بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة الحجقال ابن عباس في أظهر الروايتين : هي مكية إلا قوله تعالى :( هذان خصمان اختصموا في ربهم )( ١ ) وآيتين بعد هذه الآية، وقوله تعالى :( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا. . ) ( ٢ ) الآية، وعن ابن عباس في رواية أخرى : أن هذه السورة مدنية إلا آيات فيها نزلت بمكة.
٢ - الحج: ٣٩..
ﰡ
وَقَوله: ﴿إِن زَلْزَلَة السَّاعَة﴾ الزلزلة شدَّة الْحَرَكَة على حَال هائلة، وَاخْتلف القَوْل فِي هَذِه الزلزلة، فَذكر عَلْقَمَة وَالشعْبِيّ: أَنَّهَا قبل يَوْم الْقِيَامَة، وَذكر ابْن عَبَّاس الْحسن وَقَتَادَة وَالسُّديّ وَغَيرهم: أَنَّهَا عِنْد قيام السَّاعَة، وَهَذِه القَوْل أصح الْقَوْلَيْنِ لما نذكرهُ من الْخَبَر من بعد.
وَقَوله: ﴿شَيْء عَظِيم﴾ أَي: أَمر عَظِيم.
وَقَوله: ﴿تذهل﴾ أَي: تغفل وتشتغل، وَفِيه تسهو وتنسى، قَالَ الشَّاعِر فِي الذهول.
(أَطَالَت بك الْأَيَّام حَتَّى نسيتهَا | كَأَنَّك عَن يَوْم الْقِيَامَة ذاهل) |
(ضربا يزِيل الْهَام عَن مقِيله | وَيذْهل الْخَلِيل عَن خَلِيله) |
وَقَوله: ﴿وتضع كل ذَات حمل حملهَا﴾. فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ تضع الْمَرْأَة حملهَا يَوْم الْقِيَامَة؟ الْجَواب: قُلْنَا: أما على قَوْلنَا إِن الزلزلة قبل قيام السَّاعَة، فَمَعْنَى وضع الْحمل على ظَاهره، وَإِن قُلْنَا إِن الزلزلة عِنْد قيام السَّاعَة، فَالْجَوَاب من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن المُرَاد من الْآيَة النِّسَاء اللواتي متن وَهن حبالى، وَالْوَجْه الثَّانِي، وَهُوَ الْأَصَح: أَن هَذَا على وَجه تَعْظِيم الْأَمر وَذكر شدَّة الهول، لَا على حَقِيقَة وضع الْحمل، وَالْعرب تَقول: أَصَابَنَا أَمر يشيب فِيهِ الْوَلِيد، وَهَذَا على طَرِيق عظم الْأَمر وشدته، وَقد قَالَ الله تَعَالَى: ﴿يَوْمًا يَجْعَل الْوَالِدَان شيبا﴾ وَالْمرَاد مَا بَينا.
وَقَوله: ﴿وَترى النَّاس سكارى وَمَا هم بسكارى﴾ وقرىء: " سكرى " بِغَيْر الْألف، وَالْمعْنَى وَاحِد، وَالَّذِي عَلَيْهِ أهل التَّفْسِير: أَن المُرَاد من الْآيَة سكرى من الْفَزع وَالْخَوْف، وَلَيْسوا سكارى من الشَّرَاب وَقَالُوا أَيْضا: فِي صُورَة السكارى، وَلَيْسوا بسكارى، وَالْقَوْل الأول أحسن؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿وَلَكِن عَذَاب الله شَدِيد﴾.
وَفِي الْآيَة خبر صَحِيح أوردهُ البُخَارِيّ وَغَيره، وَهُوَ مَا رَوَاهُ الْأَعْمَش، عَن أبي صَالح، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي قَرَأَهَا بَين الْآيَتَيْنِ ثمَّ قَالَ: " إِذا كَانَ يَوْم الْقِيَامَة يَقُول الله تَعَالَى لآدَم: قُم يَا آدم، فَابْعَثْ من ذريتك بعث النَّار فَيَقُول آدم: لبيْك وَسَعْديك، وَالْخَيْر فِي يَديك، وَمَا بعث النَّار؟ فَيَقُول الله تَعَالَى: من كل ألف تِسْعمائَة وَتِسْعَة وَتِسْعين إِلَى النَّار، [وَوَاحِد] إِلَى الْجنَّة، فَقَالَ أَصْحَاب رَسُول الله: وأينا ذَلِك الْوَاحِد؟ فَقَالَ النَّبِي: " سددوا وقاربوا وَأَبْشِرُوا، فَإِن مَعكُمْ خَلِيقَتَيْنِ مَا كَانَتَا مَعَ قوم إِلَّا كَثرَتَاهُ: يَأْجُوج وَمَأْجُوج وكفرة الْجِنّ وَالْإِنْس من قبلكُمْ "، وَفِي رِوَايَة
وَقَوله: ﴿وَيتبع كل شَيْطَان مُرِيد﴾ المريد المتمرد، والمتمرد هُوَ المستمر فِي الشَّرّ، يُقَال: حَائِط ممرد أَي: مطول، وَقيل: المريد هُوَ العاري عَن الْخَيْر، يُقَال صبي أَمْرَد إِذا كَانَ عَارِيا خَدّه من الشّعْر.
وَقَوله: ﴿أَنه من تولاه فَأَنَّهُ يضله﴾ أَي: كتب على الشَّيْطَان أَن يضل من تولاه.
وَقَوله: ﴿ويهديه إِلَى عَذَاب السعير﴾ أَي: إِلَى عَذَاب جَهَنَّم.
وَقَوله: ﴿إِن كُنْتُم فِي ريب من الْبَعْث﴾ أَي: فِي شكّ من الْبَعْث.
وَقَوله: ﴿فَإنَّا خَلَقْنَاكُمْ من تُرَاب﴾ ذكر التُّرَاب هَاهُنَا؛ لِأَن آدم خلق من تُرَاب، وَهُوَ الأَصْل.
وَقَوله: ﴿ثمَّ من نُطْفَة﴾ النُّطْفَة هِيَ المَاء النَّازِل من الصلب.
وَقَوله: ﴿ثمَّ من علقَة﴾ الْعلقَة هِيَ الدَّم المتجمد، وَقيل: المنعقد.
وَقَوله: ﴿ثمَّ من مُضْغَة﴾ المضغة هِيَ قِطْعَة لحم كَأَنَّهَا مضغت.
وَقَوله: ﴿مخلقة وَغير مخلقة﴾. قَالَ ابْن عَبَّاس ﴿مخلقة﴾ تَامّ الْخلق ﴿وَغير مخلقة﴾ نَاقص الْخلق، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المخلقة هُوَ الْوَلَد الَّذِي تَأتي بِهِ الْمَرْأَة لوقته، وَغير المخلقة هُوَ السقط، وَفِي هَذَا الْموضع أَخْبَار: مِنْهَا مَا روى عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود أَنه إِذا اسْتَقَرَّتْ النُّطْفَة فِي الرَّحِم أَخذهَا الْملك بِيَدِهِ فَيَقُول: أَي رب، مخلقة أَو غير مخلقة؟ فَإِن قَالَ: غير مخلقة قَذفهَا الرَّحِم دَمًا، وَلم تخلق مِنْهَا نسمَة، وَإِن قَالَ: مخلقة، قَالَ الْملك: أشقي أَو سعيد؟ أذكر أَو أُنْثَى؟ مَا رزقه؟ مَا عمله؟ مَا أَجله؟ وَأَيْنَ الْموضع الَّذِي يقبض فِيهِ؟ فَيَقُول الله تَعَالَى لَهُ: اذْهَبْ إِلَى أم الْكتاب فَفِيهِ كل ذَلِك، فَيذْهب إِلَى أم الْكتاب فيجد فِيهِ أَنه شقي أَو سعيد، ذكر أَو أُنْثَى، فَيكْتب ذَلِك، فيسعى الرجل فِي عمله، وَيَأْكُل رزقه، ويمضي فِي أَجله حَتَّى يتوفاه الله تَعَالَى فِي الْمَكَان الَّذِي قدر أَيْن يقبض فِيهِ.
وَقد ورد خبران صَحِيحَانِ عَن النَّبِي فِي هَذَا، أَحدهمَا مَا روى الْأَعْمَش عَن زيد بن وهب عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: أَخْبرنِي الصَّادِق المصدوق أَبُو الْقَاسِم: أَن خلق أحدكُم يجمع فِي رحم أمه أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَة، ثمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا علقَة،
وَالْخَبَر الثَّانِي: هُوَ مَا روى سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عَن عَمْرو بن دِينَار، عَن أبي الطُّفَيْل قَالَ: سَمِعت عبد الله بن مَسْعُود يَقُول: الشقي من شقي فِي بطن أمه، والسعيد من وعظ بِغَيْرِهِ. قَالَ أَبُو الطُّفَيْل: فَقلت ثكلتني! أنشقى وَلم نعمل؟ فَأتيت حُذَيْفَة بن أسيد، فَذكرت لَهُ قَول ابْن مَسْعُود، فَقَالَ: أَلا أخْبرك بِأَعْجَب من هَذَا، سَمِعت رَسُول الله يَقُول: " إِذا مكثت النُّطْفَة فِي رحم الْأُم أَرْبَعِينَ يَوْمًا - أَو خَمْسَة وَأَرْبَعين - جَاءَ الْملك فَيَقُول: يَا رب، أذكر أَو أُنْثَى؟ فَيَقُول الرب، وَيكْتب الْملك، فَيَقُول: أشقي أَو سعيد؟ فَيَقُول الرب، وَيكْتب الْملك، فَيَقُول: مَا رزقه، مَا عمله، مَا أَجله، مَا أَثَره، مَا مصيبته؟ فَيَقْضِي الله مَا شَاءَ، وَيكْتب الْملك، ثمَّ يطوي الصَّحِيفَة، فَلَا يُزَاد وَلَا ينقص إِلَى يَوْم الْقِيَامَة " قَالَ الشَّيْخ الإِمَام أخبرنَا بِهَذَا الحَدِيث أَبُو عَليّ الشَّافِعِي بِمَكَّة حرسها الله تَعَالَى، قَالَ: أَبُو الْحسن بن [فراس] قَالَ: أخبرنَا أَبُو جَعْفَر الديبلي قَالَ سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي، قَالَ سُفْيَان... الْخَبَر. أخرجه مُسلم فِي الصَّحِيح.
