ﰡ
أسباب النزول
روي أن قوله تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥)﴾ نزل في أبي الأشد أُسيد بن كلدة الجمحي، وكان مغترًا بقوته البدنية، وأن قوله: ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (٦)﴾ نزل في الحارث بن نوفل، وكان يقول: أهلكت مالًا لبدًا في الكفارات منذ أطعت محمدًا، وسواء أكانت هذه الآيات نزلت في هؤلاء أم في غيرهم، فإن معناها عام بكل من اتصف بما فيها من الاغترارات.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١)﴾؛ أي: أقسم (١) بالبلد الحرام الذي هو مكة، فكلمة ﴿لَا﴾ صلة دل عليه أن الله سبحانه أقسم بالبلد الأمين في سورة التين، قال في "كشف الأسرار": و ﴿لَا﴾: زائدة لتأكيد القسم، كقول العرب: لا والله ما فعلت كذا، لا والله لأفعلن كذا، والبلد: المكان المحدود المتأثر باجتماع قطانه وإقامتهم فيه، وجمعه بلاد وبلدان، ثم إن (٢) الله سبحانه؛ وتعالى أقسم بمكة لفضلها؛ فإنه جعلها حرمًا آمنًا، ومسقط رأس النبي - ﷺ -، وحرم أبيه إبراهيم عليه السلام، ومنشأ أبيه إسماعيل عليه السلام، وجعل البيت قبلة لأهل الشرق والغرب، وحج البيت كفارة لذنوب العمر، وجعل البيت المعمور في السماء بإزائه، ومن زيادة (٣) لا في غير القسم قول الشاعر:
تَذَكَّرْتُ لَيْلَى فَاعْتَرَتْنِيْ صَبَابَةٌ | وَكَادَ صَمِيْمُ الْقلْبِ لَا يَتصَدَّعُ |
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
٢ - وجملة قوله: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (٢)﴾ حال (١) من المقسم به، و ﴿لَا﴾ خطاب للنبي - ﷺ -، ﴿حِلٌّ﴾؛ بمعنى حال من الحلول؛ وهو النزول؛ أي: والحال أنت يا محمد حالٌّ في مكة نازل بها، قيد إقسامه تعالى بمكة بحلوله - ﷺ - فيها إظهارًا لمزيد فضلها، فإنها بعد أن كانت شريفة بنفسها.. زاد شرفها بحلول النبي العظيم الشريف، فما لا شرف فيه يحصل له شرف بشرف المكين، وما فيه شرف ذاتي يحصل له بشريف شرف زائد، ومحل قدمي النبي - ﷺ -، كمكة والمدينة ينبغي أن يحافَظ على حرمته. وفي هذه الجملة تعريض لأهل مكة بأنهم لجهلهم يرون أن يخرجوا منها من به مزيد شرفها ويؤذوه، ويجوز أن تكون الجملة معترضة بين القسم وجوابه؛ لغرض التأكيد.
والمعنى عليه: أقسم بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد، وقال الواحدي: الحل والحلال والمُحِل معناها واحد، وهو ضد المحرم، يعني: أن مثلك على عظيم حرمته يستحل بهذا البلد ما حُرِّم على غيره، كما يستحل الصيد في غير الحرم، وذلك أن الله سبحانه أحل لنبيه - ﷺ - مكة يوم الفتح حتى قاتل، وقد قال - ﷺ -: "لم تحلَّ لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي ولم تحلَّ لي إلا ساعة من نهار"، قال الواحدي: والمعنى: أن الله لما أقسم بمكة دل ذلك على عُظْم قدرها مع كونها حرامًا، فوعد نبيه - ﷺ - أن يحلها له حتى يقاتل فيها، ويفتحها على يده، وهذا وعد من الله تعالى بأن يحلها له حتى يكون بها حِلاًّ. انتهى.
فالمعنى: وأنت حل بهذا البلد في المستقبل، كما في قوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ
وفي "فتح الرحمن": إن قلت: لِمَ كرر لفظ ﴿الْبَلَد﴾؟
قلت: لم يكرره؛ إذ التقدير: لا أقسم بهذا البلد المحرم الذي جبلت العرب على تعظيمه وتحريمه، وأنت حل بهذا البلد؛ أي: أحل لك فيه من حرماته ما لم يحل لأحد قبلك ولا بعدك، من قتل ابن خطل، وقتال المشركين ساعة من نهار، فالمراد بالبلد الأول: الباقي على تحريمه، والثانى: الذي أُحل للنبي - ﷺ - إكرامًا له وتعظيمًا لمنزلته، هكذا قاله بعض المفسرين. انتهى.
٣ - وقوله: ﴿وَوَالِدٍ﴾: معطوف على ﴿هذا البلد﴾. والمراد به إبراهيم عليه السلام، والتنكير فيه للتفخيم، ﴿وَمَا وَلَدَ﴾ ذلك الوالد وهو إسماعيل عليه السلام، فإنه ولده بلا واسطة، ومحمد - ﷺ - فإنه ولده بواسطة إسماعيل، فتتضمن السورة القسم بالنبي - ﷺ - في موضعين.
وإيثار (١) ﴿مَا﴾ على من؛ لمعنى التعجب مما أعطاه الله من الكمال، كما في قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾؛ أي: بأي شيء وضعت يعني: موضوعًا عجيب الشأن وهو مريم، أو المراد بـ ﴿الوالد﴾ آدم عليه السلام، ﴿وَمَا وَلَدَ﴾ ذريته، وهو الأنسب لمضمون الجواب، فالتفخيم المستفاد من كلمة ﴿مَا﴾ لا بد فيه من اعتبار التغليب؛ أي: فهو من باب وصف الكل بوصف البعض، أو للتعجيب من الأمر الذي يشترك فيه الكل كالنطق والبيان والصورة البديعة وغيرها، وقيل المراد: كل والد وكل مولود من الإنسان وغيره، واختار هذا القول ابن جرير.
