هذه السورة مكية وعدد آياتها عشرون وذكر في سبب نزول آياتها أن قريشا اجتمعت في دار الندوة فقالوا : سموا هذا الرجل اسما يصدر الناس – عنه - أي يصدرون عنه - فقالوا : كاهن، قالوا : ليس بكاهن، قالوا : مجنون، قالوا : ليس بمجنون، قالوا : ساحر، قالوا : ليس بساحر. فتفرق المشركون على ذلك. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فتزمل في ثيابه وتدثر فيها فأتاه جبريل عليه السلام فقال :﴿ ياأيها المزّمل – ياأيها المدثر ﴾.
ﰡ
﴿ ياأيها المزّمل ١ قم الليل إلا قليلا ٢ نصفه أو انقص منه قليلا ٣ أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ٤ إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا ٥ إنّ ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا ٦ إن لك في النهار سبحا طويلا ٧ واذكر اسم ربك وتبتّل إليه تبتيلا ٨ رب المشرق والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا ﴾.
المزمل، أصله المتزمل. وهو المتلفف بثيابه. زمّله في ثوبه أي لفّه، زمّلته بثوبه تزميلا فتزمّل، أي لففته به فتلفف به. وزملت الشيء أي حملته. ومنه قيل للبعير الزاملة والهاء للمبالغة، لأنه يحمل متاع المسافر١ فالمزمل هو المتلفف في ثيابه. وقد ذكر أن ذلك كان في ابتداء الوحي، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع قول الملك ونظر إليه هاله ذلك فأخذته منه رعدة فأتى أهله وقال : " زملوني دثروني فنزل قوله سبحانه :﴿ ياأيها المزمّل ﴾ يعني يا من تلفف بثيابه أو في قطيفته. أو يا أيها النائم.
قوله :﴿ ورتّل القرآن ترتيلا ﴾ الترتيل في القراءة معناه، الترسّل فيها والتبيين يغير بغي١ والمعنى : اقرأ القرآن على ترسل وتمهل أو تؤدة. يتبيين حروفه وإشباع حركاته مع تدبر معانيه والابتهاج بجمال نظمه وجمال إعجازه. فلا يقرأه هذّا والهذّ معناه الهدرمة وهي السرعة في القراءة والكلام ٢.
فما ينبغي لقارئ أن يقرأه على عجل، غير متدبر ولا متذكر ولا مبتهج بل يقرأه متّئدا متمهلا وأن يحسّن الصوت في قراءته. وقد جاء في الحديث " زينوا القرآن بأصواتكم- وليس منا من لم يتغنّ بالقرآن- ولقد آوتي هذا مزمارا من مزامير آل دواد " يعني أبا موسى الأشعري. فقال : لو كنت أعلم أنك تسمع قراءتي لحبرته لك تحبيرا ".
٢ مختار الصحاح ص ٦٩٣..
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت : يا رسول الله ! هل تحس بالوحي ؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أسمع صلاصل ثم أسكت عند ذلك فما من مرة يوحى إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض ".
وقالت عائشة ( رضي اله عنها ) : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي صلى الله عليه وسلم في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وجبينه ليتفصّد عرقا.
وروى الإمام أحمد عن عائشة ( رضي الله عنها ) قالت : إن كان ليوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته فتضرب بجرانها. أي بصدرها. وفي رواية عن عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه وهو على ناقته وضعت جرانها فما تستطيع أن تتحرك حتى يسرّى عنه. وجرانها يعني صدرها، إذ تضعه على الأرض من فرط الثقل.
الوجه الثاني : أن المراد بثقل القرآن، العمل به. أي العمل بما يقتضيه من الأحكام والحدود والشرائع والفرائض. فهو في ذلك كله ثقيل لا يحتمله إلا المؤمنون المتقون الذين لا يرتضون عن دين الله وشرعه ومنهاجه أي بديل. يحتمله المؤمنون الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وآمنوا بقضاء الله وقدره خيرهما وشرهما.
أما غير هؤلاء من المشركين والمرتابين والخائرين والمنافقين فإنه يثقل عليهم العمل بما في القرآن من أحكام وفروض وحدود.
ويضاف إلى ذلك كله ثقل الدعوة إلى دين الله، ومنبعه القرآن. لا جرم أن الدعوة إلى التزام أحكام الإسلام وما حواه القرآن من المبادئ والأخلاق وقواعد الشريعة وأحكامها لهو أمر ثقيل، لما يواجه ذلك في الغالب من الصدود والجحود والعدوان من أكثر الناس. إن الدعوة إلى دين الإسلام وما تضمنه القرآن من منهج للحياة ليس بالأمر السهل اليسير، بل إنه ثقيل عسير لا يطيقه إلا الصابرون الراسخون في الإيمان من المسلمين.
وعن عائشة وابن عباس ( رضي الله عنهم ) أن الناشئة هي القيام بالليل بعد النوم. فمن قام أول الليل قبل النوم فما قام ناشئة. وجاء في الصحاح أن ناشئة الليل أول ساعاته. وعن الحسن أنها ما بعد العشاء الآخرة إلى الصبح. وقيل : وقيل : هي القيام من آخر الليل.
قوله :﴿ هي أشد وطئا ﴾ وطئا، منصوب على التمييز١ يعني : أشد موافقة لما يراد من الخشوع والإخلاص. وعن الحسن قال : أشد موافقة بين السر والعلن لانقطاع رؤية الخلائق. وقيل : أثقل على المصلي من ساعات النهار، لأن الليل وقت منام وراحة وسكينة فمن شغله بالعبادة فقد احتمل مشقة كبيرة.
قوله :﴿ وأقوم قيلا ﴾ ذكر في تأويل ذلك عدة أقوال، وهي في مدلولاتها متقاربة. فقد قيل : أصوب للقراءة وأثبت للقول. وهو قول قتادة ومجاهد. وقيل : عبادة الليل أتم نشاطا وأتم إخلاصا وأكثر بركة. وهو قول عكرمة. وقيل : أقوم قراءة لفراغه من الدنيا. وقال ابن عباس : أدنى من أن تفقهوا القرآن.
قوله :﴿ وتبتّل إليه تبتيلا ﴾ ﴿ تبتيلا ﴾، منصوب على المصدر. وهذا المصدر غير جار على فعله١ والتبتّل معناه الانقطاع للعبادة ومنه سميت مريم البتول لانقطاعها لعبادة ربها. والمعنى : انقطع بعبادتك إليه مخلصا له فيها غير مشرك به في ذلك أحدا.
تتضمن هذه الآيات جملة من عظيم المعاني، يأتي في طليعتها التحضيض على الصبر واحتمال الأذى مما يصدر عن المشركين من سوء الأقوال والفعال وتتضمن كذلك وعيدا مخوفا من الله يتهدد به الظالمين الذين يصدون عن دينه، يتهددهم بالأنكال والجحيم والطعام الذي يغصهم غصّا.
وفيها تذكير بأهوال القيامة وما يقع فيها من شديد الزلازل والنوازل وهو قوله سبحانه :﴿ واصبر على ما يقولون ﴾ أي اصبر يا محمد على ما يقوله المشركون من الأذى والسب والاستسخار. ولا تبتئس من قولهم بل احتمل وامض لما أمرك الله من الدعوة لدينه العظيم ﴿ واهجرهم هجرا جميلا ﴾ الهجر الجميل هو الذي لا عتاب معه أو هو مجانبتهم بالقلب والهوى ومخالفتهم مع حسن المخالقة والمداراة والإغضاء. وعن أبي الدرداء قال : " إنا لنكشر في وجوه قوم ونضحك إليهم وإن قلوبنا لتقليهم " أي تبغضهم.
قوله :﴿ أولي النعمة ﴾ وهم المنعّمون المترفون من أرباب المال والغنى واليسار في هذه الدنيا ﴿ ومهّلهم قليلا ﴾ قليلا، نعت لمصدر محذوف. أي أمهلهم تمهيلا قليلا. وهو يعني أخرهم إلى انقضاء آجالهم أو حتى يبلغ الكتاب أجله. وذلك وعيد شديد لهم من الله يتهددهم به وهو التصلية في جهنم وهو قوله :﴿ إن لدينا أنكالا وجحيما ﴾.
هذه طائفة من الأحكام والمواعظ والعبر يتدبرها المؤمنون ليزدادوا بها تذكرا واعتبارا. فقال سبحانه في ذلك :﴿ إن هذه تذكرة ﴾ يعني هذه الآيات التي تضمنت أخبار القيامة وما فيها من الأهوال والشدائد ﴿ تذكرة ﴾ أي عبرة لمن يعتبر، وعظة لمن يتعظ ويدّكر ﴿ فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا ﴾ يعني من شاء من العباد سلك إلى ربه طريقا مستقيما فيؤمن به ويعمل بطاعته ويجتنب معاصيه.
قوله :﴿ وطائفة من الذين معك ﴾ طائفة معطوف على ضمير، تقوم يعني : وتقوم هذا القدر من الليل معك طائفة من أصحابك.
قوله :﴿ والله يقدّر الليل والنهار ﴾ أي يقدرهما بالساعات والأوقات وهما تارة يعتدلان وتارة يأخذ هذا من هذا، وهذا من هذا.
قوله :﴿ علم أن لن تحصوه فتاب عليكم ﴾ يعني علم الله الذي فرض عليكم قيام الليل أنكم لن تطيقوا قيامه فتاب عليكم، إذ عجزتم وضعفتم عن قيامه، وخفف عنكم ﴿ فاقرأوا ما تيسر من القرآن ﴾ أي فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل. فقد عبّر عن الصلاة بالقراءة، لأنها بعض أركانها فعبّر عنها بالقيام والركوع والسجود.
وقد استدل الإمام أبو حنيفة ( رحمه الله ) بهذه الآية ﴿ فاقرأوا ما تيسر من القرآن ﴾ على أن قراءة الفاتحة غير متعينة في الصلاة، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن ولو بآية واحدة أجزأه ذلك وتمّت صلاته صحيحة. ويعزز ذلك ما جاء في الصحيحين " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " وأجيب عن ذلك بحديث عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج. فهي خداج غير تمام ".
وعلى هذا فثمة قولان في المراد بالقراءة. أحدهما : أن المراد بها الصلاة فهي تسمى قرآنا كقوله :﴿ و { قرآن الفجر ﴾ أي صلاة الفجر. والمعنى : فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل. وهذا ناسخ للأول، ثم نسخا جميعا بالصلوات الخمس.
ثانيهما : أن المراد نفس القراءة. أي فاقرأوا فيما تصلون بالليل ما خفّ عليكم من القرآن. وهذا تخفيف من الله عن عباده ما فرضه عليهم بقوله :﴿ قم الليل إلا قليلا ٢ نصفه أو انقض منه قليلا ﴾ وقد قيل : يقرأ مائة آية. وقيل : يقرأ خمسين.
قوله :﴿ علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله ﴾ يبين الله في ذلك علة تخفيف قيام الليل إلى قراءة ما تيسر من القرآن. وهي أنه سيكون في الناس أولو أعذار في ترك قيام الليل، منهم المرضى الذين لا يطيقون القيام. ومنهم المسافرون في الأرض طلبا للكسب والارتزاق والمعايش ومنهم المجاهدون في سبيل الله. وهذه السورة مكية، والقتال قد شرع بعد ذلك في المدينة، فلا جرم أن هذا دليل ساطع ومشهور يشهد بصدق نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك من باب الإخبار عن المغيبات.
قوله :﴿ فاقرأوا ما تيسر منه ﴾ الهاء في قوله :﴿ منه ﴾ عائدة إلى القرآن. فقد افترض الله القيام في أول هذه السورة فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم، ثم أنزل التخفيف بعد ذلك فصار قيام الليل تطوعا بعد فريضة. وإذا ثبت أن قيام الليل ليس بفرض، كان قوله :﴿ فاقرأوا ما تيسر منه ﴾ محمولا على ظاهره من القراءة في الصلاة. وقد اختلف العلماء في قدر ما يلزم من القراءة به في الصلاة. فقال الإمامان مالك والشافعي : إن فاتحة الكتاب واجبة على التعيين دون غيرها من السور أو الآيات ولا يجزي العدول عنها إلى غيرها من القراءة. وقدّر الإمام أبو حنيفة القراءة في الصلاة بآية واحدة سواء كانت من فاتحة الكتاب أو من غيرها من السور. والراجح القول الأول وهو وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة لما بيناه في حينه من أدلة على وجوبها وأن غيرها من الآيات والسور لا يجزئ عنها.
قوله :﴿ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾ المراد بالصلاة هنا، المفروضة، وهي الصلوات الخمس في اليوم والليلة ﴿ وآتوا الزكاة ﴾ يعني أدوا الزكاة المفروضة في أموالكم.
قوله :﴿ وأقرضوا الله قرضا حسنا ﴾ يعني وأنفقوا في سبيل الله من أموالكم وقيل : المراد بالقرض النوافل من الصدقات سوى الزكاة.
قوله :﴿ وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله ﴾ ما تقدمونه في دار الدنيا من وجوه البر والخير كالنفقات والصدقات أو غير ذلك من وجوه الطاعة كالصلاة والصيام وغيرهما من أعمال الخير والصالحات، تبتغون بذلك وجه الله فإنكم ستجدون جزاء ذلك كله عند الله يوم القيامة ﴿ وهو خيرا وأعظم أجرا ﴾ هو، ضمير فصل لا محل له من الإعراب. خيرا، مفعول ثان للفعل ﴿ تجدوه ﴾ والهاء هي المفعول الأول١.
قوله :﴿ واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ﴾ أي سلوا الله أن يغفر لكم ذنوبكم ويعفو عنكم فهو سبحانه غفّار لذنوب عباده التائبين المستغفرين وهو ذو رحمة بهم فلا يعاقبهم على ذنوبهم بعد توبتهم منها٢.
٢ تفسير القرطبي جـ ٢٩ ص ٥٥- ٥٨ والكشاف جـ ٤ ص ١٩٧ وتفسير الطبري جـ ٢٩ ص ٨٨، ٨٩ وتفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٤٣٩..