وأنشدوا فِي المخلقة:
(أَفِي غير المخلقة الْبكاء... فَأَيْنَ الْعَزْم وَيحكم وَالْحيَاء)
وَقَوله: ﴿لنبين لكم﴾ أَي: نبين لكم أَمر الْخلق فِي الِابْتِدَاء؛ لتستدلوا (بقدرة
وَقَوله: ﴿ونقر فِي الْأَرْحَام مَا نشَاء﴾ أَي: نثبت فِي الْأَرْحَام مَا نشَاء ﴿إِلَى أجل مُسَمّى﴾ أَي: إِلَى وَقت الْولادَة:
وَقَوله: ﴿ثمَّ نخرجكم طفْلا﴾ أَي: أطفالا، وَاحِد بِمَعْنى الْجمع.
وَقَوله: ﴿ثمَّ لتبلغوا أَشدّكُم﴾ قد بَينا معنى الأشد.
وَقَوله: ﴿ومنكم من يتوفى﴾ وَحكى أَبُو حَاتِم أَن فِي قِرَاءَة بَعضهم: " ومنكم من يتوفى " بِفَتْح الْيَاء، وَمَعْنَاهُ يسْتَوْفى أَجله، وَالْمَعْرُوف ﴿يتوفى﴾ بِالرَّفْع يَعْنِي: يتوفى قبل بُلُوغ الْكبر.
وَقَوله: ﴿ومنكم من يرد إِلَى أرذل الْعُمر﴾ أَي: إِلَى أخس الْعُمر، وَالْمرَاد مِنْهُ حَالَة الخرف والهرم، قَالَ عِكْرِمَة: من قَرَأَ الْقُرْآن لم يخرف.
وَقَوله: ﴿لكيلا يعلم من بعد علم شَيْئا﴾ أَي: لَا يعقل من عبد عقله شَيْئا.
وَقَوله: ﴿وَترى الأَرْض هامدة﴾ وَهَذَا ذكر دَلِيل آخر على إحْيَاء الْمَوْت.
وَقَوله: ﴿هامدة﴾ أَي: جافة يابسة لَا نَبَات فِيهَا، وَقَالَ قَتَادَة: (هامدة) غبراء منهشمة، وَقيل: هامدة: دارسة، قَالَ الشَّاعِر:
(قَالَت قتيلة مَا لجسمك شاحبا | وَأرى ثِيَابك باليات همدا) |
وَقَوله: ﴿فَإِذا أنزلنَا عَلَيْهَا المَاء اهتزت﴾ أَي: تحركت، قَالَ الشَّاعِر:
(رمى الْحدثَان نسْوَة آل حَرْب | بنازلة همدن لَهَا همودا) |
(فَرد شعورهن السود بيضًا | ورد وجوههن الْبيض سُودًا) |
(تثنى إِذا قَامَت وتهتز إِن مَا مشت | كَمَا اهتز غُصْن البان فِي (ورق) خضر) |
وَقَوله: ﴿وأنبتت من كل زوج بهيج﴾ أَي: صنف حسن، فَهَذَا أَيْضا دَلِيل على إِعَادَة الْخلق، وَفِي بعض مَا ينْقل عَن السّلف: إِذا رَأَيْتُمْ الرّبيع فاذكروا والنشور.
وَقَوله: ﴿وَأَنه يحيى الْمَوْتَى﴾ يَعْنِي: هُوَ دَلِيل على أَنه يحيي الْمَوْتَى.
وَقَوله: ﴿وَأَنه على كل شَيْء قدير﴾ أَي: لما قدر على ابْتِدَاء الْخلق، وعَلى إحْيَاء الأَرْض الْميتَة، فَاعْلَم أَنه على كل شَيْء قدير، وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن النَّبِي: " من جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة (بِثَلَاث) لم يصد وَجهه عَن الْجنَّة شَيْء، من علم أَن الله وَحده لَا شريك لَهُ، وَأَن السَّاعَة آتِيَة لَا ريب فِيهَا، وَأَن الله يبْعَث من فِي الْقُبُور ".
وَقَوله: ﴿وَلَا كتاب مُنِير﴾ أَي: وَلَا كتاب لَهُ نور، وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن النَّبِي قَالَ: " إِن على الْبَاطِل ظلمَة، وَإِن على الْحق نورا ".
وَعَن بَعضهم قَالَ: مَا عز ذُو بَاطِل، وَإِن طلع من جيبه الْقَمَر، وَمَا ذل ذُو حق، وَإِن أصفق الْعَالم.
وَاعْلَم أَن الْآيَة نزلت فِي النَّضر بن الْحَارِث بن كلدة، ومجادلته إِنْكَاره الْبَعْث وضربه لذَلِك الْأَمْثَال.
وَقَوله: ﴿ليضل عَن سَبِيل الله﴾ أَي: ليضل النَّاس عَن دين الله.
وَقَوله: ﴿لَهُ فِي الدُّنْيَا خزي﴾ أَي: هوان، وَقد قتل النَّضر يَوْم بدر صبرا، وَلم يقتل صبرا غَيره وَغير عقبَة بن أبي معيط.
وَقَوله: ﴿ونذيقه يَوْم الْقِيَامَة عَذَاب الْحَرِيق﴾ أَي: المحرق.
وَقَوله: ﴿وَإِن أَصَابَته فتْنَة﴾ أَي: محنة وبلية.
وَقَوله: ﴿انْقَلب على وَجهه﴾ أَي: رَجَعَ على عقبه وارتد.
وَقَوله: ﴿خسر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة﴾ الخسران فِي الدُّنْيَا فَوَات مَا أمل وَطلب، والخسران فِي الْآخِرَة هُوَ الخلود فِي النَّار، وَيُقَال: الخسران فِي الدُّنْيَا هُوَ الْقَتْل على الْكفْر، والخسران فِي الْآخِرَة مَا بَينا، وَقَرَأَ مُجَاهِد: " خاسر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ".
وَقَوله: ﴿ذَلِك هُوَ الخسران الْمُبين﴾ أَي: الْبَين.
قَالَ أهل التَّفْسِير: نزلت الْآيَة فِي قوم من الْمُشْركين كَانَ يُؤمن أحدهم، فَإِن كثر مَاله، وَصَحَّ جِسْمه، ونتجت فرسه، قَالَ: هَذَا دين حسن، وَقد أصبت فِيهِ خيرا، وَسكن إِلَيْهِ، وَإِن أَصَابَهُ مرض أَو مَاتَ وَلَده، أَو قل مَاله، قَالَ: مَا أصابني من هَذَا الدّين إِلَّا شَرّ فَيرجع.
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " أَن رجلا من الْيَهُود أسلم فَعميَ بَصَره، وَهلك مَاله، وَمَات وَلَده، فَأتى النَّبِي وَقَالَ: يَا رَسُول الله، أَقلنِي، فَقَالَ: إِن الْإِسْلَام لَا يُقَال، فَقَالَ: مُنْذُ دخلت فِي هَذَا الدّين لم أصب إِلَّا شرا؛ أصابني كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ النَّبِي: " إِن الْإِسْلَام ليسبك الرجل، كَمَا تسبك النَّار خبث الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْحَدِيد ". وَالْخَبَر غَرِيب.
وَقَوله تَعَالَى: {ذَلِك هُوَ الضلال الْبعيد﴾ أَي: الضلال المستمر.
(فَكيف وَجه التَّوْفِيق؟ الْجَواب عَنهُ: أَن معنى قَوْله: ﴿يَدْعُو لمن ضره﴾ ).
أَي: لمن ضرّ عِبَادَته، وَقَوله فِي الْآيَة الأولى: ﴿مَا لَا يضرّهُ﴾ أَي: (لَا يضر) إِن ترك عِبَادَته على مَا بَينا.
السُّؤَال الثَّانِي: قَالُوا: قَالَ فِي هَذِه الْآيَة: ﴿أقرب من نَفعه﴾ وَالْجَوَاب: أَن هَذَا على عَادَة الْعَرَب، وهم يَقُولُونَ مثل هَذَا اللَّفْظ، ويريدون أَنه لَا نفع لَهُ أصلا، وَهَذَا مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك رَجَعَ بعيد﴾ أَي: لَا رَجَعَ أصلا.
