بسم الله الرحمن الرحيم.
ﰡ
(مكية إلا قوله واصبر نفسك الآية حروفها ستة آلاف وثلاثمائة وستون حرفا كلماتها ألف وخمسمائة وسبعة وسبعون آياتها مائة وإحدى عشرة)
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ١ الى ٢٦]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (٤)ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩)
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤)
هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦)
مِنْ لَدُنْهُ بإشمام الدال شيئا بالضم وكسر النون ووصل الهاء بالياء:
يحيى. الآخرون بضم الدال وسكون النون وضم الهاء ويبشر مخففا: حمزة وعلي.
الباقون بالتشديد. هَيِّئْ لَنا وَيُهَيِّئْ لَكُمْ بتليين الهمزة فيهما إلا أوقية والأعشى في الوقف فَأْوُوا بإبدال الهمزة ألفا: أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف مِرفَقاً بفتح الميم وكسر الفاء: أبو جعفر ونافع وابن عامر والأعشى والبرجمي. الآخرون على العكس تزاور خفيفا بحذف تاء التفاعل: عاصم وحمزة وعلي وخلف تزور بتشديد الراء: ابن عامر مثل «تحمر» ويعقوب. الباقون تزاور بتشديد الزاي لإدغام التاء فيه الْمُهْتَدِي كما مر في «سبحان» وَلَمُلِئْتَ مشددة للمبالغة: أبو جعفر ونافع وابن كثير، وقرأ أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف غير مهموز. بِوَرِقِكُمْ بسكون الراء: أبو عمرو وحمزة وحماد وأبو بكر والخزاز عن هبيرة وعباس بكسر الراء وإدغام القاف في الكاف الآخرون بكسر الراء مظهرا رَبِّي أَعْلَمُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو أَنْ يَهْدِيَنِي وأن ترني وو أن يؤتيني وأن تعلمني بالياءات في الحالين: سهل ويعقوب وابن كثير غير ابن فليح.
وزمعة. وروى ابن شنبوذ عن قنبل كلها بالياء في الحالين. وعن البزي وابن فليح كلها بغير ياء- في الحالين- وافقهم أبو جعفر ونافع وأبو عمرو بالياء في الوصل ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ بالإضافة: حمزة وعلي وخلف الباقون بالتنوين ولا تشرك بالتاء على النهي:
ابن عامر وروح وزيد. الآخرون وَلا يُشْرِكُ بياء الغيبة ورفع الكاف.
عِوَجاً هـ ط لأن قَيِّماً ليس بصفة له ولكنه انتصب بمحذوف دل عليه المتلو وهو أنزل أي أنزله قيما، وللوصل وجه وهو أن يكون حالا من الكتاب أو العبد وما بينهما اعتراض حَسَناً، هـ لا أَبَداً هـ وَلَداً ج هـ، لأن ما بعده يحتمل الصفة أو ابتداء وإخبار، والوقف أوضح ليكون ادعاء الولد مطلقا كما هو الظاهر لِآبائِهِمْ ط مِنْ أَفْواهِهِمْ ط كَذِباً هـ أَسَفاً هـ عَمَلًا هـ جُرُزاً، ط لتمام القصة ما بعده استفهام تقرير وتعجيب عَجَباً هـ رَشَداً هـ عَدَداً، لا للعطف أَمَداً هـ بِالْحَقِّ ط هُدىً، والوصل أولى للعطف شَطَطاً هـ آلِهَةً ط لابتداء التحضيض بَيِّنٍ ط كَذِباً هـ مِرفَقاً هـ فَجْوَةٍ مِنْهُ ط آياتِ اللَّهِ ط فَهُوَ الْمُهْتَدِ ج مُرْشِداً هـ رُقُودٌ قف والأولى الوصل على أن ما بعده حال أي رقدوا ونحن نقلبهم الشِّمالِ قف والوصل أحسن على أن المعنى نقلبهم وكلبهم باسط بِالْوَصِيدِ ط رُعْباً هـ بَيْنَهُمْ ط كَمْ لَبِثْتُمْ ط بَعْضَ يَوْمٍ ط أَحَداً هـ أَبَداً هـ لا رَيْبَ فِيها ج لأن «إذ» يصلح أن يكون طرفا للإعثار عليهم وأن يكون منصوبا بإضمار «اذكر» بُنْياناً ط بِهِمْ ط مَسْجِداً هـ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ج فصلا بين المقالتين مع اتفاق الجملتين بِالْغَيْبِ ج لوقوع العارض كَلْبُهُمْ ط قَلِيلٌ هـ ظاهِراً ص أَحَداً هـ يَشاءَ اللَّهُ ز لاتفاق الجملتين مع عارض الظرف والاستثناء رَشَداً هـ تِسْعاً هـ لَبِثُوا ج لاحتمال أن ما بعده مفعول «قل» أو إخبار مستأنف وَالْأَرْضِ ط لابتداء التعجب وَأَسْمِعْ ط مِنْ وَلِيٍّ ط لمن قرأ ولا تشرك على النهي، ومن قرأ على الغيبة إخبارا جوز وقفه لاختلاف الجملتين أَحَداً هـ.
التفسير:
ألصق الحمد والتكبير المذكورين في آخر السورة المتقدمة بالحمد على أجزل نعمائه على العباد وهي نعمة إنزال الكتاب على محمد صلى الله عليه وسلم. قال بعض العلماء: نزه نفسه في أوّل سورة «سبحان» عمّا لا ينبغي وهو إشارة إلى كونه كاملا في ذاته، وحمد نفسه في أول هذه السورة وهو إشارة إلى كونه مكملا لغيره، وفيه تنبيه على أن مقام التسبيح مبدأ ومقام التحميد نهاية موافقا لما
ورد في الذكر «سبحان الله والحمد لله».
وفيه أن الإسراء أول درجات كماله من حيث إنه يقتضي حصول الكمال له وإنزال الكتاب غاية درجات كماله لأن فيه تكميل الأرواح البشرية ونقلها من حضيض البهيمية إلى أوج الملكية ولا شك أن المنافع المتعدية أفصل من القاصرة كما
ورد في الخبر: «من تعلم وعلم وعمل فذاك يدعى عظيما في السموات»
وإنزال الكتاب على النبي ﷺ نعمة عليه وعلينا. أما أنه نعمة عليه فلأنه اطلع بواسطته على
ما لَهُمْ بِهِ أي بالولد أو باتخاذ الله إياه مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ وانتفاء العلم بالشيء إما بالجهل بالطريق الموصل إليه، وإما لأنه في نفسه محال فلا يتعلق به العلم لذلك وهو المراد في الآية، أي قولهم هذا لم يصدر عن علم ولكن عن جهل مفرط وتقليد لآبائهم الذين هم مثلهم في الجهالة. قال جار الله: الضمير في قوله: كَبُرَتْ يعود إلى قولهم «اتخذ الله ولدا» وسميت كَلِمَةً كما يسمون القصيدة بها. قلت: ويجوز أن يعود إلى مضمر ذهني يفسره الظاهر كقولهم «ربه رجلا ونعمت امرأة عندي». قال الواحدي:
بخعت الأرض بالزراعة إذ جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة، وبخع الرجل نفسه إذا نهكها وأَسَفاً منصوب على المصدر أي تأسف أسفا وحذف الفعل لدلالة الكلام عليه.
وقال الزجاج: هو مصدر في موضع الحال أو مفعول له أي لفرط الحزن شبهه وإياهم حين لم يؤمنوا بالقرآن وأعرضوا عن نبيهم برجل فارقته أحبته فهو يتساقط حسرات عليهم.
والحاصل أنه قيل له لا تعظم حزنك عليهم بسبب كفرهم فإنه ليس عليك إلا البلاغ، فأما تحصيل الإيمان فيهم فليس إليك. قال القاضي، أطلق الحديث على القرآن فدل ذلك على أنه غير قديم. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الحروف والأصوات وإنما النزاع في الكلام النفسي، قوله سبحانه: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها قال أهل النظم: كأنه تعالى يقول: إني خلقت الأرض وزينتها ابتلاء للخلق بالتكاليف، ثم إنهم يتمردون ويكفرون ومع ذلك فلا أقطع عنهم مواد هذه النعم، فأنت أيضا يا محمد لا تترك الاشتغال بدعوتهم بعد أن لا تأسف عليهم وما على الأرض المواليد الثلاثة أعنى المعادن والنبات والحيوان
قال الزجاج أَيُّهُمْ رفع بالابتداء لأن لفظه لفظ الاستفهام والمعنى لنمتحن هذا أَحْسَنُ عَمَلًا أم ذلك. ثم زهد في الميل إلى زينة الأرض بقوله: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها من هذه الزينة صَعِيداً جُرُزاً أي مثل أرض بيضاء لا نبات فيها بعد أن كانت خضراء معشبة في إزالة بهجته وإمانة سكانه. قال أبو عبيد: الصعيد المستوي من الأرض التي لا نبات فيها من قولهم «امرأة جروز» إذا كانت أكولا، «وسيف جراز» إذا كان مستأصلا وجرز الجراد والشاء والإبل الأرض إذا أكملت ما عليها. ثم إن القوم تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنه الرسول ﷺ على سبيل الامتحان فقال سبحانه أَمْ حَسِبْتَ يعني بل أظننت يا إنسان أنهم كانوا عجبا من آياتنا فقط فلا تحسبن ذلك فإن آياتنا كلها عجب، فإن من كان قادرا على تخليق السموات والأرض ثم تزيين الأرض بأنواع المعادن والنبات والحيوان، ثم جعلها بعد ذلك صعيدا خاليا عن الكل كيف تستبعدون قدرته وحفظه ورحمته بالنسبة إلى طائفة مخصوصة. وقال جار الله: يعني أن ذلك التزيين وغيره أعظم من قصة أصحاب الكهف يعني أنه ذكر أولا عظيم قدرته، ثم أضرب عن ذلك موبخا للإنسان. والحاصل أنك تعجب من هذا الأدنى فكيف بما فوقه، والكهف الغار الواسع في الجبل، والرقيم اسم كلبهم. وعن سعيد بن جبير ومجاهد أنه لوح من حجارة أو رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف، فعلى هذا يكون اللفظ عربيا «فعيلا» بمعنى «مفعول» ومثله ما روي أن الناس رقموا حديثهم نقرا في الجبل. وعن السدي أنه القرية التي خرجوا منها. وقيل: هو الوادي أو الجبل الذي فيه الكهف. والعجب مصدر وصف به أو المراد ذات عجب. وقوله: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ صاروا إليه وجعلوه مأواهم منصوب بإضمار «اذكر» ب حَسِبْتَ لفساد المعنى، ولا يبعد أن يتعلق ب عَجَباً والتنوين في رَحْمَةً إما للتعظيم أو للنوع. وتقديم مِنْ لَدُنْكَ للاختصاص أي رحمة مخصوصة بأنها من خزائن رحمتك وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداء وَهَيِّئْ لَنا أي أصلح لنا من قولك هيئات الأمر فتهيأ مِنْ أَمْرِنا
وسِنِينَ ظرف زمان وعَدَداً أي ذوات عدد وهو مصدر وصف به والمراد بهذا الوصف إما القلة لأن الكثير قليل عند الله وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: ٤٧] وإما الكثرة. قال الزجاج: إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج إلى العدد وإذا كثر احتاج إلى أن يعدّ ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أيقظناهم لِنَعْلَمَ ليظهر معلومنا وفعل العلم معلق لما في «أي» من معنى الاستفهام فارتفع أَيُّ الْحِزْبَيْنِ على الابتداء وخبره أَحْصى وهو فعل ماض و «ما» في لِما لَبِثُوا مصدرية أي أحصى أَمَداً للبثهم فيكون الجار والمجرور صفة للأمد فلما قدم صار حالا منه. وقيل: اللام «زائدة» و «ما» بمعنى الذي وأمدا تمييز والتقدير: أحصى لما لبثوه أمدا والأمد الغاية. وزعم بعضهم أن أَحْصى أفعل تفضيل كما في قولهم «أعدى من الجرب» و «أفلس من ابن المذلق»، ولم يستصوبه في الكشاف لأن الشاذ لا يقاس عليه. واختلفوا في تعيين الحزبين فعن عطاء عن ابن عباس أن أصحاب الكهف حزب والملوك الذين تداولوا المدينة ملكا بعد ملك حزب.
وقال مجاهد: الحزبان من أصحاب الكهف. وذلك أنهم لما انتبهوا اختلفوا فقال بعضهم:
لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وقال آخرون: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ وذلك حين حدسوا أن لبثهم قد تطاول. وقال الفراء: إن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ أي على وجه الصدق إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ شباب آمَنُوا بِرَبِّهِمْ أي بي فوضع الظاهر موضع المضمر وَزِدْناهُمْ هُدىً أي بالتوفيق والتثبيت وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ قوّيناها بإلهام الصبر على فراق الخلائق والأوطان والفرار بالدين إلى بعض الغيران إِذْ قامُوا وفي هذا القيام أقوال: فعن مجاهد أنهم اجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد فقال رجل منهم: هو أكبر القوم إني لأجد في نفسي شيئا ما أظن أحدا يجده، أجد أن ربي رب السموات والأرض. فقالوا: نحن كذلك في أنفسنا فقاموا جميعا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وقال أكثر المفسرين: إنه كان لهم ملك جبار- يقال له دقيانوس- وكان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم حتى قاموا بين يديه فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وعن عطاء ومقاتل أنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم. والشطط الإفراط في الظلم والإبعاد فيه من
قال الفراء فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ جواب «إذ» ومعناه اذهبوا إليه واجعلوا مأواكم يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ يبسطها لكم ومِرفَقاً على القراءتين مشتق من الارتفاق الانتفاع. وقيل: فتح الميم أقيس وكسرها أكثر. وقيل: المرفق بالكسر ما ارتفعت به، والمرفق بالفتح الأمر الرافق. وكان الكسائي ينكر في مرفق اليد إلا كسر الميم. قالوا ذلك ثقة بفضل الله وتوكلا عليه، وإما لأنه أخبرهم نبي في عصرهم منهم أو من غيرهم. وَتَرَى الشَّمْسَ أيها الإنسان إذا طلعت تزاور أصله من الزور بفتح الواو وهو الميل ومنه زاره إذا مال إليه. والمراد أن الشمس تعدل عن سمتهم إلى الجهتين فلا تقع عليهم. والفجوة المتسع إن الشمس تعدل عن سمتهم إلى الجهتين فلا تقع عليهم. والفجوة المتسع من المكان ومنه
الحديث «فإذا وجد فجوة نص» «١».
وللمفسرين في الآية قولان: أحدهما أنهم في ظل نهارهم كله لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا غروبها مع أنهم في مكان واسع منفتح وإلى هذا الحجب أشار بقوله: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ وثانيهما أن باب ذلك الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف، وإذا غربت كانت على يساره فلذلك كانت الشمس لا تصل إليهم. ثم إنهم كانوا مع ذلك في منفسح من الغار ينالهم فيه روح الهواء وبرد النسيم، واعترض بأن عدم وصول الشمس إليهم لا يكون آية
عيونهم مفتحة وهم نيام فيحسبهم الناظر لذلك أيقاظا. وقال الزجاج: لكثرة تقلبهم.
وقيل: لهم تقلبتان في السنة. وقيل: تقلبة واحدة في يوم عاشوراء. وعن مجاهد:
يمكثون رقودا على أيمانهم سبع سنين ثم يقلبون على شمائلهم فيمكثون رقودا سبع سنين، وفائدة تقلبهم ظاهرة وهي أن لا تأكل لحومهم الأرض. قال ابن عباس: وتعجب منه الإمام فخر الدين قال: وإن الله تعالى قادر على حفظهم من غير تقليب. وأقول: لا ريب في قدرة الله تعالى ولكن الوسائط معتبرة في أغلب الأحوال وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ حكاية الحال الماضية ولهذا عمل في المفعول به. والوصيد الفناء وقيل العتبة أو الباب. قال السدي:
الكهف لا يكون له عتبة ولا باب وإنما أراد أن الكلب منه موضع العتبة من البيت. عن ابن عباس: هربوا ليلا من ملكهم فمروا براع معه كلب فتبعهم على دينهم ومعه كلبه.
وقال كعب: مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه فعاد ففعلوا ذلك ثلاث مرات فقال لهم الكلب: ما تريدون مني أنا أحب أحباء الله فناموا حتى أحرسكم. وقال عبيد بن عمرو:
كان ذلك كلب صيدهم والاطلاع على الشيء الإشراف عليه. قال الزجاج قوله فِراراً منصوب على المصدر لأنه بمعنى التولية. وسبب الرعب هيبة ألبسهم الله إياها. وقيل:
طول أظفارهم وشعورهم وعظم أجرامهم ووحشة مكانهم منه يحكى أن معاوية غزا الروم فقال: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس: ليس لك ذلك قد منع الله منه من هو خير منك؟ فقال: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث ناسا فقال لهم: اذهبوا فانظروا ففعلوا، فلما دخلوا الكهف بعث الله ريحا فأخرجتهم وَكَذلِكَ إشارة إلى المذكور قبله أي وكما أنمناهم تلك النومة وفعلنا بهم ما فعلنا من الكرامات كذلك بَعَثْناهُمْ وفيه تذكير لقدرته على الإنامة والبعث جميعا، ثم ذكر غاية بعثهم فقال: لِيَتَسائَلُوا أي ليقع التساؤل بينهم والاختلاف والتنازع
وقال في الكشاف: العود في معنى الصيرورة أكثر شيء في كلامهم يقولون ما عدت أفعل كذا يريدون ابتداء الفعل. قلت: يحتمل أن يكون العود هاهنا على معناه الأصلي لاحتمال أن يكون أصحاب الكهف على ملة أهل المدينة قبل أن هداهم الله. وفي «أذن» معنى الشرط كأنه قال: إن رجعتم إلى دينهم فلم تفلحوا أبدا، قال المحققون: لا خوف على المؤمن الفار بدينه أعظم من هذين. ففي الأول هلاك الدنيا، وفي الثاني هلاك الآخرة.
وإنما نفى الفلاح على التأبيد مع أن كفر المكره لا يضر، لأنهم خافوا أن يجرهم ظاهر الموافقة إلى الكفر القلبي، وكما أنمناهم وبعثناهم أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ سمى الإعلام إعثارا والعلم عثورا لأن من كان غافلا عن شيء فعثر به نظر إليه وعرفه وكان الإعثار سببا لحصول العلم واليقين. وفي سبب الإعثار قولان: أحدهما أنه طالت شعورهم وأظفارهم طولا مخالفا للعادة وتغيرت بشرتهم فعرفوا بذلك. والأكثرون قالوا: إن ذلك الرجل لما ذهب بالورق إلى السوق وكانت دراهم دقيانوسية اتهموه بأنه وجد كنزا فذهبوا به إلى الملك فقال له: من أين وجدت هذه الدراهم؟ قال: بعت بها أمس شيئا من التمر. فعرف الملك أنه ما وجد كنزا وأن الله بعثه بعد موته فقص عليه القصة. ثم ذكر سبحانه غاية
نستودعك الله ونعيذك به من شر الجن والإنس ثم رجعوا إلى مضاجعهم وتوفى الله أنفسهم، فألقى الملك عليهم ثيابه وأمر فجعل لكل واحد تابوتا من ذهب فرآهم في المنام كارهين للذهب، فجعلها من الساج وبنى على باب الكهف مسجدا. فيكون فيه دليل على أن أولئك الأقوام كانوا عارفين بالله تعالى ومعترفين بالعبادة والصلاة، وقيل: إن الكفار قالوا: إنهم كانوا على ديننا ونتخذ عليهم بنيانا، والمسلمين قالوا: بل كانوا على ديننا فنتخذ عليهم مسجدا، وقيل: إنهم تنازعوا في عددهم وأسمائهم. قال جار الله: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ من كلام المتنازعين كأنهم تذاكروا أمرهم وتناقلوا الكلام في أنسابهم وأحوالهم، فلما لم يهتدوا إلى حقيقته قالوا ذلك، أو هو من كلام الله عز وجل رد القول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين، أو من الذين تنازعوا عوافيهم على عهد رسول الله ﷺ من أهل الكتاب. والذين غلبوا على أمرهم المسلمون وملكهم المسلم لأنهم بنوا عليهم مسجدا يصلى فيه المسلمون ويتبركون بمكانهم وكانوا أولى بهم بالبناء عليهم حفظا لتربتهم بها وضنا بها سَيَقُولُونَ يعنى الخائضين في قصتهم من المؤمنين ومن أهل الكتاب المعاصرين وكان كما أخبر فكان معجزا، يروى أن السيد والعاقب وأصحابهما من أهل نجران كانوا عند النبي ﷺ فجرى ذكر أصحاب الكهف فقال السيد وكان يعقوبيا هم ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وقال العاقب وكان نسطوريا هم خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ فزيف الله قولهما بأن قال: رَجْماً بِالْغَيْبِ أي يرمون رميا بالخبر الخفي يقال: فلان يرمي بالكلام رميا أي يتكلم من غير تدبر. وكثيرا ما يقال رجم بالظن
روي عن علي عليه السلام أنهم سبعة تقرأ أسماؤهم: يمليخا ومكشلينيا ومشلينيا- هؤلاء أصحاب يمين الملك- وكان عن يساره مرنوس ودبرنوش وشادنوش. وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره، والسابع الراعي الذي وافقهم واسمه كفشططوش. واسم مدينتهم أفسوس، واسم كلبهم قطمير.
وقيل ريان. عن ابن عباس: أن أسماء أصحاب الكهف تصلح للطلب والهرب وإطفاء الحريق تكتب في خرقة ويرمى بها في وسط النار، ولبكاء الطفل تكتب وتوضع تحت رأسه في المهد، وللحرث تكتب على القرطاس وترفع على خشب منصوب في وسط الزرع، وللضربان وللحمى المثلثة والصداع والغنى والجاه، والدخول على السلاطين تشد على الفخذ اليمنى، ولعسر الولادة تشد على فخذها الأيسر، ولحفظ المال والركوب في البحار والنجاة من القتل. ومنها قول صاحب الكشاف إن الواو في قوله وَثامِنُهُمْ هي التي تدخل على الجملة والواقعة صفة للنكرة في قولك «جاءني رجل ومعه آخر» كما تدخل على الجملة الواقعة حالا من المعرفة في قولك «مررت بزيد ومعه سيف» وفائدته توكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر لأن الواو مقتضاها الجمعية وكأنهم وصفوا بكونهم سبعة مرتين بخلاف القولين الأولين فإنهم وصفوا بما وصفوا مرة واحدة. ولقائل أن يقول: إن العاطف لا يوسط بين الوصف والموصوف البتة لشدة الاتصال بينهما، ومقتضى الواو هو الحالة المتوسطة بين كمال الاتصال وكمال الانقطاع، بل الواو للعطف عطف الجملة على الجملة وإما للحال وجاز لأنهم لم يسوغوا إذا الحال نكرة، لا مكان التباس الحال بالصفة في نحو قولك «رأيت رجلا راكبا» وهاهنا الالتباس مرتفع لمكان الواو. ومنها بعضهم إن الضمير في قوله: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ لله تعالى والجمع للتعظيم. ومنها قول ابن عباس حين وقعت الواو انقطعت العدّة أي لم تبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها وثبت أنهم سبعة وثامنهم كلبهم على القطع والثبات. ومنها أنه خص القولين الأولين بزيادة قوله: رَجْماً بِالْغَيْبِ وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه، فمن البعيد أن يذكر الله تعالى جملة الأقوال الباطلة ولا يذكر الحق على أنه سبحانه منعه عن المناظرة معهم وعن الاستفتاء منهم في هذا الباب، وهذا المنع إنما يصح إذا علمه حكم هذه الواقعة. وأيضا الله تعالى قال: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ويبعد أن لا يحصل العلم بذلك للنبي ﷺ ويحصل لغير النبي صلى الله عليه وسلم
وقيل: الضمير في سَيَقُولُونَ لأهل الكتاب خاصة أي سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وقيل: الضمير في سَيَقُولُونَ لأهل الكتاب خاصة أي سيقول أهل الكتاب فيهم كذا وكذا ولا علم بذلك إلا في قليل منهم وقوله سبحانه في الموضعين الأخيرين ويَقُولُونَ بغير السين لا ريب أنهما للاستقبال أيضا إلا أن ذلك يحتمل أن يكون لأجل الصيغة التي تصلح له، وأن يكون لتقدير السين بحكم العطف كما تقول: قد أكرم وأنعم أي وقد أنعم.
أما فائدة تخصيص الواو في قوله: وَثامِنُهُمْ فقد عرفت آنفا وقد يقال: إن لعدد السبعة عند العرب تداولا على الألسنة في مظان المبالغة من ذلك قوله تعالى: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً [التوبة: ٨] لأن هذا العدد سبعة عقود، فإذا وصلوا إلى الثامنة ذكروا لفظا يدل على الاستئناف كقوله في أبواب الجنة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: ٧٣] وكقوله ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التحريم: ٥] وزيف القفال هذا الوجه بقوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر: ٢٢] وذلك لم يذكر الواو في النعت الثامن. والانصاف أن هذا التزييف ليس في موضعه لأن وجود الواو هو الذي يفتقر إلى التوجيه، وأما عدمه فعلى الأصل وبين التوجيه والإيجاب بون بعيد، والقائل بصدد الأول دون الأخير. ثم نهى نبيه ﷺ عن الجدال مع أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف ثم قال: إِلَّا مِراءً ظاهِراً فقال جار الله: أي جد إلا غير متعمق فيه وهو أن تقص عليهم ما أوحى الله إليك فحسب ولا تزيد من غير تجهيل ولا تعنيف. وقال في التفسير الكبير: المراد أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد بل يقول هذا التعيين لا دليل عليه فوجب التوقف. ثم نهاه عن الاستفتاء منهم في شأنهم لأن المفتي يجب أن يكون أعلم من المستفتي وهاهنا الأمر بالعكس ولا سيما في باب واقعة أصحاب الكهف كما بينا. ولنذكر هاهنا مسألة جواز الكرامات وما تتوقف هي عليه فنقول:
الولي مشتق من الولي وهو القرب. فقيل: «فعيل» بمعنى «فاعل» كعليم وقدير وذلك أنه توالت طاعاته من غير تخلل معصية. وقيل: بمعنى «مفعول» كقتيل وذلك أن الحق سبحانه تولى حفظه وحراسته وقرب منه بالفضل والإحسان، فإذا ظهر فعل خارق للعادة على إنسان فإن كان مقرونا بدعوى الإلهية كما نقل أن فرعون كانت تظهر على يده الخوارق، وكما ينقل أن الدجال سيكون منه ذلك فهذا القسم جوزه الأشاعرة لأن شكله وخلقه يدل على كذبه فلا يفضي إلى التلبيس وإن كان مقرونا بدعوى النبوة. فإن كان صادقا وجب أن لا يحصل له المعارض، وإن كان كاذبا وجب. ويمكن أن يقال: إن
ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون نفس بعثهم معجز النبي هذا الزمان؟ وأما أن ذلك البعث بعد نوم طويل فيعرف بأمارات أخر كما مر من حديث الدرهم وغيره. وأما الأخبار فمنها ما
أخرج في الصحاح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم وصبي في زمان جريج وصبي آخر. أما عيسى فقد عرفتموه، وأما جريج فكان رجلا عابدا في بني إسرائيل وكانت له أم وكان يوما يصلي إذ اشتاقت إليه أمه فقالت: يا جريج فقال: يا رب الصلاة خير أم رؤيتها ثم صلى. فدعته ثانيا مثل ذلك حتى كان ذلك ثلاث مرار. وكان يصلي ويدعها فاشتد ذلك على أمه فقالت:
اللهم لا تمته حتى تريه المومسات. وكانت في بني إسرائيل زانية فقالت لهم: أنا أفتن جريجا حتى يزني فأتته فلم تقدر عليه شيئا وكان هناك راع يأوى بالليل إلى أصل صومعته فأرادت الراعي على نفسها فأتاها فولدت غلاما وقالت: ولدي هذا من جريج. فأتاه بنو إسرائيل وكسروا صومعته وشتموه فصلى ودعا ثم نخس الغلام. قال أبو هريرة: كأني أنظر إلى النبي ﷺ حين قال بيده يا غلام من أبوك؟ فقال: فلان الراعي فندم القوم على ما كان منهم واعتذروا إليه وقالوا نبني صومعتك من ذهب وفضة فأبى عليهم وبناها كما كانت. وأما الصبي الآخر فإن امرأة كانت معها صبي ترضعه إذ مر بها شاب جميل ذو شارة فقالت: اللهم اجعل ابني مثل هذا. فقال الصبي: اللهم لا تجعلني مثله.
فقال: اللهم اجعلني مثلها. فقالت له أمه في ذلك فقال: إن الراكب جبار من الجبابرة وإن هذه قيل لها سرقت ولم تسرق وزنيت ولم تزن هي تقول حسبي الله».
ومنها ما
روي عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: «انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم فأواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار فقالوا إنه والله لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم فقال رجل منهم كان لي أبوان شيخان كبيران فكنت لا أغبق قبلهما فناما في ظل شجرة يوما فلم أبرح عنهما وحلبت لهما غبوقهما فجئتهما به فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وكرهت أن أغبق قبلهما فقمت والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى ظهر الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت انفراجا لا يستطيعون الخروج منه. ثم قال الآخر اللهم إنه كانت لي ابنة عم وكانت أحب الناس إليّ فأردتها عن نفسها فامتنعت حتى ألمت سنة من السنين فجاءتني وأعطيتها مالا عظيما على أن تخلي بيني وبين نفسها فلما قدرت عليها قالت لا آذن لك أن تفك الخاتم إلا بحقه فتحرجت من ذلك العمل وتركتها وتركت المال معها اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه. فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم قال الثالث اللهم إني استأجرت أجراء أعطيتهم أجورهم غير رجل واحد منهم ترك الذي له وذهب فثمرت أجرته حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين فقال يا عبد الله أدّ إليّ أجرتي فقلت له كل ما ترى من الإبل والغنم والرقيق من أجرتك فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي فقلت إني لا أستهزئ بأحد فأخذ ذلك كله اللهم إن كنت فعلته ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة عن الغار فخرجوا يمشون» «١»
وهذا حديث صحيح متفق عليه.
ومنها
قوله صلى الله عليه وسلم: «رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره» «٢».
ولم يفرق بين شيء وشيء فيما يقسم به على الله. ومنها
رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «بينا رجل يسوق بقرة قد حمل عليها إذا التفتت البقرة وقالت إني لم أخلق لهذا وإنما خلقت للحرث فقال الناس:
سبحان الله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: آمنت بهذا أنا وأبو بكر وعمر» «٣».
ومنها
رواية
(٢) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب ٥٤. [.....]
(٣) رواه البخاري في كتاب الحرث باب ٤. كتاب فضائل الصحابة باب ٥. مسلم في كتاب الفضائل حديث ١٣. الترمذي في كتاب المناقب باب ١٦. أحمد في مسنده (٢/ ٢٤٥، ٢٤٦).
قال: فلان ابن فلان. فقلت: فما تصنع بحديقتك هذه إذا صرمتها؟ قال: ولم تسأل عن ذلك؟ قلت: لأني سمعت صوتا في السحاب أن اسق حديقة فلان. قال: أما إذ قلت فإني أجعلها أثلاثا فأجعل لنفسي ولأهلي ثلثا وأجعل للمساكين وأبناء السبيل ثلثا وأنفق عليها ثلثا» «١»
وأما الآثار فمن كرامات أبي بكر الصديق أنه لما حملت جنازته إلى باب قبر النبي ﷺ ونودي السلام عليك يا رسول الله هذا أبو بكر بالباب فإذا الباب قد فتح فإذا هاتف يهتف من القبر أدخلوا الحبيب إلى الحبيب. ومن كرامات عمر ما روي أنه بعث جيشا وأمر عليهم رجلا يدعى سارية بن حصين. فبينا عمر يوم الجمعة يخطب جعل يصيح في خطبته يا سارية الجبل الجبل.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وكتبت تاريخ هذه الكلمة.
فقدم رسول ذلك الجيش. فقال: يا أمير المؤمنين غدونا يوم الجمعة في وقت الخطبة فدهمونا فإذا بإنسان يصيح يا سارية الجبل فأسندنا ظهورنا إلى الجبل فهزم الله الكفار وظفرنا بالغنائم العظيمة. قال بعض العلماء: كان ذلك بالحقيقة معجزة للنبي ﷺ لأنه
قال لأبي بكر وعمر: أنتما مني بمنزلة السمع والبصر.
فلما كان عمر بمنزلة البصر لا جرم قدر على رؤية الجيش من بعد. ومنها ما روي أن نيل مصر كان في الجاهلية يقف في كل سنة مرة واحدة وكان لا يجري حتى يلقى فيه جارية حسناء. فلما جاء الإسلام كتب عمرو بن العاص بهذه الحالة إلى عمر. فكتب عمر على الخزف: من عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر، أما بعد فإن كنت تجري بأمرك فلا حاجة لنا فيك، وإن كنت تجري بأمر الله فاجر على بركة الله. وأمر أن يلقى الخزف في النيل فجرى ولم يقف بعد ذلك. ووقعت الزلزلة بالمدينة فضرب عمر الدرة على الأرض وقال: اسكني بإذن الله فسكنت. ووقعت النار في بعض دور المدينة فكتب عمر على خزفة: يا نار اسكني بإذن الله تعالى فألقوها في النار فانطفأت في الحال. ويروى أن رسول ملك الروم جاء إلى عمر وطلب داره فظن أن داره مثل قصور الملوك فقالوا: ليس له ذلك إنما هو في الصحراء يضرب اللبن. فلما ذهب إلى الصحراء رأى عمر واضعا درته تحت رأسه وهو نائم على التراب فتعجب الرسول من ذلك وقال في نفسه: أهل الشرق والغرب يخافون منه وهو على هذه الصفة فسل سيفه ليقتله فأخرج الله أسدين من الأرض
وأما علي صلوات الله عليه فيروى أن واحدا من أصحابه سرق وكان عبدا أسود فأتي به إلى علي عليه السلام فقال: أسرقت؟ قال: نعم. فقطع يده فانصرف من عند علي رضي الله عنه فلقيه سلمان الفارسي وابن الكواء فقال ابن الكواء: من قطع يدك؟ قال: أمير المؤمنين ويعسوب المسلمين وختن الرسول وزوج البتول. فقال: قطع يدك وتمدحه. قال: ولم لا أمدحه وقد قطع يدي بحق وخلصني من النار. فسمع سلمان ذلك فأخبر به عليا رضي الله عنه فدعا الأسود ووضع يده على ساعده وغطاه بمنديل ودعا بدعوات، فسمعنا صوتا من السماء ارفع الرداء عن اليد فرفعنا الرداء فإذا اليد كما كانت بإذن الله تعالى.
وأما سائر الصحابة فعن محمد به المنذر أنه قال: ركبت البحر فانكسرت السفينة التي كنت فيها فركبت لوحا من ألواحها فطرحني اللوح في أجمة فيها أسد، فخرج إليّ أسد فقلت: يا أبا الحرث أنا مولى رسول الله ﷺ قال: فتقدم ودلني على الطريق ثم همهم فطننت أنه يودعني ورجع. وروى ثابت عن أنس أن أسيد بن حضير ورجلا آخر من الأنصار خرجا من عند رسول الله ﷺ حين ذهب من الليل قطع، وكانت ليلة مظلمة وفي يد كل واحد منهما عصاه فأضاءت عصا أحدهما حتى مشيا في ضوئها، فلما افترقا أضاءت لكل واحد منهما عصاه حتى مشى في ضوئها وبلغ منزله. وقيل لخالد بن الوليد إن في عسكرك من يشرب الخمر فركب فرسه ليلا فطاف في العسكر فرأى رجلا على فرس ومعه زق من خمر فقال: ما هذا؟ فقال: خل. فقال خالد: اللهم اجعله خلا. فذهب الرجل إلى أصحابه وقال: أتيتكم بخمر ما شربت العرب مثلها: فلما فتحوا فإذا هي خل. فقالوا: والله ما جئتنا إلا بخل. فقال: هذه والله دعوة خالد. ومن الوقائع المشهورة أن خالد بن الوليد أكل كفا من السم على اسم الله وما ضره. وعن ابن عمر أنه كان في بعض أسفاره فلقي جماعة على طريق خائفين من السبع فطرد السبع عن طريقهم
وروي أن النبي ﷺ بعث العلاء بن الحضرمي في غزاة فحال بينهم وبين المطلوب قطعة من البحر فدعا باسم الله الأعظم فمشوا على الماء.
وفي كتب الصوفية من هذا الباب روايات كثيرة ولا سيما في كتاب تذكرة الأولياء ومن أرادها فليطالعها.
وأما المعقول فهو أن الرب حبيب العبد وحبيب الرب لقوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: ٥٤] فإذا بلغ العبد في طاعته مع عجزه إلى حيث يفعل كل ما أمره الله. فأي بعد في أن يفعل الرب مع غاية قدرته وسعة جوده مرة واحدة ما يريد العبد. وأيضا لو امتنع إظهار الكرامة فذلك إما لأجل أن الله تعالى ليس أهلا له فذلك قدح في قدرته، وإما لأن المؤمن ليس أهلا له وهو بعيد لأن معرفة الله والتوفيق على طاعته أشرف العطايا وأجزلها، وإذا لم يبخل الفياض بالأشرف فلأن لا يبخل بالأدون أولى ومن هنا قالت الحكماء: إن النفس إذا قويت بحسب قوتها العلمية والعملية تصرفت في أجسام العالم السفلي كما تتصرف في جسده. قلت: وذلك أن النفس نور ولا يزال يتزايد نوريته وإشراقه بالمواظبة على العلم والعمل وفيضان الأنوار الإلهية عليه حتى ينبسط ويقوى على إنارة غيره والتصرف فيه، والوصول إلى مثل هذا المقام هو المعني بقول علي بن أبي طالب صلوات الله عليه: والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة ربانية. حجة المنكرين للكرامات أن ظهور الخوارق دليل على النبوة، فلو حصل لغير النبي لبطلت هذه الدلالة. وأجيب بالفرق بين المعجز والكرامة بأن المعجز مقرون بدعوى النبوة والكرامة مقرونة بدعوى الولاية. وأيضا النبي يدعي المعجزة ويقطع بها. والولي إذا ادعى الكرامة لا يقطع بها، وأيضا أنه يجب نفي المعارضة عن المعجزة ولا يجب نفيها عن الكرامة. جميع هذا عند من يجوّز للولي دعوى الولاية، وأما من لا يجوّز ذلك من حيث إن النبي مأمور بالإظهار لضرورة الدعوة والولي ليس كذلك ولكن إظهاره يوجب طلب الإشهار والفخر المنهي عنهما، فإنه يفرق بينهما بأن المعجز مسبوق بدعوى النبوة، والكرامة غير مسبوقة بشيء من الدعاوى قالوا:
قال ﷺ حكاية عن الله سبحانه: «لن يتقرب إليّ المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم» «١».
لكن المتقرب إلى الله بأداء الفرائض لا يحصل له شيء من الكرامات، فالمتقرب إليه بأداء النوافل أولى بأن لا يحصل له ذلك. وأجيب بأن الكلام في المتقرب إليه بأداء الفرائض والنوافل جميعا. قالوا: قال تعالى: وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ [النحل: ٧]
لقوله: «البينة على المدعي» «١».
وإن طالبه كان عبثا لأن ظهور الكرامة عليه دليل قاطع على أنه لا يكذب ومع الدليل القاطع لا يجوز العمل بالظن. والجواب مثل ما مر من أن النادر لا يحكم به. قالوا: لو جاز ظهور الكرامة على بعض الأولياء لجاز على كلهم، وإذا كثرت الكرامات انقلب خرق العادة وفقا لها.
وأجيب بأن المطيعين فيهم قلة لقوله تعالى: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: ١٣] والولي فيهم أعز من الكبريت الأحمر، واتفاق الكرامة للولي أيضا على سبيل الندرة فكيف يصير ما يظهر عليه معتادا؟! في الفرق بين الكرامات والاستدراج هو أن يعطيه الله كل ما يريده في الدنيا ليزداد غيه وضلاله وقد يسمى مكرا وكيدا وضلالا وإملاء، والفرق أن صاحب الكرامة لا يستأنس بها ولكنه يخاف سوء الخاتمة، وصاحب الاستدراج يسكن إلى ما أوتي ويشتغل به، وإنما كان الاستئناس بالكرامات قاطعا للطريق لأنه حينئذ اعتقد أنه مستحق لذلك وأن له حقا على الخالق فيعظم شأنه في عينه ويفتخر بها لا بالمكرم، ولا ريب أن الإعجاب مهلك ولهذا وقع إبليس فيما وقع، والعبد الصالح هو الذي يزداد تذلله وتواضعه بين يدي مولاه بازدياد آثار الكرامة والولاية عليه. قرأ المقرئ في مجلس الأستاذ أبى علي الدقاق إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: ١٠] فقال: علامة رفع العمل أن لا يبقى منه في نظرك شيء، فإن بقي فهو غير مرفوع.
واختلف في أن الولي هل يعرف كونه وليا؟. قال الأستاذ أبو بكر بن فورك: لا يجوز لأن ذلك يوجب الأمن أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: ٦٢] والأمن ينافي اعتقاد قهارية الله تعالى ويقتضي زوال العبودية الموجب لسخط الله. وكيف يأمن الولي وقد وصف الله عباده المخلصين بقوله: وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً [الأنبياء: ٩٠] وأيضا إن طاعة العباد ومعاصيهم لا تؤثر في محبة الحق وعداوته لأنها محدثة متناهية وصفاته قديمة غير متناهية، والمحدث المتناهي لا يغلب القديم غير المتناهي. فقد يكون
إن للولاية ركنين: أحدهما انقياد للشريعة في الظاهر، والثاني كونه في الباطن مستغرقا في نور الحقيقة. فإذا حصل هذان الأمران وعرف الإنسان ذلك عرف لا محالة كونه وليا، وعلامته أن يكون فرحه بطاعة الله واستئناسه بذكر الله. قلت: لا ريب أن مداخل الأغلاط في هذا الباب كثيرة، ودون الوصول إلى عالم الربوبية حجب وأستار من نيران وأنوار، فالجزم بالولاية خطر والقضاء بالمحبة عسر والله تعالى أعلم.
قال المفسرون: إن اليهود حين قالت لقريش: سلوا محمدا عن مسائل ثلاثة عن الروح وعن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين فسألوهن قال صلى الله عليه وسلم: أجيبكم عنها غدا ولم يستثن فاحتبس الوحي عنه خمس عشرة ليلة. وقيل: أربعين يوما ثم نزل قوله: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً
أي لأجل شيء تعزم عليه ليس فيه بيان أنه ماذا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فقال العلماء: إنه لا يمكن أن يكون من تمام قوله إِنِّي فاعِلٌ إذ يصير المعنى إلا أن يشاء الله أن لا أفعله أي إلا أن تعرض مشيئة الله دون فعله وهذا ليس منهيا عنه. فالصواب أن يقال: إنه من تمام قوله: وَلا تَقُولَنَّ ثم إن قدر المراد إلا أن يشاء الله أن تقول إني فاعل ذلك غدا أي فيما يستقبل من الزمان ولم يرد الغد بعينه. وقوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أن تقوله بأن يأذن لك في ذلك الإخبار كان معنى صحيحا، ولكنه لا يكون موافقا لسبب النزول. فالمعنى الموافق هو أن يكون قوله هذا في موضع الحال أي لا تقولنه إلا متلبسا بأن يشاء الله يعني قائلا إن شاء الله. وهذا نهي تأديب لنبيه ﷺ لأن الإنسان إذا قال سأفعل الفعل الفلاني غدا لم يبعد أن يموت قبل مجيء الغد أو يعوقه عن ذلك عائق، فلو لم يقل إن شاء الله صار كاذبا في هذا الوعد والكذب منهي وجوز في الكشاف أن يكون إِنْ شاءَ اللَّهُ في معنى كلمة تأبيد كأنه قيل: ولا تقولنه أبدا. قال أهل السنة: في صحة الاستثناء بل في وجوبه دلالة على أن إرادة الله تعالى غالبة وإرادة العبد مغلوبة ويؤكده أنه إذا قال المديون القادر على أداء الدين: والله لأقضين هذا الدين غدا ثم قال: إن شاء الله فإذا جاء الغد ولم يقض لم يحنث بالاتفاق، وما ذاك إلا لأن الله ما شاء ذلك الفعل مع أنه أمره بأداء الدين، وإنما لم يقع الطلاق في قول الرجل لامرأته: أنت
يستثني ولو بعد سنة ما لم يحنث. وعن سعيد بن جبير: ولو بعد يوم أو أسبوع أو شهر أو سنة وهو قول ابن عباس بعينه. وعن طاوس: هو استثناء ما دام في مجلسه. وعن عطاء:
يستثني على مقدار حلب ناقة غزيرة. وعند عامة الفقهاء لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولا. قالوا: إن الآيات الكثيرة دلت على وجوب الوفاء بالعهد والعقد فإذا أتى بالعهد وجب عليه الوفاء بمقتضاه خالفنا هذا الدليل فيما إذا كان الاستثناء متصلا بناء على أن المستثنى منه مع الاستثناء وأداته كالكلام الواحد، فإذا كان منفصلا لم يمكن هذا التوجيه فوجب الرجوع إلى أصل الدليل. وقيل: أراد واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء، وفيه بعث على الاهتمام بها. وقيل: اذكر إذا اعتراك النسيان في بعض الأمور لتذكر المنسي، أو اذكره إذا تركت بعض ما أمرك به ليس لهذين القولين شديد ارتباط بما قيل، وكذا قوله من حمله على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها. واختلفوا في المشار إليه بقوله: لِأَقْرَبَ مِنْ هذا الظاهر عند صاحب الكشاف أن المراد إذا نسيت شيئا فاذكر ربك، وذكر ربك عند نسيانه أن تقول: عسى ربي أن يهديني لشيء آخر بدل هذا المنسي أقرب منه رَشَداً وأدنى خيرا ومنفعة. وقيل: إن ترك قوله «إن شاء الله» ليس بحسن وذكره أحسن. فقوله «هذا» إشارة إلى الترك وأقرب منه ذكر هذه الكلمة، وقيل: إنه إشارة إلى نبأ أصحاب الكهف ومعناه لعل الله يؤتيني من البينات والحجج على أني صادق ما هو أعظم في الدلالة وأقرب رشدا من نبئهم، وقد فعل ذلك حيث آتاه من قصص الأنبياء والأخبار بالمغيبات ما هو أعظم وأدل. عن قتادة: أن قوله سبحانه:
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ حكاية لأهل الكتاب وقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا رد عليهم ويؤيده قراءة عبد الله وقالوا لبثوا والجمهور على أنه بيان لما أجمل في قوله: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً والمراد من قوله قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ أن لا تتجاوزوا الحق الذي أخبر الله به ولا تلتفتوا إلى ماسواه من اختلافات أهل الأديان نظيره قوله: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ بعد قوله: سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قال النحويون: سنين عطف بيان لثلثمائة لأن مميز مائة وأخواتها مجرور مفرد.
وقيل: فيه تقديم وتأخير أي لبثوا سنين ثلاثمائة. ومن قرأ بالإضافة فعلى وضع الجميع
ما لَهُمْ لأهل السموات والأرض. وفيه بيان لكمال قدرته وأن الكل تحت قهره وتسخيره وأنه لا يتولى أمورهم غيره وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ وقضائه قبل أصحاب الكهف أَحَداً منهم. ومن قرأ لا نُشْرِكَ على النهي فهو معطوف على لا تَقُولَنَّ والمراد أنه لا يسأل أحدا عما أخبره الله به من نبأ أصحاب الكهف. واقتصر على بيانه. وقيل: الضمير في مالهم لأصحاب الكهف أي أنه هو الذي حفظهم في ذلك النوم الطويل وتولى أمرهم.
وقيل: ليس للمختلفين في مدة لبثهم من دون الله من يتولى أمورهم فكيف يعلمون هذه الواقعة من دون إعلامه؟! وقيل: فيه نوع تهديد لأنهم لما ذكروا في هذا الباب أقوالا على خلاف قول الله فقد استوجبوا العقاب فبين الله تعالى أنه: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ يمنع العقاب عنهم. واعلم أن الناس اختلفوا في زمان لبث أصحاب الكهف في مكانهم فقيل:
كانوا قبل موسى عليه السلام وأنه ذكرهم في التوراة فلهذا سألت اليهود ما سألوا. وقيل:
دخلوا الكهف قبل المسيح وأخبروه بخبرهم ثم لبثوا في الوقت الذي بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وحكى القفال عن محمد بن إسحق أنهم دخلوا كهفهم بعد عيسى. وقيل:
إنهم لم يموتوا ولا يموتون إلى يوم القيامة. وذكر أبو علي بن سينا في باب الزمان من كتاب الشفاء إن أرسطاطاليس الحكيم زعم أنه عرض لقوم من المتألهين حالة شبيهة بحالة أصحاب الكهف ثم قال أبو علي: ويدل التاريخ على أنهم كانوا قبل أصحاب الكهف. وأما المكان فحكى القفال عن محمد بن موسى الخوارزمي المنجم أن الواثق أنفذه إلى ملك الروم ليعرف أحوال أصحاب الكهف، فوجهه مع طائفة إلى ذلك الموضع قال: وإن الرجل الموكل بذلك المقام فزعني من الدخول عليهم، فدخلت فرأيت الشعور على صدورهم فعرفت أنه تمويه واحتيال وأن الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة الحافظة لأبدان الموتى عن البلى كالصبر وغيره. قلت: حين لم يملأ الخوارزمي
التأويل:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ والعبد الحقيقي من يكون حرا عن الكونين وهو محمد ﷺ إذ
يقول: «أمتي أمتي»
يوم يقول كل نبي «نفسي نفسي»، ولأنه هو الذي صحح نسبة العبودية كما ينبغي أطلق عليه اسم العبد مطلقا وقيد لسائر الأنبياء كما قال: عَبْدَهُ زَكَرِيَّا [مريم: ٢]، وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ [ص:
١٧]، ولأنه كان خلقه القرآن قيل: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ أي لقلبه عِوَجاً لا يستقيم فيه القرآن، ومن استقامة قلبه نال ليلة المعراج رتبة فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم:
١٠] بلا واسطة جبرائيل، ونال قلبه الاستقامة بأمر التكوين بقوله: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢] أَجْراً حَسَناً. هو التمتع من حسن الله وجماله. فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ كان من عادته عليه الصلاة والسلام أن يبالغ في المأمور به حتى ينهى عنه، بالغ في الدعوة والشفقة على أمته حتى قيل له لا تبخع نفسك، وبالغ في الإنفاق إلى أن أعطى قميصه فقعد عريانا فنهى عنه بقوله: وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: ٢٩] إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً أي زينا الدنيا وشهواتها للخلق ملائما لطبائعهم وجعلناها محل ابتلاء للمحب وللسائل لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا في تركها ومخالفة هوى نفسه طلبا لله ومرضاته. ثم أخبر عن سعادة السادة الذين أعرضوا عن الدنيا وأقبلوا على المولى بقوله:
أَمْ حَسِبْتَ ومعناه لا تعجب من حالهم فإن في أمتك من هو أعجب حالا منهم، ففيهم أصحاب الخلوات الذين كهفهم بيت الخلوة، ورقيمهم قلوبهم المرقومة برقم المحبة فإنهم أووا إلى الكهف خوفا من لقاء دقيانوس وفرارا منه، فهؤلاء أووا إلى الخلوة شوقا إلى لقائي وفرارا إليّ، وإنهم طلبوا النجاة من شر. والخروج من الغار بالسلامة بقولهم رَبَّنا آتِنا الآية. فهؤلاء طلبوا الخلاص من شر نفوسهم والخروج من ظلمات الغار المجازي للوصول إلى نور الوجود الحقيقي. فَضَرَبْنا على آذان باطنهم وحواسهم الأخر في مدة الخلوة لمحو النقوش الفاسدة عن ألواح نفوسهم وانتقاشها بالعلوم الدينية والأنوار الإلهية ليفنيهم الله عنهم ويبقيهم به وهو سر قوله: ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أي أحييناهم بنا لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أصحاب الخلوة أم أصحاب السلوة. أَحْصى أي أكثر فائدة وأتم عائدة لأمد لبثهم في الدنيا التي هي مزرعة الآخرة وَزِدْناهُمْ هُدىً فإنهم كانوا يريدون الإيمان الغيبي فأنمناهم ثُمَّ بَعَثْناهُمْ حتى صار الإيمان إيقانا والغيب عيانا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً من الدنيا والهوى. وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ قال الشيخ المحقق نجم الدين
لقول صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن إذا ورد النار تستغيث النار وتقول: حزبا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي»
وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ في متسع وفراغ من ذلك النور يدفع عنهم كل ضر ويراعيهم عن بلى أجسادهم وثيابهم. قلت: يحتمل أن يراد أن شمس الروح أو المعرفة والولاية إذا طلعت من أفق الهداية وأشرقت في سماء الواردات- وهو حالة السكر وغلبات الوجد- لا تنصرف في حال خلوتهم إلى أمر يتعلق بالعقبى وهو جانب اليمين وَإِذا غَرَبَتْ أي سكنت تلك الغلبات وظهرت حالة الصحو لا تلتفت همم أرواحهم إلى أمر يتعلق بالدنيا وهو جانب الشمال، بل تنحرف عن الجهتين إلى المولى وهم في حال دفاع وفراغ مما يشغلهم عن الله وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً متصرفين في أمور الدنيا وَهُمْ رُقُودٌ عنها لأنهم يتصرفون فيها لأجل الحق لا لحظ النفس، أو تحسبهم أيقاظا مشغولين بأمور الآخرة لأن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، وهم رقود متصرفون في أمور الدنيا لأن الناس بهم يرزقون ويمطرون. وفي قوله:
وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ إشارة إلى أنهم في التسليم لمقلب القلوب في الأحوال كلها كالميت بين يدي الغسال. قيل: في الآية دلالة على أن المريد الذي يربيه الله بلا واسطة المشايخ تكامل أمره في ثلاثمائة وتسع سنين، والذي يربيه بواسطتهم تم أمره في أربعينات معدودة ولهذا تكون ثمرة البساتين الزهر وثمرة الجبال وفي قوله: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ إشارة أن أكلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال بها. ربيت القلوب والأرواح معنى أن هذا النوع من التربية من قبيل القدرة الإلهية التي اختصهم بها، ويمكن أن يراد أن نفوسهم صارت بحيث تطيعهم في جميع الأحوال وتحرسهم عما يضرهم وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً بما شاهدت عليهم من آثار الأنوار التي زدناهم، ولجلاليب الهيبة والعظمة التي ألبسناهم لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ لأن أيام الوصال قصيرة، فما رأوا أنهم في دهشة الوصال وحياة الأحوال قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ لأنه كان حاضرا معكم وأنتم غيب عنكم فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ من العجب أنهم ما احتاجوا مدة ثلاثمائة وتسع سنين بما نالوا من غذاء الروح
كقوله صلى الله عليه وسلم: «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» «١».
فلما رجعوا من عند الله الحق إلى عبدية أنفسهم احتاجوا إلى الغذاء الجسماني أَزْكى طَعاماً لما رجعوا إلى العالم الجسماني، تعللوا من جمال الله بمشاهدة كل جميل وتوسلوا إلى تلك
سَيَقُولُونَ إن القوى والأركان الأصلية للإنسان ثَلاثَةٌ الحيوانية والطبيعية والنفسانية التي منشؤهن القلب والكبد والدماغ. رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ هو النفس الناطقة. وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ هو الحواس الظاهرة سادِسُهُمْ النفس وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ هو الحواس الظاهرة مع الوهم المدرك للمعاني والخيال المدرك للصور وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ هو النفس المدرك للكليات قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ لأن القوى الباطنة والظاهرة وأفاعيلها وغاياتها لا يعلمهن إلا الله سبحانه ومن أطلعه الله عليه وذلك قوله: ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ والله أعلم بالصواب.
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٧ الى ٤٦]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦)
وَفَجَّرْنا بالتخفيف: سهل ويعقوب غير رويس لَهُ ثَمَرٌ وكذا بِثَمَرِهِ بفتح الثاء والميم: يزيد. وعاصم وسهل ويعقوب وأبو عامر: بضم الثاء وإسكان الميم. والباقون بضم الثاء والميم جميعا مِنْها على الوحدة: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون على التثنية لكن بالتشديد من غير ألف في الحالين: قتيبة وابن عامر وابن فليح ويعقوب بالألف في الوصل. الباقون بغير الألف واتفقوا على الألف في الوقف بِرَبِّي أَحَداً مفتوحة الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. أن ترني بفتح الياء: السرانديبي عن قنبل غورا بضم الغين وكذلك في الْمُلْكُ البرجمي الباقون بفتحها. ولم يكن له بياء الغيبة الولاية بكسر الواو:
حمزة وعلي وخلف. الآخرون بتاء التأنيث وفتح الواو لله الحق بالرفع: أبو عمرو وعلي. الآخرون بالجر عُقْباً بسكون القاف: عاصم وحمزة وخلف. الباقون بضمها الريح على التوحيد: حمزة وعلي وخلف.
الوقوف:
مِنْ كِتابِ رَبِّكَ ط لاختلاف الجملتين مُلْتَحَداً هـ عَنْهُمْ ج لأن ما بعده يصلح حالا واستفهاما محذوف الألف لدلالة حال العتاب. فُرُطاً هـ فَلْيَكْفُرْ لا لأن الأمر للتهديد بدليل إِنَّا أَعْتَدْنا فلو فصل صار مطلقا ناراً، لأن ما بعده صفة سُرادِقُها ط الْوُجُوهَ ط الشَّرابُ ط مُرْتَفَقاً هـ عَمَلًا ج هـ لاحتمال كون أُولئِكَ مع ما بعده خبر إِنَّ الَّذِينَ وقوله: إِنَّا لا نُضِيعُ جملة معترضة الْأَرائِكِ ط الثَّوابُ ط مُرْتَفَقاً هـ زَرْعاً هـ، ط شَيْئاً لا للعطف نَهَراً هـ ط ثَمَرٌ ج للعدول مع الفاء نَفَراً، ج لِنَفْسِهِ ج لاتحاد العامل بلا عطف أَبَداً هـ ط قائِمَةً لا لأن ما بعده شك من قول الكافر في البعث مُنْقَلَباً هـ رَجُلًا، هـ ط لتمام الاستفهام أَحَداً هـ ما شاءَ اللَّهُ لا لاتمام المقول إِلَّا بِاللَّهِ ج لابتداء الشرط المحذوف جوابه مع اتحاد القائل والمقول له وَوَلَداً هـ، ج لاحتمال كون ما بعده جوابا للشرط زَلَقاً هـ طَلَباً هـ أَحَداً هـ مُنْتَصِراً، ط وقيل: يوقف على هُنالِكَ والأوجه أن يبتدأ ب هُنالِكَ أي عند ذلك يظهر لكل شاك سلطان الله ونفاد أمره الْحَقِّ ط على القراءتين عُقْباً هـ الرِّياحُ ط
التفسير:
لما أجاب عن سؤالهم بما أجاب أمر نبيه ﷺ أن يواظب على تلاوة الكتاب الموحى إليه وعلى الصبر مع الفقراء الذين آمنوا بما أنزل عليه، واحتمل أن يكون اتْلُ أمرا من التلو لا من التلاوة أي اتبع ما أوحي إليك والزم العمل بمقتضاه وقوله: مِنْ كِتابِ رَبِّكَ بيان للذي أوحي إليه. ثم بين سبب اللزوم فقال:
لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أي لا يقدر أحد على تغييرها وإنما يقدر على ذلك هو وحده فليس لك ولا لغيرك إلا المواظبة على العلم والعمل به يؤكده قوله: وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي ملتجأ تعدل إليه إن هممت بذلك فرضا. وأصل اللحد الميل كما مر في قوله: يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ [الأعراف: ١٨] نهى رسول الله ﷺ في سورة الأنعام عن طرد فقراء المؤمنين بقوله: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ [الآية: ٥٢] الآية وأمره في هذه السورة بحبس النفس معهم وبمراقبة أحوالهم بقوله: وَلا تَعْدُ عَيْناكَ قال جار الله: إنما لم يقل ولا تعدهم عيناك من عداه إذا جاوزه لأنه ضمن عدا معنى نبا وفيه مبالغة من جهة تحصيل المعنيين جميعا كأنه قيل: ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم. ثم نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء الكفرة الذين التمسوا منه طرد الفقراء حتى يؤمنوا به فقال:
وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ قال أهل السنة: معنى الإغفال إيجاد الغفلة وخلقها فيهم، أو هو من أغفلها إذا تركها بغير سمة أي لم نسمه بالذكر ولم نجعله من الذين كتبنا في قلوبهم الإيمان، ويؤيد ويؤيد هذا المعنى أن الغفلة عن الذكر لو كانت بإيجاد العبد والقصد إلى إيجاد الغفلة عن الشيء لا يتصور إلا مع الشعور بذلك الشيء لزم اجتماع الضدين. وقالت المعتزلة: معنى أغفلناه وجدناه غافلا بالخذلان والتخلية بينه وبين الأسباب المؤدية إلى الغفلة يؤيده قوله: وَاتَّبَعَ هَواهُ بالواو دون الفاء إذ لو كان اتباع الهوى من نتيجة خلق الغفلة في القلب لقيل «فاتبع» بالفاء. ويمكن أن يجاب بأنه لا يلزم من كون الشيء في نفس الأمر نتيجة لشيء أن يعتبر كونه نتيجة له والفاء من لوازم الثاني دون الأول، على أن الملازمة بين الغفلة عن ذكر الله وبين متابعة الهوى غير كلية، فقد يكون الإنسان غافلا عن ذكر الله ومع ذلك لا يتبع هواه بل يبقى متوقفا متحيرا وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً أي متجاوزا عن حد الاعتدال من قولهم «فرس فرط» إذا كان متقدما للخيل، ويلزم منه أن يكون نابذا للحق وراء ظهره. وأنت إذا تأملت وجدت حال الأغنياء المتحيرين بخلاف الفقراء المؤمنين، لأن هؤلاء الفقراء يدعون ربهم بالغداة والعشى ابتغاء وجه الله وطلبا لمرضاته فأقبلوا على
ثم بين أن الحق ما هو ومن أين هو قائلا وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أي الدين الحق حصل ووجد من عند الله، ويحتمل أن يراد بالحق الصبر مع الفقراء. وقال في الكشاف:
الحق خبر مبتدأ محذوف والمعنى جاء الحق وزاحت العلل فلم يبق إلا اختيار الإيمان أو الكفر، وفيه دليل على أن الإيمان والكفر والطاعة والمعصية كلها مفوّضة إلى مشيئة العبد واختياره. وحمله الأشاعرة على أمر التهديد وقالوا: إن الفعل الاختياري يمتنع حصوله بدون القصد إليه، ثم ذلك القصد لا بد أن يقع بالاختيار والقصد فنقل الكلام إليه ولا يتسلسل فلا بد أن ينتهي إلى قصد واختيار يخلقه الله فيه. فالإنسان مضطر في صورة مختار وفي صورة هذا التخيير دلالة على أنه سبحانه لا ينتفع بإيمان المؤمنين ولا يستضر بكفر الكافرين. ثم بين وعيد الظالمين الذين وضعوا الكفر موضع الإيمان وتحقير المؤمنين لأجل فقرهم مكان تعظيمهم لأجل إيمانهم فقال: إِنَّا أَعْتَدْنا أي أعددنا وهيأنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وهو الحجرة التي تكون حول الفسطاط فأثبت تعالى للنار شيئا شبيها بذلك يحيط بهم من جميع الجهات، والمراد أنه لا مخلص لهم منها ولا فرج. وقيل: هو حائط من نار يطبق بهم. وقيل: هو دخان محيط بالكفار قبل دخولهم النار وهو المراد بقوله انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ [المرسلات: ٣٠] وقوله:
يُغاثُوا بِماءٍ وارد على سبيل التهكم كقولهم «عتابك السيف». والمهل كل ما أذيب من المعدنيات كالذهب والفضة والنحاس قاله أبو عبيدة والأخفش. وقيل في حديث مرفوع إنه درديّ الزيت. وقيل: الصديد والقيح أو ضرب من القطران. وهذه الاستغاثة إما لطلب الشراب كقوله: تسقى في عين آنية [الغاشية: ٥] وإما لدفع الحر ولأجل التبريد كقوله حكاية عنهم أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ [الأعراف: ٥٠] ويروى أنهم إذا استغاثوا من حر جهنم صب عليهم القطران الذي يعم كل أبدانهم كالقميص، وقد يفسر بهذا قوله:
سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [إبراهيم: ٥٠]
عن النبي ﷺ «هو- يعني المهل- كعكر الزيت إذا قرب إليه سقطت فروة وجهه» «١»
وهذا معنى قوله: يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ ذلك لأن المقصود من الشراب إراحة الأحشاء وهذا يحرقها ويشويها وَساءَتْ
ثم شرع في وعد المؤمنين فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية فإن جعلت إِنَّا لا نُضِيعُ اعتراضا فظاهر وإن جعلته خبرا وأُولئِكَ خبرا آخر أو كلاما مستأنفا للأجر أو بيانا لمبهم فمعنى العموم في مَنْ أَحْسَنَ يقوم مقام الرابط المحذوف والتقدير مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا منهم. وتفسير جنات عدن قد مر في سورتي «التوبة» و «الرعد». ولأهل الجنة لباسان: لباس التحلي ولباس الستر. ولم يسم فاعل يُحَلَّوْنَ للتعظيم وهو الله جل وعلا، أو الملائكة بإذن. و «من» في مِنْ أَساوِرَ للابتداء وفي مِنْ ذَهَبٍ للتبيين. وتنكير أساور لإبهام أمرها في الحسن، وأساور أهل الجنة بعضها ذهب لهذه الآية، وبعضها فضة لقوله:
وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ [الدهر: ٢١] وبعضها لؤلؤ لقوله في الحج وَلُؤْلُؤاً [الحج: ٢٣] وجمع في لباس الستر بين السندس- وهو مارق من الديباج- وبين الإستبرق- وهو الغليظ منه- جمعا بين النوعين والإستبرق عند بعضهم معرب استبره. قيل: إنما لم يسم فاعل يُحَلَّوْنَ إشارة إلى أن الحلي تفضل الله بها عليهم كرما وجودا ونسب اللبس إليهم تنبيها على أنهم استوجبوه بعملهم، ثم وصفهم بهيئة المتنعمين والملوك من الاتكاء على أسرتهم. والأرائك جمع أريكة وهو السرير المزين بالحجلة، أما السرير وحده فلا يسمى أريكة. ثم إن الكفار كانوا يفتخرون بخدمهم وحشمهم وأموالهم وأصناف تمتعاتهم على الفقراء المؤمنين فضرب الله مثلا للطائفتين تنبيها على أن متاع الدنيا لا يوجب الافتخار لاحتمال أن يصير الغني فقيرا والفقير غنيا إنما الفخر بالأعمال الصالحات. والمراد مثل حال الكافرين والمؤمنين بحال رجلين وكانا أخوين من بني إسرائيل أحدهما كافر- اسمه فطروس- والآخر مؤمن- اسمه يهوذا- وقيل: هما المذكوران في سورة «والصافات» في قوله: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ [الصافات: ٥١] ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فتشاطراهما، فاشترى الكافر أرضا بألف فقال المؤمن: اللهم إن أخي اشترى أرضا بألف دينار وأنا أشتري منك أرضا في الجنة بألف فتصدق به. ثم بنى أخوه دارا بألف فقال: اللهم إن أخي بنى دارا بألف وإني أشتري منك دارا في الجنة بألف فتصدق به. ثم تزوج أخوه امرأة بألف فقال: اللهم إني جعلت ألفا صداقا للحور. ثم اشترى أخوه خدما ومتاعا بألف فقال: اللهم إني اشتريت منك الولدان المخلدين بألف فتصدق به. ثم أصابته
أما قوله: وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ فقال صاحب الكشاف: إنه يتعدى إلى المفعول الثاني بالباء ومعناه النخيل محيطا بالجنتين وهذا مما يؤثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مؤزرة بالأشجار ولا سيما المثمرة منها وخاصة النخيل إذا أمكن. وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً فهما جامعتان للأقوات والفواكه. وفيه أنهما مع سعة أطرافهما وتباعد أكنافهما لم يتوسطهما بقعة معطلة، وفيه أنهما أتاني كل وقت بمنفعة أخرى متواصلة متشابكة وكل منهما منعوتة بوفاء الثمار لتمام الأكل. وَآتَتْ محمول على لفظ كِلْتَا لأن لفظه مفرد. ولو قيل: «آتتا» على المعنى لجاز. والظلم أصله النقصان وهو المراد هاهنا.
وَفَجَّرْنا من قرأ بالتخفيف فظاهر لأنه نهر واحد، ومن قرأ بالتشديد فللمبالغة لأن النهر ممتد في وسطهما فهو كالأنهار وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ قال الكسائي: الثمرة اسم الواحد والثمر جمع وجمعه ثمار ثم ثمر ككتاب وكتب بالحركة أو بالسكون. وذكر أهل اللغة أن الثمر بالضم أنواع الأموال من الذهب والفضة وغيرهما، والثمر بالفتح حمل الشجر. وقال قطرب: كان أو عمرو بن العلاء يقول: الثمر المال والولد أي كان يملك مع الجنتين أشياء من النقود وغيرها وكان متمكنا من عمارة الأرض ومن سائر التمتعات كيف شاء.
والمحاورة مراجعة الكلام من حار إذا رجع. والنفر الأنصار والحشم الذين يقومون بالذب عنه. وقيل: الأولاد الذكور لأنهم ينفرون معه دون الأناث.
ثم إن الكافر كأنه أخذ بيد المسلم يطوف به في الجنتين ويريه ما فيهما ويفاخره بما ملك من المال دونه وذلك قوله سبحانه وَدَخَلَ جَنَّتَهُ فقال جار الله: معنى أفراد الجنة بعد التثنية أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون، فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما. قلت: لا يبعد أن يكون قد دخل مع أخيه جنة واحدة منهما أو جعل مجموع الجنتين في حكم جنة واحدة منهما يؤيده توحيد الضمير على أكثر القراآت في قوله: لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها وإنما وصفه بقوله: وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ لأنه لما اغتر بتلك النعم ولم يجعلها وسيلة إلى الإيمان بالله والاعتراف بالبعث وسائر مقدورات الله كان واضعا للنعم في غير موضعها، على أن نعمة الجنة بخصوصها مما يجب أن يستدل بها على أحوال النشور كقوله عز من قائل: وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج: ٥] عكس الكافر القضيتين زعم دوام جنته التي هي بصدد الزوال قائلا ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ أي تهلك هذِهِ الجنة
وقوله: مِنْ نُطْفَةٍ إشارة إلى مادتة القريبة. ومعنى سَوَّاكَ رَجُلًا عدلك وكلك حال كونك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال المكلفين ويجوز أن يكون رَجُلًا تمييزا.
ولعل السر في تخصيص الله سبحانه في هذا المقام بهذا الوصف هو أن يكون دليلا على وجود الصانع أولا، لأن الاستدلال على هذا المطلوب بخلق الإنسان أقرب الاستدلالات، وفيه أيضا إشارة إلى إمكان البعث لأن الذي قدر على الإبداء أقدر على الإعادة، وفيه أنه خلقه فقيرا لا غنيا فعلم منه أنه خلقه للعبودية والإقرار لا للفخر والإنكار. ثم استدرك لقوله أَكَفَرْتَ كأنه قال لأخيه: أنت كافر بالله لكني مؤمن موحد.
وأصل لكنا «لكن أنا» حذفت الهمزة بعد إلقاء حركتها على ما قبلها، ثم استثقل اجتماع النونين فسكنت الأولى وأدغمت في الثانية، وضمير الغائب للشأن، والجملة بعده خبر للشأن، والمجموع خبر «أنا» والراجع ياء الضمير وتقدير الكلام: لكن أنا الشأن الله ربي. قال أهل العربية: إثبات ألف «أنا» في الوصل ضعيف، ولكن قراءة ابن عامر قوية بناء على أن الألف كالعوض عن حذف الهمزة وَلَوْلا للتخفيض وفعله. قلت: وإِذْ دَخَلْتَ ظرف وقع في البين توسعا. وقوله: ما شاءَ اللَّهُ خبر مبتدأ محذوف أو جملة شرطية محذوفة الجزاء تقدير الكلام الأمر ما شاء الله أو أي شيء شاء الله كان. استدل أهل السنة بالآية في أنه لا يدخل في الوجود شيء إلا بأمر الله ومشيئته. وأجاب الكعبي
ثم أخبر سبحانه عن تحقيق ما قدره المؤمن فقال: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ وهو عبارة عن إهلاكه وإفنائه بالكلية من إحاطة العدوّ بالشخص كقوله: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ [يوسف:
٦٦]، فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ أي يندم عَلى ما أَنْفَقَ فِيها لأن النادم يفعل كذلك غالبا كما قد يعض أنامله. وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم وقد مر في البقرة في قصة عزير. وقوله: يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ تذكر لموعظة أخيه وفيه دلالة ظاهرة على ما قلنا من أنه كان غير عارف بالله بل كان عابد صنم، ومن ذهب إلى أنه جعل كافرا لإنكاره البعث فسره بأن الكافر لما اغتر بكثرة الأموال والأولاد فكأنه أثبت لله شريكا في إعطاء العز والغنى، أو أنه لما عجز الله عن البعث فقد جعله مساويا لخلقه في هذا الباب وهو نوع من الإشراك. وليس هذا الكلام منه ندما على الشرك ورغبة في التوحيد المحض ولكنه رغب في الإيمان رغبة في جنته وطمعا في دوام ذلك عليه، فلهذا لم يصر ندمه مقبولا ووصفه بعد ذلك بقوله: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ طائفة يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ لأنه وحده قادر على نصرة العباد. وَما كانَ مُنْتَصِراً ممتنعا بقوته عن انتقام الله. ولما علم من قصة الرجلين أن النصرة والعاقبة المحمودة كانت للمؤمن على الكافر علم أن الأمر هكذا يكون في حق كل مؤمن وكافر فقيل هُنالِكَ أي في مثل ذلك الوقت والمقام والولاية الحق لله أو الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ
هُنالِكَ إشارة إلى الآخرة كقوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ [غافر: ١٦] عُقْباً بضم القاف وسكونها بمعنى العاقبة لأن من عمل لوجه الله لم يخسر قط.
ثم ضرب مثلا آخر لجبابرة قريش فقال وَاضْرِبْ لَهُمْ الآية. وقد مر مثله في أوائل «يونس» إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ ومعنى فَاخْتَلَطَ بِهِ التف بسببه. وقيل: معناه روى النبات ورف لاختلاط الماء به وذلك لأن الاختلاط يكون من الجانبين. والهشيم ما تهشم وتحطم، والذر والتطيير والإذهاب. تقول: ذرت الريح التراب وغيره تذروه وتذريه ذروا وذريا. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً من تكوينه أوّلا وتنميته وسطا وإذهابه آخرا. ولا ريب أن أحوال الدنيا أيضا كذلك تظهر أولا في غاية الحسن والنضارة، ثم تتزايد إلى أن تتكامل، ثم تنتهي إلى الزوال والفناء، ومثل هذا ليس للعاقل أن يبتهج به.
وحين مهد القاعدة الكلية خصصها بصورة جزئية فقال: الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ هي أعمال الخير التي تبقى ثمرتها خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً أي تعلق ثواب وخير أملا لأن الجواد المطلق أفضل مسؤول وأكرم مأمول. وقيل: هن الصلوات الخمس. وقيل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ففي التسبيح تنزيه له عن كل ما لا ينبغي، وفي الحمد إقرار له بكونه مبدأ لإفادة كل ما ينبغي، وفي التهليل اعتراف بأنه لا شيء في الإمكان متصفا بالوصفين إلا هو، وفي التكبير إذعان لغاية عظمته وأنه أجلّ من أن يعظم. وقيل: الطيب من القول. والأصح كل عمل أريد به وجه الله وحده قال قتادة.
التأويل:
وَاتْلُ على نفسك وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ كتبه رَبِّكَ في الأزل لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ إلى الأبد مع الدين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ وهم القلب والسر والروح والخفي في غداة الأزل إلى عشي الأبد فإنهم مجبولون على طاعة الله كما أن النفس جبلت على طاعة الهوى وطلب الدنيا. وَلا تَعْدُ عينا همتك عَنْهُمْ فإنك إن لم تراقب أحوالهم تصرف فيهم النفس الأمارة وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا يعني النفس نارا هي نار القهر والغضب أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها يعني سرادق العزة بِماءٍ كَالْمُهْلِ كل ما هو لأهل اللطف أسباب لسهولة العيش وفراغ البال فإنه سبحانه جعل لأهل القهر سببا لصعوبة الأمر وشدة التعلق حتى شوت الوجوه أي أحرقت مواد التفاتهم إلى عالم الأرواح، وفسدت استعداداتهم
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٤٧ الى ٥٩]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١)
وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩)
تسير الجبال على بناء الفعل للمفعول ورفع الجبال: ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو. الآخرون على بناء الفعل للفاعل ونصب الجبال. ما أشهدناهم يزيد.
الآخرون ما أشهدتهم وما كنت على الخطاب روى ابن وردان عن يزيد. الباقون على التكلم ويوم نقول بالنون: حمزة الباقون على الغيبة قُبُلًا بضمتين: عاصم وحمزة والكسائي. الباقون بكسر القاف وفتح الباء. لِمَهْلِكِهِمْ بفتح الميم وكسر اللام:
حفص لِمَهْلِكِهِمْ بفتحهما، يحيى وحما والمفضل. الباقون بضم الميم وفتح اللام.
الوقوف:
بارِزَةً لا لأن التقدير وقد حشرناهم قبل ذلك أَحَداً هـ ج للآية مع العطف فًّا
ط للعدول والحذف أي يقال لهم لقد جئتموناوَّلَ مَرَّةٍ
ز لأن «بل» قد يبتدأ به مع أن الكلام متحدوْعِداً
هـ أَحْصاها ج لاستئناف الواو بعد تمام الاستفهام مع احتمال الحال بإضمار «قد» حاضِراً هـ ط أَحَداً هـ إِلَّا إِبْلِيسَ ط أَمْرِ رَبِّهِ ط عَدُوٌّ ط بَدَلًا هـ أَنْفُسِهِمْ ص عَضُداً هـ مَوْبِقاً هـ مَصْرِفاً هـ مَثَلٍ ط جَدَلًا هـ قُبُلًا هـ وَمُنْذِرِينَ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف هُزُواً هـ يَداهُ ط وَقْراً، ط لاختلاف الجملتين مع ابتداء الشرط أَبَداً هـ الرَّحْمَةِ ط الْعَذابَ ط مَوْئِلًا هـ مَوْعِداً.
التفسير:
لما بين خساسة الدنيا وشرف الآخرة أردفه بأحوال يوم القيامة وأهواله، وفيه رد على أغنياء المشركين الذين افتخروا بكثرة الأموال والأولاد على فقراء المسلمين والتقدير: واذكر يوم كذا عطفا على وأضرب. ويجوز أن ينتصب بالقول المضمر قبل وَلَقَدْ جِئْتُمُونا وفاعل التسيير هو الله تعالى إلا أنه سمي على إحدى القراءتين ولم يسم في الأخرى، فتسييرها إما إلى العدم لقوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه: ١٠٥]، وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [الواقعة: ٥، ٦]. وإما إلى
وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ [الانشقاق: ٤] فيكون الإسناد مجازيا أي بارزا ما في جوفها وَحَشَرْناهُمْ الضمير للخلائق المعلوم حكما فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً من الأوّلين والآخرين. يقال: غادره وأغدره إذا تركه والترك غير لائق ومنه الغدر ترك الوفاء. والغدير ما غادره السيل لأن اللائق بحال السيل أن يذهب بالماء كله. ولا يخفى أن اللائق بحال رب العزة أن لا يترك أحدا من خلقه غير محشور وإلا كان قدحا في عمله وحكمته وقدرته. قالت المشبهة: في قوله: عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ
دليل على أنه سبحانه في مكان يمكن أن يعرض عليه أهل القيامة وكذلك في قوله: قَدْ جِئْتُمُونا
وأجيب بأنه تعالى شبه وقوفهم في الموضع الذي يسألهم فيه عن أعمالهم بالعرض عليه وبالمجيء إلى حكمه كما يعرض الجند على السلطان. وانتصب فًّا
على الحال أي مصطفين ظاهرين ترى جماعاتهم كما يرى كل واحد لا يحجب أحد أحدا. والصف إما واحد وإما جمع كقوله يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر: ٦٧] أي أطفالا. وقيل: صفا أي قياما وبه فسر قوله: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ [الحج: ٣٦]. وقال القفال: يشبه أن يكون الصف راجعا إلى الظهور والبروز ومنه الصفصف للصحراء وهذا قريب من الأول. وقد مر في «الأنعام» أن وجه التشبيه في قوله لَقْناكُمْ
أنهم يبعثون عراة لا شيء معهم، أو المراد بعثناكم كما أنشأناكم وزعمهم أن لن يجعل الله لهم موعدا. أي وقتا لإنجاز ما وعدوا على ألسنة الأنبياء إما أن يكون حقيقة وإما لأن أفعالهم تشبه فعل من يزعم ذلك. وَوُضِعَ الْكِتابُ أي جنسه وهو صحف الأعمال. والوضع إما حسي وهو أن يوضع كتاب كل إنسان في يده إما في اليمين أو في الشمال، وإما عقلي ومعناه النشر والاعتبار. فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ خائفين مما في الكتاب لأن الخائن خائف خوف العقاب وخوف الافتضاح. ومعنى النداء في يا وَيْلَتَنا قد مر في «المائدة» في يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ [الآية: ٣١] وقوله:
صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً صفتان للهيئة أو المعصية أو الفعلة وهي عبارة عن الإحاطة وضبط كل ما صدر عنهم، لأن الأشياء إما صغار وإما كبار، فإذا حصر الصنفين فقد حصر الكل.
وعن الفضيل: ضجوا والله من الصغائر قبل الكبائر. قلت: وذلك أن تلك الصغائر هي التي جرأتهم على الكبائر. وعن ابن عباس: الصغيرة التبسم والكبيرة القهقهة. وعن سعيد بن جبير: الصغيرة المسيس والكبيرة الزنا. وجوّز في الكشاف أن يريد ما كان عندهم صغائر وكبائر. وتمام البحث في المسألة أسلفناه في أوائل سورة النساء في تفسير قوله: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء: ٣١] فتذكر وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً في
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحاسب الناس في القيامة على ثلاثة: يوسف وأيوب وسليمان يدعو المملوك فيقول له: ما شغلك عني؟ فيقول جعلتني عبد الآدمي فلم تفرغني فيدعو يوسف فيقول: كان هذا عبدا مثلك ثم يمنعه ذلك أن عبدني فيؤمر به إلى النار. ثم يدعى بالمبتلى فإذا قال: أشغلتني بالبلاء دعا بأيوب فيقول: قد ابتليت هذا بأشد من بلائك فلم يمنعه ذلك عن عبادتي ويؤمر به إلى النار، ثم يؤتى بالملك في الدنيا مع آتاه الله من الغنى والسعة فيقول: ماذا عملت فيما آتيتك فيقول: شغلني الملك عن ذلك فيدعى بسليمان فيقول: هذا عبدي سليمان آتيته أكثر مما آتيتك فلم يشغله ذلك عن عبادتي اذهب فلا عذر لك فيؤمر به إلى النار»
ثم إنه سبحانه عاد على أرباب الخيلاء من قريش فذكر قصة آدم واستكبار إبليس عليه. قال جار الله: قوله: كانَ مِنَ الْجِنِّ كلام مستأنف جار مجرى التعليل بعد استثناء إبليس من الساجدين كأن قائلا قال: ما له لم يسجد فقيل: كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ والفاء للتسبيب أي كونه من الجن سبب في فسقه ولو كان ملكا لم يفسق لثبوت عصمة الملائكة. وقال آخرون: اشتقاق الجن من الاستتار عن العيون فيشمل الملائكة والنوع المسمى بالجن. ثم من لم يوجب عصمة الملك فظاهر، ومن أوجب قال: «كان» بمعنى «صار» أي مسخ عن حقيقة الملائكة إلى حقيقة الجن، وقد سلف هذا البحث بتمامه في أول سورة البقرة. ومعنى فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ خرج عن طاعته. وحكى الزجاج عن الخليل وسيبويه أنه لما أمر فعصى كان سبب فسقه هو ذلك الأمر ولولا ذلك الأمر الشاق لما حصل ذلك الفسق فلهذا حسن أن يقال: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ. وقال قطرب: هو على حذف المضاف أي فسق عن ترك أمره. ثم عجب من حال من أطاع إبليس في الكفر. والمعاصي وخالف أمر الله فقال: أَفَتَتَّخِذُونَهُ كأنه قيل أعقيب ما وجد منه من إلا باء والفسق تتخذونه وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وتستبدلونهم بي وقصة آدم وإبليس سمعها قريش من أهل الكتاب وعرفوا صحتها فلذلك صح الاحتجاج بها عليهم وإن لم يعتقدوا كون محمد ﷺ نبيا بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أي بئس البدل من الله. إبليس لمن استبدل به فأطاعه بدل طاعته. قال الجبائي:
في الآية دلالة على أنه لا يريد الكفر ولا يخلقه في العبد وإلا لم يصح هذا الذم
وقال الفراء: البين الوصل والمراد جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة. وفي الكشاف: الموبق المهلك وهو مصدر كالمورد أي جعلنا بينهم واديا من أودية جهنم مشتركا هو مكان الهلاك والعذاب الشديد يهلكون فيه جميعا. وجوز أن يريد بالشركاء
علموا وأيقنوا: والأقرب أن الكفار يرون النار من مكان بعيد فيغلب على ظنونهم أنهم مخالطوها واقعون فيها في تلك الساعة من غير تأخير ولا مهلة لشدة ما يسمعون من تغيظها نظيره إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان: ١٢] وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي معدلا إلى غيرها لأن الملائكة يسوقونهم إليها آخر الأمر. ولما ذكر أن الكفرة افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم ومتصرفاتهم وأجاب عن شبههم وأقوالهم الفاسدة وضرب الأمثال النافعة وحكى أهوال الآخرة قال: وَلَقَدْ صَرَّفْنا وقد مر تفسيره في السورة المتقدمة. وحين لم يترك الكفار جدالهم وكانوا أبدا يتعللون بالأعذار الواهية ختم الآية بقوله: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا يعني أن الأشياء التي يتأتى منها الجدل ان فصلتها واحدا بعد واحد فإن الإنسان أكثرها خصومة فقوله: أَكْثَرَ شَيْءٍ كقوله أَوَّلَ مَرَّةٍ وقد مر في «الأنعام». وكثرة جدل الإنسان لسعة مضطربه فيما بين أوج الملكية إلى حضيض البهيمية، فليس له في جانبي التصاعد والتسافل مقام معلوم. قال أهل البرهان:
قوله تعالى في سورة «بني إسرائيل» : وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى [الاسراء: ٩٤] وقال في هذه السورة بزيادة وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ لأن المعنى هناك ما منعهم عن الإيمان بمحمد ﷺ إلا قولهم: «أبعث الله بشرا رسولا، هلا بعث ملكا» وجهلوا أن التجانس يورث التوانس. ومعناه في هذا الموضع ما منعهم من الإيمان والاستغفار إلا الإتيان بسنة الأوّلين وانتظار ذلك. وعن الزجاج: إلا طلب سنتهم وهو قولهم «إن كان هذا هو الحق» وزاد في هذه السورة وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ لأن قوم نوح أمروا بالاستغفار اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً [نوح: ١٠] وكذا قوم هود وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [هود: ٥٢] وقوم صالح فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود: ٦٢] وقو شعيب وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ [هود: ٩٠] فلما خوفهم سنة الأوّلين أجرى المخاطبين مجراهم. والحاصل أنهم لا يقدمون على الإيمان والاستغفار إلا عند نزول عذاب الاستئصال أو عند تواصل أصناف البلاء عيانا. ومن قرأ بضمتين أراد أنواعا جمع قبيل. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أنه لا مانع من الإيمان أصلا. وقالت الأشاعرة: العلم بأنه لا يؤمن والداعي الذي يخلقه الله في الكافر يمنعانه، فالمراد فقدان الموانع المحسوسة. ثم بين أنه إنما أرسل الرسل مبشرين بالثواب على الطاعة ومنذرين بالعقاب على المعصية لكي يؤمنوا طوعا وبين أن مع
وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السجدة: ١٢] أي ذكروا مرة بعد أخرى وزمانا بعد زمان ثم أعرضوا عنها بالموت فلم يؤمنوا وانقطع رجاء إيمانهم. وقوله إِنَّا جَعَلْنا وقد مر تفسيره في «الأنعام» إلى قوله: فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً متمسك الجبرية وقلما تجد في القرآن دليلا لأحد الفريقين إلا ومعه دليل للفريق الآخر فهذا شبه ابتلاء من الله، ولعله أراد بذلك إظهار مغفرته ورحمته على عباده كما قال: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ قال المفسرون الضمير في قوله: لَوْ يُؤاخِذُهُمْ لأهل مكة الذين أفرطوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والموعد يوم بدر. وأقول: لا يبعد أن يكون الضمير للناس في قوله: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ والموعد القيامة، والموئل الملجأ يقال وأل إذا نجا، ووأل إليه إذا لجأ إليه. قال الإمام فخر الدين الرازي: إنا ذكر لفظ المبالغة في المغفرة دون الرحمة لأن المغفرة ترك الإضرار، والرحمة إيصال النفع، وقدرة الله تعالى تتعلق بالأول، لأن ترك أضرار لا نهاية لها ممكن ولا تتعلق بالثاني لأن فعل ما لا نهاية له محال. أقول: هذا فرق دقيق لو ساعده النقل على أن قوله ذو الرحمة أيضا لا يخلو عن مبالغة، وكثيرا ما ورد في القرآن إنه غفور رحيم بلفظ المبالغة في الجانبين.
وفي تعلق القدرة بترك غير المتناهي أيضا نظر، لأن مقدورات الله متناهية لا فرق في ذلك بين المبقي والمتروك. ثم أشار إلى قرى الأولين اعتبارا لغيرهم فقال: وَتِلْكَ الْقُرى فاسم الإشارة مبتدأ وفيه تعظيم لشأنهم أو تبعيد لزمانهم ومكانهم، والقرى صفة وما بعده خبره ولا يخفى حذف المضاف أي وتلك أصحاب القرى أَهْلَكْناهُمْ ويجوز أن يكون تِلْكَ الْقُرى منصوبا بإضمار أهلكنا على شريطة التفسير. وَجَعَلْنا لزمان إهلاكهم أو لإهلاكهم أو وقت هلاكهم مَوْعِداً وعدا أو وقت وعد لا يتأخرون عنه كما ضربنا
التأويل:
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وهي الأبدان الجامدة عن السلوك، وترى أرض النفوس بارزة خالية عن موانع الطريق، وحشرنا جميع القوى البشرية عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
لكل قوة ولكل جوهر رتبة تليق بها، فالروح في صف الأرواح، والقلب في صف القلوب، وكذا النفس وقواها. وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ على هيئة الفطرة، وقيل الأنبياء في صف، والأولياء في صف، والمؤمنون في صف، والكافرون والمنافقون في الصف الأخير لا يُغادِرُ صَغِيرَةً هي كل تصرف في شيء بالشهوة النفسانية وإن كان من المباحات. وَلا كَبِيرَةً هي التصرف في الدنيا على حبها فحب الدنيا رأس كل خطيئة ما أَشْهَدْتُهُمْ لأني لا أشهد إلا أوليائي كما قلت سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [الكهف: ٥٣] وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ رأوا في الدنيا أسباب النار من الشهوات والآثام فوقعوا فيها ولم يجدوا ما يصرفهم عنها من الديانة والإيمان الحقيقي، فإذا رأوا النار في الآخرة أيقنوا أنهم مواقعوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا فتارة مجادل في التوحيد وأخرى في النبوة ومرة في الأصول ومرة في الفروع، ولهذا كثرت المذاهب والأديان والملل والنحل ونسأل الصواب من ملهمه وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ أسباب الهداية وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إن كانوا مذنبين إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ من الأنبياء والأولياء والمؤمنين وهو جذبات العناية لأهل الهداية
كقوله في حضرة النبي ﷺ «والله لولا الله ما اهتدينا»
أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا
كقوله: «أنا نبي السيف أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» «١».
والله أعلم. (م).
تم الجزء الخامس عشر، ويليه الجزء السادس عشر أوله: وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ...
رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث ٣٢- ٣٦. البخاري في كتاب الإيمان باب ١٧. أبو داود في كتاب الجهاد باب ٩٥. الترمذي في كتاب تفسير سورة ٨٨. النسائي في كتاب الزكاة باب ٣. ابن ماجه في كتاب الفتن باب ١- ٣ بدون لفظ «أنا نبي السيف»
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦٠ الى ٨٢]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤)
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤)
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩)
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢)
القراآت:
أنسانيه بضم الهاء حفص والمفضل، وقرأ عليّ بالإمالة مع كسر الهاء:
نبغي بالياء في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب، وأفق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو
يُضَيِّفُوهُما من الإضافة: المفضل لتخذت من التخذ مدغما: أبو عمرو وسهل ويعقوب، وقرأ ابن كثير بالإظهار. الباقون: لَاتَّخَذْتَ من الاتخاذ. وقرأ حفص والمفضل والأعشى والبرجمي مظهرا يُبْدِلَهُما من التبديل وكذلك في سورة التحريم ونون والقلم: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو. الآخرون من الإبدال رُحْماً بضمتين: ابن عامر ويزيد وعباس وسهل ويعقوب. الباقون بسكون الحاء.
الوقوف:
حُقُباً هـ سَرَباً هـ غَداءَنا ز لا نقطاع النظم مع صدق اتصال المعنى نَصَباً هـ الْحُوتَ ز لتمام استفهام التعجب مع اتحاد الكلام وكون الواو حالا أَنْ أَذْكُرَهُ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال في البحر وقفة. قيل: عليه تم كلام يوشع ثم ابتدأ موسى فقال عجبا أي أعجب لذلك عجبا والوصل أجوز أي سبيلا عجبا واتخاذا عَجَباً هـ نَبْغِ قف قد قيل: لتمام قول أحدهما وابتداء فعلهما والوجه الوصل لعطف اللفظ وسرعة الرجوع على الفور قَصَصاً هـ لا لاتصال النظم واتحاد الحال عِلْماً هـ رُشْداً هـ صَبْراً هـ خُبْراً هـ أَمْراً هـ ذِكْراً هـ فَانْطَلَقا وقفة لأن حتى إذا للابتداء حرقها ط أَهْلَها ج لانقطاع النظم واتحاد القائل إِمْراً هـ صَبْراً هـ عُسْراً هـ فَانْطَلَقا وقفة لما مر فَقَتَلَهُ لا لأن «قال» جواب «إذا» لغير نفس ط للفصل بين الاستخبار والإخبار نُكْراً هـ صَبْراً هـ فَلا تُصاحِبْنِي ج لاختلاف الجملتين عُذْراً هـ فَانْطَلَقا وقفة فَأَقامَهُ ط أَجْراً هـ وَبَيْنِكَ ج صَبْراً هـ غَصْباً هـ وَكُفْراً، ج للعطف مع الآية رُحْماً هـ صالِحاً ج لما قلنا مِنْ رَبِّكَ ج عَنْ أَمْرِي ط صَبْراً، لانقطاع القصة.
هذه قصة أوردها الله تعالى لتعين على المقاصد السابقة مع كونها مستقلة في الإفادة، أما نفعها في قصة أصحاب الكهف فهو أن اليهود قالوا: إن أخبركم محمد عنها فهو نبي وإلا فلا، فذكر الله تعالى قصة موسى والخضر تنبيها على أن النبي لا يلزم أن يكون عالما بجميع القصص والأخبار. وأما نفعها في الرد على كفار قريش حين افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة الأموال والأنصار، فهو أن موسى عليه السلام مع كثرة علمه وعلو منصبه واستجمام موجبات الشرف التام في حقه ذهب إلى الخضر وتواضع له لأجل طلب العلم فدل ذلك على أن التواضع خير من التكبر. وأكثر العلماء على أن موسى المذكور في الآية هو موسى بن عمران صاحب التوراة والمعجزات. وعن سعيد بن جبير أنه قال لابن عباس: إن نوفا ابن امرأة كعب يزعم أن الخضر ليس بصاحب موسى بن عمران وإنما هو صاحب موسى بن ميشا بن يعقوب وهو قد كان نبيا قبل موسى بن عمران. فقال ابن عباس: كذب عدو الله. واحتج الأكثرون على صحة قولهم بأن موسى حيث أطلق في القرآن أريد به موسى بن عمران، فلو كان المراد هاهنا شخصا آخر لوجب تعريفه بحيث يتميز عن المشهور. حجة الأقلين- وإليه ذهب جمهور اليهود- أن موسى بن عمران بعد أن خصه الله تعالى بالمعجزات الظاهرة التي لم يتفق لمن قبله مثلها، يبعد أن يؤمر بالتعلم والاستفادة. وأجيب بأن العالم الكامل في أكثر العلوم قد يجهل بعض المسائل فيحتاج في تعلمها إلى من يختص بعلمها.
أما فتى موسى فالأكثر على أنه يوشع بن نون، ويروى هذا القول عن سعد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هو أخو يوشع وكان مصاحبا لموسى في السفر. وعن الحسن: إنه أراد عبده ويؤيده ما
روي أنه ﷺ قال: «ليقل أحدكم فتاي وفتاتي ولا يقل عبدي وأمتي».
قال أهل السير: إن موسى لما ظهر على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط، أمره الله أن يذكر قومه النعمة فقام فيهم خطيبا فذكر نعمة الله فقال: إنه اصطفى نبيكم وكلمه فقالوا له: قد علمنا هذا فأيّ الناس أعلم؟ قال: أنا. فعتب الله حين لم يردّ العلم إلى الله، فأوحى الله إليه بل أعلم منك عبد لي بمجمع البحرين وهو الخضر، وكان الخضر عليه السلام في أيام أفريدون قبل موسى عليه السلام وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر. وبقي إلى أيام موسى.
ويروى أن موسى سأل ربه أيّ عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني.
قال: فأيّ عبادك أقضى؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: فأي عبادك أعلم؟ الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على الهوى أو تردّه عن ردى. فقال: إن كان في عبادك من هو أعلم منى فادللني عليه. قال: أعلم منك الخضر.
قال: فأين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة. قال: يا رب كيف لي به؟ قال: تأخذ
قلت: وهذا صحيح لأن علم الإنسان متناه وعلم الله غير متناه، ولا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي أصلا.
ولنرجع إلى التفسير قال الزجاج وتبعه جار الله: لا أَبْرَحُ بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر لدلالة حال السفر عليه ولأن قوله: حَتَّى أَبْلُغَ غاية مضروبة فلا بد لها من ذي غاية. فالمعنى لا أزال أسير إلى أن أبلغ، وجوز أن يكون المعنى لا أبرح سيري حتى أبلغ على أن حَتَّى أَبْلُغَ هو الخبر، وحذف المضاف وهو السير وأقيم المضاف إليه- وهو ياء المتكلم- مقامه فانقلب الفعل من لفظ الغائب إلى لفظ المتكلم وجوز أيضا أن يكون لا أبرح، بمعنى لا أزول من برح المكان، والمعنى لا أبرح ما أنا عليه أي لا أترك المسير والطلب حتى أبلغ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ يعني ملتقى بحري فارس والروم وقد شرحنا وضع البحار في سورة البقرة في تفسير قوله: الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ [الآية: ١٦٤]. وقيل: أراد طنجة، وقيل إفريقية. ومن غرائب التفسير أن البحرين موسى والخضر لأنهما بحر العلم، وهذا مع غرابته مستبشع جدا لأن البحرين إذا كان هو موسى عليه السلام فكيف يصح أن يقول: حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ إذ يؤل حاصل المعنى إلى قولنا حتى أبلغ مكانا يجتمع فيه بحران من العلم أحدهما أنا أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أسير زمانا طويلا. قال جار الله: الحقب بالضم ثمانون سنة. ويقال: أكثر من ذلك.
وقيل: إنه تعالى أعلم موسى حال هذا العالم وما أعلمه بعينه فقال موسى: لا أزال أمضي حتى يجتمع البحران فيصيرا بحرا واحدا أو أمضي دهرا طويلا حتى أجد هذا العالم، وهذا إخبار من موسى عليه السلام بأنه وطن تحمل التعب الشديد إلى أن يلقاه، وفيه تنبيه على شرف العلم وأن طلب العلم يحق له أن يسافر، ويتحمل المتاعب في الطلب من غير ملال وكلال. فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما قال جمهور المفسرين: الضمير للبحرين أي تحقق ما موسى وبلغ المكان الذي وعد فيه لقاء الخضر. ولا بد للبين من فائدة، ولعل المراد حيث يكاد يلتقي وسط ما امتد من البحرين طولا. والإضافة بمعنى «في» أي مجمعا في وسط البحرين فيكون كالتفصيل لمجمع البحرين، والبيان والإيضاح بكلام علام الغيوب تعالى
ويحتمل على هذا أن يعود الضمير إلى موسى والخضر أي وصلا إلى الموضع الذي وعد اجتماع شملهما هناك، أو البين بمعنى الوصل لأنه من الأضداد فيفيد مزيد التأكيد كقولهم «جد جده». وهذه الوجوه مما لم أجدها في التفاسير، فإن كان صوابا فمن الله وإلا فمني ومن الشيطان نَسِيا حُوتَهُما لأنه تعالى جعل انقلاب الحوت حيا علامة على مسكن الخضر قيل: إن الفتى كان يغسل السمكة لأنها كانت مملوحة فطفرت وسارت. وقيل: إن يوشع توضأ في ذلك المكان فانتضح الماء على الحوت المالح فعاش ووثب إلى الماء.
وقيل: انفجرت هناك عين من الجنة ووصلت قطرات من تلك العين إلى السمكة فحييت وطفرت إلى البحر. ونسيان الحوت للذهول عن الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب، والسبب في هذا الذهول مع أن هذه الحالة كانت أمارة لهما على الطلبة التي تناهضا من أجلها، هو أن يوشع كان قد تعود مشاهدة المعجزات الباهرة فلم يبق لحياة السمكة ولقيام الماء وانتصابه مثل الطاق ونفوذها في مثل السرب منه وقع عنده.
وقيل: إن موسى عليه السلام لما استعظم علم نفسه أزال الله عن قلب صاحبه هذا العلم الذي يشبه الضروري تنبيها لموسى عليه السلام، على أن العلم لا يحصل إلا بتعليم الله وحفظه على قلوب عباده. وانتصاب قوله: سَرَباً على أنه مفعول ثان لاتخذ أي اتخذ سبيله سبيلا سريا وهو بيت في الأرض، وذلك أن الله تعالى أمسك إجراء الماء عن الحوت وجعله كالكوة حتى سرى الحوت فيه معجزة لموسى عليه السلام وللخضر.
وقيل: السرب هو الذهاب والتقدير سرب في البحر سربا إلا أنه أقيم قوله: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ مقام «سرب» فَلَمَّا جاوَزا أي موسى وفتاه الموعد المعين وهو الصخرة قال موسى لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا وهو ما يؤكل بالغداة لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً تعبا وجوعا. قال المفسرون: قوله مِنْ سَفَرِنا هذا إشارة إلى سيرهما وراء الصخرة ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك. قال الفتى متعجبا أَرَأَيْتَ ومفعوله محذوف لدلالة قوله:
فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ عليه كأنه قال: أرأيت ما دهاني ووقع لي. إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ قيل: هي الصخرة التي دون نهر الزيت فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ عليها ثم ذكر ما يجري مجرى السبب في وقوع ذلك النسيان فقال: وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ وأَنْ أَذْكُرَهُ بدل الاشتمال من الهاء في أَنْسانِيهُ أي وما أنساني ذكره قال الكعبي: لو كان النسيان بخلق الله وإرادته لكان إسناد ذلك إلى الله تعالى أولى من إسناده إلى الشيطان إذ ليس له في وجوده سعي ولا أثر. قال القاضي: المراد بإنساء الشيطان أن يشتغل قلب الإنسان بوساوسه التي هي من فعله دون النسيان الذي يضاد الذكر، لأن ذلك لا يصلح أن يكون
قال أهل البرهان: لما كان اتخاذ الحوت سبيله في البحر عقيب النسيان ذكر أوّلا فاتخذ بالفاء، ولما حيل بينهما ثانيا بجملة معترضة هي قوله: وَما أَنْسانِيهُ زال معنى التعقيب وبقي العطف المجرد فقال: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ بالواو. وانتصاب عَجَباً كما مر في سَرَباً.
قال صلى الله عليه وسلم: «كان للحوت سربا ولموسى وفتاه عجبا»
قالَ موسى ذلِكَ يعني اتخاذ الحوت السبيل في البحر ما كنا نبغي أي إنه الذي كنا نطلبه لأنه أمارة الظفر بالمطلوب فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما فرجعا على طريقهما المسلوك قَصَصاً مصدر لأنه بمعنى الارتداد على الأثر يتبعان آثارهما اتباعا، أو هو مصدر في موضع الحال أي رجعا على الطريق الذي جاءا منه مقتصين فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا الأكثرون على أن ذلك العبد كان نبيا لأنه تعالى وصفه بقوله: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا والرحمة هي الوحي والنبوّة بدليل قوله: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ [الزخرف: ٣٢] وقوله: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [القصص: ٨٦] ومنع أن كل رحمة نبوة قالوا: وصفه بقوله: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً والعلم المختص به تعالى هو الوحي والإخبار بالغيوب. وأيضا آخر القصة وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي أي عرفته وفعلته بأمر الله وذلك مستلزم للوحي.
وروي أن موسى عليه السلام لما وصل إليه قال: السلام عليك. فقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل. فقال: من عرّفك هذا؟ قال: الذي بعثك إلي.
والصوفية سموا العلوم الحاصلة بطريق المكاشفات العلوم اللدنية. والتحقيق فيه إذ ضعفت القوى الحسية والخيالية بواسطة الرياضة قويت القوة العقلية وأشرقت الأنوار الإلهية على جواهر العقل، ويفيض عليه من عالم الأرواح أنوار يستعد بسببها لملاحظة أسرار الملكوت ومطالعة عالم اللاهوت. والأكثرون أيضا على أن ذلك العبد هو الخضر سمي بذلك لأنه كان لا يقف موقفا إلا اخضر ذلك الموقف. وقال الجبائي: روي أن الخضر إنما بعث بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل. فإن صحت الرواية لم يكن ذلك العبد هو الخضر لأنه بعث بعده، وبتقدير كونه معاصرا له فإنه أظهر الترفع على موسى حين قال: وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً وأن موسى أظهر التواضع له حين قال وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً مع أنه كان مبعوثا إلى كافة بني إسرائيل، والأمة لا تكون أعلى حالا من النبي. وإن لم تكن الرواية صحيحة بأن الخضر لا يكون من بني إسرائيل لم يجز أن يكون الخضر أفضل من موسى عليه السلام لأنه تعالى قال لبني إسرائيل وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: ٤٧] وأجيب بأنه يجوز أن يكون غير النبي فوق النبي في علوم لا تتوقف نبوته عليها.
على أن تعلمني فدل ذلك على أنه لا كمال فوق كمال العلم، وأنه لا يحسن صرف الهمة إلا إلى تحصيله. وفيه أن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر، فكان حرصه على زيادتها أوفر. ومنها أنه قال رُشْداً وهو يصلح أن يكون مفعولا ك تعلمني وعُلِّمْتَ أي علما ذا رشد أرشد به في ديني، وفيه تعظيم لما سيعلمه فإن الإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل حصل الضلال. ثم إنه تعالى حكى عن الخضر أنه قال: لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً نفى استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد لعلمه بأنه يتولى أمورا هي في الظاهر منكرة، والرجل الصالح لا سيما النبي الذي يحكم بظواهر الأمور شرعا قلما يتمالك أن يصبر عليها. وخُبْراً تمييز أي لم يحط به خبرك، أو هو مصدر لكونه في معنى الإحاطة. استدلت الأشاعرة بالآية على أن الاستطاعة لا تحصل فيه الفعل وإلا لكانت الاستطاعة على الصبر حاصلة قبل الصبر، فيكون قول الخضر بنفي الاستطاعة كذبا. وكذا قوله: وَكَيْفَ تَصْبِرُ لأنه استفهام في معنى الإنكار أي لا تصبر البتة. أجاب الجبائي بأنه أراد بنفي الاستطاعة أن يثقل عليه الصبر لا أنه لا يستطيعه. يقال في العرف: إن فلانا لا يستطيع أن يرى فلانا وأن يجالسه إذا كان يثقل عليه ذلك ولهذا قالَ له موسى سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي أي ستجدني غير عاص لَكَ أَمْراً ويجوز أن يكون قوله: وَلا أَعْصِي جملة مستأنفة معطوفة على مثلها أي ستجدني ولا أعصي. قال أهل السنة: في قوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ بطريق الشك والصبر
قالت الأصوليون: في قوله: وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً دليل على أن ظاهر الأمر للوجوب، لأن تارك الأمر عاص. بهذه الآية، والعاصي يستحق العقاب لقوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الجن: ٢٣] قال المحققون: في قوله الخضر تغليظ وتجهيل، وفي قول موسى تحمل وتواضع، فدل ذلك على أن المعلم إن رأى التغليظ على المتعلم فيما يعتقده نفعا وإرشادا إلى الخير، فالواجب عليه ذكره وعلى المتعلم أن يتلقاه بالبشر والطلاقة. ثم قال: فإن اتبعتني فلا تسألني شرط على موسى عليه السلام في اتباعه أن لا يسأل عما خفي عليه وجه صحته حتى يكون الخضر هو المبتدئ بتعليمه إياه بإخباره عن وجه الحكمة فيه فَانْطَلَقا على ساحل البحر يطلبان السفينة، فما ركباها يروى أن أهلها قالوا: هما من اللصوص وأمروهما بالخروج فمنعهم صاحب السفينة وقال:
أرى وجوه الأنبياء. وقيل: عرفوا الخضر فحملوهم بلا أجرة، فلما حصلوا في اللجة أخذ الخضر الفأس فخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي الماء. وقيل: خرق جدار السفينة ليعيبها ولا يتسارع الغرق إلى أهلها فجعل موسى يسد الخرق بثيابه ويقول:
أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أتيت شيئا عظيما. يقال: أمر الأمر إذا عظم.
ويقال في الشيء العجيب الذي يعرف له شبيه إنه أمر أمر. احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بأن موسى عليه السلام اعترض على الخضر بعد توكيد العهود والمواثيق وذلك ذنب. وأجيب بأنه لم يقل ذلك اعتراضا وتوبيخا ولكنه أحب أن يقف على حكمة ذلك الأمر الخارج عن العبادة، أو أنه خالف الشرط بناء على النسيان ولهذا قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ ولا مؤاخذة على الناسي. و «ما» موصولة أو موصوفة أو مصدرية أي بالذي نسيت وبشيء نسيته وبنسياني. وجوز في الكشاف أن لا يكون ناسيا في الحقيقة ولكنه أو هم بقوله: لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ أنه قد نسي لبسط عذره في الاعتراض على المعلم وهو من معاريض الكلام التي يتقي بها الكذب مع التوصل إلى الغرض. وجوز أيضا أن يكون النسيان بمعنى الترك أي بما تركت من وصيتك أول مرة وَلا تُرْهِقْنِي ولا تغشني مِنْ أَمْرِي عُسْراً وأراد بأمره أمر المتابعة أي يسر عليّ متابعتك بالإغضاء وترك المناقشة.
وإنما قال في هذه القصة خَرَقَها بغير «فاء» لأنه جعله جزاء للشرط، وفي قصة الغلام جعل فَقَتَلَهُ من جملة الشرط معطوفا عليه بفاء التعقيب، لأن القتل يعقب لقاء
ضرب برأسه الحائط. وعن سعيد بن جبير: أضجعه ثم ذبحه بالسكين. ثم إنه سبحانه حكى عن الخضر أنه ما زاد على أن أذكره ما عاهد عليه فقال: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ وإنما زاد هاهنا لك لأن الإنكار أكثر وموجب العتاب أقوى. وقيل: أكد التقرير الثاني بقوله لَكَ كما تقول لمن توبخه لك أقول وإياك أعني. وقيل: بين في الثاني المقول له لما لم يبين في الأول فعند هذا قالَ موسى إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها بعد هذه الكرة أو المسألة فَلا تُصاحِبْنِي نهاه عن المصاحبة حينئذ مع حرصه على التعلم لظهور عذره كما قال: قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً وهذا كلام نادم شديد الندامة جره المقال، واضطره الحال إلى الاعتراف وسلوك سبيل الإنصاف.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخي كموسى استحيا فقال ذلك»
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ هي أنطاكية. وقيل: الأيلة وهي أبعد أرض الله من السماء.
اسْتَطْعَما أَهْلَها وكان حق الإيجاز أن يقال: «استطعماهم» فوضع الظاهر موضع المضمر للتأكيد كقوله:
ليت الغراب غداة ينعب بيننا | كان الغراب مقطع الأوداج |
عن النبي صلى الله عليه وسلم: كانوا أهل قرية لئاما.
قيل: الاستطعام ليس من عادة الكرام فكيف أقدما عليه. وأيضا الضيافة من المندوبات وترك المندوب غير منكر، فكيف جاز لموسى أن يغضب عليهم حتى ترك عهد صاحبه. وقال: لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً وأجيب بأن الرجل إذا جاع بحيث ضعف عن الطاعة أو أشرف على الهلاك لزمه الاستطعام ووجبت إجابته. ولقائل أن يقول: لو كان قد بلغ الجوع إلى حدّ الهلاك لم يقو على إصلاح الجدار. ولمجيب أن يقول: إنه أقام الجدار معجزة فقد يروى أنه مسحه بيده فقام واستوى. وقيل: أقامه بعمود عمده به. وقيل: نقضه وبناه. وروي أنه كان ارتفاع الجدار مائة ذراع. قال أهل الاعتبار: شر القرى التي لا يضاف الضيف فيها ولا يعرف لابن السبيل حق.
ويحكى أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وجاؤا إلى رسول الله ﷺ بحمل الذهب فقالوا: يا رسول الله نشتري بهذا الذهب أن تجعل الباء تاء أي «فأتوا أن يضيفوهما» فامتنع رسول الله ﷺ عن ذلك.
قوله: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ معناه يسرع سقوطه من انقض الطائر إذا هوى في طيرانه.
يقال: قضضته فانقض، ويحتمل أن يكون «افعل» من النقض كاحمرّ من الحمرة، فالنون تكون أصلية وإحدى الضادين مكررة زائدة عكس الأول. واستعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة تشبيها للجماد بالأحياء نظيره وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ [الأعراف:
١٥٤] قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: ١١]. ولما أقام الخضر الجدار ورأى موسى من الحرمان ومسيس الحاجة قالَ لصاحبه لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً لطلبت على عملك جعلا حتى نستدفع به الضرورة. واتخذ افتعل من تخذ كاتبع من تبع وليس من الأخذ على الأصح قالَ الخضر مشيرا إلى الفراق المتصور في قوله: فَلا تُصاحِبْنِي أو مشيرا إلى السؤال والاعتراض هذا فِراقُ بَيْنِي الإضافة بمعنى في أي فراق أو سبب فراق في بيني وَبَيْنِكَ وحكى القفال أن البين هاهنا بمعنى الوصل.
ثم شرع في تقرير الحكم التي تضمنتها أفعاله وتلك الحكم تشترك في أصل واحد هو أنه أذا تعارض الضرر إن وجب تحمل الأدنى لدفع الأعلى فقال:
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ قيل: كانت لعشرة إخوة خمسة منهم زمنى وخمسة يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ وقد تقدم استدلال الشافعي بهذه الآية على أن الفقير أسوأ حالا من المسكين وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ وهو مسمى بجلندي والوراء هاهنا بمعنى الأمام
قال جار الله: قوله: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها مسبب عن خوف الغصب عليها وكان حقه أن يتأخر عن السبب ولكنه قدم للعناية أي تتعجب من هذا وهو مرادي وأنا مأمور به. وأيضا خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كون السفينة للمساكين فتوسط إرادة العيب بين المسكنة والغصب كتوسط الظن بين المبتدأ والخبر في قولك «زيد ظني مقيم» في أنه يتعلق بالطرفين وَأَمَّا الْغُلامُ فقد قيل: إنه كان بالغا قاطع الطريق يقدم على الأفعال المنكرة وكان أبواه مضطرين إلى التعصب له والذب عنه فكانا يقعان في الفسق لذلك واحتمل أن يؤدي ذلك إلى الكفر والارتداد كما قال: فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً. يقال: رهقة أي غشيه وأرهقه إياه. وقيل: إنه كان صبيا إلا أنه تعالى علم من حاله أنه لو صار بالغا صدرت عنه هذه المفاسد، فأعلم الخضر بحاله وأمره بقتله لئلا يرتد الأبوان بسببه ومثل هذا لا يجوز إلا إذا تأكد الظن بالوحي. وقيل: أراد فخفنا أن يغشى الوالدين طغيانا عليهما وكفرا بنعمتهما بعقوقه، أو خفنا أن يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر. وجوزوا أن يكون قوله: فَخَشِينا من كلام الله تعالى أي كرهنا كراهة من خاف سوء عاقبة أمر فغيره. والزكاة الطهارة والنقاء من الذنوب وكأنه بإزاء قول موسى نفسا زاكية. والرحم الرحمة والعطف بمعنى الإشفاق على الأبوين. يروى أنهما ولدت لهما جارية فتزوجها نبي فولدت نبيا هدى الله على يديه أمة من الأمم. ويروى أنها ولدت سبعين نبيا. وقيل: أبدلهما أبدلهما أبنا مؤمنا. وقيل: اسم الغلام المقتول الحيسون وفي نسخة الحسين.
وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ. قيل: اسمهما أصرم وصريم. وقوله: فِي الْمَدِينَةِ بعد قوله: أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ فيه دلالة على أن القرية لا تنافي المدينة ومعنى الاجتماع والإقامة مراعى فيهما. أما الكنز فقيل: هو المال لقوله: وَيَسْتَخْرِجا ولأن المفهوم منه عند إطلاقه هو المال. وقيل: صحف فيها علم لقوله: وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً ودفن المال لا يليق بأهل الصلاح. وعورض بقول قتادة: أحل الكنز لمن قبلنا وحرم علينا. وحرمت الغنيمة عليهم وأحلت لنا. وجمع بعضهم بين الأمرين فقال: كان لوحا من ذهب مكتوبا
سؤال: لم قال في الأول: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وفي الثاني: فَأَرَدْنا وفي الثالث فَأَرادَ رَبُّكَ؟ الجواب: لأن الأول إفساد في الظاهر فأسنده إلى نفسه، وفي الثالث إنعام محض فأسنده إلى الله سبحانه، وفي الثاني إفساد من حيث القتل وإنعام من حيث التبديل فجمع بين الأمرين. ويمكن أن يقال: إن القتل كان منه ولكن إزهاق الروح كان من الله، ويحتمل أن يقال: الوحدة في الأول على الأصل، والجمع في الثاني تنبيه على أنه من العلماء المؤيدين بالعلوم الدينية، والإسناد إلى الله بالآخرة إشارة إلى أنه لا إرادة إلا إرادة الله وما تشاؤون إلا أن يشاء الله ذلِكَ الذي ذكر من أسرار تلك الوقائع تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي يرجع المقصود من تلك الأفاعيل إلى ما قررنا، وأصل تسطع تستطيع كما في قوله: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ إلا أن التاء حذفت لأجل التخفيف. وهذا شاذ من جهة القياس ولكنه ليس بشاذ في الاستعمال.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخي موسى لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب» «١».
التأويل:
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ فيه أن المسافر لا بد له في الطريق من الرفيق، وفيه أن من شرطهما أن يكون أحدهما أميرا والآخر مأمورا، وأن يعلم الرفيق عزيمته ومقصده حتى يكون على بصيرة من صحبته، وأن لا يسأم من متاعب السفر حتى يظفر بمقصوده، وأن تكون نيته طلب شيخ يقتدي به فإن طلب الشيخ في الحقيقة هو طلب الحق. ومجمع البحرين هو مجمع ولاية الشيخ وولاية المريد وعنده عين الحياة الحقيقية، فإذا وقعت قطرة منها على حوت قلب المريد حيي واتخذ سبيله في بحر الولاية سربا.
أحمد في مسنده (١/ ٤١١، ٤٣٦).
هَلْ أَتَّبِعُكَ إلخ في قول الخضر. فإن اتبعتني فلا تسألني إلخ. وجد أصول الشرائط التي شرطها الصوفية للمريد وللشيخ مودعة فيها، وفي تفصيلها طول وقد أشرنا في التفسير إلى طرف منها، ومن أراد الكل فعليه بمطالعة كتاب «آداب المريدين» للشيخ المحقق أبي النجيب السهروردي تغمده الله بغفرانه حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ هي سفينة الشريعة خَرَقَها بهدم الناموس في الظاهر مع صلاح الحال في الباطن وفيما بينه وبين علام الغيوب، ومثل هذا قد يفعله كثير من المحققين طردا للعوام وحذرا من التباهي والعجب أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها في أودية الضلال إذا اقتدوا بك حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً هو النفس الأمارة فَقَتَلَهُ بسكين الرياضة وسيف المجاهدة حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ هي الجسد وهم القوى الإنسانية من الحواس وغيرها اسْتَطْعَما أَهْلَها بطلب أفاعيلها التي تختص بها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما بإعطاء خواصها كما ينبغي لكلالها وضعفها فَوَجَدا فِيها جِداراً هو التعلق الحائل بين النفس الناطقة وبين عالم المجردات يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ بقطع العلاقة فَأَقامَهُ بتقوية البدن والرفق بالقوى والحواس كما قيل: نفسك مطيتك فارفق بها. لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ثوابا جزيلا أي لو شئت لصبرت على شدة الرياضة إلى إفاضة الأنوار ونيل الكشوف. أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ هم العوام الذين يَعْمَلُونَ فِي بحر الدنيا وليس لهم في بر عالم الربوبية سير وسلوك حتى يصلوا إلى
[سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٣ الى ١١٠]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢)
حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧)
قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧)
خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨) قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)
فَأَتْبَعَ ثُمَّ أَتْبَعَ مقطوعة: ابن عامر وعاصم وحمزة وعلي وخلف الباقون بالتشديد موصولة. حامية الألف من غيرهم: ابن عامر ويزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص. الباقون حَمِئَةٍ بالهمزة من غير ألف جَزاءً الْحُسْنى بالنصب منونا. يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الآخرون جزاء الحسنى بالرفع والإضافة. السَّدَّيْنِ بفتح السين: ابن كثير أبو عمرو وحفص وأبو زيد عن المفضل. الآخرون بضمها. يفقهون بضم الياء وكسر القاف: حمزة وعلي وخلف. الباقون بفتحهما يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ حيث كان مهموزا: عاصم غير الشموني فَهَلْ نَجْعَلُ وبابه بإدغام اللام في النون: علي وهشام خراجا بالألف: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد الباقون خَرْجاً بسكون الراء. سَدًّا بفتح السين:
ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وعاصم. والباقون بضمها مكننى: ابن كثير.
الباقون بإدغام النون في النون ردما ائتوني يحيى وحماد والابتداء بكسر الألف لصدفين بضم الصاد والدال: ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وسهل ويعقوب المفضل مخير، أبو بكر وحماد بضم الصاد وإسكان الدال. الآخرون بفتح الصاد والدال. قالَ ائْتُونِي والابتداء بكسر الألف: يحيى وحماد وحمزة فَمَا اسْطاعُوا بالإدغام: حمزة غير حماد وخلاد، وقرأ أبو نشيط والشموني فما اصطاعوا بالصاد وهو الصحيح من نقل ابن مهران. دَكَّاءَ بالمد: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل والخزاز عن هبيرة أَفَحَسِبَ الَّذِينَ بسكون السين ورفع الباء: يزيد ويعقوب والأعشى في اختياره دُونِي أَوْلِياءَ بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو أن ينفد بياء الغيبة: حمزة وعلي وخلف وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان.
الوقوف:
الْقَرْنَيْنِ ط ذِكْراً هـ ط سَبَباً لا سَبَباً هـ قَوْماً هـ ط حُسْناً هـ نُكْراً هـ الْحُسْنى ج لاختلاف الجملتين يُسْراً هـ ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار سَبَباً هـ سِتْراً هـ كَذلِكَ ط أي كذلك القبيل الذين كانوا عند مغرب الشمس. وقيل: يبتدأ بكذلك أي ذلك كذلك أو الأمر كذلك. وقيل: أي أحطنا بما لديه من العدد والعدد كذلك أي كعلمنا بقوم سبق ذكرهم خُبْراً هـ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً هـ قَوْماً لا قَوْلًا هـ سَدًّا هـ رَدْماً هـ الْحَدِيدِ ط انْفُخُوا ط ناراً لا لأن
التفسير:
ولما أجاب عن سؤالين من أسئلة اليهود وانتهى الكلام إلى حيث انتهى، شرع في السؤال الثالث والجواب عنه. وأصح الأقوال أن ذا القرنين هو الإسكندر بن فيلقوس الرومي الذي ملك الدنيا بأسرها، إذ لو كان غيره لانتشر خبره ولم يخف مكانه عادة. يحكى أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان طوائف، ثم قصد ملوك المغرب وقهرهم وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر فبنى الإسكندرية وسماها باسم نفسه، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم عطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودانت له العبرانيون والقبط والبربر، ثم توجه نحو دارا ابن دارا وهزمه إلى أن قتله فاستولى على ممالك الفرس، ثم قصد الهند والصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى المدن الكثيرة، ورجع إلى العراق ومرض بشهرزور ومات بها. قال الإمام فخر الدين الرازي: لما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلا ملك الأرض بالكلية أو ما يقرب منها، وثبت من علم التاريخ أن من هذا شأنه ما كان إلا الإسكندر وجب القطع بأن ذا القرنين هو الإسكندر. قال: وفيه إشكال لأنه كان تلميذا لأرسطا طاليس وكان على مذهبه. فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطو حق وصدق ذلك وذلك مما لا سبيل إليه. قلت: ليس كل ما ذهب إليه الفلاسفة باطلا فلعله أخذ منهم ما صفا وترك ما كدر. والسبب في تسميته بذي القرنين أنه بلغ قرني الشمس أي مطلعها ومغربها.
وروي عن النبي ﷺ أنه طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقها وغربها.
وقيل: كان له قرنان ضفيرتان. وقيل: انقرض في وقته قرنان من الناس. وقيل: كان لتاجه قرنان. وعن وهب أنه سمي بذلك لأنه ملك الروم وفارس.
ويروى الروم والترك. وعنه كانت صفحتا رأسه من نحاس. وقيل: كان على رأسه ما يشبه القرنين. وقيل: لشجاعته كما يسمى الشجاع كبشا كأنه ينطح أقرانه. وقيل: رأى في المنام كأنه صعد الفلك وتعلق بطرفي الشمس أي بقرنيها. وزعم الفرس أن دارا الأكبر تزوّج بابنة فيلقوس، فلما قرب منها وجد رائحة منكرة فردها إلى أبيها وكانت قد حملت بالإسكندر
ويروى أنه ملك الدنيا بأسرها أربعة: ذو القرنين وسليمان- وهما مؤمنان- ونمرود وبختنصر- وهما كافران- واختلفوا فيه فقيل: كان عبدا صالحا ملكه الأرض وأعطاه العلم والحكمة وألبسه الهيبة وسخر له النور والظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه. وعن علي رضي الله عنه: سخر له السحاب ومدت له الأسباب وبسط له النور وأحب الله وأحبه. وسأله ابن الكواء وكان من أصحابه ما ذو القرنين أملك أم نبي؟ فقال: ليس بملك ولا نبي ولكن كان عبدا صالحا ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله أي في جهاده فمات، ثم بعثه الله فضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمي ذا القرنين وفيكم مثله يعني نفسه. قالوا: وكان ذو القرنين يدعو الناس إلى التوحيد فيقتلونه فيحييه الله. وقيل: كان نبيا لقوله تعالى: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ. والتمكين المعتد به هو النبوة، ولقوله وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً وظاهره العموم فيكون قد نال أسباب النبوّة، ولقوله: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وتكليم الله بلا واسطة لا يصلح إلا للنبي. وقيل: كان ملكا من الملائكة. عن عمر أنه سمع رجلا يقول: يا ذا القرنين.
فقال: اللهم غفرا أما رضيتم أن تسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة.
قوله: سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ أي سأفعل هذا إن وفقني الله تعالى وأنزل فيه وحيا. والخطاب في عَلَيْكُمْ للسائلين وهم اليهود أو قريش كأبي جهل وأضرابه وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً طريقا موصلا إليه. والسبب في اللغة هو الحبل والمراد هاهنا كل ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة، وذلك أنه أراد بلوغ السدين فأتبع سببا أدى إليه. ثم إنه سبحانه شرع في نعت مسيره إلى المغرب قائلا فَأَتْبَعَ سَبَباً أي سلك طريقا أفضى به إلى سفر المغرب، ومن قرأ بقطع الهمزة فمعناه اتبع نفسه سببا حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حامية أي حارة، ومن قرأ بحذف الألف مهموزا فمعناه ذات حمأة أي طين أسود، ولا تنافي بين القراءتين. فمن الجائز أن تكون العين جامعة للوصفين.
عن أبي ذر قال: كنت رديف رسول الله ﷺ على جمل فرأى الشمس حين غابت فقال: أتدري يا أبا ذر من أين تغرب هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم.
قال: فإنها تغرب في عين حامية.
فقال حكماء الإسلام: قد ثبت بالدلائل اليقينية أن الأرض كروية في وسط العالم، وأن السماء محيطة بها من جميع الجوانب، وأن الشمس
وَجَدَها تَغْرُبُ ولم يخبر أنها تغرب في عين، ولا شك أن البحار الغربية قوية السخونة فهي حامية، وأيضا حمئة لكثرة ما في البحار من الطين الأسود. أما قوله: وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً فالضمير إما للشمس وإما للعين، وذلك أن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان ذلك الموضع كأنهم سكنوا بالقرب من الشمس. قال ابن جريج: هناك مدينة لها اثنا عشر ألف باب لولا أصوات أهلها سمع الناس وجوب الشمس حين تجب، كانوا كفرة بالله فخيره الله بين أن يعذبهم بالقتل وأن يتخذ فيهم حسنا وهو تركهم أحياء فاختار الدعوة والاجتهاد فقال أَمَّا مَنْ ظَلَمَ بالإصرار على الشرك فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ بالقتل في الدنيا ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ في الآخرة فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً منكرا فظيعا.
روى صاحب الكشاف عن قتادة أنه كان يطبخ من كفر في القدور وهو العذاب النكر، ومن آمن أعطاه وكساه وفيه نظر، لأن العذاب النكر بعد أن يرد إلى ربه لا يمكن أن يكون من فعل ذي القرنين. ومن قرأ جَزاءً بالنصب أراد فله الفعلة الْحُسْنى جزاء، ومن قرأ بالرفع أراد فله جزاء الفعلة الحسنى التي هي كل الشهادة، أو فله أن يجازى المثوبة الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا أي مما نأمر به الناس من الزكاة والخراج وغير ذلك يُسْراً أي قولا ذا يسر ليس بالصعب الشاق. ثم حكى سفره إلى أقصى الشرق قائلا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أي هيأ أسبابا بسفر المشرق حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ أي مكان طلوعها وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً عن كعب أن الستر هو الأبنية وذلك أن أرضهم لا تمسكها فليس هناك شجر ولا جبل ولا أبنية تمنع شعاع الشمس وتدفع حره عنهم، فإذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب لهم، وإذا غربت اشتغلوا بتحصيل المعاش، فحالهم بالضد من أحوال سائر الخلق. وعن مجاهد أن الستر الثياب وأنهم عراة كالزنج، وحال كل من سكن في البلاد القريبة من خط الاستواء كذلك. حكى صاحب الكشاف عن بعضهم أنه قال: خرجت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء فقيل: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة. فبلغتهم فإذا أجدهم يفرش أذنه ويلبس الأخرى. وحين قرب طلوع الشمس سمعت كهيئة الصلصلة فغشى عليّ ثم أفقت، فلما طلعت الشمس إذ هي فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سربا لهم، فلما أرتفع النهار خرجوا إلى البحر فجعلوا
كَذلِكَ وجوه أحدها: كذلك أمر ذي القرنين اتبع هذه الأسباب حتى بلغ ما بلغ، وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به. الثاني: لم نجعل لهم سترا مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الأبنية أو الثياب. الثالث: بلغ مطلع الشمس مثل الذي بلغ من مغربها. الرابع: تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم فقضى في هؤلاء كما قضى في أولئك من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين، وقد سبق بعض هذه الوجوه في الوقوف.
ثم حكى سفره إلى ناحية القطب الشمالي بعد تهيئة أسبابه قائلا ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ قيل: السد إذا كان بخلق الله فهو بضم السين حتى يكون بمعنى «مفعول» أي هو مما فعله الله وخلقه، وإذا كان ممن عمل العباد فهو بالفتح حتى يكون حدثا قاله أبو عبيدة وابن الأنباري. وانتصب بَيْنَ على أنه مفعول به كما ارتفع بالفاعلية في قوله: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ [الأنعام: ٩٤] قال الإمام فخر الدين الرازي: الأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال. فقيل جبلان بين أرمينية وأذربيجان، وقيل في منقطع أرض الترك. وحكى محمد بن جرير الطبري في تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنسانا من ناحية الخزر، فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق وثيق منيع.
وقيل: إن الواثق رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه ووصفوا أنه بناء من لبن من حديد مشددة بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل، ثم إن ذلك الإنسان لما حاول الرجوع أخرجهم الدليل إلى البقاع المحاذية لسمرقند. قال أبو الريحان البيرني: ومقتضى هذا الخبر أن هذا الموضع في الربع الغربي الشمالي من المعمورة والله أعلم بحقيقة الحال، ولما بلغ الإسكندر ما بين الجبلين اللذين سد ما بينهما وَجَدَ مِنْ دُونِهِما أي من ورائهما متجاوزا عنهما قريبا قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ بأنفسهم أو يفقهون غيرهم قولهم لأنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم. سؤال: كيف فهم منهم ذو القرنين أن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض إلخ؟ وأجيب بأن «كاد» إثبات أو لعله فهم ما في ضمير هم بالقرائن والإشارات، أو بوحي وإلهام. وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف. وقيل: مشتقان من أج الظليم في مشيه إذا هرول، وتأجج النار إذا تلهبت ومن أجج الريق أو موج البحر، سموا بذلك لشدتهم وسرعة حركتهم، وهما من ولد يافث. وقيل: يأجوج من الترك، ومأجوج من الجيل والديلم. ومن الناس من وصفهم بصغر الجثة وقصر القامة حتى الشبر، ومنهم من
قال الخليل: الزبرة من الحديد القطعة الضخمة. من قرأ آتُونِي بالمد فظاهر، ومن قرأ ائتوني من الإتيان فعلى حذف باء التعدية والنصب بنزع الخافض. ثم هاهنا إضمار أي فأتوه بها فوضع بعضها فوق بعض. حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ وهما على القراآت جانبا الجبلين لأنهما يتصادفان أي يتقابلان أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أصب عليه النحاس المذاب وقِطْراً منصوب بأفرغ والتقدير: آتوني قطرا أفرغ عليه قطرا فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه. وهذا محمل ما يستدل به البصريون في أن المختار عند تنازع الفعلين هو إعمال الثاني إذ لو عمل الأول لقال أفرغه عليه. يحكى أنه حفر الأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينهما الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافيخ حتى إذا صارت كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلا صلدا. وقيل: بعد ما بين السدين مائة فرسخ.
وعن رسول الله ﷺ أن رجلا أخبره به فقال: كيف رأيته؟ قال: كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء. قال: قد والله رأيته.
قال العلماء: هذا معجز من ذي القرنين لأن تلك الزبر الكثيرة إذا صارت كالنار لم يقدر الآدمي على القرب منه، وكأنه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين. فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ أي يعلوه لارتفاعه وملاسته وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً لصلابته وثخانته لما تكرر لفظ الاستطاعة مرارا، حذف منها التاء تخفيفا في الموضعين وأعاد ذكرها بالآخرة تنبيها على الأصل ورجوعا إلى البداية. ثم قالَ ذو القرنين هذا السد أو هذا الإقرار والتمكين نعمة من الله عز وجل ورحمة على عباده
ثم شرع سبحانه في بقية أخبارهم فقال وتركنا بعضهم يومئذ يموجون أي حين يخرجون مما وراء السد مزدحمين في البلاد. ويروى أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ثم يأكلون الشجر ومن ظفروا به ممن لم يتحصن منهم من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة ولا المدينة وبيت المقدس. ثم يبعث الله نغفا وهو دود يكون في أنوف الإبل والغنم فيدخل آذانهم فيموتون. وقيل: أراد أن قوم السد لما منعوا من الخروج ماج بعضهم في بعض خلفه. وقيل: الضمير للخلق واليوم يوم القيامة أي وجعلنا الخلق يضطربون ويختلط إنسهم وجنهم حيارى. ونفخ الصور من آيات القيامة وسيجيء وصفه.
ومعنى عرض جهنم إبرازها وكشفها للذين عموا عنها في الدنيا، وفي ذلك نوع من العقاب للكفار لما يتداخلهم من الغم والفزع عَنْ ذِكْرِي أي عن آياتي التي ينظر إليها فأذكر بالتعظيم فأطلق المسبب على السبب أو عن القرآن وتأمل معانيه. وصفهم بالعمى عن الدلائل والآثار فأراد أن يصفهم بالصمم عن استماع الحق فقال وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً وهو أبلغ من أن لو قال «وكانوا صما» لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به، وهؤلاء زالت عنهم الاستطاعة بالكلية. احتجت الأشاعرة بالآية على أن الاستطاعة مع الفعل لأنهم لما لم يسمعوا لم يستطيعوا. وأجيب بأن المراد من نفي الاستطاعة النفرة والاستثقال. ثم أنفذ في التوبيخ والوعيد قائلا أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا والمراد أفظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبر آيات الله وتمردهم عن قبول أمره وأمر رسوله؟
وفيه إضمار تقديره أفحسبوا اتخاذ عبادي أولياء نافعا. والعباد إما عيسى والملائكة، وإما الشياطين الذين يطيعونهم، وإما الأصنام أقوال. ومن قرأ بسكون السين فمعناه أفكافيهم ومحسبهم أن يتخذوهم أولياء على الابتداء والخبر، أو على أنه مثل «أقائم الزيدان» يريد أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا. قال الزجاج: النزل المأوى والمنزل.
وقيل: إنه الذي يعدّ للضيف فيكون تهكما به نحو فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ [آل عمران: ٢١] أما الذين ضل سعيهم أي ضاع وبطل
فعن علي رضي الله عنه أنهم الرهبان
كقوله: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ [الغاشية: ٣]
وروي عنه ﷺ أن منهم أهل حروراء.
وعن مجاهد: أهل الكتاب. والتحقيق أنه يندرج فيه كل ما يأتي بعمل خير لا يبتني على إيمان وإخلاص. وعن أبي سعيد الخدري: يأتي الناس بأعمال يوم القيامة هي عندهم في العظم
وفي قوله: فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ إشارة إلى ذلك، أو المراد فنزدري بهم ولا يكون لهم عندنا وزن ومقدار. وقيل: لا يقام لهم ميزان لأن الميزان إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين ذلِكَ الذي ذكرناه من أنواع الوعيد جَزاؤُهُمْ وقوله جَهَنَّمُ عطف للجزاء. والسبب فيه أنهم ضموا إلى الكفر بالله اتخاذ آيات الله واتخاذ كل رسله هزؤا وتكذيبا، ويجوز أن يكون كل من الأمرين سببا مستقلا للتعذيب، ثم أردف الوعيد بالوعد على عادته. عن قتادة: الفردوس أوسط الجنة وأفضلها. وعن كعب: ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر. وعن مجاهد: الفردوس هو البستان بالرومية.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين مسيرة مائة عام والفردوس أعلاها درجة، وفيها الأنهار الأربعة فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإن فوقها عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» «١».
قال أهل السنة: جعل جنات الفردوس نزلا فالإكرام التام يكون وراء ذلك وليس إلا الرؤية ونظيره أنه جعل جهنم بأسرها نزلا فما وراءها هو العذاب الحقيقي وهو عذاب الحجاب كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: ١٥] والحول التحول وفيه أنه لا مزيد على نعيم الفردوس حتى تنازعهم أنفسهم إلى تلك الزيادة، ويجوز أن يراد به تأكيد الخلود أي لا تحوّل فيطلب كقوله:
ولا ترى الضب بها ينجحر ولما ذكر أنواع الدلائل والبينات وشرح أقاصيص سئل عنها. نبه على كمال حال القرآن. والمداد اسم لما يمد به الشيء كالحبر والزيت للدواة والسراج، والمعنى لو كتبت كلمات علم الله وحكمه وفرض أن جنس البحر مداد لهما لنفد البحر قبل نفاد الكلمات ولو جئنا بمثل البحر مددا لنفد أيضا وهو تمييز من مثله كقولك «على التمرة مثلها زبدا» والمدد والمداد واحد. يروى أن حيي بن أخطب قال: في كتابكم وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: ٢٦٩] ثم تقرءون وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:
وفي تخصيص هذا الوحي بالذكر فائدة هي أن يستدل به على صدقه، فإن من علامات صدق مدعي النبوة أن يدعو إلى التوحيد، ثم أن يدعو إلى العمل الصالح المقترن بالإخلاص وذلك قوله: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا أي يأمل حسن لقائه أو يخاف سوء لقائه.
واللقاء بمعنى الرؤية عند الأشاعرة وبمعنى لقاء الثواب أو العقاب عند المعتزلة فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً قال المفسرون: النهي عن الإشراك بالعبادة هو أن لا يرائي بعمله ولا يبغي به إلا وجه ربه.
يروى أن جندب بن زهير قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أعمل العمل لله فإذا اطلع عليه سرني فقال: إن الله لا يقبل ما شورك فيه. وروي أنه قال: لك أجران أجر السر وأجر العلانية.
قال العلماء: الرواية الأولى محمولة على ما إذا قصد بعمله الرياء والسمعة. والرواية الثانية محمولة على ما إذا قصد أن يقتدي به.
قال في الكشاف: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه. ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء».
وعنه صلى الله عليه وسلم: من قرأ عند مضجعه قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ كان له من مضجعه نورا يتلألأ إلى مكة، حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم وإن كان مضجعه بمكة بمكة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ».
التأويل:
لما بين لإنسان كمالا مكنونا وكنزا مدفونا يمكن له تحصيله بالتربية
فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ بهمة صارفة وعزيمة صادقة آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ ملكات راسخة وهيئات ثابتة أو قلوبا هن كالحديد في المضاء، وكالجبال الراسيات في البقاء حَتَّى إِذا ساوى عرض ما بين طرفي العمر كما قيل من لمهد إلى اللحد قالَ انْفُخُوا بالمداومة على الأذكار والأوراد حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً بتأثير حرارة الطاعة والذكر في حديد القلب قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً هو جوهر المحبة وكيمياء الإخلاص النافذ في سويدات القلوب بحيث لا ينفذ فيه كيد الشيطان ولا يعلوه ما سوى الرحمن الله حسبي.