تفسير سورة الإنشقاق

زاد المسير
تفسير سورة سورة الإنشقاق من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ
وهي مكية كلها بإجماعهم.

سورة الانشقاق
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الانشقاق (٨٤) : الآيات ١ الى ١٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤)
قوله عزّ وجلّ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) قال المفسرون: انشقاقها من علامات الساعة. وقد ذكر ذلك في مواضع من القرآن. وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أي: استمعت وأطاعت في الانشقاق، من الأذن، وهو الاستماع للشيء والإصغاء إليه، وأنشدوا:
صُمٌّ إذا سَمِعُوا خيراً ذُكِرْتُ بِهِ وإن ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُم أَذِنُوا «١»
وَحُقَّتْ أي: حقَّ لها أن تُطيع ربَّها الذي خلقها وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ قال ابن عباس: تُمَدُّ مَدَّ الأديم، ويزاد في سَعَتها. وقال مقاتل: لا يبقى جبل ولا بناءٌ إلا دخل فيها.
قوله عزّ وجلّ: وَأَلْقَتْ ما فِيها من الموتى والكنوز وَتَخَلَّتْ أي: خلت من ذلك، فلم يبق في باطنها شيء. واختلفوا في جواب هذه الأشياء المذكورات على أربعة أقوال: أحدها: أنه متروك، لأن المعنى معروف قد تردَّد في القرآن. والثاني: أنه يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ، كقول القائل: إذا كان كذا وكذا فيا أيها الناس تَرَوْن ما عملتم، فيجعل: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ هو الجواب، وتضمر فيه الفاء، فكأنّ المعنى: ترى الثواب والعقاب إذا السماء انشقّت، ذكر القولين الفراء. والثالث: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، تقديره: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه إذا السماء انشقت» قاله المبرد. والرابع: أن الجواب مدلول عليه بقوله عزّ وجلّ: «فملاقيه». فالمعنى: إذا كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله، قاله الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فيه قولان: أحدهما: إنك عامل لربك عملاً، قاله ابن
(١) البيت لقعنب بن ضمرة بن أم صاحب، كما في «الاقتضاب» ٢٩٢ و «اللسان» - أذن-.
عباس. والثاني: ساعٍ إلى ربك سَعْياً، قاله مقاتل. قال الزجاج: و «الكدح» في اللغة: السّعي، والدّأب في العمل باب الدنيا والآخرة. قال تميم بن مقبل:
وَمَا الدَّهر إِلاَّ تَارَتانِ فمِنْهما أموتُ وأُخرى أبتغي العيش أكدح
وفي قوله عزّ وجلّ: إِلى رَبِّكَ قولان: أحدهما: عامل لربك. وقد ذكرناه عن ابن عباس.
والثاني: إلى لقاء ربّك، قاله ابن قتيبة.
وفي قوله عزّ وجلّ: فَمُلاقِيهِ قولان: أحدهما: فملاقٍ عَمَلَكَ. والثاني: فملاقٍ ربّك، ذكرهما الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وهو أن تعرض عليه سيئاته، ثم يغفرها الله له.
(١٥٢٠) وفي «الصّحيحين» من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من نوقش الحساب هلك، فقلت: يا رسول الله، فإن الله يقول: «فسوف يحاسب حساباً يسيرا» ؟! قال:
ذلك العرض».
قوله عزّ وجلّ: وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ يعني: في الجنة من الحور العين والآدميات مَسْرُوراً بما أُوتي من الكرامة وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ قال المفسرون: تُغَلُّ يده اليمنى إلى عنقه، وتجعل يده اليسرى وراء ظهره فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً قال الزجاج: يقول: يا ويلاه، يا ثبوراه، وهذا يقوله كلُّ من وقع في هلكة.