السُّؤَال الثَّالِث: وَهُوَ الْمُشكل أَنه قَالَ: ﴿لمن ضره﴾ فأيش هَذَا الْكَلَام؟ الْجَواب: أَنه اخْتلف أهل النَّحْو فِي هَذَا، فَأكْثر النَّحْوِيين ذَهَبُوا إِلَى أَن هَذَا على التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير وَمَعْنَاهُ: يَدْعُو من بضره أقرب من نَفعه، وَأما الْمبرد أنكر هَذَا وَقَالَ: لَا يجوز هَذَا فِي اللُّغَة، وَالْجَوَاب عَن السُّؤَال على هَذَا: قَالَ بَعضهم: معنى ﴿يَدْعُو﴾ : يَقُول.
قَالَ الشَّاعِر:
(يدعونَ [عنترا] (وَالسُّيُوف) كَأَنَّهَا | أشطان بِئْر فِي لبان الأدهم) |
وَقَوله: ﴿لبئس الْمولى﴾ أَي: النَّاصِر، وَقيل: المعبود.
وَقَوله: ﴿ولبئس العشير﴾ أَي: المخالط والصاحب، وَالْعرب تسمى الزَّوْج: عشيرا؛ لأجل المخالطة.
قَالَ النَّبِي: " إنكن تكثرن اللَّعْن وتكفرن العشير " أَي: الزَّوْج.
وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: لما دَعَا رَسُول الله أسدا وغَطَفَان إِلَى الْإِسْلَام - وَكَانَ بَينهم وَبَين أهل الْكتاب حلف - فَقَالُوا: لَا يمكننا أَن نسلم ونقطع الْحلف؛ لِأَن مُحَمَّدًا رُبمَا لَا يظْهر وَلَا يغلب؛ فَيَنْقَطِع الْحلف بَيْننَا وَبَين أهل الْكتاب فَلَا يميروننا، فَأنْزل الله تَعَالَى هَذِه الْآيَة.
وَالْقَوْل الثَّانِي: من كَانَ يظنّ أَن لن ينصره الله، أَي: لن يرزقه الله، وَهَذَا فِيمَن
قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: تَقول الْعَرَب: أَرض منصورة أَي: ممطورة، وَعَن بعض الْأَعْرَاب أَنه سَأَلَ وَقَالَ: انصرني ينصرك الله أَي: أَعْطِنِي أَعْطَاك الله.
وَقَوله: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿فليمدد بِسَبَب إِلَى السَّمَاء﴾ المُرَاد من السَّمَاء: سَمَاء بَيته فِي قَول جَمِيع الْمُفَسّرين، وَهُوَ السّقف.
وَالسَّبَب: الْحَبل، وَمَعْنَاهُ: فليمدد حبلا من سقف بَيته ﴿ثمَّ ليقطع﴾ أَي: ليختنق بِهِ.
وَقَوله: ﴿فَلْينْظر هَل يذْهبن كَيده مَا يغِيظ﴾ أَي: هَل لَهُ حِيلَة فِيمَا يغيظه ليدفع عَن نَفسه؟ وَيُقَال: ثمَّ لينْظر هَل يَنْفَعهُ مَا فعله؟.
قَالَ أهل الْمعَانِي: وَهُوَ مثل قَوْله الْقَائِل: إِن لم ترض بِكَذَا فمت غيظا.
وَقَوله: ﴿إِن الله يفصل بَينهم يَوْم الْقِيَامَة﴾ فَإِن قيل: مَا معنى إِعَادَة " إِن " فِي آخر الْآيَة، وَقد ذكرهَا فِي أول الْآيَة؟ وَالْجَوَاب: أَن الْعَرَب تَقول مثل هَذَا للتَّأْكِيد. قَالَ الشَّاعِر:
(إِن الْخَلِيفَة إِن الله سربله | سربال ملك بِهِ ترجى الخواتيم) |
وَقَوله: ﴿وَالشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْجِبَال وَالشَّجر وَالدَّوَاب﴾ أَي: هَذِه الْأَشْيَاء (كلهَا تسبح الله تَعَالَى).
وَقَوله: ﴿وَكثير من النَّاس﴾ أَي: الْمُسلمُونَ.
وَقَوله: ﴿وَكثير حق عَلَيْهِ الْعَذَاب﴾ هم الْكَافِرُونَ، وَإِنَّمَا حق عَلَيْهِم الْعَذَاب هَاهُنَا بترك السُّجُود، وَمعنى الْآيَة: وَكثير من النَّاس أَبُو السُّجُود فَحق عَلَيْهِم الْعَذَاب.
وَقَوله: ﴿وَمن يهن الله فَمَا لَهُ من مكرم﴾ أَي: وَمن يشقي الله فَمَا لَهُ من مسعد، وَقَالَ بَعضهم: وَمن يهن الله: وَمن يذله الله، فَمَا لَهُ من إكرام أَي: لَا يُكرمهُ أحد.
وَقَوله: ﴿إِن الله يفعل مَا يَشَاء﴾ أَي: يكرم ويهين، ويشقي ويسعد، بمشيئته وإرادته، وَهُوَ اعْتِقَاد أهل السّنة.
وَالثَّانِي: مَا رُوِيَ عَن مُحَمَّد بن سيرن أَنه قَالَ: نزلت الْآيَة فِي الَّذين بارزوا يَوْم بدر من الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين، فالمسلمون هم: حَمْزَة، وَعلي، وَعبيدَة بن الْحَارِث، وَالْمُشْرِكُونَ هم: شيبَة بن ربيعَة، وَعتبَة بن ربيعَة، والوليد بن عتبَة، فالآية نزلت فِي هَؤُلَاءِ السِّتَّة، وَكَانَ أَبُو ذَر يقسم بِاللَّه أَن الْآيَة نزلت فِي هَؤُلَاءِ، ذكره البُخَارِيّ فِي الصَّحِيح.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْآيَة نزلت فِي جملَة الْمُسلمين وَالْمُشْرِكين.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنَّهَا نزلت فِي الْجنَّة وَالنَّار اختصمتا، فَقَالَت الْجنَّة: خلقني الله؛ ليرحم بِي، وَقَالَت النَّار: خلقني الله؛ لينتقم بِي، وَهَذَا قَول عِكْرِمَة، وَالْمَعْرُوف الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ. قَالَ ابْن عَبَّاس: ذكر الله تَعَالَى سِتَّة أَجنَاس فِي قَوْله: ﴿إِن الَّذين آمنُوا وَالَّذين هادوا﴾ الْآيَة وَجعل خَمْسَة فِي النَّار وَوَاحِد للجنة فَقَوله: ﴿هَذَانِ خصمان﴾ ينْصَرف إِلَيْهِم، فالمؤمنون خصم، وَسَائِر الْخَمْسَة خصم.
وَقَوله: ﴿اخْتَصَمُوا فِي رَبهم﴾ أَي: جادلوا فِي رَبهم.
وَقَوله: ﴿فَالَّذِينَ كفرُوا قطعت لَهُم ثِيَاب من نَار﴾ أَي: نُحَاس مذاب، وَيُقَال:
وَقَوله: ﴿يصب من فَوق رُءُوسهم الْحَمِيم﴾ وَهُوَ المَاء الَّذِي انْتَهَت حرارته، وَفِي التَّفْسِير: أَن قَطْرَة مِنْهُ لَو وضعت على جبال الدُّنْيَا لأذابتها.
وَقَوله: ﴿والجلود﴾ أَي: ويذيب الْجُلُود وينضجها.
وَقَوله: ﴿وذوقوا عَذَاب الْحَرِيق﴾ أَي: تَقول لَهُم الْمَلَائِكَة: ذوقوا عَذَاب الْحَرِيق.
وَقَوله: ﴿يحلونَ فِيهَا من أساور من ذهب﴾ الأساور جمع السوار.
وَقَوله: ﴿من ذهب﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿ولؤلؤ﴾ أَي: وَمن لُؤْلُؤ.
وَقُرِئَ: " لؤلؤا " أَي: يحلونَ لؤلؤا.
وَقَوله: ﴿ولباسهم فِيهَا حَرِير﴾ أَي: من الديباج، وروى شُعْبَة عَن خَليفَة بن كَعْب، عَن ابْن الزبير قَالَ: سَمِعت عمر بن الْخطاب يَقُول: قَالَ رَسُول الله " من لبس الْحَرِير فِي الدُّنْيَا لم يلْبسهُ فِي الْآخِرَة، (وَمن لم يلْبسهُ فِي الْآخِرَة)، لَا يدْخل الْجنَّة؛ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: ﴿ولباسهم فِيهَا حَرِير﴾ ".
وَفِي بعض الْأَخْبَار: " وَلَو دخل الْجنَّة لم يلْبسهُ فِي الْجنَّة ".
وَقَوله: ﴿وهدوا إِلَى صِرَاط الحميد﴾ أَي: صِرَاط الله، وصراط الله هُوَ الْإِسْلَام، وَيُقَال: إِلَى الْمنَازل الرفيعة.
وَقَوله: ﴿وَالْمَسْجِد الْحَرَام﴾ أَي: يصدون عَن الْمَسْجِد الْحَرَام.
وَقَوله: ﴿الَّذِي جَعَلْنَاهُ للنَّاس﴾ أَي: جَعَلْنَاهُ للنَّاس قبْلَة لصلاتهم، ومنسكا لحجهم.
وَقَوله: ﴿سَوَاء العاكف فِيهِ والبادي﴾ وَقُرِئَ: " سَوَاء العاكف فِيهِ والباد " بِالنّصب والتنوين، فَقَوله: ﴿سَوَاء﴾ بِالرَّفْع مَعْلُوم الْمَعْنى، وَقَوله: ﴿سَوَاء﴾ بِالنّصب أَي: سويتهم سَوَاء، وَقَوله: ﴿العاكف فِيهِ والبادي﴾ الْمُقِيم فِيهِ، والجائي.
وَاخْتلفُوا أَن المُرَاد من هَذَا هُوَ جَمِيع الْحرم أَو الْمَسْجِد الْحَرَام؟ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَن المُرَاد مِنْهُ هُوَ مَسْجِد الْحَرَام، وَهَذَا قَول الْحسن وَجَمَاعَة، وَمعنى التَّسْوِيَة هُوَ التَّسْوِيَة فِي تَعْظِيم الْكَعْبَة، وَفضل فِيهِ، وَفضل الطّواف وَسَائِر الْعِبَادَات وثوابها، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن المُرَاد من الْآيَة جَمِيع الْحرم، وَمعنى التَّسْوِيَة: أَن الْمُقِيم بِمَكَّة والجائي من مَكَّة سَوَاء فِي النُّزُول، فَكل من وجد مَكَانا فَارغًا ينزل، إِلَّا أَنه لَا يزعج أحدا، وَهَذَا قَول مُجَاهِد وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء وَجَمَاعَة من التَّابِعين، وَكَانَ عمر - رَضِي الله عَنهُ - ينْهَى النَّاس أَن يغلقوا أَبْوَابهم فِي زمَان الْمَوْسِم، وَفِي رِوَايَة: مَنعهم أَن يتخذوا الْأَبْوَاب فَاتخذ رجل بَابا فَضَربهُ بِالدرةِ، وَفِي الْخَبَر: أَن دور مَكَّة كَانَت تدعى السوائب، من شَاءَ سكن، وَمن اسْتغنى أسكن، وعَلى هَذَا القَوْل لَا يجوز بيع دور مَكَّة وإجارتها، وعَلى القَوْل الأول يجوز.
وَقَوله: ﴿وَمن يرد فِيهِ بإلحاد بظُلْم﴾ (فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْبَاء زَائِدَة، وَمَعْنَاهُ: وَمن يرد فِيهِ إلحادا بظُلْم) قَالَ الشَّاعِر:
أَي: تَدْعُو الْفَرح، وَهَذَا قَول الْفراء ونحاة الْكُوفَة، وَأما الْمبرد أنكر أَن تكون الْبَاء زَائِدَة وَقَالَ معنى الْآيَة: من يكون إِرَادَته فِيهِ بِأَن يلْحد بظُلْم، قَالَ الشَّاعِر:
( [نَحن بني جعدة أَصْحَاب الفلج | نضرب بِالسَّيْفِ وَنَرْجُو بالفرج] ) |
(أُرِيد لأنسى ذكرهَا فَكَأَنَّمَا | تمثل لي ليلى بِكُل سَبِيل) |
وَقَوله: ﴿نذقه من عَذَاب أَلِيم﴾ أَي: يُوصل إِلَيْهِ الْعَذَاب الْأَلِيم، وَأما الْإِلْحَاد فَهُوَ الْميل، يُقَال: لحد وألحد بِمَعْنى وَاحِد، وَمِنْهُم من قَالَ: ألحد إِذا جادل، ولحد إِذا عدل عَن الْحق، وَأما معنى الْإِلْحَاد هَا هُنَا، قَالَ بَعضهم: هُوَ الشّرك، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ كل سَيِّئَة حَتَّى شتم الرجل غُلَامه، وَقَالَ عَطاء: الْإِلْحَاد فِي الْحرم هُوَ أَن يدْخل غير محرم، أَو يرتكب مَحْظُور الْحرم بِأَن يقتل صيدا، أَو يقْلع شَجَرَة. فَإِن قَالَ قَائِل: أيش معنى تَخْصِيص الْحرم بِهَذَا كُله؛ وكل من عمل سَيِّئَة، وَإِن كَانَ خَارج الْحرم اسْتحق الْعقُوبَة؟. وَالْجَوَاب: مَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: من هم بخطيئة فِي غير الْحرم لم تكْتب عَلَيْهِ، وَمن هم بخطيئة فِي الْحرم كتب عَلَيْهِ، وَعنهُ أَنه قَالَ: وَإِن كَانَ بعدن أبين، وَمَعْنَاهُ: أَنه وَإِن كَانَ بَعيدا من الْحرم فَإِذا هم بخطيئة فِي الْحرم أَخذ بِهِ، وَهَذَا معنى الْإِرَادَة الْمَذْكُورَة فِي الْآيَة.
وَقَوله: ﴿أَلا تشرك بِي شَيْئا﴾ يَعْنِي: وَقُلْنَا لَهُ: لَا تشرك بِي شَيْئا.
وَقَوله: ﴿وطهر بَيْتِي للطائفين﴾ أَي: الطائفين بِالْبَيْتِ.
وَقَوله: ﴿والقائمين﴾ أَي المقيمين. ﴿والركع السُّجُود﴾ أَي: الْمُصَلِّين.
وَقَوله: ﴿وطهر بَيْتِي﴾ أَي: ابْن بَيْتِي طَاهِرا.
وَقَوله: ﴿يأتوك رجَالًا﴾ أَي: رجالة، وهم المشاة، وَفِي بعض الْأَخْبَار: أَن آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - حج أَرْبَعِينَ حجَّة مَاشِيا.
وَقَوله: ﴿وعَلى كل ضامر﴾ أَي: وعَلى كل بعير ضامر، والضامر هُوَ المهزول، قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا أتأسف على شَيْء، تأسفي أَنِّي لم أحج مَاشِيا؛ لِأَن الله تَعَالَى قدم المشاة على الركْبَان.
وَقَوله: ﴿يَأْتِين من كل فج عميق﴾ أَي: من كل طَرِيق بعيد.
وَقَوله: ﴿ويذكروا اسْم الله عَلَيْهِ فِي أَيَّام مَعْلُومَات﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: الْأَيَّام
وَقَوله: ﴿على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام﴾ أَي: إِذا ذبحوها.
وَقَوله: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا﴾ هَذَا أَمر إِبَاحَة، وَلَيْسَ بِأَمْر إِيجَاب، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ أَمر (ندب)، وَيسْتَحب أَن يَأْكُل مِنْهَا.
وَقَوله: ﴿وأطعموا البائس الْفَقِير﴾ البائس هُوَ الَّذِي اشْتَدَّ بؤسه، والبؤس: الْعَدَم، وَقيل: البائس هُوَ الَّذِي بِهِ زَمَانه، والفقر مَعْلُوم الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وليوفوا نذورهم﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنه الْوَفَاء بِمَا نَذره على ظَاهره، وَالْقَوْل الآخر: أَن مَعْنَاهُ الْخُرُوج عَمَّا وَجب عَلَيْهِ نذرا وَلم ينذر، وَالْعرب تَقول لكل من خرج عَن الْوَاجِب عَلَيْهِ: وفى بنذره.
وَقَوله: ﴿وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق﴾ هَذَا الطّواف هُوَ طواف الْإِفَاضَة، وَعَلِيهِ أَكثر أهل التَّفْسِير.
وَقَوله: ﴿بِالْبَيْتِ الْعَتِيق﴾ فِي الْعَتِيق قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الله تَعَالَى أعْتقهُ عَن أَيدي الْجَبَابِرَة، فَلم يتسلط عَلَيْهِ جَبَّار، وَالثَّانِي: ﴿الْعَتِيق﴾ أَي: الْقَدِيم، وَهُوَ قَول الْحسن، وَفِي الْعَتِيق قَول ثَالِث: وَهُوَ أَن معنى ﴿الْعَتِيق﴾ أَن الله تَعَالَى أعْتقهُ عَن الْغَرق أَيَّام الطوفان، وَهَذَا قَول مُعْتَمد يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ بوأنا لإِبْرَاهِيم مَكَان الْبَيْت﴾ فَلَمَّا قَالَ: ﴿مَكَان الْبَيْت﴾ دلّ أَن الْبَيْت رفع أَيَّام الطوفان.
وَقَوله: ﴿فَهُوَ خير لَهُ عِنْد ربه﴾. مَعْنَاهُ: أَن تَعْظِيم الحرمات خير لَهُ عِنْد الله فِي الْآخِرَة.
وَقَوله: ﴿وَأحلت لكم الْأَنْعَام إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُم﴾ مَا يُتْلَى عَلَيْكُم هُوَ قَول الله تَعَالَى فِي سُورَة الْمَائِدَة: ﴿حرمت عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم وَلحم الْخِنْزِير﴾ الْآيَة.
وَقَوله: ﴿فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان﴾ " من " هَا هُنَا للتجنيس، وَمَعْنَاهُ: اجتنبوا الْأَوْثَان الَّتِي هِيَ رِجْس، وَيُقَال: إِن الرجس وَالرجز هُوَ الْعَذَاب، وَمعنى قَوْله: ﴿فَاجْتَنبُوا الرجس﴾ أَي: اجتنبوا سَبَب الْعَذَاب.