٤ - وقوله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾ حال كونه ﴿فِي كَبَدٍ﴾ وتعب ونصب ومشقة في جميع أحواله، جواب للقسم، يقال: كَبِد الرجل كَبَدًا إذا وجعت كبده فانتفخت، وأصله: كَبَدَهُ إذا أصاب كَبِدَه، كذكرته إذا قطعت ذكره، ورأيته إذا قطعت رئته، ثم اتسع فيه حتى استُعمل في كل نصب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة بمعنى مقاساة الشدة، و ﴿فِي كَبَدٍ﴾ حال من ﴿الْإِنْسَانَ﴾ بمعنى مكابدًا، وحرف ﴿في﴾ واللام متقاربان، تقول: إنما أنت للعناء والنصب، وإنما أنت في العناء والنصب، والإنسان هو هذا النوع الإنساني.
والمعنى (٢): لقد خلقنا الإنسان في تعب ومشقة، فإنه مع كونه أضعف الخلق
(٢) روح البيان.
قال الإِمام (١): ليس في الدنيا لذة ألبتة، بل ذلك الذي يظن أنه لذة فهو خلاص من الألم، فاللذة عند الأكل هي الخلاص من ألم الجوع، وعند اللبس هي الخلاص من ألم الحر والبرد، فليس للإنسان إلا ألم وخلاص من ألم، وفيه تسلية لرسول الله - ﷺ - مما كان يكابده من كفار قريش، قال الكلبي: نزلت هذه الآية في رجل من بني جمح يقال له: أبو الأَشُد - بفتح الهمزة وضم الشين - وكان يأخذ الأديم العكاظي، ويجعله تحت رجليه، ويقول: من أزالني عنه.. فله كذا، فيجذبه
عشرة حتى يتمزق ولا تزول قدماه، وكان من أعداء النبي - ﷺ -، وفيه نزل: ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥)﴾؛ لقوته، ويكون معنى ﴿فِي كَبَدٍ﴾ على هذا: في شدة الخلق، وقيل معنى ﴿فِي كَبَدٍ﴾ أنه جريء القلب غليظ الكبد.
والخلاصة (٢): أي إنه تعالى جعل حياة الإنسان سلسلة متصلة الجهاد، مبتدأة بالمشقة منتهية بها، فهو لا يزال يقاسي من ضروبها ما يقاسي منذ نشأته في بطن أمه إلى أن يصير رجلًا، وكلما كبر ازدادات أتعابه وآلامه، فهو يحتاج إلى تحصيل
(٢) المراغي.
والسر في ذكر هذه الجملة تسلية رسول الله - ﷺ - على ما يلاقيه من إذاية الكفار، كما مر آنفًا، وتنبيه المغرورين الذين يشعرون بالقوة في أنفسهم، ويظنون أنهم بها يستطيعون مصارعة الأقران، وكأنه يقول لهم: لا تتمادوا في غروركم ولا تستمروا على صلفكم وكبريائكم، فإن الإنسان لا يخلو من العناء في تصريف شؤونه وشؤون ذويه، ومهما عظمت منزلته وقويت شكيمته فهو لا يستطيع الخلاص من مشاق الحياة.
وقد جمع سبحانه بين البلد المعظم والوالد والولد، يشير إلى أن مكة على ما بها من عمل أهلها ستلد مولودًا عظيمًا، يكون إكليلًا لمجد النوع الإنساني وشرفه؛ وهو دين الإِسلام الذي جاء به محمد - ﷺ -، وأن العناء الذي يلاقيه إنما هو العناء الذي يصيب الوالد في تربية ولده والمولود في بلوغ الغاية في سبيل نموه، إلى ما فيه من الوعد بإتمام نوره ولو كره الكافرون.
٥ - والضمير في قوله: ﴿أَيَحْسَبُ﴾ لبعض صناديد قريش، الذين كان - ﷺ - يكابد منهم أكثر مما يكابد من غيرهم، كالوليد بن المغيرة وأضرابه ﴿أَنْ﴾ مخففة من الثقيلة سادَّةٌ مع اسمها مسد مفعولي الحسبان؛ أي: أيظن (١) الإنسان المعهود الذي هو أبو الأَشُد، أو جنس بني آدم أن الحال الشأن ﴿لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: على الانتقام منه ﴿أَحَدٌ﴾ فحسبانه الناشىء عن غلظ الحجاب، ومرض القلب فاسد؛ لأن الله الأحد يقدر عليه، وهو عزيز ذو انتقام،
٦ - ثم أخبر سبحانه عن مقال هذا الإنسان، فقال: ﴿يَقولُ﴾ ذلك الظان على سبيل الرعونة والخيلاء ﴿أَهْلَكْتُ﴾؛ أي: أنفقت كقول العرب: خسرت عليه كذا إذا أنفق عليه ﴿مَالًا لُبَدًا﴾؛ أي: مالًا كثيرًا متلبدًا مجتمعًا بعضه إلى بعض، من تلبد الشيء إذا اجتمع، يريد كثرة ما أنفقه سمعة ومفاخرة، وكان أهل الجاهلية يسمون مثل ذلك مكارم، ويدعونه معالي ومفاخر.
قال الليث (٢): ﴿مَالًا لُبَدًا﴾، لا يُخاف فناؤه لكثرته، قال الكلبي ومقاتل:
(٢) الشوكاني.
٧ - ﴿أَيَحْسَبُ﴾؛ أي: أيظن ذلك الأحمق المباهي ﴿أَن﴾؛ أي: أن الشأن ﴿لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾ حين كان يُنفق، وأنه تعالى لا يسأله عنه، ولا يجاريه عليه؛ أي: يظن أنه لم يعاينه أحد، والاستفهام للإنكار كسابقه.
قال قتادة: أيظن أن الله سبحانه لم يره ولا يسأله عن ماله من أين كسبه وأين أنفقه، وقال الكلبي: كان كاذبًا لم ينفق ما قال، فقال الله: أيظن أن الله لم ير ذلك منه فعل أو لم يفعل، أنفق أو لم ينفق، يعني أن الله سبحانه رآه واطلع على خبث نيته، وفساد سريرته، وأنه مجازيه عليه، فمثل ذلك الإنفاق وهو ما كان بطريق المباهاة رذيلة، فكيف يعده الجاهل فضيلة، وفي الحديث: "لا تزول قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن ماله من أين كسبه وفيم أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به".
