مدنية. ولها أسماء أخر : سورة براءة ؛ لتبرئتها من المنافقين، والمقشقشة، أي ؛ المبرئة من النفاق، والبَحوث ؛ لبحثها عن أحوال المنافقين، والمبعثرة والمنقرة والمثيرة، والحافرة ؛ لأنها بعثرت ونقرت وأثارت وحفرت عن أحوال المنافقين، والمخزية، والفاضحة، والمنكلة، والمشردة، والمدمدمة، وسورة العذاب ؛ لأنها أخزت المنافقين، وفضحتهم، ونكلتهم، وشردتهم، ودمدمت عليهم، وذكرت ما أعد الله لهم من العذاب.
وآياتها : مائة وثلاثون، وقيل : تسع وعشرون. ومناسبتها : قوله :﴿ إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير ﴾ [ الأنفال : ٧٢ ]، فذكر في هذه السورة نقض ذلك الميثاق.
واتفقت المصاحف والقراء على ترك البسملة في أولها، فقال عثمان رضي الله عنه : أشبهت معانيها معاني الأنفال، أي : لأن في الأنفال ذكر العهود وفي براءة نبذها. وكانتا تدعى القرينتين في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك قرنت بينهما ووضعتهما في السبع الطوال١، وكان الصحابة قد اختلفوا : هل هما سورة واحدة أو سورتان ؟ فتركت البسملة بينهما لذلك. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : البسملة أمان، وبراءة نزلت بالسيف، فلذلك لم تبدأ بالأمان. وقال البيضاوي : لما اختلف الصحابة في أنهما سورة واحدة، وهي سابعة السبع الطوال، أو سورتان، تركت بينهما فرجة، ولم تكتب بسم الله. ه.
﴿ بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ * ﴿ فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ﴾
قلت :( براءة ) : خبر عن مضمر، أي : هذه براءة و( مِنَ ) : ابتدائية، متعلقة بمحذوف، أي : واصلة من الله، و( إلى الذين ) : متعلقة به أيضاً، أو مبتدأ لتخصيصها بالصفة، و( إلى الذين ) : خبر.
يقول الحق جل جلاله : هذه ﴿ براءة ﴾ أي : تبرئة ﴿ من الله ورسوله ﴾ واصلة ﴿ إلى الذين عاهدتم من المشركين ﴾، فقد تبرأ الله ورسوله من كل عهد كان بين المشركين والمسلمين، لأنهم نكثوا أولاً، إلا أناساً منهم لم ينكثوا، وهم بنو ضمرة وبنو كنانة، وسيأتي استثناؤهم. قال البيضاوي : وإنما علقت البراءة بالله وبرسوله، والمعاهدة بالمسلمين ؛ للدلالة على أنه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم، وإن كانت صادرة بإذن الله واتفاق الرسول ؛ فإنهما برئا منها. ه.
وقال ابن جزي : وإنما أسند العهد إلى المسلمين ؛ لأن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لازم للمسلمين، وكأنهم هم الذين عاهدوا المشركين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عقد العهد مع المشركين إلى آجال محدودة، فمنهم من وفّى، فأمر الله أن يتم عهده إلى مدته، ومنهم من نقص أو قارب النقض، وجعل له أجل أربعة أشهر، وبعدها لا يكون له عهد. ه.
وقال القشيري : إنْ قَطَعَ عنهم الوصلة فقد ضَرَبَ لهم مدةً على وجه المُهْلَةِ، فأَمَّنهُم في الحَالِ ؛ ليتأهبوا لتَحمُّل مقاساةِ البراءةِ فيما يستقبلونه في المآلِ. والإشارة فيه : أنهم إنْ أقلعوا في هذه المهلة عن الغَيِّ والضلال، وجدوا في المآل ما فقدوا من الوصال. وإنْ أبَوْا إلا التمادي في تَرْكِ الخدمة والحرمة، انقطع ما بينه وبينهم من الوصلة. هـ. والله تعالى أعلم.
وهذه الأربعة الأشهر : شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، لأنها نزلت في شوال، وقيل : هي عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأول، وعشر من الآخر، لأن التبليغ كان يوم النحر ؛ لما روي ( أنها لَمّا نزلت أرسل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه راكبِاً العَضْبَاءَ ليَقْرأَهَا عَلى أهل المَوْسِم، وكان قد بعث أبا بكرٍ رضي الله عنه أميراً على الموسم، فقيل : لو بَعَثْتَ بها إِلى أَبَي بكرٍ ؟ فقال :" لا يُؤَدِّي عَنَّي إلا رَجُلٌ مِنِّي " فَلَمَّا دَنَا عَليٌّ رضي الله عنه، سَمِعَ أَبُو بَكرٍ الرُّغاءَ، فوقف وَقَال : هذا رُغاء ناقَةِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فوقف، فلمَّا لَحِقَهُ قال : أَمير أو مَأمُورٌ ؟ قال : مَأمُورٌ، فلما كان قبل الترْويَة خَطَبَ أبو بكر رضي الله عنه، وحَدَّثَهُمْ عَنْ مَنَاسِكَهِم، وقَامَ عليٌّ كرم الله وجهه يومَ النَّحر، عند جَمْرَةِ العَقَبَةِ، فقال : يا أَيُّها النّاس، إني رَسُولُ رَسولِ اللَّهِ إليكم، فقالوا : بماذا ؟ فَقَرأَ عليهمْ ثلاثين أوْ أرْبعين آيةً من أول السورة، ثم قال : أمرْتُ بأربَعٍ : أَلا يَقْرب البَيْتَ بعد هذا مُشركٌ، ولا يَطُوف بالبيت عُريَانٌ، ولا يَدخُلُ الجَنَّةَ إلا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٍ، وأن يَتِمَّ كُلّ ذِي عَهْدٍ عَهْدُهُ )١.
ولعل قوله صلى الله عليه وسلم :" ولا يؤدي عني إلا رجل مني " خاص بنقض العهود، لأنه قد بعث كثيراً من الصحابة ليؤدوا عنه، وكانت عادة العرب ألاّ يتولى العهد ونقضه على القبيلة إلا رجل منها. قاله البيضاوي مختصراً.
ثم قال تعالى لأهل الشرك :﴿ واعلموا أنكم غير مُعجزي الله ﴾ أي : لا تفوتونه، وإن أمهلكم، ﴿ وأن الله مُخزي الكافرين ﴾ في القتل والأسر في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة.
وقال القشيري : إنْ قَطَعَ عنهم الوصلة فقد ضَرَبَ لهم مدةً على وجه المُهْلَةِ، فأَمَّنهُم في الحَالِ ؛ ليتأهبوا لتَحمُّل مقاساةِ البراءةِ فيما يستقبلونه في المآلِ. والإشارة فيه : أنهم إنْ أقلعوا في هذه المهلة عن الغَيِّ والضلال، وجدوا في المآل ما فقدوا من الوصال. وإنْ أبَوْا إلا التمادي في تَرْكِ الخدمة والحرمة، انقطع ما بينه وبينهم من الوصلة. هـ. والله تعالى أعلم.
﴿ وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِياءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوااْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ * ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوااْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾
قلت :( وأذان ) : مبتدأ، أو خبر، على ما تقدم في براءة، وهو فَعال بمعنى إفعال ؛ كالعطاء بمعنى الإعطاء، أي : وإعلام من الله ورسوله واصل إلى الناس، ورفع " رسوله " ؛ إما عطف على ضمير برئ، أو على محل " إن " واسمها، أو مبتدأ حُذف خبره، أي : ورسوله كذلك.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وأذانٌ من الله ورسوله ﴾ وأصل إلى الناس، ويكون ﴿ يومَ الحج الأكبر ﴾ وهو يوم النحر ؛ لأن فيه تمام الحج ومعظم أفعاله، ولأن الإعلام كان فيه. ولما روي أنه عليه الصلاة والسلام وقف يوم النحر، عند الجمرات، في حجة الوداع فقال :" هذا يوم الحج الأكبر " ١، وقيل : يوم عرفة ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام :" الحج عرفة " ٢. ووصف الحج بالأكبر ؛ لأن العمرة تسمى الحج الأصغر.
وذلك الإعلام بأنَّ ﴿ الله بريء من المشركين ورسولُه ﴾ عليه الصلاة والسلام كذلك. قال البيضاوي ؛ ولا تكرار ؛ فإن قوله :﴿ براءة من الله ﴾ : إخبار بثبوت البراءة، وهذا إخبار بوجوب الإعلام بذلك، ولذلك علقه بالناس ولم يخص بالمعاهدين. ه. ﴿ فإن تُبْتُم ﴾ يا معشر الكفار ورجعتم عن الشرك، ﴿ فهو ﴾ أي : الرجوع ﴿ خيرٌ لكم ﴾، ﴿ وإن توليتم ﴾ أي : أعرضتم عن التوبة وأصررتم على الكفر ﴿ فاعلموا أنكم غيرُ معجزي الله ﴾ ؛ لا تفوتونه طلباً، ولا تعجزونه هرباً في الدنيا، ﴿ وبَشّرِ الذين كفروا بعذاب أليمٍ ﴾ في الآخرة.
٢ أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٢، باب ٢٢، وأبو داود في المناسك باب ٦٨، وابن ماجه في المناسك باب ٥٧، وأحمد في المسند ٤/٣٠٩..
﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ فإذا انسلخ الأشهر ﴾ أي : انقضى الأشهر، ﴿ الحُرم ﴾ وهي الأربعة التي أمهلهم فيها، فمن قال : إنها شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، فهي الحرم المعروفة، زاد فيها شوال، ونقص رجب، وسميت حرماً ؛ تغليباً للأكثر، ومن قال : إنها ذو الحجة إلى ربيع الثاني، فسميت حرماً ؛ لحرمتها ومنع القتال فيها حينئذٍ. وغلط من قال : إنها الأشهر الحرم المعلومة ؛ لإخلاله بنظم الكلام ومخالفته للإجماع ؛ لأنه يقتضي بقاء حرمة الأشهر الحرم. انظر البيضاوي.
فإذا انقضت الأربعة التي أمهلتهم فيها ﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ الناكثين ﴿ حيث وجدتموهم ﴾ من حل أو حرم، ﴿ وخُذوهم ﴾ أسارى، يقال للأسير : أخيذ، ﴿ واحصروهم ﴾ ؛ واحبسوهم ﴿ واقعدوا لهم كل مرصد ﴾ ؛ كل ممر وطريق ؛ لئلا ينبسطوا في البلاد، ﴿ فإن تابوا ﴾ عن الشرك وآمنوا، ﴿ وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة ﴾ ؛ تصديقاً لتوبتهم وإيمانهم ؛ ﴿ فخلوا سبيلهم ﴾ أي ؛ فدعوهم ولا تتعرضوا لهم بشيء من ذلك.
وفيه دليل على أن تارك الصلاة ومانع الزكاة لا يخلى سبيله، بل يقاتل ؛ كما فعل الصديق رضي الله عنه بأهل الردة. والآية : في معنى قوله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أُقَاتِل النَّاس حتَّى يَقُولوا لا إله إلا الله، ويُقيموا الصَّلاة ويُؤتوا الزَّكَاةَ. . . " الحديث١.
﴿ إن الله غفور رحيم ﴾، هو تعليل لعدم التعرض لمن تاب، أي : فخلوهم ؛ لأن الله قد غفر لهم، ورحمهم بسبب توبتهم.
الإشارة : فإذا انقضت أيام الغفلة والبطالة التي احترقت النفس فيها، فاقتلوا النفوس والقواطع والعلائق حيث وجدتموهم، وخذوا أعداءكم من النفس والشيطان والهوى، واحصروهم، واقعدوا لهم كل مرصد يتعرضون فيه لكم، فإن أذعنوا، وانقادوا، وألقوا السلاح، فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم.
﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ ﴾
قلت :" أحد " : فاعل يفسره :" استجارك ".
يقول الحق جل جلاله :﴿ وإنْ ﴾ أتاك ﴿ أحدٌ من المشركين ﴾ المأمورين بالتعرض لهم، حيثما وجدوا، ﴿ استجاركَ ﴾ ؛ يطلب جوارك، ويستأمنك، ﴿ فأجِرْهُ ﴾ أي : فأمنهُ ؛ ﴿ حتى يسمع كلامَ الله ﴾ ويتدبره، ويطلع على حقيقة الأمر، لعله يُسلم، ﴿ ثم أبلغه مأمنه ﴾ أي : موضع أمنه إن لم يسلم، ولا تترك أحداً يتعرض له حتى يبلغ محل أمنه ؛ ﴿ ذلك بأنهم قومٌ لا يعلمون ﴾ أي : ذلك الأمر الذي أمرتك به بسبب أنهم قوم لا علم لهم بحقيقة الإيمان، ولا تدعوهم إليه، فلا بد من إيجارهم، لعلهم يسمعون ويتدبرون ؛ فيكون ذلك سبب إيمانهم.
الإشارة : وإن استجارك أيها العارف أحد من عوام المسلمين ممن لم يدخل معكم بلاد الحقائق، وأراد أن يسمع شيئاً من علوم القوم، فأجره حتى يسمع شيئاً من علومهم وأسرارهم، فلعل ذلك يكون سبباً في دخوله في طريق القوم. ولا ينبغي للفقراء أن يطردوا من يأتيهم من العوام، بل يتلطفوا معهم، ويسمعوهم ما يليق بحالهم ؛ لأنَّ العوام لا علم لهم بما للخواص، فإن اطلعوا على ما خصهم الله به من العلوم دخلوا معهم، إن سبق لهم شيء من الخصوصية.
وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه : لا ينبغي لأهل الخصوصية أن يدخلوا بلد العموم إلا في جوار أحد منهم، وإلاّ أنكرته البلد ؛ لأن البلد أم تغير على غير أبنائها، ولا ينبغي أيضاً للعموم أن يدخلوا بلد الخصوص إلا في جوار رجل منهم، وإلا أنكرته البلد. ه.
﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ * ﴿ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ * ﴿ اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ * ﴿ لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ ﴾ * ﴿ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾
قلت :( إلا الذين ) : محله النصب على الاستثناء، أو جر على البدل من المشركين، أو رفع على الانقطاع، أي : لكن الذين عاهدتم فما استقاموا لكم، و( الإل ) : القرابة والحِلف.
يقول الحق جل جلاله : في استبعاد العهد من المشركين والوفاء به :﴿ كيف يكونُ للمشركين عهدٌ عند الله وعندَ رسوله ﴾ ؟ مع شدة حقدهم وعداوتهم للرسول وللمسلمين، مع ما تقدم لهم من النقض والخيانة فيه، ﴿ إلا الذين عاهدتُّم عند المسجد الحرام ﴾ قيل : هم المستثنون قبلُ. وقال ابن إسحاق : هي قبائل بني بكر، كانوا دخلوا وقت الحديبية، في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فلم يكن نقض إلا قريش وبنو الديل من بني بكر، فأُمر المسلمون بإتمام العهد لمن لم يكن نقض. وقال ابن عباس : هم قريش، وقال مجاهد : خزاعة، وفي هذين القولين نظر ؛ لأن قريشاً وخزاعة كانوا أسلموا وقت الأذان ؛ لأنهم أسلموا في الفتح، والأذان بعده بسنة.
قال تعالى في شأن من استثنى :﴿ فما استقاموا لكم ﴾ على العهد ولم يغدروا، ﴿ فاستقيمُوا لهم ﴾ على الوفاء، أي : تربصوا بهم وانتظروا أمرهم، فإن استقاموا لكم فاستقيموا لهم، ﴿ إِن الله يحب المتقين ﴾ الذين إذا عاهدوا وفوا، وإذا قالوا صدقوا.
مَا الفَخْرُ إِلاَّ لأَهْلِ العِلْمِ، إِنَّهُمُ | عَلَى الهُدَى لمن اسْتَهْدَى أدلاَّءُ |
وَقَدْرُ كل امرئ مَا كَانَ يُحسنهُ | والجَاهِلُون لأَهْلِ العلْمٍ أَعْدَاءُ |
ثم كرر استبعاد وفائهم فقال :﴿ كيف ﴾ يصح منهم الوفاء بعهدكم ﴿ و ﴾ هم ﴿ إن يظهرُوا عليكم ﴾ ويظفروا بكم في وقعة ﴿ لا يرقُبوا ﴾ أي : لا يراعوا ﴿ فيكم إلاَّ ﴾ ؛ قرابة أو حلفاً، وقيل : ربوبية، أي : لا يراعون فيكم عظمة الربوبية ولا يخافون عقابه، ﴿ ولا ذمَّةً ﴾ أي : عهداً، أو حقاً يعاب على إغفاله، ﴿ يُرضونكم بأفواههم ﴾ ؛ بأن يعدوكم بالإيمان والطاعة، والوفاء بالعهد، في الحال، مع استبطان الكفر والغدْر، ﴿ وتأبى ﴾ أي : تمنع ﴿ قلوبهم ﴾ ما تفوه به أفواههم، ﴿ وأكثرهم فاسقون ﴾ متمردون، لا عقيدة تزجرهم، ولا مروءة تردعهم، وتخصيص الأكثر ؛ لما في بعض الكفرة من التمادي على العهد، والتعفف عما يجر إلى أحدوثة السوء. قاله البيضاوي.
مَا الفَخْرُ إِلاَّ لأَهْلِ العِلْمِ، إِنَّهُمُ | عَلَى الهُدَى لمن اسْتَهْدَى أدلاَّءُ |
وَقَدْرُ كل امرئ مَا كَانَ يُحسنهُ | والجَاهِلُون لأَهْلِ العلْمٍ أَعْدَاءُ |
مَا الفَخْرُ إِلاَّ لأَهْلِ العِلْمِ، إِنَّهُمُ | عَلَى الهُدَى لمن اسْتَهْدَى أدلاَّءُ |
وَقَدْرُ كل امرئ مَا كَانَ يُحسنهُ | والجَاهِلُون لأَهْلِ العلْمٍ أَعْدَاءُ |
مَا الفَخْرُ إِلاَّ لأَهْلِ العِلْمِ، إِنَّهُمُ | عَلَى الهُدَى لمن اسْتَهْدَى أدلاَّءُ |
وَقَدْرُ كل امرئ مَا كَانَ يُحسنهُ | والجَاهِلُون لأَهْلِ العلْمٍ أَعْدَاءُ |
وقوله تعالى ؛ ﴿ في مؤمن ﴾ : فيه إشارة إلى أن عداوتهم إنما هي لأجل الإيمان فقط، وقوله أولاً :﴿ فيكم ﴾، كان يحتمل أن يظن ظان أن ذلك للإحن التي وقعت بينهم، فزال هذا الاحتمال بقوله :﴿ في مؤمن ﴾. قاله ابن عطية :﴿ وأولئك هم المعتدون ﴾ في الشرارة والقبح.
مَا الفَخْرُ إِلاَّ لأَهْلِ العِلْمِ، إِنَّهُمُ | عَلَى الهُدَى لمن اسْتَهْدَى أدلاَّءُ |
وَقَدْرُ كل امرئ مَا كَانَ يُحسنهُ | والجَاهِلُون لأَهْلِ العلْمٍ أَعْدَاءُ |
﴿ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ﴾ * ﴿ أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ ﴾ * ﴿ قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وإن نكثُوا أَيمانَهم ﴾ أي : نقضوها ﴿ من بعدِ عهدهم ﴾ أي : من بعد ما أعطوكم من العهود على الوفاء بها، ﴿ وطعنوا في دينكم ﴾ بصريح التكذيب وتقبيح الأحكام، ﴿ فقاتِلُوا أئمّةَ الكفر ﴾ أي : فقاتلوهم لأنهم أئمة الكفر، فوضع أئمة الكفر موضع الضمير ؛ للدلالة على أنهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة والتقدم في الكفر، فهم أحِقاء بالقتل، وقيل : المراد رؤساء المشركين، والتخصيص : إما لأن قتلهم أهم وهم أحق به، أو للمنع من مراقبتهم، ﴿ إنهم لا أَيمان لهم ﴾ على الحقيقة، وإلاًَّ لم يقدروا أن ينكثوها، واستشهد به الحنفية على أن يمين الكافر لا تلزم، وهو ضعيف ؛ لأن المراد، نفي الوثوق عليها، لا أنها ليست بأيمان. قاله البيضاوي. قلت : وما قالته الحَنَفِيِّةُ هو مذهب المالكية، إذا حنث في حال الكفر، ثم أسلم، فلا يلزمه شيء. وقرأ ابن عامر بكسر الهمزة، أي : لا أيمان لهم صحيحاً يعصم دماءهم.
﴿ لعلهم ينتهون ﴾ أي : ليكن غرضكم في مقاتلتهم أن ينتهوا عما هم عليه، كما هي طريقة أهل الإخلاص لا إيصال الإذاية لهم، أو مقابلة عداوة.
والآية من المعجزات. قاله البيضاوي. وهذا يقتضي أن هذا التخصيص كان قبل الفتح، فيلتئم مع ما بعده، ويبعد اتسامه مع ما قبله من البراءة، ونبذ العهد والإعلام بذلك ؛ لكونه بعد الفتح، والله أعلم. قاله المحشي. ويمكن الجواب بأن يكون صدر السورة بعد الفتح، وبعضها ؛ من قوله :( وإن أحد من المشركين. . . ) إلخ نزل قبل الفتح، فإن الآيات كانت تنزل متفرقة فيقول صلى الله عليه وسلم :" اجعلوا هذه الآية في محل كذا ". والله تعالى أعلم.
ثم أخبر تعالى بأن بعض المشركين يتوب من كفره بقوله :﴿ ويتوبُ اللَّهُ على من يشاءُ ﴾ هدايته، فيهديه للإيمان، ثم يتوب عليه، وقد كان ذلك في كثير منهم. ﴿ والله عليمٌ ﴾ بما كان ويكون، ﴿ حكيم ﴾ لا يفعل ولا يحكم إلا على وفق حكمته.
﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾
قلت :" أم " : منقطعة، بمعنى الهمزة ؛ للإنكار والتوبيخ على الحسبان، والخطاب للمؤمنين أو المنافقين، والوليجة : البطانة والصحبة.
يقول الحق جل جلاله :﴿ أم حسبتم ﴾ أي : أظننتم ﴿ أن تُتْركُوا ﴾ من غير اختبار، ﴿ ولمَّا يعلمِ الله الذين جاهدُوا منكم ﴾ أي : ولم يتبين الخلَّص منكم، وهم الذين جاهدوا، من غيرهم، والمراد : علمَ ظهور، أي : أظننتم أن تتركوا ولم يظهر منكم المجاهد من غيره، قال البيضاوي : نفى العلم، وأراد نفي المعلوم ؛ للمبالغة، فإنه كالبرهان عليه من حيث إن تعلق العلم به مستلزم لوقوعه. ه. بل يختبركم حتى يظهر الذين جاهدوا منكم.
﴿ ولم يتخِذوا من دون الله ولا رسولِه ولا المؤمنين وَليجَةً ﴾ ؛ بطانة، أي : جاهدوا وأفردوا محبتهم لله ولرسوله وللمؤمنين، ولم يتخذوا من دونهم بطانة، أي أصحاب سرٍ يوالونهم ويبثون إليهم أسرارهم، بل اكتفوا بمحبة الله ومودة رسول الله والمؤمنين، دون موالاة من عاداهم، والتعبير ب ( لما ) : يقتضي أن ظهورَ ذلك متوقع، ﴿ واللَّهُ خبيرٌ بما تعملون ﴾ : تهديد لمن يفعل ذلك.
الإشارة : إفراد المحبة لله ولأولياء الله من أعظم القربات إلى الله، وأقرب الأمور الموصلة إلى حضرة الله، والالتفات إلى أهل الغفلة ؛ بالصحبة والمودة، من أعظم الآفات والأسباب المبعدة عن اللهِ، والعياذ بالله. وفي الحديث :" المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيله " و " المَرْءُ مَعَ مَنْ أحَبَّ " و " مَنْ أَحَبْ قَوْماً حُشِرَ مَعَهم " إلى غير ذلك من الآثار في هذا المعنى.
﴿ مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ﴾ * ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَائِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ما كان للمشركين ﴾ أي : ما صح لهم ﴿ أن يعمرُوا مساجدَ الله ﴾ أي : شيئاً من المساجد، فضلاً عن المسجد الحرام، وقيل : هو المراد، وإنما جمع ؛ لأنه قبلة المساجد وإمامها، فأمره كأمرها، ويدل عليه قراءة من قرأ بالتوحيد، أي : ليس لهم ذلك، وإن كانوا قد عمروه تغلباً وظلماً، حال كونهم ﴿ شاهدين على أنفسهم بالكفر ﴾ ؛ بإظهار الشرك وتكذيب الرسول، أي : ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متباينين : عمارة بيت الله، وعبادة غير الله، ﴿ أولئك حَبِطَتْ أعمالُهم ﴾ في الدنيا والآخرة ؛ لما قارنها من الشرك والافتخار بها، ﴿ وفي النار هم خالدون ﴾ ؛ لأجل كفرهم.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال الله تعالى :" إِنَّ بُيُوتِي في أَرْضِي المَسَاجدُ وإنَّ زُوَّاري فيهَا عُمَّارُهَا، فَطُوبى لعَبْدٍ تَطَهَّرَ في بَيْتِهِ، ثُمَّ زَارَني في بَيْتِي، فَحَقٌ عَلَى المَزُوِر أَنْ يُكْرِمَ زَائِرَه " ١. ووقف عبد الله بن مسعود على جماعة في المسجد يتذاكرون العلم فقال : بأبي وأمي العلماء، بروح الله ائتلفتم، وكتاب الله تلوتم، ومسجد الله عمرتم، ورحمة الله انتظرتم، أحبكم الله، وأحب من أحبكم. ه.
وإنما لم يذكر الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لما علم أن الإيمان بالله قرينُه وتمامه الإيمانُ به، ولدلالة قوله :" وأقام الصلاة وآتى الزكاة " عليه. قال البيضاوي.
﴿ ولم يخش ﴾ في أموره كلها ﴿ إلا الله ﴾، فهذا الذي يصلح لعمارة بيت الله، ﴿ فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ﴾، وعبَّر بعسى، قطعاً لأطماع المشركين في الاهتداء والانتفاع بأعمالهم، وتوبيخاً لهم على القطع بأنهم مهتدون ؛ فإن كان اهتداء هؤلاء، مع كمالهم، ودائراً بين عسى ولعل، فما ظنك بأضدادهم ؟، ومنعاً للمؤمنين أن يغتروا بأحوالهم فيتكلوا عليها. وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم :" مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَتَعَاهَدُ المسجِد فاشهدوا لَهُ بالإيمان " ثم تلا الآية٢.
٢ أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٨، باب ٢..
﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ * ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ * ﴿ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ﴾ * ﴿ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾
قلت : السقاية والعمارة : مصدران، فلا يشبهان بالجثة، فلا بد من حذف، أي : أجعلتم أهل سقاية الحاج كمن آمن، أو جعلتم سقاية الحاج كإيمان من آمن.
يقول الحق جل جلاله :﴿ أجعلتُم ﴾ أهل ﴿ سِقَايةَ الحاجِّ، و ﴾ أهل ﴿ عمارة المسجدِ الحرام ﴾ من أهل الشرك المحبطة أعمالُهم، ﴿ كمن آمن باللَّهِ واليوم الآخر ﴾ من أهل الإيمان، ﴿ وجاهَد في سبيل الله ﴾ ؛ لإعلاء كلمة الله، المثبتة أعمالهم، بل ﴿ لا يستوون عند الله ﴾ أبداً ؛ لأن أهل الشرك الذين حبطت أعمالهم في أسفل سافلين، إن لم يتوبوا، وأهل الإيمان والجهاد في أعلى عليين.
ونزلت الآية في علي كرم الله وجهه والعباس وطلحة بن شيبة، افتخروا، فقال طلحة : أنا صاحب البيت، وعندي مفاتحه، وقال العباس : أنا صاحب السقاية، وقال علي رضي الله عنه : لقد أسلمت وجاهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيَّن الله تعالى أن الإيمان والجهاد أفضل، ووبخ من افتخر بغير ذلك فقال :﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ أي : الكفرة الذين ظلموا أنفسهم بالشرك، ومعاداة الرسول صلى الله عليه وسلم، وداموا على ذلك، وقيل : المراد بالظالمين : الذين يسوون بينهم وبين المؤمنين.
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ * ﴿ قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم ﴾ ؛ الذين بقوا على كفرهم ﴿ أولياءَ ﴾ ؛ توالونهم بالمحبة والطاعة، ﴿ إِن استحبوا الكفرَ ﴾ واختاروه على الإيمان. نزلت في شأن المهاجرين ؛ فإنهم لما أُمروا بالهجرة قالوا : إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا، وذهبت تجارتنا، وبقينا ضائعين. وقيل : نزلت فيمن ارتد ولحق بمكة، فنهى الله عن موالاتهم. ﴿ ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون ﴾ ؛ بوضعهم الموالاة في غير موضعها.
ولإبراهيم بن أدهم رضي الله عنه :
هَجَرْتُ الخَلْقَ طُرّاً في رِضاكَا | وأَيْتَمْتُ البَنينَ لِكَيْ أَرَاكَا |
فَلَوْ قَطَّعْتَني إِرْباً فَإرْباً | لِمَا حنَّ الفُؤَادُ إِلَى سِوَاكَا |
ثم هدد من وقف مع حب الأوطان بقوله :﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ لا يرشدهم ولا يوفقهم. وفي الآية تهديد عظيم، وقلَّ من تحفظ عنه. قاله البيضاوي.
