهير البائي، وطائف غير هؤلاء يقولون: إن الكلام صفة ذات وفعل هو يتكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته وهذا هو المعقول من صفة الكلام لكل متكلم فكل حي وصف بالكلام كالملائكة والبشر والجن وغيرهم فكلامهم لابد أن يقوم بأنفسهم و هو يتكلمون بمشيئتهم وقدرتهم، والكلام صفة كما لا صفة نقص، ومن تكلم بمشيئته، أكمل ممن لا يتكلم بمشيئته، فكيف يتصف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق؟!! وأما الجهمية والمعتزلة فيقولون: ليس له كلام قائم بذاته بل كلامه مخلوق منفصل عنه، والكلابية يقولون: هو متكلم بكلام ليس له عليه قدرة ولا يكون بمشيئته، والأشعرية يقولون: إن الكلام معنى واحد لا يتبعض ولا يتعدد وكل هذه أقوال باطلة مخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة مبتدعة مبنية على أصل واحد، وهو قولهم: إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته. وهو أصل باطل مخالف للنقل والعقل، والقرآن الكريم يدل على بطلانه في أكثر من مائة موضع، وأما الأحاديث الصحيحة فلا يمكن ضبطها في هذا الباب، والصواب في هذا الباب و غيره مذهب سلف الأمة وأئمتها أنه سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته وأن كلماته لا نهاية لها وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى وإنما ناداه حيه أتى لم يناده قبل ذلك وإن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد كما أن علمه لا يماثل علمهم، وقدرته لا تماثل قدرتهم، وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد الذين عطلوا الذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال باطلة، وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات أو الصفات باطلة كذا قاله شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية رحمه الله /١٢..
٢ قوله: قبل أن تنفذ هو من باب إرخاء العنان وفهم العامة وإلا فالأصل أن يقال لنفذ البحر ولم تنفذ كلمات ربي /١٢ وجيز..
٣ والسلف يقولون: لم يزل متكلما إذا شاء، وكما شاء و قد قال تعالى "قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفذ البحر قبل أن كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا" فكلمات الله تعالى لا نهاية لها وهذا تسلسل جائز في المستقبل فإن نعيم الجنة دائم لا نفاذ له فما من شيء إلا وبعده شيء بلا نهاية /١٢ شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام قدس الله روحه العزيز..
٤ أخرجه أحمد والترمذي (٣٣٤٩ ـ أحوزي)، وصححه والنسائي وابن حبان والحاكم وأبو نعيم والبيهقي في دلائلها وغيرهم من حديث ابن عباس مرفوعا. وقال الحافظ في "الفتح"، (٨/٢٥٣): رجاله رجال مسلم، وهو عند ابن إسحاق من وجه آخر عن ابن عباس نحوه. وكذا صححه العلامة أحمد شاكر في تعليقه على المسند (٢٣٠٩)، والذي في الصحيحين من حديث ابن مسعود أن اليهود لما سألوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الروح أمسك فلم يرد عليهم شيئا. قال عبد الله: فعلمت أنه يوحى إليه. فقمت مقامي. فلما نزل الوحي قال: ﴿ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا﴾ قال الحافظ في الموضع سالف الذكر محاولا الجمع بين هذا وحديث ابن عباس: "ويمكن الجمع بأن يتعدد النزول بحمل سكوته في المرة الثانية على توقع مزيد بيان في ذلك، وإن ساغ هذا وإلا فما في الصحيح أصح"..
﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَر١ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ﴾ خصصت بالوحي وتميزت عنكم به٢ ﴿ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ ﴾ يخاف المصير إليه أو يأمل لقاء الله ورؤيته ﴿ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا ﴾ وهو ما كان موافقا لشرع الله ﴿ وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ٣ رَبِّهِ أحدا ﴾ أي : لا يرائي بعمله بل لابد أن يرد به وجه الله وحده لا شريك له.
والحمد لله رب العالمين أكمل الحمد وأتمه
( * ) أخرج البزار هذا الأثر في مسنده من حديث أبي ذر مرفوعا بسند فيه مجهولان كما في المجمع للهيثمي ( ٧/٥٤ ).
١ لا أدعي علم الغيب فيما أخبرتكم من قصة أصحاب الكهف وذي القرنين/١٢ وجيز..
٢ خصصت بالوحي وتميزت عنكم به فلولا أن الله أطلعني ما كنت أعرفه، وما أرسلني إليكم إلا لأن توحدوا الله /١٢ وجيز..
٣ وقد نقل في سبب نزولها حديث دال على أن ذلك في الشرك الأصغر أعني الرياء /١٢ وجيز.
.

Icon