تفسير سورة الأنعام

تفسير السمعاني
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب تفسير السمعاني المعروف بـتفسير السمعاني .
لمؤلفه أبو المظفر السمعاني . المتوفي سنة 489 هـ
تفسير سورة الأنعام
قال - رضي الله عنه - : اعلم أن سورة الأنعام مكية، روى يوسف بن مهران عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : سورة الأنعام نزلت جملة بمكة ليلا، معها سبعون ألف ملك يحدونها بالتسبيح. وقد روى هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي تمام الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«من قرأها في ليلة استغفر له السبعون ألف ملك أولئك ليله ونهاره إلى أن يصبح »( ١ ) وفي بعض الروايات :«أن تلك الملائكة كان لهم زجل بالتسبيح، وكانت الأرض ترتج، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : سبحان ربي العظيم حتى نزلت »( ٢ ) وفي رواية الكلبي عن [ أبي ] ( ٣ ) صالح عن ابن عباس أنه قال : نزلت سورة الأنعام جملة بمكة إلا آيتين : قوله - تعالى - :( قل تعالوا. . . ) الآية. وقوله :( ما قدروا الله حق قدره. . . ) ( ٤ ) الآية وفي بعض الروايات :«إلا ثلاث آيات : من قوله :( قل تعالوا ) ( ٥ ) إلى آخر الآيات الثلاث، وعن عمر رضي الله عنه أنه قال : سورة الأنعام من نجائب القرآن، وعن علي رضي الله عنه أنه قال : من قرأ سورة الأنعام فقد انتهى في رضا ربه.
١ - عزاه الزيلعي في تخريج الكشاف (١/٤٥٠-٤٥١) للثعلبي في تفسيره، عن ابن عباس، عن أبي بن كعب. ولفظه: «أنزلت علي سورة الأنعام جملة واحدة، يشيعها سبعون ألف مالك، لهم زجل بالتسبيح والتحميد فمن قرأ الأنعام، صلى عليه، واستغفر له أولئك السبعون ألف ملك، بعدد كل آية من سورة الأنعام يوما، وليلة».
وقال الحافظ ابن حجر في الكافي (١/٤٥١): وفيه أبو عصمة، وهو متهم بالكذب..

٢ - رواه الطبراني في الأوسط، كما في مجمع البحرين (٦/١٢ رقم ٣٣١٧) والإسماعيلي في معجمه (٢/٧١١-٧١٢ رقم ١٨٧) كلاهما من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
وقال الهيثمي في المجمع (٧/٢٣): رواه الطبراني عن شيخه محمد بن عبد الله بن عرس، عن أحمد بن محمد بن أبي بكر السالمي، ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات.
وعزاه السيوطي في الدر (٣/٣) لأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب، والسلفي في الطبوريات..

٣ - في "الأصل": ابن. وهو خطأ..
٤ - الأنعام: ١٥١..
٥ - الأنعام: ٩١..

قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَقل الْحَمد لله الَّذِي لم يتَّخذ ولدا﴾ الْآيَة.
فَقَوله: ﴿الْحَمد لله﴾ مَعْنَاهُ: احمدوا الله، ذكر الْخَبَر بِمَعْنى الْأَمر، وَفَائِدَته: الْأَمر بِالْحَمْد وَتَعْلِيم الْحَمد؛ فَإِنَّهُ لَو قَالَ: احمدوا الله؛ دعت الْحَاجة إِلَى بَيَان كَيْفيَّة الْحَمد، وَقَوله: ﴿الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ إِنَّمَا خصهما بِالذكر؛ لِأَنَّهُمَا أعظم الْمَخْلُوقَات فِيمَا يرى الْعباد؛ وَلِأَن فيهمَا العبر وَالْمَنَافِع للعباد.
﴿وَجعل الظُّلُمَات والنور﴾ والجعل: بِمَعْنى الْخلق، ثمَّ اخْتلفُوا، قَالَ بَعضهم: الظُّلُمَات: اللَّيْل، والنور: النَّهَار، وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ بالظلمات: الْكفْر، وبالنور: الْإِيمَان، وَيدخل فِي الظُّلُمَات جَمِيع الظُّلُمَات، حَتَّى ظلمَة الْقلب، وظلمة الشَّك، وَنَحْو ذَلِك.
وَيدخل فِي النُّور جَمِيع الْأَنْوَار، حَتَّى نور الْقلب، وَنور الْيَقِين، وَنَحْو ذَلِك، وَقيل: أَرَادَ بالظلمات: الْجَهْل، وبالنور: الْعلم، وَقيل: أَرَادَ بالظلمات: الْمعْصِيَة، وبالنور: الطَّاعَة.
وروى عَن قَتَادَة أَنه قَالَ: إِن الله - تَعَالَى - خلق السَّمَاء قبل الأَرْض، وَاللَّيْل قبل النَّهَار، وَالْجنَّة قبل النَّار، وَقد قَالَ غَيره: خلق الأَرْض قبل السَّمَاء، وَسَيَأْتِي.
﴿ثمَّ الَّذين كفرُوا برَبهمْ يعدلُونَ﴾ قَالَ الْكسَائي: عدل الشَّيْء بالشَّيْء: إِذا ساواه بِهِ، وَمِنْه الْعدْل. وَمَعْنَاهُ: يعدلُونَ بِاللَّه غير الله، وَقَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: ثمَّ الَّذين كفرُوا برَبهمْ يشركُونَ، والمعنيان متقاربان؛ لِأَن من سَاوَى غير الله بِاللَّه؛ فقد أشرك. وَقيل: قَوْله: ﴿ثمَّ الَّذين كفرُوا﴾ معنى لطيف، وَهُوَ مثل قَول الْقَائِل: أَنْعَمت عَلَيْك كَذَا، وتفضلت عَلَيْك بِكَذَا ثمَّ لَا تشكرني، ثمَّ تكفر بنعمتي.
86
﴿برَبهمْ يعدلُونَ (١) هُوَ الَّذِي خَلقكُم من طين ثمَّ قضى أَََجَلًا وَأجل مُسَمّى عِنْده ثمَّ أَنْتُم تمترون (٢) وَهُوَ الله فِي السَّمَوَات وَفِي الأَرْض يعلم سركم وجهركم وَيعلم مَا تكسبون (٣) وَمَا تأتيهم من آيَة من آيَات رَبهم إِلَّا كَانُوا عَنْهَا معرضين (٤) فقد﴾
87
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿هُوَ الَّذِي خَلقكُم من طين﴾ هُوَ مَا بَينا أَن الله - تَعَالَى - أَمر ملك الْمَوْت حَتَّى قبض قَبْضَة من تُرَاب؛ فخلق مِنْهَا آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - فَهَذَا معنى قَوْله: ( ﴿هُوَ الَّذِي خَلقكُم من طين﴾ ثمَّ قضى أَََجَلًا وَأجل مُسَمّى عِنْده) قَالَ ابْن عَبَّاس: الْأَجَل الأول: من الْولادَة إِلَى الْمَوْت، وَالْأَجَل الثَّانِي: من الْمَوْت إِلَى الْبَعْث وَقَالَ أَيْضا: لكل أحد أجلان: أجل إِلَى الْمَوْت، وَأجل من الْمَوْت إِلَى الْبَعْث، فَإِن كَانَ برا وصُولا للرحم؛ زيد لَهُ من أجل الْبَعْث فِي أجل الْعُمر، وَإِن كَانَ غير ذَلِك، نقص من أجل الْعُمر، وَزيد ذَلِك فِي أجل الْبَعْث.
وَقيل: الْأَجَل الأول: أجل الدُّنْيَا كَمَا بَينا، وَالْأَجَل الثَّانِي من ابْتِدَاء الْآخِرَة، وَذَلِكَ مُسَمّى عِنْد الله لَا يُعلمهُ غَيره ﴿ثمَّ أَنْتُم تمترون﴾ تشكون.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَهُوَ الله فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض يعلم سركم وجهركم﴾ قَالَ ابْن الْأَنْبَارِي: مَعْنَاهُ: وَهُوَ الله المعبود فِي السَّمَوَات وَفِي الأض، وَقَالَ غَيره: تَقْدِيره: وَهُوَ الله يعلم سركم وجهركم فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَهُوَ قَول الزّجاج ﴿وَيعلم مَا تكسبون﴾ الْكسْب: كل عمل يعمله الْإِنْسَان بكده؛ لجلب نفع، أَو دفع ضرّ، وَلذَلِك لَا يُوصف فعل الله بِالْكَسْبِ؛ لِأَنَّهُ فعله برِئ عَن جلب الْمَنَافِع وَدفع المضار.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَمَا تأتيهم من آيَة من آيَات رَبهم إِلَّا كَانُوا عَنْهَا معرضين﴾ أَرَادَ بِهَذِهِ الْآيَة: انْشِقَاق الْقَمَر؛ فَإِن الْكفَّار سَأَلُوا رَسُول الله أَن يَأْتِيهم بِآيَة؛ فَقَالَ عَلَيْهِ [الصَّلَاة و] السَّلَام - مَاذَا تُرِيدُونَ؟ فاقترحوا انْشِقَاق الْقَمَر، فَأَتَاهُم بِهِ، فَكَفرُوا وأعرضوا.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فقد كذبُوا بِالْحَقِّ لما جَاءَهُم﴾ يَعْنِي: مَا ذكرنَا {فَسَوف
87
﴿كذبُوا بِالْحَقِّ لما جَاءَهُم فَسَوف يَأْتِيهم أنباء مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون (٥) ألم يرَوا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم فِي الأَرْض، مَا لم نمكن لكم وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم﴾ يَأْتِيهم أنباء مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون) مَعْنَاهُ: فَسَوف يؤول إِلَيْهِ وبال مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون.
88
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ألم يرَوا كم أهلكنا من قبلهم من قرن﴾ قيل: ثَمَانُون سنة، وَقيل: سِتُّونَ سنة، وَقيل: أَرْبَعُونَ سنة، وَقيل: ثَلَاثُونَ سنة، والقرن عِنْد حفاظ الحَدِيث: مائَة سنة؛ فَإِنَّهُ روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ لعبد [الله] بن (بسر) الْمَازِني: " إِنَّك تعيش قرنا "، فَعَاشَ مائَة سنة، فاستدلوا بِهِ على أَن الْقرن مائَة سنة، وَفِي الْأَخْبَار: كَانَ بَين آدم ونوح: عشرَة قُرُون، وَبَين نوح وَإِبْرَاهِيم: عشرَة قُرُون، والقرن فِي الْحَقِيقَة: هُوَ أهل كل زمَان، سَوَاء بعث فيهم نَبِي أَو لم يبْعَث؛ وَعَلِيهِ دلّ قَوْله: " خير النَّاس قَرْني، ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ، ثمَّ الَّذين بلونهم " يَعْنِي: ثمَّ الْقرن الَّذين يَلُونَهُمْ.
88
﴿مدرارا وَجَعَلنَا الْأَنْهَار تجْرِي من تَحْتهم فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ وأنشأنا من بعدهمْ قرنا آخَرين (٦) وَلَو نزلنَا عَلَيْك كتابا فِي قرطاس فلمسوه بِأَيْدِيهِم لقَالَ الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين (٧) وَقَالُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ ملك وَلَو أنزلنَا ملكا لقضي الْأَمر ثمَّ لَا﴾
وَقَوله: ﴿مكناهم فِي الأَرْض مَا لم نمكن لكم﴾ أَي: أعطيناهم مَا لم نعطكم.
﴿وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مدرارا﴾ أَي: مُتَتَابِعًا، قَالَ الشَّاعِر:
(وسقاك من نوء الثريا مزقة عَن الْحَلب وابلا مدرارا)
أَي: مُتَتَابِعًا، قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مدرارا: أَي: مُتَتَابِعًا فِي أَوْقَات الْحَاجَات، وَلم يرد بِهِ: التوالي على الدوم ﴿وَجَعَلنَا الْأَنْهَار تجْرِي من تَحْتهم فأهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ وأنشأنا من بعدهمْ قرنا آخَرين﴾.
89
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَو نزلنَا عَلَيْك كتابا فِي قرطاس﴾ سَبَب هَذَا: أَن عبد الله بن أبي أُميَّة المَخْزُومِي أَخا أم سَلمَة، قَالَ لرَسُول الله: لن نؤمن بك حَتَّى تنزل علينا صحيفَة من السَّمَاء جملَة فَنزل قَوْله: ﴿وَلَو نزلنَا عَلَيْك كتابا فِي قرطاس﴾. والقرطاس: مَا يكون مَكْتُوبًا، فَإِذا لم يكن مَكْتُوبًا سمي: طرسا ﴿فلمسوه بِأَيْدِيهِم﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: لم لم يقل: فرأوه بأعينهم؟ قيل: لِأَن اللَّمْس أبلغ فِي إِيقَاع الْعلم من الرُّؤْيَة؛ لِأَن السحر يجْرِي على المرئي، وَلَا يجْرِي على الملموس؛ لِأَن الملموس يصير مرئيا، والمرئي لَا يصير ملموسا؛ فَذكر اللَّمْس ليَكُون أبلغ.
﴿لقَالَ الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين﴾ وَمَعْنَاهُ: أَنه لَا ينفع مَعَهم شَيْء فَإنَّا وَإِن أنزلنَا عَلَيْهِم مَا اقترحوا قَالُوا إِن هَذَا إِلَّا سحر مُبين.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا أنزل عَلَيْهِ ملك﴾ وَهَذَا قَول عبد الله بن أبي أُميَّة المَخْزُومِي (اقترح) إِنْزَال ملك ﴿وَلَو أنزلنَا ملكا لقضي الْأَمر﴾ قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: لقامت الْقِيَامَة، وَقيل: مَعْنَاهُ: لاستؤصلوا بِالْعَذَابِ، وَهَذِه سنة الله فِي الْكفَّار؛ أَنهم
89
﴿ينظرُونَ (٨) وَلَو جَعَلْنَاهُ ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عَلَيْهِم مَا يلبسُونَ (٩) وَلَقَد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا مِنْهُم مَا كَانُوا بِهِ يستهزءون (١٠) قل سِيرُوا فِي الأَرْض ثمَّ انْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين (١١) قل لمن مَا فِي السَّمَوَات﴾ مَتى اقترحوا آيَة، فَإِذا أَعْطَاهُم الله لَك؛ فَكَفرُوا بهَا، استأصلهم بِالْعَذَابِ، كدأب قوم نوح، وَعَاد وَثَمُود، وَقوم لوط، وأمثالهم ﴿ [ثمَّ] لَا ينظرُونَ﴾ أَي: ثمَّ لَا يمهلون.
90
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَو جَعَلْنَاهُ ملكا لجعلناه رجلا﴾ أَي: فِي صُورَة رجل؛ لِأَن الرجل أأنس بِالرجلِ، وَأفهم مِنْهُ، وَقد جَاءَ جِبْرِيل إِلَى النَّبِي فِي صُورَة دحْيَة الْكَلْبِيّ وَجَاء الْملكَانِ إِلَى دَاوُد فِي صُورَة رجلَيْنِ ﴿وللبسنا عَلَيْهِم مَا يلبسُونَ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس، وَالضَّحَّاك، وَجَمَاعَة: مَعْنَاهُ: خلطنا عَلَيْهِم مَا يخلطون، وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَنهم شبهوا على ضعفائهم فتشبه عَلَيْهِم كَمَا شبهوا، وَينزل الْملك فِي صُورَة رجل (حَيّ) يشْتَبه عَلَيْهِم؛ فَيَقُول بَعضهم: هُوَ ملك، وَيَقُول بَعضهم: لَيْسَ بِملك، وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن مَعْنَاهُ: أضللناهم بإنزال الْملك فِي صُورَة رجل، كَمَا ضلوا من قبل، أَي: لَو حسبوا أَن يهتدوا بإنزال الْملك، فإنزال الْملك لَا يعجزنا من إضلالهم بِهِ.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَقَد استهزئ برسل من قبلك﴾ سَبَب هَذَا: " أَن رَسُول الله مر على الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَأُميَّة بن خلف، وَأبي جهل، فضحكوا هزوا بِهِ؛ فَنزلت الْآيَة تَسْلِيَة لَهُ " ﴿فحاق بالذين﴾ أَي: فَنزل بالذين ﴿سخروا مِنْهُم مَا كَانُوا﴾ أَي: وبال مَا كَانُوا ﴿بِهِ يستهزءون﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل سِيرُوا فِي الأَرْض﴾ يحْتَمل هَذَا السّير بالفكرة والعقول، وَيحْتَمل السّير بالأقدام ﴿ثمَّ انْظُرُوا كَيفَ كَانَ عَاقِبَة المكذبين﴾ يَعْنِي: مِمَّن سبق من الْأُمَم.
90
﴿وَالْأَرْض قل لله كتب على نَفسه الرَّحْمَة ليجمعنكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا ريب فِيهِ الَّذين خسروا أنفسهم فهم لَا يُؤمنُونَ (١٢) وَله مَا سكن فِي اللَّيْل وَالنَّهَار وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (١٣) قل أغير الله اتخذ وليا فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ يطعم وَلَا يطعم قل إِنِّي﴾
91
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل لمن مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض قل لله﴾ أَمر بِالْجَوَابِ عقيب السُّؤَال؛ ليَكُون أبلغ فِي التَّأْثِير، وآكد فِي الْحجَّة؛ لِأَن من سَأَلَ غَيره عَن شَيْء ثمَّ عقبه بِالْجَوَابِ كَانَ ذَلِك أبلغ تَأْثِيرا ﴿كتب على نَفسه الرَّحْمَة﴾ أَي: (قضى)، وَقد صَحَّ بِرِوَايَة أبي هُرَيْرَة: أَن رَسُول الله قَالَ: " إِن الله كتب كتابا قبل خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض، فَهُوَ عِنْده فَوق عَرْشه: سبقت رَحْمَتي غَضَبي ".
﴿ليجمعنكم﴾ اللَّام لَام الْقسم أَي: وَالله ليجمعنكم. ﴿إِلَى يَوْم الْقِيَامَة لَا ريب فِيهِ﴾ أَي: لَا شكّ فِيهِ ﴿الَّذين خسروا أنفسهم﴾ غبنوا أنفسهم ﴿فهم لَا يُؤمنُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَله مَا سكن فِي اللَّيْل وَالنَّهَار﴾ وَقيل: فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره: وَله مَا سكن وَمَا تحرّك، وَقيل: هُوَ السّكُون خَاصَّة، وَإِنَّمَا خص السّكُون؛ لِأَن النِّعْمَة فِي السّكُون أَكثر مِنْهَا فِي الْحَرَكَة ﴿وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل أغير الله اتخذ وليا فاطر السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ الفاطر: الْخَالِق، المنشئ لِلْخلقِ، قَالَ الْأَصْمَعِي: مَا كنت أعرف معنى الفاطر، حَتَّى أختصم إِلَى أعربيان فِي بِئْر؛ فَقَالَ أَحدهمَا: أَنا فطرته، وَقَالَ الآخر: أَنا فطرته؛ فَعرفت أَنه [إنْشَاء] الْخلق ﴿وَهُوَ يطعم وَلَا يطعم﴾ قَرَأَ الْأَعْمَش: " وَهُوَ يطعم وَلَا يطعم " بِفَتْح الْيَاء، أَي: يُؤْكَل وَلَا يَأْكُل، وَأما الْقِرَاءَة الْمَعْرُوفَة، فَمَعْنَاه: وَهُوَ يرْزق وَلَا يرْزق.
﴿قل إِنِّي أمرت أَن أكون أول من أسلم﴾ يَعْنِي: من هَذِه الْأمة، وَالْإِسْلَام يَعْنِي الاستسلام لأمر الله - تَعَالَى - ﴿وَلَا تكونن من الْمُشْركين﴾ وَهُوَ وَإِن كَانَ مَعْصُوما
91
﴿أمرت أَن أكون أول من أسلم وَلَا تكونن من الْمُشْركين (١٤) قل إِنِّي أَخَاف إِن عصيت رَبِّي عَذَاب يَوْم عَظِيم (١٥) من يصرف عَنهُ يَوْمئِذٍ فقد رَحمَه وَذَلِكَ الْفَوْز الْمُبين (١٦) وَإِن يمسسك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِن يمسسك بِخَير فَهُوَ على﴾ عَن الشّرك، لَكِن الْأَمر (بالثبات) على الْإِيمَان، وَترك الْإِشْرَاك يجوز أَن يكون مُتَوَجها عَلَيْهِ، وَقيل: الْخطاب مَعَه، وَالْمرَاد بِهِ: الْأمة.
92
﴿قَالَ إِنِّي أَخَاف إِن عصيت رَبِّي عَذَاب يَوْم عَظِيم﴾ أَي: عَذَاب الْقِيَامَة
﴿من يصرف عَنهُ﴾ يَعْنِي: الْعَذَاب، وَقَرَأَ حَمْزَة، وَالْكسَائِيّ، وَأَبُو بكر عَن عَاصِم: بِفَتْح الْيَاء، يَعْنِي: من يصرف الله عَنهُ الْعَذَاب ﴿يَوْمئِذٍ فقد رَحمَه وَذَلِكَ الْفَوْز الْمُبين﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِن يمسسك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ﴾ الضّر: خلاف النَّفْع وَمَعْنَاهُ: إِن يصبك الله بضر فَلَا كاشف لَهُ إِلَّا هُوَ ﴿وَإِن يمسسك بِخَير فَهُوَ على كل شَيْء قدير﴾ وروى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: " كنت رَدِيف النَّبِي، فَقَالَ: أَلا أعلمك كَلِمَات تنْتَفع بِهن فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة؟ قلت: (نعم) ؛ (فَقَالَ) : احفظ الله يحفظك... " الْخَبَر إِلَى أَن قَالَ: " فَلَو اجْتمع الْخلق على أَن ينفعوك بِشَيْء لم يَكْتُبهُ الله لَك لم يقدروا عَلَيْهِ، وَلَو اجْتَمعُوا على أَن يمنعوك شَيْئا كتبه الله لَك لم يقدروا عَلَيْهِ... " - الْخَبَر.
92
﴿كل شَيْء قدير (١٧) وَهُوَ القاهر فَوق عباده وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير (١٨) قل أَي شَيْء أكبر شَهَادَة قل الله شَهِيد بيني وَبَيْنكُم وأوحي إِلَيّ هَذَا الْقُرْآن لأنذركم بِهِ وَمن بلغ أئنكم لتشهدون أَن مَعَ الله آلِهَة أُخْرَى قل لَا أشهد قل إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِد وإنني بَرِيء مِمَّا تشركون (١٩) الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم الَّذين خسروا﴾
93
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَهُوَ القاهر فَوق عباده﴾ القاهر: الْغَالِب الَّذِي لَا يغلب، وَقيل: هُوَ الْمُنْفَرد بِالتَّدْبِيرِ، يجْبر الْخلق على مُرَاده، وَقَوله: ﴿فَوق عباده﴾ هُوَ صفة الاستعلاء الَّذِي لله - تَعَالَى - الَّذِي يعرفهُ أهل السّنة ﴿وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل أَي شَيْء أكبر شَهَادَة﴾ سَبَب هَذَا: أَن الْكفَّار قَالُوا: يَا مُحَمَّد، من يشْهد لَك بِالصّدقِ؟ فَنزلت الْآيَة: ﴿قل أَي شَيْء أكبر شَهَادَة﴾ يَعْنِي: من الله، وَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا على أَن الله شَيْء. ﴿قل الله شَهِيد بيني وَبَيْنكُم﴾ أَي: يشْهد لي بِالْحَقِّ، وَعَلَيْكُم بِالْبَاطِلِ.
﴿وأوحي إِلَيّ هَذَا الْقُرْآن لأنذركم بِهِ وَمن بلغ﴾ أَي: وَمن بلغه الْقُرْآن إِلَى قيام السَّاعَة، وَفِي الْخَبَر عَن النَّبِي: " نضر الله وَجه امْرِئ سمع مني مقَالَة، فوعاها، ثمَّ بلغَهَا؛ فَرب مبلغ أوعى من سامع " وَقيل: مَعْنَاهُ: لأنذركم بِهِ، يَعْنِي: الْعَرَب، وَمن بلغ، يَعْنِي: الْعَجم.
﴿أئنكم لتشهدون أَن مَعَ الله آلِهَة أُخْرَى قل لَا أشهد قل إِنَّمَا هُوَ إِلَه وَاحِد وإنني بَرِيء مِمَّا تشركون﴾ أمره بِالْجَوَابِ عقيب السُّؤَال لما بَينا.
﴿الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعرفونه﴾ قيل: أَرَادَ بِهِ: مُحَمَّدًا، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: الْقُرْآن يعرفونه ﴿كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم﴾.
93
﴿أنفسهم فهم لَا يُؤمنُونَ (٢٠) وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو كذب بآياته إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا ثمَّ نقُول للَّذين أشركوا أَيْن شركاؤكم الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ (٢٢) ثمَّ لم تكن فتنتهم إِلَّا أَن قَالُوا وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين﴾
﴿الَّذين خسروا أنفسهم فهم لَا يُؤمنُونَ﴾ أَي: غبنوا أنفسهم، وغبنهم: أَنهم خسروا رَأس المَال، وَفِي الْخَبَر: أَن الله - تَعَالَى - خلق لكل آدَمِيّ منَازِل فِي الْجنَّة، فَإِن كفر خسر تِلْكَ الْمنَازل، وَجعلهَا الله - تَعَالَى - لمُؤْمِن.
94
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا﴾ أَي: قَالَ عَلَيْهِ مَا لم يقلهُ ﴿أَو كذب بآياته﴾ يَعْنِي: آيَات الْقُرْآن ﴿إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا﴾ أَرَادَ بِهِ: حشر الْقِيَامَة ﴿ثمَّ [نقُول] للَّذين أشركوا أَيْن شركاءكم الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ﴾ يَعْنِي أَيْن الشُّرَكَاء الَّذين كُنْتُم تَزْعُمُونَ أَنهم شُرَكَاء الله، والزعم قَول الْكَذِب، قَالَ ابْن عَبَّاس: الزَّعْم الْكَذِب فِي كل مَوضِع، وَفِي الْآثَار: " زَعَمُوا مَطِيَّة الْكَذِب ".
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ثمَّ لم تكن فتنتهم إِلَّا أَن قَالُوا وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين﴾ قَالَ قَتَادَة: مَعْنَاهُ: ثمَّ لم تكن معذرتهم - وَقَالَ غَيره: ثمَّ لم يكن كَلَامهم - إِلَّا أَن قَالُوا.
قَالَ الزّجاج: فِي قَوْله: ﴿ثمَّ لم تكن فتنتهم﴾ معنى لطيف، وَذَلِكَ مثل الرجل يفتن (بمحبوب) ثمَّ تصيبه فِي ذَلِك محنة؛ فيتبرأ من محبوبه؛ فَيُقَال: لم تكن فتنته إِلَّا هَذَا، كَذَلِك الْكفَّار لما فتنُوا بمحبة الْأَصْنَام، ثمَّ إِذا رَأَوْا الْعَذَاب يتبرءون مِنْهَا.
يَقُول الله - تَعَالَى -: {ثمَّ لم تكن فتنتهم إِلَّا أَن قَالُوا وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين
94
( ﴿٢٣) انْظُر كَيفَ كذبُوا على أنفسهم وضل عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون (٢٤) وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة أَن يفقهوه وَفِي آذانهم وقرا وَإِن يرَوا كل آيَة لَا يُؤمنُوا بهَا حَتَّى إِذا جاءوك يجادلونك يَقُول الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين﴾
95
انْظُر كَيفَ كذبُوا على أنفسهم) كذبهمْ عل أنفسهم: تبرئهم من الشّرك ﴿وضل﴾ أَي: ذهب ﴿عَنْهُم مَا كَانُوا يفترون﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَمِنْهُم من يستمع إِلَيْك وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة﴾ هَذَا فِي رُؤَسَاء الْمُشْركين، مثل: أبي سُفْيَان بن حَرْب - حِين كَانَ مُشْركًا - وَأبي جهل بن هِشَام، وَعتبَة، وَشَيْبَة ابْني ربيعَة، والوليد بن الْمُغيرَة، وَغَيرهم، كَانُوا يَسْتَمِعُون الْقُرْآن؛ فَقَالُوا: لأبي سُفْيَان: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: أرى فِيهِ حَقًا وباطلا. فَقَالَ أَبُو جهل: حَتَّى تفاخرنا واستوينا فِي الْمجد، واستوت بِنَا الركب، تَزْعُمُونَ أَن مِنْكُم نَبيا يَا بني عبد منَاف، وَالله لَا نقر بِهَذَا، وَفِي رِوَايَة: [للْمَوْت] أَهْون علينا من هَذَا.
﴿وَجَعَلنَا على قُلُوبهم أكنة﴾ هِيَ جمع " الكنان " كالأعنة جمع الْعَنَان وَهِي الأغطية ﴿أَن يفقهوه﴾ قَالَ بَعضهم: كَرَاهَة أَن يفقهوه، وَقَالَ آخَرُونَ: أَن لَا يفقهوه ﴿وَفِي آذانهم وقرا﴾ أَي: وَجَعَلنَا فِي آذانهم صمما، قَالَ ابْن عَبَّاس: والوقر: أَصله الثّقل؛ وَمن ثقل الْأذن جَاءَ الصمم.
﴿وَإِن يرَوا كل آيَة لَا يُؤمنُوا بهَا﴾ هَذَا فِي معجزات النَّبِي، وَمَا أَرَاهُم من الْآيَات.
يَقُول الله - تَعَالَى -: وَإِن يرَوا جَمِيع تِلْكَ الْآيَات لَا يُؤمنُوا بهَا، وَقيل: إِنَّهُم اقترحوا آيَة؛ فَنزل قَوْله: ﴿وَإِن يرَوا كل آيَة لَا يُؤمنُوا بهَا﴾ وَهَذَا فِي قوم مخصوصين، علم الله أَنهم لَا يُؤمنُونَ.
﴿حَتَّى إِذا جاءوك يجادلونك يَقُول الَّذين كفرُوا إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين﴾ مجادلتهم: أَنهم قَالُوا للنضر بن الْحَارِث بن كلدة، وَكَانَ قد نظر فِي الْكتب الْمنزلَة،
95
( ﴿٢٥) وهم ينهون عَنهُ وينئون عَنهُ وَإِن يهْلكُونَ إِلَّا أنفسهم وَمَا يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَو﴾ وَكَانَ مِمَّن يستمع الْقُرْآن؛ فَقَالُوا لَهُ: مَا تَقول فِي هَذَا؟ قَالَ: إِن هَذَا إِلَّا أساطير الْأَوَّلين، مثل أقاصيص رستم واسفنديار، وصحف الْأَوَّلين، قَالَ ثَعْلَب: الأساطير: جمع الأسطورة، وَهِي الْمَكْتُوبَة.
96
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وهم ينهون عَنهُ وينئون عَنهُ﴾ أَي: ينهون النَّاس عَن اتِّبَاع مُحَمَّد، وتباعدون عَنهُ بِأَنْفسِهِم، وَقيل: معنى قَوْله ﴿ينهون عَنهُ﴾ أَي: يَذبُّونَ عَنهُ، وَيمْنَعُونَ النَّاس عَن أَذَاهُ ﴿وينئون عَنهُ﴾ أَي: يتباعدون عَن الْإِيمَان بِهِ، وَذَلِكَ مثل أبي طَالب، كَانَ يذب عَنهُ حَال حَيَاته، قَالَ ابْن عَبَّاس: هُوَ فِي أبي طَالب. حَتَّى روى أَنه اجْتمع عَلَيْهِ رُؤَسَاء قُرَيْش، وَقَالُوا لَهُ: اختر شَابًّا من أَصْحَابنَا وجيها، واتخذه ابْنا لَك، وادفع إِلَيْنَا مُحَمَّدًا؛ فَقَالَ أَبُو طَالب: مَا أنصفتموني، أدفَع إِلَيْكُم وَلَدي ليقْتل، وأربي ولدكم؟ !
وروى أَنه قَالَ لرَسُول الله: " لَوْلَا أَن قُريْشًا تعيرني لأقررت عَيْنك بِالْإِيمَان "، وَكَانَ يذب عَنهُ إِلَى أَن توفّي، وروى: " أَنه قَرَأَ عَلَيْهِ قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وهم ينهون عَنهُ وينئون عَنهُ﴾ فَقَالَ أَبُو طَالب: أما أَن أَدخل فِي دينك فَلَا أَدخل أبدا، وَلَكِنِّي أذب عَنْك مَا حييت "، وَله فِيهِ أَبْيَات:
96
﴿ترى إِذْ وقفُوا على النَّار فَقَالُوا يَا ليتنا نرد وَلَا نكذب بآيَات رَبنَا ونكون من الْمُؤمنِينَ (٢٧) بل بدا لَهُم مَا كَانُوا يخفون من قبل وَلَو ردوا لعادوا لما نهوا عَنهُ وَإِنَّهُم﴾
(وَالله لن يصلوا إِلَيْك بِجَمْعِهِمْ حَتَّى أُوَسَّد فِي التُّرَاب دَفِينا)
(فَاصْدَعْ بِأَمْرك مَا عَلَيْك غَضَاضَة وأبشر بِذَاكَ وقر مِنْك عيُونا)
(وَدَعَوْتنِي وَعلمت أَنَّك ناصحي وصدقتني ولكنت ثمَّ أَمينا)
(وَلَقَد علمت بِأَن دين مُحَمَّد من خير أَدْيَان الْبَريَّة دينا)
(لَوْلَا الْمَلَامَة أَو حذار مسَبَّة لَوَجَدْتنِي سَمحا بِذَاكَ مُبينًا)
﴿وَإِن يهْلكُونَ إِلَّا أنفسهم﴾ أَي: لَا يرجع وبال فعلهم إِلَّا إِلَيْهِم ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.
97
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَو ترى إِذْ وقفُوا على النَّار﴾ أَي: دخلُوا النَّار، (وَقيل: عرضوا على النَّار)، وَالْوُقُوف: الِاطِّلَاع على حَقِيقَة الشَّيْء ﴿فَقَالُوا يَا ليتنا نرد﴾ إِلَى الدُّنْيَا ﴿وَلَا نكذب بآيَات رَبنَا﴾ قَالَ سِيبَوَيْهٍ: هُوَ ابْتِدَاء كَلَام، يَعْنِي: لَا نكذب أبدا، رددنا أَو لم نرد، وَقَالَ غَيره: هُوَ على نسقه، أَي: يَا ليتنا نرد وَلَا نكذب بآيَات رَبنَا، أَي: لَا نكفر بعد الرَّد إِلَى الدُّنْيَا ﴿ونكون من الْمُؤمنِينَ﴾ وَيقْرَأ " ونكون " بِنصب النُّون، وَتَقْدِيره: ولنكون من الْمُؤمنِينَ.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿بل بدا لَهُم﴾ قَوْله: " بل " بحتة، رد لما قَالُوا، وَقَوله: ﴿بدا لَهُم مَا كَانُوا يخفون من قبل﴾ أَي: ظهر لَهُم مَا أخفوا من قبل من تبرئهم عَن الشّرك بقَوْلهمْ: وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين؛ وَذَلِكَ أَنهم إِذا قَالُوا ذَلِك؛ يخْتم الله على أَفْوَاههم، وتنطق جوارحهم بشركهم؛ فيبدو لَهُم مَا كَانُوا يخفون من قبل.
﴿وَلَو ردوا لعادوا لما نهوا عَنهُ﴾ أَي: وَلَو ردوا إِلَى الدُّنْيَا لعادوا إِلَى الْكفْر، والشرك بِاللَّه ﴿وَإِنَّهُم لَكَاذِبُونَ﴾ يَعْنِي: فِي قَوْلهم ﴿يَا ليتنا نرد لَا نكذب بآيَات رَبنَا﴾ وَفِي الْأَخْبَار: " أَن الله تَعَالَى يعْتَذر إِلَى آدم يَوْم الْقِيَامَة بِثَلَاث معاذير، أَحدهَا هَذَا بقوله: إِنِّي لَا أَدخل من ذريتك النَّار إِلَّا من أعلم أَنِّي لَو رَددته إِلَى الدُّنْيَا سبعين
97
﴿لَكَاذِبُونَ (٢٨) وَقَالُوا إِن هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا وَمَا نَحن بمبعوثين (٢٩) وَلَو ترى إِذْ وقفُوا على رَبهم قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بلَى وربنا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون (٣٠) قد خسر الَّذين كذبُوا بلقاء الله حَتَّى إِذا جَاءَتْهُم السَّاعَة بَغْتَة قَالُوا يَا﴾ مرّة لكفر (بِي) ".
98
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَقَالُوا إِن هِيَ إِلَّا حياتنا الدُّنْيَا وَمَا نَحن بمبعوثين﴾ هَذَا فِي إنكارهم الْبَعْث وَالْقِيَامَة،
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَو ترى إِذْ وقفُوا على رَبهم﴾ أَي: عرضوا على رَبهم، ﴿قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ﴾ وَذَلِكَ حِين تكشف [لَهُم] الغيوب والسرائر.
﴿قَالُوا بلَى وربنا﴾ فيقرون بهَا، قَالَ ابْن عَبَّاس: هَذَا فِي موقف، وَقَوله: ﴿وَالله رَبنَا مَا كُنَّا مُشْرِكين﴾ فِي موقف آخر، وَفِي الْقِيَامَة مَوَاقِف، فَفِي موقف يُنكرُونَ، وَفِي موقف يقرونَ، ﴿قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَاب بِمَا كُنْتُم تكفرون﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قد خسر الَّذين كذبُوا بلقاء الله﴾ أَي: خسروا أنفسهم بتكذيبهم بالمصير إِلَى الله؛ فاللقاء هَا هُنَا بِمَعْنى الْمصير إِلَيْهِ ﴿حَتَّى إِذا جَاءَتْهُم السَّاعَة بَغْتَة﴾ أَي: فَجْأَة ﴿قَالُوا يَا حسرتنا﴾ هَذَا على الْمُبَالغَة، كَقَوْلِهِم: يَا عجبا، وَقَول الْقَائِل: يَا عجبا، أبلغ من قَوْله: أَنا متعجب؛ فَكَذَلِك قَوْله: ﴿يَا حسرتنا﴾ أبلغ من قَوْله: أَنا متحسر، قَالَ سِيبَوَيْهٍ: هَذَا على وَجه النداء، كَأَنَّهُ يَقُول: أيتها الْحَسْرَة هَذَا أوانك وأيها الْعجب جَاءَ أوانك.
﴿على مَا فرطنا فِيهَا﴾ أَي: قَصرنَا فِيهَا، أَي: فِي أَمر الْقِيَامَة {وهم يحملون
98
﴿حسرتنا على مَا فرطنا فِيهَا وهم يحملون أوزارهم على ظُهُورهمْ أَلا سَاءَ مَا يزرون (٣١) وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا لعب وَلَهو وللدار الْآخِرَة خير للَّذين يَتَّقُونَ أَفلا تعقلون (٣٢) قد﴾ أوزارهم على ظُهُورهمْ) الأوزار: الأثقال، وَاحِدهَا: وزر، وَمِنْه الْوزر، وَهُوَ الْحَبل فِي قَوْله - تَعَالَى -: ﴿كلا لَا وزر﴾ أَي: لَا حَبل وَلَا ملاذ، وَحَملهمْ الأوزار بَيَانه فِي الْخَبَر، وَهُوَ مَا روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " يحْشر النَّاس يَوْم الْقِيَامَة، فَمن كَانَ مِنْهُم برا تَلقاهُ صُورَة حَسَنَة طيبَة الرّيح، فَتَقول: أما تعرفنِي؟ أَنا عَمَلك الصَّالح، فاركبني فقد طَال مَا ركبتك، وَمن كَانَ فَاجِرًا تَلقاهُ صُورَة قبيحة مُنْتِنَة الرّيح، فَتَقول: أما تعرفنِي؟ أَنا عَمَلك الْخَبيث، وَقد طَال مَا ركبتني فَأَنا الْيَوْم أركبك ". فَهَذَا معنى قَوْله: ( ﴿وهم يحملون أوزارهم على ظُهُورهمْ أَلا سَاءَ مَا يزرون﴾
99
وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا لعب وَلَهو وللدار الْآخِرَة خير للَّذين يَتَّقُونَ أَفلا تعقلون) وصف كلا الدَّاريْنِ فِي هَذِه الْآيَة.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قد نعلم إِنَّه ليحزنك الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك وَلَكِن الظَّالِمين بآيَات الله يجحدون﴾ سَبَب هَذَا: " أَن رَسُول الله مر على أبي جهل، فَقَالَ: يَا مُحَمَّد، أَنْت صَادِق عندنَا، وَإِنَّمَا نكذب بِمَا جِئْت بِهِ " فَهَذَا معنى الْآيَة. وَقيل: إِنَّمَا نزل هَذَا تَسْلِيَة للرسول، يَقُول الله - تَعَالَى -: لَا تحزن؛ فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك، وَيقْرَأ: " فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك " مخففا، وَالْفرق بَين التَّكْذِيب والإكذاب: أَن التَّكْذِيب: هُوَ أَن يَقُول لَهُ: كذبت، والإكذاب: هُوَ أَن يجده كَاذِبًا.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَقَد كذبت رسل من قبلك فصبروا على مَا كذبُوا وأوذوا﴾ فِيهِ
99
﴿نعلم إِنَّه ليحزنك الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُم لَا يكذبُونَك وَلَكِن الظَّالِمين بآيَات الله يجحدون (٣٣) وَلَقَد كذبت رسل من قبلك فصبروا على مَا كذبُوا وأوذوا حَتَّى أَتَاهُم نصرنَا وَلَا مبدل لكلمات الله وَلَقَد جَاءَك من نبأ الْمُرْسلين (٣٤) وَإِن كَانَ كبر عَلَيْك إعراضهم فَإِن اسْتَطَعْت أَن تبتغي نفقا فِي الأَرْض أَو سلما فِي السَّمَاء فتأتيهم بِآيَة وَلَو شَاءَ الله﴾ حذف، وَتَقْدِيره: وَلَقَد كذبت رسل من قبلك وأوذيت، فصبروا على مَا كذبُوا وأوذوا ﴿حَتَّى أَتَاهُم نصرنَا وَلَا مبدل لكلمات الله﴾ أَي: لعلم الله وَأَحْكَامه ﴿وَلَقَد جَاءَك من نبأ الْمُرْسلين﴾ أَي: أَخْبَار الْمُرْسلين.
100
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِن كَانَ كبر عَلَيْك إعراضهم فَإِن اسْتَطَعْت أَن تبتغي نفقا فِي الأَرْض﴾ النفق: السرب فِي الأَرْض، وَمِنْه: " النافقاء " وَهُوَ جُحر اليربوع؛ وَمِنْه: النِّفَاق، لِأَن الْمُنَافِق يدْخل نفقين ﴿أَو سلما فِي السَّمَاء [فتأتيهم بِآيَة] ﴾ أَي: درجا فِي السَّمَاء فتأتيهم بِآيَة، سَبَب هَذَا: أَن الْكفَّار كَانُوا يقترحون الْآيَات؛ وود النَّبِي أَن (يعطيهم) الله مَا اقترحوا من الْآيَات (طَمَعا) فِي أَن يرَوا الْآيَات؛ فيسلموا فَنزل قَوْله: ﴿فَإِن اسْتَطَعْت أَن تبتغي نفقا فِي الأَرْض أَو سلما فِي السَّمَاء فتأتيهم بِآيَة﴾ وَتَقْدِيره: إِن اسْتَطَعْت ذَلِك فافعل، وَفِيه حذف.
﴿وَلَو شَاءَ الله لجمعهم على الْهدى﴾ أَي: بِأَن يُرِيهم آيَة؛ يضطرون إِلَى الْإِيمَان بهَا، وَالصَّحِيح: أَن المُرَاد بِهِ: وَلَو شَاءَ الله لطبعهم وخلقهم على الْإِيمَان؛ فَهَذَا أقرب إِلَى قَول أهل السّنة؛ لِأَن إِيمَان الضَّرُورَة لَا ينفع، وَإِنَّمَا ينفع الْإِيمَان بِالْغَيْبِ اخْتِيَارا ﴿فَلَا تكونن من الْجَاهِلين﴾ أَي: بِهَذَا الْحَرْف، وَذَلِكَ قَوْله: ﴿وَلَو شَاءَ الله لجمعهم على الْهدى﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِنَّمَا يستجيب الَّذين يسمعُونَ﴾ هَاهُنَا الْوَقْف، وَمَعْنَاهُ: إِنَّمَا يستجيب الَّذين يسمعُونَ سَماع الْقبُول ﴿والموتى يَبْعَثهُم الله﴾ يَعْنِي: الْكفَّار {ثمَّ
100
﴿لجمعهم على الْهدى فَلَا تكونن من الْجَاهِلين (٣٥) إِنَّمَا يستجيب الَّذين يسمعُونَ والموتى يَبْعَثهُم الله ثمَّ إِلَيْهِ يرجعُونَ (٣٦) وَقَالُوا لَوْلَا نزل عَلَيْهِ آيَة من ربه قل إِن الله قَادر على أَن ينزل آيَة وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ (٣٧) وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر إِلَيْهِ يرجعُونَ﴾.
101
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نزل عَلَيْهِ آيَة من ربه قل إِن الله قَادر على أَن ينزل آيَة﴾ يَعْنِي: أَنه قَادر على إِنْزَال الْآيَات، وَقد أنزل كثيرا من الْآيَات والمعجزات، وَلَكِن لَا ينزل الْآيَات على اقتراح الْكفَّار ﴿وَلَكِن أَكْثَرهم لَا يعلمُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه﴾ إِنَّمَا قيد الطيران بالجناح تَأْكِيدًا ﴿إِلَّا أُمَم أمثالكم﴾ أَي: أَصْنَاف أمثالكم، وَفِي الْخَبَر: " لَوْلَا أَن الْكلاب أمة؛ لأمرتكم بقتلها؛ فَاقْتُلُوا مِنْهَا كل أسود بهيم، فَإِنَّهُ شَيْطَان "، وَمعنى الْآيَة: أَنَّهَا أمثالكم فِي الْخلق، وَالْمَوْت، والبعث، يَعْنِي: يخلقها كَمَا يخلقكم، ويميتها كَمَا يميتكم ويبعثها كَمَا يبعثكم، وَقيل: معنى قَوْله: ﴿أُمَم أمثالكم﴾ يَعْنِي: فِي الْعلم بالضار والنافع، والتوقي عَن الْهَلَاك، وَمَعْرِفَة الْعَدو.
﴿مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: نرى كثيرا من الْأَحْكَام لَيست فِي الْكتاب، فَمَا معنى قَوْله: ﴿مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء﴾ ؟ قيل: مَا من شَيْء إِلَّا وَأَصله فِي الْكتاب، وَقيل: مَا قَالَه الرَّسُول، فَإِنَّمَا قَالَه من الْكتاب؛ لِأَنَّهُ قد قَالَ فِي خبر مَعْرُوف: " أُوتيت الْقُرْآن وَمثله " وَقد قَالَ الله - تَعَالَى - {وَمَا ينْطق عَن
101
﴿يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء ثمَّ إِلَى رَبهم يحشرون (٣٨) وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا صم وبكم فِي الظُّلُمَات من يَشَأْ الله يضلله وَمن يَشَأْ يَجعله على صِرَاط مُسْتَقِيم (٣٩) قل أَرَأَيْتكُم إِن أَتَاكُم عَذَاب الله أَو أتتكم السَّاعَة أغير الله﴾ لهوى إِن هُوَ إِلَّا وَحي يُوحى) فَكل مَا ثَبت بِالسنةِ؛ فَكَأَنَّهُ ثَابت فِي الْكتاب، وَقيل: [مَعْنَاهُ] : مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء تقع الْحَاجة إِلَيْهِ.
﴿ثمَّ إِلَى رَبهم يحشرون﴾ وَلَا شكّ فِي حشر الْبَهَائِم والحيوانات يَوْم الْقِيَامَة، حَتَّى روى: أَن الله - تَعَالَى - يحشرها ويقتص للجماء من القرناء، وروى أَبُو ذَر: " أَن النَّبِي رأى شَاتين تنتطحان؛ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَر، أَتَدْرِي فِيمَا نتطحان؟ فَقلت: لَا. فَقَالَ لَكِن الله يدْرِي، وسيقضي بَينهمَا وأمثال هَذَا كثير "، وسبيل النَّاس أَن يُؤمنُوا بِهِ، ويكلوا علمه إِلَى الله - تَعَالَى - فَإِنَّهُ شَيْء لَا تهتدي إِلَيْهِ الْعُقُول، وعَلى هَذِه الْآيَة حِكَايَة: حُكيَ أَن بهْلُول الْمَجْنُون رأى أَبَا يُوسُف القَاضِي فِي الطَّرِيق؛ فَسَأَلَهُ وَقَالَ: إِن الله - تَعَالَى - يَقُول: ﴿وَمَا من دَابَّة فِي الأَرْض وَلَا طَائِر يطير بجناحيه إِلَّا أُمَم أمثالكم﴾ ثمَّ يَقُول: ﴿وَإِن من أمة إِلَّا خلا فِيهَا نَذِير﴾ فَمَا نَذِير الْكلاب؟ فتحير أَبُو يُوسُف عَن الْجَواب، فَأخذ بهْلُول حجرا من الأَرْض، وَقَالَ: هَذَا نَذِير الْكلاب.
102
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا صم وبكم فِي الظُّلُمَات﴾ أَي: صم عَن سَماع الْحق، وبكم عَن قَول الْحق ﴿من يَشَأْ الله يضلله وَمن يَشَأْ يَجعله على صِرَاط مُسْتَقِيم﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل أَرَأَيْتكُم إِن أَتَاكُم عَذَاب الله﴾ قيل: عَذَاب الله: هُوَ
102
﴿تدعون إِن كُنْتُم صَادِقين (٤٠) بل إِيَّاه تدعون فَيكْشف مَا تدعون إِلَيْهِ إِن شَاءَ وتنسون مَا تشركون (٤١) وَلَقَد أرسلنَا إِلَى أُمَم من قبلك فأخذناهم بالبأساء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فلولا إِذْ جَاءَهُم بأسنا تضرعوا وَلَكِن قست قُلُوبهم وزين لَهُم﴾ الْمَوْت ﴿أَو أتتكم السَّاعَة﴾ يَعْنِي: الْقِيَامَة ﴿أغير الله تدعون إِن كُنْتُم صَادِقين﴾ هَذَا اسْتِفْهَام بِمَعْنى التَّقْرِير، يَعْنِي: لَا تدعون إِلَّا الله، وَأَرَادَ بِهِ فِي أَحْوَال الضرورات؛ فَإِن الْكفَّار فِي حَال الضرورات يدعونَ الله - تَعَالَى - كَمَا قَالَ: ﴿وَإِذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مُخلصين لَهُ الدّين﴾.
103
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿بل إِيَّاه تدعون﴾ هَذَا تَقْرِير لما استفهم مِنْهُ فِي الْآيَة الأولى، يَعْنِي: بل تدعون الله، وَلَا تدعون غَيره ﴿فَيكْشف مَا تدعون إِلَيْهِ إِن شَاءَ﴾ قيد إِجَابَة الدعْوَة بِالْمَشِيئَةِ هَا هُنَا، وأطلقها فِي قَوْله: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم﴾.
قَالَ أهل الْعلم: وَذَلِكَ مُقَيّد بِالْمَشِيئَةِ أَيْضا، بِدَلِيل هَذِه الْآيَة.
﴿وتنسون مَا تشركون﴾ وَذَلِكَ أَنهم لما تركُوا الْأَصْنَام فِي حَال الضرورات إِلَى دُعَاء الله؛ فكأنهم نسوا مَا يشركُونَ، وَفِي الْآيَة مجَاز، وَتَقْدِير قَوْله: ﴿فَيكْشف مَا تدعون إِلَيْهِ﴾ أَي: فَيكْشف ضرّ مَا تدعون إِلَيْهِ.
وَقَوله - تَعَالَى -: ﴿وَلَقَد أرسلنَا إِلَى أُمَم من قبلك فأخذناهم بالبأساء وَالضَّرَّاء﴾ البأساء: الْجُوع، والفقر، وَالضَّرَّاء: الْمَرَض، والبلوى فِي النَّفس وَالْمَال.
﴿لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعُونَ﴾ التضرع: السُّؤَال بالتذلل، وَحكى أَبُو عبيد عَن الْفراء: فلَان يتَضَرَّع، ويتصدى [أَي] أَنه سَأَلَ متذللا وبتضرع.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فلولا إِذْ جَاءَهُم بأسنا تضرعوا﴾ أَي: فَهَلا تضرعوا ( ﴿إِذْ جَاءَهُم بأسنا﴾ وَلَكِن قست قُلُوبهم) قَالَ الزّجاج مَعْنَاهُ: بلغت قُلُوبهم فِي
103
﴿الشَّيْطَان مَا كَانُوا يعْملُونَ (٤٣) فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ فتحنا عَلَيْهِم أَبْوَاب كل شَيْء حَتَّى إِذا فرحوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَة فَإِذا هم مبلسون (٤٤) فَقطع دابر الْقَوْم الَّذين﴾ القساوة أَنا أرسلنَا إِلَيْهِم الرُّسُل، وأريناهم الْآيَات، وأخذناهم بالبأساء وَالضَّرَّاء، فَلم يتضرعوا، وَلم يعودوا عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ ﴿وزين لَهُم الشَّيْطَان مَا كَانُوا يعْملُونَ﴾ يَعْنِي: حَتَّى مضوا على عَمَلهم وكفرهم.
104
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فَلَمَّا نسوا مَا ذكرُوا بِهِ فتحنا عَلَيْهِم أَبْوَاب كل شَيْء﴾ هَذَا فتح اسْتِدْرَاج ومكر، وَفِي الْآثَار: " من فتح عَلَيْهِ بَاب نعْمَة، فَلم ير أَنه مكر بِهِ فَلَا رَأْي لَهُ، وَمن أَصَابَته شدَّة فَلم ير أَنه نظر لَهُ، فَلَا رَأْي لَهُ " يَعْنِي: فِي الدّين.
﴿حَتَّى إِذا فرحوا بِمَا أُوتُوا﴾ هَذَا فَرح بطر، وَهُوَ مَنْهِيّ عَنهُ، وَذَلِكَ مثل فَرح قَارون بِمَا أصَاب من الدُّنْيَا حَتَّى قَالَ لَهُ قومه: " لَا تفرح إِن الله لَا يحب الفرحين ".
﴿أَخَذْنَاهُم بَغْتَة﴾ أَي: فَجْأَة ﴿فَإِذا هم مبلسون﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: آيسون من حمل خير، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: المبلس: النادم الحزين، وَقَالَ الْفراء: هُوَ السَّاكِت الْمُنْقَطع عَن الْحجَّة، وأنشدوا:
(يَا صَاح هَل تعرف رسما مكرسا قَالَ نعم أعرفهُ وأبلسا)
وَقَالَ آخر:
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فَقطع دابر الْقَوْم الَّذين ظلمُوا﴾ الدابر: الأَصْل هَا هُنَا؛ فَيكون الدابر بِمَعْنى: الآخر؛ وَمِنْه قَوْله: " من أَشْرَاط السَّاعَة كَذَا وَكَذَا، وَلَا يأْتونَ الصَّلَاة إِلَّا دبرا "، أَي: آخرا ﴿وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين﴾ حمد الله نَفسه على إهلاكهم واستئصالهم، وَفِيه تعليمنا الْحَمد لله على هَلَاك الْكفَّار.
قَوْله - تَعَالَى -: {قل أَرَأَيْتُم إِن أَخذ الله سمعكم وأبصاركم وَختم على قُلُوبكُمْ
104
﴿ظلمُوا وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين (٤٥) قل أَرَأَيْتُم إِن أَخذ الله سمعكم وأبصاركم وَختم على قُلُوبكُمْ من إِلَه غير الله يأتيكم بِهِ انْظُر كَيفَ نصرف الْآيَات ثمَّ هم يصدفون (٤٦) قل أَرَأَيْتكُم إِن أَتَاكُم عَذَاب الله بَغْتَة أَو جهرة هَل يهْلك إِلَّا الْقَوْم الظَّالِمُونَ (٤٧) وَمَا نرسل الْمُرْسلين إِلَّا مبشرين ومنذرين فَمن آمن وَأصْلح فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا﴾ من إِلَه غير الله يأتيكم بِهِ) ذكر أَشْيَاء، ثمَّ قَالَ: ﴿يأتيكم بِهِ﴾ فَاخْتَلَفُوا؛ فَقَالَ (بَعضهم) مَعْنَاهُ: يأتيكم بِمَا (أَخذ. و) قَالَ آخَرُونَ: قَوْله: ﴿يأتيكم بِهِ﴾ يرجع إِلَى السّمع خَاصَّة، واندرج فِيهِ الْأَبْصَار والقلوب. وَمن هَذَا ذهب بعض الْعلمَاء إِلَى أَن السّمع أفضل من سَائِر الْحَواس؛ حَيْثُ خصّه بِالْكِنَايَةِ، وَقَالُوا: هُوَ مثل قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَالله وَرَسُوله أَحَق أَن يرضوه﴾ و " الْهَاء " رَاجِعَة إِلَى الله - تَعَالَى - واندرج فِيهِ الرَّسُول ﴿انْظُر كَيفَ نصرف الْآيَات ثمَّ هم يصدفون﴾ أَي: يعرضون.
105
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل أَرَأَيْتكُم إِن أَتَاكُم عَذَاب الله﴾ حكى الْفراء عَن الْعَرَب أَنهم يَقُولُونَ: أرأيتك بِمَعْنى أَخْبرنِي، [وأرأيتكما] بِمَعْنى أخبراني، وأرأيتكم يَعْنِي: أخبروني وأرأيتك بِمَعْنى: للْمَرْأَة بِمَعْنى: أَخْبِرِينِي، هَكَذَا ﴿بَغْتَة أَو جهرة﴾ مَعْنَاهُ: لَيْلًا أَو نَهَارا وَقيل: مَعْنَاهُ: فَجْأَة أَو عيَانًا ﴿هَل يهْلك إِلَّا الْقَوْم الظَّالِمُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَمَا نرسل الْمُرْسلين إِلَّا مبشرين ومنذرين﴾ وَقد بَينا هَذَا ﴿فَمن آمن وَأصْلح فَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ﴾ يَعْنِي: يَوْم الْقِيَامَة.
﴿وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا يمسهم الْعَذَاب﴾ أَي: يصيبهم عَذَاب النَّار ﴿بِمَا كَانُوا يفسقون﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل لَا أَقُول لكم عِنْدِي خَزَائِن الله﴾ أنزل هَذَا حِين اقترحوا الْآيَات، وَكَانُوا يَقُولُونَ: لن نؤمن لَك حَتَّى تنزل علينا كتابا من السَّمَاء، وَسَائِر مَا
105
﴿هم يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا مسهم الْعَذَاب بِمَا كَانُوا يفسقون (٤٩) قل لَا أَقُول لكم عِنْدِي خَزَائِن الله وَلَا أعلم الْغَيْب وَلَا أَقُول لكم إِنِّي ملك إِن اتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ قل هَل يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير أَفلا تتفكرون (٥٠) وأنذر بِهِ الَّذين يخَافُونَ﴾ اقترحوا من الْآيَات؛ فَنزل قَوْله: ﴿قل لَا أَقُول لكم عِنْدِي خَزَائِن الله﴾ فأعطيكم مَا تُرِيدُونَ (وَلَا أعلم الْغَيْب). والغيب. كل مَا غَابَ عَنْك وَيكون مَاضِيا، وَيكون فِي الْمُسْتَقْبل، والماضي مِنْهُ يجوز أَن يُعلمهُ الْإِنْسَان بِخَبَر مخبر وَنَحْوه. فَأَما الْمُسْتَقْبل فَلَا يُعلمهُ إِلَّا الله، وَرَسُول ارْتَضَاهُ، كَمَا قَالَ فِي سُورَة الْجِنّ، وَقَوله: ﴿وَلَا أعلم الْغَيْب﴾ فِيهِ إِضْمَار، أَي: وَلَا أعلم الْغَيْب إِلَّا مَا أعلمنيه الله ﴿وَلَا أَقُول لكم إِنِّي ملك﴾ إِنَّمَا أمره بذلك؛ لِأَن الْملك يقدر على مَا لَا يقدر عَلَيْهِ الْآدَمِيّ، وَقيل: لِأَن الْملك يُشَاهد مَا لَا يُشَاهد الْآدَمِيّ، وَاسْتدلَّ بِهَذَا من فضل الْمَلَائِكَة على الْآدَمِيّين، وَلَيْسَ فِيهِ مستدل، وَمَعْنَاهُ: مَا بَينا.
﴿إِن اتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيّ قل هَل يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير﴾ قَالَ قَتَادَة: الْكَافِر وَالْمُؤمن، وَقَالَ مُجَاهِد: الضال والمهتدي، وَقيل: الْجَاهِل والعالم ﴿أَفلا تتفكرون﴾.
106
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وانذر بِهِ﴾ أَي: خوف بِهِ ﴿الَّذين يخَافُونَ أَن يحْشرُوا إِلَى رَبهم﴾ قيل: هم الْمُسلمُونَ، وَقيل: كل من يُؤمن بِالْبَعْثِ من الْمُسلمين وَأهل الْكتاب.
﴿لَيْسَ لَهُم من دونه ولي وَلَا شَفِيع لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ﴾ فَإِن قيل: أَلَيْسَ يشفع الْأَنْبِيَاء والأولياء يَوْم الْقِيَامَة، فَمَا معنى قَوْله: ﴿لَيْسَ لَهُم من دونه ولي وَلَا شَفِيع﴾ ؟ قُلْنَا: مَعْنَاهُ: لَا شَفَاعَة إِلَّا بِإِذْنِهِ، وهم إِنَّمَا يشفعون [بِإِذْنِهِ، أَو هَذَا رد لما زَعَمُوا أَن الْمَلَائِكَة والأصنام يشفعون] لنا.
قَوْله: ﴿وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي﴾ سَبَب نزُول الْآيَة: " أَن الْمُشْركين بِمَكَّة أَتَوا رَسُول الله، وَقَالُوا: إِنَّك تجَالس الْفُقَرَاء، وَأَرَادُوا بِهِ: بِلَالًا،
106
﴿أَن يحْشرُوا إِلَى رَبهم لَيْسَ لَهُم من دونه ولي وَلَا شَفِيع لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ (٥١) وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي يُرِيدُونَ وَجهه مَا عَلَيْك من حسابهم من شَيْء وَمَا﴾ وصهيبا، وَابْن مَسْعُود، وعمار بن يَاسر، وخباب بن الْأَرَت، وَمهجع، وَنَحْوهم من فُقَرَاء أهل الصّفة، وَقَالُوا: لَو طردتهم آمنا بك؛ كَأَنَّهُمْ استنكفوا الْجُلُوس مَعَهم فهم النَّبِي بذلك طَمَعا فِي إِيمَانهم؛ فَنزلت الْآيَة ". قَالَ سعد بن أبي وَقاص: " فِي نزلت الْآيَة وَابْن مَسْعُود... " وعد جمَاعَة، وَقَالَ مُجَاهِد: نزلت الْآيَة فِي بِلَال وَجَمَاعَة، وَفِيه قَول آخر: أَن الْآيَة نزلت بِالْمَدِينَةِ، وروى: " أَن الْأَقْرَع بن حَابِس التَّمِيمِي، وعيينة بن حصن الْفَزارِيّ أَتَيَا رَسُول الله، كَانَا من أكَابِر الْكفَّار؛ فَقَالَا: إِنَّا نستنكف من الْجُلُوس مَعَ هَؤُلَاءِ، فَلَو اتَّخذت لنا مَجْلِسنَا مِنْك؛ آمنا بك؛ فهم بذلك، طَمَعا فِي إِيمَانهم؛ فَنزلت الْآيَة " فعلى هَذَا تكون الْآيَة من الْآيَات المبينة الَّتِي نزلت بِالْمَدِينَةِ.
قَوْله: ﴿وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم﴾ اخْتلفُوا فِي هَذِه الدعْوَة، قَالَ ابْن عَبَّاس: مَعْنَاهُ: يصلونَ الصَّلَوَات الْخمس، وَقَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: هُوَ ذك الله، وَقَالَ الضَّحَّاك: كل الطَّاعَات.
107
﴿من حِسَابك عَلَيْهِم من شَيْء فَتَطْرُدهُمْ فَتكون من الظَّالِمين (٥٢) وَكَذَلِكَ فتنا بَعضهم بِبَعْض لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ من الله عَلَيْهِم من بَيْننَا أَلَيْسَ الله بِأَعْلَم بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) وَإِذا جَاءَك الَّذين يُؤمنُونَ بِآيَاتِنَا فَقل سَلام عَلَيْكُم كتب ربكُم على نَفسه الرَّحْمَة أَنه من عمل﴾
وَقَوله: ﴿يُرِيدُونَ وَجهه﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: أَي: يُرِيدُونَ إِيَّاه بِالطَّاعَةِ، ويريدون خَالص وَجهه، وَالْوَجْه صفة لله - تَعَالَى - بِلَا كَيفَ؛ وَجه لَا كالوجوه.
﴿فَتَطْرُدهُمْ فَتكون من الظَّالِمين﴾ يَعْنِي: إِن طردتهم، وَقيل: فِي الْآيَة تَقْدِيم وَتَأْخِير، وَتَقْدِيره: وَلَا تطرد الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي يُرِيدُونَ وَجهه فَتكون من الظَّالِمين، (ثمَّ قَالَ) :﴿مَا عَلَيْك من حسابهم من شَيْء وَمَا من حِسَابك عَلَيْهِم من شَيْء﴾
108
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَكَذَلِكَ فتنا بَعضهم بعض﴾ هُوَ فتْنَة الْأَغْنِيَاء بالفقراء، [وَالله - تَعَالَى - يفتن الْأَغْنِيَاء بالفقراء]، ويفتن الْفُقَرَاء بالأغنياء، وَالْمرَاد هَاهُنَا: فتْنَة أكابرهم بفقرائهم؛ حَيْثُ امْتَنعُوا عَن الْإِيمَان بسببهم؛ وَذَلِكَ كَانَ فتْنَة لَهُم.
﴿وليقولوا أَهَؤُلَاءِ من الله عَلَيْهِم من بَيْننَا﴾ يَقُول الْأَغْنِيَاء: أَهَؤُلَاءِ الْفُقَرَاء سبقُونَا بِالْإِيمَان، ثمَّ يَقُول الله - تَعَالَى -: ﴿أَلَيْسَ الله بِأَعْلَم بِالشَّاكِرِينَ﴾ يَعْنِي: أَلَيْسَ الله بِأَعْلَم من هُوَ أهل لِلْإِسْلَامِ؛ فَيدْخل فِي الْإِسْلَام؟ !.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِذا جَاءَك الَّذين يُؤمنُونَ بِآيَاتِنَا﴾ هم الْفُقَرَاء الَّذين ذكرنَا ﴿فَقل سَلام عَلَيْكُم﴾ أَمر رَسُوله ببدائتهم بِالسَّلَامِ، وَقد ذكرنَا معنى السَّلَام فِيمَا سبق، وَقيل: مَعْنَاهُ: [سلمكم] الله فِي دينكُمْ، وَقيل: مَعْنَاهُ السَّلامَة لكم.
﴿كتب ربكُم على نَفسه الرَّحْمَة﴾ أَي قضى بِالرَّحْمَةِ لكم ﴿أَنه من عمل مِنْكُم سَوَاء بِجَهَالَة﴾ أَي خطيئه، وَقد بَينا أَن كل عَاص جَاهِل ﴿ثمَّ تَابَ من بعده وَأصْلح فَأَنَّهُ غَفُور رَحِيم﴾ يقْرَأ: أَنه، وفأنه، كِلَاهُمَا بِنصب الْألف؛ فَيكون بَدَلا عَن قَوْله:
108
﴿مِنْكُم سوءا بِجَهَالَة ثمَّ تَابَ من بعده وَأصْلح فَأَنَّهُ غَفُور رَحِيم (٥٤) وَكَذَلِكَ نفصل الْآيَات ولتستبين سَبِيل الْمُجْرمين (٥٥) قل إِنِّي نهيت أَن اعبد الَّذين تدعون من دون الله قل لَا أتبع أهواءكم قد ضللت إِذا وَمَا أَنا من المهتدين (٥٦) قل إِنِّي على بَيِّنَة من﴾ ﴿كتب ربكُم على نَفسه الرَّحْمَة﴾ وَيقْرَأ: كِلَاهُمَا بِكَسْر الْألف على الِابْتِدَاء، وَيقْرَأ: الأول بِالْفَتْح وَالثَّانِي بِالْكَسْرِ.
109
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَكَذَلِكَ نفصل الْآيَات ولتستبين سَبِيل الْمُجْرمين﴾ يقْرَأ بِثَلَاثَة أوجه ولتستبين - بِالتَّاءِ، سَبِيل: بِنصب اللَّام. وَمَعْنَاهُ: ولتستبين يَا مُحَمَّد سَبِيل الْمُجْرمين؛ فَإِن قيل: ألم يكن مستبينا لَهُ؟ قيل: مَعْنَاهُ: لتزداد بَيَانا، وَقَالَ الزّجاج: الْخطاب مَعَ الرَّسُول، وَالْمرَاد بِالْآيَةِ: الْأمة.
وَيقْرَأ وليستبين: بِالْيَاءِ وَالتَّاء سَبِيل: بِرَفْع اللَّام، وَقَالُوا: لِأَن السَّبِيل يذكر وَيُؤَنث؛ قَالَ الله - تَعَالَى -: ﴿قل هَذِه سبيلي﴾ وَمَعْنَاهُ: وليظهر سَبِيل الْمُجْرمين؛ (فَإِن قيل: لم خص سَبِيل الْمُجْرمين؟) قيل: تَقْدِيره: ولتستبين سَبِيل الْمُجْرمين وسبيل الْمُؤمنِينَ؛ فَحذف أَحدهمَا اختصارا، وَالأَصَح أَن تَقْدِيره: ولتستبين سَبِيل الْمُجْرمين عَن سَبِيل الْمُؤمنِينَ.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل إِنِّي نهيت أَن أعبد الَّذين تدعون من دون الله﴾ هُوَ النَّهْي عَن الشّرك ﴿قل لَا أتبع أهواءكم قد ضللت إِذا وَمَا أَنا من المهتدين﴾ يَعْنِي: إِن اتبعت أهواءكم،
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل إِنِّي على بَيِّنَة من رَبِّي﴾ على بَيَان من رَبِّي ﴿وكذبتم بِهِ﴾ أَي: بِمَا [جِئْت] بِهِ ﴿مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُون بِهِ﴾ قيل: أَرَادَ بِهِ استعجالهم الْآيَات والمعجزات، وَقيل: أَرَادَ بِهِ استعجالهم الْقِيَامَة، قَالَ الله - تَعَالَى - ﴿يستعجل بهَا الَّذين لَا يُؤمنُونَ بهَا﴾ وَقيل: أَرَادَ بِهِ استعجال الْعَذَاب، قَالَ الله -
109
﴿رَبِّي وكذبتم بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُون بِهِ إِن الحكم إِلَّا لله يقص الْحق وَهُوَ خير الفاصلين (٥٧) قل لَو أَن عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُون بِهِ لقضي الْأَمر بيني وَبَيْنكُم وَالله أعلم بالظالمين (٥٨) وَعِنْده مفاتح الْغَيْب لَا يعلمهَا إِلَّا هُوَ وَيعلم مَا فِي الْبر وَالْبَحْر وَمَا﴾ تَعَالَى -: " ويستعجلونك بِالْعَذَابِ " وَكَانُوا يَقُولُونَ: ﴿إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحق من عنْدك فَأمْطر علينا حِجَارَة من السَّمَاء أَو ائتنا بِعَذَاب أَلِيم﴾.
﴿إِن الحكم إِلَّا لله يقْضِي الْحق وَهُوَ خير الفاصلين﴾ وَيقْرَأ: يقص بالصَّاد، وَاسْتدلَّ بِالْكِتَابَةِ فِي الْمَصَاحِف؛ فَإِن هَذِه الْكَلِمَة تكْتب بِغَيْر الْيَاء.
110
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل لَو أَن عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُون بِهِ لقضي الْأَمر بيني وَبَيْنكُم﴾ مَعْنَاهُ: لقامت الْقِيَامَة، وَقيل: هُوَ فِي الْعَذَاب، وَمَعْنَاهُ: لَو كَانَ الْعَذَاب بيَدي لعجلته؛ حَتَّى أتخلص مِنْكُم ﴿وَالله أعلم بالظالمين﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَعِنْده مَفَاتِيح الْغَيْب لَا يعلمهَا إِلَّا هُوَ﴾ روى ابْن عمر عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " مفاتح الْغَيْب خَمْسَة " وَذكر (الْخمس) الْمَذْكُورَة فِي قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِن الله عِنْده علم السَّاعَة﴾ ثمَّ قَرَأَ الْآيَة. ﴿وَيعلم مَا فِي الْبر وَالْبَحْر﴾ قَالَ مُجَاهِد: الْبَحْر: الْقرى والأمصار هَاهُنَا، (وَالْبر: المفاوز)، يُقَال: هَذَا الْمصر بَحر، وَهَذِه الْقرْيَة بَحر؛ لاجتماعها وَكَثْرَة أَهلهَا، وَقيل: هُوَ الْبر وَالْبَحْر الْمَعْرُوف.
﴿وَمَا تسْقط من ورقة إِلَّا يعلمهَا﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: لم خص [الْوَرق] السَّاقِط
110
﴿تسْقط من ورقة إِلَّا يعلمهَا وَلَا حَبَّة فِي ظلمات الأَرْض وَلَا رطب وَلَا يَابِس إِلَّا فِي كتاب مُبين (٥٩) وَهُوَ الَّذِي يتوفاكم بِاللَّيْلِ وَيعلم مَا جرحتم بِالنَّهَارِ ثمَّ يبعثكم فِيهِ ليقضى أجل مُسَمّى ثمَّ عَلَيْهِ مرجعكم ثمَّ ينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ (٦٠) وَهُوَ القاهر فَوق عباده﴾ وَهُوَ يعلم السَّاقِط وَالثَّابِت؟ قيل: هَذَا مَعْنَاهُ: أَي: وَمَا تسْقط من ورقة إِلَّا يعلمهَا سَاقِطَة وثابتة، قَالَ جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق: أَرَادَ بِالْوَرَقَةِ الساقطة: السقط.
﴿وَلَا حَبَّة فِي ظلمات الأَرْض﴾ هُوَ الْحبّ الْمَعْرُوف، وَقَالَ جَعْفَر الصَّادِق: هُوَ الْوَلَد ﴿وَلَا رطب وَلَا يَابِس﴾ قيل: مَعْنَاهُ: وَلَا حَيّ وَلَا موَات، وَقيل: هُوَ عبارَة عَن كل شَيْء ﴿إِلَّا فِي كتاب مُبين﴾ يَعْنِي: أَن الْكل مَكْتُوب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَهُوَ مثل قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وكل صَغِير وكبير مستطر﴾.
111
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَهُوَ الَّذِي يتوفاكم بِاللَّيْلِ﴾ أَي: يقبض أرواحكم بِاللَّيْلِ إِذا نمتم، وَهَذَا نَظِير قَوْله: ﴿الله يتوفى الْأَنْفس حِين مَوتهَا وَالَّتِي لم تمت فِي منامها﴾. فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ من نَام فروحه مَعَه؛ فَمَا معنى هَذَا الْقَبْض؟ قيل: هُوَ قبض النَّفس المميزة المتصرفة ﴿وَيعلم مَا جرحتم بِالنَّهَارِ﴾ أَي: كسبتم بِالنَّهَارِ ﴿ثمَّ يبعثكم فِيهِ﴾ قَالَ قَتَادَة: الْبَعْث الْيَقَظَة هَاهُنَا، أَي: ثمَّ يوقظكم فِي النَّهَار ﴿ليقضي أجل مُسَمّى﴾ الْقَضَاء: هُوَ فصل الحكم على التَّمام، وَمَعْنَاهُ هَاهُنَا: اسْتِيفَاء أجل الْعُمر على التَّمام.
(ثمَّ إِلَيْهِ مرجعكم ثمَّ ينئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ).
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَهُوَ القاهر فَوق عباده وَيُرْسل عَلَيْكُم حفظَة﴾ أما معنى القاهر، وَصفَة الفوق، فقد ذكرنَا؛ وَأما إرْسَال الْحفظَة: هُوَ إرْسَال الْمَلَائِكَة الْحفاظ، وَهُوَ مَا قَالَ فِي آيَة أُخْرَى ﴿وَإِن عَلَيْكُم لحافظين كراما كاتبين﴾ وَقَالَ: {لَهُ مُعَقِّبَات
111
﴿وَيُرْسل عَلَيْكُم حفظَة حَتَّى إِذا جَاءَ أحدكُم الْمَوْت توفته رسلنَا وهم لَا يفرطون (٦١) ثمَّ ردوا إِلَى الله مَوْلَاهُم الْحق أَلا لَهُ الحكم وَهُوَ أسْرع الحاسبين (٦٢) قل من ينجيكم﴾ من بَين يَدَيْهِ وَمن خَلفه يَحْفَظُونَهُ من أَمر الله) وحفظهم: أَن [يحفظوا] على الْعباد الْعَمَل وَالْأَجَل والرزق ﴿حَتَّى إِذا جَاءَ أحدكُم الْمَوْت توفته رسلنَا﴾ وَيقْرَأ: " توفيه " بِالْيَاءِ ﴿وهم لَا يفرطون﴾ أَي: لَا يؤخرون.
فَإِن قيل: قد قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: ﴿قل يتوفاكم ملك الْمَوْت﴾ وَقَالَ هَاهُنَا: ﴿توفته رسلنَا﴾ فَكيف وَجه الْجمع؟ قيل: قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: لملك الْمَوْت أعوان من الْمَلَائِكَة، يتوفون عَن أمره؛ فَهُوَ معنى قَوْله: ﴿توفته رسلنَا﴾ وَيكون ملك الْمَوْت هُوَ الْمُتَوفَّى فِي الْحَقِيقَة؛ لأَنهم يصدرون عَن أمره، وَلذَلِك نسب الْفِعْل إِلَيْهِ فِي تِلْكَ الْآيَة، وَقيل: مَعْنَاهُ: ذكر الْوَاحِد بِلَفْظ الْجمع، وَالْمرَاد بِهِ: ملك الْمَوْت، وَفِي الْقَصَص أَن الله - تَعَالَى - جعل الدُّنْيَا بَين يَدَيْهِ كالمائدة الصَّغِيرَة؛ فَيقبض من هَاهُنَا وَمن هَاهُنَا؛ فَإِذا كثرت الْأَرْوَاح يَدْعُو الْأَرْوَاح فتجيب لَهُ.
112
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ثمَّ ردوا إِلَى الله مَوْلَاهُم الْحق﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: الْآيَة فِي الْمُؤمنِينَ وَالْكفَّار، فَكيف قَالَ: ﴿مَوْلَاهُم الْحق﴾ وَقد قَالَ فِي آيَة أُخْرَى: ﴿وَأَن الْكَافرين لَا مولى لَهُم﴾ ؟ قيل: الْمولى فِي تِلْكَ الْآيَة بِمَعْنى: النَّاصِر، وَلَا نَاصِر للْكفَّار، وَالْمولى هَاهُنَا بِمَعْنى: الْمَالِك، وَالله مَالك الْكل، وَقيل: أَرَادَ بِهِ رد الْمُؤمنِينَ إِلَيْهِ، وَيدخل الْكفَّار فِيهِ تبعا.
﴿أَلا لَهُ الحكم وَهُوَ أسْرع الحاسبين﴾ أَي: يُحَاسب الْكل فِي لَحْظَة.
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل من ينجيكم من ظلمات الْبر وَالْبَحْر﴾ يَعْنِي: من شَدَائِد الْبَحْر وَالْبر، تَقول الْعَرَب: يَوْم مظلم. إِذا كَانَ يَوْم شدَّة، ويسمونه أَيْضا: يَوْمًا ذَا كَوْكَب. كَأَنَّهُمْ جَعَلُوهُ كالليل لِشِدَّتِهِ، قَالَ الشَّاعِر:
112
﴿من ظلمات الْبر وَالْبَحْر تَدعُونَهُ تضرعا وخفية لَئِن أنجانا من هَذِه لنكونن من الشَّاكِرِينَ (٦٣) قل الله ينجيكم مِنْهَا وَمن كل كرب ثمَّ أَنْتُم تشركون (٦٤) قل هُوَ الْقَادِر على﴾
(بني أَسد هَل تعلمُونَ (بلاءنا)
إِذا كَانَ يَوْمًا ذَا كواكب أشهبا)
وَقَالَ آخر:
(ملك إِذا طَاف الغفاة بِبَابِهِ غبطوا وأنجي مِنْهُم المتبلس)
(فدا لبني ذهل بن شَيبَان نَاقَتي إِذا كَانَ يَوْمًا ذَا كواكب أشنعا)
﴿تَدعُونَهُ تضرعا وخفية﴾ أَي: عَلَانيَة وسرا، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَن يكون السِّرّ مَعَ الْجَهْر فِي الدُّعَاء بِحَيْثُ يَدْعُو بِاللِّسَانِ وسره مَعَه، وَيقْرَأ " وخفية " بِكَسْر الْخَاء ومعناهما وَاحِد ﴿لَئِن أنجيتنا من هَذِه لنكونن من الشَّاكِرِينَ﴾ وَالشُّكْر: [هُوَ] معرفَة النِّعْمَة مَعَ الْقيام [بِحَقِّهَا]، وَلَا بُد من هذَيْن حَتَّى يتَحَقَّق الشُّكْر.
113
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل الله ينجيكم مِنْهَا وَمن كل كرب ثمَّ أَنْتُم تشركون﴾ الكرب: غَايَة الْهم.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل هُوَ الْقَادِر على أَن يبْعَث عَلَيْكُم عذَابا من فَوْقكُم أَو من تَحت أَرْجُلكُم﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس، وَالْحسن، وَقَتَادَة، وَجَمَاعَة: نزلت الْآيَة فِي أهل الْإِيمَان وَأهل الصَّلَاة. وَقَالَ غَيرهم: نزلت فِي الْمُشْركين، وَقَوله: ﴿عذَابا من فَوْقكُم أَو من تَحت أَرْجُلكُم﴾ قَالَ مُجَاهِد، وَسَعِيد بن جُبَير: عذَابا من فَوْقكُم: هُوَ الرَّمْي بِالْحِجَارَةِ، كَمَا كَانَ فِي قوم لوط. أَو من تَحت أَرْجُلكُم هُوَ الْخَسْف والرجفة.
وَحكي عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: عذَابا من فَوْقكُم: تسليط أَئِمَّة السوء، وَمن تَحت أَرْجُلكُم: تسليط الخدم السوء، وَقيل: عذَابا من فَوْقكُم: الطوفان وَالْغَرق، وَمن تَحت
113
﴿أَن يبْعَث عَلَيْكُم عذَابا من فَوْقكُم أَو من تَحت أَرْجُلكُم أَو يلْبِسكُمْ شيعًا وَيُذِيق بَعْضكُم بَأْس بعض انْظُر كَيفَ نصرف الْآيَات لَعَلَّهُم يفقهُونَ (٦٥) وَكذب بِهِ قَوْمك وَهُوَ﴾ أَرْجُلكُم: الرّيح، كَمَا كَانَ فِي قوم عَاد ﴿أَو يلْبِسكُمْ شيعًا﴾ قَالَ الزّجاج: مَعْنَاهُ: يخلطكم خلط اضْطِرَاب لَا خلط اتِّفَاق، وَحَقِيقَة الْمَعْنى: أَن يبث فِيكُم الْأَهْوَاء المتفرقة؛ فتصيرون فرقا وأحزابا.
(وَيُذِيق بَعْضكُم بَأْس بعض) هُوَ وُقُوع الْقَتْل بَينهم؛ وَقد صَحَّ عَن النَّبِي أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة، وَسمع الْأَوَّلين؛ قَالَ: " أعوذ بِوَجْهِك؛ فَلَمَّا سمع الآخرين؛ قَالَ: هَاتَانِ أيسر " وَفِي الْخَبَر الْمَعْرُوف: " أَنه لما نزلت هَذِه الْآيَة؛ دَعَا لأمته وناجى طَويلا؛ حَتَّى نزل جِبْرِيل أَن الله رفع الْأَوَّلين، وَأجَاب دعوتك فيهمَا، وَلم يجب فِي الآخرين ". فبثت الْأَهْوَاء والقتال فِي هَذِه الْأمة، وَقد سل السَّيْف من زمَان عُثْمَان، فَلَا يغمد إِلَى قيام السَّاعَة، وَقد روى أَن الدُّعَاء الْمَعْرُوف الَّذِي كَانَ يَدْعُو بِهِ رَسُول الله، دَعَا بِهِ حَيْثُ نزلت هَذِه الْآيَة، وَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بعفوك من عقابك، وَأَعُوذ برضاك من سخطك وَأَعُوذ بك مِنْك " أَي: بقضاءك من قضاءك ﴿انْظُر كَيفَ نصرف الْآيَات﴾ يَعْنِي: مرّة هَكَذَا، وَمرَّة هَكَذَا ﴿لَعَلَّهُم يفقهُونَ﴾.
114
﴿الْحق قل لست عَلَيْكُم بوكيل (٦٦) لكل نبأ مُسْتَقر وسوف تعلمُونَ (٦٧) وَإِذا رَأَيْت الَّذين يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا فَأَعْرض عَنْهُم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره وَإِمَّا ينسينك الشَّيْطَان فَلَا تقعد بعد الذكرى مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين (٦٨) وَمَا على الَّذين يَتَّقُونَ من حسابهم من شَيْء وَلَكِن ذكرى لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ (٦٩) وذر الَّذين اتَّخذُوا دينهم لعبا﴾
115
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَكذب بِهِ قَوْمك وَهُوَ الْحق﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن ﴿قل لست عَلَيْكُم بوكيل﴾ أَي: بمسلط؛ فألزمكم الْإِسْلَام شِئْتُم أَو أَبَيْتُم، قَالَ ابْن جريج: كَانَ هَذَا فِي الِابْتِدَاء ثمَّ نسخ بقوله: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْركين﴾.
﴿لكل نبأ مُسْتَقر﴾ قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: لكل خبر من أَخْبَار الْقُرْآن حَقِيقَة إِمَّا فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا فِي الْآخِرَة ﴿وسوف تعلمُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِذا رَأَيْت الَّذين يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا فَأَعْرض عَنْهُم﴾ أَرَادَ بِهِ: يَخُوضُونَ فِيهَا بِالرَّدِّ والاستهزاء، قَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر: وَيدخل فِي هَذَا: الْخَوْض فِي كل الْآيَات لَا على وفْق الْكتاب وَالسّنة.
﴿فَأَعْرض عَنْهُم حَتَّى يخوضوا فِي حَدِيث غَيره وَإِمَّا ينسينك الشَّيْطَان فَلَا تقعد بعد الذكرى مَعَ الْقَوْم الظَّالِمين﴾ يَعْنِي: قَوْله: ﴿وَإِذا رَأَيْت الَّذين يَخُوضُونَ فِي آيَاتنَا فَأَعْرض عَنْهُم﴾ قَالَت الصَّحَابَة: إِذا كَيفَ تقعد فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَكَيف نطوف بِالْبَيْتِ، وهم يَخُوضُونَ أبدا؟ فَنزلت هَذِه الْآيَة:
﴿وَمَا على الَّذين يَتَّقُونَ من حسابهم من شَيْء﴾ يَعْنِي: إِذا لقوهم، وَلم يخوضوا فِيمَا يَخُوضُونَ ﴿وَلَكِن ذكرى لَعَلَّهُم يَتَّقُونَ﴾ أَمر [بتذكيرهم] ومنعهم عَن ذَلِك، وَقيل: مَعْنَاهُ: فِي حَال الذّكر، وَلَيْسَ عَلَيْهِم شَيْء فِي حَال مَا يذكرونهم إِذا لم يرْضوا بِمَا خَاضُوا فِيهِ.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وذر الَّذين اتَّخذُوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾.
قَالَ الْفراء فِي كِتَابه: عيد [أهل كل مِلَّة] يَوْم لَهو وَلعب إِلَّا عيد الْمُسلمين؛
115
﴿ولهوا وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا وَذكر بِهِ أَن تبسل نفس بِمَا كسبت لَيْسَ لَهَا من دون الله ولي وَلَا شَفِيع وَإِن تعدل كل عدل لَا يُؤْخَذ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذين أبسلوا بِمَا كسبوا لَهُم شراب من حميم وَعَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا يكفرون (٧٠) قل أندعوا من دون الله مَا لَا ينفعنا وَلَا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إِذْ هدَانَا الله كَالَّذي استهوته الشَّيَاطِين فِي﴾ فَإِنَّهُ (يَوْم) الصَّلَاة وَفعل الْخَيْر وَالتَّكْبِير.
﴿وَذكر بِهِ أَن تبسل نفس بِمَا كسبت﴾ قَالَ مُجَاهِد: أَن تسلم للهلاك، وَقَالَ قَتَادَة: أَن تحبس، وَقَالَ الْفراء: أَن ترتهن، وَقَالَ الْكسَائي، والأخفش: أَن تجزي. وَالصَّحِيح هُوَ الأول، يُقَال: فلَان مستبسل إِذا استسلم للهلاك، قَالَ الشَّاعِر:
(وإبسالي بني بِغَيْر جرم [بعوه وَلَا بِغَيْر دم مراق] )
وَحَقِيقَة الْمَعْنى: وَذكر بِهِ، لِأَن لَا تسلم نفس للهلاك بعملها ﴿لَيْسَ لَهَا من دون الله ولي وَلَا شَفِيع﴾ وَقد ذكرنَا ﴿وَإِن تعدل كل عدل﴾ هُوَ الْفِدْيَة ﴿لَا يُؤْخَذ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذين أبسلوا بِمَا كسبوا﴾ هُوَ مَا ذكرنَا ﴿لَهُم شراب من حميم وَعَذَاب أَلِيم بِمَا كَانُوا يكفرون﴾.
116
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل أندعوا من دون الله مَا لَا ينفعنا وَلَا يضرنا﴾ فَإِن قيل: كَيفَ لَا يضرهم وَفِي الْأَصْنَام ضرهم؟ قيل: مَعْنَاهُ: لَا يجلب نفعا، وَلَا يدْفع ضرا، قيل: مَعْنَاهُ: لَيْسَ بيدهم شَيْء.
﴿ونرد على أعقابنا بعد إِذْ هدَانَا الله﴾ أَي: مرتدين على أعقابنا بعد الْهِدَايَة بِهِ وَالْإِسْلَام ﴿كَالَّذي استهوته الشَّيَاطِين فِي الأَرْض حيران﴾ أضلته الشَّيَاطِين وغلبته حَتَّى هوى، والحيران: المتردد بَين شَيْئَيْنِ لَا يدْرِي كَيفَ يفعل.
116
﴿الأَرْض حيران لَهُ أَصْحَاب يَدعُونَهُ إِلَى الْهدى ائتنا قل إِن هدى الله هُوَ الْهدى وأمرنا لنسلم لرب الْعَالمين (٧١) وَأَن أقِيمُوا الصَّلَاة واتقوه وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون (٧٢) وَهُوَ الَّذِي حلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ وَيَوْم يَقُول كن فَيكون قَوْله الْحق وَله الْملك يَوْم ينْفخ فِي الصُّور عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير (٧٣) وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم﴾
﴿لَهُ أَصْحَاب يَدعُونَهُ إِلَى الْهدى ائتنا﴾ ضرب مثلا للَّذي يرْتَد عَن الْإِسْلَام بِرَجُل يكون فِي الطَّرِيق مَعَ رفْقَة؛ فيضل بِهِ الغول، ويدعوه أَصْحَابه من أهل الرّفْقَة إِلَى الطَّرِيق، فَيبقى حيران، لَا يدْرِي أَيْن يذهب. ( ﴿قل إِن هدى الله هُوَ الْهدى وأمرنا لنسلم لرب الْعَالمين﴾
117
وَأَن أقِيمُوا الصَّلَاة واتقوه) أَي: وأمرنا بِإِقَامَة الصَّلَاة وَالتَّقوى ( ﴿وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تحشرون﴾
وَهُوَ الَّذِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض بِالْحَقِّ) أَي: لإِظْهَار الْحق؛ لِأَنَّهُ جعل صنعه دَلِيلا على وحدانيته ﴿وَيَوْم يَقُول كن فَيكون﴾ قيل: هُوَ رَاجع إِلَى قَوْله: ﴿خلق السَّمَوَات﴾ يَعْنِي: وَخلق يَوْم يَقُول، فَإِن قيل: كَيفَ يَصح هَذَا التَّقْدِير، وَالْقِيَامَة غير مخلوقة بعد؟ قيل: هِيَ كائنة فِي علم الله - تَعَالَى -[فَتكون] كالمخلوقة؛ إِذْ الْحلق بِمَعْنى: الْقَضَاء وَالتَّقْدِير، وَهِي مقضية مقدرَة، وَقيل: تَقْدِيره: وَاذْكُر يَوْم يَقُول: كن فَيكون ( ﴿قَوْله الْحق﴾ وَله الْملك يَوْم ينْفخ فِي الصُّور) قرئَ فِي الشواذ: " يَوْم ينْفخ فِي الصُّور " وَهِي جمع الصُّورَة، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الصُّور: هُوَ الصُّور فِي كل مَوضِع، وَقَالَ ابْن مَسْعُود فِي تَفْسِير الْآيَة: الصُّور: قرن ينْفخ فِيهِ، وَهُوَ مَعْرُوف فِي الْأَخْبَار. ﴿عَالم الْغَيْب وَالشَّهَادَة وَهُوَ الْحَكِيم الْخَبِير﴾.
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ آزر﴾ يقْرَأ " آزر " بِرَفْع الرَّاء، وَهُوَ فِي الشواذ، وَمَعْنَاهُ: يَا آزر، وَكَذَلِكَ فِي حرف أبي بن كَعْب: يَا آزر، وَالْمَعْرُوف " آزر " بِنصب
117
﴿لِأَبِيهِ آزر أتتخذ أصناما آلِهَة إِنِّي أَرَاك وقومك فِي ضلال مُبين (٧٤) وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيم ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض وليكون من الموقنين (٧٥) فَلَمَّا جن عَلَيْهِ اللَّيْل﴾ الرَّاء، وَهُوَ اسْم أعجمي غير منصرف؛ فينصب فِي مَوضِع الْخَفْض.
قَالَ الْفراء، والزجاج: اسْم أَبِيه: تارخ، أجمع عَلَيْهِ النسابون، وآزر لقب لَهُ، قَالَ الْفراء: واللقب قد غلب على الِاسْم، وَقيل: كَانَ لَهُ اسمان: آزر، وتارخ، قَالَ الْحسن: اسْمه: آزر لَا غير، كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْكتاب، وَقَالَ مُجَاهِد: آزر: اسْم صنم، وَتَقْدِير الْآيَة: وَإِذ قَالَ إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ: ﴿أتتخذ﴾ آزر إِلَهًا ﴿أصناما آلِهَة إِنِّي أَرَاك وقومك فِي ضلال مُبين﴾.
118
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيم ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ الملكوت وَالْملك وَاحِد، وَإِنَّمَا أَدخل التَّاء فِيهِ للْمُبَالَغَة، مثل: رهبوت ورحموت، وَاخْتلفُوا فِي مَعْنَاهُ، مِنْهُم من قَالَ: أرَاهُ أَبْوَاب السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَمِنْهُم من قَالَ: فرج لَهُ السَّمَوَات حَتَّى رَآهَا كلهَا وَمَا فِيهَا، وخرق لَهُ الْأَرْضين حَتَّى رَآهَا كلهَا، وَقيل: رَفعه إِلَى السَّمَاء حَتَّى رأى السَّمَوَات وَالْأَرْض.
وَفِي الْخَبَر: " أَنه لما رَفعه إِلَى السَّمَاء رأى فِي الأَرْض رجلا على الْمعْصِيَة، فَدَعَا الله حَتَّى أهلكه، ثمَّ رأى آخر، فَدَعَا الله حَتَّى أهلكه، ثمَّ رأى ثَالِثا كَذَلِك؛ فَدَعَا الله حَتَّى أهلكه فَقَالَ الله - تَعَالَى -: أهبطوه، ثمَّ أوحى الله - تَعَالَى -: إِلَيْهِ: مهلا يَا إِبْرَاهِيم؛ فَإِن عبَادي مني على ثَلَاث خِصَال: إِمَّا أَن يتوبوا فَأغْفِر لَهُم، وَإِمَّا أَن يتْركُوا ولدا يَدْعُو لَهُم فَأغْفِر لَهُم، وَإِن لم يكن [لَهُم] فجهنم من ورائهم " ﴿وليكون من الموقنين﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فَلَمَّا جن عَلَيْهِ اللَّيْل رأى كوكبا﴾.
118
﴿رأى كوكبا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أفل قَالَ لَا أحب الآفلين (٧٦) فَلَمَّا رأى الْقَمَر بازغا قَالَ﴾
وَفِي الْقِصَّة: أَن وَاحِدًا من الكهنة، قَالَ لنمروذ: إِن ملكك يهْلك على (يَدي) ولد فِي زَمَانك، فَكَانَ يقتل الْبَنِينَ مِمَّن يُولد فِي زَمَانه؛ فَلَمَّا أَتَت أم إِبْرَاهِيم بإبراهيم، جَاءَ بِهِ أَبوهُ إِلَى سرب الأَرْض شبه مغار، وَوَضعه فِي مَوضِع يُقَال لَهُ: كوثاء؛ فَقيل: إِنَّه كَانَ فِيهِ سبع سِنِين، وَقيل: ثَلَاث عشرَة سنة، وَقيل سبع عشرَة سنة، ثمَّ إِنَّه لما شب، قَالَ لأمه: من رَبِّي؟ فَقَالَت لَهُ: اسْكُتْ، ثمَّ جَاءَت وأخبرت أَبَاهُ مَا قَالَ؛ فجَاء أَبوهُ؛ فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: من رَبِّي؟ فَقَالَ: أمك، قَالَ: وَمن رب أُمِّي، ؟ قَالَ: أَنا، قَالَ: وَمن رَبك؟ قَالَ: اسْكُتْ، وتركوه، ثمَّ لما جن عَلَيْهِ اللَّيْل خرج من السرب، وَلم يكن رأى شَيْئا قطّ، فَرَأى كوكبا، قيل: هُوَ المُشْتَرِي.
قَالَ السّديّ: كَانَ الْكَوْكَب: زهرَة، وَهِي أَضْوَأ كَوْكَب فِي السَّمَاء. ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ قيل: إِنَّه قَالَ ذَلِك فِي صغره حِين لَا يعبأ بقوله، وَقيل: إِنَّمَا كَانَ مستدلا بِهِ؛ فَقَالَ ذَلِك فِي حَال الِاسْتِدْلَال؛ فَلم يضرّهُ هَذَا القَوْل، وَهَذَانِ الْقَوْلَانِ ضعيفان، وَفِيه ثَلَاثَة أَقْوَال مَعْرُوفَة: أَحدهَا: قَالَ قطرب: قَوْله: هَذَا رَبِّي. على وَجه الِاسْتِفْهَام، وَتَقْدِيره أَهَذا رَبِّي؟ وَمثله قَول الشَّاعِر:
(رفوني وَقَالُوا يَا خويلد (لم ترع)
فَقلت وَأنْكرت الْوُجُوه هم هم)
وَإِنَّمَا قَالَ: هم على طَرِيق الِاسْتِفْهَام، وَتَقْدِيره: أهم هم؟ وَأما الزّجاج وَغَيره لم يرْضوا مِنْهُ هَذَا، وَقَالُوا: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب " هَذَا " بِمَعْنى الِاسْتِفْهَام.
وَذكر الزّجاج قَوْلَيْنِ آخَرين فِيهِ: أَحدهمَا: قَالَ: " هَذَا رَبِّي " على زعم قومه، فَإِن قيل: هم كَانُوا يعْبدُونَ الْكَوَاكِب، فَكيف قَالَه على زعمهم؟ قيل: كَانَ مِنْهُم أهل نُجُوم، وَكَانُوا يرَوْنَ أَنه إِلَى الْكَوَاكِب الْأُمُور؛ وَكَأَنَّهُم يعْبدُونَ الْكَوَاكِب.
وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن القَوْل مُضْمر فِيهِ، وَتَقْدِيره: يَقُولُونَ: هَذَا رَبِّي.
119
﴿هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أفل قَالَ لَئِن لم يهدني رَبِّي لأكونن من الْقَوْم الضَّالّين (٧٧) فَلَمَّا رأى الشَّمْس بازغة قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أكبر فَلَمَّا أفلت قَالَ يَا قوم إِنِّي بَرِيء مِمَّا تشركون (٧٨) إِنِّي وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفا وَمَا أَنا من الْمُشْركين (٧٩) وحاجه قومه قَالَ أتحاجوني فِي الله وَقد هدان وَلَا أَخَاف مَا تشركون بِهِ إِلَّا أَن﴾
120
﴿فَلَمَّا أفل قَالَ لَا أحب الآفلين﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فَلَمَّا رأى الْقَمَر بازغا﴾ أَي: طالعا: ﴿قَالَ هَذَا رَبِّي﴾ وَكَانَ ذَلِك فِي لَيْلَة قد تَأَخّر طُلُوع الْقَمَر فِيهَا قَلِيلا ﴿فَلَمَّا أفل قَالَ لَئِن لم يهدني رَبِّي لأكونن من الْقَوْم الضَّالّين﴾ والأفول: الْغُرُوب.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فَلَمَّا رأى الشَّمْس بازغة قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أكبر﴾ أَي: أَضْوَأ وأنور فَإِن قَالَ قَائِل: لم قَالَ: هَذَا رَبِّي، وَالشَّمْس مُؤَنّثَة، وَلم يقل هَذِه؟ قيل: لِأَن مَا لَيْسَ عَلَيْهِ عَلامَة التَّأْنِيث يجوز أَن يذكر، كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(فَلَا مزنة وَقد دقَّتْ ودقها وَلَا أَرض ذَا بقل أبقالها)
وَلم يقل [أبقلت]، وَإِن كَانَت الأَرْض مُؤَنّثَة؛ إِذْ لم يكن عَلَيْهَا عَلامَة التَّأْنِيث، وَقيل: إِن قَوْله: هَذَا رَبِّي، يرجع إِلَى الْمَعْنى، وَهُوَ الضياء والنور ﴿فَلَمَّا أفلت قَالَ يَا قومِي إِنِّي بَرِيء مِمَّا تشركون﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِنِّي وجهت وَجْهي للَّذي فطر السَّمَوَات وَالْأَرْض حَنِيفا وَمَا أَنا من الْمُشْركين﴾ الحنيف: الثَّابِت على الدّين، المائل إِلَيْهِ بِالْكُلِّيَّةِ.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وحاجه قومه قَالَ أتحاجوني﴾ (أَي) : جادله قومه؛ قَالَ: أتجادلوني ﴿فِي الله وَقد هدان﴾.
120
﴿يَشَاء رَبِّي شَيْئا وسع رَبِّي كل شَيْء علما أَفلا تذكرُونَ (٨٠) وَكَيف أَخَاف مَا أشركتم وَلَا تخافون أَنكُمْ أشركتم بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ عَلَيْكُم سُلْطَانا فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن إِن كُنْتُم تعلمُونَ (٨١) الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن وهم﴾
﴿وَلَا أَخَاف مَا تشركون بِهِ﴾ لأَنهم كَانُوا يخوفونه بالأصنام، وَكَانُوا يَقُولُونَ: احذر الْأَصْنَام؛ فَإنَّا نَخَاف عَلَيْك الخبل وَالْجُنُون؛ فَقَالَ: ﴿وَلَا أَخَاف مَا تشركون بِهِ إِلَّا أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئا﴾ قَوْله: إِلَّا أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئا. لَيْسَ باستثناء عَن الأول؛ إِذْ لَا يجوز أَن يَشَأْ الله أَن يُصِيبهُ شَيْء من الْأَصْنَام، وَمَا يشركُونَ بِهِ، وَإِنَّمَا هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع، وَمَعْنَاهُ: لَكِن إِن شَاءَ رَبِّي أَن يأخذني بِشَيْء، أَو يُعَذِّبنِي بجرمي؛ فَلهُ ذَلِك.
﴿وسع رَبِّي كل شَيْء علما أَفلا تتذكرون﴾.
121
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَكَيف أَخَاف مَا أشركتم وَلَا تخافون أَنكُمْ أشركتم بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ عَلَيْكُم سُلْطَانا﴾ الْإِشْرَاك: هُوَ الْجمع بَين الشَّيْئَيْنِ فِي معنى؛ فالإشراك بِاللَّه: هُوَ أَن يجمع مَعَ الله غير الله فِيمَا لَا يجوز إِلَّا لله، وَمعنى الْآيَة: وَكَيف أَخَاف الْأَصْنَام وَمَا أشركتم، وَأَنْتُم أَحَق بالخوف مني حَيْثُ أشركتم بِاللَّه، وَلَا تخافون الله بشرككم أَو فعلكم الَّذِي لم ينزل بِهِ الله حجَّة وسلطانا؟ ﴿فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن﴾ يَعْنِي الموحد أَو الْمُشرك ﴿إِن كُنْتُم تعلمُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿الَّذين آمنُوا وَلم يلبسوا إِيمَانهم بظُلْم﴾ اخْتلفُوا فِيهِ، قَالَ بَعضهم: هَذَا من قَول الله - تَعَالَى -، وَقيل: هُوَ من قَول إِبْرَاهِيم، وَمَعْنَاهُ: الَّذين آمنُوا، وَلم يخلطوا إِيمَانهم بشرك، هَذَا هُوَ قَول أبي بكر، وَعلي، وَحُذَيْفَة، وسلمان أَن المُرَاد بالظلم الشّرك، وَقد صَحَّ بِرِوَايَة ابْن مَسْعُود: " أَنه لي نزلت هَذِه الْآيَة؛ شقّ ذَلِك على الصَّحَابَة، وَقَالُوا: أَيّنَا لم يظلم نَفسه؟ ! فَقَالَ: لَيْسَ الْأَمر كَمَا تظنون، إِنَّمَا الظُّلم هَاهُنَا بِمَعْنى الشّرك، وَقَرَأَ قَوْله تَعَالَى: ﴿لَا تشرك بِاللَّه إِن الشّرك لظلم عَظِيم﴾ ". وَمعنى الْآيَة: الَّذين آمنُوا بِاللَّه وَلم يشركوا بِهِ {أُولَئِكَ لَهُم الْأَمْن
121
﴿مهتدون (٨٢) وَتلك حجتنا آتيناها إِبْرَاهِيم على قومه نرفع دَرَجَات من نشَاء إِن رَبك حَكِيم عليم (٨٣) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب كلا هدينَا ونوحا هدينَا من قبل وَمن ذُريَّته دَاوُود وَسليمَان وَأَيوب ويوسف ومُوسَى وَهَارُون وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وزَكَرِيا وَيحيى وَعِيسَى وإلياس كل من الصَّالِحين (٨٥) وَإِسْمَاعِيل وَالْيَسع﴾ هم مهتدون).
122
قَوْله - تَعَالَى: ﴿وَتلك حجتنا آتيناها إِبْرَاهِيم على قومه﴾ اخْتلفُوا فِيهِ، قَالَ بَعضهم: هِيَ احتجاجه عَلَيْهِم بقوله: ﴿فَأَي الْفَرِيقَيْنِ أَحَق بالأمن﴾، وحجته فِي ذَلِك أَن الَّذِي يعبد الله لَا يُشْرك بِهِ شَيْئا أَحَق بالأمن من الَّذِي يعبد الله ويشرك بِهِ. وَقيل: أَرَادَ بِهِ الْحجَّاج الَّذِي حَاج بِهِ نمروذ، على مَا سبق فِي سُورَة الْبَقَرَة.
﴿نرفع دَرَجَات من نشَاء﴾ يَعْنِي: (بالحجاج)، وَالِاسْتِدْلَال، وَيقْرَأ: " نرفع دَرَجَات " منونا، وَتَقْدِيره: نرفع من نشَاء دَرَجَات ﴿إِن رَبك حَكِيم عليم﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاق وَيَعْقُوب كلا هدينَا ونوحا هدينَا من قبل وَمن ذُريَّته﴾ اخْتلفُوا فِيهِ، قَالَ بَعضهم: أَرَادَ بِهِ: ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم، وَالصَّحِيح أَنه أَرَادَ بِهِ: وَمن ذُرِّيَّة نوح؛ لِأَنَّهُ عد فِي الْجُمْلَة يُونُس ولوطا، وهما من ذُرِّيَّة نوح لَا من ذُرِّيَّة إِبْرَاهِيم ﴿وَمن ذُريَّته دَاوُد وَسليمَان وَأَيوب ويوسف ومُوسَى وَهَارُون وَكَذَلِكَ نجزي الْمُحْسِنِينَ﴾ وَلَيْسَ هَذَا على تَرْتِيب الْأَزْمَان؛ إِذْ كَانَ هَؤُلَاءِ على أزمان مُخْتَلفَة، بَعضهم سَابق على الْبَعْض، (فالواو لَا) تَقْتَضِي التَّرْتِيب وَإِنَّمَا هِيَ للْجمع.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وزَكَرِيا وَيحيى وعيس﴾ هَذَا دَلِيل على أَن عِيسَى من ذُرِّيَّة آدم، وَإِن كَانَ انتماؤه إِلَى الْأُم؛ لِأَنَّهُ عده من ذُرِّيَّة نوح؛ فَيكون آدم أَبَاهُ من قبل الْأُم ﴿وإلياس كل من الصَّالِحين﴾ قَالَ ابْن مَسْعُود: إلْيَاس هُوَ إِدْرِيس، وَالصَّحِيح أَنه رجل آخر.
122
﴿وَيُونُس ولوطا وكلا فضلنَا على الْعَالمين (٨٦) وَمن آبَائِهِم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم (٨٧) ذَلِك هدى الله يهدي بِهِ من يَشَاء من عباده وَلَو أشركوا لحبط عَنْهُم مَا كَانُوا يعْملُونَ (٨٨) أُولَئِكَ الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب﴾
123
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِسْمَاعِيل وَالْيَسع﴾ وَيقْرَأ: " والليسع " وَهُوَ اسْم أعجمي مثل: زيد، وَيزِيد، وَنَحْوه، وَإِنَّمَا وصل فِيهِ الْألف وَاللَّام نَادرا، وَمثله قَول الشَّاعِر:
(وجدنَا (الْوَلِيد بن اليزيد) مُبَارَكًا شَدِيدا (بأعباء) الْخلَافَة كَاهِله)
﴿وَيُونُس ولوطا وكلا فضلنَا على الْعَالمين﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَمن آبَائِهِم﴾ " من " فِيهِ للتَّبْعِيض؛ لِأَن آبَاء بَعضهم كَانُوا مُسلمين ومهتدين ﴿وذرياتهم﴾ أَي: وَمن ذرياتهم، وَأَرَادَ بِهِ: ذُرِّيَّة بَعضهم أَيْضا؛ لِأَن عِيسَى وَيحيى لم يكن لَهما ذُرِّيَّة، وَكَانَ فِي ذُرِّيَّة بَعضهم من كَانَ كَافِرًا ﴿وإخوانهم واجتبيناهم﴾ أَي: اصطفيناهم ﴿وهديناهم﴾ أرشدناهم ﴿إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ذَلِك هدى الله يهدي بِهِ من يَشَاء﴾ أَي: يرشد بِهِ من يَشَاء من عباده ﴿وَلَو أشركوا لحبط عَنْهُم مَا كَانُوا يعْملُونَ﴾ أَي: لبطل عَنْهُم، والحبوط: البطول وَهَذَا مثل قَوْله - تَعَالَى -: ( ﴿لَئِن أشركت ليحبطن عَمَلك﴾
أُولَئِكَ الَّذين أتيناهم الْكتاب) الْكتاب: اسْم الْجِنْس، وَأَرَادَ بِهِ: الْكتب الْمنزلَة عَلَيْهِم ﴿وَالْحكم﴾ يَعْنِي: الْعلم وَالْفِقْه ﴿والنبوة فَإِن يكفر بهَا هَؤُلَاءِ فقد وكلنَا بهَا قوما لَيْسُوا بهَا بكافرين﴾ يَعْنِي: أهل الْمَدِينَة، وَمن كَانَ بهَا من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار، وَقَالَ قَتَادَة: فَإِن يكفر بهَا هَؤُلَاءِ يَعْنِي: الْكفَّار، فقد وكلنَا بهَا قوما [يَعْنِي]
123
﴿وَالْحكم والنبوة فَإِن يكفر بهَا هَؤُلَاءِ فقد وكلنَا بهَا قوما لَيْسُوا بهَا بكافرين (٨٩) أُولَئِكَ الَّذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِن هُوَ إِلَّا ذكرى للْعَالمين (٩٠) وَمَا قدرُوا الله حق قدره إِذْ قَالُوا مَا أنزل الله على بشر من شَيْء قل من﴾ الْأَنْبِيَاء الَّذين سبق ذكرهم، وَقَالَ أَبُو رَجَاء العطاردي: مَعْنَاهُ: فَإِن يكفر بهَا أهل الأَرْض، فقد وكلنَا بهَا أهل السَّمَاء، وهم الْمَلَائِكَة ﴿لَيْسُوا بهَا بكافرين﴾.
124
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿أُولَئِكَ الَّذين هدى الله﴾ أَي: هدَاهُم الله ﴿فبهداهم اقتده﴾ وَهَذِه هَاء الْوَقْف، كَمَا فِي قَوْله: ﴿ماليه﴾ و ﴿سلطانيه﴾، وَنَحْو ذَلِك، وَيقْرَأ: " فبهديهم اقتده " بِكَسْر الْهَاء، وَتَقْدِيره: فبهديهم اقتد اقْتِدَاء، هَكَذَا قيل: إِن الْمصدر مقدس فِيهِ ﴿قل لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا إِن هُوَ إِلَّا ذكر للْعَالمين﴾ أَي: تذكره.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَمَا قدرُوا الله حق قدره﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: مَا عظموا الله حق عَظمته، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: مَا عرفُوا الله حق مَعْرفَته، وَقَالَ الْخَلِيل بن أَحْمد: مَا وصفوا الله حق وَصفته، يُقَال: قدرت الشَّيْء، وَقدرته؛ إِذا عرفت حَقِيقَته.
﴿إِذْ قَالُوا مَا أنزل الله على بشر من شَيْء﴾ قيل: هَذَا قَول مَالك بن الصَّيف، كَانَ حبر الْيَهُود، فحاج النَّبِي، فَجرى على لِسَانه فِي المحاجة: مَا أنزل الله على بشر من شَيْء، وَكَانَ ذَلِك بِمَكَّة؛ فَنزلت الْآيَة.
﴿قل من أنزل الْكتاب الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نورا وَهدى للنَّاس﴾ أَي: أجبه يَا مُحَمَّد، وَقل: من أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى وَأَنْتُم تؤمنون بِهِ؟.
وَفِي الْقِصَّة: أَن الْيَهُود سمعُوا مِنْهُ تِلْكَ الْمقَالة؛ فعتبوا عَلَيْهِ، وَقَالُوا: أَلَيْسَ أَن الله قد أنزل التَّوْرَاة على مُوسَى؟ فَلم قلت مَا أنزل الله على بشر من شَيْء؟ ! فَقَالَ مَالك بن الصَّيف: أَغْضَبَنِي مُحَمَّد؛ فَقلت مَا قلت؛ فَقَالُوا: وَأَنت إِذا غضِبت تَقول على الله
124
﴿أنزل الْكتاب الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نورا وَهدى للنَّاس تجعلونه قَرَاطِيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم مَا لم تعلمُوا أَنْتُم وَلَا آباؤكم قل الله ثمَّ ذرهم فِي خوضهم يَلْعَبُونَ (٩١) وَهَذَا كتاب أَنزَلْنَاهُ مبارك مُصدق الَّذِي بَين يَدَيْهِ ولتنذر أم الْقرى وَمن حولهَا وَالَّذين﴾ غير الْحق؛ فَنَزَعُوهُ عَن الحبرية، وأجلسوا مَكَانَهُ كَعْب بن الْأَشْرَف.
﴿تجعلونه قَرَاطِيس تبدونها﴾ أَي: تكبون مِنْهَا كتبا تبدونها ﴿وتخفون كثيرا﴾ أَي: تخفون مَا فِيهِ نعت مُحَمَّد، وتبدون مِنْهَا مَا لَيْسَ فِيهِ نعت مُحَمَّد ﴿وعلمتم مَا لم تعلمُوا أَنْتُم وَلَا (آباؤكم﴾ ) قيل: هُوَ رَاجع إِلَى الْيَهُود، وَقيل: هُوَ خطاب للصحابة.
قَالَ الله - تَعَالَى -: (يَعْنِي: قل من أنزلهُ) وَهُوَ رَاجع إِلَى مَا تقدم ﴿قل الله ثمَّ ذرهم فِي خوضهم يَلْعَبُونَ﴾ وكل من خَاضَ فِيمَا لَا ينفح بِهِ فَهُوَ لاعب.
125
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَهَذَا كتاب أَنزَلْنَاهُ مبارك﴾ يصف الْقُرْآن بِالْبركَةِ: وأصل الْبركَة الثُّبُوت، وَمِنْه بروك الْبَعِير إِذا ثَبت وَاسْتقر، وَمِنْه قَوْله: ﴿تبَارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك﴾ أَي: ثَبت لَهُ مَا يسْتَحقّهُ من التَّعْظِيم والجلال فِيمَا لم يزل وَلَا يزَال.
﴿مُصدق الَّذِي بَين يَدَيْهِ﴾ يَعْنِي: من الْكتب الْمنزلَة قبله ﴿ولتنذر أم الْقرى﴾ يَعْنِي: أهل أم الْقرى ﴿وَمن حولهَا﴾ وَأم الْقرى مَكَّة: وَسميت أم الْقرى؛ لِأَن سَائِر الْقرى [يقصدونها ويأتونها]، وَقيل: لِأَن الأَرْض دحيت من تحتهَا، (وَقيل: لِأَنَّهَا) معظمة تقصد بالتعظيم، وَمِنْه سميت الْأُم أما؛ لِأَنَّهَا تعظم، وَقد قَالَ: " إِن الْمَدِينَة قَرْيَة تَأْكُل سَائِر الْقرى " يَعْنِي: أَن أهل الْمَدِينَة يقتحمون سَائِر الْقرى
125
﴿يُؤمنُونَ بِالآخِرَة يُؤمنُونَ بِهِ وهم على صلَاتهم يُحَافِظُونَ (٩٢) وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو قَالَ أُوحِي إِلَيّ وَلم يُوح إِلَيْهِ شَيْء وَمن قَالَ سَأُنْزِلُ مثل مَا أنزل الله﴾ بِالسَّيْفِ.
﴿وَالَّذين يُؤمنُونَ بِالآخِرَة يُؤمنُونَ بِهِ وهم على صلَاتهم يُحَافِظُونَ﴾.
فَإِن قيل: الْيَهُود وَالنَّصَارَى يُؤمنُونَ بِالآخِرَة، وَلَا يُؤمنُونَ بِهِ، فَمَا معنى قَوْله " وَالَّذين يُؤمنُونَ بِالآخِرَة يُؤمنُونَ بِهِ "؟ قيل: أَرَادَ بِهِ الْمُؤمنِينَ؛ لأَنهم الَّذين يُؤمنُونَ بِالآخِرَة حَقِيقَة، فَأَما الَّذين يُؤمنُونَ بِالآخِرَة، وَلَا يصدقون مُحَمَّدًا، وَمَا جَاءَ بِهِ؛ فكأنهم لم يُؤمنُوا بِالآخِرَة على الْحَقِيقَة.
126
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا أَو قَالَ أُوحِي إِلَيّ وَلم يُوح إِلَيْهِ شَيْء﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: " [نزل] هَذَا فِي عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وَكَانَ قد أسلم؛ فَجعله النَّبِي كتابا للوحي، وَكَانَ يملي عَلَيْهِ الْوَحْي؛ فَيكْتب، فَقيل: إِنَّه كَانَ يملي عَلَيْهِ: " إِن الله سميع عليم "، فَيكْتب: " إِن الله غَفُور رَحِيم " ويملي عَلَيْهِ: إِن الله غَفُور رَحِيم " فَيكْتب: " إِن الله عليم حَكِيم " هَكَذَا كَانَ يُبدل؛ فروى أَنه لما نزل قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَقَد خلقنَا الْإِنْسَان من سلالة من طين ثمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَة فِي قَرَار مكين﴾ الْآيَة فأملى النَّبِي ذَلِك؛ فَلَمَّا رأى تَفْضِيل خلق الله تعجب، وَقَالَ: تبَارك الله أحسن الْخَالِقِينَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِي: هَكَذَا أنزل ﴿فَتَبَارَكَ الله أحسن الْخَالِقِينَ﴾ فَشك الرجل فِي الْوَحْي، وَقَالَ: أُوحِي إِلَيّ كَمَا يُوحى إِلَيْهِ، وارتد عَن الْإِسْلَام " فَقَوله: ﴿أَو قَالَ أُوحِي إِلَيّ﴾ هُوَ هَذَا.
وَقيل: نزلت الْآيَة فِي مُسَيْلمَة الْكذَّاب، وَالْأسود الْعَنسِي، خرجا بِالْيمن، وادعيا
126
﴿وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت وَالْمَلَائِكَة باسطوا أَيْديهم أخرجُوا أَنفسكُم الْيَوْم تُجْزونَ عَذَاب الْهون بِمَا كُنْتُم تَقولُونَ على الله غير الْحق وكنتم عَن آيَاته تستكبرون (٩٣) وَلَقَد جئتمونا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أول مرّة وتركتم مَا خولناكم وَرَاء﴾ النُّبُوَّة وَالْوَحي إِلَيْهِمَا، وَقد روى عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " رَأَيْت فِي الْمَنَام سِوَارَيْنِ من ذهب فِي يَدي، فنفخت فيهمَا، فطَارَا، فَأَوَّلْتهمَا عل كَذَّابين يخرجَانِ بعدِي " مُسَيْلمَة الْكذَّاب كَانَ بِالْيَمَامَةِ، وَالْأسود الْعَنسِي كَانَ بِصَنْعَاء الْيمن.
﴿وَمن قَالَ سَأُنْزِلُ مثل مَا أنزل الله﴾ هَذَا فِي النَّضر بن الْحَارِث بن كلدة، ادّعى مُعَارضَة الْقُرْآن، فروى أَنه قَالَ فِي مُعَارضَة الْقُرْآن: والطاحنات طحنا، فالعاجنات عَجنا، والخابزات خبْزًا فاللاقمات لقما.
﴿وَلَو ترى إِذْ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَات الْمَوْت﴾ يَعْنِي: فِي شَدَائِد الْمَوْت، قَالَ الشَّاعِر:
(الغمرات ثمَّ تنجلينا ثمَّة تذهبن فَلَا تجينا)
﴿وَالْمَلَائِكَة باسطوا أَيْديهم﴾ قيل: للعذاب، وَقيل: لقبض الْأَرْوَاح ﴿أخرجُوا أَنفسكُم﴾ أَي: أرواحكم، فَإِن قَالَ قَائِل: الرّوح إِنَّمَا تخرج كرها؛ فَمَا معنى قَوْله: أخرجُوا أَنفسكُم؟ قيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك تَغْلِيظًا عَلَيْهِم، كمن يخرج من الدَّار كرها، وَيُقَال لَهُ: اخْرُج.
﴿الْيَوْم تُجْزونَ عَذَاب الْهون بِمَا كُنْتُم تَقولُونَ على الله غير الْحق وكنتم عَن آيَاته تستكبرون﴾ الْهون: من الهوان، والهون: من اللين والرفق، كَمَا فِي قَوْله: ﴿يَمْشُونَ على الأَرْض هونا﴾.
127
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَقَد جئتمونا فُرَادَى﴾ أَي وحدانا فَردا فَردا ﴿كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أول مرّة﴾ بِلَا أهل وَلَا مَال ﴿وتركتم مَا خولناكم وَرَاء ظهوركم﴾ أَي: ملكناكم، والخول: المماليك. ﴿وَمَا نرى مَعكُمْ شفعاءكم الَّذين زعمتم انهم فِيكُم شُرَكَاء﴾
127
﴿ظهوركم وَمَا نرى مَعكُمْ شفعاءكم الَّذين زعمتم أَنهم فِيكُم شُرَكَاء لقد تقطع بَيْنكُم وضل عَنْكُم مَا كُنْتُم تَزْعُمُونَ (٩٤) إِن الله فالق الْحبّ والنوى يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت ومخرج الْمَيِّت من الْحَيّ ذَلِكُم الله فَأنى تؤفكون (٩٥) فالق الإصباح وَجعل اللَّيْل﴾ أَرَادَ بِهِ: مَا زَعَمُوا من أَن الْأَصْنَام وَالْمَلَائِكَة شفعاؤنا عِنْد الله ﴿لقد تقطع بَيْنكُم﴾ أَي: وصلكم، وَهُوَ مثل قَوْله: ﴿وتقطعت بهم الْأَسْبَاب﴾ أَي: الموصلات، وَيقْرَأ: " لقد تقطع بَيْنكُم " - بِفَتْح النُّون - وَمَعْنَاهُ: تقطع الْأَمر بَيْنكُم ﴿وضل عَنْكُم مَا كُنْتُم تَزْعُمُونَ﴾.
128
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِن الله فالق الْحبّ والنوى﴾ الفلق: الشق، وَمَعْنَاهُ: أَنه يشق الْحبَّة؛ فيستخرج السنبلة من الْحبَّة، ويشق النواة؛ فيستخرج النَّخْلَة من النواة، [وَيدخل] فِي قَوْله: ﴿فالق الْحبّ﴾ جَمِيع البذور والحبوب، وَيدخل فِي قَوْله: ﴿والنوى﴾ نواة جَمِيع الْأَشْجَار؛ مثل نواة المشمش، ونواة الخوخ، ونواة الغبيراء، وَنَحْو ذَلِك، وَقيل: فالق الْحبّ والنوى بِمَعْنى: خَالق الْحبّ والنوى.
﴿يخرج الْحَيّ من الْمَيِّت ومخرج الْمَيِّت من الْحَيّ﴾ وَقد ذكرنَا هَذَا وَاخْتِلَاف الْقِرَاءَة فِيهِ، وَالْفرق بَين الْمَيِّت وَالْمَيِّت ﴿ذَلِكُم الله فَأنى تؤفكون﴾ أَي تصرفون.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فالق الإصباح﴾ مَعْنَاهُ: أَنه يسْتَخْرج الصُّبْح من اللَّيْل، والإصباح: مصدر، وَهُوَ بِمَعْنى: الصُّبْح هَاهُنَا، أَي: فالق الصُّبْح، وَقَرَأَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ: " فلق الإصباح " وَقَرَأَ الْحسن: " فالق الإصباح " - بِنصب الْقَاف - وهما فِي الشواذ.
﴿وَجعل اللَّيْل سكنا﴾ أَي: يسكن فِيهِ، وَيقْرَأ: " وَجعل اللَّيْل سكنا "، أَي: جعل الله اللَّيْل سكنا ﴿وَالشَّمْس وَالْقَمَر حسبانا﴾ أَي: بِحِسَاب عُلُوم، والحسبان: هُوَ الْحساب هَاهُنَا بِمَعْنى أَنَّهُمَا يدوران بِحِسَاب مَعْلُوم مُقَدّر. وَحكى مَنْصُور بن
128
﴿سكنا وَالشَّمْس وَالْقَمَر حسبانا ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم (٩٦) وَهُوَ الَّذِي جعل لكم النُّجُوم لتهتدوا بهَا فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر قد فصلنا الْآيَات لقوم يعلمُونَ (٩٧) وَهُوَ الَّذِي أنشأكم من نفس وَاحِدَة فمستقر ومستودع قد فصلنا الْآيَات لقوم يفقهُونَ (٩٨) الْمُعْتَمِر - وَهُوَ الثِّقَة من رُوَاة النَّخعِيّ - عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ: يجوز أَن يتَعَلَّم الْإِنْسَان من النُّجُوم بِقدر مَا يعرف منَازِل الْقَمَر، وسير الْكَوَاكِب لمعرف الْقبْلَة وأوقات الصَّلَاة {ذَلِك تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم﴾.
129
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَهُوَ الَّذِي جعل لكم النُّجُوم لتهتدوا بهَا فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر﴾ هَذِه إِحْدَى فَوَائِد النُّجُوم، وَالله - تَعَالَى - خلق النُّجُوم لفوائد: مِنْهَا تَزْيِين السَّمَاء، كَمَا قَالَ - عز وَعلا -: ﴿وزينا السَّمَاء دينا بمصابيح﴾ وَمِنْهَا رمى الشَّيَاطِين بهَا كَمَا قَالَ: ﴿وجعلناهم رجوما للشياطين﴾ وَمِنْهَا الاهتداء فِي ظلمات الْبر وَالْبَحْر كَمَا قَالَ هَاهُنَا.
وَحكى أَبُو الْحُسَيْن بن فَارس عَن بعض التَّابِعين أَنه أَرَادَ بالنجوم هَاهُنَا: الصَّحَابَة، يَهْتَدِي بهم فِي ظلمات الشّرك، وَهَذَا مثل قَوْله: " أَصْحَابِي [كَالنُّجُومِ] بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ "، ﴿قد فصلنا الْآيَات لقوم يعلمُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَهُوَ الَّذِي أنشأكم من نفس وَاحِدَة﴾ يَعْنِي: آدم - صلوَات الله عَلَيْهِ - ﴿فمستقر ومستودع﴾ قَالَ عَطاء، وَمُجاهد: أَرَادَ بالمستقر: أَرْحَام الْأُمَّهَات، وبالمستودع: أصلاب الْآبَاء، وَحكى ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا، ويروى عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ - على عَكسه -: المستقر: أصلاب الْآبَاء، والمستودع: أَرْحَام
129
﴿وَهُوَ الَّذِي أنزل من السَّمَاء مَاء فأخرجنا بِهِ نَبَات كل شَيْء فأخرجنا مِنْهُ خضرًا نخرج مِنْهُ حبا متراكبا وَمن النّخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب وَالزَّيْتُون وَالرُّمَّان﴾ الْأُمَّهَات، وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: المستقر: أَرْحَام الْأُمَّهَات، والمستودع: الْقُبُور، وَفِيه قَول ثَالِث: أَن المُرَاد بالمستقر الدُّنْيَا والمستودع: الْآخِرَة، وَيقْرَأ: " فمستقر " بِكَسْر الْقَاف، وَتَقْدِيره: فمنكم مُسْتَقر، وَمِنْه مستودع ﴿قد فصلنا الْآيَات لقوم يفقهُونَ﴾.
130
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَهُوَ الَّذِي أنزل من السَّمَاء مَاء فأخرجنا بِهِ نَبَات كل شَيْء، فأخرجنا مِنْهُ خضرًا﴾ هُوَ الْغُصْن الطري ﴿نخرج مِنْهُ حبا متراكبا﴾ أَي: متراكما بعضه على بعض ﴿وَمن النّخل من طلعها قنوان دانية﴾ الطّلع: مَا يخرج من شجر النّخل، والقنوان: العذوق، وَاحِدهَا: قنو، والعذق: أصل الشَّجَرَة، والعذق: الكباسة، والعذق والقنو وَاحِد، وَقَالَ الشَّاعِر:
(أثيث كقنو النَّخْلَة المتعثكل... )
وَقَالَ أَيْضا:
(فأثت أعاليه (ودقت) أُصُوله
(يمِيل بِهِ قنو) من الْبُسْر أحمرا)
وَأما " الدانية " قَالَ الْبَراء بن عَازِب: ﴿قنوان دانية﴾ أَي: قريبَة المتناول، وَفِيه حذف وَتَقْدِيره: قنوان دانية وَغير دانية أَي: قريبَة، المتناول وبعيدة المتناول، فَحذف أَحدهمَا اختصارا؛ لسبقه إِلَى الأفهام، وَمثله قَوْله: ﴿سرابيل تقيكم الْحر﴾ وَتَقْدِيره: تقيكم الْحر وَالْبرد، قَوْله: ﴿وجنات من أعناب﴾ يقْرَأ بِكَسْر التَّاء، ورفعها ﴿وَالزَّيْتُون وَالرُّمَّان مشتبها وَغير متشابه﴾ أَي: مشتبها يشبه بعضه بَعْضًا فِي الْوَرق، وَغير متشابه فِي الثَّمر والطعم، وَهَكَذَا يكون الزَّيْتُون مَعَ الرُّمَّان، فَإِن ورق الزَّيْتُون يشبه ورق الرُّمَّان، وَقيل: تكون أوراقه إِلَى أصل الشَّجَرَة كأوراق الرُّمَّان، ثمَّ يُخَالف
130
﴿مشتبها وَغير تشابه انْظُرُوا إِلَى ثمره إِذا أثمر وينعه إِن فِي ذَلِكُم لآيَات لقوم يُؤمنُونَ (٩٩) وَجعلُوا لله شُرَكَاء الْجِنّ وخلقهم وخرقوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَات بِغَيْر علم سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يصفونَ (١٠٠) بديع السَّمَوَات وَالْأَرْض أَنى يكون لَهُ ولد وَلم تكن لَهُ صَاحِبَة وَخلق كل شَيْء وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم (١٠١) ذَلِكُم الله ربكُم لَا إِلَه إِلَّا هُوَ خَالق﴾ الرُّمَّان فِي الطّعْم، فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿مشتبها وَغير متشابه﴾، ﴿انْظُرُوا إِلَى ثمره إِذا أثمر وينعه﴾ أَي: فِي نضجه، وَمِنْه قَول الْحجَّاج حَيْثُ خطب، وَقَالَ: إِنِّي أرى رُءُوسًا قد أينعت، وآن قطافها، وَأَنا وَالله صَاحبهَا، وَرَأى دِمَاء ترقرق بَين اللحى والعمائم ﴿إِن فِي ذَلِكُم لآيَات لقوم يُؤمنُونَ﴾.
131
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَجعلُوا لله شُرَكَاء الْجِنّ﴾ وَذَلِكَ أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ: إِن الْمَلَائِكَة بَنَات الله من سروات الْجِنّ ﴿وخلقهم﴾ قيل: إِن الْآيَة رَاجِعَة إِلَى الْجِنّ، وَقيل: رَاجِعَة إِلَى الْكفَّار يَعْنِي: أَنهم يَقُولُونَ ذَلِك ﴿وخلقهم﴾ وَقَرَأَ يحيى بن يعمر: " وخلقهم " بجزم اللَّام، وَهُوَ فِي الشواذ.
﴿وخرقوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَات بِغَيْر علم﴾ يقْرَأ مخففا ومشددا والخرق: الاختلاق، والتخريق: التكثير مِنْهُ، يَعْنِي: واختلقوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَات، وَذَلِكَ مثل قَول الْيَهُود: عُزَيْر ابْن الله، وَمثل قَول النَّصَارَى: الْمَسِيح ابْن الله، وَمثل قَول بَعضهم: الْمَلَائِكَة بَنَات الله ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يصفونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿بديع السَّمَوَات وَالْأَرْض﴾ أَي: مبدع السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَهُوَ الْخَالِق لَا على مِثَال سبق، وَمِنْه المبتدعة، وَلَا يكون الْوَلَد إِلَّا من الصاحبة؛ فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿أَنى يكون لَهُ ولد وَلم يكن لَهُ صَاحِبَة وَخلق كل شَيْء﴾ وَفِيه أَيْضا دَلِيل على أَن لَا ولد لَهُ؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ خلق كل شَيْء؛ لم يصلح شَيْء أَن يكون ولد لَهُ؛ إِذْ الْمَخْلُوق لَا يصلح ولدا للخالق؛ فَإِن ولد كل أحد يكون من جنسه ﴿وَهُوَ بِكُل شَيْء عليم﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ذَلِكُم الله ربكُم لَا إِلَه إِلَّا هُوَ خَالق كل شَيْء﴾ أكد مَا سبق
131
﴿كل شَيْء فاعبدوه وَهُوَ على كل شَيْء وَكيل (١٠٢) لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يدْرك﴾ ذكره من نعت الوحدانية ﴿فاعبدوه﴾ أَي: فأطيعوه ﴿وَهُوَ على كل شَيْء وَكيل﴾ قيل: هُوَ الْكَفِيل بالأرزاق، وَقيل: الْوَكِيل هَاهُنَا بِمَعْنى: الْقَائِم بِخلق كل شَيْء وتدبيره.
132
قَوْله - تَعَالَى ٠: ﴿لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يدْرك الْأَبْصَار﴾ وَاسْتدلَّ بِهَذِهِ الْآيَة من يعْتَقد نفي الرُّؤْيَة، قَالُوا: لما (تمدح) بِأَنَّهُ لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار؛ فمدحه يكون على الْأَبَد فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَاعْلَم أَن الرُّؤْيَة حق على مَذْهَب أهل السّنة، وَقد ورد بِهِ الْقُرْآن وَالسّنة.
قَالَ الله - تَعَالَى -: ﴿وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة﴾ وَقَالَ: ﴿كلا إِنَّهُم عَن رَبهم يَوْمئِذٍ لمحجوبون﴾.
وَقَالَ: ﴿فَمن كَانَ يَرْجُو لِقَاء ربه﴾ وَنَحْو هَذَا، وروى جرير بن عبد الله البَجلِيّ، وَغَيره بروايات صَحِيحَة عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِنَّكُم سَتَرَوْنَ ربكُم كَمَا ترَوْنَ الْقَمَر لَيْلَة الْبَدْر لَيْسَ دونه سَحَاب، لَا تضَامون فِي رُؤْيَته " ويروون: " لَا تضَارونَ فِي رُؤْيَته ".
فَأَما قَوْله - تَعَالَى -: ﴿لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار﴾ فالإدراك غير الرُّؤْيَة؛ لِأَن الْإِدْرَاك: هُوَ الْوُقُوف على كنه الشَّيْء وَحَقِيقَته، والرؤية: هِيَ المعاينة، وَقد تكون الرُّؤْيَة بِلَا إِدْرَاك، قَالَ الله - تَعَالَى - فِي قصَّة مُوسَى: ﴿فَلَمَّا ترآء الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَاب مُوسَى إِنَّا لمدركون قَالَ كلا﴾ فنفى الْإِدْرَاك مَعَ إِثْبَات الرُّؤْيَة، وَإِذا كَانَ الْإِدْرَاك غير الرُّؤْيَة، فَالله - تَعَالَى - يجوز أَن يرى، وَلَكِن لَا يدْرك كنهه؛ إِذْ لَا كنه لَهُ حَتَّى يدْرك؛ وَهَذَا
132
﴿الْأَبْصَار وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير (١٠٣) قد جَاءَكُم بصائر من ربكُم فَمن أبْصر فلنفسه وَمن عمي فعلَيْهَا وَمَا أَنا عَلَيْكُم بحفيظ (١٠٤) وَكَذَلِكَ نصرف الْآيَات وليقولوا درست﴾ كَمَا انه يعلم وَيعرف وَلَا يحاط بِهِ، كَمَا قَالَ: ﴿وَلَا يحيطون بِهِ علما﴾ فنفى الْإِحَاطَة مَعَ ثُبُوت الْعلم، وَقَالَ ابْن عَبَّاس - حَكَاهُ مقَاتل عَنهُ، وَالْأول قَول الزّجاج -: معنى قَوْله: ﴿لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار﴾ يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا، هُوَ يرى الْخلق، وَلَا يرَاهُ الْخلق فِي الدُّنْيَا بِدَلِيل قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة﴾ فَكَمَا أَثْبَتَت الرُّؤْيَة بِتِلْكَ الْآيَة فِي الْآخِرَة؛ دلّ أَن المُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة الْإِدْرَاك فِي الدُّنْيَا؛ ليَكُون جمعا بَين الْآيَتَيْنِ ﴿وَهُوَ اللَّطِيف الْخَبِير﴾ اللَّطِيف: موصل الشَّيْء باللين والرفق، وَيُقَال فِي الدُّعَاء: " رب الطف بِي " أَي: أوصل إِلَيّ الرِّفْق، وَقيل: مَعْنَاهُ: وَهُوَ اللَّطِيف بأوليائه وعباده الْخَبِير بهم.
133
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قد جَاءَكُم بصائر من ربكُم﴾ البصائر: الْبَينَات ﴿فَمن أبْصر فلنفسه﴾ يَعْنِي: نفع بَصَره لَهُ ﴿وَمن عمي فعلَيْهَا﴾ أَي: وبال الْعَمى عَلَيْهَا ﴿وَمَا أَنا عَلَيْكُم بحفيظ﴾ أَي: مَا أمرت أَن ألازمكم حَتَّى تسلموا لَا محَالة، قيل: هَذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاء، ثمَّ صَار مَنْسُوخا بِآيَة السَّيْف.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَكَذَلِكَ نصرف الْآيَات﴾ أَي: نفصل الْآيَات، مرّة هَكَذَا، وَمرَّة هَكَذَا ﴿وليقولوا درست﴾ قيل: هَذِه " لَام الْعَاقِبَة " أَي: عَاقِبَة أَمرهم أَن يَقُولُوا: درست، وَهَذَا مثل قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فالتقطه آل فِرْعَوْن ليَكُون لَهُم عدوا﴾ وَمَعْلُوم أَنهم لم يلتقطوه لهَذَا، وَلَكِن أَرَادَ أَن عَاقِبَة أمره مَعَهم أَن كَانَ عدوا لَهُم؛ فيسمون ذَلِك لَام الْعَاقِبَة، كَذَلِك هَا هُنَا، وَقَوله: ﴿درست﴾ يقْرَأ على وُجُوه: " درست " أَي: تعلمت من غَيْرك، وَكَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّه تعلم أَخْبَار الْقُرُون الْمَاضِيَة من جبر، ويسار، وَكَانَ عَبْدَيْنِ سبيا من الرّوم، وَيقْرَأ " دارست " أَي تاليت وقاربت، وَهُوَ
133
﴿ولنبينه لقوم يعلمُونَ (١٠٥) اتبع مَا أُوحِي إِلَيْك من رَبك لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَأعْرض عَن الْمُشْركين (١٠٦) وَلَو شَاءَ الله مَا أشركوا وَمَا جعلناك عَلَيْهِم حفيظا وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بوكيل (١٠٧) وَلَا تسبوا الَّذين يدعونَ من دون الله فيسبوا الله عدوا بِغَيْر علم كَذَلِك﴾ من المدارسة بَين اثْنَيْنِ يدرس أَحدهمَا على الآخر، وَقَرَأَ ابْن عَامر " درست " أَي: تِلْكَ أَخْبَار قد درست ومحيت، وَيقْرَأ فِي الشواذ " وليقولوا درست " بِمَعْنى: محيت، قَرَأَهُ قَتَادَة، وَفِي حرف أبي بن كَعْب وَابْن مَسْعُود " وليقولوا درس " يَعْنِي: درس مُحَمَّد، وَهُوَ بِمَعْنى: تعلم، كَمَا بَينا ﴿ولنبينه لقوم يعلمُونَ﴾.
134
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿اتبع مَا أُوحِي إِلَيْك من رَبك﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن ﴿لَا إِلَه إِلَّا هُوَ وَأعْرض عَن الْمُشْركين﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَو شَاءَ الله مَا أشركوا﴾ وَهَذَا دَلِيل على الْقَدَرِيَّة ﴿وَمَا جعلناك عَلَيْهِم حفيظا﴾ قد بَينا مَعْنَاهُ ﴿وَمَا أَنْت عَلَيْهِم بوكيل﴾.
قَوْله: ﴿وَلَا تسبوا الَّذين يدعونَ من دون الله فيسبوا الله عدوا بِغَيْر علم﴾ وَيقْرَأ: " عدوا بِغَيْر علم " ومعناهما وَاحِد أَي: اعتداء بِغَيْر علم، وَسبب نزُول الْآيَة: أَن الْكفَّار كَانُوا يَقُولُونَ لرَسُول الله: ذرنا وَآلِهَتنَا؛ حَتَّى نذرك وَإِلَهك - وَكَانَ يذكر آلِهَتهم بالسوء - فَنزلت الْآيَة وروى: " أَن قوما من كفار قُرَيْش من رُؤَسَائِهِمْ جَاءُوا إِلَى أبي طَالب، وَقَالُوا: مر ابْن أَخِيك يذرنا وَآلِهَتنَا حَتَّى نَذره وإلهه، فَدَعَا رَسُول الله، وَقَالَ: إِن قَوْمك جَاءُوا يطْلبُونَ مِنْك النصفة، فَقَالَ: وماذا يُرِيدُونَ؟ فَقَالَ أَبُو طَالب: يَقُولُونَ: ذرنا وَآلِهَتنَا، ونذرك وآلهك؛ فَقَالَ رَسُول الله: هَل أَنْتُم معطي كلمة إِن أَنْتُم قُلْتُمُوهَا دَانَتْ لكم الْعَرَب، وَأَدت إِلَيْكُم الْعَجم الْجِزْيَة؟ فَقَالُوا: وَمَا [هِيَ] ؟ قَالَ: كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله. فنفروا، وَقَالُوا: {أجعَل الْآلهَة إِلَهًا وَاحِدًا إِن هَذَا لشَيْء
134
﴿زينا لكل أمة عَمَلهم ثمَّ إِلَى رَبهم مرجعهم فينبئهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ (١٠٨) وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم لَئِن جَاءَتْهُم آيَة ليُؤْمِنن بهَا قل إِنَّمَا الْآيَات عِنْد الله وَمَا يشعركم أَنَّهَا﴾ عُجاب) " فَقَوله: ﴿وَلَا تسبوا الَّذين يدعونَ من دون الله﴾ وَإِن كَانَ ظَاهره للنَّهْي عَن سبّ الْأَصْنَام، وَلَكِن مَعْنَاهُ: النَّهْي عَن سبّ الله - تَعَالَى - حَتَّى لَا تسب اللهتهم، فيسبوا الله. وَهَذَا مثل قَوْله: " لَا يسب أحدكُم وَالِديهِ؟ قيل: يَا رَسُول الله، وَمن يسب وَالِديهِ؛ قَالَ: يسب وَالِدي غَيره؛ فيسب والداه " ﴿كَذَلِك زينا لكل أمة عَمَلهم﴾ للْمُؤْمِنين إِيمَانهم وللكافرين كفرهم ﴿ثمَّ إِلَى رَبهم مرجعهم فينبئهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ﴾.
135
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وأقسموا بِاللَّه جهد أَيْمَانهم لَئِن جَاءَتْهُم آيَة ليُؤْمِنن بهَا﴾ كَانُوا يطْلبُونَ الْآيَات، ويحلفون أَنَّهَا لَو جَاءَت آمنُوا بهَا.
﴿قل إِنَّمَا الْآيَات عِنْد الله﴾ أَي: الْآيَات (بيَدي) الله، وَالله قَادر على إنزالها.
﴿وَمَا يشعركم أَنَّهَا إِذا جَاءَت لَا يُؤمنُونَ﴾ فَقَوله: " أَنَّهَا " يقْرَأ على وَجْهَيْن: بِكَسْر الْهمزَة، وَفتحهَا؛ فَمن قَرَأَ: " إِنَّهَا " فعلى الإبتداء، وَاخْتلفُوا فِي معنى قَوْله: ﴿وَمَا يشعركم﴾ أَنه خطاب لمن؟ قَالَ بَعضهم: هُوَ خطاب للْكفَّار، وَمَعْنَاهُ: وَمَا يشعركم أَيهَا الْكفَّار أَنَّهَا لَو جَاءَت آمنتم؟ ثمَّ ابْتَدَأَ، فَقَالَ: إِنَّهَا إِذا جَاءَت لَا يُؤمنُونَ.
وَقيل: إِنَّه خطاب للْمُؤْمِنين، وَمَعْنَاهُ: وَمَا يدريكم أَنَّهَا لَو جَاءَت آمنُوا بهَا، إِذْ كَانَ
135
﴿إِذا جَاءَت لَا يُؤمنُونَ (١٠٩) ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كَمَا لم يُؤمنُوا بِهِ أول مرّة ونزرهم فِي طغيانهم يعمهون (١١٠) وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى﴾ الْمُؤْمِنُونَ يسْأَلُون رَسُول الله أَن يَدْعُو الله - تَعَالَى - حَتَّى يُرِيهم آيَة؛ كي يُؤمنُوا، فَقَالَ: وَمَا يشعركم أَنَّهَا لَو جَاءَت آمنُوا بهَا؟ ثمَّ ابْتَدَأَ، وَقَالَ: إِنَّهَا إِذا جَاءَت لَا يُؤمنُونَ، وَهَذَا فِي قوم مخصوصون علم الله أَنهم لَا يُؤمنُونَ.
وَأما من قَرَأَ " أَنَّهَا " بِفَتْح الْهمزَة؛ فَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، قَالَ الكسئي: لَا صلَة هَاهُنَا وَتَقْدِيره: وَمَا يشعركم أَنَّهَا إِذا جَاءَت يُؤمنُونَ، وَقيل: " أَنَّهَا " بِمَعْنى: " لَعَلَّهَا " كَمَا قَالَ الشَّاعِر:
(أريني جوادا مَاتَ هزلا (فإنني)
أرى مَا [تَرين] أَو بَخِيلًا مخلدا)
وَمَعْنَاهُ: لعَلي أرى مَا تريني، كَذَلِك هَذَا، وَمَعْنَاهُ: وَمَا يشعركم لَعَلَّهَا إِذا جَاءَت لَا يُؤمنُونَ، وَقيل: فِيهِ حذف، وَتَقْدِيره: وَمَا يشعركم أَنَّهَا إِذا جَاءَت يُؤمنُونَ أَو لَا يُؤمنُونَ.
136
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ونقلب أفئدتهم وأبصارهم﴾ أَي: تقلب أفئدتهم كَيْلا يدركوا، وأبصارهم؛ كَيْلا يبصوا؛ فَلَا يُؤمنُونَ ﴿كَمَا لم يُؤمنُوا بِهِ أول مرّة ونذرهم فِي طغيانهم يعمهون﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى﴾ نزلت الْآيَة على مَا اقترحوا من الْآيَات، فَكَانُوا قد اقترحوا هَذَا كُله، قَالُوا لن نؤمن بك حَتَّى تنزل علينا كتابا من السَّمَاء يحملهُ أَرْبَعُونَ من الْمَلَائِكَة، وسألوا إحْيَاء الْمَوْتَى، وَقَالُوا: ادْع الله حَتَّى يحْشر قصيا - يعنون قصي بن كلاب - فَإِنَّهُ شيخ مبارك؛ حَتَّى نشْهد لَك بِالنُّبُوَّةِ، فَنزلت الْآيَة ﴿وَلَو أننا نزلنَا إِلَيْهِم الْمَلَائِكَة وكلمهم الْمَوْتَى وحشرنا عَلَيْهِم كل شَيْء قبلا﴾ قَالَ مُجَاهِد: الْقبل. جمع الْقَبِيل، وَمَعْنَاهُ: فوجا فوجا، وَقَالَ غَيره: قبلا
136
﴿وحشرنا عَلَيْهِم كل شَيْء قبلا مَا كَانُوا ليؤمنوا إِلَّا أَن يَشَاء الله وَلَكِن أَكْثَرهم يجهلون (١١١) وَكَذَلِكَ جعلنَا لكل نَبِي عدوا شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ يوحي بَعضهم إِلَى بعض زخرف القَوْل غرُورًا وَلَو شَاءَ رَبك مَا فَعَلُوهُ فذرهم وَمَا يفترون (١١٢) ولتصغى إِلَيْهِ﴾ أَي: مُقَابلَة، وَيقْرَأ: " قبلا " بِكَسْر الْقَاف وَفتح الْبَاء أَي: عيَانًا ﴿مَا كَانُوا ليؤمنوا إِلَّا أَن يَشَاء الله وَلَكِن أَكْثَرهم يجهلون﴾ وَفِي الْآيَة دَلِيل وَاضح على أهل الْقدر.
137
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَكَذَلِكَ جعلنَا لكل نَبِي عدوا﴾ أَي: أَعدَاء، والعدو: اسْم للْوَاحِد وَالْجمع ﴿شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ﴾ وَقَرَأَ الْأَعْمَش: " شياطين الْجِنّ وَالْإِنْس " والشيطان كل عَاتٍ متمرد، سَوَاء كَانَ من الْإِنْس أَو من الْجِنّ، وروى أَن النَّبِي قَالَ لأبي ذَر: " تعوذ بِاللَّه من شياطين الْإِنْس. قَالَ أَبُو ذَر: قلت: وَمن الْإِنْس شياطين؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام - نعم، وتلا هَذِه الْآيَة ".
وَحكى عَن مَالك بن دِينَار أَنه قَالَ: خوفي من شَيْطَان الْإِنْس أكبر من خوفي من شَيْطَان الْجِنّ؛ لِأَن الجني يذهب إِذا ذكرت الله، (والإنسي) يجرني إِلَى الْمعاصِي.
﴿يوحي بَعضهم إِلَى بعض﴾ أَي: يلقِي بَعضهم إِلَى بعض.
﴿زخرف القَوْل غرُورًا﴾ زخرف القَوْل: هُوَ قَول مزين لَا معنى تَحْتَهُ، والغرور: القَوْل الْبَاطِل ﴿وَلَو شَاءَ رَبك مَا فَعَلُوهُ﴾ أَي: مَا أَلْقَت الشَّيَاطِين الوسوسة فِي الْقُلُوب. ﴿فذرهم وَمَا يفترون﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَة الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة﴾ وَهَذَا يرجع إِلَى مَا سبق من قَوْله: ﴿زينا لكل أمة عَمَلهم﴾ ﴿لتصغى إِلَيْهِ﴾ وَالْهَاء كِنَايَة عَن زخرف القَوْل؛ يَعْنِي: لتميل إِلَيْهِ قُلُوب الَّذين لَا يُؤمنُونَ الْآخِرَة، وَقيل: اللَّام فِيهِ لَام الْعَاقِبَة، كَمَا بَينا.
137
﴿أَفْئِدَة الَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة وليرضوه وليقترفوا مَا هم مقترفون (١١٣) أفغير الله أَبْتَغِي حكما وَهُوَ الَّذِي أنزل إِلَيْكُم الْكتاب مفصلا وَالَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب يعلمُونَ أَنه منزل من رَبك بِالْحَقِّ فَلَا تكونن من الممترين (١١٤) وتمت كلمة رَبك صدقا وعدلا لَا مبدل لكلماته وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم (١١٥) وَإِن تُطِع أَكثر من فِي الأَرْض يضلوك عَن﴾
﴿وليرضوه وليقترفوا مَا هم مقترفون﴾ قَالَ الزّجاج: أَي: ليعلموا من الذُّنُوب مَا كَانُوا عاملين.
138
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿أفغير الله أَبْتَغِي حكما﴾ لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ للنَّبِي أجل بَيْننَا وَبَيْنك حكما؛ وأجابهم بقوله: أفغير الله ابْتغِي حكما؟ !.
﴿وَهُوَ الَّذِي أنزل إِلَيْكُم الْكتاب مفصلا﴾ يَعْنِي: خمْسا خمْسا، وَعشرا عشرا، وَهَذَا مثل قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَقَالُوا لَوْلَا نزل عَلَيْهِ الْقُرْآن جملَة وَاحِدَة كَذَلِك لنثبت بِهِ فُؤَادك ورتلناه ترتيلا﴾ أَي: فصلناه؛ لنثبت بِهِ فُؤَادك.
﴿وَالَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب﴾ يَعْنِي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى ﴿يعلمُونَ أَنه منزل من رَبك بِالْحَقِّ﴾ يَعْنِي: الْقُرْآن ﴿فَلَا تكونن من الممترين﴾
﴿وتمت كلمة رَبك﴾ يَعْنِي بِالْكَلِمَةِ: أمره وَنَهْيه، ووعده ووعيده، وَالْأَحْكَام والآيات. ﴿صدقا وعدلا﴾ صدقا فِي الْوَعْد والوعيد، وعدلا فِي الْأَمر وَالنَّهْي.
قَالَ قَتَادَة: صدقا فِيمَا وعد، وعدلا فِيمَا حكم ﴿لَا مبدل لكلماته وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِن تُطِع أَكثر من فِي الأَرْض يضلوك عَن سَبِيل الله﴾ وَذَلِكَ أَن أَكثر أهل الأَرْض كَانُوا فِي الضَّلَالَة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: إِن تطعهم فِيمَا يجادلون من تَحْلِيل الْميتَة وأكلها ﴿يضلوك عَن سَبِيل الله﴾ على مَا سَيَأْتِي.
﴿إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن هم إِلَّا يرخصون﴾ أَي: يكذبُون.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِن رَبك هُوَ أعلم من يضل عَن سَبيله﴾ قيل: هَذَا فِي عَمْرو
138
﴿سَبِيل الله إِن يتبعُون إِلَّا الظَّن وَإِن هم إِلَّا يخرصون (١١٦) إِن رَبك هُوَ أعلم من يضل عَن سَبيله وَهُوَ أعلم بالمهتدين (١١٧) فَكُلُوا مِمَّا ذكر اسْم الله عَلَيْهِ إِن كُنْتُم بآياته مُؤمنين (١١٨) وَمَا لكم أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذكر اسْم الله عَلَيْهِ وَقد فصل لكم مَا حرم عَلَيْكُم إِلَّا مَا اضطررتم إِلَيْهِ وَإِن كثيرا ليضلون بأهوائهم بِغَيْر علم إِن رَبك هُوَ أعلم بالمعتدين﴾ ابْن لحي، وَهُوَ أول من غير دين إِبْرَاهِيم ﴿وَهُوَ أعلم بالمهتدين﴾.
139
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فَكُلُوا مِمَّا ذكر اسْم الله عَلَيْهِ إِن كُنْتُم بآياته مُؤمنين﴾ أَي: كلوا مَا ذبح على اسْم الله
﴿وَمَا لكم أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذكر اسْم الله عَلَيْهِ﴾ وَذَلِكَ أَن الْمُشْركين كَانُوا يجادلون الْمُسلمين، وَيَقُولُونَ: إِنَّكُم تَأْكُلُونَ مِمَّا تقتلون، وَلَا تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتله الله، وَكَانُوا يَدعُونَهُمْ إِلَى أكل الْميتَة واستحلالها؛ فَنزلت هَذِه الْآيَات ".
﴿وَقد فصل لكم مَا حرم عَلَيْكُم﴾ هُوَ تَفْصِيل مَا عد من الْمُحرمَات: من الْميتَة، وَالدَّم، وَلحم الْخِنْزِير، وَنَحْوه فِي الْقُرْآن، وَقَرَأَ عَطِيَّة: " وَقد فصل لكم " مخففا؛ أَي: ظهر لكم، وَهُوَ مثل مَا يقْرَأ فِي قَوْله: ﴿أحكمت آيَاته ثمَّ فصلت﴾ مخففا ﴿وَقد فصل لكم مَا حرم عَلَيْكُم إِلَّا مَا اضطررتم إِلَيْهِ وَإِن كثيرا ليضلون بأهوائهم بِغَيْر علم إِن رَبك هُوَ أعلم بالمعتدين﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وذروا ظَاهر الْإِثْم وباطنه﴾ قيل: ظَاهر الْإِثْم: هُوَ الزِّنَا علنا، وباطنه هُوَ الزِّنَا سرا، وَكَانَ أَشْرَاف الْعَرَب يتكرمون من الزِّنَا عَلَانيَة ويزنون سرا، (فالآية) فِي النَّهْي عَنْهُمَا جَمِيعًا، قَالَ قَتَادَة: أَرَادَ بِهِ: النَّهْي عَن كل الْمعاصِي سرا وجهرا، وَفِي الْآيَة سوى هَذَا أَقْوَال ثَلَاثَة:
أَحدهَا: أَن ظَاهر الْإِثْم هُوَ: نِكَاح الْمَحَارِم، وباطنه: الزِّنَا.
وَالثَّانِي: أَن ظَاهر الْإِثْم: كشف الْعَوْرَة، وباطنه: الزِّنَا.
وَالثَّالِث: أَن ظَاهر الْإِثْم: هُوَ الَّذِي تقترفه الْجَوَارِح، وباطنه الَّذِي يعْقد الْقلب
139
( ﴿١١٩) وذروا ظَاهر الْإِثْم وباطنه إِن الَّذين يَكْسِبُونَ الْإِثْم سيجزون بِمَا كَانُوا يقترفون (١٢٠) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ وَإنَّهُ لفسق وَإِن الشَّيَاطِين ليوحون إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ليجادلوكم وَإِن أطعتموهم إِنَّكُم لمشركون (١٢١) أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه﴾ عَلَيْهِ، كالمصر على الذَّنب القاصد لَهُ.
﴿إِن الَّذين يَكْسِبُونَ الْإِثْم سيجزون بِمَا كَانُوا يقترفون﴾ أَي: جَزَاء مَا كَانُوا يقترفون، والإقتراف: اكْتِسَاب الذَّنب.
140
قَوْله ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مَا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ﴾ قَالَ ابْن عَبَّاس: الْآيَة فِي الميتات، وَمَا فِي مَعْنَاهَا من المنخنقة وَغَيرهَا، وَقَالَ عَطاء: الْآيَة فِي الذَّبَائِح الَّتِي كَانُوا يذبحونها على اسْم الْأَصْنَام لَا على اسْم الله - تَعَالَى -.
وَفِيه قَول ثَالِث: أَن الْآيَة: فِي مَتْرُوك التَّسْمِيَة كَمَا يَقْتَضِيهِ الظَّاهِر، ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي مَتْرُوك التَّسْمِيَة، قَالَ الشّعبِيّ، وَابْن سِيرِين: لَا تحل، سَوَاء ترك التَّسْمِيَة عَامِدًا أَو نَاسِيا، وَقَالَ عَطاء، وَسَعِيد بن جُبَير: إِن ترك التَّسْمِيَة عَامِدًا لَا تحل، وَإِن تَركهَا نَاسِيا تحل، وَالْأول قَول مَالك، وَالصَّحِيح أَن الْآيَة فِي الميتات؛ لِأَنَّهُ قَالَ: ﴿وَإنَّهُ لفسق﴾ وَإِنَّمَا يفسق أكل الْميتَة.
وَقَالَ: ﴿وَإِن الشَّيَاطِين ليوحون إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ ليجادلوكم﴾ ومجادلتهم كَانَت فِي أكل الْميتَة؛ فَإِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّكُم تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتَلْتُمُوهُ، وَلَا تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتله الله - تَعَالَى فَنزلت الْآيَة.
﴿وَإِن أطعتموهم إِنَّكُم لمشركون﴾ يَعْنِي: باستحلال الْميتَة، قَالَ الزّجاج: فِي هَذَا دَلِيل على أَن استحلال الْحَرَام، وَتَحْرِيم الْحَلَال يُوجب الْكفْر، وَفِي الْآثَار: " أَن ابْن عَبَّاس سُئِلَ، فَقيل لَهُ: إِن الْمُخْتَار بن أبي عبيد يزْعم أَنه يُوحى إِلَيْهِ، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: صدق؛ فَإِن الله - تَعَالَى - يَقُول: ﴿وَإِن الشَّيَاطِين ليوحون إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ﴾.
وَفِي الْخَبَر أَن النَّبِي قَالَ: " يخرج من ثَقِيف رجلَانِ: كَذَّاب، ومبير مهلك "
140
﴿وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس كمن مثله فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا كَذَلِك زين للْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يعْملُونَ (١٢٢) كَذَلِك جعلنَا فِي كل قَرْيَة أكَابِر مجرميها ليمكروا﴾ فالكذاب: هُوَ الْمُخْتَار، والمبير: هُوَ الْحجَّاج.
141
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿أَو من كَانَ مَيتا فأحييناه﴾ قَالَ مُجَاهِد: مَعْنَاهُ: من كَانَ ضَالًّا فهديناه ﴿وَجَعَلنَا لَهُ نورا يمشي بِهِ فِي النَّاس﴾ أَي: نور الْإِسْلَام، يعِيش بِهِ بَين الْمُسلمين ﴿كمن مثله فِي الظُّلُمَات لَيْسَ بِخَارِج مِنْهَا﴾ الْمثل صلَة هَاهُنَا، وَتَقْدِيره: كمن هُوَ فِي الظُّلُمَات، أَي: فِي ظلمات الشّرك لَا يخرج مِنْهَا أبدا، قَالَ الضَّحَّاك: هَذَا فِي عمر وَأبي جهل، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: فِي عمار بن يَاسر وَأبي جهل، وَقيل: هُوَ فِي حَمْزَة وَأبي جهل.
وَفِي الْآيَة قَول آخر: أَن مَعْنَاهُ: أَو من كَانَ مَيتا بِالْجَهْلِ؛ فأحييناه بِالْعلمِ، وكل جَاهِل ميت، وكل عَالم حَيّ، قَالَ الشَّاعِر:
(وَفِي الْجَهْل قبل الْمَوْت موت لأَهله وأجسامهم قبل الْقُبُور قُبُور)
(وَإِن امْرأ لم يحي بِالْعلمِ ميت وَلَيْسَ لَهُ قبل النشور نشور)
﴿كَذَلِك زين للْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يعْملُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَكَذَلِكَ جعلنَا فِي كل قَرْيَة أكَابِر مجرميها﴾ تَقْدِيره: جعلنَا فِي كل قَرْيَة مجرميها أكَابِر، وَمَعْنَاهُ: إِنَّا كَمَا جعلنَا مجرمي مَكَّة أكَابِر، فَكَذَلِك جعلنَا فِي كل قَرْيَة مجرميها أكَابِر، وَهَذِه سنة الله فِي كل قَرْيَة، وَمن سنَنه: أَنه جعل ضعفاءهم أَتبَاع الْأَنْبِيَاء، كَمَا قَالَ فِي قصَّة نوح: ﴿واتبعك الأرذلون﴾ وروى: " أَن هِرقل سَأَلَ أَبَا سُفْيَان بن حَرْب - حِين قدم عَلَيْهِ - عَن حَال النَّبِي، فَكَانَ فِيمَا سَأَلَهُ عَنهُ أَنه قَالَ: من أَتْبَاعه ضُعَفَاؤُهُمْ أم الْعلية؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: بل ضُعَفَاؤُهُمْ؛ فَقَالَ هِرقل: هم أَتبَاع الْأَنْبِيَاء " وَفِي الْخَبَر قصَّة، وَهُوَ فِي الصَّحِيح.
141
﴿فِيهَا وَمَا يمكرون إِلَّا بِأَنْفسِهِم وَمَا يَشْعُرُونَ (١٢٣) وَإِذ جَاءَتْهُم آيَة قَالُوا لن نؤمن حَتَّى نؤتى مثل مَا أُوتِيَ رسل الله الله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسَالَته سيصيب الَّذين أجرموا صغَار عِنْد الله وَعَذَاب شَدِيد بِمَا كَانُوا يمكرون (١٢٤) فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره﴾
﴿ليمكروا فِيهَا﴾ وَكَانَ من مكر أهل مَكَّة أَنهم جعلُوا على كل طَرِيق من طرق مَكَّة أَرْبَعَة نفر؛ حَتَّى يَقُولُوا لكل من يقدم: [إياك] وَهَذَا الرجل فَإِنَّهُ كَاهِن سَاحر كَذَّاب ﴿وَمَا يمكرون إِلَّا بِأَنْفسِهِم﴾ أَي: وباله يرجع إِلَيْهِم ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾.
142
قَوْله تَعَالَى: ﴿وَإِذا جَاءَتْهُم آيَة قَالُوا لن نؤمن حَتَّى نؤتى مثل مَا أُوتِيَ رسل الله﴾ أَي: لَا نؤمن حَتَّى يُوحى إِلَيْنَا كَمَا يُوحى إِلَيْهِ، وَينزل علينا جِبْرِيل كَمَا ينزل عَلَيْهِ، حَتَّى روى أَن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة قَالَ: إِن كَانَ الله يُرِيد أَن يبْعَث نَبيا فَأَنا أولى بِالنُّبُوَّةِ؛ لِأَنِّي أَكثر مَالا، وأقدم سنا، وَكَذَا كَانَ يَقُول أكابرهم ورؤساؤهم؛ فَنزلت الْآيَة.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿الله أعلم حَيْثُ يَجْعَل رسَالَته﴾ يَعْنِي: الله أعلم من أهل النُّبُوَّة، وَأَن مُحَمَّدًا أهل الرسَالَة، ولستم بِأَهْل الرسَالَة.
﴿سيصيب الَّذين أجرموا صغَار عِنْد الله﴾ فِيهِ مَعْنيانِ:
أَحدهمَا: قَالَ الْفراء: مَعْنَاهُ: صغَار من عِنْد الله، و " من " مَحْذُوف.
قَالَ البصريون: " من " لَا تحذف وَمَعْنَاهُ: صغَار ثَابت دَائِم عِنْد الله ﴿وَعَذَاب شَدِيد بِمَا كَانُوا يمكرون﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فَمن يرد الله أَن يهديه يشْرَح صَدره لِلْإِسْلَامِ﴾.
أَي: يفتح قلبه حَتَّى يدْخل الْإِسْلَام ﴿وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا﴾.
وَيقْرَأ: حرجا - بِفَتْح الرَّاء - يَعْنِي: ذَا حرج، وَأما بِالْكَسْرِ فللمبالغة فِي الضّيق، وَعَن عمر أَنه قَالَ: سَأَلت أَعْرَابِيًا: مَا الحرجة عنْدكُمْ؟ فَقَالَ: شَجَرَة ملتفة لَا تصل إِلَيْهَا راعية وَلَا سَائِمَة، فعلى هَذَا معنى الْآيَة.
142
﴿لِلْإِسْلَامِ وَمن يرد أَن يضله يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء كَذَلِك يَجْعَل الله الرجس على الَّذين لَا يُؤمنُونَ (١٢٥) وَهَذَا صِرَاط رَبك مُسْتَقِيمًا قد فصلنا﴾
﴿يَجْعَل صَدره ضيقا حرجا﴾ بِحَيْثُ لَا يصل إِلَيْهِ الْإِيمَان، وَلَا يدْخلهُ الْإِسْلَام ﴿كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء﴾ يقْرَأ على وُجُوه: " يصعد " بتشديدين، وَمَعْنَاهُ يتَصَعَّد، وَكَذَا يقْرَأ فِي الشواذ، وَقُرِئَ: " يصاعد " بتَشْديد الصَّاد بِمَعْنى يتصاعد، وَقُرِئَ: " يصعد مخففا من الصعُود، وَمعنى الْكل وَاحِد.
وَفِي مَعْنَاهُ قَولَانِ: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ: كَأَنَّمَا يُكَلف الصعُود فَلَا يستطيعه، وأصل الصعُود: الْمَشَقَّة، وَهُوَ قَوْله - تَعَالَى - ﴿سَأُرْهِقُهُ صعُودًا﴾ أَي: عقبَة شاقة، وَمِنْه قَول عمر - رَضِي الله عَنهُ -: مَا تَصعَّدَنِي شَيْء كَمَا تَصَعَّدَتْنِي خطْبَة النِّكَاح، أَي: مَا شقّ عَليّ شَيْء كَمَا (شقَّتْ) عَليّ خطْبَة النِّكَاح.
وَالْقَوْل الثَّانِي: معنى قَوْله: ﴿كَأَنَّمَا يصعد فِي السَّمَاء﴾ نبوة من الْحِكْمَة، وفرارا من الْقُرْآن.
(كَذَلِك يَجْعَل الله الرجس على الَّذين لَا يُؤمنُونَ) الرجس: هُوَ النتن، وَالرجز: الْعَذَاب، وَفِي الْخَبَر: " أَن النَّبِي كَانَ إِذا دخل الْخَلَاء يَقُول: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الرجس النَّجس الْخَبيث المخبث من الشَّيْطَان الرَّجِيم " وَقيل: اللَّعْنَة فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَاب فِي الْآخِرَة.
143
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَهَذَا صِرَاط رَبك مُسْتَقِيمًا﴾ يَعْنِي: الْإِسْلَام {قد فصلنا الْآيَات
143
﴿الْآيَات لقوم يذكرُونَ (١٢٦) لَهُم دَار السَّلَام عِنْد رَبهم وَهُوَ وليهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ (١٢٧) وَيَوْم يحشرهم جَمِيعًا مَا معشر الْجِنّ قد استكثرتم من الْإِنْس وَقَالَ أولياؤهم من الْإِنْس رَبنَا استمتع بَعْضنَا بِبَعْض وبلغنا أجلنا الَّذِي أجلت لنا قَالَ النَّار مثواكم خَالِدين﴾ لقوم يذكرُونَ).
144
﴿لَهُم دَار السَّلَام عِنْد رَبهم﴾ السَّلَام: هُوَ الله - تَعَالَى - وَدَار السَّلَام الْجنَّة، قَالَ الزّجاج: أَرَادَ بِالسَّلَامِ: السَّلامَة، أَي: لَهُم دَار السَّلامَة من الْآفَات.
﴿وَهُوَ وليهم بِمَا كَانُوا يعْملُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: (وَيَوْم نحشرهم جَمِيعًا) أما حشر الْجِنّ وَالْإِنْس: حق يجب الْإِيمَان بِهِ ﴿يَا معشر الْجِنّ قد استكثرتم من الْإِنْس﴾ يَعْنِي: استكثرتم من الْإِنْس بالإغواء والإضلال ﴿وَقَالَ أولياؤهم من الْإِنْس﴾ يَعْنِي: الْكفَّار وأولياء الشَّيَاطِين يَقُولُونَ يَوْم الْقِيَامَة: ﴿رَبنَا استمتع بَعْضنَا بِبَعْض﴾ يَعْنِي: استمتع الْجِنّ بالإنس، وَالْإِنْس بالجن، قيل: استمتاع الْجِنّ بالإنس: تزيينهم لَهُم، وتسهيلهم طَرِيق الغواية عَلَيْهِم.
وَأما [استمتاع] الْإِنْس بالجن: طاعتهم، وَالْجُمْلَة أَن استمتاع الْجِنّ: بِالْأَمر واستمتاع الْإِنْس: بِالْقبُولِ، وَقيل: مَعْنَاهُ: أَن الرجل من الْعَرَب كَانَ إِذا نزل بواد يَقُول: أعوذ بِسَيِّد هَذَا الْوَادي من سُفَهَاء قومه، ثمَّ يبيت آمنا من تخبيل الْجِنّ، وَهَذَا استمتاع الْإِنْس بالجن، وَأما استمتاع الْجِنّ بالإنس: أَن ذَلِك الجني الَّذِي تعوذ بِهِ الْإِنْسِي يَقُول لِقَوْمِهِ: إِن الْإِنْس يتعوذون بِنَا؛ (فَنحْن سَادَات الْجِنّ وَالْإِنْس)، وَهَذَا مُبين فِي قَوْله - تَعَالَى - فِي سُورَة الْجِنّ ﴿وَأَنه كَانَ رجال من الْإِنْس يعوذون بِرِجَال من الْجِنّ فزادوهم رهقا﴾ أَي: نخوة وتكبرا.
﴿وبلغنا أجلنا الَّذِي أجلت لنا﴾ يَعْنِي: أجل الْقِيَامَة.
﴿قَالَ النَّار مثواكم﴾ يَعْنِي: يَقُول الله: النَّار مثواكم {خَالِدين فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ
144
﴿فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ الله إِن رَبك حَكِيم عليم (١٢٨) وَكَذَلِكَ نولي بعض الظَّالِمين بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (١٢٩) يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس ألم يأتكم رسل مِنْكُم يقصون عَلَيْكُم﴾ الله) فَإِن قَالَ قَائِل: أَلَيْسَ أَن الْكَافرين خَالدُونَ فِي النَّار بأجمعهم، فَمَا هَذَا الِاسْتِثْنَاء؟
الْجَواب: قَالَ الْفراء: هُوَ مثل قَوْله: ﴿خَالِدين فِيهَا مَا دَامَت السَّمَوَات وَالْأَرْض إِلَّا مَا شَاءَ رَبك﴾ يَعْنِي: من الزِّيَادَة على مُدَّة دوَام السَّمَوَات وَالْأَرْض؛ فَهَذَا هُوَ المُرَاد بِهَذِهِ الْآيَة أَيْضا، وَقيل: الِاسْتِثْنَاء فِي الْعَذَاب يَعْنِي: خَالِدين فِي نوع من الْعَذَاب إِلَّا مَا شَاءَ الله من سَائِر الْعَذَاب.
وَقيل: هُوَ اسْتثِْنَاء مُدَّة الْبَعْث والحساب، لَا يُعَذبُونَ فِي وَقت الْبَعْث والحساب ﴿إِن رَبك حَكِيم عليم﴾.
145
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَكَذَلِكَ نولي بعض الظَّالِمين بَعْضًا﴾ يَعْنِي: يَجْعَل بَعضهم على إِثْر بعض فِي الْقِيَامَة إِلَى النَّار. وَقيل: هَذَا فِي الدُّنْيَا، وَمَعْنَاهُ: نَأْخُذ من الظَّالِم بالظالم، وَذَلِكَ بتسليط بَعضهم على الْبَعْض ﴿بِمَا كَانُوا [يَكْسِبُونَ] ﴾ أَي: جَزَاء بِمَا كَانُوا يعْملُونَ.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس ألم يأتكم رسل مِنْكُم﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: وَمن الْجِنّ رسل، كَمَا يكون من الْإِنْس؟
الْجَواب: قَالَ الضَّحَّاك: بلَى من الثقلَيْن رسل، كَمَا نطق بِهِ الْكتاب. وَقَالَ مُجَاهِد: الرُّسُل من الْإِنْس، وَأما الْجِنّ فَمنهمْ النّذر، كَمَا قَالَ الله - تَعَالَى -: ﴿ولوا إِلَى قَومهمْ منذرين﴾ فعلى هَذَا لِلْآيَةِ مَعْنيانِ: أَحدهمَا أَن قَوْله: ﴿رسل مِنْكُم﴾ ينْصَرف إِلَى أحد الصِّنْفَيْنِ، وَهُوَ الْإِنْس، وَمثله قَوْله - تَعَالَى -: ﴿يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان﴾ وَالْمرَاد: أحد الْبَحْرين، المالح دون العذب.
145
﴿آياتي وينذرونكم لِقَاء يومكم هَذَا قَالُوا شَهِدنَا على أَنْفُسنَا وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا وشهدوا على أنفسهم أَنهم كَانُوا كَافِرين (١٣٠) ذَلِك أَن لم يكن رَبك مهلك الْقرى بظُلْم وَأَهْلهَا غافلون (١٣١) وَلكُل دَرَجَات مِمَّا عمِلُوا وَمَا رَبك بغافل عَمَّا يعْملُونَ (١٣٢) وَرَبك الْغَنِيّ ذُو الرَّحْمَة إِن يَشَأْ يذهبكم ويستخلف من بعدكم مَا يَشَاء كَمَا أنشأكم من ذُرِّيَّة قوم آخَرين (١٣٣) إِن مَا توعدون لآت وَمَا أَنْتُم بمعجزين (١٣٤) قل يَا﴾
وَالثَّانِي: أَن الرُّسُل من الصِّنْفَيْنِ، إِلَّا أَنه عبر بالرسل عَن النّذر من الْجِنّ بطرِيق الْمَعْنى؛ لِأَن النذير فِي معنى الرَّسُول.
﴿يقصون عَلَيْكُم آياتي وينذرونكم لِقَاء يومكم هَذَا قَالُوا شَهِدنَا على أَنْفُسنَا﴾ وَذَلِكَ حِين تنطق جوارحهم ﴿وغرتهم الْحَيَاة الدُّنْيَا﴾ هَذَا من قَول الله - تَعَالَى - اعْترض فِي - الْبَين - ﴿وشهدوا على أنفسهم أَنهم كَانُوا كَافِرين﴾.
146
قَوْله تَعَالَى: ﴿ذَلِك أَن لم يكن رَبك مهلك الْقرى بظُلْم وَأَهْلهَا غافلون﴾ يَعْنِي: ذَلِك من إرْسَال الرُّسُل وإنزال الْكتب؛ إِنَّمَا كَانَ لِأَن الله - تَعَالَى - لَا يهْلك قَرْيَة قبل بعث الرَّسُول إِلَيْهَا، وإنذارها بِالْوَحْي؛ وَذَلِكَ لِأَن الله - تَعَالَى - أجْرى سنته: أَن لَا يَأْخُذ أحدا الذَّنب إِلَّا بعد وجود الذَّنب، وَإِنَّمَا يكون مذنبا إِذا أَمر فَلم يأتمر، وَنهى فَلم ينْتَه، ودعي فَلم يجب.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلكُل دَرَجَات مِمَّا عمِلُوا﴾ أَي: دَرَجَات فِي الْجَزَاء مِمَّا عمِلُوا ﴿وَمَا رَبك بغافل﴾ - أَي: بساه - ﴿عَمَّا يعْملُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَرَبك الْغَنِيّ ذُو الرَّحْمَة إِن يَشَأْ يذهبكم ويستخلف من بعدكم مَا يَشَاء﴾ يَعْنِي: إِن يَشَأْ يهلككم، ويستخلف [من] بعدكم من يَشَاء ﴿كَمَا أنشأكم من ذُرِّيَّة قوم آخَرين﴾ بِأَن (أهلكهم) وأنشأكم من بعدهمْ
﴿إِن مَا توعدون لآت﴾ أَي: كل مَوْعُود كَائِن ﴿وَمَا أَنْتُم بمعجزين﴾ أَي: فائتين عَنهُ.
(قَوْله تَعَالَى) :﴿قل يَا قوم اعْمَلُوا على مكانتكم﴾ يَعْنِي: على تمكنكم،
146
﴿قوم اعْمَلُوا على مكانتكم إِنِّي عَامل فَسَوف تعلمُونَ من تكون لَهُ عَاقِبَة الدَّار إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ (١٣٥) وَجعلُوا لله مِمَّا ذَرأ من الْحَرْث والأنعام نَصِيبا فَقَالُوا هَذَا لله بزعمهم وَهَذَا لشركائنا فَمَا كَانَ لشركائهم فَلَا يصل إِلَى الله وَمَا كَانَ لله فَهُوَ يصل إِلَى شركائهم سَاءَ مَا يحكمون (١٣٦) وَكَذَلِكَ زين لكثير من الْمُشْركين قتل أَوْلَادهم﴾ وَقيل: على مَا أَنْتُم عَلَيْهِ، وَهَذَا أَمر تهديد، كَقَوْلِه: ﴿اعْمَلُوا مَا شِئْتُم﴾ فَكَذَلِك قَوْله ( ﴿اعْمَلُوا على مكانتكم إِنِّي عَامل﴾ فَسَوف تعلمُونَ من تكون لَهُ عَاقِبَة الدَّار) أَي: من يكون لَهُ الْأَمر فِي الْعَاقِبَة ﴿إِنَّه لَا يفلح الظَّالِمُونَ﴾.
147
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَجعلُوا لله مِمَّا ذَرأ من الْحَرْث والأنعام نَصِيبا﴾ وَكَانُوا يقسمون الْحَرْث، فيجعلون لله نَصِيبا، وللأصنام نَصِيبا، ويقسمون الْأَنْعَام، فيجعلون لله نَصِيبا، وللأصنام نَصِيبا، ثمَّ مَا جعلُوا لله، صرفوه للْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين، وَمَا جعلُوا للأصنام أنفقوه على الْأَصْنَام، وعَلى خدم الْأَصْنَام؛ فَهَذَا معنى قَوْله: ﴿فَقَالُوا هَذَا لله بزعمهم وَهَذَا لشركائنا﴾ فَأَما قَوْله: ﴿فَمَا كَانَ لشركائهم فَلَا يصل إِلَى الله وَمَا كَانَ لله فَهُوَ يصل إِلَى شركائهم﴾ معنى هَذَا: أَنهم كَانُوا إِذا قسموا الْحَرْث والأنعام كَمَا وَصفنَا، فَإِذا سقط مِمَّا جعلُوا لله من الْحَرْث شَيْء فِيمَا جَعَلُوهُ للأصنام تَرَكُوهُ، وَإِذا سقط شَيْء من نصيب الْأَصْنَام، فِيمَا جَعَلُوهُ لله ردُّوهُ إِلَى نصيب الْأَصْنَام، وَكَانَ إِذا هلك أَو انْتقصَ مِمَّا جعلُوا لله من الْأَنْعَام شَيْء؛ لم يبالوا بِهِ، وَكَانَ إِذا هلك أَو انْتقصَ من نصيب الْأَصْنَام، جبروه مِمَّا جَعَلُوهُ لله، وَقَالُوا: الله غَنِي، والصنم مُحْتَاج، وَكَانُوا إِذا أجدبوا وقحطوا؛ أكلُوا مِمَّا جَعَلُوهُ لله، وَلم يَأْكُلُوا من نصيب الْأَصْنَام.
وَقَوله: ﴿سَاءَ مَا يحكمون﴾ أَي: لم يَأْتهمْ فِيهِ وَحي، وَلَا يَقْتَضِيهِ عقل؛ فَإِن الْقيَاس يَقْتَضِي التَّسْوِيَة - على زعمهم - بَين الشَّرِيكَيْنِ، لَا مَا حكمُوا بِهِ.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَكَذَلِكَ زين لكثير من الْمُشْركين قتل أَوْلَادهم شركاؤهم﴾ يَعْنِي: كَمَا زين هَذَا لأولئك الْقَوْم، فقد زين لكثير من الْمُشْركين قتل أَوْلَادهم
147
﴿شركاؤكم ليردوهم وليلبسوا عَلَيْهِم دينهم وَلَو شَاءَ الله مَا فَعَلُوهُ فذرهم وَمَا يفترون (١٣٧) وَقَالُوا هَذِه أنعام وحرث حجر لَا يطْعمهَا إِلَّا من نشَاء بزعمهم وأنعام حرمت ظُهُورهَا وأنعام لَا يذكرُونَ اسْم الله عَلَيْهَا افتراء عَلَيْهِ سيجزيهم بِمَا كَانُوا يفترون (١٣٨) وَقَالُوا مَا فِي بطُون هَذِه الْأَنْعَام خَالِصَة لذكورنا ومحرم على أَزوَاجنَا وَإِن يكن﴾ شركاؤهم من وأد الْبَنَات على مَا سنبين ﴿ليردوهم﴾ ليهلكوهم. ﴿وليلبسوا عَلَيْهِم دينهم﴾ أَي: ليخلطوا عَلَيْهِم دينهم؛ إِذْ كَانُوا على بَقِيَّة من مِلَّة إِبْرَاهِيم فلبسوا عَلَيْهِم دينهم بِمَا لَيْسَ مِنْهُ ﴿وَلَو شَاءَ (الله﴾ مَا فَعَلُوهُ فذرهم وَمَا يفترون).
148
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَقَالُوا هَذِه أنعام وحرث حجر﴾ أَي: حرَام ﴿لَا (يطْعمهَا﴾ إِلَّا من نشَاء بزعمهم) ثمَّ بَين (تحريمهم) ؛ فَقَالَ ﴿لَا يطْعمهَا إِلَّا من نشَاء﴾ يَعْنِي: من خدم الْأَصْنَام، وَقيل: هُوَ تَحْرِيم الْبحيرَة والسائبة على الْإِنَاث، وَلَا يطْعمهَا إِلَّا الذُّكُور.
﴿وأنعام حرمت ظُهُورهَا﴾ هِيَ الحوامي الَّتِي ذكرنَا فِي الْمَائِدَة، كَانُوا يَقُولُونَ: حمت ظُهُورهَا ﴿وأنعام لَا يذكرُونَ اسْم الله عَلَيْهَا﴾ قيل: ذَبَائِح كَانُوا يذبحونها باسم الْأَصْنَام لَا باسم الله - تَعَالَى - وَقيل مَعْنَاهُ: أَنهم لَا يركبون عَلَيْهَا لفعل الْخَيْر. قَالَ أَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة: مَعْنَاهُ: أَنهم لَا يحجون عَلَيْهَا وَلَا يركبونها لفعل الْحَج، إِلَّا أَنه جرت الْعَادة بِذكر اسْم الله على فعل الْخَيْر، فَعبر بِذكر اسْم الله عَن فعل الْخَيْر؛ فَقَالَ: ﴿وأنعام لَا يذكرُونَ اسْم الله عَلَيْهَا افتراء عَلَيْهِ﴾ يَعْنِي: افتراء على الله ﴿سيجزيهم بِمَا كَانُوا يفترون﴾ أَي: جَزَاء مَا كَانُوا (يكذبُون).
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَقَالُوا مَا فِي بطُون هَذِه الْأَنْعَام خَالِصَة لذكورنا﴾ يَعْنِي: الأجنة حَلَال لذكورنا، وَقَرَأَ الْأَعْمَش: " خَالص لذكورنا " قَالَ الْكسَائي: خَالص وخالصة وَاحِد، كَمَا يُقَال: وعظ موعظة، وَله نَظَائِر ﴿ومحرم على أَزوَاجنَا﴾ أَي: على نسائنا أَرَادوا بِهِ مَا سبق ذكره من أَوْلَاد الْبحيرَة والوصيلة.
﴿وَإِن يكن ميتَة﴾ يَعْنِي: وَإِن يكن مَا فِي الْبَطن ميتَة ﴿فهم فِيهِ شُرَكَاء﴾ يَعْنِي:
148
﴿ميتَة فهم فِيهِ شُرَكَاء سيجزيهم وَصفهم إِنَّه حَكِيم عليم (١٣٩) قد خسر الَّذين قتلوا أَوْلَادهم سفها بِغَيْر علم وحرموا مَا رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وَمَا كَانُوا مهتدين (١٤٠) وَهُوَ الَّذِي أنشأ جنَّات معروشات وَغير معروشات وَالنَّخْل وَالزَّرْع مُخْتَلفا أكله وَالزَّيْتُون وَالرُّمَّان متشابها وَغير متشابه كلوا من ثمره إِذا أثمر وَآتوا حَقه﴾ الذُّكُور وَالْإِنَاث، وَيقْرَأ " وَإِن تكن ميتَة " ﴿فهم فِيهِ شُرَكَاء﴾ ﴿سيجزيهم وَصفهم﴾. أَي: جَزَاء كذبهمْ ﴿إِنَّه حَكِيم عليم﴾.
149
﴿قد خسر الَّذين قتلوا أَولا دهم﴾ أَي: هلك وغبن الَّذين قتلوا أَوْلَادهم وَذَلِكَ من وأد الْبَنَات، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يدفنون الْبَنَات حَيَّة، حَتَّى كَانَ الرجل مِنْهُم يقتل وَلَده، ويربي كَلْبه. وَكَانَ الْبَعْض يفعل ذَلِك دون الْبَعْض، وَقيل: كَانَ ذَلِك فِي قبيلتين: ربيعَة، وَمُضر، كَانَا يدفنان الْبَنَات وَهن حيات، فَأَما بَنو كنَانَة وسائرهم مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك.
﴿سفها بِغَيْر علم﴾ أَي: جهلا لَا عَن بَصِيرَة ﴿وحرموا مَا رزقهم الله﴾ (وَهُوَ) مَا ذكرنَا من تَحْرِيم أَوْلَاد الْبحيرَة، والوصيلة وَنَحْو ذَلِك (من) الحوامى، حرموها تدينا ﴿افتراء على الله﴾ لأَنهم كَانُوا يَدعُونَهُ دينا من الله - تَعَالَى - وَقد كذبُوا فِي ذَلِك عَلَيْهِ ﴿قد ضلوا وَمَا كَانُوا مهتدين﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَهُوَ الَّذِي أنشأ جنَّات﴾ الجنات: الْبَسَاتِين ﴿معروشات﴾ أَي: ذَات عروش، وَالْعرش: السّقف، والكروم ذَات سقوف ﴿وَغير معروشات﴾ وَمِنْهَا مَا لَا سقف لَهُ، وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَشْجَار ﴿وَالنَّخْل وَالزَّرْع مُخْتَلفا أكله﴾ أَي: ثمره.
﴿وَالزَّيْتُون وَالرُّمَّان متشابها وَغير متشابه﴾ أَي: متشابها فِي [المنظر]، يشبه أَحدهمَا الآخر فِي الْوَرق، وَغير متشابه فِي الثَّمر والطعم، وَقد بَينا هَذَا، وَقيل: هُوَ
149
﴿يَوْم حَصَاده وَلَا تسرفوا إِنَّه لَا يحب المسرفين (١٤١) وَمن الْأَنْعَام حمولة وفرشا كلوا﴾ رَاجع إِلَى مَا سبق ذكره من الْكَرم، وَالنَّخْل، وَالْأَشْجَار، فَإِن بَعْضهَا يشبه بَعْضًا فِي الْوَرق وَالثَّمَر والطعم، وَمِنْهَا مَا يُخَالف بعضه بَعْضًا.
﴿كلوا من ثمره إِذا أثمر﴾ هَذَا أَمر إِبَاحَة ﴿وَآتوا حَقه يَوْم حَصَاده﴾ والقطاف، وَيقْرَأ: " حَصَاده " بِكَسْر الْحَاء، قيل: الْحَصاد والحصاد وَاحِد، كالجزاء وَالْجَزَاء، والقطاف والقطاف، ثمَّ اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا الْحق مَا هُوَ؟ قَالَ ابْن عمر، وَأَبُو الدَّرْدَاء - وَهُوَ قَول عَطاء وَمُجاهد -: إِن هَذَا الْحق كَانَ حَقًا فِي المَال سوى الْعشْر الْمَفْرُوض، وَأمر بإتيانه.
قَالَ ابْن عَبَّاس، وَأنس - وَهُوَ قَول الْحسن فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ -: إِنَّه أَرَادَ بِهِ إيتَاء الْعشْر الْمَفْرُوض، وَعَن الْحسن - فِي رِوَايَة أُخْرَى وَهُوَ قَول النَّخعِيّ، وَسَعِيد بن جُبَير -: أَن هَذَا حق كَانَ يُؤمر بإتيانه فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام، ثمَّ صَار مَنْسُوخا بِإِيجَاب الْعشْر، وَالْقَوْل الأول أولى؛ لِأَن الْآيَة مَكِّيَّة، وَالزَّكَاة فرضت من بعد بِالْمَدِينَةِ، فَحَمله على حق سوى الزَّكَاة أولى.
﴿وَلَا تسرفوا﴾ أَي: لَا تنفقوا الْأَمْوَال فِي مَعْصِيّة الله، وكل من أنْفق فِي مَعْصِيّة فَهُوَ مُسْرِف، وَقيل: هُوَ إِعْطَاء الْكل، وَذَلِكَ أَن يعمد الرجل إِلَى جَمِيع زرعه ونخله فيعطي الْكل، وَيتْرك عِيَاله عَالَة. وروى: " أَن ثَابت بن قيس بن شماس صرم خَمْسمِائَة نَخْلَة كَانَت لَهُ، فَأعْطى الْكل؛ فَنزلت الْآيَة ﴿وَلَا تسرفوا إِنَّه لَا يحب المسرفين﴾.
150
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَمن الْأَنْعَام حمولة وفرشا﴾ أَي: وَأَنْشَأَ من الْأَنْعَام حمولة وفرشا، قَالَ مُجَاهِد: الحمولة: الْإِبِل الْكِبَار الَّتِي يحمل عَلَيْهَا، والفرش: الصغار، وَقَالَ الضَّحَّاك: الحمولة: الْإِبِل وَالْبَقر، والفرش: [الْغنم]، قَالَ الشَّاعِر:
150
﴿مِمَّا رزقكم الله وَلَا تبعوا خطوَات الشَّيْطَان إِنَّه لكم عَدو مُبين (١٤٢) ثَمَانِيَة أَزوَاج من الضَّأْن اثْنَيْنِ وَمن الْمعز اثْنَيْنِ قل آلذكرين حرم أم الْأُنْثَيَيْنِ أما اشْتَمَلت عَلَيْهِ أَرْحَام الْأُنْثَيَيْنِ نبئوني بِعلم إِن كُنْتُم صَادِقين (١٤٣) وَمن الْإِبِل اثْنَيْنِ وَمن الْبَقر اثْنَيْنِ قل آلذكرين حرم أم الْأُنْثَيَيْنِ أما اشْتَمَلت عَلَيْهِ أَرْحَام الْأُنْثَيَيْنِ أم كُنْتُم شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُم الله﴾
(أورثني حمولة وفرشا أَمسهَا فِي كل يَوْم مسا)
أَي: أمسحها فِي كل يَوْم ﴿كلوا مِمَّا رزقكم الله وَلَا تتبعوا خطوَات الشَّيْطَان﴾ أَي: آثَار الشَّيْطَان، وخطاياه، وَهُوَ تخطية من الْحَلَال إِلَى الْحَرَام ( ﴿إِنَّه لكم عَدو مُبين﴾
151
ثَمَانِيَة أَزوَاج) إِنَّمَا نصب ثَمَانِيَة؛ لِأَن قَوْله ﴿ثَمَانِيَة﴾ بدل عَن قَوْله: ﴿حمولة وفرشا﴾، وَقَوله: ( ﴿ثَمَانِيَة أَزوَاج من الضَّأْن اثْنَيْنِ وَمن الْمعز اثْنَيْنِ﴾ وَمن الْإِبِل اثْنَيْنِ وَمن الْبَقر اثْنَيْنِ).
هَذَا فِي الْحَقِيقَة أَرْبَعَة أَزوَاج، كل زوج اثْنَان، لِأَن الْعَرَب تسمي الْوَاحِد زوجا إِذا كَانَ لَا يَنْفَكّ عَن غَيره، قَالَ الله - تَعَالَى -: ﴿وَمن كل شَيْء خلقنَا زَوْجَيْنِ﴾.
﴿قل آلذكرين حرم أم الْأُنْثَيَيْنِ أما اشْتَمَلت عَلَيْهِ أَرْحَام الْأُنْثَيَيْنِ﴾ هَذَا فِي تحريمهم الوصيلة والبحيرة وَنَحْوهَا، وَالْآيَة فِي الِاحْتِجَاج عَلَيْهِم، وَمعنى هَذَا: أَن الَّذِي تدعون على الله من تَحْرِيمهَا إِن كَانَ بِسَبَب الذُّكُورَة، فَيَنْبَغِي أَن تحرم كل الذُّكُور، وَإِن كَانَ التَّحْرِيم بِسَبَب الْأُنُوثَة؛ فَيَنْبَغِي أَن تحرم كل الْإِنَاث، وَإِن كَانَ باشتمال الرَّحِم عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَن يحرم كل مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ الرَّحِم، فَأَما تَخْصِيص التَّحْرِيم بِالْوَلَدِ السَّابِع وَالْخَامِس فَمن أَيْن؟ ! ﴿نبؤني بِعلم﴾ أخبروني بِعلم (إِن كَانَ لكم بِهِ علم) ﴿إِن كُنْتُم صَادِقين﴾.
﴿وَمن الْإِبِل اثْنَيْنِ وَمن الْبَقر اثْنَيْنِ قل آلذكرين حرم أم الْأُنْثَيَيْنِ أما اشْتَمَلت عَلَيْهِ أَرْحَام الْأُنْثَيَيْنِ﴾ هَذَا فِي تحريمهم أَوْلَاد الْبحيرَة من الْبَطن الْخَامِس، كَمَا سبق، وَوجه الِاحْتِجَاج عَلَيْهِم مَا بَينا.
151
﴿بِهَذَا فَمن أظلم مِمَّن افترى على الله كذبا ليضل النَّاس بِغَيْر علم إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين (١٤٤) قل لَا أجد فِي مَا أُوحِي إِلَيّ محرما على طاعم يطعمهُ إِلَّا أَن يكون ميتَة أَو دَمًا مسفوحا أَو لحم خِنْزِير فَإِنَّهُ رِجْس أَو فسقا أهل لغير الله بِهِ فَمن اضْطر غير بَاغ﴾
﴿أم كُنْتُم شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُم الله بِهَذَا﴾ فَمَعْنَاه: أَنكُمْ قُلْتُمْ ذَلِك عَن علم لكم؟ فَأَخْبرُونِي بِهِ ﴿أم نزل [عَلَيْكُم] بِهِ وَحي؟ أم أَمركُم الله بِهِ عيَانًا؟
{فَمن اظلم مِمَّن افترى على الله كذبا ليضل النَّاس بِغَيْر علم﴾
فَبين الله يَعْنِي: أَنهم كاذبون بِهِ ﴿إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين﴾.
وَفِي الْخَبَر: " أَن عَوْف بن مَالك الْأَشْجَعِيّ جَاءَ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّد، أبحت مَا حرمنا} وَحرمت مَا أبحنا - يَعْنِي: الْميتَة - فَقَرَأَ عَلَيْهِ هَذِه الْآيَات؛ فَعرف الْحجَّة، وَسكت عَنهُ ".