ولإبراهيم بن أدهم رضي الله عنه :
هَجَرْتُ الخَلْقَ طُرّاً في رِضاكَا | وأَيْتَمْتُ البَنينَ لِكَيْ أَرَاكَا |
فَلَوْ قَطَّعْتَني إِرْباً فَإرْباً | لِمَا حنَّ الفُؤَادُ إِلَى سِوَاكَا |
﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ ﴾ * ﴿ ثُمَّ أَنَزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذالِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ ﴾ * ﴿ ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذالِكَ عَلَى مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
قلت :﴿ ويوم حنين ﴾ : عطف على ﴿ مواطن ﴾، أو منصوب بفعل مضمر، وهذا أحسن ؛ لأن قوله :﴿ إذ أعجبتكم كثرتكم ﴾ خاص بيوم حنين. انظر : ابن جزي.
يقول الحق جل جلاله : في تذكيرهم بالنعم :﴿ لقد نصَركُم اللَّهُ في مواطنَ كثيرةٍ ﴾ أي : في مواقف الحرب ومداحضها في مواضع كثيرة، ﴿ و ﴾ نصركم أيضاً ﴿ يومَ حُنينٍ ﴾، وهي غزوة كانت بعد فتح مكة، متصلة بها، في موضع يقال له : حنين، سمي باسم رجل كان يسكنه، وهو وادٍ بين مكة والطائف، حارب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون، وكانوا اثني عشر ألفاً : عشرة آلاف من الذين حضروا فتح مكة، وألفان انضموا إليهم من الطلقاء، قاتلوا هوازن وثقيف ومن انضم إليهم من قبائل العرب. وكانوا ثلاثين ألفاً، فلما التقوا مع بعض المشركين قال بعض المسلمين : لن نُغلَبَ اليوم من قلة، إعجاباً بكثرتهم، واقتتلوا قتالاً شديداً، فأدرك المسلمين إعجابهم، واعتمادهم على كثرتهم، فانهزموا حتى وصل جُلهم إلى مكة، وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه، ليس معه إلا عمه العباس، آخذاً بلجامه، وابن عمه أبو سفيان بن الحارث، وناهيك شهادة على تناهي شجاعته صلى الله عليه وسلم، فقال العباس وكان صيِّتاً : صِحْ بالناس، فنادى : يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فكروا عنقاً واحداً، يقولون : لبيك لبيك، ونزلت الملائكة، فالتقوا مع المشركين، فقال عليه الصلاة والسلام :" هذا حين حَمِي الوَطيس١ "، ثم أخذ كفاً من تراب فرماهم، وقال : شاهت الوجوه، ثم قال :" انهزموا وربِّ الكعبة "، فانهزموا٢.
فأشار تعالى إلى مقالتهم معاتباً لهم عليها بقوله :﴿ إذْ أعجبتكُم كثرتُكم فلم تُغن عنكم شيئاً ﴾ أي : فلم تُغن تلك الكثرة عنكم شيئاً من الإغناء، أو من أمر العدو. وهذه المقالة صدرت من غير النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ؛ لأنه معصوم من الإعجاب، وإن ثبت أنه قال ذلك فليس على وجه الإعجاب، بل على وجه الإخبار، وعلى ذلك جرى الحكم في المذهب : من حرمة الفرار عند بلوغ اثني عشر ألفاً، وكان المسلمون يومئذ اثني عشر ألفاً بالطلقاء ؛ وهم مسلمة الفتح : وكانوا ألفين، وسُموا بالطلقاء ؛ لمنّ النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، يقال لمن أطلق من أسر : طليق، وجمعه على طلقاء نادر ؛ لأنه يشترط في فعيل، الذي يجمع على فعلاء، أن يكون بمعنى فاعل، كظريف وشريف، لا بمعنى مفعول، كدفين ودفنى، وسخين وسخنى، ومنه. طليق.
ثم قال تعالى :﴿ وضاقتْ عليكم الأرضُ بما رحُبَتْ ﴾ ؛ برحبها، أي : ضاقت على كثرة اتساعها، فلم تجدوا فيها مكاناً تطمئن إليه نفوسكم من الدهش، ﴿ ثم وليتم مدبرين ﴾ ؛ هاربين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الورتجبي : قوله تعالى :﴿ ثم أنزل الله سكينته على رسوله ﴾، سكينته ـ عليه الصلاة والسلام ـ زيادة أنوار كشف مشاهدة الله، له، حين خاف من مكر الأزل، فأراه الله اصطفائيته الأزلية، وأمنه من مكره، لا أنه ينظر من الحق إلى نفسه طرفة عين، لكن إذا غاب في بحر القدم لم ير للحدث أثراً، ورأى الحدثان متلاشية في فيض العظمة، ففزع منه به، فآواه الله منه إليه، حتى سكن به عنه. هـ.
٢ أخرجه مسلم في الجهاد حديث ٧٦، وأحمد في المسند ١/٢٠٧..
وإعادة الجار ؛ للتنبيه على اختلاف حالهما.
﴿ وأنزل جنوداً ﴾ من الملائكة ﴿ لم تروها ﴾ بأعينكم، وكانوا خمسة آلاف، أو ثمانية، أو ستة عشر، على اختلاف الأقوال. ﴿ وعذَّبَ الذين كفروا ﴾ بالقتل والأسر والسبيٍ، ﴿ وذلك جزاءُ الكافرين ﴾ أي : ما فعل بهم هو جزاء كفرهم في الدنيا.
قال الورتجبي : قوله تعالى :﴿ ثم أنزل الله سكينته على رسوله ﴾، سكينته ـ عليه الصلاة والسلام ـ زيادة أنوار كشف مشاهدة الله، له، حين خاف من مكر الأزل، فأراه الله اصطفائيته الأزلية، وأمنه من مكره، لا أنه ينظر من الحق إلى نفسه طرفة عين، لكن إذا غاب في بحر القدم لم ير للحدث أثراً، ورأى الحدثان متلاشية في فيض العظمة، ففزع منه به، فآواه الله منه إليه، حتى سكن به عنه. هـ.
رُوي أن أناساً منهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسْلَمُوا، وقالوا : يا رسولَ الله، أنْتَ خيرُ الناس وأبرهم، وقد سُبي أهلُونا وأولادُنا، وأُخِذَتْ أموالُنَا وقد سُبي يومئذ ستة آلاف نفس، وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى، فقال :" اختاروا، إما سَبْيكُمْ، وإما أمْوالَكُم ". فقالوا ما كُنَّا نَعدِلُ بالأحسابِ شيئا، فمنْ كان بيَدِهِ سبي فطابتْ نفسُهُ أنْ يرُدَّهُ فشأنُهُ، ومن لا، فليُعْطِنَا، وليكُنْ قَرْطاً علينا حتَّى نُصيب شيئاً فنُعطِيِه مثله "، فقالوا : رضينا وسَلَّمنا، فقال :" إنِّي لا أدري، لَعَلَّ فِيكُمْ مَنْ لا يَرضَى، فارجعوا حتى يرفع إِليَّ عُرفَاؤكُمُ أمرَكم " فرفعوا إليه أمْرَهمْ، وقالوا : قد رضُوا، فردَّ السبي إليهم، وقسم الأموال في المؤلفة قلوبهم، ترغيباً في تسكين قلوبهم للإسلام. والغزوة مطولة في كتب السيرة، والله تعالى أعلم.
قال الورتجبي : قوله تعالى :﴿ ثم أنزل الله سكينته على رسوله ﴾، سكينته ـ عليه الصلاة والسلام ـ زيادة أنوار كشف مشاهدة الله، له، حين خاف من مكر الأزل، فأراه الله اصطفائيته الأزلية، وأمنه من مكره، لا أنه ينظر من الحق إلى نفسه طرفة عين، لكن إذا غاب في بحر القدم لم ير للحدث أثراً، ورأى الحدثان متلاشية في فيض العظمة، ففزع منه به، فآواه الله منه إليه، حتى سكن به عنه. هـ.
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نَجَس ﴾ أي : عين الخبث، مبالغة في خبثهم، إما لخبث باطنهم بالكفر، أو لأنهم لا يتطهرون من النجاسات، ولا يتوقون منها، فهم ملابسون لها غالباً. وعن ابن عباس رضي الله عنه : أن أعيانهم نجسة كالكلاب. قاله البيضاوي. ﴿ فلا يقربوا المسجدَ الحرام ﴾، وهو نص على منع المشركين وهم عبدة الأوثان من المسجد الحرام، وهو مجمع عليه، وقاس مالك على المشركين جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم، وقاس على المسجد الحرام سائر المساجد، ومنع جميع الكفار من جميع المساجد.
وجعلها الشافعي عامة في الكفار، خاصةً بالمسجد الحرام، فمنع جميع الكفار من دخول المسجد الحرام خاصة، وأباح دخول غيره، وقصرها أبو حنيفة على موضع النهي، فمنع المشركين خاصة من دخول المسجد الحرام وأباح لهم سائر المساجد، وأباح دخول أهل الكتاب في المسجد الحرام وغيره. قاله ابن جزي.
قوله تعالى :﴿ بعدَ عامهم هذا ﴾ يعني : سنة تسع من الهجرة، حين حج أبو بكر بالناس، وقرأ عليٌّ رضي الله عنه عليهم سورة براءة.
﴿ وإن خِفْتُمْ عَيلةً ﴾ أي : فقرأ بسبب منع المشركين من الحرم، وكانوا يجلبون لها الطعام، فخاف الناس قلة القوت منها، إذا انقطع المشركون عنهم، فوعدهم الله بالغنى بقوله :﴿ فسوف يغْنيِكُم الله من فضله ﴾ ؛ من عطائه وتفضله بوجه آخر. وقد أنجز وعده بأن أرسل السماء عليهم مدراراً، وأسلمت العرب كلها، وتمادى جلب الطعام إلى مكّة، ثم فتح عليهم البلاد، وجلبت لهم الغنائم، وتوجه الناس إليهم من أقطار الأرض، وما زال كذلك إلى الآن.
وقيده بالمشيئة ؛ لتنقطع الآمال إلى الله، ولينبه على أنه متفضل في ذلك وإن الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض، وفي عام دون عام، ﴿ إن الله عليمٌ ﴾ بأحوالكم، ﴿ حكيم ﴾ فيما يعطي ويمنع.
الإشارة : بيوت الحضرة وهي القلوب المقدسة لا ينبغي أن يدخلها شيء من شرك الأسباب، أو الوقوف مع رفق الأصحاب، أو الركون إلى معلوم حتى يفرد التعلق بالحي القيوم، ولا ينبغي أيضاَ أن يدخلها شيء من نجاسة حس الدنيا وأكدارها وأغيارها، فيجب على أربابها الفرار من مواطن الكدر، والعزلة عن أربابها ؛ لئلا يدخل فيها شيء من نجاستها، فتموت بعد حياتها، وكان عيسى عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه :( لا تجالسوا الموتى فتموت قلوبكم، قالوا : من الموتى يا روح الله ؟ قال : المحبون للدنيا الراغبون فيها ). فإن خفتم علية ؛ بالفرار منهم واعتزال نجاستهم، فسوف يغنيكم الله من فضْلِ غَيْبه إن شاء في الوقت الذي يشاء، إذ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. والله تعالى أعلم.
قال القشيري :﴿ إنما المشركون نجس ﴾ أي : لأنهم فقدوا طهارة الأسرار، فبقوا في مزابل الظنون والأوهام، فَمُنِعُوا قُربانَ المساجد التي هي مساجدُ القرب، وأما المؤمنون فطهَّرهم عن التدنُّس بشهود الأغيار، فطالعوا الحقَّ فرْدا فيما ينشيه من الأمر ويُمضيه من الحُكم. ه.
﴿ قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله للمؤمنين :﴿ قاتِلوا ﴾ أهل الكتاب من اليهود والنصارى ﴿ الذين لا يؤمنون بالله ﴾ على ما يجب له، لإشراكهم عُزير وعيسى، ولتجسيمهم، ﴿ ولا باليوم الآخر ﴾ ؛ لأنهم ينكرون المعاد الجسماني، فإيمانهم في الجانبين كلا إيمان ﴿ ولا يحرِّمون ما حرَّمَ الله ورسولُه ﴾ محمّد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم يحلون الخمر والميتة والدم ولحم الخنزير، وغير ذلك مما حرمته الشريعة المحمدية، ﴿ ولا يَدينونَ دينَ الحق ﴾ أي : لا يدخلون في الإسلام، الذي هو الدين الحق، الناسخ لسائر الأديان ومبطلها.
ثم بيَّن الذين أمر اللَّهُ بقتالهم بقوله :﴿ من الذين أوتوا الكتاب ﴾ ؛ وهم اليهود والنصارى، وحين نزلت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزوة تبوك لقتال النصارى، ووصل إلى أوائل بلد العدو، فصالح أهل أدرج وأيلة، وغيرهما، على الجزية وانصرف، وذلك امتثال للآية.
قال تعالى :﴿ حتى يُعطوا الجزية ﴾ أي : ما تقرر عليهم أن يعطوه، وقدْرها عند مالك : أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الورق، يؤخذ ذلك من كل رأس، واتفق العلماء على قبول الجزية من اليهود والنصارى، ويلحق بهم المجوس ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم :" سُنُّوا بِهِمْ سُنًّةَ أَهْلِ الكتاب " ١ ؛ لأن لهم شبهة كتاب، فألحقوا بهم. واختلفوا في قبولها من عَبدة الأوثان ؛ قال مالك : تؤخذ من كل كافر إلا المرتد، ولا تؤخذ من النساء والصبيان والمجانين.
وقوله تعالى :﴿ عن يدٍ ﴾ أي : يباشر إعطاءها بيده، لا يبعثها مع أحد، أو لا يمطل بها، كقولك : يداً بيد، أو عن استسلام وانقياد، كقولك : ألقى فلان بيده. ﴿ وهم صاغرون ﴾ ؛ أذلاء محقرون. وعن ابن عباس رضي الله عنه : تؤخذ الجزية من الذمي، وتوجأ عنقه، أي : تصفع.
الإشارة : يؤمر المريد بقتل نفسه وحظوظه وهواه، وأعظمها : حب الدنيا والرئاسة والجاه، ولا يزال يخالف هواها، ويعكس مراداتها، ويحملها ما يثقل عليها، حتى تنقاد إليه بالكلية، بحيث لا يثقل عليه شيء، ويستوي عندها العز والذل، والفقر والغنى، والمدح والذم، والمنع والعطاء، والفقد والوجد، فإن استوت عندها هذه الأحوال فقد أسلمت وأعطت ما يجب عليها، فيجب حفظها ورعايتها، وتصديقها فيما يرد عليها. وبالله التوفيق.
﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذالِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ * ﴿ اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَآ أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ * ﴿ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾ * ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾
قلت :( عزيز ) : مبتدأ، و( ابن الله ) : خبر، فمن نونه جعله مصروفاً ؛ لأنه عنده عربي، ومن حذف تنوينه : إما لمنعه من الصرف ؛ للعلمية والعجمية عنده، وإما لالتقاء الساكنين ؛ تشبيهاً للنون بحروف اللين، وهو ضعيف، والأول أحسن.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وقالت اليهودُ عُزَيرٌ ابنُ الله ﴾، قال ابن عباس : هذه المقالة قالها أربعة منهم، وهم : سَلامُ بن مُشْكم، ونُعْمَانُ أو لُقْمَانُ بْنُ أَوفَى، وشَاسُ بنُ قَيس، وَمَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ. وقيل : لم يقلها إلا فنحاص، ونسب ذلك لجميعهم ؛ لسكوتهم عنه. قال البيضاوي : إنما قال ذلك بعضهم من متقدميهم، أو ممن كانوا بالمدينة، وإنما قالوا ذلك ؛ لأنه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصر من يحفظ التوراة، وهو أي عزير لما أحياه الله بعد مائة عام، أملى عليهم التوراة حفظاً، فتعجبوا من ذلك، وقالوا : ما هذا إلا أنه ابن الله، والدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية قُرئت عليهم فلم يكذبوا مع تهالكهم على التكذيب. ه.
﴿ وقالت النصارى المسيحُ ابنُ الله ﴾، هو أيضاً قول بعضهم، وإنما قالوه استحالة أن يكون الولد بلا أب، أو لما كان يفعل من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وتقدم الرد عليهم، وسبب إدخال هذه الشبهة عليهم، في سورة المائدة١.
قال تعالى :﴿ ذلك قولُهم بأفواههم ﴾ من غير دليل ولا برهان، بل قالوا به من عندهم ﴿ يُضاهِئون ﴾ أي : يشابهون في هذه المقالة ﴿ قولَ الذين كفروا من قبلُ ﴾، يعني : قدماءهم، على معنى أن الكفر قديم فيهم. قال ابن جزي : فإن كان الضمير لليهود والنصارى، أي المتقدمين، فالإشارة بقوله :﴿ الذين كفروا من قبل ﴾ للمشركين من الغرب، إذ قالوا : الملائكة بنات الله، وهم أول كافر، أو للصابئين، أو لأمم تقدمت، وإن كان الضمير للمعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ من اليهود والنصارى، فالذين كفروا من قبل هم أسلافهم المتقدمون. ه.
﴿ قاتَلهُم اللَّهُ ﴾ أي : أهلكهم ودمرهم ؛ لأن من قاتله الله هلك، فيكون دعاء، أو تعجباً من شناعة قولهم، ﴿ أنَى يُؤفكون ﴾ أي : كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل.
فالوسائط ؛ كالأنبياء والأولياء، إنما هم مُوَصِّلونَ إلى الله، دالون عليه، فمن وقف معهم ولم ينفذ إلى الله فقد اتخذه رباً عند الخواص.
وقال الورتجبي على هذه الآية : عيَّر الحق تعالى من بقي في رؤية المقتدَى به دون رؤية الحق، وإن كان وسيلة منه، فإن في إفراد القدم من الحدوث، النظر إلى الوسائط، وهو شرك، وتصديق ذلك تمام الآية ؛ ﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً ﴾. غَيرهُ الوحدانية ما أبقت في البَيْن غيراً من الشواهد والآيات وجميع الخلق. قال الله تعالى :﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرهُم ﴾ [ الأنعام : ٩١ ]. ولما رأى صلى الله عليه وسلم غيرة القدم على شأن استهلاك الغير زجر من مدحه وتجاوز في المدح فقال :" لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ".
ثم قال الورتجبي : قال بعضهم في هذه الآية : سكنوا إلى أمثالهم، فطلبوا الحق من غير مظانه، وطُرق الحق واضحة لمن كحل بنور التوفيق، وبصر سبل التحقيق، ومن أعمي عن ذلك كان مردوداً عن طريق الحق إلى طرق الضالين من الخلق، وقد وقع أنهم معيرون وموبخون بقلة عرفانهم أهل الحقائق، وركونهم إلى أهل التقليد، وسقطوا عن منازل أهل التوحيد في التفريد، وهكذا شأن من اقتدى بالزواقين من أهل السالوس المتزينين بزي المشايخ والعارفين المتحققين، وتخلفَ خلفَ الجامعين للدنيا، الذين يقولون : نحن أبناء المشايخ ونحن رؤساء الطريقة، يُضْحك اللهُ الدهرَ من جهلهم حيث علموا أن الولاية بالنسب، حاشا أن من لم يُذق طعمِ وِصال الله، وقلبُه معلق بغير الله، هو من أولياء الله.
قال الجنيد : إذا أراد الله بالمريد خيراً هداه إلى صحبة الصوفية، ووقاه من صحبة القراء. ولو اشتغلوا بشأنهم وجمع دنياهم، ولم يتعرضوا لأولياء الله، ولم يقصدوا إسقاط جاههم، لكفيهم شقاوتهم، لاسيما ويطعنون على الصديقين العارفين. قال الله في شأنهم :﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ﴾، كيف تطفأ بتراب حسبانهم أنوارُ شموس الصفات، التي من جباه وجوههم، ولئالئ خدودهم، وأصلها ثابت في أفلاك الوحدانية وسماوات القيومية، ويزيد نورهم على نور ؛ لأنه تعالى بلا نهاية ولا منتهى لصفاته.
قوله تعالى :﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ﴾ : إن الله سبحانه سن سنة أزلية : ألا يجد أحدٌ سبيله إلا من يقُيض له أستاذاً عارفاً بالله، وبسِّر دينه وربوبيته، فيدله إلى منهاج عبوديته، ومعارج روحه وقلبه، إلى مشاهدة ربوبيته، ويكون هو واسطة بينه وبين الله، وإن كان الفضل بيد الله، يؤتيه من يشاء بغير علة ولا سبب، جعله واسطة للتأديب لا للتقريب، وصيره شفيعاً للجنايات، لا شريكاً في الهدايات، هداه نور القرآن، وبيّنه حقيقة البيان، مع إظهار البرهان. قيل : جعل الله الوسائط طريقاً لعباده إليه، وبعثهم أعلاماً على الطرق ونوراً يهتدى بهم، وعرفهم سبل الحق وحقيقة الدين، قال الله تعالى :﴿ أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ﴾، انتهى كلامه.
فالوسائط ؛ كالأنبياء والأولياء، إنما هم مُوَصِّلونَ إلى الله، دالون عليه، فمن وقف معهم ولم ينفذ إلى الله فقد اتخذه رباً عند الخواص.
وقال الورتجبي على هذه الآية : عيَّر الحق تعالى من بقي في رؤية المقتدَى به دون رؤية الحق، وإن كان وسيلة منه، فإن في إفراد القدم من الحدوث، النظر إلى الوسائط، وهو شرك، وتصديق ذلك تمام الآية ؛ ﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً ﴾. غَيرهُ الوحدانية ما أبقت في البَيْن غيراً من الشواهد والآيات وجميع الخلق. قال الله تعالى :﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرهُم ﴾ [ الأنعام : ٩١ ]. ولما رأى صلى الله عليه وسلم غيرة القدم على شأن استهلاك الغير زجر من مدحه وتجاوز في المدح فقال :" لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ".
ثم قال الورتجبي : قال بعضهم في هذه الآية : سكنوا إلى أمثالهم، فطلبوا الحق من غير مظانه، وطُرق الحق واضحة لمن كحل بنور التوفيق، وبصر سبل التحقيق، ومن أعمي عن ذلك كان مردوداً عن طريق الحق إلى طرق الضالين من الخلق، وقد وقع أنهم معيرون وموبخون بقلة عرفانهم أهل الحقائق، وركونهم إلى أهل التقليد، وسقطوا عن منازل أهل التوحيد في التفريد، وهكذا شأن من اقتدى بالزواقين من أهل السالوس المتزينين بزي المشايخ والعارفين المتحققين، وتخلفَ خلفَ الجامعين للدنيا، الذين يقولون : نحن أبناء المشايخ ونحن رؤساء الطريقة، يُضْحك اللهُ الدهرَ من جهلهم حيث علموا أن الولاية بالنسب، حاشا أن من لم يُذق طعمِ وِصال الله، وقلبُه معلق بغير الله، هو من أولياء الله.
قال الجنيد : إذا أراد الله بالمريد خيراً هداه إلى صحبة الصوفية، ووقاه من صحبة القراء. ولو اشتغلوا بشأنهم وجمع دنياهم، ولم يتعرضوا لأولياء الله، ولم يقصدوا إسقاط جاههم، لكفيهم شقاوتهم، لاسيما ويطعنون على الصديقين العارفين. قال الله في شأنهم :﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ﴾، كيف تطفأ بتراب حسبانهم أنوارُ شموس الصفات، التي من جباه وجوههم، ولئالئ خدودهم، وأصلها ثابت في أفلاك الوحدانية وسماوات القيومية، ويزيد نورهم على نور ؛ لأنه تعالى بلا نهاية ولا منتهى لصفاته.
قوله تعالى :﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ﴾ : إن الله سبحانه سن سنة أزلية : ألا يجد أحدٌ سبيله إلا من يقُيض له أستاذاً عارفاً بالله، وبسِّر دينه وربوبيته، فيدله إلى منهاج عبوديته، ومعارج روحه وقلبه، إلى مشاهدة ربوبيته، ويكون هو واسطة بينه وبين الله، وإن كان الفضل بيد الله، يؤتيه من يشاء بغير علة ولا سبب، جعله واسطة للتأديب لا للتقريب، وصيره شفيعاً للجنايات، لا شريكاً في الهدايات، هداه نور القرآن، وبيّنه حقيقة البيان، مع إظهار البرهان. قيل : جعل الله الوسائط طريقاً لعباده إليه، وبعثهم أعلاماً على الطرق ونوراً يهتدى بهم، وعرفهم سبل الحق وحقيقة الدين، قال الله تعالى :﴿ أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ﴾، انتهى كلامه.
فالوسائط ؛ كالأنبياء والأولياء، إنما هم مُوَصِّلونَ إلى الله، دالون عليه، فمن وقف معهم ولم ينفذ إلى الله فقد اتخذه رباً عند الخواص.
وقال الورتجبي على هذه الآية : عيَّر الحق تعالى من بقي في رؤية المقتدَى به دون رؤية الحق، وإن كان وسيلة منه، فإن في إفراد القدم من الحدوث، النظر إلى الوسائط، وهو شرك، وتصديق ذلك تمام الآية ؛ ﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً ﴾. غَيرهُ الوحدانية ما أبقت في البَيْن غيراً من الشواهد والآيات وجميع الخلق. قال الله تعالى :﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرهُم ﴾ [ الأنعام : ٩١ ]. ولما رأى صلى الله عليه وسلم غيرة القدم على شأن استهلاك الغير زجر من مدحه وتجاوز في المدح فقال :" لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ".
ثم قال الورتجبي : قال بعضهم في هذه الآية : سكنوا إلى أمثالهم، فطلبوا الحق من غير مظانه، وطُرق الحق واضحة لمن كحل بنور التوفيق، وبصر سبل التحقيق، ومن أعمي عن ذلك كان مردوداً عن طريق الحق إلى طرق الضالين من الخلق، وقد وقع أنهم معيرون وموبخون بقلة عرفانهم أهل الحقائق، وركونهم إلى أهل التقليد، وسقطوا عن منازل أهل التوحيد في التفريد، وهكذا شأن من اقتدى بالزواقين من أهل السالوس المتزينين بزي المشايخ والعارفين المتحققين، وتخلفَ خلفَ الجامعين للدنيا، الذين يقولون : نحن أبناء المشايخ ونحن رؤساء الطريقة، يُضْحك اللهُ الدهرَ من جهلهم حيث علموا أن الولاية بالنسب، حاشا أن من لم يُذق طعمِ وِصال الله، وقلبُه معلق بغير الله، هو من أولياء الله.
قال الجنيد : إذا أراد الله بالمريد خيراً هداه إلى صحبة الصوفية، ووقاه من صحبة القراء. ولو اشتغلوا بشأنهم وجمع دنياهم، ولم يتعرضوا لأولياء الله، ولم يقصدوا إسقاط جاههم، لكفيهم شقاوتهم، لاسيما ويطعنون على الصديقين العارفين. قال الله في شأنهم :﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ﴾، كيف تطفأ بتراب حسبانهم أنوارُ شموس الصفات، التي من جباه وجوههم، ولئالئ خدودهم، وأصلها ثابت في أفلاك الوحدانية وسماوات القيومية، ويزيد نورهم على نور ؛ لأنه تعالى بلا نهاية ولا منتهى لصفاته.
قوله تعالى :﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ﴾ : إن الله سبحانه سن سنة أزلية : ألا يجد أحدٌ سبيله إلا من يقُيض له أستاذاً عارفاً بالله، وبسِّر دينه وربوبيته، فيدله إلى منهاج عبوديته، ومعارج روحه وقلبه، إلى مشاهدة ربوبيته، ويكون هو واسطة بينه وبين الله، وإن كان الفضل بيد الله، يؤتيه من يشاء بغير علة ولا سبب، جعله واسطة للتأديب لا للتقريب، وصيره شفيعاً للجنايات، لا شريكاً في الهدايات، هداه نور القرآن، وبيّنه حقيقة البيان، مع إظهار البرهان. قيل : جعل الله الوسائط طريقاً لعباده إليه، وبعثهم أعلاماً على الطرق ونوراً يهتدى بهم، وعرفهم سبل الحق وحقيقة الدين، قال الله تعالى :﴿ أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ﴾، انتهى كلامه.
فالوسائط ؛ كالأنبياء والأولياء، إنما هم مُوَصِّلونَ إلى الله، دالون عليه، فمن وقف معهم ولم ينفذ إلى الله فقد اتخذه رباً عند الخواص.
وقال الورتجبي على هذه الآية : عيَّر الحق تعالى من بقي في رؤية المقتدَى به دون رؤية الحق، وإن كان وسيلة منه، فإن في إفراد القدم من الحدوث، النظر إلى الوسائط، وهو شرك، وتصديق ذلك تمام الآية ؛ ﴿ وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً ﴾. غَيرهُ الوحدانية ما أبقت في البَيْن غيراً من الشواهد والآيات وجميع الخلق. قال الله تعالى :﴿ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرهُم ﴾ [ الأنعام : ٩١ ]. ولما رأى صلى الله عليه وسلم غيرة القدم على شأن استهلاك الغير زجر من مدحه وتجاوز في المدح فقال :" لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ".
ثم قال الورتجبي : قال بعضهم في هذه الآية : سكنوا إلى أمثالهم، فطلبوا الحق من غير مظانه، وطُرق الحق واضحة لمن كحل بنور التوفيق، وبصر سبل التحقيق، ومن أعمي عن ذلك كان مردوداً عن طريق الحق إلى طرق الضالين من الخلق، وقد وقع أنهم معيرون وموبخون بقلة عرفانهم أهل الحقائق، وركونهم إلى أهل التقليد، وسقطوا عن منازل أهل التوحيد في التفريد، وهكذا شأن من اقتدى بالزواقين من أهل السالوس المتزينين بزي المشايخ والعارفين المتحققين، وتخلفَ خلفَ الجامعين للدنيا، الذين يقولون : نحن أبناء المشايخ ونحن رؤساء الطريقة، يُضْحك اللهُ الدهرَ من جهلهم حيث علموا أن الولاية بالنسب، حاشا أن من لم يُذق طعمِ وِصال الله، وقلبُه معلق بغير الله، هو من أولياء الله.