قوله عزّ وجلّ: وَيَصْلى سَعِيراً قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي «ويُصُلَّى» بضم الياء، وتشديد اللام. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وحمزة «ويصلى» بفتح الياء خفيفة، إلا أن حمزة والكسائي يميلانها. وقد شرحناه في سورة النّساء «١». قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ يعني في الدنيا مَسْرُوراً باتباع هواه، وركوب شهواته إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ أي: لن يرجع إلى الآخرة، ولن يبعث وهذه صفة الكافر. قال اللغويون: الحور في اللغة: الرجوع، وأنشدوا للبيد:
وما المرء إِلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
[سورة الانشقاق (٨٤) : الآيات ١٥ الى ٢٥]
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩)
فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤)
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥)
صحيح. أخرجه البخاري ١٠٣ والبغوي في «شرح السنة» ٤٢١٤ عن سعيد بن أبي مريم به. عن عائشة.
وأخرجه البخاري ٤٩٣٩ ومسلم ٢٨٧٦ ح ٧٩ والترمذي ٣٣٣٧ وأحمد ٦/ ٤٧ والطبري ٣٦٧٣٦ وابن حبان ٧٣٦٩ والقضاعي ٣٣٨ من طرق عن أيوب عن ابن أبي مليكة. وأخرجه البخاري ٤٩٣٩ و ٦٥٣٦ والترمذي ٢٤٢٦ و ٣٣٣٧ والطبري ٣٦٧٣٩ و ٣٦٧٤٠ من طرق عن ابن أبي مليكة به.
__________
(١) النساء: ١١.
420
قوله عزّ وجلّ: بَلى قال الفراء: المعنى: بلى ليحورون، ثم استأنف، فقال عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً قال المفسرون: بصيرا به على سائر أحواله.
قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ قد سبق بيانه.
وأمّا «الشفق» فقال ابن قتيبة: هما شفقان: الأحمر، والأبيض، فالأحمر: من لدن غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء ثم يغيب، ويبقى الشفق الأبيض إلى نصف الليل. وللمفسرين في المراد «بالشّفق» هاهنا ستة أقوال: أحدها: أنه الحمرة التي تبقى في الأفق بعد غروب الشمس.
(١٥٢١) وقد روى ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «الشفق: الحمرة»، وهذا قول عمر، وابنه، وابن مسعود، وعبادة، وأبي قتادة، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وأبي هريرة، وأنس، وابن المسيّب، وابن جبير، وطاوس، ومكحول، ومالك، والأوزاعي، وأبي يوسف، والشافعي، وأبي عبيد، وأحمد، وإسحاق، وابن قتيبة، والزجاج. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول وعليه ثوب مصبوغ كأنه الشفق، وكان أحمر.
والثاني: أنه النهار. والثالث: الشمس، روي القولان عن مجاهد. والرابع: أنه ما بقي من النهار، قاله عكرمة. والخامس: السواد الذي يكون بعد ذهاب البياض، قاله أبو جعفر بن محمّد بن علي.
والسادس: أنه البياض، قاله عمر بن عبد العزيز.
قوله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ أي: وما جمع وضم. وأنشدوا:
إنَّ لنا قَلائصَاً حَقَائِقا مُسْتَوْسِقَاتٍ لو يَجِدْنَ سَائِقَا «١»
قال أبو عبيدة: وَما وَسَقَ ما علا فلم يمنع منه شيء، فإذا جلل الليل الجبال، والأشجار، والبحار، والأرض، فاجتمعت له، فقد وسقها. وقال بعضهم: معنى: «ما وسق» : ما جمع مما كان منتشراً بالنهار في تصرّفه إلى مأواه.
قوله عزّ وجلّ: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ قال الفرّاء: اتّساقه: واجتماعه واستواؤه ليلة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، إلى ستّ عشرة.
قوله عزّ وجلّ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قرأ ابن كثير، وحمزة والكسائيّ «لتركبن» بفتح التاء والباء جميعا، وفي معناه قولان: أحدهما: أنه خطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم. ثم في معناه قولان: أحدهما: لتركبنَّ سماءً بعد سماءٍ، قاله ابن مسعود، والشعبي، ومجاهد. والثاني: لتركبن حالاً بعد حال، قاله ابن عباس، وقال: هو نبيُّكم.
والقول الثاني: أن الإشارة إلى السماء. والمعنى: أنها تتغير ضروباً من التغيير، فتارة كالمُهْل، وتارةً كالدِّهان، روي عن ابن مسعود أيضا.
الصحيح موقوف. أخرجه الدارقطني ١/ ٢٦٩ من حديث ابن عمر، وفي إسناده عتيق بن يعقوب، وهو لم يسمع من مالك. وورد من وجه آخر موقوفا، أخرجه الدارقطني ١/ ٢٦٩، وهو الراجح، وكذا روي عن جماعة من الصحابة موقوفا، وهو أصح، والله أعلم.
__________
(١) الرجز في «ملحق ديوان العجاج» ٨٤، وهو في «مجاز القرآن» ٢/ ٢٩١ و «اللسان» وسق.
421
قرأ عاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «لتركبنَّ» بفتح التاء وضم الباء، وهو خطاب لسائر الناس ومعناه: لتركبنَّ حالاً بعد حال. وقرأ ابن مسعود، وأبو الجوزاء، وأبو الأشهب «ليركبنّ» بالياء، ونصب اللام. وقرأ أبو المتوكل، وأبو عمران، وابن يعمر «ليركبنّ» بالياء، ورفع الباء. و «عن» بمعنى «بعد». وهذا قول عامّة المفسّرين واللغويين، وأنشدوا للأقرع بن حابس:
إنّي امْرُؤٌ قد حَلَبْتُ الدَّهْرَ أَشْطَرَهُ وَسَاقَنِي طَبَقٌ منه إلى طَبَقِ
ثم في معنى الكلام خمسة أقوال «١» : أحدها: أنه الشدائد، والأهوال، ثم الموت، ثم البعث، ثم العرض، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الرخاء بعد الشدة، والشدة بعد الرخاء، والغنى بعد الفقر، والفقر بعد الغنى، والصحة بعد السقم، والسقم بعد الصحة، قاله الحسن. والثالث: أنه كون الإنسان رضيعاً ثم فطيماً ثم غلاما ثم شاباً ثم شيخاً، قاله عكرمة. والرابع: أنه تغير حال الإنسان في الآخرة بعد الدنيا، فيرتفع من كان وضيعاً، ويتضع من كان مرتفعاً، وهذا مذهب سعيد بن جبير. والخامس: أنه ركوب سنن من كان قبلهم من الأولين، قاله أبو عبيدة. وكان بعض الحكماء يقول: من كان اليوم على حالة، وغداً على حالة أخرى، فليعلم أن تدبيره إلى سواه.
قوله عزّ وجلّ: فَما لَهُمْ يعني: كفار مكة لا يُؤْمِنُونَ بمحمّد والقرآن، وهو استفهام إنكار وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ فيه قولان: أحدهما: لا يصلُّون، قاله عطاء، وابن السائب.
والثاني: لا يخضعون له، ويستكينون، قاله ابن جرير، واختاره القاضي أبو يعلى. قال: وقد احتج بها قوم على وجوب سجود التلاوة، وليس فيها دلالة على ذلك، وإنما المعنى: لا يخشعون، ألا ترى أنه أضاف السجود إلى جميع القرآن، والسجود يختص بمواضع منه.
قوله عزّ وجلّ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ بالقرآن، والبعث، والجزاء وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ في صدورهم ويضمرون في قلوبهم من التكذيب. قال ابن قتيبة: «يوعون» : يجمعون في قلوبهم. وقال الزجاج: يقال: أوعيت المتاع في الوعاء، ووعيت العلم.
قوله عزّ وجلّ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي: أخبرهم بذلك. وقال الزجاج: اجعل للكفار بدل البشارة للمؤمنين بالجنة والرحمة، العذابَ الأليم. و «الممنون» عند أهل اللغة: المقطوع.
(١) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١٢/ ٥١٦: والصواب من التأويل قول من قال: لتركبن أنت يا محمد حالا بعد حال، وأمرا بعد أمر من الشدائد، والمراد بذلك- وإن كان الخطاب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم موجها- جميع الناس، أنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالا.
422
Icon