152
قَوْله تَعَالَى: ﴿قل لَا أجد فِي مَا أُوحِي إِلَيّ محرما﴾ سَبَب هَذَا أَنهم قَالُوا: فَمَا الْمحرم إِذا؟ فَنزل قَوْله: قل يَا مُحَمَّد: لَا أجد فِيمَا أُوحِي إِلَيّ محرما ﴿على طاعم يطعمهُ إِلَّا أَن يكون ميتَة أَو دَمًا مسفوحا أَو لحم خِنْزِير﴾.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا؛ فَذَهَبت عَائِشَة، وَابْن عَبَّاس إِلَى أَن التَّحْرِيم مَقْصُور على هَذِه الْأَشْيَاء، وَبِه قَالَ مَالك، وَقَالُوا: قَوْله: ﴿إِلَّا ان يكون ميتَة﴾ دخل فِيهِ المنخنقة والموقوذة، وَمَا عد فِي سُورَة الْمَائِدَة، وَمَالك يعد مَا سواهَا مَكْرُوها وَلَا يعده حَرَامًا، وَجُمْهُور الْعلمَاء على أَن التَّحْرِيم [يعدو] هَذِه الْأَشْيَاء؛ إِلَّا أَن الْبَعْض ثَبت بِالْكتاب، وَالْبَعْض بِالسنةِ، وَالْكل حرَام. وَقد ثَبت: " أَنه نهى عَن كل ذِي نَاب من السبَاع و [عَن] كل ذِي مخلب من الطير " ﴿فَإِنَّهُ رِجْس﴾ أَي: نَتن ﴿أَو فسقا أهل لغير الله بِهِ﴾ وَهُوَ الْمَذْبُوح على اسْم الصَّنَم، سمى ذَلِك فسقا؛
152
﴿وَلَا عَاد فَإِن رَبك غَفُور رَحِيم (١٤٥) وعَلى الَّذين هادوا حرمنا كل ذِي ظفر وَمن الْبَقر وَالْغنم حرمنا عَلَيْهِم شحومهما إِلَّا مَا حملت ظهورهما أَو الحوايا أَو مَا اخْتَلَط بِعظم ذَلِك جزيناهم ببغيهم وَإِنَّا لصادقون (١٤٦) فَإِن كَذبُوك فَقل ربكُم ذُو رَحْمَة وَاسِعَة وَلَا﴾ لِلْخُرُوجِ عَن أَمر الله - تَعَالَى -.
﴿فَمن اضْطر غير بَاغ وَلَا عَاد فَإِن رَبك غَفُور رَحِيم﴾ وَقد ذكرنَا هَذَا.
153
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وعَلى الَّذين هادوا حرمنا كل ذِي ظفر﴾ يَعْنِي: حرمنا على الْيَهُود كل ذِي ظفر، قيل: هُوَ الْبَعِير والنعامة، وَيدخل فِيهِ الأوز والبط.
﴿وَمن الْبَقر وَالْغنم حرمنا عَلَيْهِم شحومهما إِلَّا مَا حملت ظهورهما﴾ أما تَحْرِيم الشحوم عَلَيْهِم: كَانَ ذَلِك عَن الثروب وشحم الكليتين، وَقد قَالَ " لعن الله الْيَهُود حرم عَلَيْهِم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا ثمنهَا ".
وَقَوله: ﴿إِلَّا مَا حملت ظهورهما﴾ أَي: شَحم مَا حملت ظهورهما لم يحرم عَلَيْهِم ﴿أَو الحوايا﴾ تَقْدِيره: والحوايا، أَي: شَحم المباعر ﴿أَو مَا اخْتَلَط بِعظم﴾ أَي: وشحم مَا اخْتَلَط بِعظم، قيل: هُوَ الإلية، وَقيل: هُوَ شَحم الْجنب، ثمَّ اخْتلفُوا، أَن الْكل هَل يدْخل فِي الِاسْتِثْنَاء؟ قَالَ بَعضهم: إِنَّمَا يدْخل فِي الِاسْتِثْنَاء شَحم الظُّهُور فَحسب، فَأَما قَوْله: ﴿أَو الحوايا أَو مَا اخْتَلَط بِعظم﴾ رَاجع إِلَى التَّحْرِيم، وَالصَّحِيح: أَن الْكل يدْخل فِي الِاسْتِثْنَاء، وَهُوَ ظَاهر الْآيَة. ﴿ذَلِك جزيناهم ببغيهم﴾ أَي: [بظلمهم] ﴿وَإِنَّا لصادقون﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿فَإِن كَذبُوك فَقل ربكُم ذُو رَحْمَة وَاسِعَة﴾ فَإِن قيل: مَا معنى هَذَا، وَإِنَّمَا يَلِيق بتكذيبهم وَعِيد الْعَذَاب لَا وعد الرَّحْمَة؟ قَالَ ثَعْلَب: هُوَ الرَّحْمَة
153
﴿يرد بأسه عَن الْقَوْم الْمُجْرمين (١٤٧) سَيَقُولُ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم حَتَّى ذاقوا بأسنا قل هَل عنْدكُمْ من علم فتخرجوه لنا إِن تتبعون إِلَّا الظَّن وَإِن أَنْتُم إِلَّا تخرصون (١٤٨) قل فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ (١٤٩) قل هَلُمَّ شهداءكم الَّذين يشْهدُونَ أَن الله حرم هَذَا فَإِن شهدُوا فَلَا تشهد مَعَهم وَلَا تتبع أهواء الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذين لَا يُؤمنُونَ﴾ بِتَأْخِير الْعَذَاب عَنْهُم، لَا بترك أصل الْعَذَاب، وَهَذَا حسن، بِدَلِيل قَوْله: ﴿وَلَا يرد بأسه عَن الْقَوْم الْمُجْرمين﴾ يَعْنِي: فِي الْقِيَامَة، إِذا [جَاءَ] وقته؛ فَسئلَ ثَعْلَب: أَلَيْسَ أَن الله - تَعَالَى - قد عذب الْكفَّار فِي الدُّنْيَا؟ فَقَالَ: هَذَا فِي الْكفَّار من قوم نَبينَا مُحَمَّد لم يعذبهم الله؛ ببركته فيهم، كَمَا قَالَ: ( ﴿وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم﴾ وَمَا أَرْسَلْنَاك إِلَّا رَحْمَة للعاملين).
154
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿سَيَقُولُ الَّذين أشركوا لَو شَاءَ الله مَا أشركنا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حرمنا من شَيْء كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم حَتَّى ذاقوا بأسنا﴾ اسْتدلَّ أهل الْقدر بِهَذِهِ الْآيَة؛ فَإِنَّهُم لما قَالُوا: لَو شَاءَ الله مَا أشركنا؛ كذبهمْ الله - تَعَالَى - ورد قَوْلهم فَقَالَ: ﴿كَذَلِك كذب الَّذين من قبلهم﴾ قيل: معنى الْآيَة: أَنهم كَانُوا يَقُولُونَ الْحق إِلَّا أَنهم كَانُوا (يعدون) ذَلِك عذر لَهُم، ويجعلونه حجَّة لأَنْفُسِهِمْ فِي ترك الْإِيمَان، فالرد عَلَيْهِم كَانَ فِي هَذَا بِدَلِيل
قَوْله - تَعَالَى - بعده: ﴿قل فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة﴾ أَي: الْحجَّة بِالْأَمر وَالنَّهْي بَاقِيَة لَهُ عَلَيْهِم، وَإِن شَاءَ أَن يشركوا.
﴿فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ﴾ وَلَو لم يحمل على هَذَا؛ لَكَانَ هَذَا مناقضة للْأولِ، وَقيل: إِنَّهُم كَانُوا يَقُولُونَ: إِن الله أمرنَا بالشرك، كَمَا قَالَ فِي الْأَعْرَاف: {وَإِذا فعلوا
154
﴿بِالآخِرَة وهم برَبهمْ يعدلُونَ (١٥٠) قل تَعَالَوْا أتل مَا حرم ربكُم عَلَيْكُم أَلا تُشْرِكُوا بِهِ﴾ فَاحِشَة قَالُوا وجدنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَالله أمرنَا بهَا) وَكَأن قَوْله: ﴿لَو شَاءَ الله مَا أشركنا﴾ أَي: هُوَ الَّذِي أمرنَا بالشرك؛ فالرد فِي هَذَا لَا فِي حُصُول الشّرك بمشيئته، فَإِنَّهُ حق وَصدق، وَبِه يَقُول أهل السّنة.
﴿قل هَل عنْدكُمْ من علم فتخرجوه لنا﴾ أَي: من كتاب، فتخرجوه لنا حَتَّى يظْهر مَا تدعون على الله (من أمره بالشرك) ﴿إِن تتبعون إِلَّا الظَّن﴾ يَعْنِي: أَنكُمْ تَقولُونَ مَا تَقولُونَ ظنا لَا عَن بَصِيرَة ﴿وَإِن أَنْتُم إِلَّا تخرصون﴾ أَي: تكذبون ﴿قل فَللَّه الْحجَّة الْبَالِغَة فَلَو شَاءَ لهداكم أَجْمَعِينَ﴾.
155
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل هَلُمَّ شهداءكم﴾ أَي: ائْتُوا بشهدائكم ﴿الَّذين يشْهدُونَ أَن الله حرم هَذَا﴾ هَذَا رَاجع إِلَى مَا تقدم من تحريمهم الْأَشْيَاء على أنفسهم بِغَيْر أَمر الله، وَادعوا أَنه من أَمر الله.
﴿فَإِن شهدُوا فَلَا تشهد مَعَهم﴾ يَعْنِي: فَإِن شهدُوا كاذبين، فَلَا تشهد مَعَهم ﴿وَلَا تتبع أهواء الَّذين كذبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذين لَا يُؤمنُونَ بِالآخِرَة وهم برَبهمْ يعدلُونَ﴾ أَي: يشركُونَ.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل تَعَالَوْا أتل مَا حرم ربكُم عَلَيْكُم أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا﴾ لأَنهم سَأَلُوهُ أيش الَّذِي حرم الله - تَعَالَى -؟ فَنزل قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل تَعَالَوْا أتل مَا حرم ربكُم عَلَيْكُم﴾ فَإِن قَالَ قَائِل: الله - تَعَالَى - مَا حرم ترك الشّرك بل أَمر ربه، فَمَا معنى قَوْله: ﴿أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا﴾ ؟.
فِيهِ جوابان: أَحدهمَا: أَن قَوْله " لَا " صلَة، وَتَقْدِيره ": أَن تُشْرِكُوا؛ فعلى هَذَا استقام الْكَلَام.
وَالثَّانِي: أَن قَوْله: ﴿ [تَعَالَوْا] أتل مَا حرم ربكُم﴾ كَلَام تَامّ. (ثمَّ) قَوْله:
155
﴿شَيْئا وبالوالدين إحسانا وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم من إملاق نَحن نرزقكم وإياهم وَلَا تقربُوا الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تعقلون (١٥١) وَلَا تقربُوا مَال الْيَتِيم إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن حَتَّى يبلغ أشده﴾ ﴿عَلَيْكُم أَلا تُشْرِكُوا﴾ ابْتِدَاء كَلَام. وَإِذا قدر هَكَذَا استقام الْكَلَام أَيْضا، ثمَّ قَوْله ﴿وبالوالدين إحسانا﴾ أَي: وأحسنوا بالوالدين إحسانا.
﴿وَلَا تقتلُوا أَوْلَادكُم من إملاق﴾ قَالَ المؤرج: الإملاق: الْجُوع بلغَة حمير، وَالْمَعْرُوف فِي اللُّغَة أَن الإملاق: الْفقر ﴿نَحن نرزقكم وإياهم﴾ أَي: رزق الْكل علينا؛ فَلَا تَقْتُلُوهُمْ خوف الْجُوع والفقر.
﴿وَلَا تقربُوا الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن﴾ هَذَا نهي عَن أَنْوَاع الزِّنَا سرا وعلنا، وَكَانَت الزواني فِي الْجَاهِلِيَّة على نحوين: كَانَت لبَعْضهِم رايات على الْأَبْوَاب، علما لمن أَرَادَ الزِّنَا؛ كن يَزْنِين علنا، وأخريات كن يَزْنِين سرا. فَهَذَا المُرَاد بالفواحش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن.
﴿وَلَا تقتلُوا النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ نهى عَن الْقَتْل بالظلم، وأباح الْقَتْل بِالْحَقِّ، وَهُوَ مُفَسّر فِي قَول النَّبِي: " لَا يحل دم امْرِئ مُسلم إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاث: كفر بعد إِيمَان، أَو زنا بعد إِحْصَان، أَو قتل نفس بِغَيْر نفس " ﴿ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تعقلون﴾.
156
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَلَا تقربُوا مَال الْيَتِيم إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أحسن﴾ قد سبق الْكَلَام على قرْبَان مَال الْيَتِيم فِي سُورَة النِّسَاء. ﴿حَتَّى يبلغ أشده﴾ قَالَ السّديّ: أشده ثَلَاثُونَ سنة. وَقَالَ غَيره: أَوَان الْحلم. وَقيل: هُوَ استكمال الْقُوَّة، وَسَيَأْتِي شَرحه فِي مَوضِع بعده.
﴿وأوفوا الْكَيْل وَالْمِيزَان بِالْقِسْطِ﴾ أَي: بِالْعَدْلِ ﴿لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا﴾ أَي:
156
﴿وأوفوا الْكَيْل وَالْمِيزَان بِالْقِسْطِ لَا نكلف نفسا إِلَّا وسعهَا وَإِذا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَو كَانَ ذَا قربى وبعهد الله أَوْفوا ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ (١٥٢) وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون (١٥٣) ثمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب تَمامًا على الَّذِي أحسن وتفصيلا لكل شَيْء وَهدى﴾ طاقتها ﴿وَإِذا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَو كَانَ ذَا قربى﴾ أَي: فاصدقوا، وَلَو كَانَ على الْقَرِيب ﴿وبعهد الله أَوْفوا ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تذكرُونَ﴾.
157
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ﴾ يقْرَأ: وَأَن - بِالتَّشْدِيدِ - فَيكون رَاجعا إِلَى قَوْله: ﴿أتل مَا حرم ربكُم عَلَيْكُم﴾ يَعْنِي: وأتل عَلَيْكُم: أَن هَذَا صِرَاطِي، وَيقْرَأ: وَأَن - بالتخفبف - فَيكون صلَة، وَتَقْدِيره هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا.
﴿فَاتَّبعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل﴾ بِمَعْنى: سَائِر الْملَل سوى مِلَّة الْإِسْلَام وَقيل: هُوَ الْأَهْوَاء والبدع ﴿فَتفرق بكم عَن سَبيله﴾ أَي: فَتفرق بكم عَن سَبيله.
﴿ذَلِكُم وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾ وَقد صَحَّ بِرِوَايَة ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي: " انه خطّ خطا، وَخط حواليه خُطُوطًا، ثمَّ أَشَارَ إِلَى الْخط الْأَوْسَط؛ فَقَالَ: وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ، ثمَّ أَشَارَ إِلَى الخطوط حوله؛ فَقَالَ: لَا تتبعوا السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله ".
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ثمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب﴾ فَإِن قيل: كَيفَ قَالَ: ﴿ثمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب﴾ بعد ذكر مُحَمَّد، ومُوسَى أُوتِيَ الْكتاب قبله، وَكَلمه " ثمَّ "
157
﴿وَرَحْمَة لَعَلَّهُم بلقاء رَبهم يُؤمنُونَ (١٥٤) وَهَذَا كتاب أَنزَلْنَاهُ مبارك فَاتَّبعُوهُ وَاتَّقوا لَعَلَّكُمْ ترحمون (١٥٥) أَن تَقولُوا إِنَّمَا أنزل الْكتاب على طائفتين من قبلنَا وَإِن كُنَّا عَن دراستهم لغافلين (١٥٦) أَو تَقولُوا لَو أَنا أنزل علينا الْكتاب لَكنا أهْدى مِنْهُم فقد جَاءَكُم بَينه من﴾ للتعقيب؟ قيل: مَعْنَاهُ: ثمَّ أخْبركُم أَنا آتَيْنَا مُوسَى الْكتاب.
﴿تَمامًا على الَّذِي أحسن﴾ قيل: أَرَادَ بِالَّذِي أحسن: مُوسَى، وَمَعْنَاهُ: انه كَمَا أحسن بِطَاعَة ربه وَاتِّبَاع أمره؛ أتممنا عَلَيْهِ النِّعْمَة وَالْإِحْسَان بإعطائه التَّوْرَاة.
وَقَالَ الْحسن: مَعْنَاهُ تَمامًا على الْمُحْسِنِينَ من قومه، وَكَانَ مِنْهُم محسن ومسيء، وَهَذَا معنى قِرَاءَة ابْن مَسْعُود: تَمامًا على الَّذين أَحْسنُوا، وَقَرَأَ يحيى بن يعمر: " على الَّذِي أحسن " أحسن، بِرَفْع النُّون، أَي: على الَّذِي هُوَ أحسن.
﴿وتفصيلا لكل شَيْء وَهدى وَرَحْمَة﴾ هَذَا فِي وصف التَّوْرَاة ﴿لَعَلَّهُم بلقاء رَبهم يُؤمنُونَ﴾.
158
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَهَذَا كتاب﴾ ثمَّ وصف الْقُرْآن ﴿أَنزَلْنَاهُ مبارك فَاتَّبعُوهُ﴾ وَقد بَينا معنى الْمُبَارك ( ﴿وَاتَّقوا لَعَلَّكُمْ ترحمون﴾
أَن تَقولُوا) أَي: كَرَاهَة أَن تَقولُوا، على قَول الْكُوفِيّين، وَأما على قَول الْبَصرِيين: تَقْدِيره: أَن لَا تَقولُوا: ﴿إِنَّمَا أنزل الْكتاب على طائفتين من قبلنَا﴾ يَعْنِي: الْيَهُود وَالنَّصَارَى ﴿وَإِن كُنَّا﴾ أَي: وَقد كُنَّا ﴿عَن دراستهم لغافلين﴾ وَمعنى الْآيَة: أَنا إِنَّمَا أنزلنَا عَلَيْكُم الْقُرْآن؛ لِئَلَّا تَقولُوا: إِن الْكتاب أنزل على من قبلنَا بلغتهم ولسانهم فَلم نَعْرِف مَا فِيهِ، وغفلنا عَن دراسته؛ فتمهدون بذلك عذرا لأنفسكم، وَحجَّة على الله
﴿أَو تَقولُوا لَو أَنا أنزل علينا الْكتاب لَكنا أهْدى مِنْهُم﴾.
وَقد كَانَ جمَاعَة من الْكفَّار، قَالُوا ذَلِك: لَو أنزل علينا مَا أنزل على الْيَهُود وَالنَّصَارَى كُنَّا خيرا مِنْهُم وَأهْدى، يَقُول الله - تَعَالَى -: ﴿فقد جَاءَكُم بَيِّنَة من ربكُم وَهدى وَرَحْمَة﴾ يَعْنِي: قد جَاءَكُم الْقُرْآن؛ فَكَذَّبْتُمْ بِهِ، ثمَّ قَالَ: ﴿فَمن أظلم مِمَّن كذب بآيَات الله وصدف عَنْهَا﴾ أَي: أعرض عَنْهَا ﴿سنجزي الَّذين يصدفون﴾
158
﴿ربكُم وَهدى وَرَحْمَة فَمن أظلم مِمَّن كذب بآيَات الله وصدف عَنْهَا سنجزي الَّذين يصدفون عَن آيَاتنَا سوء الْعَذَاب بِمَا كَانُوا يصدفون (١٥٧) هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن تأتيهم الْمَلَائِكَة أَو يَأْتِي رَبك أَو يَأْتِي بعض آيَات رَبك يَوْم يَأْتِي بعض آيَات رَبك لَا ينفع نفسا﴾ أَي: يعرضون ﴿عَن آيَاتنَا سوء الْعَذَاب بِمَا كَانُوا يصدفون﴾ قَوْله - تَعَالَى -: ﴿ [هَل ينظرُونَ] ﴾ أَي: بعد تكذيبهم الرُّسُل وإنكارهم الْقُرْآن.
159
﴿هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن تأتيهم الْمَلَائِكَة﴾ قيل: بِالْعَذَابِ، وَقيل: بِقَبض الْأَرْوَاح (أَو يَأْتِي رَبك) يَعْنِي: فِي الْقِيَامَة، كَمَا قَالَ فِي سُورَة الْبَقَرَة: ﴿هَل ينظرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيهم الله فِي ظلل من الْغَمَام﴾ وَقد بَينا هُنَالك ﴿أَو يَأْتِي بعض آيَات رَبك﴾ أجمع الْمُفَسِّرُونَ على أَنه أَرَادَ بِهِ طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا، إِلَّا فِي رِوَايَة: شَاذَّة عَن معَاذ بن جبل أَنه: خُرُوج الدَّجَّال، وَخُرُوج يَأْجُوج وَمَأْجُوج. وَقد ثَبت بِرِوَايَة ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي أَنه قَالَ فِيهِ: " هِيَ طُلُوع الشَّمْس من مغْرِبهَا " وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ مَرْفُوعا بِلَفْظِهِ.
وَقَالَ ابْن مَسْعُود: إِن الشَّمْس وَالْقَمَر يطلعان يَوْمئِذٍ أسودين، وروى صَفْوَان بن عَسَّال الْمرَادِي عَن النَّبِي أَنه قَالَ: " إِن للتَّوْبَة بَابا قبل الْمغرب، عرضه سَبْعُونَ ذِرَاعا؛ فَهُوَ مَفْتُوح إِلَى أَن تطلع الشَّمْس من مغْرِبهَا، ثمَّ يغلق فَلَا تقبل التَّوْبَة بعده " فَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى: ( ﴿يَوْم يَأْتِي بعض آيَات رَبك﴾ لَا ينفع نفسا
159
﴿إيمَانهَا لم تكن آمَنت من قبل أَو كسبت فِي إيمَانهَا خيرا قل انتظروا إِنَّا منتظرون (١٥٨) إِن الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا لست مِنْهُم فِي شَيْء إِنَّمَا أَمرهم إِلَى الله ثمَّ ينبئهم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (١٥٩) (من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى إيمَانهَا لم تكن آمَنت من قبل أَو كسبت فِي إيمَانهَا خيرا﴾ أَي: لَا يقبل تَوْبَة كَافِر بِالْإِيمَان، وَلَا تَوْبَة فَاسق بِالرُّجُوعِ عَن الْفسق ﴿قل انتظروا إِنَّا منتظرون﴾.
160
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿إِن الَّذين فرقوا دينهم وَكَانُوا شيعًا لست مِنْهُم فِي شَيْء﴾.
وروى أَبُو أُمَامَة الْبَاهِلِيّ صدى بن عجلَان، عَن النَّبِي قَالَ: " هم الْخَوَارِج " قَالَ مُجَاهِد: هم أهل الْأَهْوَاء والبدع، وَقيل: هم أهل سَائِر الْملَل من الْيَهُود، وَالنَّصَارَى، وَالْمَجُوس، وَنَحْوهم، وَعَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ: " أصدق الحَدِيث كتاب الله، وَأحسن الْهدى هدى مُحَمَّد، وَشر الْأُمُور محدثاتها، وكل محدثة بِدعَة، وكل بِدعَة ضَلَالَة، وكل ضَلَالَة فِي النَّار " ويروى هَذَا مَرْفُوعا، وَقَوله: ﴿لست مِنْهُم فِي شَيْء﴾ أَي: لَيْسُوا مِنْك، وَلست مِنْهُم ﴿إِنَّمَا أَمرهم إِلَى الله ثمَّ ينبئهم بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿من جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا وَمن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يجزى إِلَّا مثلهَا وهم لَا يظْلمُونَ﴾ وَهَذَا فضل من الله - تَعَالَى - حَيْثُ يجازي الْحَسَنَة بِعشر
160
﴿إِلَّا مثلهَا وهم لَا يظْلمُونَ (١٦٠) قل إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم دينا قيمًا مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا وَمَا كَانَ من الْمُشْركين (١٦١) قل إِن صَلَاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب الْعَالمين (١٦٢) لَا شريك لَهُ وَبِذَلِك أمرت وَأَنا أول الْمُسلمين (١٦٣) قل أغير الله أبغي رَبًّا وَهُوَ رب كل شَيْء وَلَا تكسب كل نفس إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى ثمَّ إِلَى ربكُم مرجعكم فينبئكم بِمَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون (١٦٤) وَهُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف﴾ أَمْثَالهَا، والسيئة بِمِثْلِهَا، قَالَ ابْن عمر: هَذَا فِي غير الصَّدقَات من الْحَسَنَات، فَأَما الصَّدقَات: تضَاعف بسبعمائة ضعف، وَقَالَ أَبُو صَالح: الْحَسَنَة: قَول لَا إِلَه إِلَّا الله، " وَسُئِلَ رَسُول الله عَن كلمة لَا إِلَه إِلَّا الله أَهِي من الْحَسَنَات؟ فَقَالَ: هِيَ أحسن الْحَسَنَات ".
161
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم دينا قيمًا﴾ هُوَ دين الْإِسْلَام أَي: دينا مُسْتَقِيمًا ﴿مِلَّة إِبْرَاهِيم﴾ نصب على الإغراء، أَي: اتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم ﴿حَنِيفا وَمَا كَانَ من الْمُشْركين﴾
﴿قيل إِن صَلَاتي ونسكي﴾ أما الصَّلَاة: مَعْلُومَة، وَأما النّسك: الْعِبَادَة، وَقيل: أَرَادَ بِهِ: الذَّبِيحَة، وَقَوله: ﴿ومحياي ومماتي لله﴾ أَي: طَاعَتي فِي حَياتِي لله، وجزائي بعد مماتي من الله {رب الْعَالمين
لَا شريك لَهُ وَبِذَلِك أمرت وَأَنا أول الْمُسلمين) يَعْنِي: من هَذِه الْأمة.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿قل أغير الله أبغي رَبًّا﴾ لأَنهم كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ: ارْجع إِلَى ديننَا فَإِن خفت الله فَنحْن نكفل لَك الْعَذَاب؛ قَالَه كفار قُرَيْش؛ فَنزل: ﴿قل أغير الله أبغي رَبًّا وَهُوَ رب كل شَيْء﴾ ﴿وَلَا تكسب كل نفس إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى﴾ أَي: لَيْسَ هَذَا بِأَمْر تَنْفَع فِيهِ الْكفَالَة، (وَيقوم) أحد مقَام أحد فِيهِ. ﴿ثمَّ إِلَى ربكُم مرجعكم فينبئكم بِمَا كُنْتُم فِيهِ تختلفون﴾.
قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَهُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف الأَرْض﴾ أَي: يخلف بَعْضكُم
161
﴿الأَرْض وَرفع بَعْضكُم فَوق بعض دَرَجَات ليَبْلُوكُمْ فِي مَا آتَاكُم إِن رَبك سريع الْعقَاب وَإنَّهُ لغَفُور رَحِيم (١٦٥) ﴾ بَعْضًا ﴿وَرفع بَعْضكُم فَوق بعض دَرَجَات﴾ يَعْنِي: فِي الدُّنْيَا بالفقر والغنى، وَالْمَرَض وَالصِّحَّة، وَنَحْو هَذَا ﴿ليَبْلُوكُمْ فِيمَا آتَاكُم﴾ أَي: ليختبروكم فِيمَا أَعْطَاكُم.
﴿إِن رَبك سريع الْعقَاب﴾ وكل مَا هُوَ آتٍ فَهُوَ سريع ﴿وَإنَّهُ لغَفُور رَحِيم﴾.
162

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم

﴿المص (١) كتاب أنزل إِلَيْك فَلَا يكن فِي صدرك حرج مِنْهُ لتنذر بِهِ وذكرى﴾
سُورَة الْأَعْرَاف
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام - رَضِي الله عَنهُ -: اعْلَم أَن سُورَة الْأَعْرَاف مكيه إِلَّا قَوْله - تَعَالَى -: ﴿واسألهم عَن الْقرْيَة الَّتِي كَانَت حَاضِرَة الْبَحْر﴾ إِلَى قَوْله - تَعَالَى -: ﴿وَإِذ أَخذ رَبك من بني آدم من ظُهُورهمْ ذُرِّيتهمْ﴾ فَإِن هَذَا الْقدر نزل بِالْمَدِينَةِ، و (قد) روى " أَن النَّبِي قَرَأَ فِي الْمغرب بطول الطولين " يَعْنِي: سُورَة الْأَعْرَاف، وَإِنَّمَا سميت طول الطولين؛ لِأَن أطول السُّور الَّتِي نزلت بِمَكَّة سُورَة الْأَنْعَام، وَسورَة الْأَعْرَاف، والأعراف أطولهما.
163
Icon