قال الجنيد : إذا أراد الله بالمريد خيراً هداه إلى صحبة الصوفية، ووقاه من صحبة القراء. ولو اشتغلوا بشأنهم وجمع دنياهم، ولم يتعرضوا لأولياء الله، ولم يقصدوا إسقاط جاههم، لكفيهم شقاوتهم، لاسيما ويطعنون على الصديقين العارفين. قال الله في شأنهم :﴿ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون ﴾، كيف تطفأ بتراب حسبانهم أنوارُ شموس الصفات، التي من جباه وجوههم، ولئالئ خدودهم، وأصلها ثابت في أفلاك الوحدانية وسماوات القيومية، ويزيد نورهم على نور ؛ لأنه تعالى بلا نهاية ولا منتهى لصفاته.
قوله تعالى :﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ﴾ : إن الله سبحانه سن سنة أزلية : ألا يجد أحدٌ سبيله إلا من يقُيض له أستاذاً عارفاً بالله، وبسِّر دينه وربوبيته، فيدله إلى منهاج عبوديته، ومعارج روحه وقلبه، إلى مشاهدة ربوبيته، ويكون هو واسطة بينه وبين الله، وإن كان الفضل بيد الله، يؤتيه من يشاء بغير علة ولا سبب، جعله واسطة للتأديب لا للتقريب، وصيره شفيعاً للجنايات، لا شريكاً في الهدايات، هداه نور القرآن، وبيّنه حقيقة البيان، مع إظهار البرهان. قيل : جعل الله الوسائط طريقاً لعباده إليه، وبعثهم أعلاماً على الطرق ونوراً يهتدى بهم، وعرفهم سبل الحق وحقيقة الدين، قال الله تعالى :﴿ أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ﴾، انتهى كلامه.
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ * ﴿ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾.
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموالَ الناس بالباطل ﴾ ؛ يأخذونها بالرشا في الأحكام، وسَمى أخذ المال أكلاً ؛ لأنه الغرض الأعظم منه، ﴿ ويصدون عن سبيل الله ﴾ أي : يعوقون الناس عن الدخول في دينه، ﴿ والذين يكنزون الذهبَ والفِضةَ ﴾ أي : يدخرونها ﴿ ولا يُنفقونها ﴾ أي : الأموال المفهومة من الذهب والفضة، أو الكنوز، أو الفضة، واكتفى بذكرها عن الذهب ؛ إذ الحُكم واحد، ﴿ فبشِّرهم بعذاب أليم ﴾ ؛ وهو الكي بها، وهذا الحكم يحتمل أن يرجع لكثير من الأحبار والرهبان، فيكون مبالغة في وصفهم، بالحرص على المال وجمعه، وأن يراد به المسلمون الذين يجمعون الأموال، ويقتنونها ولا يؤدون حقها، ويكون اقترانه بأكلة الرشا من أهل الكتب ؛ للتغليظ. ويدل عليه : أنه لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال :" إِنَّ الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيِّبَ بها ما بقي من أموالكم " ١. وقوله عليه الصلاة والسلام :" ما أدى زَكَاته فَلَيْسَ بِكَنْز " ٢. وقال أبو ذر وجماعة من الزهاد : كل ما فضل عن حاجة الإنسان فهو كنز، وحمل الآية عليه.
٢ أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ٤/٨٣، وابن عدي في الكامل في الضعفاء ٣/١٣٦٢..
ثم ذكر وعيدهم فقال :﴿ يوم يُحمَى عليها ﴾ أي : على الأموال المكنوزة، ﴿ في نار جهنم ﴾ أي : يوم توقد النار ذات الحمى الشديد عليها، حتى تكون صفيحة واحدة، ﴿ فتُكوى بها جباهُهم وجنوبهم وظهورهُم ﴾، خصهم بالعذَاب، لأنهم كانوا يعرضون عن السائل، ويُولون ظهره، فيعرضون عنه بجباههم وجنوبهم. أو لأنها أشرف الأعضاء، لاشتمالها على الدِّماغ والقلب والكبد. أو لأنها أصول الجهات الأربع، التي هي مقادم الإنسان ؛ مؤخره وجنبتاه.
يقال لهم :﴿ هذا ما كنزتم لأنفسكم ﴾ أي : لمنفعتها، وكان عينَ مضرتها وسببَ تعذيبها، ﴿ فذُوقوا ما كنتم تكنِزُون ﴾ أي : وبال كنزكم، أو ما كنتم تكنزونه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مَا مِنْ صَاحِب ذهبٍ ولا فضْةٍ لا يُؤدِّي منها حقّها إلاّ إذا كان يومُ القيامة صُفحت له صفائح من نَار، فأحمي عليها من نار جهنم، فيُكوى بها جبينُه وجنبه وظهرُه، كلما بردت أُعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين العباد فيرى سبيله : إما إلى الجنة وإما إلى النار " ١. رواه مسلم بطوله.
قال ابن عطية : روي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : قد ذم الله تعالى كسب الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير حتى نَكْسبه ؟ فقال عمر : أنا أَسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله، فقال :" لِسان ذاكر، وقلب شَاكر، وزَوْجَة تُعينُ المرء على دينهِ " ٢. ورُوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، لما نزلت الآية :" تَبّاً للذَّهَبِ والفِضَّةِ " ٣. فحينئذٍ أشفق أصحابه، وقالوا ما تقدم. ه. لابن حجر.
من خير ما يتخذ الإنسانُ | في دنياه كيما يستقيمَ دينُه |
قلبٌ شكور، ولسانٌ ذاكر، | وزوجةٌ صالحة تُعينُه |
٢ أخرجه أحمد في المسند ٥/٢٧٨، ٢٨٢..
٣ أخرجه أحمد في المسند ٥/٣٦٦..
﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذالِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾
قلت :( عند الله ) : معمول لعدة ؛ لأنها مصدر، و( في كتاب الله ) : صفة لاثني عشر، و( يوم ) : متعلق بالثبوت المقدر في الخبر، أي : ثابتة في كتاب الله يوم خلق الأكوان والزمان. وقوله :( منها ) : أي : الأشهر، ثم قال :( فيهن ). وضابط الضمير إن عاد على الجماعة المؤنثة، حقيقة أو مجازاً، إن كانت أكثر من عشرة، قلتَ : منها وفيها، وإن كانت أقل من عشرة، قلت : منهن وفيهن، قال تعالى :﴿ يَأكُلُهُنّ ﴾ [ يوسف : ٤٦ ] وقال هنا :( فيهن ). انظر الإتقان. و( كافة ) : حال من الفاعل أو المفعول.
يقول الحق جل جلاله :﴿ إِنَّ عِدَّة الشهور ﴾ في كل سنة ﴿ عند الله ﴾ ؛ في علم تقديره، ﴿ اثنا عشرَ شهراً ﴾ : أولها المحرم، وآخرها ذو الحجة. وأول من جعل أولها المحرم : عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وهذه العدة ثابتة ﴿ في كتاب الله ﴾ ؛ اللوح المحفوظ، أو في حكمه، أو القرآن، ﴿ يومَ خَلَقَ السماوات والأرض ﴾، أي : هذا أمر ثابت في نفس الأمر منذ خلق الله الأجرام والأزمنة، ﴿ منها ﴾ أي : الأشهر ﴿ أربعة حُرُم ﴾، واحد فرد، وهو رجب، وثلاثة سَرد : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ﴿ ذلك الدين القيم ﴾ أي : تحريم الأشهر الحرم هو الدين القويم، دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وتمسكت به العرب حتى غيَّره بعضهم بالنسيء، ﴿ فلا تظلموا فيهن أنفسَكم ﴾ ؛ بهتك حرمتها والقتال فيها، ثم نسخ بقوله :﴿ وقاتلوا المشركين كافةً ﴾ أي : في الأزمنة كلها ؛ ﴿ كما يُقاتلونكم كافة ﴾ ؛ لأنهم، إن قاتلتموهم فيها قاتلوكم فهذا نسخ لتحريم القتال في الأشهر الحرم.
وقال عطاء : لا يحل للناس أن يغزوا في الأشهر الحرم، ولا في الحَرم، إلا أن يُبدئوا بالقتال، ويرده غزوه صلى الله عليه وسلم حُنيناً والطائف في شوال وذي القعدة. ﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾ بالنصر والمعونة، وفيه بشارة وضمان لهم بالنصر بسبب تقواهم.
الإشارة : أهل الفهم عن الله : الأزمنةُ كلها عندهم حُرُم، والأمكنة كلها عندهم حَرامٌ، فهم يحترمون أوقاتهم ويغتنمون ساعاتهم لئلا تضيع. قال الحسن البصري : أدركت أقواماً كانوا على ساعاتهم أشفق منكم على دنانيركم ودراهيمكم، يقول : كما لا يخرج أحدكم ديناراً ولا درهماً إلا فيما يعود عليهم نفعه، كذلك لا يحبون أن يخرجوا ساعة من أعمارهم إلا فيما يعود عليهم نفعه وقال الجنيد رضي الله عنه : الوقت إذا فات لا يُستدرك، وليس شيء أعز من الوقت. ه.
وكل جزء يحصل له من العمر غير خال من عمل صالح، يتوصل به إلى مُلْك كبير لا يفنى، ولا قيمة لما يوصل إلى ذلك ؛ لأنه في غاية الشرف والنفاسة، ولأجل هذا عظمت مراعاة السلف الصالح لأنفاسهم، ولحظاتهم، وبادروا إلى اغتنام ساعاتهم وأوقاتهم، ولم يضيعوا أعمارهم في البطالة والتقصير، ولم يقنعوا من أنفسهم لمولاهم إلا بالجد والتشمير، وإلى هذه الإشارة بقوله :( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) ؛ بتضييعها في غير ما يقرب إلى الله. ثم أمر بجهاد القواطع، التي تترك العبد في مقام الشرك الخفي، وبَشَّرهُم بكونه معهم بالنصر والتأييد، والمعونة والتسديد.
﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُواءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ﴾
قلت :( النسيء ) : التأخير، يقال بالهمزة وبقلبها ياء.
يقول الحق جل جلاله :﴿ إنما النسيءُ ﴾، وهو تأخير حرمة الشهر الحرام إلى شهر آخر، وذلك أن العرب كانوا أصحاب حروب وإغارات، وكانت محرمة عليهم في الأشهر الحرم، فيشق عليهم تركها، فيجعلونها في شهر حرام، ويحرمون شهراً آخر بدلاً منه، وربما أحلوا المحرم وحرموا صفر، حتى يُكملوا في العام أربعة أشهر محرمة، وإنما ذلك ﴿ زيادةٌ في الكفر ﴾ ؛ لأنه تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرم الله، وهو كفر آخر ضموه إلى كفرهم، ﴿ يُضَلُّ به الذين كفروا ﴾ عن الحق، ضلالاً زائداً على ضلالهم، أو يضلهم الله بذلك، ﴿ يُحلونه عاماً ﴾ أي : يحلون الشهر الحرام عاماً، ويجعلون مكانه آخر، ﴿ ويحرمونه عاما ﴾، فيتركونه على حرمته، فكانوا تارة ينسئون وتارة يتركون.
قيل : أول من أحدث ذلك : جُنادَهُ بن عوف الكناني ؛ كان يقوم على جمل في الموسم فينادي : إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه، ثم ينادي من قابل : إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرموه، فتتبعه العرب.
ثم حرّموا شهراً آخر مكان المحرم ﴿ ليواطئُوا ﴾ ؛ ليوافقوا ﴿ عِدَّةَ ما حرّمَ الله ﴾، وهي الأربعة الحرم، ﴿ فيُحلّوا ما حرّم الله ﴾ عليهم من القتال في الأشهر الحرم، ﴿ زُيِّنَ لهم سوء أعمالهم ﴾ أي : خذلهم وأضلهم، والمُزين حقيقة : الله، أو الشيطان ؛ حكمةً وأدباً. ﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين ﴾ إلى طريق الرشد، ما داموا على غيهم، حتى يسلكوا سبيل نبيه صلى الله عليه وسلم.
الإشارة : إنما تأخير التوبة واليقظة، وترك السير إلى مقام التصفية والترقية، زيادة في البعد والقسوة، يضل به الذين هجروا طريق التربية والتصفية، عن مقام أهل الإحسان والمعرفة، فتارةً يُحلون المقام مع النفس الأمارة، ويقولون : قد انقطعت التربية، وعُدِمَ الطبيبُ الذي يداويها ويخرجها عن وصفها، وتارة يُحرمون المقام معها والاشتغال بحظوظها وهواها، ويقولون : البركة لا تنقطع، والمدد لا ينعدم، ليوافقوا بين الأمر بمجاهدتها في قوله :﴿ والذين جاهدوا فينا ﴾، وبين من قال : قد انقطعت التربية، زُين له سواء أعمالهم، والله لا يهدي القوم الكافرين إلى السير والوصول إلى ربهم.
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ * ﴿ إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾
قلت :( اثاقلتم )، أصله : تثاقلتم أدغمت التاء في الثاء، وجلبت الهمزة للساكن، وقرئ على الأصل، وضمن الإخلاد، فَعُدِّيَ بإلى.
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله ﴾ ؛ للجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿ اثَّاقلتُم ﴾ أي : تباطأتم وأخلدتم ﴿ إلى الأرض ﴾ كسلاً وفشلاً، وكان ذلك في غزوة تبوك، أُمروا بها بعد رجوعهم من الطائف، في وقت عسر، وحَر، وبُعد الشقة، وكثرة العدو، فشق عليهم ذلك، ﴿ أرضيتُم بالحياة الدنيا ﴾ وكدرها، ﴿ من الآخرة ﴾، بدل الآخرة ونعيمها، ﴿ فما متاع الحياة الدنيا ﴾ أي : التمتع بها في جانب الآخرة، ﴿ إلا قليلٌ ﴾ ؛ مستحقر، لسرعة فنائه ومزجه بالكدر.
﴿ إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
قلت :" إن " : شرط، وجوابه محذوف، دلّ عليه قوله :﴿ فقد نصره الله ﴾ أي : إن لم تنصروه فسينصره الله، الذي نصره حين أخرجه الذين كفروا، حال ثاني اثنين، فدل بنصره في الماضي على نصره في المستقبل، وإسناد الإخراج إلى الكفرة ؛ لأن همهم بإخراجه أو قتله كان سبباً لإذن الله له في الخروج، و( إذ هُما ) : بدل من ( أخرجه ) ؛ بدل البعض، و( إذ يقول ) : بدل ثان، و( كلمة الله ) : مبتدأ، و( العليا ) : خبر، وقرأ يعقوب : بالنصب ؛ عطفاً على ﴿ كلمة الذين كفروا ﴾، والأول : أحسن ؛ للإشعار بأن كلمة الله عالية في نفسها، فاقت غيرها أم لا.
يقول الحق جل جلاله :﴿ إلاّ تنصروهُ ﴾ ؛ تنصروا محمداً، وتثاقلتم عن الجهاد معه، فسينصره الله، كما نصره حين ﴿ أخرجه الذين كفروا ﴾ من مكة، حال كونه ﴿ ثاني اثنين ﴾ أي : لم يكن معه إلا رجل واحد، وهو الصدِّيق، ﴿ إِذْ هما في الغار ﴾ ؛ نقب في أعلى غار ثور، وثور جبل عن يمين مكة، على مسيرة ساعة. ﴿ إِذْ يقول لصاحبه ﴾ : أبي بكر رضي الله عنه :﴿ لا تحزنْ إنَّ الله معنا ﴾ بالعصمة والنصرة.
رُوي أن المشركين طلعوا فوق الغار يطلبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين فقدوه من مكة، فأشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام :" ما ظَنُّكَ باثنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهِما " ١ فأعماهم الله عن الغار، فجعلوا يترددون حوله فلم يروه. وقيل : لما دخل الغار بعث الله حمامتين، فباضتا في أسفله، والعنكبوت نسجت عليه.
﴿ فأنزل اللَّهُ سكِينَتُه ﴾ أي : أًمْنَه الذي تسكن إليه القلوب، ﴿ عليه ﴾ أي : على رسوله صلى الله عليه وسلم، أو على صاحبه، ﴿ وأيَّده بجنودٍ لم تَرَوها ﴾، يعني الملائكة، أنزلهم ليحرسوه في الغار، أو يوم بدر وأحد وغيرهما، فتكون على هذا : الجملة معطوفة على :﴿ فقد نصره الله ﴾. ﴿ وجعلَ كلمةَ الذين كفروا ﴾ وهي الشرك، أو دعوى الكفر، ﴿ السفلى وكلمةُ الله ﴾ التي هي التوحيد، أو دعوة الإسلام، ﴿ هي العُليا ﴾ ؛ حيث خلص رسوله صلى الله عليه وسلم من بين الكفار، ونقله إلى المدينة، ولم يزل ينصره حتى ظهر التوحيد وبطل الكفر، ﴿ والله عزيزٌ ﴾ ؛ غالب على أمره، ﴿ حكيم ﴾ في أمره وتدبيره.
الإشارة : ما قيل في حق الرسول صلى الله عليه وسلم يقال في حق ورثته، الداعين إلى الله بعده ؛ من العارفين بالله، فيقال لمن تخلف عن صُحبَة ولي عصره وشيخ تربية زمانه : إلا تنصروه فقد نصره الله وأعزه، وأغناه عن غيره، فمن صحبه فإنما ينفع نفسه، فقد نصره الله حين أنكره أهله وأبناء جنسه، كما هي سنة الله في أوليائه، لأن الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور، فمن دخل مع الخصوص قطعاً أنكرته العموم، فنخرجه ثاني اثنين هو وقبله، فيأوي إلى كهف الأنس بالله، والوحشة مما سواه، فيقول لقلبه : لا تحزن إن الله معنا، فينزل الله عليه سكينة الطمأنينة والتأييد، وينصره بأجناد أنوار التوحيد والتفريد، فيجعل كلمة أهل الإنكار السفلى، وكلمة الداعين إلى الله هي العليا، والله عزيز حكيم.
﴿ انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذالِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ * ﴿ لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَاكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ انفرُوا ﴾ للجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، حال كونكم ﴿ خِفافاً ﴾ ؛ نشاطاً، ﴿ وثِقالاً ﴾ ؛ كسالى لمشقته، أو ( خفافاً ) لمن قَلَّ عياله، ( وثقالاً ) لمن كثر عياله، أو خفافاً لمن كان فقيراً، وثقالاً لمن كان غنياً، أو خفافاً ركباناً، وثقالاً مشاة، أو خفافاً بلا سلاح، وثقالاً بالسلاح، أو خفافاً شباباً، وثقالاً شيوخاً، أو خفافاً أصحاء، وثقالاً مرضى. ولذلك قال ابنُ أمِّ مكتوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أَعَليَّ الغزو يا رسول الله ؟ قال :" نعم "، حيث نزل :﴿ ليسَ عَلَيكُم جُناح ﴾ [ النور : ٦١ ]. ﴿ وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ﴾ أي : بما أمكن ؛ إمّا بهما أو بأحدهما، ﴿ ذلكم خير لكم ﴾، مِنْ تركه، ﴿ إن كنتم تعلمون ﴾ ما في ذلك من الأجر العظيم والخير الجسيم، أي : لو علمتم ذلك ما قعدتم خلف سرية.
ثم أمر ببذل الأموال والمُهج في طريق الوصول إلى حضرة الله، وعاتب من تخلف عن ذلك وطلب الراحة والبقاء في وطن نفسه. قال القشيري : أمرهم بالقيام بحقه، والبدار إلى أداء أمره على جميع أحوالهم، ﴿ خفافاً ﴾ أي : في حال حضور قلوبكم، فلا يمسُّكم نَصَبُ المجاهدات، ﴿ وثقالاً ﴾ أي : إذا رُدِدتُم إليكم في مقاساة نصب المكابدات. فإن البيعةَ أُخِذَتْ عليكم في المنشط والمكره. هـ. ومثله عند الورتجبي عن أبي عثمان قال : خفافاً وثقالاً ؛ في وقت النشاط والكراهية، فإن البيعة على هذا وقعت، كما روى عن جرير بن عبد الله أنه قال : بايعنا رسول الله على المنشط والمكره. هـ.
ثم عاتب من أراد التخلف، فقال :﴿ لو كان عرضاً قريباً ﴾ من الدنيا، ﴿ وسفراً قاصداً ﴾ ؛ متوسطاً أو قريباً، ﴿ لاتَّبعوك ﴾ أي : لو كان ما دعوا إليه أمراً دنيوياً، كغنيمة كبيرة، أو سفراً متوسطاً، لاتبعوك ولوافقوك على الخروج، ﴿ ولكن بَعُدتْ عليهم الشُّقَّةُ ﴾ أي : المسافة التي تقطع بمشقة، وذلك أن الغزوة أي : تبوك كانت إلى أرض بعيدة، وكانت في شدة الحر، وطيب الثمار، فشقت عليهم. ﴿ وسيحلفون بالله ﴾ أي : المتخلفون إذا رجعت من تبوك، معتذرين، يقولون :﴿ لو استطعنا ﴾ الخروج ﴿ لخرجنا معكم ﴾، لكن لم تكن لنا استطاعة من جهة العُدة والبدن وهذا إخبار بالغيب قبل وقوعه. ﴿ يُهلِكُونَ أنفسهم ﴾ بوقوعها في العذاب، ﴿ والله يعلم إِنهم لكاذبون ﴾ في ذلك ؛ لأنهم كانوا مستطيعين الخروج، وإنما قعدوا كسلاً وجُبْناً، والله تعالى أعلم.
ثم أمر ببذل الأموال والمُهج في طريق الوصول إلى حضرة الله، وعاتب من تخلف عن ذلك وطلب الراحة والبقاء في وطن نفسه. قال القشيري : أمرهم بالقيام بحقه، والبدار إلى أداء أمره على جميع أحوالهم، ﴿ خفافاً ﴾ أي : في حال حضور قلوبكم، فلا يمسُّكم نَصَبُ المجاهدات، ﴿ وثقالاً ﴾ أي : إذا رُدِدتُم إليكم في مقاساة نصب المكابدات. فإن البيعةَ أُخِذَتْ عليكم في المنشط والمكره. هـ. ومثله عند الورتجبي عن أبي عثمان قال : خفافاً وثقالاً ؛ في وقت النشاط والكراهية، فإن البيعة على هذا وقعت، كما روى عن جرير بن عبد الله أنه قال : بايعنا رسول الله على المنشط والمكره. هـ.
﴿ عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴾ * ﴿ لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ﴾ * ﴿ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله : لنبيه عليه الصلاة والسلام ؛ ملاطفاً له في الكلام :﴿ عفا اللَّه عنك لم أذنتَ لهم ﴾، لِمَ بادرت إلى الإذن إلى المنافقين في التخلف، واستكفيت بالإذن العام في قولنا :﴿ فَأذَن لِّمن شئتَ مَنهُم ﴾ [ النور : ٦٢ ]، فإن الخواص من المقربين لا يكتفون بالإذن العام، بل يتوقفون إلى الإذن الخاص. ولذلك عُوتِبَ يونس عليه السلام. والمعنى : لأي شيء أذنت لهم في القعود حين استأذنوك واعتذروا لك بأكاذيب ؟ وهلا توقفت ﴿ حتى يتبين لك الذين صدقوا ﴾ في الاعتذار، ﴿ وتعلم الكاذبين ﴾ فيه.
قال ابن عطية : قوله :﴿ الذين صدقوا ﴾ يريد : في استئذانك، وأَنك لو لم تأذن لهم لخرجوا معك، وقوله :﴿ وتعلم الكاذبين ﴾ يريد : أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدِّك، وهم كَذَبة، قد عزموا على العصيان، أذِنتَ أو لم تأذن. ه. قال ابن جزي : كانوا قد قالوا : استأذنوه في القعود، فإن إذن لنا قعدنا، وإن لم يأذن قعدنا، وإنما كان يظهر الصادق من الكاذب لو لم يأذن لهم، فحينئذٍ كان يقعد العاصي والمنافق، ويسافر المطيع الصادق. ه.
وأما الإذن في التجريد وعدمه : فإن رآه أهلاً له ؛ لنفوذ عزمه، فيجب عليه أن يأمره به، وإن رآه لا يليق به ؛ لعوارض قامت به ؛ منعه منه، حتى ينظر ما يفعل الله به، وسأل رجلٌ القطبَ ابنَ مشيش، فقال له : يا سيدي ؛ استأذنك في مجاهدة نفسي ؟ فقال له :﴿ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ﴾.
وأما الإذن في التجريد وعدمه : فإن رآه أهلاً له ؛ لنفوذ عزمه، فيجب عليه أن يأمره به، وإن رآه لا يليق به ؛ لعوارض قامت به ؛ منعه منه، حتى ينظر ما يفعل الله به، وسأل رجلٌ القطبَ ابنَ مشيش، فقال له : يا سيدي ؛ استأذنك في مجاهدة نفسي ؟ فقال له :﴿ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ﴾.
وأما الإذن في التجريد وعدمه : فإن رآه أهلاً له ؛ لنفوذ عزمه، فيجب عليه أن يأمره به، وإن رآه لا يليق به ؛ لعوارض قامت به ؛ منعه منه، حتى ينظر ما يفعل الله به، وسأل رجلٌ القطبَ ابنَ مشيش، فقال له : يا سيدي ؛ استأذنك في مجاهدة نفسي ؟ فقال له :﴿ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ﴾.
﴿ وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَاكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ * ﴿ لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ﴾ * ﴿ لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ولو أرادوا ﴾ ؛ أراد المنافقون ﴿ الخروجَ ﴾ إلى الغزو معكم، وكانت لهم نية في ذلك ﴿ لأعدُّوا له عُدَّةً ﴾ أي : لاستعدوا له أهبتَهُ قبل أوانه. فما فعلوا، ﴿ ولكن ﴾ تثبطوا ؛ لأنه تعالى كره ﴿ انبعاثهم ﴾، أي : نهوضهم للخروج، ﴿ فثبَّطهم ﴾ أي : حبسهم وكسر عزمهم، كسلاً وجبناً، ﴿ وقيلَ ﴾ لهم :﴿ اقعدوا مع القاعدين ﴾ من النساء والصبيان وذوي الأعذار، وهو ذم لهم وتوبيخ. والقائل في الحقيقة هو الله تعالى، وهو عبارة عن قضائه عليهم بالقعود، وبناه للمجهول تعليماً للأدب. قال البيضاوي : هو تمثيل لإلقاء الله كراهة الخروج في قلوبهم، أو وسوسة الشيطان بالأمر بالقعود، أو حكاية قول بعضهم لبعض، أو إذن الرسول لهم. ه.
فالأوّلون : أثقلهم بكثرة الشواغل والعلائق، ولو أرادوا الخروج منها لأعدوا له عدة بالتخفيف والزهد، ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم، وقيل : اقعدوا مع القاعدين، أقامهم لإصلاح عالم الحكمة، وأما أهل الخدمة : فرآهم لم يصلحوا لصريح معرفته، فشغلهم بخدمته، ولو أرادوا الخروج من سجن الخدمة إلى فضاء المعرفة لأعدوا له عدة ؛ بصحبة أهل المعرفة الكاملة. وأما أهل التوجه إلى محبته وصريح معرفته فلم يشغلهم بشيء، ولم يتركهم مع شيء، بل اختصهم بمحبته، وقام لهم بوجود قسمته،
﴿ يَختَصُ بِرحمَتِهِ مَن يَشَاءُ واللَّهُ ذُو الفَضل العَظيم ﴾ [ آل عمران : ٧٤ ]. وكل قسم لو دخل مع من فوقه على ما هو عليه، لأفسده، وما زاده إلا خبالاً وشراً. والله تعالى أعلم.
وقوله :( ولأوضعوا ) أي : أسرعوا، والإيضاع : الإسراع، ( وخلالكم ) : ظرف، أي : لأسرعوا بينكم بالمشي بالنميمة، وجملة :( يبغونكم ) : حال من فاعل " أوضعوا ".
﴿ لو خرجوا فيكم ﴾ ما زادكم خروجهم شيئاً ﴿ إلا خبالاً ﴾ ؛ فساداً وشراً. والاستثناء من أعم الأحوال، فلا يلزم أن يكون الخبال موجوداً، وزاد بخروجهم، أو إذا وقع خبال بحضور بعضهم معكم ما زادكم هؤلاء القاعدون بخروجهم إلا خبالاً زائداً على ما وقع. ﴿ ولأوْضَعُوا ﴾ أي : لأسرعوا ﴿ خِلالَكُم ﴾ أي : فيما بينكم، فيسرعون في المشي بالنميمة والتخليط والهزيمة والتخذيل، ﴿ يبغونَكُم الفتنة ﴾ أي : حال كونهم طالبين لكم الفتنة، بإيقاع الخلل بينكم، حتى تختلف قلوبكم ورأيُكم، فيذهب ريح نصركم، ﴿ وفيكم ﴾ قوم ﴿ سماعُون لهم ﴾ ؛ فيقبلون قولهم، إما بحسن الظن بهم، أو لنفاق بهم، فيقع الخلل بسبب قبول قولهم، أو فيكم سماعون لأخباركم فينقلونه إلى غيركم، ﴿ والله عليم بالظالمين ﴾ ؛ فيعلم ضمائرهم، وما ينشأ عنهم، وسيجازيهم على فعلهم.
فالأوّلون : أثقلهم بكثرة الشواغل والعلائق، ولو أرادوا الخروج منها لأعدوا له عدة بالتخفيف والزهد، ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم، وقيل : اقعدوا مع القاعدين، أقامهم لإصلاح عالم الحكمة، وأما أهل الخدمة : فرآهم لم يصلحوا لصريح معرفته، فشغلهم بخدمته، ولو أرادوا الخروج من سجن الخدمة إلى فضاء المعرفة لأعدوا له عدة ؛ بصحبة أهل المعرفة الكاملة. وأما أهل التوجه إلى محبته وصريح معرفته فلم يشغلهم بشيء، ولم يتركهم مع شيء، بل اختصهم بمحبته، وقام لهم بوجود قسمته،
﴿ يَختَصُ بِرحمَتِهِ مَن يَشَاءُ واللَّهُ ذُو الفَضل العَظيم ﴾ [ آل عمران : ٧٤ ]. وكل قسم لو دخل مع من فوقه على ما هو عليه، لأفسده، وما زاده إلا خبالاً وشراً. والله تعالى أعلم.
فالأوّلون : أثقلهم بكثرة الشواغل والعلائق، ولو أرادوا الخروج منها لأعدوا له عدة بالتخفيف والزهد، ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم، وقيل : اقعدوا مع القاعدين، أقامهم لإصلاح عالم الحكمة، وأما أهل الخدمة : فرآهم لم يصلحوا لصريح معرفته، فشغلهم بخدمته، ولو أرادوا الخروج من سجن الخدمة إلى فضاء المعرفة لأعدوا له عدة ؛ بصحبة أهل المعرفة الكاملة. وأما أهل التوجه إلى محبته وصريح معرفته فلم يشغلهم بشيء، ولم يتركهم مع شيء، بل اختصهم بمحبته، وقام لهم بوجود قسمته،
﴿ يَختَصُ بِرحمَتِهِ مَن يَشَاءُ واللَّهُ ذُو الفَضل العَظيم ﴾ [ آل عمران : ٧٤ ]. وكل قسم لو دخل مع من فوقه على ما هو عليه، لأفسده، وما زاده إلا خبالاً وشراً. والله تعالى أعلم.
﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ﴾ * ﴿ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ومنهم من يقولُ ائذن لي ﴾ في القعود، ﴿ ولا تفتنِّي ﴾ ؛ ولا توقعني في الفتنة، أي : في العصيان والمخالفة، بأ تأذن لي، وفيه إشعار بأنه لا محالة متخلف، أََذِنَ أو لم يأذن، أو في الفتنة ؛ بسبب ضياع المال والعيال ؛ إذ لا كافل لهم بعدي، أو في الفتنة بنساء الروم، كما قال الجَدُّ بنُ قَيْس : قد علمت الأنصار أني مُولع بالنساء، فلا تفتني ببنات بني الأصفر، ولكني أُعينك بمال، واتركني.
قال تعالى :﴿ أَلاَ في الفتنةِ سقطُوا ﴾ أي : إن الفتنة التي سقطوا فيها، وهي فتنة الكفر والنفاق، لا ما احترزوا عنه، ﴿ وإنَّ جهنم لمحيطة بالكافرين ﴾، أي : دائرة بهم يوم القيامة، أو الآن ؛ لأن إحاطة أسبابها بهم كوجودها، ومن أعظم أسبابها : بغضك وانتظارهم الدوائر بك.
﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ * ﴿ قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ قل ﴾ لهم يا محمد :﴿ لن يصيبنا ﴾ من حسنة أو مصيبة، ﴿ إلا ما كتبَ اللهُ لنا ﴾ في اللوح المحفوظ، لا يتغير بموافقتكم ولا بمخالفتكم، ﴿ هو مولانا ﴾ ؛ متولي أمرنا وناصرنا، ﴿ وعلى الله فليتوكل المؤمنون ﴾ أي : وإليه فليفوض المؤمنون أمورهم ؛ رضاَ بتدبيره ؛ لأن مقتضى الإيمان ألا يتوكل إلا على الله ؛ إذ لا فاعل سواه.
مَا لا َيُقَدِّرُ لا يَكُون بِحيلَةٍ | أَبَداً، وَمَا هُو كَائِنٌ سَيَكُونُ |
سَيَكُونُ مَا هُوَ كَائِنٌ في وَقْتِهِ | وأخُو الجَهالَةِ مُتْعَبٌ مَحزُون |
﴿ إنّي تَوَكَّلتُ عَلَى اللهِ رَبَي وَرَبّكُم... ﴾ [ هود : ٥٦ ]، الآية، وقوله تعالى :﴿ وكأَيَّن مّنِ دَآبَّةٍ لاَّ تَحمِلُ رِزقُها اللَّهُ يرزُقُها وَإِيَّاكمُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ﴾ [ العنكبوت : ٦٠ ]، ﴿ مَّا يَفتَحِ اللَّهُ للِنَّاسِ مِن رَّحمَةٍ فَلاَ مُمسكَ لَهَا وَمَا يَمسِك فَلاَ مُرسِلَ لَهُ مِن بَعدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيمُ ﴾ [ فاطر : ٢ ]، و﴿ ولَئن سَأَلتَهُم ﴾... في الزمر إلى قوله ﴿ عَلَيهِ يَتَوكَّلُ المُتَوَكِلُون ﴾ [ الزمر : ٣٨ ]، ونظمها بعضهم فقال :
عليك بقل وإن، وما، إني، في هود | وكأين، مَا يفتحْ، ولئن ؛ مكملا |
الأمر الثاني : تحقق العبد برأفته ـ تعالى ـ ورحمته، وأنه لا يفعل به إلا ما هو في غاية الكمال في حقه، إن كان جمالاً فيقتضي منه الشكر، وإن كان جلالاً فيقتضي منه الصبر، وفيه غاية التقريب والتطهير وطي المسافة بينك وبين الحبيب.
وفي الحكم :" خير أوقاتك وقت تشهد فيه وجودَ فاقتك، وتُرَدُ فيه إلى وجود ذلتك، إن أردت بسط المواهب عليك، فصحح الفقر والفاقة لديك، الفاقة أعياد المريدين ". إلى غير ذلك من كلامه في هذا المعنى.
الأمر الثالث : تحققه بخالص التوحيد ؛ فإذا علم أن الفاعل هو الله ولا فاعل سواه ؛ رضي بفعل حبيبه، كيفما كان، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه :
أَحِبَّاي أَنْتُمْ أَحسَنَ الدَّهر أم أسا | فكونوا كما شِئتُمْ أَنا ذلك الخِلّ |
وكما قال صاحب العينية :
تَلَذُّ لِيَ الآلام إذْ كُنْتَ مُسقِمي | وإن تَخْتَبِرني فَهْي عِنْدي صَنَائِعُ |
تَحَكَّم بِمَا تَهْواهُ فِيّ فإنَّني | فَقيرٌ لسُلطان المَحَبَّةِ طَائِعُ |
وقوله تعالى :﴿ قل هل تربصون بنا... ﴾ الآية، مثله يقول أهل النسبة لأهل الإنكار : هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، إما حسن الختام بالموت على غاية الإسلام، يموت المرء على ما عاش عليه، وإما الظفر بمعرفة الملك العلام على غاية الكمال والتمام، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعقوبة من عنده ؛ بسبب إذايتكم، أو بدعوة من عندنا إذا أَذِنَ لنا. وبالله التوفيق.
مَا لا َيُقَدِّرُ لا يَكُون بِحيلَةٍ | أَبَداً، وَمَا هُو كَائِنٌ سَيَكُونُ |
سَيَكُونُ مَا هُوَ كَائِنٌ في وَقْتِهِ | وأخُو الجَهالَةِ مُتْعَبٌ مَحزُون |
﴿ إنّي تَوَكَّلتُ عَلَى اللهِ رَبَي وَرَبّكُم... ﴾ [ هود : ٥٦ ]، الآية، وقوله تعالى :﴿ وكأَيَّن مّنِ دَآبَّةٍ لاَّ تَحمِلُ رِزقُها اللَّهُ يرزُقُها وَإِيَّاكمُ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ﴾ [ العنكبوت : ٦٠ ]، ﴿ مَّا يَفتَحِ اللَّهُ للِنَّاسِ مِن رَّحمَةٍ فَلاَ مُمسكَ لَهَا وَمَا يَمسِك فَلاَ مُرسِلَ لَهُ مِن بَعدِهِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكيمُ ﴾ [ فاطر : ٢ ]، و﴿ ولَئن سَأَلتَهُم ﴾... في الزمر إلى قوله ﴿ عَلَيهِ يَتَوكَّلُ المُتَوَكِلُون ﴾ [ الزمر : ٣٨ ]، ونظمها بعضهم فقال :
عليك بقل وإن، وما، إني، في هود | وكأين، مَا يفتحْ، ولئن ؛ مكملا |
الأمر الثاني : تحقق العبد برأفته ـ تعالى ـ ورحمته، وأنه لا يفعل به إلا ما هو في غاية الكمال في حقه، إن كان جمالاً فيقتضي منه الشكر، وإن كان جلالاً فيقتضي منه الصبر، وفيه غاية التقريب والتطهير وطي المسافة بينك وبين الحبيب.
وفي الحكم :" خير أوقاتك وقت تشهد فيه وجودَ فاقتك، وتُرَدُ فيه إلى وجود ذلتك، إن أردت بسط المواهب عليك، فصحح الفقر والفاقة لديك، الفاقة أعياد المريدين ". إلى غير ذلك من كلامه في هذا المعنى.
الأمر الثالث : تحققه بخالص التوحيد ؛ فإذا علم أن الفاعل هو الله ولا فاعل سواه ؛ رضي بفعل حبيبه، كيفما كان، كما قال ابن الفارض رضي الله عنه :
أَحِبَّاي أَنْتُمْ أَحسَنَ الدَّهر أم أسا | فكونوا كما شِئتُمْ أَنا ذلك الخِلّ |
وكما قال صاحب العينية :
تَلَذُّ لِيَ الآلام إذْ كُنْتَ مُسقِمي | وإن تَخْتَبِرني فَهْي عِنْدي صَنَائِعُ |
تَحَكَّم بِمَا تَهْواهُ فِيّ فإنَّني | فَقيرٌ لسُلطان المَحَبَّةِ طَائِعُ |
وقوله تعالى :﴿ قل هل تربصون بنا... ﴾ الآية، مثله يقول أهل النسبة لأهل الإنكار : هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين، إما حسن الختام بالموت على غاية الإسلام، يموت المرء على ما عاش عليه، وإما الظفر بمعرفة الملك العلام على غاية الكمال والتمام، ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعقوبة من عنده ؛ بسبب إذايتكم، أو بدعوة من عندنا إذا أَذِنَ لنا. وبالله التوفيق.
﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾
قلت :( أن تُقبل ) : بدل من ضمير ( منعهم )، أو على حذف الجار، و( إلا أنهم كفروا ) : فاعل، أي : وما منع قبول نفقاتهم، أو من قبول نفقاتهم، إلا كفرهم بالله وبرسوله، ويحتمل أن يكون الفاعل ضميراً يعود على الله تعالى و( إنهم ) مفعول من أجله.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وما منعهم ﴾ ؛ وما منع المنافقين من قبول نفقاتهم وأعمالهم ﴿ إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ﴾ ؛ إلا كُفرهم بالله وبرسوله، أو : ما منعهم الله من قبول نفقاتهم إلا لأجل كفرهم بالله وبرسوله، وكونه ﴿ لا يأتُونَ الصلاةَ إلا وهم كُسَالى ﴾ ؛ متثاقلين، ﴿ ولا ينفقون إلا وهم كَارِهُون ﴾ أي : لا يُعطون المال إلا في حال كراهيتهم للإعطاء ؛ لأنهم لا يرجون ثواباً ولا يخافون بتركها عقاباً، فهم يعطون ذلك رياء ونفاقاً.
الإشارة : لا يتقبل الله إلا عمل المخلصين، إما إخلاص العوام ؛ لقصد الثواب وخوف العقاب، أو إخلاص الخواص ؛ لإظهار العبودية وإجلال الربوبية، وعلامة الإخلاص : وجود النشاط والخفة حال المباشرة للعمل، أو قبلها والغيبة عنه بعد الوقوع، والله أعلم.
﴿ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ فلا تُعْجِبُكَ ﴾، أيها الناظر إلى المنافقين، كثرةُ ﴿ أموالهم ولا أولادهم ﴾ ؛ فإن ذلك استدراج ووبال لهم ﴿ إنما يريد اللَّهُ ليُعذِّبَهم بها في الحياة الدنيا ﴾ ؛ بسبب ما يكابدون في جمعها وحفظها من المتاعب، وما يرون فيها من الأمراض والمصائب، أو ما ألزموا به من أداء زكاتها، مع كونهم لا يرجون خَلَفها ﴿ وتَزْهقَ أنفُسُهم وهم كافرون ﴾ ؛ فلا يستوفون التمتع بها في الدنيا ؛ لقصر مدتها، ولا يجدون ثواب ما أعطوا منها ؛ لعدم إيمانهم. وأصل الزهوق : الخروج بصعوبة، لصعوبة خروج أرواحهم، والعياذ بالله.
الإشارة : ينبغي لمريد الآخرة ألا يستحسن شيئاً من الدنيا، التي هي مدْرجة الاغترار، بل ينبغي له أن ينظر إليها وإلى أهلها بعض الغض والاحتقار، حتى ترتفع همته إلى دار القرار، وينبغي لمريد الحق تعالى ألا يحقر شيئاً من مصنوعاته، ولا يصغر شيئاً من تجلياته، إذ ما في الوجود إلا تجليات العلي الكبير، إما من مظاهر اسمه الحكيم، أو اسمه القدير، فيعطي الحكمة حقها والقدرة حقها، ويتلون مع كل واحدة بلونها، وبالله التوفيق.
﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ﴾ * ﴿ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ﴾
قلت : الفَرَقُ : الخوف.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ويحلفون ﴾ لكم ﴿ بالله إنهم لمنكم ﴾ أي : من جملة المسلمين، ﴿ وما هم منكم ﴾ ؛ لكفر قلوبهم، ﴿ ولكنهم قوم يَفْرقُون ﴾ : يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلون بالمشركين، فيظهرون الإسلام تقية وخوفاً.
﴿ لو يجدون مَلْجأً ﴾ أي : حصناً يلتجئون إليه، ﴿ أو مَغَاراتٍ ﴾ ؛ غيراناً، ﴿ أو مُدَّخلاً ﴾ ؛ ثقباً أو جحراً يَنجَحِرُون فيه. وقرأ يعقوب :" مُدخِلاً " ؛ بضم الميم وسكون الدال، أي : دخولاً، أو مكاناً يدخلون فيه، ﴿ لَوَلّوا إليه وهم يجمحون ﴾ أي : يُسرعون إسراعاً لا يردهم شيء كالفرس الجموح.
﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ﴾ * ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ومنهم ﴾ ؛ ومن المنافقين ﴿ من يلمزك ﴾ أي : يعيبك، ويعترض عليك ﴿ في ﴾ قسم ﴿ الصدقات ﴾، ﴿ فإن أُعطوا منها رَضُوا ﴾ وفرحوا، ﴿ وإِنْ لمْ يُعْطُوا منها ﴾ شيئاً ﴿ إذا هم يَسْخَطُون ﴾. والآية نزلت في ابن أُبي ؛ رأس المنافقين، قال : ألا تَرونَ إلى صاحِبِكُم إِنَّما يقْسِمُ صَدقَاتكُمْ في رُعَاةِ الغَنَم، ويَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْدل. وقيل : في ذي الخُوَيْصِرةِ رأس الخَوَارِجِ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين، فاستعطف قلوب أهل مكة، فآثرهم بالعطاء، فقال : اعْدِلَ يا رَسُول الله، فقال :" ويلَكَ، إنْ لَمْ أَعْدِلْ فمنْ يَعْدِل ؟ " ١.
قال تعالى :﴿ ولو أنهم رَضُوا ما أتاهم اللَّهُ ورسولُه ﴾ أي : بما أعطاهم الرسول من الغنيمة، وذَكَرَ الله ؛ للتعظيم، وللتنبيه على أن ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام كان بأمر الله ووحيه، فكأنه فعله هو. ﴿ وقالوا حسبنا الله ﴾ أي : كفانا فضلُه، ﴿ سيؤتينا اللَّهُ من فضله ورسولهُ ﴾ صدقة أو غنيمة أخرى، فيؤتينا أكثر مما أتانا، ﴿ إنا إلى الله راغِبُون ﴾ في أن يُغنينا من فضله وجوده. فلو فعلوا هذا لكان خيراً لهم من اعتراضهم عليك، الموجب لهم المقت والعذاب.
﴿ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ إِنما ﴾ تدفع ﴿ الصدقاتُ ﴾ الواجبة أي : الزكاة لهؤلاء الثمانية، وهذا يُرَجَّحُ أن لَمْزهم كان في قسم الزكاة لا في الغنائم، واختصاص دفع الزكاة بهؤلاء الثمانية مجمع عليه، واختلف : هل يجب تعميمهم ؟ فقال مالك : ذلك إلى الإمام، إن شاء عمم وإن شاء خصص، وإن لم يلها الإمام ؛ فصاحب المال مخير، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وأفتى به بعض الشافعية، وقال الشافعي : يجب أن تقسم على هذه الأصناف بالسواء، إن وجدت.
أولها : الفقير : وهو من لا شيء له، وثانيها : المسكين : وهو من له شيء لا يكفيه. فالفقير أحوج، وهو مشتق من فقار الظهر، كأنه أصيب فقاره، والمسكين من السكون، كأن العجز أسكنه. ويدل على هذا قوله تعالى :﴿ أمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَت لِمَسَاكِينَ ﴾
[ الكهف : ٧٩ ]. فسماهم مساكين مع ملكهم السفينة، وأنه صلى الله عليه وسلم سأل المسكنة ؛ وقيل بالعكس، لقوله تعالى :﴿ أًو مِسكيناً ذَا مَتربَةٍ ﴾ [ البلد : ١٦ ] وقيل : هما سواء. ﴿ والعاملينَ عليها ﴾ أي : الساعين في تحصيلها وجمعها، ويدخل فيهم الحاشر والكاتب والمفرق، ولا بأس أن يعلف خيلهم منها، ويضافون منها بلا سَرف. ﴿ والمؤلفة قلوبهم ﴾ قال مالك : هم كفار ظهر ميلهم للإسلام، فيعطوا ترغيباً في الإسلام. وقيل قوم أسلموا ونيتهم ضعيفة، فيعطون ليتمكن الإسلام في قلبهم، وحكمُهم باق، وقيل : أشراف يُترقب بإعطائهم إسلام نظائرهم.
﴿ وفي الرقاب ﴾ أي : في فك الرقاب، يشترون ويعتقون، ﴿ والغَارِمينَ ﴾، أي : مَنْ عليهم دَيْن، فيعطى ليقضي دينه، ويشرط أن يكون استدانة في غير فساد ولا سرف، وليس له ما يبيع في قضائه. ﴿ وفي سبيل الله ﴾ يعني : الجهاد، فيعطى منها المجاهدون وإن كانوا أغنياء، ويشتري منها آلة الحرب، ولا يبنى منها سور ولا مركب. ﴿ وابن السبيل ﴾ وهو الغريب المحتاج لما يوصله لبلده، ولم يجد مسلفاً، إن كان مليَّاَ ببلده، وإلا أعطي مطلقاً.
فرض الله ذلك ﴿ فريضة من الله ﴾ أي : حقاً محدوداً عند الله. قال ابن جزي : ونصبه على المصدر يعني : لفعل محذوف كما تقدم فإن قيل : لِمَ ذكر مصرف الزكاة في تضاعيف ذكر المنافقين ؟ فالجواب : أنه خص مصرف الزكاة في تلك الأصناف ؛ ليقطع طمع المنافقين فيها، فاتصلت هذه الآية في المعنى بقوله :﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقات. . . ﴾ ه. ﴿ والله عليمٌ حكيم ﴾ ؛ يضع الأشياء في مواضعها.
الإشارة : إنما النفحات والمواهب للفقراء والمساكين، الذين افتقروا من السِّوى، وسكنوا في حضرة شهود المولى. وفي الحكم. " ورود الفاقات أعياد المريدين، ربما وجدت من المزيد في الفاقة ما لا تجده في الصوم والصلاة، الفاقات بسُطُ المواهب. إن أردت بسط المواهب عليك فصحح الفقر والفاقة لديك. ﴿ إنما الصدقات للفقراء والمساكين ﴾.
وقال الهروي : الفقر صفة مهجورة، وهو ألذُّ ما يناله العارف، لكونها تدخله على الله، وتجلسه بين يدي الله، وهو أعم المقامات حكماً ؛ لقطع العوائق، والتجرد من العلائق، واشتغال القلب بالله. وقيل : الفقير الصادق لا يملِك ولا يُملَك. وقال الشبلي : الفقير لا يستغني بشيء دون الله. وقال الشيخ ابن سبعين رضي الله عنه : الفقير هو الذي لا يحصره الكون. ه. يعني : لخروج فكرته عن دائرة الأكوان، وقال القشيري : الفقير الصادق عندهم : مَنْ لا سماء تُظِله، ولا أرضَ تُقِلُّه، ولا سهم يتناوله، ولا معلومَ يشغِله، فهو عبد الله بالله. ه.
وقال السهروردي في عوارفه : الفقر أساس التصوف، وبه قوامه، ويلزم من وجود التصوف وجود الفقر ؛ لأن التصوف اسم جامع لمعاني الفقر والزهد، مع زيادة أحوال لا بد منها للصوفي، وإن كان فقيراً زاهداً. وقال بعضهم : نهاية الفقر بداية التصوف ؛ لأن التصوف اسم جامع لكل خلق سني، والخروج من كل خلق دنيء، لكنهم اتفقوا ألاًّ دخول على الله إلا من باب الفقر، ومن لم يتحقق بالفقر لم يتحقق بشيء مما أشار إليه القوم.
وقال أبو إسحاق الهروي أيضاً : من أراد أن يبلغ الشرفَ كل الشرف ؛ فليخترْ سبعاً على سبع، فإن الصالحين اختاروها حتى بَلَغُوا سنام الخير. اختاروا الفقر على الغنى، والجوع على الشبع ؛ والدُّون على المرتفع، والذلَّ على العز، والتواضع على الكبر، والحزن على الفرح، والموت على الحياة. ه. وقال بعضهم : إن الفقير الصادق ليحترز من الغنى ؛ حذراً أن يدخله ؛ فيفسد عليه فقره، كما يحترز الغنى من الفقر ؛ حذراً أن يفسد عليه غناه.
قال بعض الصالحين : كان لي مال، فرأيت فقيراً في الحرم جالساً منذ أيام، ولا يأكل ولا يشرب وعليه أطمار رثة، فقلت : أُعينه بهذا المال ؛ فألقيته في حجره، وقلت : استعن بهذا على دنياك، فنفض بها في الحصباء، وقال لي : اشتريتُ هذه الجلسة مع ربي بما ملكت، وأنت تفسدها عليَّ ؟ ثم انصرف وتركني ألقُطها. فوالله ما رأيت أعز منه لَمَّا بَدَّدَها، ولا أذل مني لما كنت ألقطها. ه.
وكان بعضهم إذا أصبح عنده شيء ؛ أصبح حزيناً، وإذا لم يصبح عنده شيء ؛ أصبح فرحاً مسروراً، فقيل له : إنما الناس بعكس هذا، فقال : إني إذا لم يصبح عندي شيء فلي برسول الله صلى الله عليه وسلم أُسوة، وإذا أصبح لي شيء لم يكن لي برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة. ه. وجمهور الصوفية : يفضلون الفقير الصابر على الغني الشاكر، ويُفضلون الفقر في الجملة على الغني ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام اختاره، وما كان ليختار المفضول. وشذ منهم يحيى بن معاذ الواعظ وأحمد بن عطاء.
قال القشيري : كان ابن عطاء يُفضل الغنى على الفقر، فدعا عليه الجنيد فأصيب عقله ثلاثين سنة، فلما رجع إليه عقله قال : إنما أصابني ما أصابني بدعاء الجنيد. وتكلم يحيى بن معاذ، ففضل الغنى على الفقر، فأعطاه بعض الأغنياء ثلاثين ألف درهم، فدعا بعض المشايخ عليه، فقال : لا بارك الله له فيها، فخرج عليه اللص فنهبه إياها. ه. وحكي عن أبي يزيد البسطامي : أنه قال : أًسري بروحي، فرأيت كأني واقف بين يدي الله، فسمعت قائلاً يقول : يا أبا يزيد، إن أردت القرب منا فأتنا بما ليس عندنا، فقلت : يا مولاي وأي شيء ليس عندك، ولك خزائن السماوات والأرض ؟ فسمعت : يا أبا يزيد، ليس عندي ذل ولا فقر فمن أتاني بهما بلّغته. ه.
وقال في الإحياء : الفقر المستعاذ منه : فقر المضطر، والمسؤول هو : الاعتراف بالمسكنة والذلة والافتقار إلى الله عز وجل. ه. قلت : والأحسن أن المستعاذ منه هو : فقر القلوب من اليقين، فيسكنها الجزع والهلع، والفقر المسؤول هو : التخفيف من الشواغل والعلائق، والله تعالى أعلم.
وقد تكلم القشيري هنا على أخذ الزكاة وتركها، فقال : من أهل المعرفة من رأى أنَّ أَخذَ الزكاة المفروضة أَولى، قالوا : لأن الله سبحانه جعل ذلك مِلكاً للفقير، فهو أحل له من المتطوع به. ومنهم من قال : الزكاة المفروضة لأقوام مستحقة، ورأوا الإيثار على الإخوان أولى، فلم يزاحموا أرباب السهمان، وتحرجوا من أخذ الزكاة، ومنهم من قال : إن ذلك وسخ الأموال، وهو لأصحاب الضرورات. وقالوا : نحن آثرنا الفَقْرَ اختياراً. . . فلم يأخذوا الزكاة المفروضة. ه.
وقوله تعالى :( والعاملين عليها ) : هم المستعدون للمواهب بالتفرغ والتجريد، و( المؤلفة قلوبهم ) على حضرة محبوبهم، والجادُّون في فك الرقاب من الجهل والغفلة ؛ وهم أهل التذكير، الداعون إلى الله، ( والغارمين ) أي : الدافعون أموالهم ومهجهم في رضى محبوبهم، فافتقروا فاستحقوا حظهم من المواهب والأسرار، و( في سبيل الله ) أي : المجاهدون أنفسهم في مرضاة الله. ( وابن السبيل ) : السائحين في طلب معرفة الله. والله تعالى أعلم.
﴿ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
قلت :( قل أُذُنُ خير ) : من قرأ بالإضافة ؛ ف ( لكم ) : متعلق بالاستقرار، أي : هو أذن خير كائن لكم. ومن قرأ بالتنوين ؛ ف ( خير ) : خبر عن " أُذن " ؛ خبر ثانٍ، ومن قرأ :" ورحمة " ؛ بالرفع فعطف على ( أذن خير )، ومن قرأ بالجر، فعطف على " خير "، المجرور.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ومنهم الذين يُؤذون النبيَّ ويقولون ﴾ فيه :﴿ هو أُذُنُ ﴾ يسمع كل ما يقال له يصدقه ؛ حقاً كان أو باطلاً، فإذا حلفنا له أنا لم نقل شيئاً صدقنا. والقائل لهذه المقالة : قيل : هو نَبْتَل بْن الحَارِثِ، وكان من مردة المنافقين : وقيل : عتاب بن قشير، في جماعة، قالوا : محمد أذن سامِِعِه، نقول ما شئنا، ثم نأتيه فيصدقنا فيما نقول. قال البيضاوي : سمي بالجارحة للمبالغة ؛ كأنه من فرط استماعه صار جملته آلة السماع، كما سمي الجاسوس عيناً. ه.
قال تعالى في الرد عليهم :﴿ قل أُذُنُ خيرٍ لكم ﴾ أي : هو لكم سماع خير وحق، فيسمع الخير والحق ويبلغه لكم، أو قل : هو أذنٌ خيرٌ لكم من كونه غير أذن ؛ لأن كونه أذناً يقبل معاذيركم ؛ ولو كان غير أذن لكذبكم وفضحكم. وفي ( الوجيز ) أي : مستمع خير وصلاح، لا مستمع شر وفساد.
قال البيضاوي : وهو تصديق لهم بأنه أذن، لكن لا على الوجه الذي ذموا به يعني من تنقصه بقلة الحزم والانخداع بل من حيث إنه يسمع الخير ويقبله. ثم فسر ذلك بقوله :﴿ يؤمنُ بالله ﴾ ؛ يصدق بالله وبما له من الكمالات، ﴿ ويُؤمنُ للمؤمنين ﴾ ؛ ويصدقهم ؛ لما يعلم من خلوصهم، واللام مزيدة ؛ للتفرقة بين إيمان التصديق وإيمان الإذعان والأمان، ﴿ ورحمةٌ للذين آمنوا منكم ﴾ أي : هو رحمة لمن أظهر الإيمان منكم، بحيث يقبله ولا يكشف سره. وفيه تنبيه على أنه ليس يقبل قولكم ؛ جهلاً بكم، بل رفقاً بكم وترحماً عليكم، قاله البيضاوي.
وفي ابن عطية : وخص الرحمة بالذين آمنوا ؛ إذ هم الذين نجوا بالرسول وفازوا. وفي الوجيز : وهو رحمة لهم، لأنه كان سبب إيمانهم. ه. فظاهره أن الإيمان الصادر منهم كان حقيقياً، وهو حُسنُ خلافٍ ظاهر. قال البيضاوي : أي : هو رحمة لمن وفقه الله للإيمان منكم.
﴿ والذين يُؤذون رسول الله ﴾ بأي نوع من الإيذاء، ﴿ لهم عذابٌ أليم ﴾ موجع بسبب إذايته.
الإشارة : تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم ومدحه وذكر محاسنه، من أجل القربات وأعظم الطاعات ؛ لأن تعظيمه ناشئ عن محبته، ومحبته عقد من عقود الإيمان، لا يتم الإيمان إلا بها، والإخلال بهذا الجانب من أعظم المعاصي عند الله، ولذلك قبح كفر المنافقين واليهود، الذين يؤذون جانب النبوة، وما عابه به المنافقون في هذه الآية هو عين الكمال عند أهل الكمال.
قال القشيري : عابوه بما هو أمارة كرمه، ودلالة فضله، فقالوا : إنه ؛ لحُسن خُلُقه، يسمع ما يقال له، وقد قال صلى الله عليه وسلم :" المُؤمنُ غِرٌّ كَرِيمٌ والمُنافِقُ خِبٌّ لَئِيمٌ " ١. قالوا : من الفاضل ؟ قالوا : الفَطِنُ المُتَغَافِلُ، وأنشدوا٢ :
وإذا الكريمُ أَتَيْتَه بخدِيعَةٍ | فرأيته فيما ترومُ يُسارعُ |
فاعلمْ بأنَّك لم تخادِعْ جاهلاً | إنَّ الكريمَ بفضله يتخادع |
٢ البيتان لعبد المجيد بن إسماعيل الرومي في النجوم الزاهرة ٥/١٢٧٢..
﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ * ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذالِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ ﴾
قلت : إنما وحّد الضمير في ( يُرضوه ) إما لأن رضى أحدهما رضى الآخر، فكأنهما شيء واحد، أو لأن الكلام إنما هو في إيذاء الرسول عليه الصلاة والسلام وإرضائه، فذكر الله تعظيماً لجانب الرسول، أو لأن التقدير : والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك ؛ فهما جملتان.
يقول الحق جل جلاله :﴿ يحلفون بالله ﴾ أي : المنافقون، ﴿ لكم ﴾ أيها المؤمنون، حين يعتذرون في التخلف عن الجهاد وغيره، ﴿ ليُرْضوكم ﴾ أي : لترضوا عنهم وتقبلوا عذرهم، ﴿ واللَّهُ ورسولهُ أحقُ أن يرضُوه ﴾ بالطاعة والوفاق، واتباع ما جاء به، ﴿ إن كانوا مؤمنين ﴾ صادقين في إيمانهم.
مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ مَاتَ غَمّاً | وفَازَ باللذاتِ الجسُور |
﴿ ألم يعلموا أنه ﴾ أي : الأمر والشأن، ﴿ من يُحادِدِ اللَّهَ ورسولهُ ﴾ يعاديهما، ويخالف أمرهما ﴿ فأنّ له ﴾ ؛ فواجبٌ أن له ﴿ نارَ جهنم خالداً فيها ذلك الخزيُ ﴾ أي : الهول ﴿ العظيم ﴾، والهلاك الدائم، والعياذ بالله.
مَنْ رَاقَبَ النَّاسَ مَاتَ غَمّاً | وفَازَ باللذاتِ الجسُور |
﴿ يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِءُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ﴾ * ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ ﴾ * ﴿ لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ﴾
قلت : الضمائر في " عليهم "، و " تنبئهم "، و " قلوبهم "، تعود على المنافقين ؛ خلافاً للزمخشري في الأولين، فقال : يعود على المؤمنين، وتبعه البيضاوي.
يقول الحق جل جلاله :﴿ يحذَرَ المنافقون أن تُنَزّلَ عليهم ﴾ أي : في شأنهم، ﴿ سورةٌ ﴾ من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، ﴿ تُنبئهم ﴾ أي : تخبرهم، أي : المنافقين، ﴿ بما في قلوبهم ﴾ من الشك والنفاق، وتهتك أستارهم، وكانوا يستهزئون بأمر الوحي والدين، فقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام :﴿ قل ﴾ لهم :﴿ استهزئوا ﴾ ؛ تهديداً لهم، ﴿ إن الله مُخرِجٌ ما تحذَرُون ﴾ من إنزال السورة فيكم، أو ما تحذرون من إظهار مساوئكم.
قال تعالى :﴿ قل أباللّهِ وآياتِه ورسوله كنتم تستهزئون ﴾، توبيخاً لهم على استهزائهم بما لا يصلح الاستهزاء به.
﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ * ﴿ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ * ﴿ كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾
قلت : قال في الأساس : ومن المجاز : نَسيتُ الشيء : تركتُه، ( نَسُوا الله فَنَسِيَهُمْ. قال في المشارق : ونسي بمعنى ترك، معناه مشهور في اللغة، ومنه :( نسوا الله فنسيهم ) أي : تركوا أمره فتركهم.
يقول الحق جل جلاله :﴿ المنافقون والمنافقاتُ بعضُهم من بعض ﴾ أي : متشابهة في الكفر والبعد عن الإيمان، لا فرق بين ذكورهم وإناثهم في النفاق والكفر، وهو نفي لأن يكونوا مؤمنين. وقيل : إنه تكذيب لهم في حلفهم بالله :﴿ إنهم لمنكم ﴾ وتقرير لقوله :﴿ وما هم منكم ﴾، وما بعده كالدليل عليه، فإنه يدل على مضادة حالهم لحال المؤمنين. وهو قوله :﴿ يأمرون بالمنكر ﴾ ؛ كالكفر والمعاصي، ﴿ وينْهَون عن المعروف ﴾ ؛ كالإيمان والطاعة، ﴿ ويقبضُون أيديَهم ﴾ عن الإعطاءِ والمبار، وهو كناية عن البخل والشح. ﴿ نَسُوا الله ﴾ أي : غفلوا، أي : أغفلوا ذكره، وتركوا طاعته، ﴿ فنسيهم ﴾ ؛ فتركهم من لطفه ورحمته وفضله، ﴿ إن المنافقين هم الفاسقون ﴾ ؛ الكاملون في التمرد والفسوق عن دائرة الخير.
﴿ كالذين من قبلكُم ﴾ أي : أنتم كالذين من قبلكم، أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم، ﴿ كانوا أشدَّ منكم قوةً وأكثر أموالاً وأولاداً ﴾، وهو بيان لتشبيههم بهم، وتمثيل حالهم بحالهم، ﴿ فاستمتعوا بخلاقهم ﴾ أي : نصيبهم من ملاذ الدنيا وحظوظها، فأمّلوا بعيداً وبنوا مشيداً، فرحلوا عنه وتركوه، فلا ما كانوا أملوا أدركوا، ولا إلى ما فاتهم رجعوا، ﴿ فاستمتعتُم ﴾ أنتم ﴿ بخلاقِكم ﴾ أي : بنصيبكم مما خلق الله لكم وقدره لكم في الأزل، ﴿ كما استمتع الذين من قبلكُم بخلاقِهِم ﴾، ثم تركوا ورحلوا عنه، كذلك ترحلون أنتم عنه وتتركونه.
قال البيضاوي : ذمَّ الأولين باستمتاعهم بحظوظهم المُخدَّجة من الشهوات الفانية، والتِهَائِهم بها عن النظر في العاقبة، والسعي في تحصيل اللذائذ الحقيرة ؛ تمهيداً لذم المخاطبين بمشابهتهم واقتفاء آثارهم. ه.
﴿ وخُضْتُم ﴾ في الباطل ﴿ كالذي خاضُوا ﴾ أي : كخوضهم، أو كالخوض الذي خاضوه، وقيل : كالذين خاضوا فيه، فأوقع الذم على الجمع. ﴿ أولئك حبِطَتْ أَعمالُهم في الدنيا والآخرة ﴾ أي : لم يستحقوا عليها ثواباً في الدارين، ﴿ وأولئك هم الخاسرون ﴾ ؛ الكاملون في الخسران، خسروا الدنيا والآخرة.
﴿ أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَاكِن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله : في شأن المنافقين :﴿ ألم يأتهم نبأُ ﴾ : خبر ﴿ الذين من قبلِهمْ ﴾، كيف دمرهم الله وأهلكهم، حيث خالفوا رسلهم، ﴿ قوم نوح ﴾ ؛ أغرقهم بالطوفان، ﴿ و ﴾ قوم ﴿ عاد ﴾ ؛ أهلكهم بالريح، ﴿ وثمودَ ﴾ ؛ أهلكهم بالصيحة، ﴿ وقومِ إبراهيم ﴾ ؛ أهلك نمرود ببعوض، وأهلك أصحابه به، أرسل عليهم سحابة من البعوض فخرطتهم، ودخلت بعوضة في دماغه فأكلت دماغه، حتى هلك، ﴿ وأصحاب مَدينَ ﴾، وهم قوم شعيب، أُهلكوا بالنار يوم الظلة، ﴿ والمؤتفكات ﴾ ؛ مدائن قوم لوط، ائتفكت بهم، أي انقلبت، فصار عاليها سافلها، وأمطروا حجارات من سجيل. ﴿ أتتهم رسلُهم ﴾ أي : كل واحدة منهن أتاها رسول ﴿ بالبيات ﴾ ؛ بالمعجزات الواضحة، ﴿ فما كان الله ليظلمهم ﴾ أي : لم يكن من عادته ما يشابه ظلم الناس، كالعقاب بلا جرم. ﴿ ولكن كانوا أنفسهم يَظلمُون ﴾ ؛ حيث عرضوها للعقاب بالكفر والتكذيب.
الإشارة : ينبغي للمؤمن المشفق على نفسه أن يتحرى مواطن الهلكة، فيجتنبها بقدر الإمكان ؛ فينظرها ما فعل الله بأهل المخالفة والمعاصي، فيهرب منها بقدر إمكانه، وينظر ما فعل بأهل طاعته وطاعة رسوله من النصر والعز في الدارين، فيبادر إليها فوق ما يطيق، ويعظم الرسل، ومن كان على قدمهم ممن حمل الأمانة بعدهم، ويشد يده على صحبتهم وخدمتهم ؛ فهذا يسعد سعادة الدارين. وبالله التوفيق.
﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَائِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ * ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ والمؤمنون والمؤمناتُ بعضهم أولياءُ ﴾ أي : أصدقاء ﴿ بعضٍ ﴾، وهذا في مقابلة قوله :﴿ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض ﴾، وخص المؤمنين بالوصف بالولاية، ﴿ يأمرون بالمعروف وينهَونَ عن المنكر ﴾ ؛ ضد ما فعله المنافقون، ﴿ ويُقيمون الصلاة وَيُؤتون الزكاة ﴾ ؛ ضد قوله :﴿ وَيَقْبِضُون أَيْدِيَهُمْ ﴾، ﴿ ويُطيعون الله ورسوله ﴾ في سائر الأمور، ضد قوله :﴿ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾، ﴿ أولئك سيرحمهم الله ﴾ لا محالة ؛ لأن السين مؤكدة للوقوع، ﴿ إن الله عزيزٌ ﴾ ؛ غالب على كل شيء، ولا يمتنع عليه ما يريده، ﴿ حكيم ﴾ يضع الأشياء مواضعها.
قال القشيري، عند قوله تعالى :﴿ إنَّ أصحابَ الجنَّة اليومَ في شُغُلٍ فَكِهُون ﴾ [ يس : ٥٥ ] : إنه لا تنافي بين اشتغالهم بلذاتهم مع أهليهم وبين شهود أمرهم، كما أنهم اليومَ مستلذون بمعرفته بأي حالةٍ هم فيها، ولا يَقْدَحُ اشتغالهم بحُظُوظِهِم في معارفهم. انتهى لفظه، وهو حسن. والله تعالى أعلم.
وذلك ﴿ في جنات عَدنْ ﴾، أي : إقامةٍ وخلود. وعنه عليه الصلاة والسلام :" جنات عدن : دار الله، التي لم ترها عين، ولا تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاث : النبيون، والصديقون، والشهداء. يقول الله تعالى :﴿ طوبى لمن دخلك ﴾٣ قاله البيضاوي. ثم قال : ومرجع العطف فيها أي : في قوله :﴿ ومساكن طيبة ﴾ يحتمل أن يكون لتعدد الموعود لكل واحد له، أي : فكل مؤمن ومؤمنة له جنات ومساكن، أو للجميع ؛ على سبيل التوزيع، أي : فالجنات والمساكن معدة للجميع، ثم يقسمونها على حسب سعيهم في الدنيا، أو إلى تغاير وصفه أي : الموعود فكأنه وصفه أولاً بأنه جنس ما هو أبهى الأماكن التي يعرفونها ؛ لتميل إليه طبائعهم أول ما يقرع أسماعهم. ثم وصفه بأنه محفوف بطيب العيش، معرى عن شوائب الكدرات التي لا تخلو عن شيء منها أماكن الدنيا، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. ثم وصفه بأنه دار إقامة وثبات في جوار رب العالمين، لا يعتريهم فيها فناء ولا تغيير.
ثم وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال :﴿ ورضوانٌ من الله أكبرُ ﴾ ؛ لأنه المَبدأ لكل سعادة وكرامة، والمؤدي إلى نيل الوصول والفوز باللقاء. وعنه صلى الله عليه وسلم :" إنَّ اللَّهَ تعالى يَقُولُ لأَهْلِ الجَنَّةِ : هَلْ رَضيتُم ؟ فَيَقُولونَ : وَما لَنَا لا نَرضى وَقَد أعطيتَنا ما لم تُعطِ أحداً مَنْ خَلقِكَ، فيَقُول : أَنَا أُعطِيكُم أفضل مَنْ ذَلِكَ. قالوا : أَيّ شَيء أَفضَلُ مَنْ ذلِكَ ؟ قال : أُحِلَ عَلَيكُم رِضوَاني فَلاَ أسخَطُ عَلَيكُم أَبَدا " ٤. ﴿ ذلك ﴾ أي : الرضوان، أو جميع ما تقدم، ﴿ هو الفوزُ العظيم ﴾ الذي تستحقر دونه الدنيا وما فيها. ه.
قال القشيري، عند قوله تعالى :﴿ إنَّ أصحابَ الجنَّة اليومَ في شُغُلٍ فَكِهُون ﴾ [ يس : ٥٥ ] : إنه لا تنافي بين اشتغالهم بلذاتهم مع أهليهم وبين شهود أمرهم، كما أنهم اليومَ مستلذون بمعرفته بأي حالةٍ هم فيها، ولا يَقْدَحُ اشتغالهم بحُظُوظِهِم في معارفهم. انتهى لفظه، وهو حسن. والله تعالى أعلم.
٢ أخرجه أحمد في المسند ٥/٣٤٣..
٣ أخرجه البزار في كشف الأستار ٤/١٩٢، والطبري في تفسيره ١٠/١٨٠..
٤ أخرجه البخاري في التوحيد باب ٣٧، والرقاق باب ٥١، ومسلم في الإيمان حديث ٣٠٢، وصفة الجنة حديث ٩، وأحمد في المسند ٣/٨٨، ٩٥..
﴿ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ * ﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها النبيُّ جاهد الكفار ﴾ بالسيف، ﴿ والمنافقين ﴾ باللسان ؛ بإلزام الحجة وبإقامة الحدود ؛ ما لم يظهر عليهم ما يدل على كفرهم، فإن ظهر عليهم ذلك فحكمهم كحكم الزنديق، فيقتل على المشهور. ﴿ واغْلظْ عليهم ﴾ بالقول والفعل، إن استوجبوا ذلك، ولا تراقبهم، ﴿ ومأواهم جهنُم وبئس المصير ﴾ أي : المرجع، مصيرهم.
قال تعالى :﴿ ولقد قالوا كلمة الكفر ﴾، يعني : ما تقدم من قول الجُلاس، أو قول ابن أُبيّ : سَمِّن كَلبَك يأكُلك، أو :﴿ لئن رجعنا إلى المدينة ﴾. . . الآية. ﴿ وكفروا بعد إسلامهم ﴾ ؛ وأظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام، ولم يقل بعد إيمانهم، لأنهم يقولون بألسنتهم : آمنا، ولم يدخل في قلوبهم، ﴿ وهَمُّوا بما لم ينالوا ﴾ من قتل النبي صلى الله عليه وسلم وهو : أن خمسة عشر منهم توافقوا عند مَرْجِعِه من تبوك، أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي، إذا وصل إلى العَقَبة بالليل، فأخذ عمَّار بن ياسر بخطام راحلته يقودها، وحُذيفة خلفها يسوقها، فبينما هم كذلك إذ سمع حُذَيفة تقعقع أخفاف الإبل وقعقعة السلاح، فقال : إليكم إليكم إليكم يا أعداء الله، فهربوا١. أو : هموا بإخراجه من المدينة، أو إخراج المؤمنين، أو هموا بأن يُتَوجُوا عبد الله بن أُبي، وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينالوا شياً من ذلك.
﴿ وما نَقَمُوا ﴾ أي : وما عابوا وكرهوا ﴿ إلا أن أغناهم الله ورسولُهُ من فضله ﴾ الذي حقهم أن يشكروا عليه، وذلك أن أكثر أهل المدينة كانوا محاويج، في ضَنَكٍ من العيش، فلما قَدِمَهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم، وقُتِل للجُلاَس مولى، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدينه اثني عشر ألفاً، فأُعطيت له، فاستغنى.
﴿ فأن يتوبُوا يَكُ خيراً لهم ﴾، وهذا حمل الجلاس على التوبة، والضمير يعود على الرجوع المفهوم من التوبة، ﴿ وإن يتولوا ﴾ عنك ؛ بالإصرار على النفاق، ﴿ يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا والآخرة ﴾ ؛ بالقتل والنار، ﴿ وما لهم في الأرض من وليِّ ولا نصير ﴾ ينجيهم من العذاب.
﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ * ﴿ فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ ﴾ * ﴿ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَآ أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴾ * ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ومنهم من عاهد الله ﴾ وقال :﴿ لئن آتانا من فضله لنصدِّقنّ ولنكونَنَّ من الصالحين ﴾، وهو ثعلبة بن حاطب، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : ادعُ الله يرزقني مالاً. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :" يا ثعلبة، قليلٌ تُؤدي شُكرَهُ خيرٌ من كثير لا تُطيقه، فراجعه، وقال : والذي بعثك بالحق، لئن رزقني الله مالاً لأعطين كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فدعا له، فاتخذ غنماً، فَنَمت كما تنمو الدود، حتى ضاقت بها المدينة، فنزل وادياً، وانقطع عن الجماعة والجمعة، فسأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل : كثر ماله حتى لا يسعه وادٍ، فقال :" يا ويح ثعلبة ". فبعث له مُصدقين لأخذ الصدقات ؛ فاستقبلهما الناس بصدقاتهم، ومروا بثعلبة فسألاه الصدقة، وأقرآه الكتابَ الذي فيه الفرائض، فقال : ما هذه صدقة، ما هذه إلا أخت الجزية، فارجعا حتى أرى رأيي، فنزلت فيه الآية، فجاء ثعلبة بالصدقة، فقال : إن الله منعني أن أقبل منك، فجعل يحثو التراب على رأسه، فقال له صلى الله عليه وسلم :" هذا منك ؛ فقد أمرتُك فلم تطعني "، فقُبض الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء بها إلى أبي بكر، فلم يقبلها، ثم جاء بها إلى عمر في خلافته، فلم يقبلها منه، وهلك في زمن عثمان، بعد أن لم يقبلها منه١.
وقال صلى الله عليه وسلم :" ما طَلَعت شمسٌ إلا وَبِجَنْبيها ملكان يُناديَان، يُسمعان الخَلائِقَ : أيُّها النَّاس، هلمُّوا إلى ربَّكم، ما قَلَّ وكَفى خَيرٌ مما كَثرَ وألهى " ٢. وقال بعض العارفين : كل من لا يعرف قدر ما زوي عنه في الدنيا، ابتلي بأحد وجهين : إما بحرص مع فقر يتقطع به حسرات، أو رغبة في غنى تنسيه شكر ما أنعم به عليه.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لَيْسَ الغِنى بكَثرةِ العَرَض، إنما الغِنى غِنى النَّفس ". وغنى النفس عن الدنيا : شرف الأولياء المختارين، وعز أهل التقوى المؤمنين المحسنين. ولقد صدق قول الشاعر :
غِنَى النَّفسِ ما يُغنِيكَ عنْ سَد خُلَّةٍ | فإن زِدتَ شَيئاً عَادَ ذَلك الغِنى فَقْرا |
وقال صلى الله عليه وسلم :" ما طَلَعت شمسٌ إلا وَبِجَنْبيها ملكان يُناديَان، يُسمعان الخَلائِقَ : أيُّها النَّاس، هلمُّوا إلى ربَّكم، ما قَلَّ وكَفى خَيرٌ مما كَثرَ وألهى " ٢. وقال بعض العارفين : كل من لا يعرف قدر ما زوي عنه في الدنيا، ابتلي بأحد وجهين : إما بحرص مع فقر يتقطع به حسرات، أو رغبة في غنى تنسيه شكر ما أنعم به عليه.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لَيْسَ الغِنى بكَثرةِ العَرَض، إنما الغِنى غِنى النَّفس ". وغنى النفس عن الدنيا : شرف الأولياء المختارين، وعز أهل التقوى المؤمنين المحسنين. ولقد صدق قول الشاعر :
غِنَى النَّفسِ ما يُغنِيكَ عنْ سَد خُلَّةٍ | فإن زِدتَ شَيئاً عَادَ ذَلك الغِنى فَقْرا |
وقال صلى الله عليه وسلم :" ما طَلَعت شمسٌ إلا وَبِجَنْبيها ملكان يُناديَان، يُسمعان الخَلائِقَ : أيُّها النَّاس، هلمُّوا إلى ربَّكم، ما قَلَّ وكَفى خَيرٌ مما كَثرَ وألهى " ٢. وقال بعض العارفين : كل من لا يعرف قدر ما زوي عنه في الدنيا، ابتلي بأحد وجهين : إما بحرص مع فقر يتقطع به حسرات، أو رغبة في غنى تنسيه شكر ما أنعم به عليه.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لَيْسَ الغِنى بكَثرةِ العَرَض، إنما الغِنى غِنى النَّفس ". وغنى النفس عن الدنيا : شرف الأولياء المختارين، وعز أهل التقوى المؤمنين المحسنين. ولقد صدق قول الشاعر :
غِنَى النَّفسِ ما يُغنِيكَ عنْ سَد خُلَّةٍ | فإن زِدتَ شَيئاً عَادَ ذَلك الغِنى فَقْرا |
وقال صلى الله عليه وسلم :" ما طَلَعت شمسٌ إلا وَبِجَنْبيها ملكان يُناديَان، يُسمعان الخَلائِقَ : أيُّها النَّاس، هلمُّوا إلى ربَّكم، ما قَلَّ وكَفى خَيرٌ مما كَثرَ وألهى " ٢. وقال بعض العارفين : كل من لا يعرف قدر ما زوي عنه في الدنيا، ابتلي بأحد وجهين : إما بحرص مع فقر يتقطع به حسرات، أو رغبة في غنى تنسيه شكر ما أنعم به عليه.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لَيْسَ الغِنى بكَثرةِ العَرَض، إنما الغِنى غِنى النَّفس ". وغنى النفس عن الدنيا : شرف الأولياء المختارين، وعز أهل التقوى المؤمنين المحسنين. ولقد صدق قول الشاعر :
غِنَى النَّفسِ ما يُغنِيكَ عنْ سَد خُلَّةٍ | فإن زِدتَ شَيئاً عَادَ ذَلك الغِنى فَقْرا |
﴿ الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ * ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴾
قلت :( الذين ) : مبتدأ حُذف خبره، أي : منهم الذين، أو خبر عن مبتدأ، أو منصوب على الذم، أو بدل من ضمير سرهم. وأصل المطوعين : المتطوعين، فأدغمت التاء في الطاء، ( وجهدهم ) : مصدر جهد في الأمر : بالغ فيه.
يقول الحق جل جلاله : ومنهم ﴿ الذين يلمزون ﴾ أي : يعيبون ﴿ المُطَّوِّعِين من المؤمنين في الصدقات ﴾، روي أنه صلى الله عليه وسلم حث على الصدقة، فجاء عبدُ الرَّحْمانِ بْنُ عَوْفٍ بأرْبَعَةِ آلافِ دِرْهم، وقال : كان لي ثمانية آلافٍ، فأقرضت ربي أربعة، وأمسكت لعيالي أربعة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" باركَ الله لكَ فِيما أَعطَيت وفيما أمْسَكْتَُ ". فبارك الله له حتى صالحته إحدى زوجتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم. وتصدق عاصم بن عدي بثمانية أوسق تمراً، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع تمر، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَنْثُرَه على تمر الصدقات، فلمزَهم المنافقون، وقالوا : ما أعطي عبد الرحمان عاصم إلا رياءً، ولقد كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل، فنزلت الآية.
ونزلت في أبي عقيل :﴿ والذين لا يجِدُون إلا جُهدهُم ﴾ ؛ إلا طاقتهم، ﴿ فيسْخَرون منهم ﴾ ؛ يستهزئون بهم. قال تعالى :﴿ سخر الله منهم ﴾ ؛ جازاهم على سخريتهم، كقوله :﴿ اللَّهُ يَستَهزئُ بِهِم ﴾ [ البقرة : ١٥ ]، ﴿ ولهم عذاب أليم ﴾ على كفرهم.
﴿ ذلك ﴾ أي : عدم قبول استغفارك بسبب أنهم ﴿ كفروا بالله ورسوله ﴾ أي : ليس لبُخل منا، ولا تقصير في حقك، بل لعدم قابليتهم ؛ بسبب الكفر الصارف عنها. ﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين ﴾ ؛ المتمردين في كفرهم، وهو كالدليل على الحكم السابق، فإن مغفرة الكافر بالإقلاع عن الكفر، والإرشاد إلى الحق، والمنهمك في كفره، المطبوع عليه، لا ينقلع ولا يهتدي، والتنبيه على عذر الرسول في استغفاره، وهو عدم يأسه من إيمانهم، ما لم يعلم مطبُوعون على الضلالة، والممنوع هو الاستغفار بعد العلم ؛ لقوله :﴿ مَا كَانَ للِنَّبيِ وَالَّذِينَ ءَامَنوا أن يستَغفِروا للِمُشرِكِينَ ﴾. . . الآية [ التوبة : ١١٣ ] قاله البيضاوي.
﴿ فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ﴾ * ﴿ فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ * ﴿ فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ ﴾
قلت :( خلافَ رسول الله ) : منصوب على الظرفية، أي : بعده، يقال : أقام خلاف الحي، أي : بعدهم، وقيل : مصدر خالف، فيكون مفعولاً لأجله، أو حال.
يقول الحق جل جلاله :﴿ فَرَحَ المخلَّفُون ﴾ أي : الذين خلفهم الله عن الغزو، وأقعدهم عنه، ولذلك عبَّر بالمخلفين دون المتخلفين، فرحوا ﴿ بمقعدهم خلافَ رسول الله ﴾ أي : بعده في غزوة تبوك، ﴿ وكَرِهُوا أن يُجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ﴾ ؛ إيثاراً للراحة والدّعَةِ على طاعة الله ورسوله. وفيه تعريض بالمؤمنين الذين آثروا عليها تحصيل رضاه ؛ ببذل الأموال والمهج، وأما المنافقون فآثروا الراحة وقعدوا، ﴿ وقالوا لا تَنفروا في الحر ﴾، قاله بعضهم لبعض، أو قالوه للمؤمنين تثبيطاً لهم. قال ابن جزي : قائل هذه المقالة رجل من بني سليم، ممن صعب عليه السفر إلى تبوك في الحر. ه. ﴿ قلْ نارُ جهنم أشدُّ حراً ﴾، وقد آثرتموها بهذه المخالفة، ﴿ لو كانوا يفقهون ﴾ أن مآلهم إليها، أو كيف هي ؟. . . ما اختاروها بإيثار الدعة على الطاعة.
﴿ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ * ﴿ وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾
قلت :( أبداً ) : ظرف لمات، أي : مات في مدة لا حياة بعدها ؛ فإنا حياة الكافر للتعذيب، وهي كلا حياة.
يقول الحق جل جلاله : لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ ولا تُصَلِّ على أحدٍ ﴾ من المنافقين إذا مات على كفره، بحيث ( مات أبداً ) أي : موتة لا حياة بعدها. نزلت في عبد الله بن أُبي رأس المنافقين، فإنه لما مرض، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يستغفر له ويكفنه في ثوبه الذي يلي جسده، ويصلي عليه، فلما مات أرسل قميصه ليُكفن فيه، وذهب ليصلي عليه، فنزلت. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تقدم للصلاة عليه جَذَبَه جبريل بثوبه، وتلا عليه الآية فانصرف، ولم يصلِّ عليه. وقيل : صلى عليه ثم نزلت. وفي البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تقدمَ للصلاة عليه جَذَبَهُ عمر، فقال : كيف تصلي عليه وقد نهاك ربك عن الصلاة على المنافقين ؟ فقال :" إِنَّما خَيَّرَنِي. . . " ١ الحديث.
قال البيضاوي : وإنما لم ينه عن التكفين في قميصه، ونهى عن الصلاة عليه ؛ لأن الضنة بالقميص كانت مُخِلة بالكرم، ولأنه كان مكافأة لإلباس العباس قميصه حين أُسر ببدر، والمراد من الصلاة : الدعاء للميت والاستغفار له، وهو ممنوع في حق الكافر، ولذلك رتب النهي على قوله :( مات أبداً ) ؛ يعني : الموت على الكفر، فإن إحياء الكافرين للتعذيب، دون التمتع، فكأنه لم يحيى. ه.
واستدل ابن عبد الحكم، بهذه الآية، على وجوب الصلاة على المؤمنين، وقرر اللخمي وجه الدليل منها بطريق النهي عن الشيء أمر بضده ؛ لأن ضد النهي عن الصلاة أمر بها. وأبطله المازوي قائلاً : وإنما هو من دليل الخطاب، ومفهوم المخالفة، وبيان عدم صحة كونها من باب النهي عن الشيء، أَنَّ شرط ذلك اتحاد متعلق الأمر والنهي، كقولك لزيد : لا تسكن، ومعناه تحرك، ومتعلقهما هنا مختلف، فمتعلق النهي : المنافقون، ومتعلق الأمر : المؤمنون. وكذا رد كونها دالة مفهوم المخالفة. انظر الحاشية الفاسية.
ثم قال تعالى :﴿ ولا تَقُم على قبره ﴾ أي : ولا تقف على قبره للدفن، أو الزيادة، ثم علل النهي فقال :﴿ إِنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا ﴾، والحال أنهم ﴿ فاسقون ﴾ ؛ خارجون عن دائرة الإسلام.
والبدارَ البدارَ إلى ما يقرب من الحبيب، من أنواع الطاعات، والمسارعة إلى الخيرات، وسائر الأخلاق الحسنة والشيم المستحسنة. وبالله التوفيق.
والبدارَ البدارَ إلى ما يقرب من الحبيب، من أنواع الطاعات، والمسارعة إلى الخيرات، وسائر الأخلاق الحسنة والشيم المستحسنة. وبالله التوفيق.
﴿ وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ الْقَاعِدِينَ ﴾ * ﴿ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ ﴾ * ﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ * ﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وإذا أنزلت سورة ﴾، أو بعضها، في شأن الجهاد قائلة :﴿ أن آمنوا بالله ﴾ وحده، ﴿ وجاهدوا مع رسوله ﴾ صلى الله عليه وسلم، ﴿ استأذَنَكَ ﴾ في التخلف ﴿ أُولو الطَّولِ منهم ﴾ أي : أولو الغنى والسعة، ﴿ وقالوا ذَرْنَا نكن مع القاعدين ﴾ ؛ الذين قعدوا لعذر.
﴿ وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
قلت :( المُعَذّرُون ) : أصله : المعتذرون، نقلت حركة التاء إلى العين، وأدغمت التاء في الذال. وقرأ يعقوب :" المُعذِرونَ " : اسم مفعول، من أعذر، إذا بالغ في العذر.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وجاء المُعذرون عن الأعراب ﴾ يعتذرون في التخلف عن الغزو ؛ ﴿ ليُؤذَنَ لهم ﴾ في القعود، قيل : هم أسد وغطفان ؛ استأذنوا في التخلف، معتذرين بالجهد وكثرة العيال. قيل : كاذبين، وقيل : صادقين. وقيل : هم رهط عامر بن الطفيل، قالوا : إن غزونا معك غارت طيّئ على أهالينا ومواشينا، وقيل : نزلت في قوم من غِفار.
﴿ وقَعَدَ الذين كذبوا اللَّه ورسوله ﴾ من غير هؤلاء، وهم قوم لم يجاهدوا ولم يعتذروا في تخلفهم، فكذبوا في دعواهم الإيمان بالله ورسوله، يقال : كذبت فلاناً بالتخفيف، أي : أخبرته بالكذب. ثم ذكر وعيدهم فقال :﴿ سيُصيبُ الذين كفروا منهم عذابٌ أليم ﴾ ؛ في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار.
الإشارة : المتخلفون عن طريق الخصوص على ثلاثة أقسام :
قسم : أقروا بها، وعرفوا صحتها، ثم شحوا بأنفسهم وبخلوا بأموالهم، فاعتذروا في التخلف عنها بأعذار باطلة، هؤلاء لا حجة لهم عند الله، وقوم أقبح منهم، لم يلتفتوا إلى من جاء بها ولم يرفعوا بذلك رأساً. قال تعالى في مثلهم :﴿ وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ﴾.
وقسم أقروا بها، وطلبوا الدخول فيها، لكن غلبتهم الأقدار، وأظهروا غاية الاعتذار، وتحقق عذرهم عند الواحد القهار، وإليهم الإشارة بقوله تعالى :
﴿ لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَآءِ وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾ * ﴿ وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ ﴾ * ﴿ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَآءُ رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ليس على الضعفاءِ ﴾ ؛ كالهرْمى، ﴿ ولا على المرضى ﴾ ؛ كالزّمْنَى ومن أضناه المرض، ﴿ ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون ﴾ في الغزو ﴿ حَرَجٌ ﴾ أي : لا حَرج على هؤلاء في التخلف عن الغزو، ﴿ إذا نَصَحوا الله ورسوله ﴾ بالإيمان والطاعة في السر والعلانية. قيل : نزلت في بني مُقرن، وهم ستة إخوة صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل في عبد الله بن مُغفل.
﴿ ما على المحسنين من سبيل ﴾ أي : ليس عليهم جناح، ولا إلى معاتبتهم سبيل، وإنما وضع المحسنين موضع المضمر ؛ للدلالة على أنهم منخرطون في سلك المحسنين، غير معاتبين في ذلك، ﴿ والله غفور رحيم ﴾ بالمسيء فكيف بالمحسنين ؟
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : من لم يتغلغل في عملنا هذا، مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر. وقال الغزالي : دواء القلوب واجب عيناً على كل مسلم، فكل من قصر في ذلك عُوقب يوم القيامة، إلا من حبسه عذر صحيح : من مرض مزمن، أو كبر سن، أو فقر مدْلق. قال تعالى :﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ﴾، فإن أحبوا أولياء الله، وصدقوهم وعظموهم، ودلّوا الناس على صحبتهم، فهؤلاء محسنون، ﴿ ما على المحسنين من سبيل والله غفور ﴾ لضعفهم، ﴿ رحيم ﴾ بهم.
وقال الورتجبي :( إذا نصحوا لله ورسوله ) أي : إذا عرّفوا عباد الله طريق الله، والأسوة بسنة رسول الله. هـ. وقد قال الحواريون : يا روح الله، ما النصيحة لله ؟ قال : تقديم حق الله على حق الناس. هـ. ولا حرج أيضاً على من لم يجد ما ينفق على الأشياخ من الأموال، فإن من أعطى نفسه كفته عَن إعطاء المال. قال تعالى :﴿ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ﴾ إلى الحضرة ﴿ قلت لا أجد ما أحملكم عليه ﴾ ؛ فإن بذل الأموال مع المهج أنهض من أحدهما، ﴿ تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون ﴾ ؛ ليتحببوا به في قلوب المشايخ. قال بعض المشايخ : أردنا أن نجعل من يسوق مع من لا يسوق على حد سواء، فلم يعتدلوا. هـ.
وقوله تعالى :﴿ حزناً ألا يجدوا ما ينفقون ﴾، ليس حزنهم على فوات الدنيا، وإنما حزنهم على تخلفهم عن رسول الله، وعن صحبة أهل الكمال. وقال القشيري : شقَّ عليهم أن يكون على قلب الرسول ـ عليه الصلاة السلام ـ منهم، أو بسببهم، شُغْلٌ، فَتَمنَّوا أن لو أزيحت علتهم، لا ميلاً إلى الدنيا ؛ ولكن لئلا يعود إلى قلب الرسول من فعلهم كراهةٌ، ولقد قيل١ :
مَنْ عَفَّ خَفَّ على الصديق لِقاؤه | وأخو الحوائج وجهه مَمْلولُ. هـ. |
﴿ ولا على الذين إذا ما أتُوكَ لتحملَهم ﴾ معك إلى الغزو، وهم البكاؤون ؛ سبعة من الأنصار : مَعقِل بن يَسَار، وصَخْر بن خنساء، وعبد الله بن كعب، وسالم بن عُمَيْر، وثَعْلَبَة بن غَنَمة، وعبد الله بن مُغفَّل، وعُلْية بن زيد. أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المَرْقُوعة والنِّعال المَخْصُوفَة، نغزو معك، فقال : لا أجد، فتولَّوا وهم يبكون١. وقيل : هم بنو مُقَرِّن، وقيل : أبو موسى وأصحابه، وعليه اقتصر البخاري.
﴿ قلت لا أجِدُ ما أحملكم عليه ﴾ ؛ وليس عندي ما أحملكم عليه، ﴿ تولَّوا ﴾ عنك ﴿ وأعيُنهم تفيضُ من الدمع ﴾ أي : يفيض دمعها ؛ ﴿ حزناً ﴾ على ﴿ ألا يجدوا ما يُنفقون ﴾ في غزوهم.
زاد البخاري : فلما رجع أبو موسى وأصحابه، أُتي عليه الصلاة والسلام بِنَهَب إبل، فدعاهم وحملهم عليها، فقالوا : يا رسول الله، إِنَّكَ حَلَفتَ أَلا تِحْمِلنَا، فخفنا أن نكون أغفلناك يمينك، فقال :" ما أنا حملتكم، ولكن الله حملكم، وإنِّي والله، ما أحْلِفُ على يَمِينٍ فَأرَى خَيْراً مِنْها إلا كَفّرْتُ عن يَمِيني وأَتَيتُ الذي هُوَ خَيْر " ٢. أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : من لم يتغلغل في عملنا هذا، مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر. وقال الغزالي : دواء القلوب واجب عيناً على كل مسلم، فكل من قصر في ذلك عُوقب يوم القيامة، إلا من حبسه عذر صحيح : من مرض مزمن، أو كبر سن، أو فقر مدْلق. قال تعالى :﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ﴾، فإن أحبوا أولياء الله، وصدقوهم وعظموهم، ودلّوا الناس على صحبتهم، فهؤلاء محسنون، ﴿ ما على المحسنين من سبيل والله غفور ﴾ لضعفهم، ﴿ رحيم ﴾ بهم.
وقال الورتجبي :( إذا نصحوا لله ورسوله ) أي : إذا عرّفوا عباد الله طريق الله، والأسوة بسنة رسول الله. هـ. وقد قال الحواريون : يا روح الله، ما النصيحة لله ؟ قال : تقديم حق الله على حق الناس. هـ. ولا حرج أيضاً على من لم يجد ما ينفق على الأشياخ من الأموال، فإن من أعطى نفسه كفته عَن إعطاء المال. قال تعالى :﴿ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ﴾ إلى الحضرة ﴿ قلت لا أجد ما أحملكم عليه ﴾ ؛ فإن بذل الأموال مع المهج أنهض من أحدهما، ﴿ تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون ﴾ ؛ ليتحببوا به في قلوب المشايخ. قال بعض المشايخ : أردنا أن نجعل من يسوق مع من لا يسوق على حد سواء، فلم يعتدلوا. هـ.
وقوله تعالى :﴿ حزناً ألا يجدوا ما ينفقون ﴾، ليس حزنهم على فوات الدنيا، وإنما حزنهم على تخلفهم عن رسول الله، وعن صحبة أهل الكمال. وقال القشيري : شقَّ عليهم أن يكون على قلب الرسول ـ عليه الصلاة السلام ـ منهم، أو بسببهم، شُغْلٌ، فَتَمنَّوا أن لو أزيحت علتهم، لا ميلاً إلى الدنيا ؛ ولكن لئلا يعود إلى قلب الرسول من فعلهم كراهةٌ، ولقد قيل١ :
مَنْ عَفَّ خَفَّ على الصديق لِقاؤه | وأخو الحوائج وجهه مَمْلولُ. هـ. |
٢ أخرجه البخاري في المغازي باب ٧٤..
قال تعالى :﴿ إنما السبيلُ ﴾ أي : الحرج والمعاتبة ﴿ على الذين يستأذنونك ﴾ في القعود، ﴿ وهم أغنياء ﴾ ؛ واجدون للأهبة، ﴿ رَضُوا بأن يكونوا مع الخوالِف ﴾ ؛ كالنساء والصبيان، وهو استئناف لبيان ما هو السبب لاستثنائهم من غير عذر، وهو رضاهم بالدناءة، والانتظام في جملة النساء والصبيان ؛ إيثار للدعة والكسل، ﴿ وطَبَعَ اللَّهُ على قلوبهم ﴾ بالكفر والغفلة ؛ حتى غفلوا عن وخامة العاقبة، ﴿ فهم لا يعلمون ﴾ ما يؤول إليه حالهم من الندم والأسف.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : من لم يتغلغل في عملنا هذا، مات مصراً على الكبائر وهو لا يشعر. وقال الغزالي : دواء القلوب واجب عيناً على كل مسلم، فكل من قصر في ذلك عُوقب يوم القيامة، إلا من حبسه عذر صحيح : من مرض مزمن، أو كبر سن، أو فقر مدْلق. قال تعالى :﴿ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ﴾، فإن أحبوا أولياء الله، وصدقوهم وعظموهم، ودلّوا الناس على صحبتهم، فهؤلاء محسنون، ﴿ ما على المحسنين من سبيل والله غفور ﴾ لضعفهم، ﴿ رحيم ﴾ بهم.
وقال الورتجبي :( إذا نصحوا لله ورسوله ) أي : إذا عرّفوا عباد الله طريق الله، والأسوة بسنة رسول الله. هـ. وقد قال الحواريون : يا روح الله، ما النصيحة لله ؟ قال : تقديم حق الله على حق الناس. هـ. ولا حرج أيضاً على من لم يجد ما ينفق على الأشياخ من الأموال، فإن من أعطى نفسه كفته عَن إعطاء المال. قال تعالى :﴿ ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم ﴾ إلى الحضرة ﴿ قلت لا أجد ما أحملكم عليه ﴾ ؛ فإن بذل الأموال مع المهج أنهض من أحدهما، ﴿ تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون ﴾ ؛ ليتحببوا به في قلوب المشايخ. قال بعض المشايخ : أردنا أن نجعل من يسوق مع من لا يسوق على حد سواء، فلم يعتدلوا. هـ.
وقوله تعالى :﴿ حزناً ألا يجدوا ما ينفقون ﴾، ليس حزنهم على فوات الدنيا، وإنما حزنهم على تخلفهم عن رسول الله، وعن صحبة أهل الكمال. وقال القشيري : شقَّ عليهم أن يكون على قلب الرسول ـ عليه الصلاة السلام ـ منهم، أو بسببهم، شُغْلٌ، فَتَمنَّوا أن لو أزيحت علتهم، لا ميلاً إلى الدنيا ؛ ولكن لئلا يعود إلى قلب الرسول من فعلهم كراهةٌ، ولقد قيل١ :
مَنْ عَفَّ خَفَّ على الصديق لِقاؤه | وأخو الحوائج وجهه مَمْلولُ. هـ. |
﴿ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ * ﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ * ﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾
قلت : مفعول ( نبأ ) الثاني : محذوف، أي : نبأنا جملة من أخباركم.
يقول الحق جل جلاله :﴿ يعتذرون إليكم ﴾ يعني : المنافقين، ﴿ إذا رجعتم إِليهم ﴾ من تبوك، ﴿ قل ﴾ لهم :﴿ لا تعتذروا ﴾ بالمعاذير الكاذبة ؛ لأنه ﴿ لن نؤمن لكم ﴾ أي : لن نصدقكم فيها ؛ لأنه ﴿ قد نبأنا اللَّهُ من أخباركم ﴾ ؛ أعلمنا بالوحي، على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ببعض أخباركم، وهو ما في ضمائركم من الشر والفساد.
﴿ وسيَرَى الله عملكم ورسولُه ﴾ : هل تتوبون من الكفر، أم تثبتون عليه ؟ وكأنه استتابة وإمهال للتوبة، ﴿ ثم تُردُّون إلى عالم الغيب والشهادة ﴾ وهو الله، والأصل : ثم تردون إليه ؛ فوضع هذا الوصف موضع الضمير ؛ للدلالة على أنه مطلع على سرهم وعَلانيتهم، لا يعزب عن علمه شيء من ضمائرهم وأعمالهم، ﴿ فينبئكم ﴾ أي : يخبركم ﴿ بما كنتم تعملون ﴾ ؛ بالتوبيخ والعقاب عليه.
﴿ سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم ﴾ من غزوكم ؛ ﴿ لتُعرضوا عنهم ﴾ أي : عن عتابهم، ﴿ فأعرضوا عنهم ﴾ ؛ لا توبخوهم ؛ ﴿ إنهم رِِجْسٌ ﴾ ؛ لخبث قلوبهم لا ينفع فيهم التأنيب، فإن المقصود من العتاب : التطهير بالحمل على الإنابة، وهؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير، فهو علة للإعراض وترك المعاتبة، ﴿ ومأواهم جهنمُ ﴾ أي : منقلبهم إليها، والمعنى : أن النار كفتهم عتاباً، فلا تتكلفوا عتابهم، وذلك ﴿ جزاءً بما كانوا يكسبون ﴾ من الكفر والنفاق.
﴿ الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ * ﴿ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ * ﴿ وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ الأعرابُ ﴾، وهم سكان البادية، قال ابن عزيز : يقال : رجل أعرابي، إذا كان بدوياً. وإن لم يكن من العرب، ورجل عربي، إذا كان منسوباً إلى العرب، وإن لم يكن بدوياَ. أهل البوادي من المنافقين هم ﴿ أشدُّ كفراً ونفاقاً ﴾ من أهل الحاضرة، وذلك لتوحشهم وقساوتهم، وعدم مخالطتهم لأهل العلم وقلة استماعهم للكتاب، ﴿ وأجدَرُ ﴾ أي : أحق ﴿ ألاّ يعلموا حدود ما أنزل اللَّهُ على رسوله ﴾ من الشرائع وفرائضها وسننها، لبُعدهم عن مجالس العلم، ﴿ والله عليمٌ حكيم ﴾ ؛ يعلم كل واحد من أهل الوبَر والمدَر، حكيم فيما يدبر من إسكان البادية، أو الحاضرة، ويختار لكم واحد بحكمته البالغة ما يليق به، وسيأتي بقية الكلام على سكنى الحاضرة أو البادية في الإشارة، إن شاء الله.
والتحرير في المسألة : أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والمقاصد، فمن كان مراده تحقيق الشريعة، وتحرير مسائل العلم الظاهر، والقيام بوظائف الدين، ولم يجد في البادية من يعينه على ذلك ؛ فسكنى المدن أفضل له، ومن كان مراده تصفية قلبه وتحقيق علم الطريقة، وتهيئة القلب لإشراق أنوار الحقيقة، فالاعتزال في البوادي، وقرون الجبال، أوفق له، إن وجد من يستعين بهم على ذلك ؛ لأن شواغل المدن، وعوائدها كثيرة، وقد كثرت فيها الحظوظ والأهوية ؛ فلا يجد فيها إلا من هو مفتون بدنيا أو مبتلى بهوى، بخلاف أهل البادية، هذه العوائد فيهم قليلة، وجُلّ أهلها على الفطرة.
وأيضاً : هم مفتقرون إلى من يسوسهم بالعلم أكثر من غيرهم، فمن تصدى لتعليمهم وتذكيرهم لا يعلم قدره إلا الله. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : أرحم الناس بالناس من يرحم من لا يرحم نفسه. أي : من يرحم الجاهل الذي لا يرحم نفسه ؛ بأن يعلمه ما ينفع به نفسه ويرحمها. وقال الغزالي في الإحياء : يجب على العلماء أن يبعثوا من يعلم الناس في البوادي ؛ فإن أخلوا بذلك الأمر عاقبهم الله، فمن تعرض لتعليمهم قام بهذا الواجب. والله تعالى أعلم. وأما ما يذكر حديثاً :" أمتي في المدن، وقليل في البادية " فلم يصح، بل قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ للرجل الذي أراد أن ينتقل إلى المدينة :" اعبد الله حيثما كنت، فإن الله لن يترك من أعمالك شيئاً ". وكذلك قوله : إذا أراد الله بعبد خيراً نقله من البادية إلى الحاضرة ؛ لم أقف عليه حديثاً. وبالله التوفيق.
قال تعالى :﴿ عليهم دائرةُ السَّوْءِ ﴾، وهو دعاء عليهم بنحو ما يتربصونه أي : عليهم يدور من الدهر ما يَسُوؤهم أو جعل الله دائرة السوء نازلة بهم. قال ابن عطية : كل ما كان بلفظ دعاء من جهة الله عز وجل فإنما هو بمعنى إيجاب الشيء ؛ لأن الله تعالى لا يدعو على مخلوقاته وهي في قَبضته، ومن هذا قوله :﴿ ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ ﴾ [ الهمزة : ١ ]، ﴿ وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ﴾ [ المطففين : ١ ]، وهي كلها أحكام تامة تضمنها خبره تعالى. ه. أو إخبار عن وقوع ما يتربصونه عليهم. قال البيضاوي : الدوائر في الأصل : مصدر أضيف إليه السوء ؛ للمبالغة، كقولك : رَجلُ صدق. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو :" السُّوء " هنا، وفي الفتح١ بضم السين. ه. ﴿ والله سميعٌ ﴾ لما يقولونه عند الإنفاق ﴿ عليم ﴾ بما يضمرونه من الرياء وغيره.
والتحرير في المسألة : أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والمقاصد، فمن كان مراده تحقيق الشريعة، وتحرير مسائل العلم الظاهر، والقيام بوظائف الدين، ولم يجد في البادية من يعينه على ذلك ؛ فسكنى المدن أفضل له، ومن كان مراده تصفية قلبه وتحقيق علم الطريقة، وتهيئة القلب لإشراق أنوار الحقيقة، فالاعتزال في البوادي، وقرون الجبال، أوفق له، إن وجد من يستعين بهم على ذلك ؛ لأن شواغل المدن، وعوائدها كثيرة، وقد كثرت فيها الحظوظ والأهوية ؛ فلا يجد فيها إلا من هو مفتون بدنيا أو مبتلى بهوى، بخلاف أهل البادية، هذه العوائد فيهم قليلة، وجُلّ أهلها على الفطرة.
وأيضاً : هم مفتقرون إلى من يسوسهم بالعلم أكثر من غيرهم، فمن تصدى لتعليمهم وتذكيرهم لا يعلم قدره إلا الله. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : أرحم الناس بالناس من يرحم من لا يرحم نفسه. أي : من يرحم الجاهل الذي لا يرحم نفسه ؛ بأن يعلمه ما ينفع به نفسه ويرحمها. وقال الغزالي في الإحياء : يجب على العلماء أن يبعثوا من يعلم الناس في البوادي ؛ فإن أخلوا بذلك الأمر عاقبهم الله، فمن تعرض لتعليمهم قام بهذا الواجب. والله تعالى أعلم. وأما ما يذكر حديثاً :" أمتي في المدن، وقليل في البادية " فلم يصح، بل قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ للرجل الذي أراد أن ينتقل إلى المدينة :" اعبد الله حيثما كنت، فإن الله لن يترك من أعمالك شيئاً ". وكذلك قوله : إذا أراد الله بعبد خيراً نقله من البادية إلى الحاضرة ؛ لم أقف عليه حديثاً. وبالله التوفيق.
﴿ ألا إنها ﴾ أي : نفقاتهم، ﴿ قُربة لهم ﴾ تقربهم إلى حضرة ربهم، وهذا شهادة من الله لصحة معتقدهم وكمال إخلاصهم، ﴿ سَيُدخلهم اللهُ في رحمته ﴾، وعدٌ من الله لهم بإحاطة الرحمة بهم، أو سيدخلهم في جنته التي هي محل رحمته وكرامته، والسين لتحقيق وقوعه.
﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ ؛ يغفر ما فرط من الخلل، ويتفضل برحمته على ما نقص عن درجات الكمال. قيل : إن الآية الأولى نزلت في أسد وغطفان وبني تميم ؛ فهم الذين يتخذون ما ينفقون مغرماً. والثانية نزلت في عبد الله ذي البجادين وقومه ؛ فهم الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وصلوات الرسول. والله تعالى أعلم.
والتحرير في المسألة : أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص والمقاصد، فمن كان مراده تحقيق الشريعة، وتحرير مسائل العلم الظاهر، والقيام بوظائف الدين، ولم يجد في البادية من يعينه على ذلك ؛ فسكنى المدن أفضل له، ومن كان مراده تصفية قلبه وتحقيق علم الطريقة، وتهيئة القلب لإشراق أنوار الحقيقة، فالاعتزال في البوادي، وقرون الجبال، أوفق له، إن وجد من يستعين بهم على ذلك ؛ لأن شواغل المدن، وعوائدها كثيرة، وقد كثرت فيها الحظوظ والأهوية ؛ فلا يجد فيها إلا من هو مفتون بدنيا أو مبتلى بهوى، بخلاف أهل البادية، هذه العوائد فيهم قليلة، وجُلّ أهلها على الفطرة.
وأيضاً : هم مفتقرون إلى من يسوسهم بالعلم أكثر من غيرهم، فمن تصدى لتعليمهم وتذكيرهم لا يعلم قدره إلا الله. قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : أرحم الناس بالناس من يرحم من لا يرحم نفسه. أي : من يرحم الجاهل الذي لا يرحم نفسه ؛ بأن يعلمه ما ينفع به نفسه ويرحمها. وقال الغزالي في الإحياء : يجب على العلماء أن يبعثوا من يعلم الناس في البوادي ؛ فإن أخلوا بذلك الأمر عاقبهم الله، فمن تعرض لتعليمهم قام بهذا الواجب. والله تعالى أعلم. وأما ما يذكر حديثاً :" أمتي في المدن، وقليل في البادية " فلم يصح، بل قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ للرجل الذي أراد أن ينتقل إلى المدينة :" اعبد الله حيثما كنت، فإن الله لن يترك من أعمالك شيئاً ". وكذلك قوله : إذا أراد الله بعبد خيراً نقله من البادية إلى الحاضرة ؛ لم أقف عليه حديثاً. وبالله التوفيق.
﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذالِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
قلت :( السابقون ) : مبتدأ، ( والذين اتبعوهم ) : عطف عليه، وجملة ( رضي الله عنهم ) : خبر.
يقول الحق جل جلاله :﴿ والسابقُون الأولون ﴾ إلى الإسلام ﴿ من المهاجرين ﴾ ؛ وهم الذين صلوا إلى القبلتين، أو الذين شهدوا بدراً، أو الذين أسلموا قبل الهجرة، ﴿ و ﴾ من ﴿ الأنصار ﴾ ؛ وهم أهل بيعة العقبة الأولى، وكانوا سبعة، أو أهل العقبة الثانية، وكانوا سبعين، أو الذين أسلموا حين قدم عليهم مُصعب بن عُمير.
﴿ والذين اتبعوهم بإحسان ﴾ ؛ اللاحقين بالسابقين من الفريقين، أو من الذين اتبعوهم بالإيمان والطاعة إلى يوم القيامة، ﴿ رَضِيَ اللهُ عنهم ﴾ بقبول طاعتهم وارتضاء أعمالهم، ﴿ ورَضُوا عنه ﴾ بما نالوا من نِعَمه الدينية والدنيوية، ﴿ وأعَدَّ لهم جنات تجري من تَحْتَها الأنهار ﴾ وقرأ ابن كثير :" من تحتها "، كما هي في مصحف أهل مكة. ﴿ خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم ﴾ أي : الفلاح الدائم الكبير.
الإشارة : لكل زمان سابقون، قد شمروا عن ساق الجد والاجتهاد، ورفضوا كل ما يقطعهم عن محبوبهم من العشائر والأولاد، قد خرقوا عوائد أنفسهم، فأبدلوا العز بالذل، والجد بالخمول، والغنى بالفقر، والرفعة بالتواضع، والرغبة بالزهد، وشغل الظاهر بالتفرغ ؛ ليتفرغ بذلك الباطن. وسافروا في طلب محبوبهم، وصحبوا المشايخ، وخدموا الإخوان، حتى ارتفعت عنهم الحجب والأستار، وتمتعوا بمشاهدة الكريم الغفار ؛ فتهيؤوا لتذكير العباد، وحيث بهم الأقطار والبلاد. وفي مثلهم يقول الشاعر :
تَحيا بِكم كُل أَرضٍ تَنْزِلُون بها | كَأَنَّكُم في بِقاع الأرض أَمطَار |
وتَشتَهِي العينُ فيكم مَنْظَراً حسناً | كأَنَّكُم في عُيون الناس أَقْمَارُ |
﴿ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وممن حولكم ﴾، يا أهل المدينة، ﴿ من الأعراب منافقون ﴾ ساكنون حولكم، وهم : جُهينة، ومُزينة، وأسلم، وغفار، وأشجع، كانوا نازلين حول المدينة، أما أسلم وغفار فتابوا، ودعا لهم عليه الصلاة والسلام فقال :" أسلم سالمها الله، وغفار غفر الله لها " وأما الباقي فأسلم بعضهم.
قال تعالى :﴿ ومن أهل المدينة ﴾ قوم ﴿ مَرَدُوا ﴾ أي : استمروا ﴿ على النفاق ﴾، واجترؤوا عليه، وتمرنوا وتمهروا فيه، ﴿ لا تعلمُهم ﴾ أي : لا تعرفهم يا محمد بأعيانهم، وهو بيان لمهارتهم وتنوقهم في تحري مواقع التهم إلى حد قد خفي عليك حالهم، مع كمال فطنتك وحِذقِ فراستك، ﴿ نحنُ نعلمهم ﴾، ونَطّلِع على أسرارهم إن قدروا أن يُلبسوا عليك فلا يقدرون أن يلبسوا علينا، ﴿ سنعذّبهم مرتين ﴾ بالفضيحة والقتل، أو بأحدهما وعذاب القبر، أو بأخذ الزكاة ونهك الأبدان في الحرب، أو بإقامة الحدود وعذاب القبر، أو بتسليط الحُمى عليهم مرتين في السنة، ﴿ ثم يُرَدُّون إلى عذاب عظيم ﴾ بعد الموت، وهو عذاب النار.
الإشارة : قد جعل الله سبحانه بحكمته وقدرته، في كُلَّ عصر وأوان بحرين : بحراً من النور وبحراً من الظلمة، من عصر النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة، فلا بد في كل عصر من نور وظلمة، وإيمان وكفران، ونفاق وإخلاص، وصفاء وخوض، فأهل النور نورهم في الزيادة إلى قرب قيام الساعة، وأهل الظلمة كذلك إذ لا تعرف الأشياء إلا بأضدادها، ولا يظهر شرف النور إلا بوجود الظلمة، ولا شرف الصفاء إلا بوجود الخوض، ولا فضل العلم إلا بوجود الجهل، وهكذا جعل الله من كل زوجين اثنين، ليقع الفرار إلى الواحد الحق، فمن رام انفراد أحدهما في الوجود فهو جاهل بحكمة الملك الودود. والله تعالى أعلم.
﴿ وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ و ﴾ قوم ﴿ آخرون اعترفوا بذُنوبهم ﴾ ؛ وهو التخلف عن الجهاد، ولم يعتذروا عن تخلفهم بالأعذار الكاذبة، وهم طائفة من المتخلفين لما بلغهم ما نزل في المتخلفين أوثقوا أنفسَهم على سواري المسجد، وقالوا : لا نحل أنفسنا حتى يحلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد، فصلى فيه ركعتين، على عادته، فرآهم وسأل عنهم، فذُكر له سببهم، فنزلت الآية فأطلقهم١.
﴿ خلطوا عملاً صالحاً ﴾ بعمل سيء ﴿ وآخر سيئاً ﴾ بعمل صالح، خلطوا العمل الصالح الذي هو إظهار الندم والاعتراف بالذنب، بآخر سيئ وهو التخلف وموافقة أهل النفاق، أو خلطوا عملاً صالحاً، وهو ما سبق لهم من الجهاد مع الرسول، وغيره من الأعمال، بآخر سيئ، وهو تخلفهم عن تبوك. ﴿ عَسَى اللهُ أن يتوبَ عليهم ﴾ أي : يقبل توبتهم المدلول عليها بقوله :﴿ اعترفوا بذنوبهم ﴾، والرجاء في حقه تعالى واجب. ﴿ إن الله غفور رحيمٌ ﴾ يتجاوز عن التائب ويتفضل عليهم.
قال بعضهم : ما في القرآن آية أرجى لهذه الأمة من هذه الآية. وقال القشيري : قوله :﴿ وآخر سيئاً ﴾ بعد قوله :﴿ عملاً صالحاً ﴾ دليل على أن الزَّلَّةَ لا تحبط ثوابَ الطاعة ؛ إذ لو أحبطته لم يكن العملُ صالحاً، وهو كذلك. انتهى. قُلْتُ : وما ذكره من عدم الإحباط هو مذهب أهل السنة، خلافاً للمعتزلة، ولا يعارضه حديث مسلم :" أًنَّ رَجُلاً قال : واللَّهِ لا يَغفِرُ الله لفُلانِ، وإنَّ اللَّهَ قالَ : مَن الذي يَتَأَلّى عَلَيَّ أَلاَّ أَغفِرَ لفُلانِ، وإنّي غَفَرتُ لَه، وأحبطَتُ عَمَلك " ٢، أو كما قال ؛ لأن هذا الرجل كان من بني إسرائيل، ولعل شرعهم مخالف لشرعنا ؛ لأن هذه الأمة المحمدية قد وضع الله عنها أثقال بني إسرائيل، فهي ملة سمحة، ولعل هذا الرجل أيضاً كان قانطاً من رحمة الله ومكذباً بها، فهو كافر. انظر الحاشية الفاسية.
الإشارة : الناس ثلاثة : سابقون ومخلطون ومنهمكون. فالسابقون فائزون، والمخلطون راجون، والمنهمكون هالكون، إلا من تاب وعمل صالحاً، فالسابقون هم الذين غلب إحسانهم على إساءتهم، وصفاؤهم على كدرهم، إن هفوا رجعوا قريباً، فقد تمر عليهم السنين الطويلة، ولا يكتب عليهم ملك الشمال شيئاً ؛ وذلك ليقظتهم، لا لعصمتهم، والمخلطون هم الذين يكثر سقوطهم ورجوعهم، عسى الله أن يتوب عليهم. والمنهمكون هم المصرون على الفواحش، فإن سبقت لهم عناية رجعوا، وإن لم تسبق لهم عناية فهم مُعرِّضون لنقمة الله وحلمه، والله تعالى أعلم.
٢ أخرجه مسلم في البر حديث ١٣٧..
﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاواتَك سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ * ﴿ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾
يقول الحق جل جلاله : لنبيه عليه الصلاة والسلام :﴿ خُذْ من أموالهم ﴾ التي عرضوها عليك ﴿ صدقة ﴾، وهو الثلث، فأخذ عليه الصلاة والسلام من أموالهم الثلث، وترك لهم الثلثين، أو : خذ من أموالهم صدقة، وهي الزكاة المفروضة، والضمير لجميع المسلمين. من صفة تلك الصدقة :﴿ تُطهّرهُم ﴾ أنت يا محمد بها من الذنوب، أو حب المال المؤدي بهم إلى البخل، الذي هو أقبح الذنوب. وقرئ بالجزم ؛ جواب الأمر.
﴿ وتُزكِّيهم ﴾ أي : تنمي بها حسناتهم، أو ترفعهم ﴿ بها ﴾ إلى درجات المخلصين، ﴿ وَصَلِّ عليهم ﴾ أي : ترحم عليهم، وادع لهم بالرحمة، فكان عليه الصلاة والسلام يقول لمن أتاه بصدقته :" اللهُم صَل عَلى آلِ فُلان ". فأتى أبو أوفى بصدقته فقال :" اللهم صلِّ على آل أَبي أَوفَى " ١.
﴿ إِن صلاتك سَكَنٌ لهم ﴾ ؛ تسكن إليها نفوسهم، وتطمئن بها قلوبهم، لتحققهم بقبول دعائه عليه الصلاة والسلام. قال القشيري : انتعاشهم بهمَّتِكَ معهم أتم من استقلالهم بأموالهم. ه. وجمع الصلوات ؛ لتعدد الموعد لهم، وقرأ الأخَوانِ وحفص بالتوحيد. ﴿ والله سميعٌ عليم ﴾ ؛ أي : سميع باعترافهم عليم بندامتهم.
﴿ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وقل اعملوا ﴾ ما شئتم من خير أو شر، ﴿ فسيرى اللهُ عملَكُم ﴾ ؛ فإنه لا يخفى عليه ؛ خيراً كان أو شراً، ﴿ و ﴾ سيرى ذلك أيضاً ﴿ رسولُهُ والمؤمنون ﴾، فيظهر لهم ما يبدو منكم، فإن الطول يفضح صاحبه. ﴿ وستُرَدُون إلى عالم الغيب والشهادة ﴾، بالموت، ﴿ فينبئكم بما كنتم تعملون ﴾ ؛ فيخبركم بما عملتم ؛ بالمجاوزة عليه.
الإشارة : كل من ظهر بدعوى أو تعرض لمقام من المقامات يقال له :﴿ وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ﴾ ؛ فإن كان أمره مبنياً على أساس الإخلاص والتقوى ثبت وانتهض، وشعشع نوره، وإن كان مبنياً على أساس، افتضح وكََسَف نوره، وسيرد الجميع إلى عالم الغيب والشهادة، فيجازي كلاً بعلمه.
﴿ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
قلت : الإرجاء هو التأخر، يقال : أرجاه بالهمز وتركه : أَخره.
يقول الحق جل جلاله :﴿ وآخرون ﴾ من المتخلفين، تخلفوا من غير عُذر، ولم يعتذروا بشيء، ﴿ مُرْجَوْنَ ﴾ أي : مؤخرون ﴿ لأمرِ الله ﴾ في شأنهم ؛ ﴿ إما ﴾ أن ﴿ يُعَذِّبهم ﴾ على تخلفهم عن الجهاد مع رسوله، ﴿ وإما ﴾ أن ﴿ يتوب عليهم ﴾ حيث تابوا وندموا، والترديد باعتبار العباد، وفيه دليل على أن كلا الأمرين بإرادته تعالى، ﴿ والله عليم ﴾ بأحوالهم، ﴿ حكيم ﴾ فيما فعل بهم.
والمراد بهؤلاء الثلاثة : كَعْب بن مالك، وهِلال بن أمية، ومُرَارَة بن الربيع، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ألا يُسلموا عليهم ولا يكلموهم، فلما رأوا ذلك أخلصوا نياتهم، وفوضوا أمرهم إلى الله، فرحمهم، وسيأتي تمام قصتهم وتوبة الله عليهم بعدُ، إن شاء الله.
الإشارة : وآخرون مؤخرون عن صحبة المشايخ العارفين، حتى ماتوا مفروقين، إما أن يعذبهم على ما أصروا من المساوئ والذنوب، وإما أن يتوب عليهم بفضله وكرمه، إنه عليم لا يخفى عليه ما أسروا، حكيم فيما قضى عليهم من أمر الحجاب بعدله وقضائه.
﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ * ﴿ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ * ﴿ أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ * ﴿ لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾
قلت : قرأ نافع وابن عامر : بغير واو ؛ مبتدأ حذف خبره، أي : معذبون، أو في :( لا تقم فيه أبداً )، أو في قوله :( لا يزال )، أو صفة لقوله :( وآخرون )، على من يقول : إن " المُرْجَوْن " غير الثلاثة المخلفين، بل في المنافقين الذين كانوا معرضين للتوبة مع بنيانهم مسجد الضرار. وهو قرأ بالواو فعطف على قوله :( آخرون )، أو مبتدأ حُذف خبره، أي : وممن وصفنا : الذين، أو منصوب على الذم، و( ضراراً ) وما بعده : علة، وأصل ( هارٍ ) : هائر، فأخرت الهمزة، ثم قلبت ياء، ثم حذفت ؛ لالتقاء الساكنين.
يقول الحق جل جلاله :﴿ و ﴾ منهم ﴿ الذين اتخذوا مسجداً ضِراراً وكُفراً ﴾ أي : لأجل المضارة بالمؤمنين والكفر الذي أسروه، وهو تعظيم أبي عامر الكافر، ﴿ وتفريقاً بين ﴾ جماعة ﴿ المؤمنين ﴾ الذين كانوا يُصلون في مسجد قباء.
رُوي أن بَني عَمْرو بن عوف لَمَّا بَنَوا مسجد قُباء سألوا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أن يأتيهمْ فيصلي فيه، فأتاهُمْ فصلَّى فيه، فَحَسدتهم إخوانُهم ؛ بَنو غُنم بن عوفٍ، فبنوا مسجداً على قصد أن يؤمهم فيه أبو عامر الراهب، إذا قدم من الشام، فلما أتموه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا : إنا قد بنينا مسجداً لذي الحاجة والعلة والليلة المطيرة، فصل لنا فيه حتى نتخذهُ مصلى، وكان ذلك قبل خروجه لتبوك، فقال لهم :" إني عَلى جَنَاح سَفَرٍ، وإذا قَدِمنا، إِن شاء الله، صلَّينا فيه ". فلما قدم أتوه، فأخذ ثوبه ليقوم معهم، فنزلت الآية، فدعا مالك بن الدُّخشم، ومَعن بن عدي، وعامر بن السَّكن، فقال : انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وحرقوه ؛ ففعلوا، واتخذوا مكانه كناسة.
ثم أشار إلى قصدهم الفاسد، فقال :﴿ وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله ﴾ ؛ أي : واتخذوه انتظاراً ليؤمهم فيه من حارب الله ورسوله، يعني : أبا عامر الراهب، فإنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد : لا أجد قوماً يقاتلونك إلاَّ قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فانهزم مع هوازن، ثم هرب إلى الشام ؛ ليأتي من قيصر بجنود يحارب بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات بِقنَّسرَينَ طريداً وحيداً. وكان أهل المدينة يسمونه قبل الهجرة : الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق.
وقوله :﴿ من قبلُ ﴾ : متعلق بحارب، أي : حارب من قبل هذا الوقت، أو باتخذوا، أي : اتخذوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف ؛ لأنه قبيل غزوة تبوك. ﴿ وليَحلِفُن إن أردنا إلا الحسنى ﴾ أي : ما أردنا ببنيانه إلا الخصلة الحسنى، وهي الصلاة والذكر والتوسعة على المسلمين. ﴿ والله يشهد إنهم لكاذبون ﴾ في حلفهم.
ثم نهاه عن الصلاة فيه فقال :﴿ لا تَقُم فيه أبداً ﴾ للصلاة ؛ إسعافاً لهم، ﴿ لمسجدٌ أُسسَ على التقوى من أول يوم ﴾ من أيام وجوده، ﴿ أحقٌ أن تقوم فيه ﴾ أي : أولى بأن تصلى فيه، وهو مسجد قباء، أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أيام مُقامه بقباء، حين هاجر من مكة، من الاثنين إلى الجمعة، وهذا أوفق للقصة. وقيل : مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لقول أبي سعيد : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه ؟ فقال :" مسْجدُكم هذا، مَسجِدُ المَدِينَةِ ".
﴿ فيه رجال يُحبون أن يتطهروا ﴾، كانوا يستنجون بالماء، ويجمعون بين الماء والحجر، أو يتطهرون من المعاصي والخصال المذمومة، طلباً لمرضات الله تعالى، أو من الجنابة، فلا ينامون عليها، ﴿ والله يُحبُ المُطَّهرِين ﴾ ؛ يرضى عنهم، ويُدنيهم من جنابه إدْناء المحب لحبيبه.
وقيل : لما نَزلت مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه المُهاجرون، حتى وقف على باب مسجد قُباء، فإذا الأنصار جُلوس، فقال :" أَمؤمِنونَ أَنتُم ؟ فَسَكَتُوا، فأعادَها، فقال عمر : إنهم مؤمنون وَأَنا مَعَهم، فقال عليه الصلاة والسلام : أَتَرضَونَ بالقَضاء ؟ فقالوا : نعم، قال :" أَتَصبِرون على البلاء ؟ قالوا : نعم، قال : أَتشْكرونَ في الرَّخاء ؟ قالوا : نعم، فقال عليه الصلاة والسلام : مؤمِنُونَ وَرَبِّ الكَعبَةِ، فَجَلَسَ، ثم قال : يا مَعشَرَ الأنْصَار، إنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أَثنى عَلَيكم، فما الذي تَصنَعُون عند الوضوء وعِندَ الغائط ؟ فقالوا : يا رسول الله، نُتبع الغائط الأحجارَ الثلاثةَ، ثم نُتبعُ الأحجار المَاء. فقال :﴿ رِجَالٌ يُحِبُون أن يتَطَّهَروا ﴾ ".
﴿ أفمن أَسسَ بُنيانه على تقوى مِنَ الله ورضوان ﴾ ؛ بأن قصد به وجه الله، وابتغاء مرضاته، فَحسُنت النية في أوله، ﴿ خيرٌ أم من أسس بنيانه على ﴾ قصد الرياء والمنافسة، فكأنه بنى على ﴿ شفَا ﴾ أي : طرف ﴿ جُرُفٍ ﴾ : حفرة ﴿ هَارٍ ﴾ أي : واهٍ ضعيف، أشرف على السقوط، أو ساقط، ﴿ فانهار به في نار جهنم ﴾ أي : طاح في جهنم، وهذا ترشيح للمجاز، فإنه لما شبهه بالجرف وصفه بالانهيار، الذي هو من شأن الجرف، وقيل : إن ذلك حقيقة، وإنه سقط في جهنم، وإنه لم يزل يظهر الدخان في موضعه إلى قيام الساعة.
والاستفهام للتقرير، والذي أُسس على التقوى والرضوان : هو مسجد قباء، أو المدينة، على ما تقدم، والذي أسس على شفا جرف هار هو مسجد الضرار، وتأسيس البناء على التقوى هو تحسين النية فيه، وقصد وجه الله، وإظهار شرعه، والتأسيس على شفا جرف هار هو فساد النية وقصد الرياء، والتفريق بين المؤمنين، وذلك على وجه الاستعارة والتشبيه البالغ. قاله ابن جزي :﴿ والله لا يهدي القوم الظالمين ﴾ إلى ما فيه صلاح ونجاه.
﴿ لا يزالُ بُنيانُهم ﴾ أي : مبنيهم، مصدر بمعنى المفعول، ﴿ الذي بَنوا ريبةً ﴾ أي : شكاً ونفاقاً ﴿ في قلوبهم ﴾، والمعنى : أن بناءهم هذا لا يزال سبب شكهم وتزايد نفاقهم، فإنه حملهم على ذلك، ثم لما هدمه الرسول صلى الله عليه وسلم رسخ ذلك في قلوبهم وازداد، بحيث لا يزول رسمه من قلوبهم، ﴿ إلا أن تقطع ﴾ بالموت، بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك، أو لا يزال بنيانهم ريبة، أي : شكاً في الإسلام بسبب بنيانه، لاعتقادهم صواب فعلهم، أو غيظاً بسبب هدمه، ﴿ والله عليمٌ ﴾ بنياتهم، ﴿ حكيم ﴾ فيما أمر من هدم بنيانهم.
﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الّجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾
قلت : جملة ( يقاتلون ) : حال من ( المؤمنين ) ؛ بياناً للشراء، أو استئنافاً ؛ لبيان ما لأجله الشراء، وقيل :" يقاتلون " : بمعنى الأمر، و( وعداً ) : مصدراً لما دل عليه الشراء، فإنه في معنى الوعد، أي : وعدهم وعداً حقاً لا خلف فيه.
يقول الحق جل جلاله :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ﴾ أي : عوضهم في بذل مُهجهم وأموالهم في سبيله الجنة ونعيمها، ومن جملته : النظر إلى وجهه الكريم. قال بعضهم : فانظر. . . ما أكرمه سبحانه، فإن أنفسنا هو خلقها، وأموالنا هو رزقها، ثم وهبها لنا، ثم اشتراها منا بهذا الثمن الغالي، فإنها لصفقة رابحة. ه.
ثم بيَّن وجه الشراء فقال :﴿ يُقاتِلُون في سبيل الله ﴾ لإعلاء كلمة الله، ﴿ فيَقتلون ﴾ الكفارَ، ﴿ ويُقتلون ﴾ شهداء في سبيل الله. وقرأ الأخَوَانِ بتقديم المبني للمفعول ؛ لأن الواو لا ترتب، وأن فعل البعض قد يسند إلى الكل، أي : فيموت بعضهم ويجاهد الباقي. وعد ذلك لهم ﴿ وعداً عليه حقاً ﴾ ؛ لا خلف فيه، مذكوراً ذلك الوعد ﴿ في التوراة والإنجيل والقرآن ﴾ أي : إن الله بيَّن في الكتابين أن الله اشترى من أمة محمد أنفسهم وأموالهم بالجنة، كما بيَّنه في القرآن، أو كل أمة أمرت بالجهاد ووعدهم هذا الوعد. ﴿ ومن أوفى بعهده من الله ﴾ ؟ هو مبالغة في الإنجاز، أي : لا أحد أوفى منه بالعهد، ﴿ فاستبشروا ببيعكُم الذي بايعتم به ﴾ أي : فافرحوا به غاية الفرح، فإنه أوجب لكم أعظم المطالب، كما قال :﴿ وذلك هو الفوزُ العظيم ﴾. قال بعضهم : ناهيك من بيع، البائع فيه رب العلا، والثمن جنة المأوى، والواسطة محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم.
الإشارة : قد اشترى الحق جل جلاله منا أنفسنا وأموالنا بالجنة، فمن باع نفسه لله ؛ بأن خالف هواها وخرق عوائدها، وسعى في طلب مولاها، عوضه جنة المعارف، معجلة، وزاده جنة الزخارف، مؤجلة. ومن باع ماله ؛ بأن أنفقه في مرضاة الله، وبخل بنفسه، عوضه جنة الزخارف، مؤجلة.
قال في الإحياء في باب الذكر وفضيلته : وأنه يوجب الأنس والحب، فإذا حصل الأنس بذكر الله انقطع عن غير الله، وما سوى هو الذي يفارقه عند الموت، فلا يبقى معه في القبر أهل، ولا مال، ولا ولد، ولا ولاية، ولا يبقى معه إلا ذكر الله، فإن كان في أنس به تمتع به، وتلذذ بانقطاع العوائق الصارفة عنه، إذ ضرورات الحاجات في الحياة تصد عن ذكر الله، ولا يبقى بعد الموت عائق، فكأنه خلّى بينه وبين محبوبه، فعظمت غبطته وتخلص من السجن الذي كان ممنوعاً فيه، عما به أنسُه.
ثم قال : ولأجل شرف ذكر الله عظمت رتبة الشهادة ؛ لأن المطلوب هو الخاتمة، ومعنى الخاتمة : وداع الدنيا كلها، والقدوم على الله، والقلب مستغرق بالله، منقطع العلائق عن غيره، والحاضرُ صَفّ القتال قد تجرد قلبه لله، وقطع طمعه من حياته، حباً لله وطمعاً في مرضاته، وحالة الشهيد توافق معنى قولك :( لا إله إلا الله )، فإنه لا مقصود له سوى الله.
فما يجده أهل التملق من لذيذ الحلاوة في مناجاتهم، وأهل الشهود في حال غيبتهم في محبوبهم، ليس هو من نعيم الدنيا، بل من نعيم الجنة، قدَّمه الله لأوليائه، وهو معنى جنة المعارف المعجلة ؛ عوضاً لمن باع نفسه لله.
قال بعض العارفين : النفوس ثلاثة : نفس معيبة، لا يقع عليها بيع ولا شراء، وهي نفس الكافر، ونفس تحررت ؛ لا يصح بيعها، وهي نفس الأنبياء والمرسلين، لأنها خُلقت مطهرة من البقايا، ونفس يصح بيعها وشراؤها، وهي نفس المؤمن، فإذا باعها لله، واشتراها الحق تعالى منه، وقع عليها التحرير، وذلك حين تحرر من رقّ الأكوان، وتتخلص من بقايا الأثر.
وقال بعض أهل التحقيق : اشترى الله تعالى أعز الأشياء بأجل الأشياء، وإنما اشترى الأنفس دون القلوب ؛ لأن القلب حر لا يقع عليه البيع ؛ لأنه لله ؛ فلا يباع ولا يشتري، أما سمعت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" القلبُ بيت الرب ".
أي : لأنه محل مناجاته، ومعدن معرفته، وخزانة سره، فليس للشيطان عليه من سبيل. قال تعالى :﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾ [ الإسراء : ٦٥ ]. وأما النفس فإنها مملوكة تباع وتشتري. ه.
﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
قلت :( التائبون ) : خبر، أي : هم التائبون، أو مبتدأ حُذف خبره، أي : التائبون في الجنة وإن لم يجاهدوا، لقوله تعالى :﴿ وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ﴾ [ النساء : ٩٥ ]، أو خبره ما بعده، أي : التائبون عن الكفر، على الحقيقة، وهم الجامعون لهذه الخصال.
يقول الحق جل جلاله : في وصف البائعين أنفسهم وأموالهم : هم ﴿ التائبُون ﴾ عن الكفر والمعاصي والهفوات والغفلات، ﴿ العابدون ﴾ لله، مخلصين له الدين، ﴿ الحامدون ﴾ لله في السراء والضراء وعلى كل حال، ﴿ السائحون ﴾ أي : الصائمون، لقوله عليه الصلاة والسلام :" سِيَاحَةُ أُمتي الصوم "، شبه بها من حيث إنه يعوق عن الشهوات، أو لأنه رياضة نفسانية يتوصل بها إلى الاطلاع على خفايا الملكوت والجبروت. أو السائحون للجهاد، أو لطلب العلم، أو لزيادة المشايخ والإخوان.
﴿ الراكعون الساجدُون ﴾ في الصلاة، ﴿ الآمرون بالمعروف ﴾ أي : بكل ما هو معروف محمود، كالإيمان والطاعة، ﴿ والناهُون عن المنكر ﴾ أي : كل ما هو منكر في الشرع، كالكفر والمعاصي، ﴿ والحافظون لحدود الله ﴾ أي : لكل ما حده الشارع وعينه من الحقائق والشرائع. قال البيضاوي : وعطف قوله :﴿ والناهون عن المنكر ﴾ دون ما قبله ؛ للدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة، كأنه قال : الجامعون بين الوصفين، وعطف أيضاً قوله :﴿ والحافظون لحدود الله ﴾ ؛ للتنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل، وهذا مجملها، وقيل : للإيذان بأن التعداد قد تم بالسابع، من حيث إن السبعة هو العدد التام، والثامن ابتداء لعدد آخر معطوف عليه، ولذلك سمى واو الثمانية. ه. بالمعنى.
﴿ وبشر المؤمنين ﴾ الموصوفين بهذه الفضائل، ووضع المؤمنين موضع ضميرهم ؛ للتنبيه على أن إيمانهم دعاهم إلى ذلك، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك، وحذف المبشر به للتعظيم، كأنه قيل : وبشرهم بما يجل عن إحاطة الأفهام وتعبير الكلام. قاله البيضاوي.
الإشارة : قد جمعت هذه الآية معارج الترقي من البداية إلى النهاية، فأول المقامات : التوبة، فإذا تابت النفس ورجعت عن هواها قصدت السير إلى حضرة مولاها، فاشتغلت بالعبادة الظاهرة، التي هي عمل الشريعة، فإذا ظهر عليها أمارات التوفيق، ولاحت لها أنوار التحقيق، حمدت الله وشكرته ؛ تقييداً لتلك النعمة، ثم تسيح فكرتها في ميادين الغيوب من الملكوت إلى الجبروت، ثم ترد إلى مراسم الشريعة، إذ منتهى الكمال : التزام الشرائع، فتركع وتسجد البشرية، أدباً في عالم الأشباح، ويركع القلب ويسجد في مسجد الحضرة في عالم الأرواح، فحينئذٍ تصلح للوعظ والتذكير، فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر الظاهريْن ؛ لأهل التشريع، والباطنيْن ؛ لأهل التحقيق، فالأول يسمى وعظاً وتذكيراً، والثاني يسمى تربية وترقية، ولا يقبل ذلك إلا ممن وقف مع الحدود، ووفى بالعهود، فيبشر حينئذٍ بالسعادة العظمى والمقام الأسنا.
قال القشيري : لقوله تعالى :﴿ السائحون ﴾ أي : الصائمون، ولكن عن شهود غير الله، المُمْتنعون عن خدمة غير الله، المكتفون من الله بالله، ويقال : السائحون الذين يسيحون في الأرض على جهة الاعتبار ؛ طلباً للاستبصار، ويسيحون بقلوبهم في مشارق الأرض ومغربها ؛ بالتفكر في جوانبها ومناكبها، والاستبدال بتغيُّرها على مُنْشِئها، والتحقق بحِكَم خالقها بما يَرَوْنَ من الآيات التي فيها، ويسيحون بأسراهم في الملكوت، فيجدون رَوْحَ الوصال، ويعيشون بنسيم الأنْسِ ؛ بالتحقيق بشهود الحق. انتهى.
وانظر الورتجبي ؛ فقد جعل وصف الإيمان يحمل على التوبة، ثم التوبة الصادقة تستدعي العبادات والمجاهدات المؤدية للعبودية، فإذا تمت له نعمة للعبودية اقتضت حمد الله تعالى، فيحمده تعالى معترفاً بعجزه عن القيام بحمده ؛ كما في حديث :" أنتَ كَمَا أثنَيتَ عَلى نَفسِك " ١ ثم الحمد والذكر يقتضي حبس النفس عن مألوفاتها حين عاين حِمَى هلال جماله في سماء الإيقان. ألا ترى كيف قال عليه الصلاة والسلام :" صُومُوا لِرؤْيِتِهِ "، ولا يكون فطره إلا على حلاوة مشاهدته لقوله :" وأفطِرُوا لرُؤْيَتِهِ "، فالسائحون طيارون بقلوبهم في أقطار الغيب، وذلك يقتضي الخضوع بنعت الفناء عند مشاهدة العظمة، فيركع شوقاً لجماله، وخضوعاً لجلاله، وعند ركوعه وخضوعه تحيط به أنوار الصفات، فيسجد لكل الجهات ؛ ﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّه ﴾
[ البقرة : ١١٥ ]. وهذا السجود يقتضي الغربة، والغربة تقتضي المشاهدة، والمشاهدةُ تصير شاهدها متصفاً بصفاتها، فمن وقع في نور أسماء الله وصفاته صار متصفاً بوصف الربوبية، متمكناً في العبودية، فيحكم بحكم الله، ويعدل بعدل الله، فيصفهم الله بهذه النعوت، قال :( الآمرون بالمعروف ) الداعون الخلق إلى الحق، والناهون لهم عن متابعة الشهواتِ، والحافظون لحدود الله، القائمون في مقام العبودية بعد كشف صفات الربوبية لهم، فلا يتجاوزون عن حد العبودية، وإن ذاقوا طعم حلاوة الربوبية ؛ لأنهم في محل التمكين على أسوة مراتب النبي صلى الله عليه وسلم، مع كماله، قال :" أنا العبد لا إله إلا الله ". انتهى.
﴿ مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴾ * ﴿ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ ما كان ﴾ ينبغي ﴿ للنّبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ﴾ الذين ماتوا على الشرك، ﴿ ولو كانوا أولي قُرْبَى ﴾ أي : من قرابتهم، ﴿ من بعد ما تبيّنَ لهم أنهم أصحابُ الجحيم ﴾ ؛ لموتهم على الشرك. رُوي أنه عليه الصلاة والسلام قال لأبي طالب، لما حضرته الوفاة :" قُل : لا إله إلا الله، كلمة أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عند اللَّهِ ". فأبى، فقال :" واللَّهِ لأستَغفِرَنَّ لَكَ مَا لَم أُنهَ عنك "، فكان يستغفر له حتى نزلت الآية١. وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن ربه أن يستغفر لأنه، فنزلت، وقيل : إن المسلمين أرادوا أن يستغفروا لآبائهم، فنزلت، وفيه دليل على جواز الاستغفار لأحيائهم ؛ إذ لم يتحقق أنهم أصحاب الجحيم، فإنه طلب توفيقهم للإيمان.
والشفقة مطلوبة، ما لم يظهر مراد الله من خلقه، فإن برز من عنصر القدرة شيء من القهريات، فالتسليم لمراده تعالى أحسن، فالله أرحم بعباده منك أيها الشفيق، وسيأتي عند قوله تعالى :﴿ يا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ ﴾ [ هود : ٧٦ ] وبالله التوفيق.
والمعنى : لا حجة لكم في استغفار إبراهيم لأبيه، فإن ذلك لم يكن إلا لوعد تقدم بقوله :﴿ لأَستَغْفِرَنَّ لَكَ. . . ﴾ الخ. ﴿ فلما تبيّنَ له أنه عدوٌ لله ﴾ ؛ بأن مات على الكفر، أو أوحى إليه بأنه لن يؤمن، ﴿ تبرأ منه ﴾ ؛ بأن قطع استغفاره له، ﴿ وإن إبراهيم لأواهٌ ﴾ أي : لكثير التأوه، وهو كناية عن فرط ترحمه، أو كثير الدعاء، أو مؤمن، أو فقيه، أو كثير الذكر لله، أو كثير التأوه من خوف الله، ﴿ حليمٌ ﴾ ؛ صبور على الأذى، والجملة : لبيان ما حمله على الاستغفار.
والشفقة مطلوبة، ما لم يظهر مراد الله من خلقه، فإن برز من عنصر القدرة شيء من القهريات، فالتسليم لمراده تعالى أحسن، فالله أرحم بعباده منك أيها الشفيق، وسيأتي عند قوله تعالى :﴿ يا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ ﴾ [ هود : ٧٦ ] وبالله التوفيق.
﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ * ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وما كان الله ليضل قوماً ﴾ ؛ أي : يسميهم ضلالاً، ويؤاخذهم مؤاخذتهم، ﴿ بعد إذ هداهم ﴾ للإسلام، ﴿ حتى يُبين لهم ما يتقونَ ﴾ أي : حتى يُبين لهم خطر ما يجب اتقاؤه، فإن خالفوا بعد البيان، أضلهم وآخذهم إن لم يتوبوا. قال البيضاوي : وكأنه بيان عذر الرسول في قوله لعمه :" لأستغفرن لك، ولمن استغفر لأسلافه المشركين قبل المنع ". وقيل : إنه في قوم مضوا على الأمر الأول في القبلة والخمر، ولم يعلموا بالنسخ والمنع. وفي الجملة : دليل على أن الغافل غير مكلف. ه. وقال ابن جزي : نزلت في قوم من المسلمين استغفروا للمشركين من غير إذن، فخافوا على أنفسهم من ذلك، فنزلت الآية تأنيساً لهم، أي : ما كان الله ليؤاخذهم بذلك قبل أن يُبَيَّن لكم المنع من ذلك. ه. ﴿ إن الله بكل شيءٍ عليمٌ ﴾ ؛ فيعلم أمرهم قبل النهي وبعده.
قال البيضاوي : لمَّا منعهم من الاستغفار للمشركين، ولو كانوا أولي قربى، وتضمن ذلك وجوب التبري منهم رأساً، بيَّن لهم أن الله تعالى مالك كل موجود، ومتولي أمره والغالب عليه، ولا يتأتى لهم ولاية ولا نصرة إلا منه، ليتوجهوا إليه ويتبرؤوا مما عداه، أمره حتى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون ويذرون سواه. ه.
﴿ لَقَدْ تَابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ * ﴿ وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾
قلت : في " كاد " ضمير الشأن، ويرتفع بها قلوبُ.
يقول الحق جل جلاله :﴿ لقد تابَ الله على النبي ﴾ أي : برأه وطهره من الذنوب، كقوله :
﴿ لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّر ﴾ [ الفتح : ٢ ]، ﴿ و ﴾ تاب على ﴿ المهاجرين والأنصار ﴾ مما عسى أن يكون ارتكبوه ؛ إذ لا يخلو العبد من ذنب أو عيب. وقيل : هو حض على التوبة، وإظهار لفضلها، بأنها مقام الأنبياء والصالحين، وقيل : تاب عليهم من نقص المقامات التي ترقوا عنها، إلى ما هو أكمل منها، فما من أحد إلا وله مقام يستنقص بالنسبة إلى ما فوقه.
ثم وصفهم بقوله :﴿ الذين اتبعوه في ساعة العُسرةِ ﴾، يعني : حين محاولة غزوة تبوك. والساعة هنا بمعنى الحين والوقت. والعسرة : الشدة والضيق، أي : الذين خرجوا معه وقت العسرة والضيق، فقد كانوا في عسرة الظهر، يعتقب العشرة على بعير واحد، وفي عسرة الزاد ؛ حتى قيل : إن الرجلين كانا يقتسمان تمرة واحدة. ﴿ من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ﴾ عن الثبات على الإيمان، أو عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، لما رأوا من الشدة والضيق وشدة الحر، ﴿ ثم تاب عليهم ﴾ ؛ كرره للتأكيد، وللتنبيه على أنه تاب عليهم لأجل ما كابدوا من العسر، ﴿ إنه بهم رؤوف رحيم ﴾ ؛ حيث قَبَلهم، وتاب عليهم، وتاب على الثلاثة : وهم كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومُرارة بن الربيع، تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر ولا نفاق، ولا قصد للمخالفة، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عتب عليهم، وأمر الناس ألا يكلمهم، وأن يعتزلوا نساءهم، فقبلوا على ذلك خمسين ليلة، ثم أنزل الله توبتهم. وقد وقع حديثهم في البخاري ومسلم وكتب السير.
ومعنى قوله :﴿ الذين خلفوا ﴾ أي : تخلفوا عن الغزو. وقال كعب بن مالك : خلفوا عن قبول العذر، وليس بالتخلف عن الغزو، ويقوي ذلك كونه جعل :﴿ حتى إذا ضاقت عليهم الأرض ﴾ غاية للتخلف، أي : خلفوا عن قبول العذر، وأخروا ﴿ حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت ﴾ أي : برحبها وسعتها، وذلك لإعراض الناس عنهم بالكلية، وهو مثل لشدة الحيرة. ﴿ وضاقت عليهم أنفسهم ﴾ ؛ من فرط الوحشة والغم، ﴿ وظنوا ﴾ أي : علموا ﴿ أن لا ملجأ من الله ﴾ أي : من سخطه ﴿ إلا إليه ﴾ أي : إلا إلى استغفاره والرجوع إليه، ﴿ ثم تاب عليهم ﴾ ؛ بالتوفيق بالتوبة، ﴿ ليتوبوا ﴾ بإظهارها والدوام عليها، وليعدوا من التوابين، ﴿ إن الله هو التواب ﴾ لمن تاب، ولو عادوا في اليوم سبعين مرة، ﴿ الرحيم ﴾ ؛ متفضل عليهم بالنعم التي لا تحصى.
قال الورتجبي : التوبة توبتان : توبة العبد، وتوبة الله، توبة العبد : الرجوع من الزلات إلى الطاعات، وتوبة الله : رجوعه إلى العبد بنعت الوصال، وفتح باب المآب، وكشف النقاب عن الاحتجاب، وطلب العتاب.
إذا مَرِضنا أَتَينَاكُم نَعُودكُمُ | وتذنبون فنأتيكم ونعتذُر |
﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ. . . ﴾ [ يوسف : ١١٠ ] الآية. ثم قال عن بعضهم : توبة الأنبياء في مشاهدة الخلق في وقت الإبلاغ ؛ إذ الأنبياء لا يغيبون عن الحضرة، بل لا يحضرون في مواضع الغيبة ؛ لأنهم في عين الجمع أبداً. ه.
قال المحشي : وحاصله : توبة الله المذكورة وَهبيةٌ، وهي في كل أحد على حسب ما يليق بمقامه، وإنما يليق بمقام الرسل ترقيته عن مقام إلى أعلى، أو من شعور بخلق ؛ لأجل الإبلاغ، إلى الغيبة عن ذلك، وكذلك أبداً كأهل الجنة. ه.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ﴾ ؛ بالمحافظة على ما أمركم به، والانكفاف عما نهاكم عنه، ﴿ وكونوا مع الصادقين ﴾ في إيمانهم وأقوالهم وأفعالهم وعهودهم.
قال ابن جزي : ويحتمل أن يريد به صدق اللسان ؛ إذ كان هؤلاء قد صدقوا ولم يعتذروا بالكذب، فنفعهم الله بذلك، ويحتمل أن يريد أعم من صدق اللسان ؛ وهو الصدق في الأقوال والأعمال والمقاصد والعزائم، والمراد بالصادقين : المهاجرين، لقوله في الحشر :﴿ للِفُقَرآءَ المُهَاجِرِينَ ﴾. . . : إلى قوله :﴿ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ﴾ [ الحشر : ٨ ]. وقد احتج بها أبو بكر الصديق على الأنصار يوم السقيفة، فقال :( نحن الصادقون، وقد أمركم الله أن تكونوا معنا ) ؛ أي : تابعين لنا. ه. زاد السهيلي : ولمَّا استحق الصادقون أن تكون الخلافة فيهم، استحق الصِّدِّيقُ أن تكون الخلافة له، ما دام حياً ؛ إذ كان صديقاً. ه.
الإشارة : الصدق سيف حازم، ما وضع على شيء إلا قطعه، ويكون في الأقوال، وهو صيانتها من الكذب، ولو أدى إلى التلف. وفي الأفعال، وهو صيانتها من الرياء وطلب العوض. وفي الأحوال، وهو تصفيتها من قصد فاسد، كطلب الشهرة، أو إدراك مقام من المقامات، أو ظهور كرامات، أو غير ذلك من المقاصد الدنية. قال القشيري : الصادقون هم السابقون الأولون، كأبي بكر وعمر وغيرهما، والصدق : استواء السِّرِّ والعلانية، وهو عزيز، وكما يكون في الأقوال يكون في الأحوال، وهو أتَمُّ. ه.
﴿ مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذالِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ * ﴿ وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾
قلت :( ولا يرغبوا ) : منصوب بالعطف، أو مجزوم بالنهي.
يقول الحق جل جلاله :﴿ ما كان ﴾ يصح ﴿ لأهل المدينةِ ﴾، ولا لمن ﴿ حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ﴾ في غزوة ولا سرية ولا غيرهما، وهي نهي بصيغة النفي ؛ للمبالغة، ﴿ لا ﴾ ينبغي لهم أن ﴿ يَرْغَبُوا بأنفسهم عن نفسِه ﴾ ؛ بأن يصونوها من اقتحام المشقات والمتاعب التي تحملها نبي الله صلى الله عليه وسلم، حيث قعدوا عنه، ولم يكابدوا معه ما كابده من الأهوال.
رُوي أن أبا خَيْثمة دخل بستانه، بعد خروجه عليه الصلاة والسلام لتبوك، وكانت له امرأة حسناء، فرشت له في الظل، وبسطت له الحصير، وقربت إليه الرطب والماء البارد، فنظر فقال : ظِلّ ظَلِيلٌ، ورطب يانع، وماء بارد، وامرأة حسناء ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الضِّحّ، والريح ما هذا بخير فقام، فرحل ناقته، وأخذ سيفه ورمحه، ومر كالريح، فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفه إلى الطريق، فإذا براكب يقطع السراب، فقال : كن أبا خيثمة، فكأنهُ، ففرح به رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستغفر له.
ثم علل النهي بقوله :﴿ ذلك ﴾ ؛ إشارة إلى النهي عن التخلف المفهوم من الكلام، ﴿ بأنهم ﴾ ؛ أي : بسبب أنهم ﴿ لا يُصيبهم ﴾ في سفرهم ﴿ ظََمأ ﴾ من حر العطش، أو عطش، ﴿ ولا نَصبٌ ﴾ تعب، ﴿ ولا مَخمَصةٌ ﴾ ؛ مجاعة، ﴿ في سبيل الله ﴾، ﴿ ولا يطؤون ﴾ يدرسون بأرجلهم أو بدوابهم ﴿ مَوْطئاً ﴾ ؛ مكاناً ﴿ يغيظ الكفار ﴾ أي : يغيظهم ذلك الوطء، ﴿ ولا ينالون من عدو نيلاً ﴾ ؛ كالقتل، والأسر، والنصب، وكل ما ينكبهم، ﴿ إلا كُتِبَ لهم به عملٌ صالحٌ ﴾، أي : إلا استوجبوا به ثواباً جزيلاً. وذلك مما يوجب النهوض إلى الغزو معه صلى الله عليه وسلم ؛ فإن ﴿ الله لا يُضيع أجرَ المحسنين ﴾ على إحسانهم، وهو تعليل لقوله :﴿ إلا كتب لهم. . . ﴾ الخ.
وفيه تنبيه على أن الجهاد إحسان، إما في حق الكفار ؛ فلأنه سعى في تكميلهم بأقصى ما يمكن، كضرب المُداوي للمجنون، وإما في حق المؤمنين ؛ فلأنه صيانة لهم عن سطوة الكفار واستيلائهم على الإسلام. قاله البيضاوي.
﴿ ولا يُنفقون نفقةً صغيرةً ﴾ في أمر الجهاد، ولو علاقة سيف، ﴿ ولا كبيرة ﴾ ؛ مثل ما أنفق عثمان رضي الله عنه في جيش العسرة، ﴿ ولا يقطعُون وادياً ﴾ في سيرهم، وهو كل منفرج ينفذ فيه السبيل، ﴿ إلا كُتِبَ لهم ﴾ ذلك، ولم يضعْ منه شيء، ﴿ ليجزيَهُم الله ﴾ بذلك ﴿ أحسنَ ما كانوا يعملون ﴾، أي : جزاء أحسن أعمالهم، أو أحسن جزاء أعمالهم. قاله البيضاوي.
﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وما كان المؤمنون ﴾ يستقيم لهم أن ينفروا ﴿ كافةً ﴾ ؛ جميعاً لنحو غزو، أو طلب علم، كما لا يستقيم لهم أن يقعدوا جميعاً، فإنه بخل، ووهن للإسلام. قال ابن عباس : هذه الآية في البعوث إلى الغزو والسرايا، أي : لا ينبغي خروج جميع المؤمنين في السرايا، وإنما يجب ذلك إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، ولذلك عاتبهم في الآية المتقدمة على التخلف عنه. فالآية الأولى في الخروج معه صلى الله عليه وسلم، وهذه في السرايا التي كان يبعثها، وقيل : ناسخة لكل ما ورد من الأمر بخروج الجميع، فهي دليل على أن الجهاد فرض كفاية.
﴿ فلولا ﴾ : فهلا ﴿ نَفَرَ من كل فرقةٍ ﴾ ؛ جماعة كبيرة، كقبيلة أو بلدة، ﴿ طائفة ﴾ قليلة منها ؛ ﴿ ليتفقهوا في الدين ﴾، أما إذا خرجوا للغزو ؛ فإنه لا يخلو الجيش من عالم أو عارف يتفقهون، مع أن مشاق السفر تشحذ الأذهان، وترقق البشرية، فتستفيد الروح حينئذٍ علوماً لدنية، وأسراراً ربانية، من غير تعلم، وهذا هو العلم الذي يصلح للإنذار.
قال في الإحياء : التفقه : الفقه عن الله ؛ بإدراك جلاله وعظمته، وهو العلم الذي يورث الخوف والخشية والهيبة والخشوع، ويحمل على التقوى وملازمتها، وهذا مقتضى الآية. فإن معرفة صفاته تعالى المخوفة والمرجوة هو الذي يحصل به الإنذار، لا الفقه المصطلح عليه. ه. وأما إذا وقع الخروج لطلب العلم فالتفقه ظاهر.
ثم قال تعالى :﴿ وليُنْذِرُوا قومَهم إذا رجعوا إليهم ﴾، أي : وليجعلوا غاية سعيهم ومُعظم غرضهم من التفقه إرشاد القوم وإنذارهم. وتخصيصه بالذكر ؛ لأنه أهم، وفيه دليل على أن التفقه والتذكير من فروض الكفاية، وأنه ينبغي أن يكون غرض المتعلم فيه أن يستقيم ويقيم، لا الترفع على الناس والتبسط في البلاد. قاله البيضاوي. وقوله :﴿ لعلهم يَحذَرُون ﴾، أي : لعلهم يخافون مما حذروا منه.
قال البيضاوي : قد قيل : للآية معنى آخر، وهو أنه لما نزل في المتخلفين ما نزل ؛ تسابق المؤمنون إلى نفير، وانقطعوا عن التفقه، فأمروا أن ينفر من كل فرقة طائفة إلى الجهاد، ويبقى أعقابهم يتفقهون، حتى لا ينقطع التفقه الذي هو الجهاد الأكبر ؛ لأن الجدال بالحجة هو الأصل، والمقصود من البعثة، فيكون الضمير في ﴿ ليتفقهوا ﴾، ﴿ ولينذروا ﴾ : للفرق البواقي بعد الطوائف النافرة للغزو، وفي ﴿ رجعوا ﴾ : للطوائف النافرة، أي : ولينذروا البواقي من قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم حصَّلوا أيام غيبتهم من العلوم. ه. وتقدير الآية على هذا : فلولا نفر من كل فرقةٍ طائفةٌ، وجلس طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم الخارجين للغزو إذا رجعوا إليهم من غزوهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة : قال القشيري : لو اشتغل الكُلُّ بالتَّفَقُّه في الدين لَتَعطَّلَ عليهم المعاش، ولمنعهم الكافر عن درك المطلوب، فجعل ذلك فرضاً على كفاية. ويقال : المسلمون على مراتب : فعوامَّهم كالرعية للمَلِك، وكَتَبَةُ الحديث كخزنة المَلِك، وأهل القرآن كحُفَّاظ الدفاتر، ونفائس الأموال. والفقهاء بمنزلة الوكلاء ؛ إذ الفقيه يوقع الحكم عن الله. وعلماءُ الأصول كالقُوَّاد وأمراء الجيوش. والأولياءُ كأركان الباب. وأربابُ القلوب وأصحابُ الصفاء كخواص المَلِكِ وجُلَسائه. فشغل قوماً بحفظ أركان الشرع، وآخرين بإمضاء الأحكام، وآخران بالردِّ على المخالفين، وآخران بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعل قوماً مُفْرَدين لحضور القلب ؛ وهم أصحاب الشهود، وليس لهم شُغْلٌ، يراعون مع الله أنفاسَهم، وهم أصحاب الفراغ، لا يستفزُّهم طلَبٌ، ولا يهزُّهم أمر، فهم بالله لله، بمحو ما سوَّى الله، وأمَّا الذين يتفقهون في الدين فهم الداعون إلى الله، وإنما يفهم الخلق عن الله بمَنْ كان يَفْهَمُ عن الله. ه.
قوله : وأما الذين يتفقهون. . . الخ، الداعون إلى الله على الحقيقة هم العارفون بالله، وهم أصحاب الشهود، الذين وصفهم قبل، وأما الفقهاء في الدِّين فإنما يدعون إلى أحكام الله، وتعلم دينه دون معرفة ذاته وصفاته ؛ فدعواهم ضعيفة التأثير، فلا ينهض على أيديهم ما ينهض على أيدي العارفين.
وقال الورتجبي، في قوله تعالى :﴿ ليتفقهوا في الدين ﴾ : قال المرتعش : السياحة والأسفار على ضربين : سياحة لتعلّم أحكام الدين وأساس الشريعة، وسياحة لآداب العبودية ورياضة الأنفس، فمن رجع عن سياحة الأحكام قام بلسانه يدعو الخلق إلى ربه، ومن رجع من سياحة الأدب والرياضة قام في الخلق يهديهم لأخلاقه وشمائله. وسياحة هي سياحة الحق، وهي رؤية أهل الحق والتأدب بآدابهم، فهذا بركته تعم البلاد والعباد. ه.
﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ﴾، أي : جاهدوا الأقرب فالأقرب بالتدريج، كما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بإنذار عشيرته الأقربين، فإن الأقرب أحق بالشفقة والاستصلاح. وقيل : هم يهود حوالي المدينة، كقريظة والنضير وخيبر، وقيل : الروم بالشام ؛ وهو قريب من المدينة، وكانت أرض العرب قد عمها الإسلام، وكانت العراق حينئذٍ بعيدة. ﴿ وليجدوا فيكم غِلْظَةً ﴾ ؛ شدة وصبراً على قتالهم، ﴿ واعلموا أن الله مع المتقين ﴾ بالإعانة والنصر والحراسة.
الإشارة : ينبغي لأهل الوعظ والتذكير أن يبدأوا بالأقرب فالأقرب على التدريج ؛ قال الرفاعي رضي الله عنه : إذا أراد الله أن يرقي عبداً إلى مقامات الرجال ؛ كلفه بأمر نفسه أولاً، فإذا أدب نفسه واستقامت معه، كلفه بأهله ؛ فإن أحسن إليهم وساسهم، كلفه بأهل بلده، فإن أحسن إليهم وساسهم، كلفه جهةً من البلاد، فإن هو نصحهم، وساسهم، وأصلح سريرته مع الله، كلفه رتبة ما بين السماء والأرض، فإن لله خلقاً لا يعلمهم إلا الله، ثم لا يزال يرتفع من سماء إلى سماء حتى يرتفع ويصل إلى محل القطب الغوث، وهناك يطلعه الله على بعض غيبه. انتهى.
والغلظة التي تكون في المذكر، إذا رأى منكراً، أو ذُكرَ له وأراد النهي عنه. وأما في الترغيب والإرشاد فينبغي أن يُغلب جانب اللطافة واللين. والله تعالى أعلم.
﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ * ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ * ﴿ أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ * ﴿ وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ ﴾
يقول الحق جل جلاله :﴿ وإذا ما أنزلت سورةٌ ﴾ من القرآن، ﴿ فمنهم ﴾ ؛ فمن المنافقين ﴿ من يقولُ ﴾ ؛ إنكاراً واستهزاءً :﴿ أيُّكم زادتْهُ هذه ﴾ السورة ﴿ إيماناً ﴾، كما يزعم أصحاب محمد : أن القرآن يزيدهم إيماناً، فلا زيادة فيه، ولا دليل أنه من عند الله. قال تعالى في الرد عليهم :﴿ فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً ﴾ ؛ لتنوير قلوبهم، وصفاء سرائرهم، فتزيدهم إيماناً وعلماً ؛ لما فيها من الإنذار والإخبار، ولانضمام الإيمان بها وبما فيها إلى إيمانهم، ﴿ وهم يستبشرون ﴾ بنزولها ؛ لأنها سبب لزيادة إيمانهم، وارتفاع درجاتهم، بخلاف قلوب المنافقين ؛ فلظلمانيتها وخوضاً لم تزدهم إلا خوضاً، كما قال تعالى :﴿ وأما الذين في قلوبهم مرض ﴾.
مثل هذا يزيده القرآن إيقاناً، ويستبشر قلبه عند سماعه، وأما من كان مريض القلب بحب الدنيا، مَغْمُوراً بالشكوى والأوهام والخواطر ؛ فلا يزيده القرآن إلا بُعداً ؛ حيث لم يتدبر فيه، ولم يعمل بمقتضاه، وإذا حضر مثلُ هذا الغافل مجلسَ وعظ أو تذكير أو ذكر لم يطق الجلوس، بل نظر : هل يراه من أحد ؟ ثم انصرف، صرف الله قلبه عن حضرة قدسه ؛ لعدم فهمه عن ربه. والله تعالى أعلم.
مثل هذا يزيده القرآن إيقاناً، ويستبشر قلبه عند سماعه، وأما من كان مريض القلب بحب الدنيا، مَغْمُوراً بالشكوى والأوهام والخواطر ؛ فلا يزيده القرآن إلا بُعداً ؛ حيث لم يتدبر فيه، ولم يعمل بمقتضاه، وإذا حضر مثلُ هذا الغافل مجلسَ وعظ أو تذكير أو ذكر لم يطق الجلوس، بل نظر : هل يراه من أحد ؟ ثم انصرف، صرف الله قلبه عن حضرة قدسه ؛ لعدم فهمه عن ربه. والله تعالى أعلم.
مثل هذا يزيده القرآن إيقاناً، ويستبشر قلبه عند سماعه، وأما من كان مريض القلب بحب الدنيا، مَغْمُوراً بالشكوى والأوهام والخواطر ؛ فلا يزيده القرآن إلا بُعداً ؛ حيث لم يتدبر فيه، ولم يعمل بمقتضاه، وإذا حضر مثلُ هذا الغافل مجلسَ وعظ أو تذكير أو ذكر لم يطق الجلوس، بل نظر : هل يراه من أحد ؟ ثم انصرف، صرف الله قلبه عن حضرة قدسه ؛ لعدم فهمه عن ربه. والله تعالى أعلم.
والتحقيق : أن معنى ﴿ انصرفوا ﴾ : قاموا عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ؛ مخافة الفضيحة. ﴿ صَرَفَ اللهُ قلوبَهم ﴾ عن الإيمان ؛ دعاء عليهم، أو إخبار، فيستوجبون ذلك ؛ ﴿ بأنهم ﴾ بسبب أنهم ﴿ قوم لا يفقهون ﴾ ؛ لا يفهمون عن الله ؛ ولا عن رسوله عليه الصلاة والسلام، أو لا يفقهون سوء فهمهم أو عدم تدبرهم.
مثل هذا يزيده القرآن إيقاناً، ويستبشر قلبه عند سماعه، وأما من كان مريض القلب بحب الدنيا، مَغْمُوراً بالشكوى والأوهام والخواطر ؛ فلا يزيده القرآن إلا بُعداً ؛ حيث لم يتدبر فيه، ولم يعمل بمقتضاه، وإذا حضر مثلُ هذا الغافل مجلسَ وعظ أو تذكير أو ذكر لم يطق الجلوس، بل نظر : هل يراه من أحد ؟ ثم انصرف، صرف الله قلبه عن حضرة قدسه ؛ لعدم فهمه عن ربه. والله تعالى أعلم.
﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ * ﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾
قلت :" عزيز " : صفة " الرسول "، و " عنتم " : فاعله، و " ما " : مصدرية، أي : عزيز عليه عَنَتُكُم، أو عزيز : خبر مقدم، و " ما عنتم " مبتدأ، والعنت : المشقة والتعب.
يقول الحق جل جلاله : مخاطباً العرب، أو قريش، أو جميع بني آدم :﴿ لقد جاءكم رسولٌ من أنفسِكم ﴾ ؛ محمدٌ صلى الله عليه وسلم، أي : من قبيلتكم، بحيث تعرفون حسبه وصدقه وأمانته، وتفهمون خطابه، أو من جنسكم من البشر. وقرأ ابن نشيط : بفتح الفاء، أي : من أشرافكم. قال صلى الله عليه وسلم :" إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى كِنَانَةًَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، واصْطَفَى قُرَيْشاً مَنْ كِنَانَةَ، واصْطَفَى بَنِي هَاشِم مِنْ قُريْشٍ، واصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِم، فأنا مُصْطَََفى من مُصْطَفَيْن ".
﴿ عزيزٌ عليه ﴾، أي : شديد شاق عليه ﴿ ما عَنِتُّمْ ﴾ أي : عنتكم ومشقتكم ولقاؤكم المكروه في دينكم ودنياكم. ﴿ حريصٌ عليكم ﴾ أي : على إيمانكم وسعادتكم وصلاح شأنكم، ﴿ بالمؤمنين ﴾ منكم ومن غيركم ﴿ رؤوف رحيم ﴾ أي : شفيق بهم، قدَّم الأبلغ منهما ؛ لأن الرأفة شدة الرحمة ؛ للفاصلة. وسمى رسوله هنا باسمين من أسمائه تعالى.
وقال الورتجبي : قوله تعالى :﴿ عزيز عليه ما عنتم ﴾، اشتد عليه مخالفتنا مع الحق، ومتابعتنا هوانا واحتجابنا عن الحق. قال بعضهم : شق عليه ركوبكم مراكب الخلاف.
قال سهل : شديد عليه غفلتكم عن الله وهو طرفة عين. ثم قال في قوله تعالى :﴿ فإن تولوا فقل حسبي الله... ﴾ الآية : سَلى قلبه بإعراضهم عن متابعته، مع كونه حريصاً على هدايتهم، أي : ففي الله كفاية عن كل غير وسِوى.
قال القشيري : أمَره أن يَدْعُو الخَلْقَ إلى التوحيد، ثم قال له : فإِنْ أَعرضوا عن الإجابة فكُنْ بنا، بنعت التجريد. ويقال : قال له :﴿ يا أيها النبي حسبك الله ﴾، ثم أمره أن يقول : حسبي الله. قوله تعالى :﴿ حسبك ﴾ : عين الجمع، وقوله :﴿ حسبي الله ﴾ فَرْق، بل هو الجمع، أي : قُلْ، ولكن بنا تقول، فنحن المتولون عنك وأنت مُستَهْلَكٌ في عين التوحيد ؛ فأنت بنا، ومَحْوٌ عن غيرنا. هـ.
وبالله التوفيق. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
وعن أُبي : آخر ما نزل هاتان الآيتان. وعن النبي صلى الله عليه وسلم :" ما نَزَل القرآنُ عليَّ إلا آية آيةً، وحرفاً حرفاً، ما خَلاَ سورة براءة، و﴿ قل هو الله أحد ﴾ فإنهما أُنْزِلَتَا عليَّ ومَعَهُمَا سْبعون ألف صفٍ من الملائكة ". قاله البيضاوي وهاتان الآيتان أيضاً مما وجدَتَا عند خزيمة بن ثابت، بعد جمع المصحف، فألحقتا في المصحف، بعد تذكر الصحابة لهما وإجماعهم عليهما. والله تعالى أعلم.
وقال الورتجبي : قوله تعالى :﴿ عزيز عليه ما عنتم ﴾، اشتد عليه مخالفتنا مع الحق، ومتابعتنا هوانا واحتجابنا عن الحق. قال بعضهم : شق عليه ركوبكم مراكب الخلاف.
قال سهل : شديد عليه غفلتكم عن الله وهو طرفة عين. ثم قال في قوله تعالى :﴿ فإن تولوا فقل حسبي الله... ﴾ الآية : سَلى قلبه بإعراضهم عن متابعته، مع كونه حريصاً على هدايتهم، أي : ففي الله كفاية عن كل غير وسِوى.
قال القشيري : أمَره أن يَدْعُو الخَلْقَ إلى التوحيد، ثم قال له : فإِنْ أَعرضوا عن الإجابة فكُنْ بنا، بنعت التجريد. ويقال : قال له :﴿ يا أيها النبي حسبك الله ﴾، ثم أمره أن يقول : حسبي الله. قوله تعالى :﴿ حسبك ﴾ : عين الجمع، وقوله :﴿ حسبي الله ﴾ فَرْق، بل هو الجمع، أي : قُلْ، ولكن بنا تقول، فنحن المتولون عنك وأنت مُستَهْلَكٌ في عين التوحيد ؛ فأنت بنا، ومَحْوٌ عن غيرنا. هـ.
وبالله التوفيق. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.