وحاصل معنى الآيات: ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥)﴾؛ أي: أيظن (٢) ذلك المغتر بقوته المفتون بما أنعمنا له عليه أنه مهما عظمت حاله وقوي سلطانه يبلغ منزلة لا يقدر عليه فيها أحد، ما أجهله إذا ظن ذلك، فإن في الوجود قوة فوق جميع القوى المهيمنة على كل قوة، والمسيطرة على كل القدرة، وهي القوة التي
(٢) المراغي.
﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾؛ أي: أيظن ذلك المغتر بماله المدعي أنه أنفقه في سبيل الخير أن الله لم يطلع على أفعاله، ولم يعلم ما دعاه إلى الإنفاق، إنه لا ينبغي له أن يظن ذلك، فإن البارىء له مطلع على قرارة نفسه، عالم بخبيثات قلبه، لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء، عليم بأنه لم يُنفق شيئًا من ماله في سبيل الخير المشروع والبر المحمود، وإنما أنفق ما أنفق للرياء والسمعة، أو لمشاقة الله ورسوله، أو في وجوه أخرى يظنها خيرًا؛ وهي خسران وضلال مبين.
٨ - وبعد أن أنكر على هؤلاء اغترارهم بقوتهم وكثرة أموالهم.. شرع يذكر آثار قدرته الغالبة؛ ليبين لهم أن هناك قوة لها من الاثار ما هم يشاهدون، فقال: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨)﴾ فهو إذا أبصر شيئًا فإنما يكون ذلك بما خلقنا له من العينين، فهذه النعمة التي يعتز بها إنما هي من عملنا؛ أي: ألم (١) نخلق له عينين يبصر بهما عالَم الملك من الأرض إلى السماء حتى يشاهد بهما في طرفة عين النجوم العلوية التي بينه وبينها عدة الآف سنة، ويفرق بهما بين ما يضر وما ينفع، وبهما يحصل شرف النظر إلى وجه العالِم، وإلى المصحف وإلى الشواهد.
قال في "أسئلة الحكم": العين تحرس البدن من الآفاق، وهي نيرة كالمرآة إذا قابلها شيء ارتسمت صورته فيها مع صغر الناظر، وهو الحدقة التي هي شحمة، وجعل الله سبحانه العين سريعة الحركة، وجعل لها أجفانًا تسترها، وأهدابًا من الشعر كجناح الطائر تطرد بانضمامها وبانفتاحها الذباب والهوام عن العين، وجعل العين في الرأس؛ لأن السراج يوضع على رأس المنار، وجعلها ثنتين كالشمس والقمر، فإنهما عينا التعين الدنيوي، وجعل فوقهما حاجبين أسودين، لئلا يتضرر
ولما بني ذو القرنين الإسكندرية.. رخمها بالرخام الأبيض جدرها وأرضها، فكان لباسهم فيها السواد من نصوع بياض الرخام، فمن ذلك اليوم لبس الرهبان السواد، فإن النظر إلى الأبيض يفرق البصر ويضعفة، ولذا قال - ﷺ - في الإثمد: "إنه يقوي البصر"، وجعل سبحانه الحدقة محركة في مكانها لتتحرك إلى الجهات يمنة ويسرة، فيبصر بها من غير أن يلوي عنقه، وجعل الناظرين جميعًا على خط مستقيم عرضًا، ولم يقع واحد منهما أعلى ولا أخفض؛ ليجتمع الناظران على شيء واحد؛ لئلا يتراءى له الشخص الواحد شخصين، وجعل العين ثنتين؛ لأن نظر عينين أتم من نظر عين واحدة، وإشارة إلى العين الظاهرة والعين الباطنة، فينبغي أن يحافظ على كلتيهما.
٩ - ﴿و﴾ ألم نجعل ﴿لِسَانًا﴾ يترجم (١) به عن ضمائره وينطق به، وبه تنعقد المعاملات، وتحصل الشهادات، ويدرك الطعوم من الحلو والمر، ولو لم يكن اللسان لاحتاج الإنسان إلى الإشارة أو الكتابة فتعسر أمره، وإنما تعدد العين والأذن، وتفرد اللسان؛ لأن حاجة الإنسان إلى السمع والبصر أكثر من حاجته إلى الكلام، وفيه تنبيه أيضًا على أن يقل من الكلام إلا في الخير، وأن لا يتكلم فيما لا فائدة فيه، وهو السر في أن الله تعالى جعل اللسان داخل الفم، وجعل دونه الشفتين اللتين لا يمكن الكلام إلا بفتحهما؛ ليستعين العبد بطباق شفتيه على رد الكلام. ﴿و﴾ ألم نجعل له ﴿شَفَتَيْنِ﴾ يستر بهما فاه وثغره إذا أراد السكوت، ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ، قال السجاوندي: خص الشفة، لخروج أكثر الحروف منها، وفي الدعاء: الحمد لله الذي جعلنا ننطق بلحم ونبصر بشحم ونسمع بعظم. قال بعضهم: أسبل الصانع الحكم أمام الفم سترًا من الشفة ذا طرفين يضمهما عند الحاجة، ويمتص بهما المشروب، وجعل الشارب محيطًا من العليا؛ ليمنع ما على وجه الشراب من القش والقذى أن يدخل حالة الشرب. انتهى.
وفي الحديث: "إن الله تعالى يقول: يا ابن آدم إن نازعك لسانك فيما حرمت عليك فقد أعنتك بطبقتين فأطبق، وإن نازعك بصرك إلى بعض ما حرمت عليك فقد
١٠ - وقوله: ﴿وَهَدَيْنَاهُ﴾، أي: هدينا ذلك الإنسان ﴿النَّجْدَيْنِ﴾؛ أي: الطريقين طريقي الخير والشر معطوف (١) على ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ﴾؛ لأنه في التقدير مثبت؛ أي: جعلنا له ذلك المذكور، وهديناه طريقي الخير والشر؛ أي: بيناهما له وأوضحناهما له بالدلائل الواضحة القاطعة، قال الزجاج: المعنى: ألم نعرفه طريق الخير وطريق الشر مبينتين كتبيين الطريقين العاليتين، كما قال - ﷺ -: "النجدان هما الطريقان، نجد الخير ونجد الشر؛ فلا يكن نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير".
وقال عكرمة وسعيد بن المسيب والضحاك: النجدان: الثديان؛ لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه، وتمكين مولود عاجز من رضاع أمه عقيب الولادة قدرة من الله سبحانه ونعمة جلية عليه، والأول أولى. وأصل النجد (٢): المكان المرتفع، وجمعه نجود، ومنه سميت نجدًا لارتفاعها عن انخفاض تهامة، فالنجدان الطريقان العاليان، ومنه قول امرىء القيس:
فَرِيْقَانِ مِنْهُمْ قَاطِعٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ | وآخَرُ مِنْهُمْ قَاطِعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ |
والمعنى (٣): أي وأودعنا في فطرة الإنسان التمييز بين الخير والشر، وجعلنا له
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
١١ - ﴿فَلَا اقْتَحَمَ﴾؛ أي: فهلا سلك ذلك الإنسان المغرور ﴿الْعَقَبَةَ﴾؛ أي: طريق العقبة التي يشق عسلوكها، والسير فيها على أكثر الناس التي هي مجاهدة النفس والشيطان والهوى، وسلوك طريق الخير والهدى؛ ليكون شاكرًا لربه على هذه النعمة، وقد ضرب الله سبحانه العقبة مثلًا لهذا الجهاد؛ لأن الإنسان يريد أن يرقى من عالم الحس عالم الأشباح إلى عالم الأنوار والأرواح، وبينه وبين ذلك عقبات من ورائها عقبات، وسبيل الوصول إلى غايته هذه هي فعل الخيرات، فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة الحسية ﴿فَلَا﴾ بمعنى: هلا للتحضيض؛ أي: الذي أنفق ماله في عداوة النبي - ﷺ -. هلا أنفقه لاقتحام العقبة ومجاوزتها، فيأمن من مهالك الدارين، ولكن كون ﴿لا﴾ بمعنى هلّا لم يُسمع وإن ذكره الجلال.
قال الفراء والزجاج (٢): ذكر سبحانه هنا ﴿لا﴾ مرة واحدة، والعرب لا تكاد تفرد ﴿لا﴾ مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع، حتى يُعيدوها في كلام آخر، كقوله: ﴿فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (٣١)﴾ وإنما أفردها هنا؛ لدلالة آخر الكلام على معناه، فيجوز أن يكون قوله: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قائمًا مقام التكرير، كأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن، قال المبرد وأبو علي الفارسي: إن ﴿لا﴾ هنا بمعنى لم؛
(٢) الشوكاني.
١٢ - ثم بيّن سبحانه العقبة، فقال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢)﴾؛ أي: أي شيء أعلمك يا محمد جواب ما اقتحام العقبة؟ فإن المراد ليس العقبة الصورية،
١٣ - وأبّين لك بقولي: اقتحام العقبة هو ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣)﴾، أي: إعتاق نسمة، وتخليصها من أسر الرق، أو من قتل، أو يد كافر، وكل شيء أطلقته فقد فككته، ومنه فك الرهن، وأصل الفك (٢): الفرق بين الشيئين بإزالة أحدهما عن الآخر، كفك القيد والغل، وفك الرقبة، الفرق بينها وبين صفة الرق بإيجاب الحرية، سمي العتق فكًا؛ لأن الرق كالقيد، وسمي المرقوق رقبةً؛ لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته، والرقبة: اسم للعضو المخصوص، ثم يعبر بها عن الجملة، وجُعل في التعارف اسمًا للمماليك، كما عبر بالرأس وبالظهر عن المركوب، فيقال: فلان يربط كذا رأسًا وكذا ظهرًا.
والمعنى هنا: هو - أي اقتحام العقبة - إعتاق رقبة، فالفك، ليس تفسيرًا وبيانًا لنفس العقبة، بل لاقتحامها بتقدير المضاف، وذلك لأن العقبة عين، والفك فعل فلا يكون تفسيرًا للآخر.
ثم فك الرقبة (٣) قد يكون بأن ينفرد الرجل في عتق الرقبة، وقد يكون بأن يُعطي مكاتبه ما يصرفه إلى جهة فكاك رقبته، وبأن يعين في تخليص نفس من قَوَد أو غُرْم، فهذا كله يعمه الفك دون الإعتاق، ويحتمل أن يكون المراد بفك الرقبة: أن
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
قال بعضهم: تقديم العتق على الصدقة يدل على أنه أفضل منها، كما هو مذهب أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -، وفي الحديث: "من فك رقبة.. فك الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار".
قال الراغب: فك الإنسان غيره من العذاب إنما يحصل بعد فك نفسه منه، فإن من لم يهتد ليس في قوته أن يهدي، وفك الرقبة من قبيل فك النفس؛ لأنه من الأعمال الصالحة التي لها مدخل عظيم في فكها. وقرأ النحويان (١) أبو عمرو والكسائي وابن كثير: ﴿فَكَّ﴾ فعلًا ماضيًا ﴿رقبةً﴾ نصبًا على المفعولية، وهكذا قرؤوا: ﴿أَطْعَم﴾ فعلًا ماضيًا ﴿مِسْكِينًا﴾ وما بعده نصبًا على المفعولية، وقرأ باقي السبعة: ﴿فَكُّ﴾ مرفوعًا ﴿رَقَبَةٍ﴾ مجرورًا ﴿أَوْ إِطْعَامٌ﴾ بالرفع معسوفًا على ﴿فَكُّ﴾ على أنهما مصدران، وجر ﴿رَقَبَةٍ﴾ بإضافة المصدر إليها، فعلى القراءة الأولى يكون الفعلان بدلًا من ﴿اقتَحَمَ﴾، كأنه قيل: فلا فك ولا أطعم، وقرأ علي وأبو رجاء كقراءة ابن كثير إلا أنهما قَرآ: ﴿ذا مسغبة﴾ بالألف، وقرأ الحسن وأبو رجاء أيضًا: ﴿أو إطعام في يوم ذا﴾ بالألف، ونصبـ ﴿ذا﴾ على المفعولية؛ أي: إنسانًا ذا مسغبة، و ﴿يَتِيمًا﴾ بدل منه أو صفة، وقرأ بعض التابعين: ﴿فك رقبة﴾ بالإضافة ﴿أو أطعمَ﴾ فعلًا ماضيًا، ومن قرأ ﴿فَكُّ﴾ بالرفع، فهو تفسير لاقتحام العقبة، والتقدير: وما أدراك ما اقتحام العقبة، ومن قرأها فعلًا ماضيًا فلا يحتاج إلى تقدير مضاف، بل يكون التعظيم المفهوم من الاستفهام للعقبة نفسها، ويجيء ﴿فَكَّ﴾ بدلًا من اقتحم. قاله ابن عطية.
والحاصل (٢): أنه سبحانه وتعالى أرشد إلى أن اقتحامها يكون بفعل صنوف من الخير، منها:
(٢) المراغي.
٢ - ١٤ ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤)﴾؛ أي: ذي مجاعة لقحط أو غلاء من سغب إذا جاع، قال الراغب: السغب: الجوع مع التعب، وربما قيل في العطش مع التعب، يقال منه: سغب الرجل سغبًا ومسغوبًا فهو ساغب وسغبان، والمسغبة بوزن مفعلة مصدر ميمي، وأنشد أبو عبيدة:
فَلَوْ كُنْتَ حُرًّا يَا ابْنَ قَيسِ بْنِ عَاِصمٍ | لَمَا بِتَّ شَبْعَانًا وَجَارُكَ سَاغِبَا |
١٥ - ﴿يَتِيمًا﴾: مفعول به ﴿لإطعام﴾ ﴿ذَا مَقْرَبَةٍ﴾؛ أي: صاحب قرابة من قرب في النسب قربًا ومقربة، فالمقربة مصدر ميمي أيضًا بمعنى القرابة.
وقال السجاوندي: قرب قرابة أو جوار. انتهى. وقيّد اليتيم بأن يكون بينه وبين المطعم قرابة نسبية؛ لأنه اجتمع فيه جهتا الاستحقاق، اليُتم والقرابة، فإطعامه أفضل؛ لاشتماله على الصدقة وصلة الرحم، واليتيم في الأصل: الضعيف، يقال: يُتم الرجل إذا ضعف، واليتيم عند أهل اللغة: من لا أب له، وقيل: هو من لا أب له ولا أم، ومنه قول قيس بن الملوِّح:
إِلَى اللهِ أَشكُوْ فَقْدَ لَيْلَى كَمَا شَكَا | إِلَى اللهِ فَقْدَ الوَالِدَيْنِ يَتِيْمُ |
(٢) الشوكاني.
٣ - ١٦ ﴿أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦)﴾؛ أي: ذا افتقار لا شيء له، كأنه لصق بالتراب لفقره، وليس له مأوى إلا التراب، مأخوذ من تَرِب - بالكسر - تَرَبًا بفتحتين، ومتربًا إذا افتقر، كأنه لصق بالتراب من فقره وضره، فليس فوقه ما يستره، ولا تحته ما يوطئه ويفرشه، وأما قولهم: أترب فمعناه: صار ذا مال، كالتراب في الكثرة، كما يقال: أثرى فلان إذا كثر ماله، وعن النبي - ﷺ - في قوله: ﴿ذَا مَتْرَبَة﴾ "الذي مأواه المزابل"، وقال مجاهد (٢): هو الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره، وقال قتادة: هو ذو العيال، وقال عكرمة: هو المديون، وقال أبو سنان: هو ذو الزمانة، وقال ابن جبير: هو الذي ليس له أحد، وقال عكرمة: هو البعيد التربة الغريب عن وطنه، والأول أولى، ومنه قول الهذلي:
وَكُنَّا إِذَا مَا الضَّيْفُ حَلَّ بأَرْضِنَا | سَفَكْنا دِمَاءَ الْبُدْنِ فِيْ تُرْبَةِ الْحَال |
والخلاصة: أي أو إطعام المسكين الذي لا وسيلة له إلى كسب المال؛ لضعفه وعجزه،
١٧ - وقوله: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ (٣) عطف على المنفي بـ ﴿لا﴾، وجاء بـ ﴿ثم﴾؛ للدلالة على تراخي رتبة الإيمان عن العتق والصدقة، ورفعة محله على محلهما، لتوقف صحة جميع الأعمال الصالحة على وجوده؛ لكونه أساسها، وإلا فهو في الزمان مقدم على الطاعات.
والمعنى: أن الإنفاق مع الإيمان، والتواصي هو الإنفاق المرضي النافع عند
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
واعلم (٢): أنه إنما اشترط الإيمان مع فعل هذه المَبَارِّ؛ لأن من فعلها دون أن يكون مؤمنًا لم ينتفع بها، ولم يكن له ثواب عليها؛ إذ لا ينفع مع الكفر بر،
١٨ - ثم بيّن مآل فاعل هذه المبرات، فقال: ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالنعوت الجليلة المذكورة.
وفي اسم الإشارة (٣) دلالة على حضورهم عند الله في مقام كرامته، وعلوّ رتبتهم، وبعد درجتهم ﴿أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾؛ أي: أصحاب اليمين الذين يُعطون كتبهم بأيمانهم، ويُسلَك بهم من طريق اليمين إلى الجنة، أو أصحاب اليمن والخير والسعادة؛ لأن الصلحاء ميامين على أنفسهم بطاعتهم وعلى غيرهم أيضًا، أو أصحاب اليد اليمنى.
والمعنى (٤): أي أولئك الذين اقتحموا العقبة، ففكوا الرقاب، وأطعموا المساكين، وواسوا ذوي القربى في يوم المسغبة هم السعداء المُمَتَّعون بجنات النعيم، وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨)...﴾ الآيات.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
٢٠ - ﴿عَلَيْهِمْ﴾ خبر مقدم لقوله: ﴿نَارٌ مُؤْصَدَةٌ﴾؛ أي: نار أبوابها مغلقة عليهم، فلا يُفتح لهم باب، فلا يُخرج منها غم، ولا يدخل فيها روح أبد الآباد، إلا أنها جُعلت صفة للنار إشعارًا بإحاطتها بهم، فأصل التركيب مؤصدة الأبواب، فلما تُركت الإضافة عاد التنوين إليها؛ لأنهما يتعاقبان، والمعنى؛ أي: عليهم نار مطبقة مغلقة عليهم، فلا يستطيعون الفكاك منها، ولا الخلاص من عذابها، أعاذنا الله سبحانه وجميع المسلمين منها بمنه وكرمه، وجعلنا من أصحاب الميمنة، يقال: آصدت الباب وأوصدته إذا أغلقته وأطبقته، ومنه قول الشاعر:
تَحِنُّ إِلَى أَجْبَالِ مَكَّةَ نَاقَتِيْ | وَمِنْ دُوْيهَا أَبْوَابُ صَنْعَاءَ مُؤْصَدَهْ |
وقال الشاعر:
قَوْمًا تُعَالِجُ قُمَّلًا أَبْنَاؤُهُمُ | وَسَلاَسِلًا حَلَقًا وَبَابًا مُؤْصَدَا |
(٢) البحر المحيط.
الإعراب
﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (٢) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧)﴾.
﴿لَا﴾: زائدة. ﴿أُقْسِمُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله سبحانه، والجملة مستأنفة، ﴿بِهَذَا﴾: جار ومجرور معلق بـ ﴿أُقْسِمُ﴾. ﴿الْبَلَد﴾: بدل من اسم الإشارة، ﴿وَأَنْتَ﴾: ﴿الواو﴾: حالية، أو اعتراضية. ﴿أنت﴾: مبتدأ. ﴿حِلٌّ﴾: خبر ﴿بِهَذَا﴾: متعلق بـ ﴿حِلٌّ {الْبَلَدِ﴾: بدل من اسم الإشارة، والجملة في محل النصب حال من ﴿هذا البلد﴾ أو معترضة لا محل لها من الإعراب. ﴿وَوَالِدٍ﴾: الواو: عاطفة، أو حرف قسم. ﴿والد﴾: معطوف على القسم السابق. ﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: اسم موصول في محل الجر معطوف على ﴿والد﴾. ﴿وَلَدَ﴾: فعل ماض وفاعل مستتر يعود على ﴿والد﴾، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة، والعائد محذوف تقديره: وما ولده ذلك الوالد. ﴿لقَد﴾: ﴿اللام﴾: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ﴾: فعل وفاعل ومفعول به، والجملة جواب القسم لا محل لها من الإعراب. ﴿فِي كَبَدٍ﴾: متعلق بمحذوف حال من ﴿الْإِنْسَانَ﴾؛ أي: حال كونه مكابدًا للمشاق. ﴿أَيَحْسَبُ﴾: ﴿الهمزة﴾: للاستفهام الإنكاري، ﴿يحسب﴾: فعل مضارع، وفاعلهُ ضمير يعود على ﴿الْإِنْسَانَ﴾، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿أَن﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. ﴿لن﴾: حرف نصب. ﴿يَقْدِرَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ ﴿لن﴾ ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَقدِرَ﴾. ﴿أَحَدٌ﴾: فاعل، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لـ ﴿أن﴾ المخففة، وجملة ﴿أَن﴾ المخففة في محل النصب سادة مسد مفعولي ﴿يحسب﴾، ﴿يَقُولُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿الْإِنْسَانَ﴾، وجملة القول في محل النصب حال من فاعل ﴿يحسب﴾، أو مستأنفة. ﴿أَهْلَكْتُ﴾: فعل وفاعل. ﴿مَالًا﴾: مفعول
﴿ألَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)﴾.
﴿أَلَمْ﴾ ﴿الهمزة﴾: للاستفهام التقريري، ﴿لم﴾: حرف جزم. ﴿نَجْعَلْ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لم﴾. ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿نَجْعَلْ﴾؛ لأنه بمعنى نخلق. ﴿عَيْنَيْنِ﴾: مفعول به، والجملة جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (٩)﴾: معطوفان على ﴿عَيْنَيْنِ﴾. ﴿وَهَدَيْنَاهُ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة: ﴿هديناه﴾: فعل وفاعل ومفعول أول. ﴿النَّجْدَيْنِ﴾: مفعول ثان له، أو منصوب بنزع الخافض، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ﴾؛ لأن الاستفهام فيه تقريري، فيكون بمعنى: وجعلنا له عينين. ﴿فَلَا﴾ ﴿الفاء﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: نافية بمعنى: ما. ﴿اقْتَحَمَ﴾ فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿الْإِنْسَانَ﴾ القائل، والجملة معطوفة على ﴿هديناه﴾؛ أي: وهديناه النجدين فما اقتحم العقبة، و ﴿الْعَقَبَةَ﴾: مفعول به، وقيل ﴿لا﴾: دعائية، دعا عليه أن لا يفعل خيرًا، وهذا أرجح الأقوال الجارية هنا، وقيل: ﴿لا﴾ تحضيضية، والأصل: فألا اقتحم العقبة، ثم حُذفت الهمزة للتخفيف، وهذا القول ضعيف. وإن كان واضح المعنى كما مر، ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: اعتراضية ﴿ما﴾: استفهامية في مخل الرفع مبتدأ. ﴿أَدْرَاكَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿ما﴾ و ﴿الكاف﴾ مفعول أول، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر عن ﴿ما﴾ الاستفهامية، والجملة الاسمية معترضة مقحمة لبيان العقبة، مقررة لمعنى الإبهام والتفسير، فإن قوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢)﴾ عين تلك العقبة؛ لأن المعرف باللام
التصريف ومفردات اللغة
﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١)﴾ وفي "القاموس": البلد والبلدة: مكة شرفها الله تعالى، وكل قطعة من الأرض مستحيزة عامرة أو غامرة، والتراب والبلد أيضًا القبر والمقبرة والدار والأثر.
وذكر له معاني إلى أن قال: وبلد بالمكان بلودًا إذا أقام ولزمه، أو اتخذه بلدًا، وفي "روح البيان": البلد: المكان المحدود المتأثر باجتماع قطانه وإقامتهم فيه، وجمعه بلاد وبلدان. انتهى. كما مر في بحث التفسير.
﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (٣)﴾؛ أي: وأقسم لك بأي والد وبأي مولود من الإنسان والحيوان والنبات.
﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (٤)﴾؛ أي: في نصب ومشقة يكابد مصائب الدنيا وشدائد الاخرة، وفي "المصباح": والكَبَد - بفتحتين - المشقة من المكابدة للشيء، وهو يتحمل المشاق في فعله، يقال: كَبِدَ الرجل كبدًا - من باب طرب - إذا وجعت كبده فانتفخت، ويقال: كبده إذا أصاب كبده، كذكرته إذا قطعت ذكره، ورأيته إذا قطعت رئته، ثم اتسع فيه حتى استُعمل في كل نصب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة بمعنى مقاساة الشدة، ومنه قال لبيد يرثي أخاه أربد:
يَا عَيْنُ هَلْ رَأيْتِ أرْبَدَ إِذْ | قُمْنَا وَقَامَ الخُصُوْمُ فِي كَبَدِ |
﴿مَالًا لُبَدًا﴾؛ أي: مالًا كثيرًا متلبدًا من تلبد الشيء إذا اجتمع، وتكدس بعضه على بعض، ولا يخاف فناؤه من كثرته، يريد كثرة ما أنفقه رياء وسمعة وعداوة للنبي - ﷺ -.
﴿أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾ أصله: يرأي بوزن يفعل، نقلت حركة الهمزة عين الفعل إلى الراء، ثم حذفت للتخفيف، ثم قُلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لدخول الجازم، فلم يبق من الفعل إلا فاؤه فوزنه يفه.
﴿وَشَفَتَيْنِ﴾: مثنى شفة، فيه إعلال بحذف لامه، وأصله: شفهة، أو شفو لتصغيره على شفيهة، وجمعها على شفاه، حُذفت لامه وعُوّض عنها التاء ونظيره سنة.
﴿النَّجْدَيْنِ﴾: والنجدان: طريقا الخير والشر، والنجد في الأصل الطريق المرتفع وجمعه نجود، ومنه سميت نجد لارتفاعها عن انخفاض تهامة، وفي "القاموس" النجد: ما ارتفع من الأرض، وجمعه أنجد وأنجاد ونجاد ونجود ونُجُد، وجمع النجود: أنجدة، والطريق الواضح، وما خالف الغور؛ أي: تهامة، وتضم
﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١)﴾ والاقتحام: الدخول في أمر شديد ومجاوزته بصعوبة، وفي "القاموس": قحم في الأمر - كنصر - قحومًا رمى بنفسه فيه فجأة بلا روية، والعقبة: الطريق الوعر.
﴿فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣)﴾ والفك في الأصل: الفرق بين الشيئين بإزالة أحدهما عن الاخر، كفك القيد والغل، وفك الرقبة: الفرق بينها وبين صفة الرق بإيجاب الحرية، والرقبة: العضو المخصوص، ثم يعبر بها عن جملة الذات، كا مر بسطه.
﴿مَسْغَبَةٍ﴾: مصدر ميمي من سَغِب يسغب سغبًا - من باب فرح - إذا جاع، وفي "القاموس": سغب - كفرح ونصر - سَغَبًا وسغْبًا وسغابة وسغوبة ومسغبة جاع، فهو ساغب وسغبان وسَغِب، وهي سغبى، وجمعها سغاب، والسغب أيضًا العطش، وليس بمستعمل.
﴿ذَا مَقْرَبَةٍ﴾ والمقربة القرابة في النسب تقول: فلان من ذوي قرابتي، ومن أهل مقربتي إذا كان قريبك نسبًا فهو مصدر ميمي بمعنى القرابة.
﴿ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ والمتربة؛ الفقر، تقول: ترب الرجل إذا افتقر، وأترب إذا كثر ماله حتى صار كالتراب، وفي "المختار": ترب الشيء إذا أصابه التراب، وبابه طرب، ومنه ترب الرجل؛ أي: افتقر كأنه لصق بالتراب، وتربت يداه دعاء عليه لا أصاب خيرًا، وتَرَّبَه تتْريبًا فتَترَّب؛ أي: لطخه فتلطخ، وأتربه جعل عليه التراب، وفي الحديث "أتربوا الكتاب فإنه أنجح للحاجة" وأترب الرجل استغنى، كأنه صار له من المال بقدر التراب، والمتربة: المسكنة والفاقة، ومسكين ذو متربة؛ أي: لاصق بالتراب؛ لفقره وضره، فليس فوقه ما يستره، ولا تحته ما يفرشه.
﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾؛ أي: نصح بعضهم بعضًا به، وأصله تواصَيُوا بوزن: تفاعلوا، قُلبت الياء ألفًا لتحركها بعد فتح، ثم حذفت الألف لالتقاء الساكنين.
﴿بِالْمَرْحَمَةِ﴾ والمرحمة مصدر ميمي بمعنى الرحمة.
﴿أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ الميمنة: طريق النجاة والسعادة، وهو اسم مكان أو مصدر ميمي.
﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠)﴾؛ أي: مطبقة، من أوصدت البالب إذا أطبقته، كأوعدته فهو حينئذ مثال واوي، أو من آصدته بالمد إذا أطبقته وأغلقته وأحكمته، فهو حينئذ من المهموز مثل آمن، فمن قرأها ﴿مُؤْصَدَةٌ﴾ بالهمز جعلها اسم مفعول من آصدت كآمنت، ومن قرأها ﴿موصدة﴾ بالواو من غير همز جعلها اسم مفعول من أوصدت مثل أوعد فهو مُوعِد، وذاك مُوعَد، ويحتمل على هذه القراءة أن يكون أيضًا من آصد مثل آمن، لكنه قُلبت همزته الساكنة واوًا؛ لضم ما قبلها للتخفيف، ففيه لغتان: آصد كآمن، وأوصد كأوعد، كلاهما بمعنى واحد.
وكان أبو بكر بن عياش راوي عاصم يكره الهمزة في هذا الحرف، ويقول: لنا إمام يهمز مؤصدة، فأشتهي أن أصد أذني إذا سمعته، وكأنه لم يحفظه عن شيخه إلا بترك الهمزة، وقد حفظه حفص بالهمزة، وهو أضبط للحروف من أبي بكر على ما نقله القراء، وإن كان أبو بكر أكبر وأتقن وأوثق عند أهل الحديث، والله سبحانه وتعالى أعلم.
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: زيادة ﴿لا﴾ في قوله: ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (١)﴾؛ أي: أقحم بهذا البلد لتكيد القسم، وهو مستفيض شائع في كلام العرب، كقولهم: لا والله ليس بالأمر كذا؛ أي: والله ليس الأمر كذا، قال امرؤ القيس:
لَا وَأَبِيْكِ ابْنَةَ العَامِرِيّ
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (٢)﴾ إظهارًا لمزيد فضلها بحلوله فيه.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (٣)﴾ فكل من الوالد والولد مشتق من الولادة.
ومنها: إيثار ﴿ما﴾ على من في قوله: ﴿وَمَا وَلَدَ﴾ إفادة لمعنى التعجب مما أعطاه الله تعالى من الكمال، كما في قوله: ﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾؛ أي: بأي شيء وضعت يعني: موضوعًا عجيب الشأن، وهو مريم، ويعني هنا: مولودًا عجيب الشأن، وهو إسماعيل، أو محمد عليهما السلام.
ومنها: الاستفهام الإنكاري للتوبيخ في قوله: ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥)﴾، ومثله قوله: ﴿أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧)﴾.
ومنها: الاستفهام التقريري للتذكير بالنعم في قوله: ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (٩)﴾.
ومنها: التعبير بلفظ الإهلاك في قوله: ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا﴾ إشارة إلى أنه ضائع في الحقيقة؛ إذ لا ينتفع به صاحبه في الآخرة.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)﴾ فقد استعار النجدين للخير والشر، وحذف المشبه؛ وهو الخير والشر، وأبقى المشبه به، فإن قلت: أما تشبيه الخير بالنجد وهو المرتفع من الطريق، فلا غبار عليه؛ لأنه ظاهر بخلاف الشر، فإنه هبوط وارتكاس من ذروة الفطرة إلى حضيض الابتذال.. قلنا: إنه جمع بينهما إما على سبيل التغليب، وإما على توهم المخيلة أن فيه صعودًا وارتكاسًا وإسفافًا، وهذا من أبلغ الكلام وأروعه.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية المرشحة في قوله: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١)﴾ فقد رشح بذكر ما يلائم الاستعارة الأولى أعني النجدين بمعنى الطريقين؛ لأن مبنى الترشيح وهو ذكر ما يلائم المشبه دون المشبه به على المبالغة، وادعاء اتحاد الطرفين، ولهذا كان الترشيح أبلغ من التجريد؛ وهو ذكر ما يلائم المشبه به؛ لأن فيه اعترافًا بالتشبيه، فأصل العقبة الطريق الوعر في الجبل، واستعيرت هنا للأعمال الصالحة؛ لأنها تصعب وتشق على النفوس، ففيه استعارة تبعية.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣)﴾؛ لأن الفك حقيقة في الفصل بين الشيئين المجتمعين الملتئمين، فاستُعير هنا لتحرير الرقبة وعتقها؛ لما فيه من الفصل بين الرق والرقيق.
ومنها: الجناس الناقص بين ﴿مَقْرَبَةٍ﴾ و ﴿مَتْرَبَةٍ﴾؛ لاختلاف بعض الحروف.
ومنها: المقابلة اللطيفة بين قوله: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨)﴾ وقوله: ﴿هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ﴾.
ومنها: الإتيان باسم الإشارة في قوله: ﴿أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨)﴾ دلالة على حضورهم عند الله تعالى في مقام كرامته، وعلو مرتبتهم عنده.
ومنها: الإتيان بضمير الغيبة في قوله: ﴿هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ﴾ دلالة على سقوطهم عن شرف الحضور، وأنهم أحقاء بالإخفاء، وهذا من ألطف البلاغة، وأبلغها وأعجبها.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
اشتملت هذه السورة على خمسة مقاصد:
١ - ما ابتلي به الإنسان في الدنيا من النصب والتعب.
٢ - اغترار الإنسان بقوته.
٣ - نكران النعم التي أنعم بها عليه من العينين واللسان والعقل والفكر.
٤ - سبل النجاة الموصلة إلى السعادة.
٥ - كفران الآيات سبيل الشقاء، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم (١).
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
سورة الشمس مكية باتفاق، كما في "القرطبي"، نزلت بعد سورة القدر، وأخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١)﴾. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله.
وآياتها: خمس عشرة آية. وكلماتها (١): أربع وخمسون كلمة. وحروفها: مئتان وسبعة وأربعون حرفًا.
المناسبة: ومناسبتها لما قبلها من وجهين (٢):
١ - أنه سبحانه ختم السورة السابقة بذكر أصحاب الميمنة وأصحاب المشامة، وأعاد ذكر الفريقين في هذه السورة بقوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (١٠)﴾.
٢ - أنه سبحانه وتعالى ختم السورة السابقة بشيء من أحوال الكفار في الآخرة، وختم هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا.
وعبارة أبي حيان: مناسبة هذه السورة لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما قدم (٣) في السورة السابقة القسم ببعض المواضع الشريفة وما بعدها.. أقسم هنا بشيء من العالم العلوي والعالم السفلي، وبما هو آلة التفكر في ذلك وهو النفس، وكان آخر ما قبلها مختتمًا بشيء من أحوال الكفار في الآخرة، فاختتم هذه بشيء من أحوالهم في الدنيا، وفي تلك بمآلهم في الآخرة إلى النار، وفي الدنيا إلى الهلاك المستأصل. انتهى.
ومن فضائلها: ما أخرجه أحمد والترمذي وحسّنه والنسائي عن بريدة أن رسول الله - ﷺ - كان يقرأ في صلاة العشاء: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١)﴾ وأشباهها من
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
وأخرج الطبراني عن ابن عباس أن النبي - ﷺ - أمره أن يقرأ في صلاة الصبح بـ ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١)﴾ ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١)﴾.
وأخرج البيهقي في "الشُّعَب" عن عقبة بن عامر قال: أمرنا رسول الله - ﷺ - أن نصلي ركعتي الضحى بسورتيهما بالشمس وضحاها وبالضحى.
الناسخ والمنسوخ: وقال محمد بن حزم - رحمه الله تعالى -: سورة والشمس وضحاها محكمة كلها ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، وسميت سورة الشمس؛ لابتدائها بها.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *