مدنية
وآياتها ثمان وثلاثون
كلماتها : ٥٤٠ ؛ حروفها : ٢٣٤٠.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ الذين كفروا وضلوا عن سبيل الله أضل أعمالهم( ١ ) ﴾.الذين جحدوا جلال الله تعالى وسلطانه وحديثه، وأعرضوا عن طريق الإسلام ومنعوا غيرهم أن يسلكوه هؤلاء يبطل الله تعالى أعمالهم، ولا يثيبهم على ما يفعلون من معروف كصلة الأرحام، وإكرام الضيف، وحماية الجار.
أو المعنى :[ أبطل جل وعلا ما عملوه من الكيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم –كالإنفاق الذي أنفقوه في سفرهم إلى محاربته عليه الصلاة والسلام وغيره- بنصر رسوله صلى الله عليه وسلم وإظهار دينه على الدين كله ]. ١
نقل صاحب تفسير غرائب القرآن : إن أول هذه السورة مناسب لآخر السورة التي سبقتها- سورة الأحقاف :﴿ ... فهل يهلك إلا القوم الفاسقون ﴾- كأنه قيل : كيف يهلك الفاسق إذا كان له أعمال صالحة ؟ فأجاب :﴿ الذين كفروا وصدّوا ﴾ منعوا الناس عن الإيمان صدّا، أو امتنعوا عنه صدودا.
والذين صدقوا بعقولهم واستيقنوا بقلوبهم واطمأنت صدورهم بجوانب الإيمان ؛ ثم صدقت جوارحهم ما انطوت عليه جوانحهم فاستقاموا على الأعمال الصالحة التي ترضي المولى- تبارك اسمه- وصدّقوا ما أوحي إلى محمد- وهذا من عطف الخاص على العام- فإن الإيمان بأقدس الكتب السماوية وأبقاها مندرج في الإيمان المذكور أول الآية، لكن خصه بتكرار الإيمان به منفردا تنويها بشأنه، وتنبيها على سمو مقامه بين ما يجب الإيمان به ؛ ﴿ وهو الحق من ربهم ﴾ فالقرآن حق نسخ ما قبله، ولا يأتي بعده ما ينسخه، بل هو خالد، تكفل الله تعالى بحفظه.
﴿ كفر عنهم سيئاتهم ﴾ أزالها عنهم وصفح وعفا، فلن يؤاخذهم بذنوب يسيرة ألموا بها ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما ﴾١ ؛ ﴿ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم.. ﴾٢. ﴿ وأصلح بالهم ﴾ أصلح حالهم وشأنهم في الدين والدنيا ؛ ﴿ .. ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ﴾٣.
٢ سورة النجم. من الآية ٣٢..
٣ سورة النجم. من الآية ٣١..
ربنا يقضي بالحق ولا يظلم الناس شيئا، فهو –سبحانه- أضل أعمال الكافرين لأنها كانت بطرا ورئاء الناس وابتُغي بها العلوُّ والفساد، فلما كانت للباطل أبطلها الله ﴿ .. كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب. أو كظلمات في بحر لُجّي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ﴾١.
وأهل التصديق والإيمان، والطاعة والإسلام، يتقبل الله عنهم أحسن ما عملوا ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة لأنهم استجابوا لدعوة ربهم إلى دار السلام فأدخلهم نعيمها بسلام.
﴿ كذلك يضرب الله للناس أمثالهم( ٣ ) ﴾.
كما بينت لكم ما أقضيه في الكافر فأُضل عمله بسبب جحوده وإفساده، واستكباره وعناده ؛ وما أقضيه في المؤمن فأطيب عاجله وآجله بحبه للخير، واستقامته على الرشد ؛ ومثل ذلك البيان أُبين للناس فأضرب لهم أمثالهم، ونلحق بكل قوم من الأمثال أشكالهم، وقد أقمت الحجة فبصّرتهم حالهم ومآلهم، وعاقبة أمرهم، في معاشهم ومعادهم.
وما دام الكفار جند الباطل، وأحرص ما يكونون على إطفاء نور الله، وإضلال من آمن به ؛ فإذا واجهناهم محاربين، فعهد ربنا إلينا أن نَعْمد إلى قتلهم وقطع رقابهم.
والناس إن ظلموا البرهان واعتسفوا | فالحرب أجدى على الدنيا من السلم |
قال الزمخشري :﴿ لقيتم ﴾ من اللقاء وهو الحرب، و﴿ ضرب ﴾ نصب على المصدر لفعل محذوف [ والأصل ] : اضربوا الرقاب ضربا، فحذف الفعل، وقدم المصدر وأنيب منابه مضافا إلى المفعول.
وقال الحمصي :.. و﴿ ضرب الرقاب ﴾ مجاز مرسل عن القتل، عبر عنه إشعارا بأنه ينبغي أن يكون بضرب الرقبة حيث أمكن، وتصويرا له بأشنع صورة، لأن ضرب الرقبة فيه إطارة الرأس الذي هو أشرف أعضاء البدن ومجمع حواسه.. وذكر أن في التعبير المذكور تشجيع المؤمنين وأنّهم منهم بحيث يتمكنون من القتل بضرب أعناقهم في الحرب.
وعلماء أحكام القرآن كالماوردي، وابن العربي، والقرطبي على أن هذا التشريع في كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة.. لعموم الآية فيه٢.
﴿ حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منّا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ﴾.
﴿ أثخنتموهم ﴾ قهرتموهم وغلبتموهم، أو أكثرتم فيهم الجراح حتى أوهنتموهم وأضعفتموهم، أو تمكنتم وتسلطتم عليهم.
و﴿ الوثاق ﴾ ما يحكم به القيد ويربط، أو الحبل ونحوه يشد به الأسير والدابة.
﴿ منا ﴾ إحسانا وإنعاما، واستنقاذا من قتل وما أشبهه.
﴿ فداء ﴾ شراء لأنفسهم واستنقاذا، وفكاك الأسير إذا أعطى مالا مقابل خلاصه، أو أعطى رجلا فداءه فأنقذه.
﴿ أوزارها ﴾ أسلحتها وأُثقالها وعدّتها، أو آثامها وشرها حتى لا يبق إلا مسلم أو مسالم ؛ و﴿ .. حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.. ﴾٣.
بدأت الآية الكريمة- كما أسلفنا القول- ببيان أمر الله تعالى بضرب الرقاب حين لقاء الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم جعل أمد ذلك- في ثنايا الآية الكريمة- أن يضع الأعداء المحاربون سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة، فإذا قهرناهم وغلبناهم ومكّن الله لنا وسلّطنا عليهم أسرنا من بقي من جندهم ؛ ولقائد المسلمين بعد ذلك أن يطلق أسرى الكفار إحسانا وإنعاما عليهم- دون مقابل- أو أن يُسرّحهم مقابل فدية من مال، أو رجال- كأن نفتدي بهم بعض أسارى المسلمين-.
مما أورد صاحب الجامع لأحكام القرآن :﴿ فشدوا الوثاق ﴾ أي إذا أسرتموهم.. وإنما أمر بشد الوثاق لئلا يُفلتوا.. و﴿ منّا ﴾ و﴿ فداء ﴾ نصب بإضمار فعل.. أي فإما أن تمنّوا عليهم منا، وإما أن تفادوهم فداء.. قدم رجل إلى الحجاج من كِندة وهو يقتل بعض من أسر في حرب مع مناوئين له فقال : يا حجاج ! لا جازاك الله عن السنة والكرم خيرا. قال : ولم ذلك ؟ قال : لأن الله تعالى قال :﴿ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منّا بعد وإما فداء.. ﴾ في حق الذين كفروا، فو الله ما مننت ولا فَديْْت وقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق :
ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم | إذا أثقل الأعناق حمل المغارم |
ونقل عن قتادة ومجاهد : إذا أُسِر المشرك لم يجز أن يُمَنّ عليه، ولا أن يُفادى به فيرد إلى المشركين ؛ ولا يجوز أن يفادى عندهم إلا بالمرأة، لأنها لا تقتل ؛ والناسخ لهذه الآية الكريمة التي في سورة براءة :
﴿ .. فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.. ﴾٤.
إذا كانت براءة آخر ما نزلت بالتوقيف، فوجب أن يُقتل كلّ مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان، ومن يؤخذ منه الجزية، وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة، خيفة أن يعود حربا للمسلمين.. أو أن الآية محكمة. والإمام مخير في كل حال.
وأورد صاحب روح المعاني ما حاصله : وفي حكم الأسارى خلاف، فذهب الأكثرون إلى أن الإمام بالخيار إن شاء قتلهم إن لم يسلموا لأنه صلى الله عليه وسلم قتل صبرا عقبة بن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث لأن في قتلهم حسم مادة فسادهم بالكلية ؛ وليس لواحد من الغزاة أن يقتل أسيرا بنفسه فإن فعل بلا ملجئ كخوف شر الأسير كان للإمام أن يعزّره... وإن شاء استرقهم لأن فيه دفع شرهم مع وفور المصلحة لأهل الإسلام، وإن شاء تركهم ذمة أحرارا للمسلمين.. بخلاف ما لو أسلموا من قبل الأخذ فإنهم يكونون أحرارا لأنه إسلام قبل انعقاد سبب الملك فيهم ؛ ولا يفادى بالأسارى في إحدى الروايتين عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه لما في ذلك من معونة الكفر لأنه يعود الأسير الكافر حربا علينا، ودفع شر حرابته خير من استنقاذ المسلم لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء في حقه فقط، والضرر بدفع أسيرهم إليهم يعود على جماعة المسلمين، والرواية الأخرى عنه أنه يفادى وهو قول محمد، وأبي يوسف، والإمام الشافعي، ومالك، وأحمد إلا بالنساء فإنه لا يجوز المفاداة بهن عندهم ؛ ومنع أحمد المفاداة بصبيانهم، وهذه رواية السير الكبير ؛ قيل : وهو أظهر الروايتين عن الإمام أبي حنيفة، وقال أبو يوسف : تجوز المفاداة بالأسارى قبل القسمة لا بعدها ؛ وعند محمد تجوز بكل حال.. ووجه ما ذكره الأئمة من جواز المفاداة أن تخليص المسلم أولى من قتل الكافر للانتفاع به ولأن حرمته عظيمة، وما ذكر من الضرر الذي يعود علينا بدفعه إليهم يدفعه ظاهرا المسلم الذي يتخلص منهم، لأنه ضرر شخص واحد مثله ظاهرا فيتكافئان وتبقى فضيلة تخليص المسلم وتمكينه من عبادة الله تعالى فإن فيها زيادة ترجيح. ثم إنه قد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرج مسلم وأبو داود.. عن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين. ويحتج لمحمد بما أخرجه مسلم عن إياس ابن مسلمة عن أبيه مسلمة قال : خرجنا مع أبي بكر رضي الله تعالى عنه أمّره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قال : فلقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد في السوق فقال :( يا مسلمة هب لي المرأة ) يعني التي نفله أبو بكر إياها- فقلت : يا رسول الله لقد أعجبتني وما كشفت لها ثوبا، ثم لقيني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الغد في السوق فقال :( يا مسلمة هب لي المرأة لله أبوك ) فقلت : هي لك يا رسول الله فو الله ما كشفت لها ثوبا، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ففدى بها ناسا من المسلمين أسروا بمكة ؛ ولا يفادى بالأسير إذا أسلم وهو بأيدينا لأنه لا يفيد، إلا إذا طابت نفسه وهو مأمون على إسلامه فيجوز لأنه يفيد تخليص مسلم من غير إضرار بمسلم آخر ؛ وأما المفاداة بمال فلا تجوز في المشهور من مذهب الحنفية لما بيّن في المفاداة بالمسلمين من ردهم حربا علينا.
وفي السير الكبير أنه لا بأس إذا كان بالمسلمين حاجة ؛ قيل، استدلالا بأسارى بدر فإنه لا شك في احتياج المسلمين بل في شدة حاجتهم إذ ذاك فليكن محمل المفاداة الكائنة في بدر بالمال ؛ وأما المن على الأسارى- وهو أن يطلقهم إلى دار الحرب من غير شيء فلا يجوز عند أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، وأجازه الإمام الشافعي لأنه صلى الله عليه وسلم منّ على جماعة من أسرى بدر منهم أبو العاص بن أبي الربيع-على ما ذكره ابن إسحق بسنده، وأبو داود من طريقه إلى عائشة- لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بمال، وبعثت فيه بقلادة كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بناءه عليها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك رقّ لها رقة شديدة، وقال لأصحابه :( إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا لها الذي لها ) ففعلوا ذلك، مغتبطين به. ورواه الحاكم وصححه، وزاد :( وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أخذ عليه أن يُخلّى زينب إليه ففعل ). ومنّ صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثال بن النعمان الحنفي سيد أهل اليمامة ثم أسلم وحسن إسلامه، وحديثه في صحيح مسلم عن أبي هريرة. ويكفي ما ثبت في صحيح البخاري من قوله عليه الصلاة والسلام :( لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء النتنى- يعني أسارى بدر- لتركتهم له )، فإنه أخبر- وهو الصادق المصدوق- بأنه يطلقهم لو سأله المطعم، والإطلاق على ذلك التقدير لا يثبت إلا وهو جائز شرعا لمكان العصمة، وكونه لم يقع لعدم وقوع ما علق عليه جوازه شرعا.
﴿ ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم( ٤ ) ﴾.
الذي بُيِّنَ لكم هو حكم الكفار ؛ ولو أراد الله القوي المتين لهزم الكفار ونصركم عليهم بدون قتال، لكنه- تبارك اسمه- أراد أن يعاملكم معاملة المختبر فيظهر منكم أهل الجهاد والصبر ؛ والذين استشهدوا وماتوا من أجل أن تعلو كلمة الله فلن يضيع ربنا أعمالهم.
عن المقدم بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إن للشهيد عند الله ست خصال : أن يغفر له في أول دفقة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، [ ويحلى حلة الإيمان ويزوج من الحور العين ] ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار مرصع بالدر والياقوت، الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ويزوج اثنتي وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين إنسانا من أقاربه ) وقد أخرجه الترمذي ؛ وصححه ؛ وابن ماجه.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة : ذكر لنا أنها نزلت في يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب وقد فشت فيهم الجراحات والقتل وقد نادى المشركون يومئذ : اعل هبل ؛ ونادى المسلمون : الله أعلى وأجلّ ! فنادى المشركون : يوم بيوم، بدر، وإن الحرب سجال، لنا العزّى ولا عزّى لكم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( الله مولانا ولا مولى لكم إن القتلى مختلفة : أما قتلانا فأحياء عند ربهم يرزقون، وأما قتلاكم ففي النار يعذبون ).
٢ الجامع لأحكام القرآن ج١٦، ص٢٢٥..
٣ سورة البقرة من الآية ١٩٣..
٤ من الآية ٥..
الشهداء يأمنون أحوال الآخرة وأهوالها، ولا يحزنهم الفزع الأكبر، ولا تُعمّى عليهم المسالك، وقد جاءت البشرى من الله – تبارك اسمه- بذلك :﴿ ... والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم.. ﴾١ فهم يعرفون طريقهم إلى الجنة وإلى مساكنهم فيها، أو ﴿ عرّفها ﴾ بمعنى : طيّبها بالعرف، وهو المسك.
[ وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان والطرق المفضية إليها ؛ من ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين :﴿ ... فلن يضل أعمالهم. سيهديهم.. ﴾ ومنه قوله تعالى :﴿ .. فاهدوهم إلى صراط الجحيم ﴾٢ معناه فاسلكوا بهم إليها ].
روى الإمام البخاري –رحمه الله تعالى- في صحيحه عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار- فيقص لبعضهم من بعض مظالم٣ كانت بينهم في الدنيا- حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة- منه- بمنزله في الدنيا ). فكيف بالشهداء ؟ !
[ نقل عن ابن عباس :﴿ عرفها لهم ﴾ أي طيبها لهم بأنواع الملاذ، مأخوذ من العَرف، وهو الرائحة الطيبة، وطعام معرف أي مطيب، تقول العرب : عرّفت القدر إذا طيبتها بالملح والأبازير.
وقال الشاعر يخاطب رجلا ويمدحه :
عرفت كإتب٤ عرّفته اللطائم٥ ]٦
أي طابت ريحك، وعبق أثرك في الناس وانتشر كالثوب المطيب بالمسك.
٢ سورة الصافات. من الآية ٢٣..
٣ أرأيت أخي القارئ عاقبة التظالم، وأنها في أيسر أحوالها تبطئ بالمتظالمين-مهما كانوا من المؤمنين- عن دخول الجنة؟ فلا تبغ ولا تظلم، عسى أن يدخلنا ربنا جنته مع الداخلين..
٤ الإتب: قميص لا كمين له تلبسه النساء..
٥ اللطائم: جمع لطيمة-قطعة مسك..
٦ ما بين العارضتين أورده القرطبي..
وعد من مولانا الحق لا يخلف، إذا نصر المؤمنون رسالة ربهم ورسوله أظهرهم الله- تبارك اسمه- على عدوهم، وثبّت أقدامهم على دينه القويم وصراطه المستقيم، فلا تضرهم فتنة، ولن يرتدوا على أدبارهم بعد أن تبين لهم الهدى.
يقول صاحب روح المعاني :﴿ تنصروا الله ﴾ أي دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا على أن الكلام على تقدير مضاف، بل على أن نصرة الله فيه تجوز في النسبة، فنصرته- سبحانه- نصرة رسوله ودينه، إذ هو – جلّ شأنه وعلا- المُعِين الناصر، وغيره- سبحانه- المعان المنصور.
مما أورد القرطبي : وقد مضى في ( الأنفال ) هذا المعنى، وقال هناك :﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا ﴾١ فأثبت هناك واسطة ونفاها هنا، كقوله تعالى :﴿ قل يتوفاكم ملك الموت.. ﴾٢ ثم نفاها بقوله :﴿ الله الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم.. ﴾٣ ومثله كثير، فلا فاعل إلا الله وحده.
أقول : ليس المراد التعارض، ولكن قد تصرح آية بذكر سبب لفعل ربنا- الواحد المختار، الفعال لما يريد- فيأتي الفعل منسوبا إلى سببه، كأمر الله تعالى للملائكة :﴿ .. فثبتوا الذين آمنوا.. ﴾ بينما تأتي آية ثانية ليس فيها توسيط سبب، كما هاهنا :﴿ .. ويثبت.. ﴾ وربنا هو القادر القاهر، يقضي ما يشاء بسبب وبغير سبب ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ﴾٤.
٢ سورة السجدة. من الآية ١٢..
٣ سورة الروم. من الآية ٤٠..
٤ سورة يس. الآية ٨٢..
فبينما يظفر الله تعالى أهل الغيرة على دينه بعِز الدنيا ونعيم الآخرة، يخيب المبطلين ويذلهم في العاجل والآجل، ﴿ فتعسا ﴾ أي هلاكا وخيبة، أو رغما وذلا، ﴿ وأضل أعمالهم ﴾ أبطلها فلا ثواب عليها لأنها كانت في طاعة الشيطان.
يقول اللغويون :﴿ فتعسا لهم ﴾ أي شرّا لهم، أو شقوة، أو انحطاطا وعثارا.
[ والتعس ]-أن يخر على وجهه، والنكس أن يخر على رأسه.
ويقال : تعسا لفلان، أي ألزمه الله هلاكا.
وجوز قوم تعس- بكسر العين- قلت : ومنه حديث أبي هريرة قال : صلى الله عليه وسلم :( تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة١ والخميصة٢ إن أُعطي رضي وإن لم يُعْطَ لم يرض ). أخرجه البخاري. وفي بعض طرق هذا الحديث :( تعس وانتكس وإذا شيك٣ فلا انتقش )٤ ؛ أخرجه ابن ماجه.
٢ الخميصة: كساء أسود مربع له أعلام وخطوط..
٣ أصابته شوكة..
٤ فلا انتقش: فلا خرجت شوكته بالمنقاش؛ دعاء عليه..
وإنما أخزاهم الله تعالى في الدنيا والآخرة بسبب نفورهم من كلام ربنا الذي أوحاه، فخسروا كل شيء حتى ما عملوه من نحو إكرام ضيف وصلة رحم ؛ ولو كانوا عملوها مع الإيمان لأثابهم المولى عليها.
ألم يسافر هؤلاء الغافلون الضالون فيروا مصير الذين سبقوهم بالجهالة والضلالة فأهلكهم الله وخرب بيوتهم ببغيهم وغيهم ؛ ولهؤلاء المشركون المكذبين محمدا ودين الحق، لهؤلاء بكفرهم مصير كمصير أسلافهم.
يقال : دمر عليه أي أهلك ما يختص به- من آل ومال- فدمر عليه أبلغ من دمره.
[.. وإنما هذا توبيخ من الله لهم لأنهم قد كانوا يسافرون إلى الشام فيرون نقمة الله التي أحلها١ بأهل حجر وثمود، ويرون في سفرهم إلى اليمن ما أحل٢ الله بسبأ، فقال لنبيه- عليه السلام- وللمؤمنين به : أفلم يسر هؤلاء المشركون سفرا في البلاد فينظروا كيف كان عاقبة تكذيب الذين من قبلهم من الأمم المكذبة رسلها، الرادّة نصائحهم ؟ ! ألم نهلكها فندمر عليها منازلها ونخربها ؟ فيتعظوا بذلك ويحذروا أن يفعل الله ذلك بهم في تكذيبهم إياك فينيبوا إلى طاعة الله في تصديقك، ثم توعدهم- جل ثناؤه- وأخبرهم إن هم أقاموا على تكذيبهم رسوله أنه محل بهم من العذاب ما أحل بالذين كانوا من قبلهم من الأمم.. ]٣.
٢ أنزل الله العذاب بمحلتهم وبلادهم وديارهم ومحل إقامتهم..
٣ ما بين العارضتين أورده أبو جعفر..
نجاة المؤمنين وتدمير المكذبين حقت بموالاة ربنا القوي الولي الحميد لأهل الحق المصدقين بوعد الله رب العالمين، وخذلان الكفار وخسرانهم بضلال من اتخذوهم أولياء من دون الملك القوي المتين.
[ من أجل أن الله وليّ من آمن به وأطاع رسوله.. وبأن الكافرين بالله لا ولي لهم ولا ناصر ]١.
[.. ﴿ وأن الكافرين لا مولى لهم ﴾ بمعنى النصرة والعناية، وأما بمعنى الربوبية والمالكية فهو مولى الكل لقوله- تبارك اسمه- :﴿ وردوا إلى الله مولاهم الحق.. ﴾٢ ]٣.
قال قتادة : نزلت يوم أحد والنبي صلى الله عليه وسلم في الشعب، إذ صاح المشركون : يوم بيوم، لنا العزى٤ ولا عزّى لكم، قال النبي صلى الله عليه وسلم :( قولوا الله مولانا ولا مولى لكم ).
﴿ وأن الكافرين لا مولى لهم ﴾ لا ينصرهم أحد من الله.
٢ سورة يونس. من الآية ٣٠..
٣ ما بين العارضتين أورده النيسابوري..
٤ صنم كانت تعظمه قريش وتعبده..
تولى الله – تبارك اسمه- بالتأييد والتثبيت والإنجاء والإعزاز في الدنيا أهل الإيمان والصلاح، ويتولاهم في الآخرة فينزلهم مساكن طيبة في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
﴿ والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم( ١٢ ) ﴾.
ولما كان المؤمنون قد صدّقوا بلقاء الواحد القهار، وتزودوا بخير زاد، أعرضوا عن الشهوات وأقبلوا على التنافس في الطاعات والمكرمات ؛ أما الجاحدون اليائسون من الآخرة فلا هم لهم إلا اتباع الشهوات، والعكوف على الملذات، لا يشبعون من زاد، ولا يتفكرون في المعاد ؛ ولهذا صح عن المبعوث بالهدى والرشاد :( المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء ) ؛ ثم مآله ومصيره الخلود في النار، وما أعد له من جزاء !.
[.. فشبه الكافرين بالأنعام من جهة أن الكافر غرضه من الحياة التنعم والأكل وسائر الملاذ، لا التقوِّي والتوسل بالغذاء إلى الطاعة وعمل الآخرة ؛ ومن جهة أنه لا يستدل بالنعم على خالقها، ومن جهة غفلتهم عن مآل حالهم وأن النار مثوى لهم. ]١
[ وقيل : المؤمن في الدنيا يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع. ﴿ .. والنار مثوى لهم ﴾ أي مقام ومنزل. ]٢.
٢ مما أورده القرطبي..
كم من أهل قرية، كثير من أقوام سكنوا مدائن لم يخلق مثلها في البلاد، وكانوا أشد بأسا وأكثر أموالا وأولادا من أهل مكة الذين أخرجوك، دمّرناهم وقتلناهم فلم يمنعهم منّا مانع، ولم يرد عنهم بطشتنا مدافع.
[ صحح الحفاظ عن الثعلبي عن ابن عباس قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال :( اللهم أنتِ١ أحب البلاد إلى الله وأنت أحب البلاد إليّ ولولا المشركون أهلك أخرجوني لما خرجت منك ). فنزلت الآية ]٢.
٢ أورد القرطبي نحو هذا جـ١٦ص٢٣٥، وأورد ما يقاربه الألوسي، وعزاه إلى ابن جرير وأبي يعلى وغيرهما..
هل يستوي من يمشي على نور من ربه ومن يمشي مكبا على وجهه، يطيع هواه ويعادي مولاه، ويضل سعيه وهو يحسب أنه محسن ؟ كلا ! لا يستويان.
[ أفمن كان على برهان وحجة وبيان من أمر ربه والعلم بوحدانيته، فهو يعبده على بصيرة منه بأن له ربا يجازيه على طاعته إياه الجنة، وعلى إساءته ومعصيته إياه النار.. كمن حسّن له الشيطان قبيح عمله وسيئه فأراه جميلا، فهو على العمل به مقيم.. واتبعوا ما دعتهم إليه أنفسهم من معصية الله وعبادة الأوثان من غير أن يكون عندهم بما يعملون من ذلك حجة وبرهان ]١.
حال الجنة التي وعد الله المتقين وأعدها لهم وصفتها : فيها أنهار من ماء عذب المذاق لا يتغير لونه ولا طعمه ولا ريحه، وفيها أنهار من لبن لم يحمض، وأنهار من خمر لا تصدع ولا تغتال العقل ولا البدن، وأنهار من عسل لم تشبه شوائب، ولا تنقصهم من الفواكه فاكهة ولا من الثمرات ثمرة، وفوق ذلك كله يتجاوز المولى البرّ الرحيم عما يكون قد صدر عنهم من زلات وسيئات فيصفح ويستر.
[ وقوله ﴿ .. ومغفرة من ربهم ﴾ إن قُدِّر : لهم مغفرة من الله قبل ذلك فلا إشكال ؛ وإن قُدِّر : لهم فيها مغفرة، أمكن أن يقال : إنهم مغفورون قبل دخول الجنة، فما معنى الغفران بعد ذلك ؟ والجواب : أن المراد رفع التكليف، يأكلون من غير حساب ولا تبعة ولا آفة، بخلاف الدنيا فإن حلالها حساب وحرامها عذاب ]١.
[ ﴿ ومغفرة ﴾ مبتدأ خبره محذوف، والجملة عطف على الجملة السابقة.. أو جعل المغفرة عبارة عن أثرها وهو النعيم، أو مجاز عن رضوان الله عز وجل، وقد يقال : المراد بالمغفرة هنا : ستر ذنوبهم وعدم ذكرها لهم لئلا يستحيوا فتنغص لذتهم ؛ والمغفرة السابقة : ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها.. ولعله أولى مما قالوه. ]٢.
﴿ كمن هو خالد في النار وسقوا ماءا حميما فقطع أمعاءهم( ١٥ ) ﴾.
أمثال أصحاب الجنة كمثل أصحاب النار المخلدين فيها ؟ وسقوا ماء شديد الحرارة فقطع أحشاءهم وما تحوي بطونهم. [ أمن هو في هذه الجنة التي صفتها ما وصفنا كمن هو خالد في النار ؟ ]٣.
٢ أورد هذا صاحب روح المعاني..
٣ مما جاء في جامع البيان..
ومن الكفار المتبعين أهواءهم من يبطن كفره ويظهر إسلامه، ويحضر مجلسك، فيستمع إلى ما تقول، فإذا فارق مجلسك سأل علماء أصحابك- وكلهم علّمهم الله : ماذا قال محمد الساعة- يقولها ساخرا أو مُنْكِرًا- هؤلاء المنافقون لما استحبت قلوبهم العمى ختم الله عليها بكفرهم، وتوجهوا نحو ما زينته لهم نفوسهم، وأقبلوا على ما فيه خسرانهم.
وهكذا يكون الذكر الحكيم، والوحي الرباني الكريم فرقانا يميز الله به الخبيث من الطيب :﴿ وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون. وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون ﴾١.
القرآن العزيز يهدي للتي هي أقوم، ويزيد به الله الذين اهتدوا هدى فتحل التقوى في قلوبهم، فتعظم خشيتهم من ربهم، وينالون أجر المتقين في أولاهم وفي آخرتهم، فتنشرح بهذا النور صدورهم :﴿ .. قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء.. ﴾١ ﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين.. ﴾٢.
[ الماوردي : ويحتمل.. أنه ترك الرخص والأخذ بالعزائم ]٣.
٢ سورة الإسراء. من الآية ٨٢..
٣ مما نقله صاحب الجامع لأحكام القرآن..
فهل يرتقبون إلا القيامة تجيئهم على حين غفلة وهم ساهون ؟ فقد جاءت علاماتها من انشقاق القمر، وبعثة خير البشر وخاتم الرسل.
روى مسلم في صحيحه عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( بعثت أنا والساعة كهاتين ) وضم السبابة والوسطى. وأخرجه البخاري والترمذي وابن ماجه.
فإذا جاءت الحاقة والطامة الكبرى، فعندها لن تنفعهم التوبة ولا الذكرى، كقوله –تبارك اسمه- :﴿ .. يومئذ يتذكر الإنسان وأنّى له الذكرى ﴾١.
[ وفي الذكرى وجهان : أحدهما تذكيرهم بما عملوه من خير أو شر، الثاني هو دعاءهم بأسمائهم تبشيرا وتخويفا ؛ روى أبان عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أحسنوا أسماءكم فإنكم تدعون بها يوم القيامة يا فلان قم إلى نورك يا فلان قم لا نور لك ) ذكره الماوردي ]٢.
٢ أورده القرطبي في تفسيره ج١٦، ص٢٤١. ، طبعة دار الكتب المصرية..
فاثبت على ما أنت عليه من التوحيد والإخلاص، ولا تضق بجحود المنكرين وخبث المنافقين، فإنك على الحق المبين، واستغفر وسل ربك الصفح عن مخالفتك الأوْلى، والعفو عن ذنوب المؤمنين والمؤمنات، والله مطلع على أحوالكم في يقظتكم ونُقَلِكم، وفي مراقدكم ومضاجع نومكم.
[ وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول :( اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي ). وفي الصحيح أنه كان يقول في آخر الصلاة :( اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني أنت إلهي لا إله إلا أنت ). وفي الصحيح أنه قال :( يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فإني أستغفر الله وأتوب إليه أكثر من سبعين مرة ) ]١.
والمؤمنون يبتغون رضوان الله، وينصرونه ويعملون لتكون كلمة الحق هي العليا، فهم يتمنّون أن يأتي الوحي بالإذن لهم في قتال عدو الله وعدوهم، فإذا أنزلت سورة مبينة لا يلحقها نَسْخُ حكمها، وفُرض فيها الجهاد فرح بها الصادقون، واغتم لها المنافقون :﴿ نظر المغشي عليه من الموت ﴾ إذ بذل المال والنفس ابتلاء يميز به الخبيث من الطيب-﴿ ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾١ ؛ وعاتب القرآن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أذن للمنافقين في التخلف عنه :﴿ عفا الله عنك لما أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين. لا يستأذنك الذين آمنوا بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين. إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ﴾٢ ؛ ﴿ فأولى لهم ﴾ فالويل لهم، أو يؤول أمرهم إلى شر فليحذروا، أو وليَهُم شرّ وقاربهم فليقلعُوا ولينتهوا.
٢ سورة التوبة الآيات٤٥، ٤٤، ٤٣..
خير لهم- لو كانوا يعقلون- طاعة أمر الله تعالى ورسوله وأن يقولوا قولا معروفا ويمتثلوا، فإذا جد الجد وفرض القتال فلو وفّوا بعهد ربنا وصدقوا في تقديسهم لدينه لكان في ذلك خيرا لهم ؛ ولكنهم بالباطل يؤمنون، ويفسدون- ما استطاعوا- ولا يصلحون.
فهل يكون حالكم إن أعرضتم عن أماناتي ؛ وجحدتم الإيمان والجهاد أن تشيعوا الشر والبغي والشقاق بالقتل والعقوق ووأد البنات والتناهب ؟ نعم ! لن يكون حالهم إلا كما أخبر العليم الحكيم.
كرهوا أن يجاهدوا، ونقضوا عهد الله من بعد ميثاقه، وقطعوا ما أمروا بصلته، فقطعهم المولى عن هدايته، وأبعدهم عن رحمته، فصموا عن سماع الحق والخير والهدى، وعموا عن النظر والتبصر والاعتبار ؛ أو صموا عن نداء السلامة والسلام والإسلام، وحشرهم الله عميا يوم الجزاء، ويشهد لهذا قول الله تبارك اسمه :﴿ ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لما حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى. وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ﴾١.
وقال الراغب : الرحم رحم المرأة أي بيت منبت ولدها ووعاؤه ومنه استعير الرحم للقرابة لكونهم خارجين من رحم واحدة. ويقال للأقارب ذووا رحم كما يقال لهم أرحام، وقد صرح ابن الأثير بأن ذا الرحم يقع على كل من يجمع بينك وبينه نسب ويطلق في الفرائض على الأقارب من جهة النساء ؛ والمذكور في كتبها : تفسيره بكل قريب ليس بذي سهم ولا عصبة، وعدوا من ذلك أولاد الأخوات لأبوين أو لأب وعمات الآباء، وظاهر كلام الأئمة في قوله عليه الصلاة والسلام :( من ملك ذا رحم محرم فهو حر ) دخول الأبوين والولد في ذي الرحم لغة حيث أجمعوا على أنهم يعتقون على من ملكهم لهذا الخبر وإن اختلفوا في عتق غيرهم، وصرح ابن حجر الهيثمي في الزواجر بأن الأولاد من الأرحام وظاهر عطف الأقربين على الوالدين في الآية يقتضي عدم دخولهما في الأقارب فلا يدخلون في الأرحام لأنهم كما قالوا : الأقارب، وكلام فقهائنا في عدم دخول الوالدين والولد في ذلك حيث قالوا : إذا أوصى لأقاربه أو لذوي قرابته أو لأرحامه فهي للأقرب فالأقرب من كل ذي رحم محرم ولا يدخل الوالدان والولد، وأما الجد وولد الولد فنقل أبو السعود عن العلامة قاسم عن البدائع أن الصحيح عدم دخولهما، واختاره في الاختيار وعلله بأن القريب من يتقرب إلى غيره بواسطة غيره وتكون الجزئية بينهما منعدمة ؛ وفي شرح الحموي أن دخولهما هو الأصح. وفي متن المواهب وأدخل أي محمد الجد والحفدة وهو الظاهر عنهما، وذكر أن مثل الجد والجدة وقد يقال : إن عدم دخول الوالدين والولد في ذلك وكذا الجد والحفدة عند من يقول بعدم دخولهم ليس لأن اللفظ لا يصدق عليهم لغة بل لأنه لا يصدق عليهم عرفا وهم اعتبروا العرف كما قال الطحاوي في أكثر مسائل الوصية. وفي جامع الفصولين أن مطلق الكلام فيما بين الناس ينصرف إلى المتعارف، وما ذكره في المعراج من خبر : من سمى والده قريبا عقه، لا يدل على أنه ليس قريبا لغة بل بيان حكم شرعي مبناه أن في ذلك إيذاء للوالد وحطا من قدره عرفا، وهذا كما لو ناداه باسمه وكان يكره ذلك ؛ وأمر العطف في الآية الكريمة سهل لجواز عطف العام على الخاص كعطف الخاص على العام، فالذي يترجح عندي أن الأرحام كما صرحوا به الأقارب بالقرابة غير السببية والمراد بهم ما يقابل الأجانب ويدخل فيهم الأصول والفروع والحواشي من قبل الأب أو من قبل الأم. وحرمة قطع كلّ لا شك فيها لأنه على ما قلنا رحم، والآية ظاهرة في حرمة قطع الرحم.
وحكى القرطبي في تفسيره اتفاق الأمة على حرمة قطعها ووجوب صلتها، ولا ينبغي التوقف في كون القطع كبيرة ؛ والعجب من الرافعي عليه الرحمة كيف توقف في قول صاحب الشامل : إنه من الكبائر ؛ وكذا تقرير النووي قدس سره على توقفه ؛ واختلف في المراد بالقطيعة فقال أبو زرعة : ينبغي أن تختص بالإساءة، وقال غيره : هي ترك الإحسان ولو بدون إساءة لأن الأحاديث آمرة بالصلة ناهية عن القطيعة ولا واسطة بينهما.
والصلة : إيصال نوع من أنواع الإحسان كما فسرها بذلك غير واحد، فالقطيعة ضدها فهي ترك الإحسان. ونظر فيه الهيثمي بناء على تفسير العقوق بأن يفعل مع أحد أبويه ما لو فعله مع أجنبي كان محرّما صغيرة، فينتقل بالنسبة إلى أحدهما كبيرة، وأن الأبوين أعظم من بقية الأقارب، ثم قال : فالذي يتجه ليوافق كلامهم وفرقهم بين العقوق وقطع الرحم : أن المراد بالأول أن يفعل مع أحد الأبوين ما يتأذى به، فإن كان التأذي ليس بالهين عرفا كان كبيرة، وإن لم يكن محرما لو فعله مع الغير ؛ وبالثاني قطع ما ألف القريب منه من سابق الوصلة والإحسان بغير عذر شرعي، لأن قطع ذلك يؤدي إلى إيحاش القلوب وتأذيها، فلو فرض أن قريبه لم يصل إليه إحسان ولا إساءة قط لم يفسق بذلك لأن الأبوين إذا فرض ذلك في حقهما من غير أن يفعل معهما ما يقتضي التأذي العظيم لغناهما مثلا لم يكن كبيرة فأولى بقية الأقارب ؛ ولو فرض أن الإنسان لم يقطع عن قريبه ما ألفه منه من الإحسان لكنه فعل معه محرما صغيرة، أو قطب في وجهه، أو لم يقم له في ملأ ولا عبأ به لم يكن ذلك فسقا بخلافه مع أحد الأبوين لأن تأكيد حقهما اقتضى أن يتميزا على بقية الأقارب بما لا يوجد نظيره فيهم، وعلى ضبط الثاني بما ذكرته فلا فرق بين أن يكون الإحسان الذي ألفه منه قريبه مالا أو مكاتبة أو مراسلة أو زيارة أو غير ذلك فقطع ذلك كله بعد فعله لغير عذر كبيرة ؛ وينبغي أن يراد بالعذر في المال فقد ما كان يصله به أو تجدد احتياجه إليه أن يندبه الشارع إلى تقديم غير القريب عليه لكونه أحوج أو أصلح، فعدم الإحسان إلى القريب أو تقديم الأجنبي عليه لهذا العذر يرفع عنه، وإن انقطع بسبب ذلك ما ألفه منه القريب، لأنه إنما راعى أمر الشارع بتقديم الأجنبي عليه ؛ وواضح أن القريب لو ألف منه قدرا معينا من المال يعطيه إياه كل سنة مثلا فنقصه لا يفسق بذلك، بخلاف ما لو ما قطعه من أصله لغير عذر، وأما عذر الزيارة فينبغي ضبطه بعذر الجمعة، لجامع أن كلا فرض عين وتركه كبيرة، وأما عذر ترك المكاتبة والمراسلة فهو أن لا يجد من يثق به في أداء ما يرسله معه ؛ والظاهر أنه إذا ترك الزيارة التي ألفت منه في وقت مخصوص لعذر لا يلزمه قضاؤها في غير ذلك الوقت ؛ والأولاد والأعمام من الأرحام وكذا الخالة فيأتي فيهم وفيها ما تقرر من الفرق بين قطعهم وعقوق الوالدين ؛ وأما قول الزركشي : صح في الحديث أن الخالة بمنزلة الأم وأن عم الرجل صنو أبيه وقضيتهما أنهما مثل الأب والأم حتى في العقوق فبعيد جدا ويكفي مشابهتهما في أمر ما كالحضانة تثبت للخالة كما تثبت للأم وكذا المحرمية، وكالإكرام في العم والمحرمية وغيرهما مما ذكر، انتهى المراد منه ؛ ولو قيل : إن الصغيرة تعد كبيرة لو فعلت مع القريب لكنها دون ما لو فعلت مع أحد الأبوين لم يبعد عندي لتفاوت قبح السيئات بحسب الإضافات، بل لا يبعد على هذا أن يكون قبح قطع الرحم متفاوتا باعتبار الشخص القاطع وباعتبار الشخص المقطوع، ومتى سلم التفاوت فليُقَل به في العقوق ويكون عقوق الأم أقبح من عقوق الأب، وكذا عقوق الولد الذي لا يعبأ به أقبح من عقوق الولد الذي لا يعبأ به، ويتفرع من ذلك ما يتفرع مما لا يخفى على فقيه ؛ واستدل بالآية عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على منع بيع أم الولد. روى الحاكم في المستدرك وصححه.
وابن المنذر بن بريدة قال : كنت جالسا عند عمر إذ سمع صائحا فسأل فقيل : جارية من قريش تُباع أمّها، فأرسل يدعو المهاجرين والأنصار، فلم تمض ساعة حتى امتلأت الدار والحجرة، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : أما بعد فهل تعلمونه كان مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم القطيعة : قالوا : لا. قال : فإنها قد أصبحت فيكم فاشية ثم قرأ ﴿ فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ﴾ ثم قال : وأي قطيعة أقطع من أن تباع أم امرئ فيكم ؛ قالوا : فاصنع ما بدا لك فكتب في الآفاق أم لا تباع أمّ حُر فإنها قطيعة رحم، وإنه لا يحل.
وهو مبني على جواز لعن العاصي المعين من جماعة لعنوا بالوصف، وفي ذلك خلاف فالجمهور، على أنه لا يجوز لعن المعين فاسقا كان أو ذميا حيا كان أو ميتا ولم يعلم موته على الكفر لاحتمال أن يختم له أو ختم له بالإسلام بخلاف من علم موته على الكفر كأبي جهل.
وذهب شيخ الإسلام السراج البلقيني إلى جواز لعن العاصي المعين لحديث الصحيحين :( إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح ) وفي رواية ( إذا باتت المرأة مهاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح ) واحتمال أن يكون لعن الملائكة عليهم السلام إياها ليس بالخصوص بل بالعموم بأن يقولوا : لعن الله من باتت مهاجرة فراش زوجها بعيد. وفي الزواجر لو استدل لذلك بخبر مسلم ( أنه صلى الله عليه وآله وسلم مرّ بحمار وسم في وجهه فقال : لعن الله من فعل هذا ) لكان أظهر إذ الإشارة بهذا صريحة في لعن معين إلا أن يؤول بأن المراد الجنس وفيه ما فيه٢.
٢ حرصت على إيراد هذا البحث في صلة الأرحام تذكرة بعهد من عهود الله تعالى غفل عنه الكثير أو تغافلوا؛ فالله أسأل أن يجعلنا ممن يصلون ما أمر الله به أن يوصل..
أفلا يتأملون الكتاب العزيز ويتفكرون في حججه ليعلموا زيغ مناهجهم وسبيلهم، أم أُقْفِلَتْ مداركهم وأفئدتهم وصدورهم فلم يتعظوا ولا انزجروا ولا عقلوا ؟ !
[ ما من الناس أحد إلا وله أربع أعين، عينان في وجهه لمعيشته، وعينان في قلبه، وما من أحد إلا وله شيطان متبطن فقار ظهره، عاطف عنقه على عنقه، فاغر فاه إلى ثمرة قلبه، فإذا أراد الله بعبد خيرا أبصرت عيناه اللتان في قلبه ما وعد الله من الغيب فعمل به- وهما غيب فعمل بالغيب- وإذا أراد الله بعبد شرا تركه، ثم قرأ :﴿ .. أم على قلوب أقفالها ﴾ ]١.
[ وعن بشر عن يزيد عن سعيد عن حماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه قال : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما :﴿ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ﴾ فقال شاب من أهل اليمن : بل عليها أقفالها حتى يكون الله عز وجل يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر رضي الله عنه حتى ولي فاستعان به ]٢.
والمسرف في الجحود والفساد، والمرتاب في يوم المعاد لا يصل نور القرآن إلى قلبيهما- ومن على شاكلتهما-﴿ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا. وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ﴾٣ ﴿ وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب.. ﴾٤.
٢ هكذا أورده ابن جرير بإسناد كالذي أوردته. جـ٢٦، ص٣٧..
٣ سورة الإسراء. الآيتان: ٤٦، ٤٥..
٤ سورة فصلت. من الآية ٥..
إن الذين رجعوا على أعقابهم، وعادوا إلى غيهم وكفرهم، من بعد ما ظهر لهم الحق، ووضح أمامهم طريق الرشد، زيّن لهم الشيطان وسهّل العودة إلى الضلال والفسق، والفساد والشرك، ومدّ لهم في الأمل حتى قسّى قلوبهم، وأقعدهم عن طيب العمل.
[ زين لهم خطاياهم.. ﴿ وأملى لهم ﴾ أي مدّ الشيطان في الأمل ووعدهم طول العمر ؛ عن الحسن أيضا. وقال : إن الذي أملى لهم في الأمل ومدّ في آجالهم هو الله عز وجل ؛ قاله الفراء والمفضل ؛ وقال الكلبي ومقاتل : إن معنى ﴿ وأملى لهم ﴾ أمهلهم، فعلى هذا يكون الله تعالى أملى لهم بالإمهال في عذابهم ]١.
وإنما كان ارتدادهم وانقلابهم على أعقابهم من أجل قولهم للكارهين نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم – حسدا- سنكون معكم ونتبعكم- يسرون بالتناجي بالإثم والعدوان ومناوأة الرسول- والله يعلم سرهم ونجواهم ويعلم كل معلوم سواء ظهر أو اختفى ؛ ولقد عجّب الكتاب الكريم من غدر المنافقين وهتك تحالفهم خفية مع اليهود الغادرين :﴿ ألم ترى إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون. لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون ﴾١.
هل تفكر المنافقون المرتدون، والقاعدون عن الجهاد الكافرون، في حيلتهم حين تأتي ملائكة الموت لقبض أرواحهم فتضرب وجوههم وأدبارهم ؟ !
نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لا يُتوفى أحد على معصية لا تضرب الملائكة في وجهه ودبره ؛ والكلام على الحقيقة عنده، ولا مانع من ذلك وإن لم يحس بالضرب من حضر، وما ذلك إلا كسؤال الملكين وسائر أحوال البرزخ ؛ بينما يتوفى الله أهل الإيمان وفاة طيبة سهلة ؛ وبهذا جاءت البشرى في القرآن الحكيم :﴿ الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ﴾١.
يذيق الله المنافقين الخزي والهول من أجل اتباعهم سبل الكفر والعصيان، وكراهيتهم للحق والإيمان، فأبطل الله ثواب ما كانوا عملوه من بِرِّ، وقدموا على ربهم ولا حسنة لهم.
[ ولما كان اتباع ما أسخط الله مقتضيا للتوجه ناسب ضرب الوجه، وكراهة رضوانه سبحانه مقتضيا للإعراض ناسب ضرب الدبر ؛ ففي الكلام مقابلة بما يشبه اللف والنشر ]١.
هل يظن المنافقون أن الله لن يهتك أستارهم ؟ وهل يحسبون أن المولى العليم لن يكشف خداعهم، وغشهم وحسدهم، وعداوتهم للنبي، وأحقادهم على أهل الإسلام ؟ ذلك لن يكون أبدا !
ولو أردنا – يا محمد- إراءتك إياهم وإعلامك وإنباءك بأشخاص المنافقين لم يعينا هذا، فلعرفتهم بعلامات نَسِمُهم بها، وبِصْرفِهم الكلام عما تواضع عليه الناس، وبميلهم عن الطريق المألوفة في تخاطبهم مما ظاهره حسن وباطنه قبيح ؛ والله يعلم ما عملت ألسنتهم وجوارحهم وقلوبهم، فيجازيهم عليها حسب نياتهم، وما انطوت عليه صدورهم- وفيه التفات- أو هو عام، ففيه الوعد بالثواب الحسن للمؤمنين، والوعيد بالعذاب الشديد للكافرين والمنافقين.
نختبر أعمالكم، ونعاملكم معاملة من يُمتَحَن، بما نعهد إليكم من طاعات وإيمان وجهاد، فمن صبر عليها ظهر علمنا السابق بسعادته، ومن كبرت عليه وضيّعها فلا عهد له عند ربه، وقد ظهر علم الحكيم سبحانه بشقاوته.
[ لنعاملكم معاملة المختبرين.. ﴿ حتى نعلم ﴾ وهذا العلم هو العلم الذي يقع به الجزاء، لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم ؛ فتأويله : حتى نعلم المجاهدين على شهادة، لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا، فالجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة ؛ و﴿ نبلو أخباركم ﴾ نختبرها ونظهرها.. كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال : اللهم لا تبتلينا فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا ]١.
إن الفجار الكفار، الصادين أنفسهم وغيرهم عن طريق العزيز الغفار، المعاندين المناوئين لصفوة الأبرار، من بعد ما قامت عليهم حجة الواحد القهار، لن يضروا ربهم بكفرهم، فالله غني عن إيمانهم، ولكن الخسار والهلاك واقع بهم، ولا أجر لهم على أعمال برّ عملوها من مثل ما كان من كرمهم، وصلة أرحامهم.
نداء للمؤمنين باستدامة طاعة ربنا وطاعة نبيه، وتحذير أن يقترفوا ما يضيع الأجر كالرياء والعجب، والمن والأذى، وكثرة الذنوب.
[ قيل : إن بني أسد قد أسلموا وقالوا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم : قد آثرناك وجئناك بنفوسنا وأهلنا كأنهم منّوا بذلك فنزلت فيهم هذه الآية، وقوله تعالى ﴿ يمنون عليك أن أسلموا ﴾ ؛ ومن هنا قيل : المعنى لا تبطلوا أعمالكم بالمن بالإسلام ؛.. عن قتادة أنه قال في هذه الآية : من استطاع منكم أن لا يبطل عملا صالحا بعمل سوء فليفعل، ولا قوة إلا بالله تعالى ]١.
ويقول القرطبي٢ : احتج علماؤنا وغيرهم بهذه الآية على أن التحلل من التطوع-صلاة كان أو صوما- بعد التلبس به لا يجوز، لأن فيه إبطال العمل وقد نهى الله عنه ؛ وقال من أجاز ذلك- وهو الإمام الشافعي وغيره- : المراد بذلك إبطال ثواب العمل المفروض، فنهى الرجل عن إحباط ثوابه، فأما ما كان نفلا فلا، لأنه ليس واجبا عليه ؛ فإن زعموا أن اللفظ عام فالعام يجوز تخصيصه، ووجه تخصيصه أن النفل تطوع، والتطوع يقتضي تخييرا.
٢ جـ١٦ص٢٥٥..
الكفار الضالون، والمضلون غيرهم عن طريق الإسلام، إذا ماتوا على كفرهم فلن يصفح الله عن ذنوبهم، بل سيعاقبهم عليها ويفضحهم بها على مشهد من أهل الموقف جميعا ﴿ .. ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ﴾١.
[ واستدل بمفهوم الآية بعض القائلين بالمفهوم على أنه تعالى قد يغفر لمن لم يمت على كفره سائر ذنوبه ]٢.
٢ الألوسي..
فلا تضعفوا أيها المؤمنون في طلب ملاقاة الكافرين الصادين عن الحق، فأنتم أعز لأنكم حزب الله وأولياؤه :﴿ ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ﴾١ ؛ ولن ينقصكم من أجر أعمالكم شيئا، ولن يفردكم بغير ثواب.
[ واختلف العلماء في حكمها، فقيل : إنها ناسخة لقوله تعالى :﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها.. ﴾٢، لأن الله تعالى منع من الميل إلى الصلح إذا لم يكن بالمسلمين حاجة إلى الصلح ؛ وقيل : منسوخة بقوله تعالى ﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها.. ﴾ وقيل هي محكمة، والآيتان نزلتا في وقتين مختلفي الحال ؛ وقيل : إن قوله :﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ﴾ مخصوص في أقوام بأعيانهم، والأخرى عامة، فلا يجوز مهادنة الكفار إلا عند الضرورة، وذلك إذا عجزنا عن مقاومتهم لضعف المسلمين ]٣.
٢ سورة الأنفال. من الآية ٦١..
٣ الجامع لأحكام القرآن. جـ١٦ص٢٥٢..
يَغْفُلُ الغافلون فيقضون أعمارهم في المجون والفتون، وتلهيهم زخارفها عما هم إليه صائرون، فيخرجون من الدنيا وقد خسروا مصيرهم وما كانوا فيه يُمَتَّعون ؛ لكن المؤمن التقي يحيا حياة طيبة ثم يُرَدّ إلى مولاه فيكرم مثواه، وربما لم يبذل في سبيل الله إلا اليسير.
[ ﴿ ولا يسألكم أموالكم ﴾ لا يأمركم بإخراج جميعها في الزكاة، بل يأمر بإخراج البعض ؛ أو لا يسألكم أموالكم.. لحاجة منه إليها، وإنما يأمركم بالإنفاق في سبيله ليرجع ثوابه إليكم ؛ وقيل : لا يسألكم أموالكم إنما يسألكم أمواله، لأنه المالك لها وهو المنعم بإعطائها ]١.
لو طلب الله إليكم بذل كل أموالكم لبخلتم ومنعتم، وأخرج البخل أحقادكم، ولم تبلغوا بالأموال مصارفها الباقية.
وأنتم يا من تسمعون آياتي تدعون لإنفاق المال على أنفسكم وأزواجكم وعيالكم وأقاربكم وأضيافكم، وفي الزكاة وجهاد عدو الله وعدوكم، فمنكم ناس يضنون ويُقترون ويمنعون.
﴿ ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء ﴾.
ومن غل يده وكَزّ فإنما يضيق على نفسه هو في العاجل- فإن الله يتلف مال البخلاء ومانعي الزكاة- وفي الآخرة تكوى بها جباههم وجنوبهم ويُطَوَّقُونَ ما بخلوا به يوم القيامة، وما ربنا في حاجة إلى شيء ولا إلى أحد، إنما أنتم المحتاجون إليه على كل أحوالكم.
﴿ وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم( ٣٨ ) ﴾.
ومن يعرض عن منهاج ربه فقد أهلك نفسه وسيأتي الله بآخرين يُقبلون على طاعة ربهم ويبذلون في سبيله، ولا يكونون كحال البخلاء الأشحّاء، بل يتنافسون في المكرمات، ويسارعون في الخيرات ؛ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.