تفسير سورة ص

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة ص من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ
ص وهي مكية

قَوْله تَعَالَى: ﴿ص﴾ قَرَأَ الْأَكْثَرُونَ: ﴿ص﴾ بالتسكين، وَقَرَأَ الْحسن: ﴿ص﴾ بخفض الدَّال، وَقَرَأَ عِيسَى بن عمر النَّحْوِيّ: ﴿ص﴾ بِفَتْح الدَّال، وَالْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة بالتسكين.
وَعلة التسكين أَنه حرف من حُرُوف التهجي، وَعند الْعَرَب أَن هَذَا يكون سَاكِنا، وَأما قِرَاءَة الْحسن فَمَعْنَاه: صَاد الْقُرْآن بعملك أَي: عَارضه بعملك، واما قِرَاءَة الْفَتْح فَمَعْنَاه: إِنَّك صَاد.
وَأما معنى " ص ": روى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: صدق مُحَمَّد، وَعَن الضَّحَّاك: صدق الله، وَقَالَ مُجَاهِد: هَذَا من فواتح السُّور، وَقَالَ قَتَادَة: اسْم من أَسمَاء الْقُرْآن، وَهُوَ قسم، وَذكر الْكَلْبِيّ أَن مَعْنَاهُ: والصادق الْمَعْنى على الْقسم.
وَقَوله: ﴿وَالْقُرْآن ذِي الذّكر﴾ أَي: ذِي الشّرف، وَقد قَالَ فِي مَوضِع آخر: ﴿لقد أنزلنَا إِلَيْكُم كتابا فِيهِ ذكركُمْ﴾ أَي: شرفكم.
وَقَوله: ﴿بل الَّذين كفرُوا فِي عزة وشقاق﴾ وَقُرِئَ فِي الشاذ: " فِي غرَّة وشقاق " بالغين الْمُعْجَمَة، وَالْمَعْرُوف بِالْعينِ وَالزَّاي.
وَقَوله: ﴿فِي عزة﴾ أَي: فِي حمية، قَالَ قَتَادَة: معنى قَوْله: ﴿عزة﴾ أَي: نفروا عَن قبُول الْحق، وتكبروا عَن الانقياد، وَأما الْقِرَاءَة بالغين فَهُوَ من الْغرُور والغفلة، وَقَوله: ﴿وشقاق﴾ أَي: عَدَاوَة وَاخْتِلَاف.
قَوْله تَعَالَى: ﴿كم أهلكنا﴾ اعْلَم أَنه اخْتلف قَول أهل التَّفْسِير فِي جَوَاب الْقسم؛ فَقَالَ بَعضهم: جَوَاب الْقسم هُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِن ذَلِك لحق تخاصم أهل
423
﴿قبلهم من قرن فَنَادوا ولات حِين مناص (٣) وعجبوا أَن جَاءَهُم مُنْذر مِنْهُم وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحر كَذَّاب (٤) أجعَل الْآلهَة إِلَهًا وَاحِدًا إِن هَذَا لشَيْء عُجاب﴾ النَّار) وَهَذَا قَول ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ قد تخَلّل بَين الْقسم وَبَين هَذَا الْجَواب أقاصيص وأخبار كَثِيرَة، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن جَوَاب الْقسم قَوْله: ﴿كم أهلكنا﴾ وَفِيه حذف، وَمَعْنَاهُ: لكم أهلكنا.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن جَوَاب الْقسم مَحْذُوف، وَمَعْنَاهُ: صَاد وَالْقُرْآن ذِي الذّكر، لَيْسَ الْأَمر على مَا زَعَمُوا يَعْنِي: الْكفَّار.
وَقَوله: ﴿كم أهلكنا من قبلهم من قرن﴾ كم للتكثير، والقرن قد بَينا من قبل.
وَقَوله: ﴿فَنَادوا﴾ أَي: اسْتَغَاثُوا عِنْد الْهَلَاك، وَقَوله: ﴿ولات حِين مناص﴾ أَي: لَيْسَ حِين (فرار)، وَقيل: لَيْسَ حِين (مغاب)، وَيُقَال: نادوا وَلَيْسَ حِين نِدَاء.
" ولات " بِمَعْنى لَيْسَ لُغَة يَمَانِية، وَقيل: ضمت " التَّاء " إِلَى " لَا " للتَّأْكِيد، كَمَا يُقَال: ربت وثمت بِمَعْنى رب وَثمّ، وَقَالَ أهل اللُّغَة: ناص ينوص إِذا تَأَخّر، وباص يبوص إِذا تقدم، قَالَ الشَّاعِر:
(أَمن ذكر سلمى إِن نتك تنوص فتقصر عَنْهَا خطْوَة حِين وتبوص)
وَقَالَ آخر فِي ((لات)) بِمَعْنى لَيْسَ:
(طلبُوا صلحنا ولات أَوَان فأجبنا أَن لَيْسَ حِين بَقَاء)
وَذكر بَعضهم: أَنه كَانَ من عَادَة الْعَرَب إِذا اشتدت الْحَرْب، يَقُول بَعضهم لبَعض: مناص مناص، أَي: احملوا حَملَة وَاحِدَة ينجو فِيهَا من نجا، وَيهْلك [فِيهَا] من
424
( ﴿٥) وَانْطَلق الْمَلأ مِنْهُم أَن امشوا واصبروا على آلِهَتكُم إِن هَذَا لشَيْء يُرَاد (٦) مَا﴾ هلك فَقَالُوا ذَلِك حِين أَصَابَهُم الْعَذَاب من الله تَعَالَى، فَقَالَ الله تَعَالَى لَهُم: " ولات حِين مناص " أَي: وَلَيْسَ (حِين هَذَا) القَوْل، وَأنْشد بَعضهم شعرًا:
425
قَوْله تَعَالَى: ﴿وعجبوا أَن جَاءَهُم مُنْذر مِنْهُم﴾ أَي: مُحَمَّد، وَقَوله: ﴿وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحر كَذَّاب﴾ أَي: خَادع كَذَّاب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أجعَل الْآلهَة إِلَهًا وَاحِدًا إِن هَذَا لشَيْء عُجاب﴾ أَي: عجب، وَعَجِيب وعجاب بِمَعْنى وَاحِد، وَقَرَأَ أَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ: " إِن هَذَا لشَيْء عُجاب " بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ بِمَعْنى الأول.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَانْطَلق الْمَلأ مِنْهُم﴾ سَبَب نزُول هَذِه الْآيَة هُوَ " أَنه جَاءَ وُجُوه قُرَيْش إِلَى أبي طَالب، وهم أَبُو جهل، والوليد بن الْمُغيرَة، وَعتبَة وَشَيْبَة وَطعيمَة بن عدي، وَعقبَة بن أبي معيط، وَأبي وَأُميَّة ابْنا خلف، وَزَمعَة بن الْأسود، وَغَيرهم، وَشَكوا إِلَيْهِ مُحَمَّدًا، وَقَالُوا: إِنَّه يسب آلِهَتنَا ويسفه أَحْلَامنَا، وَيذكر أَن آبَاءَنَا فِي النَّار؛ فَدَعَا أَبُو طَالب النَّبِي وَقَالَ: يَا بن أَخ، هَؤُلَاءِ قَوْمك جَاءُوا يشكونك، ويذكرون كَذَا وَكَذَا، فَمَاذَا تطلب مِنْهُم؟ قَالَ: أطلب مِنْهُم كلمة وَاحِدَة إِن قالوها دَانَتْ لَهُم الْعَرَب، وَأَدت إِلَيْهِم الْعَجم الْجِزْيَة، فَقَالَ الْقَوْم: نَحن نقُول عشر كَلِمَات، فَمَاذَا تُرِيدُ؟ فَقَالَ: قُولُوا لَا إِلَه إِلَّا الله، فنفروا وَقَامُوا، وَقَالُوا: لَا نقولها أبدا، وَجعل بَعضهم يَقُول لبَعض: امشوا واصبروا على آلِهَتكُم أَي: الزموها، وَأقِيمُوا على عبادتها ".
وَقَوله: ﴿إِن هَذَا لشَيْء يُرَاد﴾ أَي: أَمر مُحَمَّد شَيْء، يُرَاد بِالنَّاسِ فِيهِ الشَّرّ
425
﴿سمعنَا بِهَذَا فِي الْملَّة الْآخِرَة إِن هَذَا إِلَّا اخْتِلَاق (٧) أؤنزل عَلَيْهِ الذّكر من بَيْننَا بل هم فِي شكّ من ذكري بل لما يَذُوقُوا عَذَاب (٨) أم عِنْدهم خَزَائِن رَحْمَة رَبك﴾ والهلاك، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ " وَانْطَلق الْمَلأ يَمْشُونَ أَن اصْبِرُوا على آلِهَتكُم "، وَيُقَال: إِن هَذَا لشَيْء يُرَاد أَي: لشَيْء يُرَاد بِأَهْل الأَرْض فِي إرْسَال مُحَمَّد وَيُقَال: يُرَاد أَي: يُرَاد بِمُحَمد وَيملك علينا ويرأس.
وَفِي الْآيَة قَول آخر، وَهُوَ أَنَّهَا نزلت فِي إِسْلَام عمر رَضِي الله عَنهُ وَمَا حصل للْمُسلمين من الْقُوَّة بمكانه، فَقَالَ الْكفَّار لما أسلم عمر: إِن هَذَا لشَيْء يُرَاد أَي: إِن أَمر مُحَمَّد لشَيْء يُرَاد، حَيْثُ قوي بِإِسْلَام عمر.
426
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا سمعنَا بِهَذَا فِي الْملَّة الْآخِرَة﴾ أَي: النَّصْرَانِيَّة، هَكَذَا قَالَه ابْن عَبَّاس وَابْن جريج وَالسُّديّ، وَهِي آخر الْملَل، وَلم يَكُونُوا مُوَحِّدين، فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: إِن الله ثَالِث ثَلَاثَة، وَقَالَ مُجَاهِد: مَا سمعنَا هَذَا فِي الْملَّة الْآخِرَة أَي: فِي مِلَّة قُرَيْش، وَقيل: فِي ملتنا هَذِه، وَعَن مؤرج بن عَمْرو قَالَ: فِي الْملَّة الْآخِرَة أَي: فِي الْملَّة الأولى، وَهُوَ لُغَة لبَعض الْعَرَب.
وَقَوله: ﴿إِن هَذَا إِلَّا اخْتِلَاق﴾ أَي: افتعال وَكذب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أأنزل عَلَيْهِ الذّكر من بَيْننَا﴾ مَعْنَاهُ: أَن أهل مَكَّة قَالُوا: أأنزل على مُحَمَّد الْقُرْآن من بَيْننَا، وَلَيْسَ بأفضلنا وَلَا أَشْرَفنَا؟.
وَقَوله: ﴿بل هم فِي شكّ من ذكري﴾ أَي: مِمَّا أنزلت.
وَقَوله: ﴿بل لما يَذُوقُوا عَذَاب﴾ أَي: لم يَذُوقُوا عَذَابي وسيذقونه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم عِنْدهم خَزَائِن رَحْمَة رَبك﴾ مَعْنَاهُ: أعندهم خَزَائِن رَحْمَة رَبك؟ والخزائن: هِيَ البوت الَّتِي تعد فِيهَا الْأَشْيَاء النفيسة.
وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَنه لَيْسَ عِنْدهم خَزَائِن الرَّحْمَة والنبوة، فيعطونها من شَاءُوا، ويمنعونها من شَاءُوا.
426
(الْعَزِيز الْوَهَّاب (٩) أم لَهُم ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا فليرتقوا فِي الْأَسْبَاب (١٠) جند مَا هُنَالك مهزوم من الْأَحْزَاب (١١) كذبت قبلهم قوم نوح وَعَاد وَفرْعَوْن)
وَقَوله: ﴿الْعَزِيز الْوَهَّاب﴾ الْعَزِيز: هُوَ المنيع فِي ملكه، الْغَالِب على خلقه، الْوَهَّاب: الْمُعْطِي لخلقه،
427
وَقَوله تَعَالَى: ﴿أم لَهُم ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا﴾ أَي: لَيْسَ لَهُم ذَلِك.
وَقَوله: ﴿فليرتقوا فِي الْأَسْبَاب﴾ أَي: فليعلوا فِي أَسبَاب الْقُوَّة والمنعة إِن كَانَ لَهُم ذَلِك على مَا زَعَمُوا، قَالَه أَبُو عُبَيْدَة، وَقيل: فليقعدوا إِلَى أَبْوَاب السَّمَاء. والأسباب هِيَ الموصلاة فِي الغة، وَالْحَبل يُسمى سَببا؛ لأته يُوصل بِهِ إِلَى الشَّيْء، فالارتقاء فِي الْأَسْبَاب هُوَ التَّوَصُّل من شَيْء إِلَى شَيْء حَتَّى يبلغ أَعْلَاهُ، وَالْمرَاد من الْآيَة إِثْبَات عجزهم، وَإِبْطَال زعمهم فِيمَا ادعوهُ من المنعة وَالْقُوَّة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿جند مَا هُنَالك مهزوم من الْأَحْزَاب﴾ أَي: جند هُنَالك، " وَمَا " صلَة، وَالْمعْنَى أَنهم مهزومون مقموعون، وَاخْتلف القَوْل فِي الْمَعْنى لَهُم، فأحد الْقَوْلَيْنِ: هم الْأَصْنَام، وَالْقَوْل الآخر: أَن الْمَعْنى هم مشركو قُرَيْش، وهم الَّذين قتلوا وأسروا ببدر، وَقيل: إِن هُنَالك إِشَارَة إِلَى مصَارِعهمْ من بدر.
وَقَوله: ﴿من الْأَحْزَاب﴾ أَي: من الَّذين تحزبزا وتجمعوا على الْأَنْبِيَاء بالتكذيب،
قَوْله تَعَالَى: ﴿كذبت قبلهم قوم نوح وَعَاد﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿وَفرْعَوْن ذُو الْأَوْتَاد﴾ فِي الْأَوْتَاد أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا الْبُنيان، قَالَ الشَّاعِر:
(تذكر حب ليلى لات حينا ويضحي الشيب قد قطع القرينا)
(وَلَقَد غنوا فِيهَا بأنعم عيشة فِي ظلّ ملك ثَابت الْأَوْتَاد)
أَي: الْأَبْنِيَة، وَقيل: الْأَوْتَاد جمع الوتد، وَكَانَ إِذا أَرَادَ قتل إِنْسَان وتد فِي يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ أَرْبَعَة أوتاد وَهُوَ مستلقي، وَوَجهه إِلَى السَّمَاء.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن الْأَوْتَاد هِيَ الملاعب بالأرسان المشدودة بالأوتاد، وَقد كَانَ
427
﴿ذُو الْأَوْتَاد (١٢) وَثَمُود وَقوم لوط وَأَصْحَاب الأيكة أؤلئك الْأَحْزَاب (١٣) إِن كل إِلَّا كذب الرُّسُل فَحق عِقَاب (١٤) وَمَا ينظر هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة مَا لَهَا من فوَاق (١٥) وَقَالُوا رَبنَا عجل لنا قطنا قبل يَوْم الْحساب (١٦) اصبر على مَا يَقُولُونَ وَاذْكُر﴾ لفرعون ذَلِك.
428
وَقَوله: ﴿وَثَمُود وَقوم لوط﴾ قد بَينا، وَحكى عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: أَنه مَا من نَبِي إِلَّا وَيكون لَهُ أمة يَوْم الْقِيَامَة سوى لوط عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُ يَأْتِي وَحده، وَذكر بَعضهم: أَن قوم لوط كَانُوا أَرْبَعمِائَة ألف بَيت، فِي كل بَيت عشرَة نفر، وَلم يسلم أحد مِنْهَا.
وَقَوله: ﴿وَأَصْحَاب الأيكة﴾ أَي: الغيضة، وَقَوله: ﴿أُولَئِكَ الْأَحْزَاب﴾ يَعْنِي: الَّذين تحزبوا على الْأَنْبِيَاء.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن كل إِلَّا كذب الرُّسُل﴾ أَي: مَا مِنْهُم قوم إِلَّا وَقد كذب الرُّسُل، وَقَوله: ﴿فَحق عِقَاب﴾ أَي: فَوَجَبَ عَذَابي عَلَيْهِم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا ينظر هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَة وَاحِدَة﴾ والصيحة هَا هُنَا هِيَ نفخة فِي الصُّور، وَقَوله: ﴿مَا لَهَا من فوَاق﴾ قرئَ بِالنّصب وَالرَّفْع، وَقَالَ بَعضهم: هما بِمَعْنى وَاحِد. وَقَالَ بَعضهم: هما مُخْتَلِفَانِ؛ فَقَوله بِالنّصب: من الْإِفَاقَة، وَقيل: مثنوية، وَيُقَال: رُجُوع وَتَأْخِير، وَقَوله بِالرَّفْع أَي: من انْتِظَار، والفواق فِي اللُّغَة مَا بَين الحلبتين، وَالْمعْنَى أَن الْعَذَاب لَا يمهلهم، وَلَا يلبثهم بذلك الْقدر.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا رَبنَا عجل لنا قطنا﴾ قَالَ سعيد بن جُبَير: أَي: نصيبنا (من) الْجنَّة، وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: قطنا أَي: نصيبنا من الْعَذَاب، وَإِنَّمَا قَالُوا ذَلِك تَكْذِيبًا واستهزاء، والقط هُوَ الْكتاب الَّذِي يكْتب فِيهِ الْجَائِزَة، والقطوط كتب الجوائز. وَفِي الْآيَة قَول آخر: وَهُوَ أَن الله تَعَالَى لما أنزل قَوْله: {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه
428
﴿عَبدنَا دَاوُود ذَا الأيد إِنَّه أواب (١٧) إِنَّا سخرنا الْجبَال مَعَه يسبحْنَ بالْعَشي وَالْإِشْرَاق بِيَمِينِهِ) {وَأما من أُوتِيَ كِتَابه بِشمَالِهِ﴾ فَسمع الْمُشْركُونَ ذَلِك؛ فَقَالُوا: رَبنَا عجل لنا قطنا أَي: صحيفتنا.
وَقَوله: ﴿قبل يَوْم الْحساب﴾ ظَاهر، وَإِنَّمَا قَالُوا تَكْذِيبًا واستهزاء.
429
قَوْله تَعَالَى: ﴿واصبر على مَا يَقُولُونَ﴾ أَي: على مَا يَقُول الْكفَّار.
وَقَوله: ﴿وَاذْكُر عَبدنَا دَاوُد﴾ هُوَ دَاوُد بن إيشا، وَقد بَينا، قَوْله: ﴿ذَا الأيد﴾ أَي: ذَا الْقُوَّة، فَيُقَال: ذَا الْقُوَّة فِي الْعِبَادَة، وَيُقَال: ذَا الْقُوَّة فِي الْملك.
وَأما قَوْله فِي الْعِبَادَة؛ فقد كَانَ يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا، وَكَانَ يقوم سدس اللَّيْل وينام نصفه، وَيقوم ثلثه، وَقد ثَبت عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " أحب الصّيام إِلَى الله تَعَالَى صِيَام دَاوُد، وَأحب الْقيام إِلَى الله قيام دَاوُد "، وَقَوله: ﴿إِنَّه أواب﴾ أَي: تواب، وَقيل: رجاع، فَقَالَ: آب يئوب إِذا رَجَعَ، قَالَ الشَّاعِر:
(وكل ذِي غيبَة يئوب وغائب الْمَوْت لَا يئوب)
وَقيل: أواب مَعْنَاهُ: أَنه كَانَ كلما ذكر ذَنبه اسْتغْفر الله تَعَالَى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّا سخرنا الْجبَال مَعَه يسبحْنَ بالْعَشي﴾ الْعشي: آخر النَّهَار.
وَقَوله: ﴿وَالْإِشْرَاق﴾ هُوَ وَقت الضُّحَى، وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَ: مَا كنت أعرف معنى الْإِشْرَاق حَتَّى أَخْبَرتنِي أم هَانِئ رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي صلى صَلَاة الضُّحَى
429
( ﴿١٨) وَالطير محشورة كل لَهُ أواب (١٩) وشددنا ملكه وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَة وَفصل الْخطاب (٢٠) وَهل أَتَاك نبأ الْخصم إِذْ تسوروا الْمِحْرَاب (٢١) إِذْ دخلُوا على دَاوُود﴾ فِي بَيتهَا، ثمَّ قَالَ: " هَذِه صَلَاة الْإِشْرَاق " وَالْإِشْرَاق: أَنه تشرق الشَّمْس حَتَّى تتناهى فِي ضوئها.
430
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَالطير محشورة﴾ وسخرنا الطير محشورة، وَقَوله: ﴿محشورة﴾ مَجْمُوعَة، وَقَوله: ﴿كل لَهُ أواب﴾ اخْتلف القَوْل فِي معنى قَوْله: ﴿كل لَهُ أواب﴾ فأحد الْقَوْلَيْنِ مَعْنَاهُ: كل لله أواب أَي: مسبح.
وَالْقَوْل الثَّانِي: كل لَهُ أواب أَي: لداود يَعْنِي: أواب مَعَه.
والأواب هَا هُنَا هُوَ المسبح، وَالتَّسْبِيح هُوَ عبَادَة أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وشددنا ملكه﴾ أَي: وقوينا ملكه، قَالَ مُجَاهِد: كَانَ لَهُ أَرْبَعمِائَة ألف رجل يحرسونه، وَمن الْمَعْرُوف سِتَّة وَثَلَاثُونَ ألفا يحرسونه. وَعَن بَعضهم: أَرْبَعُونَ ألفا مستلأمة أَي: فِي السِّلَاح، وَقد لبس لأمته أَي: درعه وسلاحه.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَة﴾ أَي: النُّبُوَّة، وَقيل: الْفِقْه فِي الدّين، وَيُقَال: الْفَهم فِي الْقَضَاء.
وَقَوله: ﴿وَفصل الْخطاب﴾ فِيهِ أَقْوَال:
أَحدهَا: الْبَيِّنَة على الْمُدَّعِي، وَالْيَمِين على من أنكر، وَهُوَ فصل الْخطاب، وَهَذَا قَول مَشْهُور ومعروف.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن فصل الْخطاب هُوَ الْبَيَان الْفَاصِل بَين الْحق وَالْبَاطِل.
430
﴿ففرع مِنْهُم قَالُوا لَا تخف خصمان بغي بَعْضنَا على بعض فاحكم بَيْننَا بِالْحَقِّ وَلَا تشطط واهدنا إِلَى سَوَاء الصِّرَاط (٢٢) إِن هَذَا أخي لَهُ تسع وَتسْعُونَ نعجة ولي نعجة وَاحِدَة﴾
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَن مَعْنَاهُ: أما بعد، ذكره الشّعبِيّ، وَإِنَّمَا سمي: أما بعد فصل الْخطاب؛ لِأَن الْإِنْسَان يذكر الله وَيَحْمَدهُ، فَإِذا شرع فِي كَلَام آخر قَالَ: أما بعد، فقد كَانَ كَذَا، وَكَانَ كَذَا.
وَقد ورد فِي الْقِصَّة: أَن رجلا أَتَى دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام وَادّعى أَن فلَانا اغتصب مِنْهُ بقرًا، فَدَعَا الْمُدَّعِي عَلَيْهِ، فَجحد؛ فَرَأى فِي الْمَنَام أَنه أَمر بقتل الْمُدعى عَلَيْهِ فَلم يفعل فَرَأى ثَانِيًا وثالثا وأنذر بِالْعَذَابِ إِن لم يفعل فَدَعَا الْمُدعى عَلَيْهِ وَأخْبرهُ أَن الله تَعَالَى أمره بقتْله؛ فَقَالَ: أَو حق هُوَ؟ قَالَ: نعم.
فَقَالَ: أتقتلني بِغَيْر حجَّة؟ فَقَالَ لَهُ: وَالله لأنفذن أَمر الله فِيك.
فَقَالَ: إِنِّي لم أقتل بِهَذَا، وَلَكِنِّي كنت اغتلت أَبَا هَذَا الرجل وقتلته، وَأقر بِهِ، فَقتله دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام فَلَمَّا رَأَتْ بَنو إِسْرَائِيل ذَلِك هابوه أَشد الهيبة، فَهِيَ معنى قَوْله ﴿وشددنا ملكه﴾.
431
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَهل أَتَاك نبأ الْخصم﴾ أَي: خبر الْخصم، وأنشدوا فِي النبأ بِمَعْنى الْخَبَر:
(إِنِّي أرقت فَلم أغمض جاري جزعا من النبأ الْعَظِيم السار)
والخصم اسْم يَقع على الْوَاحِد والاثنين وَالْجَمَاعَة، وَقيل مَعْنَاهُ: ذُو خصم ذَوا خصم وذوو خصم، فعلى هَذَا يتَنَاوَل الْكل.
وَقَوله: ﴿إِذْ تسوروا الْمِحْرَاب﴾ أَي صعدوا وعلوا، وَالْمعْنَى: أَنهم دخلُوا من جَانب سور الْمِحْرَاب لَا من مدْخل الَّذِي يدْخل النَّاس.
واتفقت عَامَّة الْمُفَسّرين على أَن الَّذين دخلُوا كَانُوا ملكَيْنِ، وَقيل: إِنَّه كَانَ أَحدهمَا جِبْرِيل وَالْآخر مِيكَائِيل، وَذكر تسوروا بِلَفْظ الْجمع؛ لِأَن الْجمع يتَنَاوَل الِاثْنَيْنِ فَصَاعِدا.
وَقَوله: ﴿إِذْ دخلُوا على دَاوُد فَفَزعَ مِنْهُم﴾ أَي: خَافَ مِنْهُم وَاخْتلف القَوْل فِي عِلّة الْخَوْف، فَقَالَ بَعضهم: إِنَّه خَافَ مِنْهُم، لأَنهم دخلُوا فِي غير وَقت الدُّخُول، وَقيل: خَافَ مِنْهُم؛ لأَنهم دخلُوا من أَعلَى السُّور.
وَقَوله: ﴿قَالُوا لَا تخف﴾ يَعْنِي: فَلَا تخف ﴿خصمان بغى بَعضهم على بعض﴾ فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: ﴿خصمان بغى بَعْضنَا على بعض﴾ وَلم يكن من الْملكَيْنِ من بغى أَحدهمَا على الآخر؟
وَالْجَوَاب عَنهُ أَن مَعْنَاهُ: أَرَأَيْت خصمين بغى أَحدهمَا على الآخر، فَهَذَا من معاريض الْكَلَام، وَلَيْسَ على معنى تَحْقِيق بغي أَحدهمَا على الآخر.
وَقيل مَعْنَاهُ: قَالَا: مَا قَوْلك فِي خصمين بغى أَحدهمَا على الآخر؟ وَهَذَا قريب من الأول، وَقَوله: ﴿فاحكم بَيْننَا بِالْحَقِّ﴾ أَي: بِالْعَدْلِ.
وَقَوله: ﴿وَلَا تشطط﴾ يُقَال: أشط يشط إِذا جَار، وشطا يشط إِذا أبعد، قَالَ الشَّاعِر:
(شطت مَزَار العاشقين، فَأَصْبَحت... عسرا عَليّ طلابك ابْنة مخرم) وَقَالَ عمر بن أبي ربيعَة:
﴿تشط غَدا دَار جيراننا وللدار بعد غَد أبعد﴾
فَمَعْنَى قَوْله: ﴿وَلَا تشطط﴾ أَي: لَا تجر، وَقُرِئَ بِنصب التَّاء أَي: لَا تبعد عَن الْحق، وَقَوله: ﴿واهدنا إِلَى سَوَاء الصِّرَاط﴾ أَي: إِلَى الطَّرِيق الْمُسْتَقيم الصَّوَاب وَالْعدْل، وَقَوله: ﴿واهدنا﴾ أَي: وأرشدنا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن هَذَا أخي لَهُ تسع وَتسْعُونَ نعجة﴾ ذكر أهل التَّفْسِير أَن سَبَب ابتلاء دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام أَنه فتن بِامْرَأَة أوريا بن حنان، وَسبب ذَلِك أَن دَاوُد صلوَات الله عَلَيْهِ كَانَ قسم أَيَّامه، فَكَانَ يَخْلُو يَوْمًا لِلْعِبَادَةِ، ويخلو يَوْمًا لنسائه، وَيجْلس للْقَضَاء يَوْمًا مَعَ بني إِسْرَائِيل فيذاكرهم ويذاكرونه، فَجَلَسَ يَوْمًا مَعَ بني إِسْرَائِيل يذاكرهم، فذاكروا فتْنَة النِّسَاء، فأضمر دَاوُد فِي نَفسه أَنه إِن ابْتُلِيَ اعْتصمَ.
432
وَفِي بعض التفاسير: أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام رأى قرينيه من الْمَلَائِكَة، فَقَالَ لَهما: مَا بالكما معي، فَقَالَا: نحفظك ونحرسك، فتفكر فِي نَفسه أَنه كَانَ مَا يحْتَرز عَنهُ من الْأَشْيَاء يكون بحفظهما، أَو مَا يفعل من الْعِبَادَة فَيكون بحفظهما، فَهُوَ لَا يحمد فِي ذَلِك؛ فَأمر الله تَعَالَى الْملكَيْنِ أَن يخلياه يَوْمًا.
وَفِي بعض الْقَصَص: أَن الله تَعَالَى حذره يَوْمًا، وَقَالَ: هُوَ يَوْم فتنتك، وَفِي بَعْضهَا: أَنه سمع بني إِسْرَائِيل يَقُولُونَ فِي دعواتهم: يَا إِلَه إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب، فَأحب أَن يذكر مَعَهم، فَذكر ذَلِك لله تَعَالَى فِي مناجاته، فَقَالَ: يَا دَاوُد إِنِّي ابتليتهم فصبروا. فَقَالَ: لَو ابتليتني صبرت، فَقَالَ: يَا دَاوُد إِنِّي مبتليك يَوْم كَذَا، فَلَمَّا كَانَ ذَلِك الْيَوْم دخل فِي متعبده، وتخلى لِلْعِبَادَةِ، وَهَذَا الْوَجْه الثَّالِث غَرِيب، وَالْمَشْهُور مَا ذكرنَا من قبل، قَالُوا: وَلما كَانَ فِي ذَلِك الْيَوْم وتخلى لِلْعِبَادَةِ وَجعل يُصَلِّي وَيقْرَأ التَّوْرَاة وَالزَّبُور ويكب على قراءتهما، فَبَيْنَمَا هُوَ خلال ذَلِك؛ إِذْ سقط طير من ذهب قَرِيبا مِنْهُ، وَيُقَال: إِنَّه إِبْلِيس تصور فِي صُورَة طير، وَكَانَ جناحاه من الدّرّ والزبرجد، فأعجبه حسن الطير، فقصد أَن يَأْخُذهُ فتباعد مِنْهُ، وَجعل هُوَ يتبعهُ إِلَى أَن أسرف فِي اتِّبَاعه إِلَى دَار من دور جِيرَانه، فَرَأى امْرَأَة تَغْتَسِل، فأعجبه حسنها وخلقها، وَفتن بهَا، فَلَمَّا أحست الْمَرْأَة بِمن ينظر إِلَيْهَا؛ حللت شعرهَا، فغشاها شعرهَا؛ فازداد دَاوُد فتْنَة، وَرجع وَسَأَلَ عَن الْمَرْأَة؛ فَقيل: إِنَّهَا امْرَأَة أوريا بن حنان، فَكَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت توجه غازيا إِلَى بعض الثغور، فَأحب أَن يقتل ويتزوج بامرأته، فَذكر بَعضهم أَن ذَنبه كَانَ هَذَا الْقدر.
وَذكر بَعضهم: انه كتب إِلَى أَمِير الْجَيْش أَن يَجْعَل أوريا قُدَّام التابوت، وَكَانَ من جعل قُدَّام التابوت فإمَّا أَن يقتل أَو يفتح الله على يَدَيْهِ، فَلَمَّا جعل قُدَّام التابوت قتل، فَتزَوج دَاوُد الْمَرْأَة بَعْدَمَا انْقَضتْ عدتهَا.
وروى مَسْرُوق عَن ابْن مَسْعُود، وَسَعِيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس أَنَّهُمَا قَالَا: كَانَ ذَنْب دَاوُد انه التمس من الرجل أَن ينزل عَن امْرَأَته، هَذَا قَول ابْن مَسْعُود، وَأما لفظ ابْن عَبَّاس: التمس أَن يتَحَوَّل لَهُ عَنْهَا.
433
﴿فَقَالَ أكفلنيها وعزني فِي الْخطاب (٢٣) قَالَ لقد ظلمك بسؤال نعجتك إِلَى نعاجه وَإِن﴾
قَالَ أهل التَّفْسِير: وَقد كَانَ ذَلِك مُبَاحا لَهُم غير أَن الله تَعَالَى لم يرض لَهُ بذلك، لِأَنَّهُ كَانَ ذَلِك رَغْبَة فِي الدُّنْيَا، وازدياد من النِّسَاء، وَقد أغناه الله تَعَالَى عَنْهَا بِمَا أعطَاهُ من غَيرهَا.
وَذكر بَعضهم: أَن ذَنبه كَانَ هُوَ أَنه خطب امْرَأَة، وَقد خطبهَا غَيره، فَدخل على خطْبَة غَيره، وَكَانَ ذَلِك مَنْهِيّا فِي شريعتهم، كَمَا هُوَ مَنْهِيّ فِي شريعتنا.
434
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن هَذَا أخي لَهُ تسع وَتسْعُونَ نعجة﴾ النعجة هَا هُنَا كِنَايَة عَن الْمَرْأَة، وَالْعرب تكنى عَن الْمَرْأَة بالنعجة وَالشَّاة، قَالَ الشَّاعِر:
(فرميت غَفلَة عينه عَن شاته فَأَصَبْت حَبَّة قلبه وطحالها)
وَالْمرَاد من الشَّاة هَا هُنَا هِيَ الْمَرْأَة، وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: " تِسْعَة وَتسْعُونَ نعجة أُنْثَى " قَالَ بَعضهم: ذكر أُنْثَى على طَرِيق التَّأْكِيد.
وَقد رُوِيَ عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مَا أبقت الْفَرَائِض فَلأولى رجل ذكر " فَقَوله: " ذكر " مَذْكُور على وَجه التَّأْكِيد.
وَقيل: يجوز أَن يُقَال: تِسْعَة وَتسْعُونَ نعجة، وَإِن كَانَ فِي خلالها ذكر، فَلَمَّا قَالَ: تِسْعَة وَتسْعُونَ نعجة أُنْثَى، عرف قطعا أَنه لَيْسَ فِي خلالها ذكر.
وَقَوله: ﴿ولي نعجة وَاحِدَة﴾ فِي التَّفْسِير: أَنه كَانَ لأوريا امْرَأَة وَاحِدَة، ولداود تِسْعَة وَتسْعُونَ امْرَأَة، فَهَذَا هُوَ المعني بالنعاج والنعجة.
وَقَوله: ﴿فَقَالَ أكفلنيها﴾ أَي: ضمهَا إِلَيّ: وَقيل: انْزِلْ لي عَنْهَا، وَقيل: اجْعَلنِي قيمها وكفيلا بأمرها.
وَقَوله: ﴿وعزني فِي الْخطاب﴾ أَي: غلبني فِي الْخطاب، وقهرني فِي الْخطاب أَي:
434
﴿كثيرا من الخلطاء ليبغي بَعضهم على بعض إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَقَلِيل مَا هم وَظن دَاوُود أَنما فتناه فَاسْتَغْفر ربه وخر رَاكِعا وأناب (٢٤) فغفرنا لَهُ ذَلِك وَإِن لَهُ﴾ فِي القَوْل لقُوَّة ملكه.
وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَن الْغَلَبَة كَانَت لَهُ لضعفي فِي يَده، وَإِن كَانَ الْحق معي، وَعَن مُجَاهِد قَالَ: تحدث بَنو إِسْرَائِيل عِنْد دَاوُد أَنه لَا يمْضِي على ابْن آدم يَوْمًا إِلَّا ويذنب فِيهِ ذَنبا، واعتقد دَاوُد صلوَات الله عَلَيْهِ أَنه يحفظ نَفسه من الذَّنب، وَعين يَوْمًا، فَلَمَّا كَانَ ذَلِك الْيَوْم تخلى فِي متعبده، وَجعل يُصَلِّي ويسبح، وَيقْرَأ التَّوْرَاة وَالزَّبُور، فابتلي بِمَا ابْتُلِيَ بِهِ على مَا ذكرنَا.
وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ: من زعم أَن دَاوُد ارْتكب محرما من تِلْكَ الْمَرْأَة جلدته مائَة وَسِتِّينَ جلدَة، يَعْنِي ضعف مَا يجلد الْإِنْسَان فِي غَيره.
435
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ لقد ظلمك﴾ مَعْنَاهُ: لقد ظلمك بسؤاله نعجتك إِلَى نعاجه، فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: لقد ظلمك بِمُجَرَّد قَوْله، وَلم يكن سمع قولة صَاحبه؟
الْجَواب عَنهُ: أَن يحْتَمل لقد ظلمك بِمُجَرَّد قَوْله، وَلم يكن صَاحبه أقرّ بذلك، وَيحْتَمل أَنه قَالَ: إِن كَانَ الْأَمر على مَا ذكرت فقد ظلمك بسؤاله نعجتك إِلَى نعاجه، وَفِي الْآيَة حذف، والمحذوف بسؤاله أَن تضم نعجتك إِلَى نعاجه، وَقد ثَبت عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ سَأَلَ زوج الْمَرْأَة أَن ينزل لَهُ عَن امْرَأَته، رَوَاهُ سعيد بن جُبَير عَنهُ.
وَقَوله: ﴿وَإِن كثيرا من الخلطاء﴾ أَي: من الشُّرَكَاء، يُقَال: هَذَا خليطي أَي: شَرِيكي، وَقَوله: ﴿ليبغي بَعضهم على بعض﴾ أَي: يظلم بَعضهم بَعْضًا.
وَقَوله: ﴿إِلَّا الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات﴾ يَعْنِي: أَنهم لَا يظلم بَعضهم بَعْضًا، وَقَوله: ﴿وَقَلِيل مَا هم﴾ أَي: وَقيل هم، و " مَا " صلَة.
وَقَوله: ﴿وَظن دَاوُد أَنما فتناه﴾ أَي: وأيقن دَاوُد أَنما فتناه أَي: ابتليناه، وأوقعناه فِي الْفِتْنَة، وَقُرِئَ: " إِنَّمَا فتناه " بِالتَّخْفِيفِ، يَعْنِي: أَن الْملكَيْنِ فتناه.
435
وَقَوله: ﴿فَاسْتَغْفر ربه﴾ أَي: طلب الْمَغْفِرَة من ربه (وخر رَاكِعا) أَي: سَاجِدا، فَعبر عَن السُّجُود بِالرُّكُوعِ؛ لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا نوع من الانحناء.
وَقَوله: ﴿وأناب﴾ أَي: رَجَعَ وَتَابَ، قَالَ مُجَاهِد: مكث دَاوُد سَاجِدا أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يرفع رَأسه. وَيُقَال: مكث فِي السُّجُود وَبكى حَتَّى نبت العشب حول رَأسه.
وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن الله تَعَالَى بعث إِلَيْهِ ملكا بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَن أرفع رَأسك، فَلم يرفع، فَقَالَ لَهُ الْملك: أَيهَا العَبْد، أول أَمرك ذَنْب وَآخره مَعْصِيّة، ارْفَعْ رَأسك حِين أَمرك رَبك.
وَذكر وهب بن مُنَبّه: أَن دَاوُد صلوَات الله عَلَيْهِ لم يشرب بعد ذَلِك مَاء، إِلَّا وَقد مزجه بدموعه، وَلم يَأْكُل طَعَاما إِلَّا وَقد بله بدموعه، وَلم ينم على فرَاش إِلَّا وَقد غرقه بدموعه.
وَأم حكم السُّجُود فِي هَذِه الْآيَة، فَذكر بَعضهم: أَنَّهَا سَجْدَة شكر، وَذكر بَعضهم: أَنَّهَا سَجْدَة عَزِيمَة، وَقد روى الشَّافِعِي رَحمَه الله بِإِسْنَادِهِ عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ لَا يسْجد فِي " سُورَة ص " وَيَقُول: إِنَّهَا تَوْبَة نَبِي.
وَفِي بعض التفاسير: أَن دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام لما قَالَ مَا قَالَ ضحك أحد الْملكَيْنِ إِلَى صَاحبه، ثمَّ ارتفعا إِلَى السَّمَاء، فَعلم دَاوُد أَنَّهُمَا أراداه بذلك القَوْل وأنهما ملكان مبعوثان من قبل الله تَعَالَى فَحِينَئِذٍ وَقع على الأَرْض سَاجِدا.
436
قَوْله تَعَالَى: ﴿فغفرنا لَهُ ذَلِك﴾ فغفرنا لَهُ ذَنبه ذَلِك، وَعَن [أبي] سُلَيْمَان الدَّارَانِي: أَن الله تَعَالَى قَالَ: يَا دَاوُد قد غفرت ذَنْبك، وَأما الْمَوَدَّة الَّتِي كَانَت بيني وَبَيْنك فقد مَضَت.
وَفِي الْقِصَّة: أَن الوحوش والطيور كَانَ تستمع إِلَى قراءاته وتصغي إِلَيْهَا، فَلَمَّا فعل مَا فعل، [كَانَ] يقْرَأ الزبُور بعد ذَلِك، وَلَا تصغي الطُّيُور وَلَا الوحوش إِلَى ذَلِك،
436
﴿عندنَا لزلفى وَحسن مآب (٢٥) يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله إِن الَّذين يضلون عَن سَبِيل الله لَهُم عَذَاب شَدِيد بِمَا نسوا يَوْم الْحساب (٢٦) وَمَا خلقنَا﴾ فروى أَنَّهَا قَالَت يَعْنِي الوحوش والطيور: يَا دَاوُد ذهبت خطيئتك بحلاوة صَوْتك.
وَقَوله: ﴿وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى﴾ أَي: قربى ﴿وَحسن مآب﴾ أَي: حسن مرجع ومنقلب، وَفِي بعض التفاسير: أَن دَاوُد صلوَات الله عَلَيْهِ يحْشر وخطيئته منقوشة فِي كَفه، فحين يَرَاهَا؛ يَقُول: يَا رب، مَا أرى خطيئتي إِلَّا مهلكي، فَيَقُول الله تَعَالَى لَهُ: إِلَيّ يَا دَاوُد، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب﴾ وأنشدوا فِي الرُّكُوع بِمَعْنى السُّجُود على مَا بَينا شعرًا:
437
قَوْله تَعَالَى: ﴿يَا دَاوُد إِنَّا جعلناك خَليفَة فِي الأَرْض﴾ أَي: خَليفَة عَمَّن سبق، وَيُقَال: خليفتي؛ وَمن هَذَا يجوز أَن يُسمى الْخُلَفَاء خلفاء الله.
وَقَوله: ﴿فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ﴾ أَي: بِالْعَدْلِ، وَقَوله: ﴿وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله﴾ أَي: يصدك ويردك عَن سَبِيل الله.
وَقَوله: ﴿إِن الَّذين يضلون عَن سَبِيل الله لَهُم عَذَاب شَدِيد بِمَا نسوا يَوْم الْحساب﴾ فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَمَعْنَاهُ: لَهُم عَذَاب شَدِيد يَوْم الْحساب بِمَا نسوا أَي: تركُوا أَمر الله وغفلوا عَن الْقِيَامَة.
وَفِي الْقِصَّة: أَن الله تَعَالَى كَانَ قد بعث سلسلة من السَّمَاء، وَكَانَ يخْتَصم إِلَى دَاوُد، والخصمان والسلسلة قُدَّام مَجْلِسه، فَكَانَ يَأْمر كل وَاحِد مِنْهُمَا أَن يَأْخُذ السلسلة، وَكَانَ ينالها المحق وَلَا ينالها الْمُبْطل، فاشتدت هيبته فِي بني إِسْرَائِيل لذَلِك، فاختصم رجلَانِ فِي عقد لُؤْلُؤ أودعهُ أَحدهمَا من صَاحبه وجحده الْمُودع، فَعمد الْمُودع إِلَى عَصا وقورها، وَجعل العقد فِيهَا، فَلَمَّا اخْتَصمَا إِلَى دَاوُد أَمرهمَا بالتحاكم إِلَى السلسلة، فَذهب الْمُدَّعِي إِلَى السلسلة، وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَنِّي أودعت هَذَا
437
{السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا ذَلِك ظن الَّذين كفرُوا فويل للَّذين كفرُوا من النَّار (٢٧) أم نجْعَل الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات كالمفسدين فِي الأَرْض أم نجْعَل الْمُتَّقِينَ كالفجار (٢٨) كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك مبارك ليدبروا آيَاته وليتذكر أولُوا الْأَلْبَاب (٢٩) الرجل عقد لُؤْلُؤ، وَلم يردهُ إِلَى، فأنلني السلسلة، ثمَّ رفع يَده ونالها، وَجَاء صَاحبه إِلَى السلسلة، والعصا فِي يَده، فَقَالَ للْمُدَّعِي: أمسك هَذِه الْعَصَا حَتَّى آخذ السلسلة، فَأَخذهَا مِنْهُ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن كنت تعلم أَنِّي قد رَددتهَا إِلَيْهِ فأنلني السلسلة، ثمَّ إِنَّه رفع يَده، ونال السلسلة؛ فتحير دَاوُد وَبَنُو إِسْرَائِيل فِي ذَلِك.
وَرفع الله السلسلة، وَأمر دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام بِأَن يقْضِي بَين النَّاس بِالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِين؛ فجرت السّنة على ذَلِك إِلَى قيام السَّاعَة.
438
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَمَا خلقنَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا بَاطِلا﴾ أَي: لعبا، وَقيل: لغير حِكْمَة، وَقَوله: ﴿ذَلِك ظن الَّذين كفرُوا﴾ وَهَذَا دَلِيل على أَن الله تَعَالَى يعذب الْكفَّار بِالظَّنِّ الْبَاطِل، وَقَوله: ﴿فويل للَّذين كفرُوا من النَّار﴾ أَي: من نَار جَهَنَّم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿أم نجْعَل الَّذين آمنُوا﴾ مَعْنَاهُ: أنجعل الَّذين آمنُوا (وَعمِلُوا الصَّالِحَات كالمفسدين فِي الأَرْض) أَي: لَا نجْعَل.
وَقَوله: ﴿أم نجْعَل الْمُتَّقِينَ كالفجار﴾ أَي: الْمُؤمنِينَ كالكفار، وَيُقَال: المُرَاد بالمتقين هَا هُنَا أَصْحَاب رَسُول الله، وَقيل: بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب، والفجار هم وُجُوه الْمُشْركين وسادتهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك مبارك﴾ أَي: هَذَا كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك مبارك.
وَقَوله: ﴿ليدبروا آيَاته﴾ أَي: ليتدبروا ويتفكروا فِي آيَاته، وَقَوله: ﴿وليتذكروا أولو الْأَلْبَاب﴾ أَي: يتَذَكَّر أولو الْعُقُول، قَالَ الْحسن فِي قَوْله: ﴿أولو الْأَلْبَاب﴾ عَاتَبَهُمْ لِأَنَّهُ أحبهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَوَهَبْنَا لداود سُلَيْمَان نعم العَبْد إِنَّه أواب﴾ قد بَينا.
438
﴿وَوَهَبْنَا لداوود سُلَيْمَان نعم العَبْد إِنَّه أواب (٣٠) إِذْ عرض عَلَيْهِ بالْعَشي الصافنات الْجِيَاد (٣١) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْت حب الْخَيْر عَن ذكر رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بالحجاب (٣٢) ﴾
439
قَوْله: ﴿إِذْ عرض عَلَيْهِ بالْعَشي الصافنات الْجِيَاد﴾ أَي: الْخَيل الْجِيَاد، والصافنات: هِيَ الْخَيل الَّتِي قَامَت على ثَلَاث قَوَائِم، وثنى إِحْدَى قوائمه، وَقَامَ على السنبك.
وَقيل: والصافن فِي اللُّغَة: هُوَ الْقَائِم، وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " من سره أَن يكون النَّاس لَهُ صُفُونا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار " أَي: قيَاما. قَالَ الشَّاعِر:
(فَخر على وَجهه رَاكِعا وَتَابَ إِلَى الله من كل ذَنْب)
(ألف الصفون فَمَا يزَال كَأَنَّهُ مِمَّا يقوم على الثَّلَاث كسيرا)
وَقَوله: ﴿الْجِيَاد﴾ أَي: السراع، قَالَ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ: كَانَت [عشْرين] فرسا لَهَا أَجْنِحَة، وَقَالَ عِكْرِمَة: عشرُون ألف فرس لَهَا أَجْنِحَة، وَقَالَ بَعضهم: كَانَت ألفا من الْخَيل الْعتاق أَي: الْكِرَام، وَيُقَال أَيْضا: إِن الله تَعَالَى كَانَ أخرجهَا لَهُ من الْبَحْر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنِّي أَحْبَبْت حب الْخَيْر﴾ أَي: آثرت حب الْخَيْر، وَأما الْخَيْر؛ فَأكْثر الْمُفَسّرين على أَنَّهَا الْخَيل فِي هَذِه الْآيَة، وَكَذَا قَرَأَ ابْن مَسْعُود بِاللَّامِ.
وروى أَن زيد الْخَيل الطَّائِي وَفد إِلَى النَّبِي فَقَالَ لَهُ النَّبِي: " من أَنْت؟ فَقَالَ: أَنا زيد الْخَيل. فَقَالَ: أَنْت زيد الْخَيْر ".
439
﴿ردوهَا عَليّ فَطَفِقَ مسحا بِالسوقِ والأعناق (٣٣) وَلَقَد فتنا سُلَيْمَان وألقينا على كرسيه﴾
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن الْخَيْر هَا هُنَا هُوَ الدُّنْيَا أَي: آثرت الدُّنْيَا على ذكر رَبِّي أَي: صَلَاة الْعَصْر.
قَوْله: ﴿حَتَّى تَوَارَتْ بالحجاب﴾ أَي: تَوَارَتْ الشَّمْس بالحجاب، فكنى عَن الشَّمْس وَإِن لم يجر لَهَا ذكر، وَقد بَينا مِثَال هَذَا، وَيُقَال: قد سبق مَا يدل على ذكر الشَّمْس، فاستقامت الْكِنَايَة عَنْهَا، وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذْ عرض عَلَيْهِ بالْعَشي﴾ والعشي لَا يعرف إِلَّا بالشمس.
وَأما الْحجاب، فَيُقَال: إِنَّه جبل قَاف، وَالشَّمْس تغرب من وَرَائه، وَيُقَال: إِنَّه جبل من ياقوت أَخْضَر، وخضرة السَّمَاء مِنْهُ.
440
قَوْله تَعَالَى: ﴿ردوهَا عَليّ﴾ أَي: ردوا الْخَيل عَليّ، وَقَوله: ﴿فَطَفِقَ مسحا بِالسوقِ والأعناق﴾ ذهب أَكثر الْمُفَسّرين إِلَى أَن المُرَاد مِنْهُ أَنه قطع عراقيبها وأعناقها، وَهَذَا مَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس وَالْحسن وَقَتَادَة، وَأوردهُ الْفراء والزجاج.
قَالَ الْحسن: كسف عراقيبها وَضرب أعناقها، قَالَ الزّجاج: وَيجوز أَن يكون الله تَعَالَى أَبَاحَ لَهُ فِي ذَلِك الْوَقْت وَحرم فِي هَذَا الْوَقْت علينا وَلم يكن ليقدم نَبِي الله تَعَالَى على ذَلِك، وَهُوَ محرم عَلَيْهِ، وَكَيف يسْتَغْفر من ذَنْب بذنب؟ !.
وَعَن ابْن عَبَّاس فِي بعض الرِّوَايَات: أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام جعل يمسح عراقيبها وأعناقها بِيَدِهِ وثوبه؛ شَفَقَة عَلَيْهَا، وَهَذَا قَول ضَعِيف، وَلَا يَلِيق هَذَا الْفِعْل بِمَا سبق، وَالْمَشْهُور هُوَ القَوْل الأول.
وَذكر الْكَلْبِيّ: أَن الْخَيل كَانَت ألفا، فَقتل مِنْهَا تِسْعمائَة وَبقيت مائَة، فَهِيَ أصل الْخَيل الْعتاق الَّتِي بقيت فِي أَيدي النَّاس.
وَيُقَال: إِنَّهَا كَانَت خيلا أَخذهَا من العمالقة، وَكَانَت تعرض عَلَيْهِ؛ فَغَفَلَ عَن صَلَاة الْعَصْر حَتَّى غربت الشَّمْس، فَأمر بردهَا عَلَيْهِ، وَقطع عراقيبها، وَضرب أعناقها؛ لِأَنَّهَا ألهته عَن ذكر الله، وَيُقَال: ذَبحهَا ذبحا وَتصدق بِلُحُومِهَا، وَكَانَ الذّبْح حَلَالا فِي شَرِيعَته على ذَلِك الْوَجْه.
440
﴿جسدا ثمَّ أناب (٣٤) قَالَ رب اغْفِر لي وهب لي ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي إِنَّك﴾
441
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد فتنا سُلَيْمَان﴾ أَي: اختبرنا سُلَيْمَان فابتليناه، وَيُقَال: فتنا سُلَيْمَان أَي: ألقيناه فِي الْفِتْنَة.
وَقَوله: ﴿وألقينا على كرسيه جسدا ثمَّ أناب﴾ ذهب أَكثر الْمُفَسّرين إِلَى أَن الْجَسَد الَّذِي ألقِي على كرْسِي سُلَيْمَان هُوَ صَخْر الجني.
قَالَ السّديّ: كَانَ اسْمه حبقيق، وَعَن بَعضهم: ان اسْمه كَانَ آصف، وَالْمَعْرُوف هُوَ الأول، وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا.
وَأما قصَّته: فزعموا أَن صخرا كَانَ شَيْطَانا ماردا لَا يقوى عَلَيْهِ أحد، فَابْتلى الله تَعَالَى سُلَيْمَان بِهِ، وسلبه ملكه، وَقعد هَذَا الشَّيْطَان على كرسيه يقْضِي بَين النَّاس، وَكَانَ سَبَب ذَلِك فِيمَا زَعَمُوا أَن ملك سُلَيْمَان كَانَ فِي خَاتمه، قَالَ وهب: وَكَانَ ذَلِك الْخَاتم فَمَا ألبسهُ الله تَعَالَى آدم عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْجنَّة، وَكَانَ يضيء كضوء الشَّمْس، فَلَمَّا أكل آدم من الشَّجَرَة، وَعصى الله تَعَالَى سلب الْخَاتم.
ثمَّ إِن الله تَعَالَى أنزلهُ على سُلَيْمَان، وَعقد بِهِ ملكه، قَالُوا: وَكَانَ الْخَاتم مربعًا لَهُ أَرْبَعَة أَرْكَان، فِي ركن مِنْهُ مَكْتُوب: أَنا الله لم أزل، وَفِي الرُّكْن الثَّانِي مَكْتُوب: أَنا الله الْحَيّ القيوم، وَفِي الرُّكْن الثَّالِث مَكْتُوب: أَنا الْعَزِيز لَا عَزِيز غَيْرِي، وَفِي الرُّكْن الرَّابِع مَكْتُوب: مُحَمَّد رَسُول الله.
وَيُقَال: كَانَ الْمَكْتُوب عَلَيْهِ آيَة الْكُرْسِيّ، قَالُوا: وَكَانَ سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام إِذا دخل مغتسله سلم الْخَاتم إِلَى جَارِيَة لَهُ، فَدخل مرّة وَسلم الْخَاتم إِلَى الْجَارِيَة، فجَاء صَخْر فِي صُورَة سُلَيْمَان فَأخذ الْخَاتم من الْجَارِيَة، وَخرج سُلَيْمَان يطْلب الْخَاتم، فَقَالَت: قد أخذت مني الْخَاتم مرّة، فَعلم [سُلَيْمَان] أَن الله تَعَالَى سلبه ملكه.
وَذهب سُلَيْمَان يسيح فِي الأَرْض، وَلم يعرفهُ أحد بصورته، وَكَانَ يستطعم النَّاس
441
وَيَقُول: أَنا سُلَيْمَان بن دَاوُد، فيكذبونه ويؤذونه ويزعمون أَنه مَجْنُون. حَتَّى روى أَنه استطعم مرّة من قوم وَزعم أَنه سُلَيْمَان بن دَاوُد، فَقَامَ رجل وشج رَأسه بعصا فِي يَده، ثمَّ إِنَّهُم أَعْطوهُ كسرة يابسة، فَحمل الكسرة إِلَى شط نهر ليبليها بِالْمَاءِ، وَكَانَ جائعا لم يصب طَعَاما مُنْذُ أَيَّام، فَذهب المَاء بالكسرة.
وَيُقَال: إِنَّه كَانَ على شط الْبَحْر، فَجَاءَت موجة وحملت الكسرة، فَدخل هُوَ الْبَحْر فِي إثْرهَا حَتَّى خَافَ الْغَرق فَرجع وَرجعت الكسرة ثمَّ إِنَّه طمع فِيهَا وَذهب ليأخذها، فَذَهَبت الكسرة، هَكَذَا مَرَّات؛ فَبكى سُلَيْمَان وتضرع إِلَى الله تَعَالَى فرحمه الله تَعَالَى ورد إِلَيْهِ ملكه.
وَكَانَ سَبَب رد ملكه إِلَيْهِ أَنه مر على قوم صيادين؛ فَسَأَلَهُمْ شَيْئا ليأكله فَأَعْطوهُ سَمَكَة ميتَة، فشق جوفها، فَوجدَ خَاتِمَة فِيهَا، فَجعله فِي إصبعه، وَعَاد إِلَيْهِ ملكه، وعكفت الطير فِي الْوَقْت على رَأسه، وَاجْتمعَ إِلَيْهِ الْإِنْس وَالْجِنّ وَالشَّيَاطِين.
وَأما مُدَّة ذهَاب ملكه كَانَ [أَرْبَعِينَ] يَوْمًا، وَأما حَدِيث صَخْر الجني فَإِنَّهُ لما أَخذ الْخَاتم، وَقد تحول فِي صُورَة سُلَيْمَان، ذهب وَقعد على كرسيه، وَجعل ينفذ مَا كَانَ ينفذهُ سُلَيْمَان إِلَّا أَن الله تَعَالَى مَنعه نسَاء سُلَيْمَان، هَكَذَا رُوِيَ عَن الْحسن.
وَقد ذكر غَيره أَنه كَانَ يُصِيب من نسَاء سُلَيْمَان فِي الْحيض، وَذكر أَنه يُصِيب فِي الْحيض وَغير الْحيض، وَالله أعلم.
وَاخْتلف القَوْل فِي أَنه هَل بَقِي مَعَه الْخَاتم أَولا؟ فأحد الْقَوْلَيْنِ: أَنه ذهب وَطرح الْخَاتم فِي الْبَحْر.
وَالْقَوْل الآخر: أَنه كَانَ مَعَه، وَالْقَوْل الْأَشْهر أولى وَأعرف.
وَذكر النقاش فِي تَفْسِيره: أَن بني إِسْرَائِيل أَنْكَرُوا أَمر صَخْر الجني؛ لِأَنَّهُ كَانَ يقْضِي بِغَيْر الْحق؛ فَذَهَبُوا إِلَى نسَاء سُلَيْمَان، وَقَالُوا لَهُنَّ: تنكرون من أَمر سُلَيْمَان شَيْئا، فَقُلْنَ: نعم؛ فَحِينَئِذٍ وَقع فِي قلبهم أَن سُلَيْمَان قد ابْتُلِيَ، وَأَن الله تَعَالَى سلبه ملكه، وَأَن الشَّخْص الَّذِي على الْكُرْسِيّ شَيْطَان.
442
فَأخذُوا التَّوْرَاة وَجَاءُوا إِلَى حول الْكُرْسِيّ وَجعل يقرءونها؛ فطار صَخْر إِلَى أشرف الْقصر، ثمَّ طَار من شرف الْقصر وَمر فَوَقع فِي الْبَحْر.
وَفِي التَّفْسِير: أَن الله تَعَالَى لما رد على سُلَيْمَان ملكه، أَمر الشَّيَاطِين يطْلب صَخْر، فوجدوه وَحَمَلُوهُ إِلَى سُلَيْمَان؛ فصفده بالحديد، وَجعله فِي صندوق، وألقاه فِي الْبَحْر، فَهُوَ فِي الْبَحْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة.
وَأما السَّبَب [الَّذِي] ابْتُلِيَ الله لأَجله سُلَيْمَان، فَفِيهِ أَقْوَال كَثِيرَة:
أَحدهَا: أَن الله تَعَالَى كَانَ أمره أَلا يتَزَوَّج امْرَأَة من غير بني إِسْرَائِيل، فَخَالف وَتزَوج امْرَأَة من غَيرهم، فابتلاه الله تَعَالَى بِمَا ذكرنَا.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه تزوج بِامْرَأَة؛ فعبدت الْمَرْأَة صنما فِي دَاره من غير أَن يشْعر سُلَيْمَان بذلك، فابتلاه الله تَعَالَى لِغَفْلَتِه، وَهَذَا قَول مَشْهُور.
وَالْقَوْل الثَّالِث: أَنه كَانَت عِنْده امْرَأَة، وَكَانَ يُحِبهَا حبا شَدِيدا، فخاصم أَخُوهَا إِلَى سُلَيْمَان فِي شَيْء مَعَ إِنْسَان، فطلبت الْمَرْأَة من سُلَيْمَان أَن يقْضِي لأَخِيهَا؛ فَقَالَ لَهَا: نعم، وَلم يفعل ذَلِك، فابتلاه الله تَعَالَى.
وَالْقَوْل الرَّابِع: أَنه احتجب من النَّاس ثَلَاثَة أَيَّام، وَلم ياذن لأحد، ذكره شهر بن حَوْشَب، وابتلاه الله تَعَالَى بِمَا ذكرنَا، وَأوحى الله تَعَالَى يَا سُلَيْمَان، إِنِّي إِنَّمَا بَعَثْتُك وأعطيتك هَذَا الْملك؛ لتنصف المظلومين، وَتَكون عونا للضعفاء على الأقوياء، وَلم أعطك لتحتجب عَن النَّاس.
وَالْقَوْل الْخَامِس: أَنه قَالَ مرّة: وَالله لأطوفن اللَّيْلَة على نسَائِي، وَكَانَ لَهُ ثلثمِائة امْرَأَة، وَسَبْعمائة سَرِيَّة، ولتحملن كل امْرَأَة مِنْهُنَّ، وتلد غُلَاما يُقَاتل فِي سَبِيل الله، فَقَالَ لَهُ الْملك: قل إِن شَاءَ الله، فَلم يقل، فَلم تحمل امْرَأَة مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَة وَاحِدَة حملت، فَولدت نصف إِنْسَان، وابتلاه الله تَعَالَى.
443
﴿أَنْت الْوَهَّاب (٣٥) فسخرنا لَهُ الرّيح تجْرِي بأَمْره رخاء حَيْثُ أصَاب (٣٦) ﴾ وَهَذَا خبر مَرْفُوع إِلَى النَّبِي وعَلى هَذَا القَوْل كَانَ الْجَسَد الَّذِي ألقِي على كرسيه هُوَ وَلَده، وَذكر بَعضهم: أَن سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام ولدله ابْن، فخاف عَلَيْهِ من الشَّيَاطِين، فأودعه السَّحَاب لتربيه؛ فَسقط على كرسيه مَيتا، فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿وألقينا على كرسيه جسدا﴾ وَالله أعلم.
وَالْقَوْل السَّادِس: مَا رُوِيَ عَن الْحسن قَالَ: إِنَّه كَانَ أصَاب من بعض نِسَائِهِ فِي حَالَة الْحيض، فابتلاه الله تَعَالَى بِمَا ذكرنَا، وَالله أعلم بِمَا كَانَ، وَلَا شكّ أَن الْآيَة تدل على أَن الله تَعَالَى قد أقعد على كرسيه غَيره، وسلبه شَيْئا كَانَ لَهُ.
وَقَوله: ﴿ثمَّ أناب﴾ أَي: رَجَعَ إِلَى ملكه.
444
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ رب اغْفِر لي وهب لي ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: كَيفَ قَالَ: ﴿لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي﴾ وَهل كَانَ هَذَا حسدا مِنْهُ لغيره، حَتَّى لَا ينَال غَيره مَا نَالَ هُوَ؟
وَالْجَوَاب: أَن معنى قَوْله: ﴿لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي﴾ أَي: لَا يكون لأحد من بعدِي على معنى انك تسلبه وتعطيه غَيره، كَمَا سلبت من قبل ملكي وَأعْطيت صخرا.. الْخَبَر.
وَيُقَال: إِنَّمَا طلب ذَلِك لتظهر كرامته وخصوصيته عِنْد الله تَعَالَى وَقد ثَبت بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " عرض لي اللَّيْلَة شَيْطَان، وَأَرَادَ أَن يفْسد عَليّ صَلَاتي؛ فأمكنني الله تَعَالَى مِنْهُ، فَأَخَذته وَأَرَدْت أَن أربطه حَتَّى تصبحوا فتنظروا إِلَيْهِ، ثمَّ ذكرت قَول أخي سُلَيْمَان ﴿رب هَب لي ملكا لَا يَنْبَغِي لأحد من بعدِي﴾ فتركته، ورده الله خائبا خاسئا ".
وَقَوله: ﴿إِنَّك أَنْت الْوَهَّاب﴾ أَي: الْمُعْطِي.
444
﴿وَالشَّيَاطِين كل بِنَاء وغواص (٣٧) وَآخَرين مُقرنين فِي الأصفاد (٣٨) هَذَا عطاؤنا فَامْنُنْ أَو أمسك بِغَيْر حِسَاب (٣٩) وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب (٤٠) وَاذْكُر﴾
445
قَوْله تَعَالَى: ﴿فسخرنا لَهُ الرّيح تجْرِي بأَمْره رخاء﴾ أَي: لينَة، وَقيل: رخاء مطيعة لَيست بعاصية.
وَقَوله: ﴿حَيْثُ أصَاب﴾ مَعْنَاهُ: حَيْثُ أَرَادَ، وَيُقَال: إِنَّه كَانَ يَغْدُو بإيلياء، ويقيل بقزوين، ويبيت بِبَابِل، وَالْعرب تَقول: أصَاب الصَّوَاب فاخطأ الْجَواب أَي: أَرَادَ الصَّوَاب فَأَخْطَأَ الْجَواب وَقَالَ الشَّاعِر:
(وَغَيرهَا مَا غير النَّاس قبلهَا فناءت وحاجات الْفُؤَاد تصيبها)
أَي: تريدها،
وَقَوله: ﴿وَالشَّيَاطِين كل بِنَاء وغواص﴾ أَي: وسخرنا الشَّيَاطِين لَهُ كل بِنَاء وغواص مِنْهُم، وتسخير الرّيح وَالشَّيَاطِين لَهُ بعد ابتلائه بِمَا ذكرنَا.
وَقَوله: ﴿وَآخَرين مُقرنين فِي الأصفاد﴾ أَي: مغلولين فِي السلَاسِل، وَكَانَ يَأْخُذ [الشَّيْطَان] فيقربه بالشيطان ويصفدها فِي الْحَدِيد ويوبقهما فِي السلَاسِل ثمَّ يجعلهما فِي صندوق من حَدِيد، ويلقي الصندوق فِي قَعْر الْبَحْر.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَذَا عطاؤنا﴾ فِيهِ أَقْوَال: أَحدهَا وَهُوَ الأولى أَن الْملك عطاؤنا لَك ﴿فَامْنُنْ﴾ أَي: أعْط من شِئْت.
وَقَوله: ﴿أَو امسك﴾ أَي: امْنَعْ من شِئْت ﴿بِغَيْر حِسَاب﴾ أَي: بِغَيْر حرج.
وَالْقَوْل الثَّانِي: ﴿هَذَا عطاؤنا﴾ أَي: تسخير الشَّيَاطِين.
وَقَوله: ﴿فَامْنُنْ أَو أمسك﴾ أَي: أرسل من شِئْت، واحبس من شِئْت.
وَالْقَوْل الثَّالِث: ﴿هَذَا عطاؤنا﴾ أَي: النسْوَة عطاؤنا. وَقَوله: ﴿فَامْنُنْ أَو أمسك﴾ أَي: طلق من شِئْت، واحبس من شِئْت ﴿بِغَيْر حِسَاب﴾ أَي: بِغَيْر حرج،
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن لَهُ عندنَا لزلفى وَحسن مآب﴾ أَي: حسن مرجع.
445
﴿عَبدنَا أَيُّوب إِذْ نَادَى ربه إِنِّي مسني الشَّيْطَان وَعَذَاب (٤١) اركض برجلك هَذَا مغتسل بَارِد وشراب (٤٢) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهله وَمثلهمْ مَعَهم رَحْمَة منا وذكرى لأولي﴾
446
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاذْكُر عَبدنَا أَيُّوب إِذْ نَادَى ربه أَنى مسنى الشَّيْطَان بِنصب وَعَذَاب﴾ وَقُرِئَ: " بِنصب وَعَذَاب " بِفَتْح النُّون وَالصَّاد، وَالنّصب والنصيب بِمَعْنى وَاحِد كالحزنن والحزن، وَيُقَال: بِنصب فِي الْجَسَد، وَعَذَاب فِي المَال.
وَقد بَينا قصَّة أَيُّوب من قبل وَمَا أَصَابَهُ من الْبلَاء، وَذكرنَا مُدَّة بلائه، وَيُقَال: إِنَّه مكث فِي الْبلَاء سبع سِنِين وَسَبْعَة أشهر وَسَبْعَة أَيَّام، وَكَانَت الدَّوَابّ تجْرِي فِي جسده، وَقد ألْقى على مزبلة، وتأذى مِنْهُ قومه غَايَة الْأَذَى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿اركض﴾ أَي: اركض الأَرْض برجلك، فَيُقَال: إِنَّه داس الأَرْض دوسة، فنبعت عين [مَاء] ؛ فَأمره الله تَعَالَى أَن يغْتَسل مِنْهَا، فاغتسل فَذهب كل دَاء كَانَ فِي جسده، وَمَشى أَرْبَعِينَ خطْوَة، فَأمره الله تَعَالَى أَن يدوس الأَرْض بِرجلِهِ دوسة أُخْرَى؛ فَفعل؛ فنبعت عين أعذب مَا تكون وأبرده؛ فَأمره الله تَعَالَى أَن يشرب مِنْهَا؛ فَذهب كل دَاء كَانَ فِي بَاطِنه، وَصَارَ كأصح مَا يكون من الرِّجَال وأكملهم؛ فَهُوَ معنى قَوْله تَعَالَى: ﴿هَذَا مغتسل بَارِد وشراب﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ أَهله﴾ قد بَينا أَن الله تَعَالَى رد عَلَيْهِ أَهله وَأَوْلَاده الَّذين أهلكهم بأعيانهم، وَقد قُلْنَا غير هَذَا، وَالْقَوْل الأول أشبه بِظَاهِر الْقُرْآن، وَيُقَال: إِن الأَرْض انشقت؛ فَرَأى إبِله وبقره وغنمه على هيئتها وَخرجت إِلَيْهِ، وَرَأى أَيْضا أَهله وَأَوْلَاده كَهَيْئَتِهِمْ وَخَرجُوا إِلَيْهِ.
وَقَوله: ﴿وَمثلهمْ مَعَهم﴾ يُقَال: [إِنَّهُم كَانُوا سَبْعَة] بَنِينَ، وَثَلَاث بَنَات فَأعْطَاهُ الله تَعَالَى مثل عَددهمْ، وردهم الله بأعيانهم.
وَقَوله: ﴿رَحْمَة منا وذكرى لأولي الْأَلْبَاب﴾ أَي: لأولي الْعُقُول.
446
﴿الْأَلْبَاب (٤٣) وَخذ بِيَدِك ضغثا فَاضْرب بِهِ وَلَا تَحنث إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نعم العَبْد إِنَّه أواب (٤٤) وَاذْكُر عبادنَا إِبْرَاهِيم وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب أولي الْأَيْدِي والأبصار (٤٥) ﴾
447
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَخذ بِيَدِك ضغثا﴾ أَي: فَقُلْنَا لَهُ: وَخذ بِيَدِك ضغثا، والضغث: كل مَا يمْلَأ الْكَفّ من خشب أَو حشيش أَو غَيره.
قَوْله: ﴿فَاضْرب بِهِ وَلَا تَحنث﴾ يَعْنِي: فَاضْرب بِهِ امْرَأَتك، وَلَا تَحنث فِي يَمِينك، وَكَانَ سَبَب يَمِينه أَن الْمَرْأَة أَتَتْهُ بِطَعَام يَوْمًا أَكثر مِمَّا كَانَت تَأتيه كل يَوْم؛ فاتهمها بخيانة فِي نَفسهَا، وَكَانَت بريئة، فَحلف ليضربنها [مائَة] سَوط إِذا برأَ من مَرضه.
وَيُقَال: إِن إِبْلِيس قعد على طَرِيق الْمَرْأَة طَبِيبا يداوي النَّاس، فمرت بِهِ الْمَرْأَة، وَقَالَت: إِن لي مَرِيضا وَأحب أَن تداويه، فَقَالَ لَهَا: أَنا أداويه، فَلَا أُرِيد شَيْئا سوى أَن يَقُول إِذا شفيته: أَنْت شفيتني، فَجَاءَت إِلَى أَيُّوب وَذكرت لَهُ ذَلِك، فَعرف أَنه كَانَ إِبْلِيس اللعين، فَغَضب وَحلف على مَا ذكرنَا.
وَيُقَال: إِنَّهَا باعت ذؤابتيها بِرَغِيفَيْنِ لطعامه، فَلَمَّا رأى ذَلِك أَيُّوب عَلَيْهِ السَّلَام غضب وَحلف، وَهَذَا قَول غَرِيب.
وَقَوله: ﴿فَاضْرب بِهِ وَلَا تَحنث﴾ يَعْنِي: فَاضْرب بالضغث الَّذِي يشْتَمل على مائَة عود صغَار ﴿وَلَا تَحنث﴾ أَي: وَلَا تدع الضَّرْب فتحنث، قَالَ مُجَاهِد: هَذَا لأيوب خَاصَّة، وَقَالَ عَطاء: لَهُ وَلِلنَّاسِ عَامَّة.
وَقَوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نعم العَبْد إِنَّه أواب﴾ أَي: رجاع إِلَى طَاعَة الله. وَفِي الْقِصَّة: أَن أَيُّوب قيل لَهُ: مَا أَشد مَا مر عَلَيْك فِي بلائك؟ فَقَالَ: شماتة الْأَعْدَاء.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاذْكُر عبادنَا إِبْرَاهِيم وَإِسْحَق وَيَعْقُوب أولي الْأَيْدِي والأبصار﴾ إِنَّمَا خص هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة؛ لِأَن الله تَعَالَى ابْتَلَاهُم فصبروا، أما ابتلاء إِبْرَاهِيم فَكَانَ بالنَّار، وابتلاء إِسْحَق كَانَ بِالذبْحِ، وَأما ابتلاء يَعْقُوب بفقد الْوَلَد.
وَقَوله: ﴿أولي الْأَيْدِي والأبصار﴾ مَعْنَاهُ: أولي الْقُوَّة فِي الطَّاعَة، وأولي الْأَبْصَار
447
﴿إِنَّا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدَّار (٤٦) وَإِنَّهُم عندنَا لمن المصطفين الأخيار (٤٧) وَاذْكُر إِسْمَاعِيل وَالْيَسع وَذَا الكفل وكل من الأخيار (٤٨) هَذَا ذكر وَإِن لِلْمُتقين﴾ فِي الْمعرفَة، وَقيل: أولي الْقُوَّة ظَاهرا، وأولي الْأَبْصَار بَاطِنا، فالقوة قُوَّة الْجَوَارِح، والأبصار أبصار الْقُلُوب، قَالَ الله تَعَالَى ﴿فَإِنَّهَا لَا تعمى الْأَبْصَار وَلَكِن تعمى الْقُلُوب الَّتِي فِي الصُّدُور﴾.
448
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِنَّا أخلصناكم بخالصة ذكرى الدَّار﴾ وَقُرِئَ: " بخالصة " من غير تَنْوِين، فَأَما بِالتَّنْوِينِ: فَمَعْنَاه: بخلة خَالِصَة، وَهِي ذكرى الدَّار.
وَقيل: إِن ذكرى الدَّار بدل عَن قَوْله: ﴿خَالِصَة﴾ على هَذِه الْقِرَاءَة، وَأما الْقِرَاءَة بِالْإِضَافَة، [فمعناها] : أخلصناهم بِأَفْضَل مَا فِي الْآخِرَة، حكى هَذَا عَن أبي زيد، وَقَالَ مُجَاهِد: أخلصناهم مَا ذكرنَا بِالْجنَّةِ لَهُم.
وَعَن مَالك بن دِينَار قَالَ ابْن عَبَّاس: أزلنا عَن قُلُوبهم حب الدُّنْيَا وَذكرهَا وأخلصناهم بحب الْآخِرَة وَذكرهَا، وَعَن بَعضهم: وأخلصناهم عَن الْآفَات والعاهات، وجعلناهم يذكرُونَ الدَّار الْآخِرَة، وَالْأولَى فِي قَوْله: ﴿أخلصناهم﴾ أَي: جعلناهم مُخلصين بِمَا أخبرنَا عَنْهُم،
وَقَوله: ﴿وَإِنَّهُم عندنَا لمن المصطفين الأخيار﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَاذْكُر إِسْمَاعِيل وَالْيَسع﴾ إِسْمَاعِيل: هُوَ إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، وَقَوله: ﴿وَالْيَسع﴾ اليسع: هُوَ نَبِي من الْأَنْبِيَاء، وَيُقَال: اليسع هُوَ تلميذ إلْيَاس النَّبِي _ عَلَيْهِ السَّلَام _ وَلما رفع الله إلْيَاس _ عَلَيْهِ السَّلَام _ خلف اليسع فِي قومه، وَقَوله: ﴿وَذَا الكفل﴾ قد بَينا، وَيُقَال: إِنَّه رجل كفل لملك بِالْجنَّةِ إِن آمن وأطاع الله تَعَالَى وَقَوله: ﴿وكل من الأخيار﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
[قَوْله تَعَالَى: ﴿هَذَا ذكر وَإِن لِلْمُتقين لحسن مآب﴾ ].
448
﴿لحسن مآب (٤٩) جنَّات عدن مفتحة لَهُم الْأَبْوَاب (٥٠) متكئين فِيهَا يدعونَ فِيهَا بفاكهة كَثِيرَة وشراب (٥١) وَعِنْدهم قاصرات الطّرف أتراب (٥٢) هَذَا مَا توعدون ليَوْم الْحساب (٥٣) إِن هَذَا لرزقنا مَا لَهُ من نفاد (٥٤) هَذَا وَإِن للطاغين لشر مآب (٥٥) جَهَنَّم يصلونها فبئس المهاد (٥٦) هَذَا فليذوقوه حميم وغساق (٥٧) وَآخر﴾
449
قَوْله تَعَالَى: ﴿جنَّات عدن مفتحة لَهُم الْأَبْوَاب﴾ أَي: أَبْوَابهَا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿متكئين فِيهَا يدعونَ فِيهَا بفاكهة كَثِيرَة وشراب﴾ أَي: بفاكهة الْجنَّة وشرابها، وَذكر كَثِيرَة؛ لِأَن مَا فِي الْجنَّة كثير لعدم انْقِطَاعه، واتساع وجوده.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَعِنْدهم قاصرات الطّرف﴾ أَي: قصرن أطرافهن على أَزوَاجهنَّ، وَقَوله: ﴿أتراب﴾ أَي: أَمْثَال، وَيُقَال: لدات مستويات الْأَسْنَان، وَعَن مُجَاهِد: أتراب متواخيات لَا تتعادين وَلَا تتباغضن، وَقيل: لَا تتغايرن، قَالَ يحيى بن سَلام: بَنَات ثَلَاث وَثَلَاثِينَ سنة، وَعَن بَعضهم: أتراب أَي: خُلِقْنَ على مقادير أَزوَاجهنَّ، وَأنْشد الشَّاعِر فِي القاصرات:
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَذَا مَا توعدون ليَوْم الْحساب﴾ أَي: هَذَا الَّذِي أخبرنَا عَنهُ هُوَ مَا توعدون ليَوْم الْحساب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن هَذَا لرزقنا مَا لَهُ من نَفاذ﴾ أَي: انْقِطَاع، وَمعنى قَوْله: ﴿لرزقنا﴾ أَي: إعطاؤنا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَذَا وَإِن للطاغين لشر مآب﴾ أَي: مرجع: وَالْمرَاد من الطاغين هم الْكفَّار.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿جَهَنَّم يصلونها﴾ أَي: يدْخلُونَهَا، وَقيل: يقاسون حرهَا، وَقَوله: ﴿فبئس المهاد﴾ أَي: فبئس مَا مهدوا لأَنْفُسِهِمْ، وَيُقَال: بئس الْفراش.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَذَا فليذوقوه حميم وغساق﴾ يُقَال: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير
449
﴿من شكله أَزوَاج (٥٨) هَذَا فَوْج مقتحم مَعكُمْ لَا مرْحَبًا بهم إِنَّهُم صالوا النَّار (٥٩) ﴾ وَمَعْنَاهُ: هَذَا حميم وغساق فليذوقوه، وَأما معنى الْحَمِيم فقد بَينا، وَهُوَ المَاء الْحَار الَّذِي انْتهى فِي الْحَرَارَة، وَأما الغساق فَهُوَ الْقَيْح الَّذِي يسيل من جُلُودهمْ، وَعَن السّديّ قَالَ: الدُّمُوع الَّتِي تسيل من أَعينهم، وَحكى بَعضهم عَن ابْن عَبَّاس: أَنه الزَّمْهَرِير يحرقهم بِبرْدِهِ، وَحكى النقاش: أَن الغساق هُوَ المنتن بالتركية، فعرب، وَقد قرئَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف، فبعضهم قَالَ: لَا فرق بَينهمَا فِي الْمَعْنى، وَبَعْضهمْ فرق بَينهمَا بِبَعْض الْوُجُوه الَّتِي ذَكرنَاهَا.
450
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَأخر من شكله أَزوَاج﴾ وَقُرِئَ: " وَآخر من شكله "، فَقَوله: ﴿وَأخر﴾ يتَنَاوَل الْعدَد وَقَوله: ﴿وَأخر﴾ بِالْمدِّ يتَنَاوَل الْوَاحِد.
وَقَوله: ﴿من شكله﴾ أَي: مثله، وَقَوله: ﴿أَزوَاج﴾ أَي: أَصْنَاف، وَقيل: أَنْوَاع. قَالَ الشَّاعِر:
(من القاصرات الطّرف لَو دق محول من الذَّر فَوق الإتب مِنْهَا لأثرا)
(لما اكتست من ضرب كل شكل حمرا وخضرا كاخضرار البقل)
وَمعنى الْآيَة: أَن لأهل النَّار أنواعا أخر من الْعَذَاب على شكل مَا سبق ذكره يَعْنِي: فِي الشدَّة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿هَذَا فَوْج مقتحم مَعكُمْ﴾ أَي: فَوْج مقتحم مَعكُمْ بعد الفوج الأول، والاقتحام هُوَ الدُّخُول، وَاخْتلف القَوْل فِي الفوج الأول والفوج الثَّانِي.
فأحد الْقَوْلَيْنِ: الفوج الأول هم بَنو إِسْرَائِيل، والفوج الثَّانِي هم بَنو آدم، وَيُقَال: الفوج الأول هم الرؤساء والقادة، والفوج الثَّانِي هم الأتباع.
وَقَوله: ﴿لَا مرْحَبًا بهم﴾ الرحب هُوَ السعَة، وَقَول الْقَائِل: لَا مرْحَبًا بفلان أَي: لَا رَحبَتْ أَي: لَا اتسعت عَلَيْهِ، قَالَ الشَّاعِر:
450
﴿قَالُوا بل أَنْتُم لَا مرْحَبًا بكم أَنْتُم قدمتموه لنا فبئس الْقَرار (٦٠) قَالُوا رَبنَا من قدم لنا هَذَا فزده عذَابا ضعفا فِي النَّار (٦١) وَقَالُوا مَا لنا لَا نرى رجَالًا كُنَّا نعدهم من الأشرار (٦٢) أتخذناهم سخريا أم زاغت عَنْهُم الْأَبْصَار (٦٣) إِن ذَلِك لحق تخاصم أهل النَّار﴾
وَقَوله: ﴿إِنَّهُم صالوا النَّار﴾ أَي: داخلوا النَّار مَعكُمْ،
451
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالُوا بل أَنْتُم لَا مرْحَبًا بكم﴾ يَعْنِي: قَالَ الأتباع للقادة بل أَنْتُم لَا مرْحَبًا بكم.
وَقَوله: ﴿أَنْتُم قدمتموه لنا﴾ أَي: قدمتم هَذَا الْعَذَاب لنا بدعائكم إيانا إِلَى الضَّلَالَة وَالْكفْر، وَقَوله: ﴿فبئس الْقَرار﴾ أَي: فبئس دَار الْقَرار النَّار.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿قَالُوا رَبنَا من قدم لنا هَذَا﴾ أَي: قَالَ الأتباع: رَبنَا من قدم لنا هَذَا؟ وَقَوله: ﴿فزده عذَابا ضعفا فِي النَّار﴾ أَي: ضاعف عَلَيْهِ الْعَذَاب فِي النَّار.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَقَالُوا مَا لنا لَا نرى رجَالًا كُنَّا نعدهم من الأشرار﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: يَقُول أَبُو جهل وذووه حِين يدْخلُونَ النَّار: أَيْن بِلَال؟ أَيْن عمار؟ أَيْن خباب؟ وَفُلَان وَفُلَان؟
وَعَن بَعضهم قَالَ: أهل النَّار يَقُولُونَ هَذَا حِين يفقدون أهل الْجنَّة.
وَقَوله: ﴿كُنَّا نعدهم من الأشرار﴾ قَالَ بَعضهم: من الأرذال، وَقَالَ بَعضهم: كُنَّا نعدهم من شرار قَومنَا؛ لأَنهم قد تركُوا دين آبَائِهِم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿اتخذناهم سخريا﴾ أَي: كُنَّا سنخر مِنْهُم، وَقُرِئَ: " أتخذناهم سخريا " على الِاسْتِفْهَام، قَالَ أهل الْمعَانِي: وَالْقِرَاءَة الأولى أولى، لأَنهم قد علمُوا حَقِيقَة الْأُمُور فِي الْقِيَامَة، فَلَا يتَصَوَّر مِنْهُم الِاسْتِفْهَام، وَقَالَ الْفراء: الْألف فِي قَوْله: ﴿اتخذناهم﴾ ألف التوبيخ والتعجب، وَالْعرب تذكر مثل هَذِه الْألف على طَرِيق التوبيخ والتعجب.
وَقَوله: ﴿أم زاغت عَنْهُم الْأَبْصَار﴾ أَي: مَالَتْ عَنْهُم الْأَبْصَار، وَمَعْنَاهُ: أَنهم مَعنا فِي النَّار وَلَا نراهم.
451
( ﴿٦٤) قل إِنَّمَا أَنا مُنْذر وَمَا من إِلَه إِلَّا الله الْوَاحِد القهار (٦٥) رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا الْعَزِيز الْغفار (٦٦) قل هُوَ نبأ عَظِيم (٦٧) أَنْتُم عَنهُ معرضون (٦٨) مَا كَانَ﴾
452
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن ذَلِك لحق تخاصم أهل النَّار﴾ أَي: مُرَاجعَة بَعضهم بَعْضًا القَوْل بِمَنْزِلَة المتخاصمين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل أَنما أَنا مُنْذر وَمَا من إِلَه إِلَّا الله الْوَاحِد القهار﴾ أَي: أَنا الرَّسُول الْمُنْذر، وَالله الْوَاحِد القهار [القاهر] عباده بِمَا يُرِيد.
قَوْله تَعَالَى: ﴿رب السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا الْعَزِيز الْغفار﴾ أَي: المنيع فِي ملكه، الْغفار لذنوب عباده.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل هُوَ نبأ عَظِيم﴾ أَي: الْقُرْآن نبأ عَظِيم، وَقيل: ذُو شَأْن عَظِيم، وَأول بَعضهم النبأ الْعَظِيم بالقيامة،
وَقَوله: ﴿انتم عَنهُ معرضون﴾ أَي: عَنهُ لاهون، وَله تاركون.
قَوْله تَعَالَى: ﴿مَا كَانَ لي من علم بالملأ الْأَعْلَى إِذْ يختصون﴾ ذهب أَكثر أهل التَّفْسِير إِلَى أَن المُرَاد بالملأ الْأَعْلَى هم الْمَلَائِكَة، وَهَذَا قَول ابْن عَبَّاس وَغَيره.
وَقَوله: ﴿إِذْ يختصمون﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ هُوَ قَوْلهم لله تَعَالَى فِي أَمر آدم: ﴿أَتجْعَلُ فِيهَا من يفْسد فِيهَا ويسفك الدِّمَاء﴾ الْآيَة إِلَى آخرهَا.
وَأما الْمَأْثُور عَن النَّبِي فِي الْآيَة فَهُوَ مَا رَوَاهُ معَاذ بن جبل رَضِي الله عَنهُ " أَن النَّبِي احْتبسَ عَنَّا ذَات غَدَاة حَتَّى كدنا نتراءى عين الشَّمْس، ثمَّ خرج سَرِيعا، وثوب بِالصَّلَاةِ، وَصلى رَكْعَتَيْنِ تجوز فيهمَا، ثمَّ قَالَ: هَل تَدْرُونَ بِمَا احْتبست عَنْكُم؟ فَقُلْنَا: لَا. فَقَالَ: إِنِّي قُمْت من اللَّيْل وتطهرت وَصليت مَا شَاءَ الله، ثمَّ نَعَست واستثقلت،
452
﴿لي من علم بالملأ الْأَعْلَى إِذْ يختصمون (٦٩) إِن يُوحى إِلَيّ إِلَّا أَنما أَنا نَذِير مُبين﴾ ) فَإِذا رَبِّي فِي أحسن صُورَة.
فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، قلت: لبيْك.
فَقَالَ: اتدري فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى؟ فَقلت: لَا
فَوضع كَفه بَين كَتِفي حَتَّى وجدت برد أنامله فِي ثندوتي؛ فتجلى لي كل شَيْء، وعرفته.
ثمَّ قَالَ لي: يَا مُحَمَّد، أَتَدْرِي فيمَ يخْتَصم الْمَلأ الْأَعْلَى؟
فَقلت: نعم فِي الْكَفَّارَات، قَالَ: مَا هن؟ قلت: فِي مشي الْأَقْدَام إِلَى الْجَمَاعَات، وإسباغ الْوضُوء على المكروهات، وَالْجُلُوس فِي الْمَسَاجِد بعد الصَّلَاة.
قَالَ: وفيم أَيْضا؟
قلت: فِي إطْعَام الطَّعَام، ولين الْكَلَام، وَالصَّلَاة بِاللَّيْلِ وَالنَّاس نيام.
فَقَالَ لي: سل يَا مُحَمَّد.
فَقلت: أَسأَلك فعل الْخيرَات، وَترك الْمُنْكَرَات، وَحب الْمَسَاكِين، وَأَن تغْفر لي وترحمني، وَأَسْأَلك حبك، وَحب من يجبك وَحب عمل يقربنِي إِلَى حبك.
ثمَّ قَالَ النَّبِي: " إنَّهُنَّ حق فادرسوهن وتعلموهن " قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث صَحِيح، وَقد روى هَذَا الْخَبَر بِوُجُوه أخر، وَلم يذكر فِي بَعْضهَا النّوم، وأصحها هَذِه الرِّوَايَة، وَالله أعلم.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن الْمَلأ الْأَعْلَى هم أَشْرَاف قُرَيْش واختصامهم أَن بَعضهم قَالُوا: الْمَلَائِكَة بَنَات الله، وَبَعْضهمْ قَالُوا غير ذَلِك، فَهُوَ اختصامهم، وَالأَصَح هُوَ القَوْل الأول.
453
( ﴿٧٠) إِذْ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة إِنِّي خَالق بشرا من طين (٧١) فَإِذا سويته ونفخت فِيهِ من روحي فقعوا لَهُ ساجدين (٧٢) فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلَّا إِبْلِيس استكبر وَكَانَ من الْكَافرين (٧٤) قَالَ يَا إِبْلِيس مَا مَنعك أَن تسْجد لما خلقت بيَدي أستكبرت أم كنت من العالين (٧٥) قَالَ أَنا خير مِنْهُ خلقتني من نَار وخلقته من طين﴾
واختصام الْمَلَائِكَة هُوَ كَلَامهم فِي هَذِه الْأَعْمَال، وأقدار المثوبة فِيهَا، وَزِيَادَة بعض الْأَعْمَال على الْبَعْض فِي الثَّوَاب.
454
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن يُوحى إِلَيّ إِلَّا أَنما أَنا نَذِير مُبين﴾ أَي: مَا يُوحى إِلَيّ إِلَّا أَنما أَنا نَذِير مُبين.
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِذْ قَالَ رَبك للْمَلَائكَة إِنِّي خَالق بشرا من طين﴾ يَعْنِي: آدم صلوَات الله عَلَيْهِ
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَإِذا سويته﴾ أَي: جمعت خلقه وأتممته.
وَقَوله: ﴿ونفخت فِيهِ من روحي فقعوا لَهُ ساجدين﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله تَعَالَى: ﴿فَسجدَ الْمَلَائِكَة كلهم أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيس استكبر وَكَانَ من الْكَافرين﴾ قد بَينا،
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٣: ص وهي مكية
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ يَا إِبْلِيس مَا مَنعك أَن تسْجد لما خلقت بيَدي﴾ قد بَينا.
وَقَوله: ﴿أستكبرت﴾ أَي: تعظمت، وَقَوله: ﴿أم كنت من العالين﴾ أَي: من الْقَوْم المتكبرين، قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ إِبْلِيس من أَشْرَاف الْمَلَائِكَة، وَكَانَ خَازِن الْجنان، وَأمين السَّمَاء الدُّنْيَا، فَأَعْجَبتهُ نَفسه، وَرَأى أَن لَهُ فضلا على غَيره، فَلَمَّا أمره الله تَعَالَى بِالسُّجُود لآدَم امْتنع لذَلِك الَّذِي كَانَ فِي نَفسه.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ أَنا خير مِنْهُ خلقتني من نَار وخلقته من طين﴾ وَإِنَّمَا قَالَ إِبْلِيس هَذَا لِأَنَّهُ [ظن] أَن الدُّنْيَا فضلا على الطين، وَلم يكن على مَا ظن، بل الْفضل لمن أعطَاهُ الله الْفضل.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ فَاخْرُج مِنْهَا فَإنَّك رجيم﴾ أَي: مرجوم، والمرجوم: هُوَ المبعد
454
( ﴿٧٦) قَالَ فَاخْرُج مِنْهَا فَإنَّك رجيم (٧٧) وَإِن عَلَيْك لَعْنَتِي إِلَى يَوْم الدّين (٧٨) قَالَ رب فأنظرني إِلَى يَوْم يبعثون (٧٩) قَالَ فَإنَّك من المنظرين (٨٠) إِلَى يَوْم الْوَقْت الْمَعْلُوم (٨١) قَالَ فبعزتك لأغوينهم أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين (٨٣) قَالَ فَالْحق وَالْحق أَقُول (٨٤) لأملأن جَهَنَّم مِنْك وَمِمَّنْ تبعك مِنْهُم أَجْمَعِينَ (٨٥) قل﴾ باللعنة،
455
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِن عَلَيْك لَعْنَتِي إِلَى يَوْم الدّين﴾ أَي: إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، وَقيل: إِلَى يَوْم الْحساب.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ رب فأنظرني إِلَى يَوْم يبعثون﴾ أَي: أمهلني،
وَقَوله: ﴿قَالَ فَإنَّك من المنظرين إِلَى يَوْم الْوَقْت الْمَعْلُوم﴾ أَي: إِلَى نفخ الصُّور، وَهُوَ النفخة الأولى، وَإِنَّمَا أَرَادَ اللعين أَن يُمْهل إِلَى النفخة الثَّانِيَة فينجو من الْمَوْت، فَعلم الله تَعَالَى مُرَاده، فَلم يجبهُ إِلَى مُرَاده، وأمهله إِلَى أَن ينْفخ فِي الصُّور للنفخة الأولى، وَيَمُوت الْخلق فَيَمُوت مَعَهم.
إلى يوم الوقت المعلوم ) أي : إلى نفخ الصور، وهو النفخة الأولى، وإنما أراد اللعين أن يمهل إلى النفخة الثانية فينجو من الموت، فعلم الله تعالى مراده، فلم يجبه إلى مراده، وأمهله إلى أن ينفخ في الصور للنفخة الأولى، ويموت الخلق فيموت معهم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ فبعزتك لأغوينهم أَجْمَعِينَ﴾ أَي: لأضلنهم أَجْمَعِينَ.
وَقَوله تَعَالَى: ﴿إِلَّا عِبَادك مِنْهُم المخلصين﴾ أَي: الَّذين أخلصتهم لنَفسك.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قَالَ فَالْحق وَالْحق أَقُول﴾ وَقُرِئَ: " فَالْحق وَالْحق أَقُول "، أما الْقِرَاءَة بِالنّصب فيهمَا فعلى معنين:
أَحدهمَا: حَقًا حَقًا أَقُول: وَالْمعْنَى الثَّانِي: أَن الأول نصب على معنى أَقُول الْحق، وَالثَّانِي: نصب على الإغراء كَأَنَّهُ قَالَ: الزموا الْحق، ذكره الْأَزْهَرِي، وَأما الْقِرَاءَة الثَّانِيَة قَوْله: ﴿فَالْحق﴾ أَي: أَنا الْحق، وَقيل: مني الْحق، وَقَوله: ﴿وَالْحق﴾ أَي: أَقُول الْحق،
وَقَوله: ﴿لأملأن جَهَنَّم مِنْك وَمِمَّنْ تبعك مِنْهُم أَجْمَعِينَ﴾ ظَاهر الْمَعْنى.
قَوْله: ﴿قل مَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر﴾ أَي: من جعل، وَقَوله: ﴿وَمَا أَنا من المتكفلين﴾ أَي: لم أقل مَا قلته من تِلْقَاء نَفسِي، وكل من قَالَ شَيْئا من تِلْقَاء نَفسه فقد تكلّف لَهُ.
455
﴿مَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ من أجر وَمَا أَنا من المتكلفين (٨٦) إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين (٨٧) ولتعلمن نبأه بعد حِين (٨٨).﴾
456
قَوْله تَعَالَى: ﴿إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين﴾ أَي: مَا هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين أَي: شرف للْعَالمين تذكير لَهُم.
قَوْله تَعَالَى: ﴿ولتعلمن نبأه بعد حِين﴾ أَي: يَوْم الْقِيَامَة، وَيُقَال: بعد الْمَوْت، وَقيل: يَوْم بدر، وَكَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ يَقُول: يَا ابْن آدم، عِنْد الْمَوْت يَأْتِيك الْخَبَر.
456

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿تَنْزِيل الْكتاب من الله الْعَزِيز الْحَكِيم (١) إِنَّا أنزلنَا إِلَيْك الْكتاب بِالْحَقِّ فاعبد الله مخلصا لَهُ الدّين (٢) أَلا لله الدّين الْخَالِص وَالَّذين اتَّخذُوا من دونه أَوْلِيَاء مَا﴾
تَفْسِير سُورَة الزمر
وَيُقَال: سُورَة الغرف، وَهِي مَكِّيَّة إِلَّا قَوْله تَعَالَى: ﴿الله نزل أحسن الحَدِيث﴾ وَإِلَّا قَوْله تَعَالَى: ﴿قل يَا عبَادي الَّذين أَسْرفُوا على أنفسهم﴾ وَعَن وهب بن مُنَبّه أَنه قَالَ: من أحب أَن يعرف قَضَاء الله تَعَالَى بَين خلقه، فليقرأ سُورَة الغرف.
457
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
(إِذا جِئْت بوابا لَهُ قَالَ مرْحَبًا أَلا مرْحَبًا ناديك غير مضيق)