وَقَوله: ﴿وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور﴾ أَي: الْكَذِب، قَالَ عبد الله بن مَسْعُود: أشهد لقد عدلت شَهَادَة الزُّور بالشرك، وتلا هَذِه الْآيَة: ﴿فَاجْتَنبُوا الرجس من الْأَوْثَان وَاجْتَنبُوا قَول الزُّور﴾.
وَرُوِيَ هَذَا اللَّفْظ مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن قَول الزُّور هُوَ الشّرك، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن قَول الزُّور هُوَ تلبيتهم: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك لَا شريك لَك إِلَّا شَرِيكا هُوَ لَك تملكه وَمَا ملك.
وَقَوله: ﴿وَمن يُشْرك بِاللَّه فَكَأَنَّمَا خر من السَّمَاء﴾ أَي: سقط من السَّمَاء، وَفِي بعض الْأَخْبَار عَن بعض الصَّحَابَة أَنه قَالَ: " بَايَعت رَسُول الله أَن لَا أخر إِلَّا مُسلما " أَي: لَا أسقط مَيتا إِلَّا مُسلما.
وَقَوله: ﴿فتخطفه الطير﴾ أَي: تسلبه الطير وَتذهب بِهِ.
وَقَوله: ﴿أَو تهوي بِهِ الرّيح فِي مَكَان سحيق﴾. أَي: تسْقط بِهِ الرّيح فِي مَكَان بعيد، وَمعنى الْآيَة: أَن من أشرك فقد هلك، وَبعد عَن الْحق بعدا لَا يصل إِلَيْهِ بِحَال مَا دَامَ مُشْركًا.
وَقَوله: ﴿فَإِنَّهَا من تقوى الْقُلُوب﴾ أَي: هَذِه الفعلة، وَهِي التَّعْظِيم من تقوى الْقُلُوب.
وَقَوله: ﴿إِلَى أجل مُسَمّى﴾ على القَوْل الأول: الْأَجَل الْمُسَمّى هُوَ النَّحْر، وعَلى القَوْل الثَّانِي: الْأَجَل الْمُسَمّى تَسْمِيَتهَا بَدَنَة، وَأما إِذا حملنَا الشعائر على غير الْبدن فَقَوله: ﴿لكم فِيهَا [مَنَافِع] ﴾ ينْصَرف إِلَى مَا ذكر الله تَعَالَى من الثَّوَاب فِي تَعْظِيم الشعائر الَّتِي ذَكرنَاهَا.
وَقَوله: ﴿ثمَّ محلهَا إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق﴾ الْمحل هَا هُنَا هُوَ وَقت النَّحْر ومكانه.
وَقَوله: ﴿إِلَى الْبَيْت الْعَتِيق﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿لِيذكرُوا اسْم الله على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام﴾ يَعْنِي: لِيذكرُوا اسْم الله تَعَالَى على نحر مَا رزقهم الله من بَهِيمَة الْأَنْعَام.
وَقَوله: ﴿فإلهكم إِلَه وَاحِد﴾ يَعْنِي: سموا على الذَّبَائِح اسْم الله تَعَالَى وَحده، فَإِن إِلَهكُم إِلَه وَاحِد.
وَقَوله: ﴿فَلهُ أَسْلمُوا﴾ أَي: فَلهُ أَخْلصُوا.
وَقَوله: ﴿وَبشر المخبتين﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه بِمَعْنى المتواضعين، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: بِمَعْنى المخلصين، وَقَالَ غَيره: بِمَعْنى الصَّالِحين، وَيُقَال: بِمَعْنى الْمُسلمين، وَعَن عَمْرو بن أَوْس قَالَ: هم الَّذين لَا يظْلمُونَ، وَإِذا ظلمُوا لم ينتصروا، وَذكر الْكَلْبِيّ أَن المخبتين هم الرقيقة قُلُوبهم، والخبت هُوَ الْمَكَان المطمئن من الأَرْض، قَالَ امْرُؤ الْقَيْس شعرًا:
وَقَوله: ﴿وَالصَّابِرِينَ على مَا أَصَابَهُم﴾ أَي: وَبشر الصابرين على مَا أَصَابَهُم.
وَقَوله: ﴿والمقيمي الصَّلَاة﴾ أَي: المقيمين للصَّلَاة.
وَقَوله: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفقُونَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿جعلناها لكم من شَعَائِر الله﴾ قد بَينا، وَمَعْنَاهُ: من أَعْلَام دين الله، وَسمي الْبدن شَعَائِر؛ لِأَنَّهَا تشعر، وإشعارها هُوَ أَن تطعن فِي سنامها على مَا هُوَ
وَقَوله: ﴿لكم فِيهَا خير﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿فاذكروا اسْم الله عَلَيْهَا صواف﴾ وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَرَأَ: " صوافي "، وَعَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَرَأَ: " صَوَافِن "، وَالْمَعْرُوف ﴿صواف﴾ وَمَعْنَاهُ: مصطفة، وَأما " صوافي " مَعْنَاهُ: خَالِصَة، وَأما " صَوَافِن " فَهُوَ أَن يُقَام على ثَلَاث قَوَائِم، وَيعْقل يَده الْيُسْرَى، وَهَذَا هُوَ الصفون. قَالَ الشَّاعِر:
(فَلَمَّا أجزنا ساحة الْحَيّ وانتحى | بِنَا بطن خبت ذِي خفاف عقنقل) |
(ألف الصفون فَمَا يزَال كَأَنَّهُ | مِمَّا يقوم على الثَّلَاث كسير) |
وَقَوله: ﴿فَكُلُوا مِنْهَا﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿وأطعموا القانع والمعتر﴾ الْمَعْرُوف أَن القانع هُوَ السَّائِل، والمعتر هُوَ الَّذِي يتَعَرَّض وَلَا يسْأَل، قَالَ مَالك: أحسن مَا سَمِعت فِي هَذَا أَن القانع هُوَ المعتر والمعتر، الرَّائِي، قَالَ الشَّاعِر:
(على مكثريهم حق من يعتريهم | وَعند المقلين السماحة والبذل) |
وَقَوله: ﴿كَذَلِك سخرناها لكم﴾ أَي: ذللناها لكم.
وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تشكرون﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿كَذَلِك سخرها لكم﴾ أَي: ذللناها لكم.
وَقَوله: ﴿لتكبروا الله على مَا هدَاكُمْ﴾ مَعْنَاهُ: لتعظموا الله على مَا هدَاكُمْ.
وَقَوله: ﴿وَبشر الْمُحْسِنِينَ﴾ قد بَينا معنى الْمُحْسِنِينَ من قبل.
وَقَوله: ﴿إِن الله لَا يحب كل خوان كفور﴾ الخوان هُوَ كثير الْخِيَانَة، والكفور هُوَ الَّذِي كفر النِّعْمَة.
وَقَوله: ﴿وَإِن الله على نَصرهم لقدير﴾ أَي: قَادر.
وَقَوله: ﴿إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبنَا الله﴾ قَالَ سِيبَوَيْهٍ: هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن أخرجُوا؛ لأَنهم قَالُوا: رَبنَا الله، وَقَالَ بَعضهم: لَكِن أخرجُوا لتوحيدهم.
وَقَوله: ﴿وَلَوْلَا دفع الله النَّاس بَعضهم بِبَعْض﴾ القَوْل الْمَعْرُوف أَن الدّفع هَاهُنَا هُوَ دفع الْمُجَاهدين عَن الدّين، وَعَن سَائِر الْمُسلمين، وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: عَمَّن لَا يُصَلِّي بالمصلى، وَعَمن لَا يُجَاهد بالمجاهد، وَعَمن لَا يعلم بِمن يعلم.
وَرُوِيَ عَن عَليّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: هَذَا هُوَ الدّفع عَن التَّابِعين بأصحاب رَسُول الله، وَقَالَ بَعضهم: هُوَ الدّفع عَن الْحُقُوق بالشهود، وَعَن قطرب - واسْمه مُحَمَّد بن الْحُسَيْن - قَالَ: هُوَ الدّفع عَن النُّفُوس بِالْقصاصِ.
وَقَوله: ﴿لهدمت صوامع وَبيع﴾ أَي: صوامع الرهبان، وَبيع النَّصَارَى، ﴿وصلوات﴾ الْيَهُود أَي: مَوَاضِع صلَاتهم، وقرىء: " وصلوات " بِرَفْع الصَّاد وَاللَّام قِرَاءَة عَاصِم الجحدري، وَعَن الضَّحَّاك أَنه قَرَأَ: " وصُلوات ".
وَقَوله: ﴿ومساجد﴾ أَي: مَسَاجِد الْمُؤمنِينَ، وَقَالَ بَعضهم: الصوامع لِلنَّصَارَى، وَالْبيع للْيَهُود، والصلوات هِيَ الْمَسَاجِد فِي الطّرق للمسافرين من الْمُؤمنِينَ، وَأما الْمَسَاجِد هِيَ الْمَسَاجِد فِي الْأَمْصَار.
وَقَالَ بَعضهم: الصوامع للصابئين، وَالْبيع لِلنَّصَارَى، والصلوات للْيَهُود، فَإِن قَالَ قَائِل: هَذِه الْمَوَاضِع الَّتِي للْكفَّار يَنْبَغِي أَن تهدم، فَكيف قَالَ: لهدمت؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَن معنى الْآيَة: لَوْلَا دفع الله لهدمت هَذِه الْمَوَاضِع فِي زمَان كل نَبِي؛ فهدمت الصوامع فِي زمن مُوسَى، وَالْبيع فِي زمن عِيسَى، والصلوات فِي زمن دَاوُد وَغَيره، والمساجد
وَقَوله: ﴿يذكر فِيهَا اسْم الله كثيرا﴾ مَعْلُوم الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿ولينصرين الله من ينصره إِن الله لقوي عَزِيز﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونهوا عَن الْمُنكر﴾ الْآيَة نازلة فِي هَذِه الْأمة، وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: الْآيَة نزلت فِي طلقاء من بني هَاشم، وَهَذَا قَول غَرِيب.
وَقَوله: ﴿وَللَّه عَاقِبَة الْأُمُور﴾ أَي: عواقب الْأُمُور.
وَقَوله: ﴿فأمليت للْكَافِرِينَ﴾ أَي: أمهلت للْكَافِرِينَ، والإمهال من الله هُوَ الاستدراج وَالْمَكْر.
وَقَوله: ﴿ثمَّ أخذتهم فَكيف كَانَ نَكِير﴾ أَي: إنكاري، وإنكاره بالعقوبة.
وقوله :( فأمليت للكافرين ) أي : أمهلت للكافرين، والإمهال من الله هو الاستدراج والمكر. وقوله :( ثم أخذتهم فكيف كان نكير ) أي : إنكاري، وإنكاره بالعقوبة.
وَقَوله: ﴿وَهِي ظالمة﴾ أَي: أَهلهَا ظَالِمُونَ.
وَقَوله: ﴿فَهِيَ خاوية على عروشها﴾ أَي: سَاقِطَة على سقوفها، والخاوية فِي اللُّغَة هِيَ الخالية، وَذكر الخاوية هَاهُنَا؛ لِأَن الدّور إِذا سَقَطت خلت عَن أَهلهَا.
وَقَوله: ﴿وبئر معطلة﴾. وَقَوله: ﴿وَقصر مشيد﴾ أَي: وَكم من قصر مشيد ذهب أهلوه، وهلكوا. وَفِي المشيد قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن المشيد هُوَ المطول، وَالْآخر: أَن المشيد هِيَ الْمَبْنِيّ بالشيد، والشيد هُوَ الجص، قَالَ الشَّاعِر:
(شاده مرما وجلله كلسا | فللطير فِي ذراه وكور) |
وَعَن أبي بكر - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ فِي خطبَته: أَيْن الَّذين بنوا الْمَدَائِن ورفعوها؟ وَأَيْنَ الَّذين بنوا الْقصر وشيدوها؟ وَأَيْنَ الَّذين جمعُوا الْأَمْوَال؟ ثمَّ يقْرَأ ﴿هَل تحس مِنْهُم من أحد أَو تسمع لَهُم ركزا﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: أيش فَائِدَة ذكر الْبِئْر المعطلة وَالْقصر المشيد، وَفِي الْعَالم من هَذَا كثير، فَلَا يكون لذكر هَذَا فَائِدَة؟ وَالْجَوَاب عَنهُ: أَنه قد جرت عَادَة الْعَرَب بِذكر الديار للاعتبار، وَقد ذكرُوا مثل هَذَا كثيرا فِي أشعارهم، فَكَذَلِك هَاهُنَا ذكر الله تَعَالَى الْقُصُور الخالية والديار [المعطلة] ؛ ليعتبر المعتبرون بذلك.
قَالَ الْأسود بن يعفر:
(مَاذَا أومل بعد آل محرق | تركُوا مَنَازِلهمْ وَبعد إياد) |
وَقَوله: ﴿أَو آذان يسمعُونَ بهَا﴾ يَعْنِي: مَا يذكر لَهُم من أَخْبَار الْقُرُون الْمَاضِيَة فيعتبروا بهَا.
وَقَوله: ﴿فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار﴾ وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أَلا إِن الْعَمى عمى الْقلب ".
وَقَالَ بَعضهم: عينان فِي الْوَجْه وعينان فِي الْقلب؛ فالعينان فِي الْوَجْه للنَّظَر، والعينان فِي الْقلب للاعتبار، وَعَن قَتَادَة أَنه قَالَ: الْبَصَر الظَّاهِر بلغَة وَمَنْفَعَة، وَأما بصر الْقلب فَهُوَ الْبَصَر النافع.
وَقَوله: ﴿وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور﴾ مَعْنَاهُ: أَن الْعَمى الضار هُوَ عمى الْقُلُوب، وَأما عمى الْبَصَر فَلَيْسَ بضار فِي أَمر الدّين، وَمن الْمَعْرُوف فِي كَلَام النَّاس: لَيْسَ الْأَعْمَى من عمي بَصَره، وَإِنَّمَا الْأَعْمَى من عيت بصيرته.
وَحكي عَن ابْن عَبَّاس [أَنه] دخل على مُعَاوِيَة بَعْدَمَا عمي، وَكَانَ أَبوهُ قد عمي
وَقَوله: ﴿تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور﴾ هَاهُنَا على طَرِيق التَّأْكِيد مثل قَوْله تَعَالَى: ﴿يَقُولُونَ بأفواههم﴾ وَمثل قَول الْقَائِل: نظرت بعيني ومشيت بقدمي.
وَقَوله: ﴿وَلنْ يخلف الله وعده﴾ أَي: وعد الْعَذَاب.
وَقَوله: ﴿وَإِن يَوْمًا عِنْد رَبك كألف سنة﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: وَإِن يَوْمًا من الْأَيَّام الَّتِي خلق فِيهَا الدُّنْيَا كألف سنة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: وَإِن يَوْمًا من أَيَّام عَذَابهمْ كألف سنة ﴿مِمَّا تَعدونَ﴾ وَالْقَوْل الثَّانِي هُوَ الأولى؛ لِأَنَّهُ قد سبق ذكر الْعَذَاب.
وَقَوله: ﴿وَهِي ظالمة﴾ يَعْنِي: أَهلهَا ظَالِمُونَ.
وَقَوله: ﴿ثمَّ أَخَذتهَا وإلي الْمصير﴾ أَي: الْمرجع.
وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَاب الْجَحِيم﴾ أَي: النَّار، والجحيم عبارَة عَن مُعظم النَّار.
فَقَوله: " وَلَا مُحدث " يَعْنِي: ملهم، كَأَن الله حَدثهُ فِي قلبه، وَمن الْمَعْرُوف أَن النَّبِي قَالَ: " قد كَانَ فِي الْأُمَم السَّابِقَة محدثون، فَإِن يكن فِي أمتِي مِنْهُم أحد، فَهُوَ عمر ".
وَأما الْكَلَام فِي الرَّسُول وَالنَّبِيّ، فَقَالَ بَعضهم: هما سَوَاء، وَفرق بَعضهم بَينهمَا فَقَالَ: الرَّسُول هُوَ الَّذِي يَأْتِيهِ جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - بِالْوَحْي، وَالنَّبِيّ هُوَ الَّذِي يَأْتِيهِ الْوَحْي فِي الْمَنَام، أَو يلهم إلهاما، وَمِنْهُم من قَالَ: الرَّسُول الَّذِي لَهُ شَرِيعَة يحفظها، وَالنَّبِيّ هُوَ الَّذِي بعث على شَرِيعَة غَيره فيحفظها، وَقد قَالُوا: كل رَسُول نَبِي، وَلَيْسَ كل نَبِي برَسُول.
وَقَوله: ﴿إِلَّا إِذا تمنى﴾ الْأَكْثَرُونَ على أَن مَعْنَاهُ: إِذا قَرَأَ: ﴿ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته﴾ أَي: فِي قِرَاءَته، قَالَ الشَّاعِر فِي عُثْمَان:
(أهل الخورنق والسرير وبارق | وَالْقصر ذِي الشرفات من سداد) |
(نزلُوا بأنقرة يسيل عَلَيْهِم | مَاء الْفُرَات يَجِيء من أطواد) |
(وَأرى النَّعيم وكل مَا يلهى بِهِ | يَوْمًا يصير إِلَى بلَى ونفاد) |
(تمنى كتاب الله أول لَيْلَة | وَآخِرهَا لَاقَى حمام المقادر) |
فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ يجوز هَذَا على النَّبِي، وَقد كَانَ مَعْصُوما من الْغَلَط فِي أصل الدّين؟ وَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان﴾، وَقَالَ الله تَعَالَى: ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِل من بَين يَدَيْهِ وَلَا من خَلفه﴾ أَي: إِبْلِيس؟
وَالْجَوَاب عَنهُ: اخْتلفُوا فِي الْجَواب عَن هَذَا، قَالَ بَعضهم: إِن هَذَا أَلْقَاهُ بعض الْمُنَافِقين فِي قِرَاءَته، وَكَانَ الْمُنَافِق هُوَ القارىء فَظن الْمُشْركُونَ أَن الرَّسُول قَرَأَ، وسمى ذَلِك الْمُنَافِق شَيْطَانا؛ لِأَن كل كَافِر متمرد بِمَنْزِلَة الشَّيْطَان، وَهَذَا جَوَاب ضَعِيف.
وَمِنْهُم من قَالَ: إِن الرَّسُول لم يقْرَأ، وَلَكِن الشَّيْطَان ذكر هَذَا بَين قِرَاءَة النَّبِي، وَسمع الْمُشْركُونَ ذَلِك، وظنوا أَن الرَّسُول قَرَأَ، وَهَذَا اخْتِيَار الْأَزْهَرِي وَغَيره.
وَقَالَ بَعضهم: إِن الرَّسُول أغفأ إغفأة ونعس، فَجرى على لِسَانه هَذَا، وَلم يكن بِهِ خبر بإلقاء الشَّيْطَان، وَهَذَا قَول قَتَادَة، وَأما الْأَكْثَرُونَ من السّلف ذَهَبُوا إِلَى أَن هَذَا شَيْء جرى على لِسَان الرَّسُول بإلقاء الشَّيْطَان من غير أَن يعْتَقد، وَذَلِكَ محنة وفتنة من الله (وَعَادَة)، وَالله تَعَالَى يمْتَحن عباده بِمَا شَاءَ، ويفتنهم بِمَا يُرِيد، وَلَيْسَ عَلَيْهِ اعْتِرَاض لأحد وَقَالُوا: إِن هَذَا وَإِن كَانَ غَلطا عَظِيما، فالغلط يجوز على الْأَنْبِيَاء، إِلَّا أَنهم لَا يقرونَ عَلَيْهِ.
وَعَن بَعضهم: أَن شَيْطَانا يُقَال لَهُ: الْأَبْيَض عمل هَذَا الْعَمَل، وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَنه تصور بِصُورَة جِبْرِيل، وَأدْخل فِي قِرَاءَته هَذَا، وَالله أعلم.
وَقَوله: ﴿فَينْسَخ الله مَا يلقِي الشَّيْطَان﴾ أَي: يزِيل الله مَا يلقِي الشَّيْطَان.
وَقَوله: ﴿ثمَّ يحكم الله آيَاته﴾ أَي: يثبت الله آيَاته.
وَقَوله: ﴿وَالله عليم حَكِيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿والقاسية قُلُوبهم﴾ أَي: الجافة قُلُوبهم عَن قبُول الْحق.
وَقَوله: ﴿وَإِن الظَّالِمين لفي شقَاق بعيد﴾ أَي: فِي ظلال طَوِيل، وَقيل: مُسْتَمر، وَهُوَ الْأَحْسَن.
وَقَوله: ﴿فيؤمنوا بِهِ﴾ (أَي: يَعْتَقِدُونَ بِهِ من قبل الله تَعَالَى).
وَقَوله: ﴿فتخبت لَهُ قُلُوبهم﴾ أَي: تسكن إِلَيْهِ قُلُوبهم.
وَقَوله: ﴿وَإِن الله لهادي الَّذين آمنُوا إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾ أَي: إِلَى طَرِيق قويم، وَهُوَ الْإِسْلَام.
وَقَوله: ﴿حَتَّى تأتيهم السَّاعَة بَغْتَة﴾ قيل: هِيَ الْمَوْت، وَقيل: هِيَ الْقِيَامَة.
وَقَوله: ﴿أَو يَأْتِيهم عَذَاب يَوْم عقيم﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْيَوْم الْعَقِيم هُوَ يَوْم الْقِيَامَة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْيَوْم الْعَقِيم هُوَ يَوْم بدر، وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ، وَعَن أبي بن كَعْب أَنه قَالَ: أَربع آيَات فِي يَوْم بدر: أَحدهَا: هُوَ قَوْله: ﴿عَذَاب يَوْم عقيم﴾، وَالْآخر: قَوْله تَعَالَى: ﴿يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى﴾، وَالثَّالِث: قَوْله تَعَالَى: ﴿فَسَوف يكون لزاما﴾، وَالرَّابِع: قَوْله تَعَالَى: ﴿ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى دون الْعَذَاب الْأَكْبَر﴾. فالقتل يَوْم بدر هُوَ الْعَذَاب الْأَدْنَى، وَأما الْعَقِيم فِي اللُّغَة هُوَ الْمَنْع، يُقَال: رجل عقيم، وَامْرَأَة عقيم إِذا منعا من الْوَلَد، وريح عقيم إِذا لم تمطر، وَيَوْم عقيم إِذا لم يكن فِيهِ خير وَلَا بركَة، (فَيوم بدر يَوْم عقيم؛ لِأَنَّهُ لم يكن فِيهِ خير وَلَا بركَة) للْكفَّار.
قَالَ الشَّاعِر:
وَقَوله: ﴿فَالَّذِينَ آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات فِي جنَّات النَّعيم﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿وَإِن الله لَهو خير الرازقين﴾ أَي: أفضل الرازقين.
وَقَوله: ﴿وَإِن الله لعليم حَلِيم﴾ أَي: عليم بأعمال الْعباد، حَلِيم عَنْهُم.
وَيُقَال: إِن قوما من الْمُشْركين قتلوا قوما من الْمُسلمين، فظفر بهم النَّبِي
وَقَوله تَعَالَى: ﴿ثمَّ بغى عَلَيْهِ﴾ الْبَغي هَاهُنَا مَا فعله الْمُشْركُونَ بِالْمُسْلِمين من الظُّلم والإخراج من الديار وَأخذ الْأَمْوَال.
وَقَوله: ﴿لينصرنه الله﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
وَقَوله: ﴿إِن الله لعفو غَفُور﴾ أَي: ذُو تجَاوز وعفو عَن الْمُسلمين.
وَقَوله: ﴿وَأَن مَا يدعونَ من دونه هُوَ الْبَاطِل﴾ يَعْنِي: لَيْسَ بِحَق.
وَقَوله: ﴿وَأَن الله هُوَ الْعلي الْكَبِير﴾ أَي: المتعالي المتعظم، وَيُقَال: إِن الْعلي هَاهُنَا ينْصَرف إِلَى الدّين أَي: دينه يَعْلُو الْأَدْيَان، وَالْكَبِير صفته تبَارك وَتَعَالَى، وَيُقَال: الْحق اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى، ذكره يحيى بن سَلام، وَأما الْبَاطِل فَيُقَال: إِنَّه إِبْلِيس، وَيُقَال: إِنَّه الْأَوْثَان.
قَالَ عِكْرِمَة: الْآيَة نزلت فِي مَكَّة خَاصَّة، فَإِن الْمَطَر هُنَاكَ يَقع بِاللَّيْلِ، وتخضر
وَقَوله: ﴿إِن الله لطيف خَبِير﴾ أَي: لطيف باستخراج النَّبَات من الأَرْض وبرزق الْعباد، خَبِير بِمَا فِي قُلُوبهم أَي: بِمَا يعرض فِي قُلُوبهم عِنْد نُقْصَان الرزق أَو عَدمه، وَقيل: عِنْد جدوبة الأَرْض.
وَقَوله: ﴿ويمسك السَّمَاء أَن تقع على الأَرْض إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ فِي بعض الْآثَار: أَنه إِذا أظهرت الصلبان فِي الأَرْض، وَضربت بالنواقيس، ارتجت السَّمَاء وَالْأَرْض، وكادت السَّمَاء أَن تقع، فَيُرْسل الله (مَلَائِكَة) فيمسكون بأطراف السَّمَاء وَالْأَرْض، ويقرءون سُورَة الْإِخْلَاص حَتَّى تسكن، وَأما الْمَعْرُوف فِي معنى الْآيَة أَن الله يمسك السَّمَاء بِغَيْر عمد، على مَا ذكرنَا من قبل.
وَقَوله: ﴿إِن الله بِالنَّاسِ لرءوف رَحِيم﴾ قد بَيناهُ.
وَقَوله: ﴿إِن الْإِنْسَان لكفور﴾ أَي: لكفور (لنعمة الله).
وَقَوله: ﴿هم ناسكوه﴾ أَي: عاملون بهَا.
وَقَوله: ﴿فَلَا ينازعنك فِي الْأَمر﴾ منازعتهم أَنهم قَالُوا: أتأكلون مِمَّا قَتَلْتُمُوهُ، وَلَا تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتله الله؟
وَقَالَ الزّجاج: معنى قَوْله: ﴿فَلَا ينازعنك فِي الْأَمر﴾ أَي: فَلَا تنازعهم، قَالَ: وَهَذَا مُسْتَقِيم فِي كل مَا لَا يكون إِلَّا بَين اثْنَيْنِ، يجوز أَن يُقَال: لَا يخاصمنك فلَان أَي: لَا تخاصمه، وَلَا يجوز أَن يُقَال: لَا يضربنك فلَان بِمَعْنى لَا تضربه؛ لِأَن الضَّرْب إِنَّمَا يكون من الْوَاحِد، وَإِنَّمَا قَالَ الزّجاج هَذَا؛ لِأَن قَوْله: ﴿فَلَا ينازعنك﴾ إِخْبَار، وَقد نازعوه، وَلَا يجوز الْخلاف فِي خبر الله تَعَالَى، فَذكر أَن الْمَعْنى: فَلَا تنازعهم؛ ليَكُون أمرا لَا خَبرا، وقرىء: " فَلَا ينزعنك فِي الْأَمر " أَي: لَا يغلبنك.
وَقَوله: ﴿وادع إِلَى رَبك إِنَّك لعلى هدى مُسْتَقِيم﴾ أَي: دين مُسْتَقِيم.
وَقَوله: ﴿إِن ذَلِك فِي كتاب﴾ هُوَ اللَّوْح الْمَحْفُوظ.
وَقَوله: ﴿إِن ذَلِك على الله يسير﴾ أَي: هَين.
وَقَوله: ﴿وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ علم﴾ يَعْنِي: أَنهم فعلوا مَا فعلوا عَن جهل لَا عَن علم.
وَقَوله: ﴿وَمَا للظالمين من نصير﴾ أَي: مَانع من الْعَذَاب.
وَقَوله: ﴿يكادون (يسطون﴾ ) أَي: يقعون.
وَقَوله: ﴿بالذين يَتلون عَلَيْهِم آيَاتنَا﴾ يَعْنِي: الْمُؤمنِينَ، وَقيل: يتناولون بالشتم وَالْمَكْرُوه.
وَقَوله: ﴿قل أفأنبئكم بشر من ذَلِكُم﴾ أَي: بشر عَلَيْكُم وأكره لكم.
وَقَوله: ﴿النَّار﴾ كَأَنَّهُمْ سَأَلُوا مَا ذَلِك؟ فَقَالَ: أجب، وَقل: النَّار.
وَقَوله: ﴿وعدها الله الَّذين كفرُوا وَبئسَ الْمصير﴾ أَي: بئس الْمرجع.
وَقَوله: ﴿لن يخلقوا ذبابا وَلَو اجْتَمعُوا لَهُ﴾ ذكر الذُّبَاب لخسته ومهانته وَضَعفه،
وَقَوله: ﴿وَإِن يسلبهم الذُّبَاب شَيْئا لَا يستنقذوه مِنْهُ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانُوا يطلون الْأَصْنَام بالزعفران، فَإِذا جف جَاءَ الذُّبَاب واستلب مِنْهُ شَيْئا، فَأخْبر الله تَعَالَى أَن الْأَصْنَام لَا يستنقذون من الذُّبَاب مَا استلبه، وَعَن السّديّ: أَنهم كَانُوا يأْتونَ بِالطَّعَامِ، ويضعون بَين يَدي الْأَصْنَام، فَيَجِيء الذُّبَاب ويقعن عَلَيْهِ، ويأكلن مِنْهُ، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن يسلبهم الذُّبَاب شَيْئا لَا يستنقذوه مِنْهُ﴾.
وَقَوله: ﴿ضعف الطَّالِب وَالْمَطْلُوب﴾ (الطَّالِب الذُّبَاب، وَالْمَطْلُوب الصَّنَم، وَيُقَال: الطَّالِب الصَّنَم، وَالْمَطْلُوب) الذُّبَاب.
وَقيل: ﴿ضعف الطَّالِب وَالْمَطْلُوب﴾ أَي: العابد والمعبود.
وَقَوله: ﴿إِن الله لقوي عَزِيز﴾ أَي: قوي على مَا يُرِيد، عَزِيز أَي: منيع فِي ملكه.
وَقَوله: ﴿إِن الله سميع بَصِير﴾ سميع لأقوال الْعباد، بَصِير بهم.
وَقَوله: ﴿وَإِلَى الله ترجع الْأُمُور﴾ تصير الْأُمُور.
وَقَوله: ﴿واعبدوا ربكُم﴾ أَي: وحدوا ربكُم، وَيُقَال: أَخْلصُوا فِي ركوعكم وسجودكم.
وَقَوله: ﴿وافعلوا الْخَيْر﴾ أَي: صلَة الْأَرْحَام وَمَكَارِم الْأَخْلَاق وَسَائِر وُجُوه الْبر.
وَقَوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تفلحون﴾ (وتفوزون).
وَفِي هَذِه الْآيَة سَجْدَة للتلاوة منقولة عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، وروى مشرح بن هاعان، عَن عقبَة بن عَامر أَن النَّبِي قَالَ: " فِي الْحَج سَجْدَتَانِ، من لم يسجدهما فَلَا يَقْرَأها "، وَفِي رِوَايَة: " من لم يسجدهما فَلم يَقْرَأها ".
وَقَوله: ﴿حق جهاده﴾ قَالَ بَعضهم: " هُوَ أَن يُطِيع الله (وَلَا يعصيه)، ويذكره
وَعَن بعض أهل التَّحْقِيق قَالَ: حق جهاده هُوَ أَن لَا يتْرك جِهَاد نَفسه طرفَة عين. وَفِي بعض الغرائب من الْأَخْبَار: أَن النَّبِي لما رَجَعَ من غَزْوَة تَبُوك قَالَ: " رَجعْنَا من الْجِهَاد الْأَصْغَر إِلَى الْجِهَاد الْأَكْبَر " وعنى بِالْجِهَادِ الْأَصْغَر هُوَ الْجِهَاد مَعَ الْكفَّار، وبالجهاد الْأَكْبَر الْجِهَاد مَعَ النَّفس، وَأنْشد بَعضهم.
(عقم النِّسَاء فَلَا يلدن شبيهه | إِن النِّسَاء بِمثلِهِ لعقيم) |
(يَا رب إِن جهادي غير مُنْقَطع | وكل أَرْضك لي ثغر وطرسوس) |
وَقَوله: ﴿وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج﴾ (فَإِن قَالَ قَائِل: فِي الدّين حرج كثير بِلَا إِشْكَال فَمَا معنى قَوْله: ﴿وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج﴾ ) ؟ قُلْنَا: فِيهِ أَقُول: أَحدهَا: أَن الْحَرج هُوَ الضّيق، وَمعنى الْآيَة هَاهُنَا: أَنه لَا ضيق فِي الدّين بِحَيْثُ لَا خلاص عَنهُ، فَمَعْنَاه: أَن المذنب وَإِن وَقع فِي ضيق من مَعْصِيَته، فقد جعل الله لَهُ خلاصا بِالتَّوْبَةِ، وَكَذَلِكَ إِذا حنث فِي يَمِينه جعل الله لَهُ الْخَلَاص بِالْكَفَّارَةِ، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن معنى الْآيَة أَن الله تَعَالَى لم يُكَلف نفسا فَوق وسعهَا، وَقد ذكرنَا هَذَا من قبل، وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن المُرَاد من الْآيَة أَنه إِذا كَانَ مَرِيضا فَلم يقدر على الصَّلَاة قَائِما صلى قَاعِدا، فَإِن لم يقدر على الصَّلَاة قَاعِدا صلى بِالْإِيمَاءِ، وَيفْطر إِذا شقّ عَلَيْهِ الصَّوْم بسفر أَو مرض أَو هرم، وَكَذَلِكَ سَائِر وُجُوه الرُّخص.
وَقَوله: ﴿مِلَّة أبيكم إِبْرَاهِيم﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الْآيَة خطاب مَعَ الْعَرَب، وَقد كَانَ إِبْرَاهِيم أَبَا لَهُم، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْآيَة خطاب مَعَ جَمِيع الْمُسلمين، وَجعل
وَقَوله: ﴿هُوَ سَمَّاكُم الْمُسلمين﴾ فِيهِ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن الله سَمَّاكُم الْمُسلمين ﴿من قبل﴾ أَو فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
وَقَوله: ﴿وَفِي هَذَا﴾ أَي: فِي الْقُرْآن، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن إِبْرَاهِيم سَمَّاكُم الْمُسلمين، وَالدَّلِيل على هَذَا القَوْل أَن الله تَعَالَى قَالَ خَبرا عَن إِبْرَاهِيم: ﴿رَبنَا واجعلنا مُسلمين لَك وَمن ذريتنا أمة مسلمة لَك﴾ الْآيَة.
وَقَوله: ﴿ليَكُون الرَّسُول شَهِيدا عَلَيْكُم وتكونوا شُهَدَاء على النَّاس﴾ ذكرنَا هَذَا فِي سُورَة الْبَقَرَة وَالنِّسَاء، وَفِي الْخَبَر: " أَن الله تَعَالَى أعْطى هَذِه الْأمة ثَلَاثًا مثل مَا أعْطى الْأَنْبِيَاء: كَانَ يُقَال للنَّبِي: اذْهَبْ فَلَا حرج عَلَيْك، وَقَالَ الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة: ﴿وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج﴾، وَكَانَ يُقَال للنَّبِي: أَنْت شَاهدا على أمتك، فَقَالَ الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة: ﴿لِتَكُونُوا شُهَدَاء على النَّاس﴾، وَكَانَ يُقَال للنَّبِي: سل تعطه، فَقَالَ الله تَعَالَى لهَذِهِ الْأمة: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم﴾ ".
وَقَوله: ﴿فأقيموا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة﴾ ظَاهر الْمَعْنى، وروى ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " لَا تقبل الصَّلَاة إِلَّا بِالزَّكَاةِ ".
وَقَوله: ﴿واعتصموا بِاللَّه﴾ أَي: تمسكوا بدين الله، وَيُقَال مَعْنَاهُ: ادعوا الله
وَقَوله: ﴿هُوَ مولاكم﴾ أَي: حافظكم ﴿فَنعم الْمولى﴾ أَي: الْحَافِظ ﴿وَنعم النصير﴾ أَي: النَّاصِر.
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
﴿قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ (١) ﴾تَفْسِير سُورَة الْمُؤمنِينَ وَهِي مَكِّيَّة
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم