تفسير سورة الكهف

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

سميت بذلك، لذكر قصة أصحاب الكهف فيها، من باب تسمية الشيء باسم بعضه، و(سورة) مبتدأ، و(مكية) خبر أول، و(مائة) الخ، خبر ثان، قوله: (ثابت) قدره إشارة إلى أن الجار والمجرور في ﴿ لِلَّهِ ﴾ متعلق بمحذوف خبر المبتدأ، والمراد بالثبوت الدوام والاستمرار أزلاً وأبداً، فحصل الفرق بين حمد القديم والحادث، فوصف القديم بالكمالات أزلي مستمر، وكمال الحادث عارض. قوله: (الإعلام بذلك) أي الإخبار بأن وصف الكمالي أزلي، فتكون الجملة خبرية لفظاً ومعنى، والمقصود منها، كونها عقيدة للعبادة، وشرطاً في إيمانهم، والمخبر بالحمد حامد. قوله: (أو الثناء به) أي إنشاء الثناء بمضمون تلك الجملة، لا إنشاء المضمون، فإنه ثابت أزلاً يستحيل إنشاؤه، فتكون على هذا خبرية لفظاً إنشائية معنى، كأنه قال: أجدد وانشئ حمداً لنفسي بنفسي، لعجز خلقي عن كنه حمدي. ولذا حكي عن أبي العباس المرسي، أنه سأل ابن النحاس النحوي عن أل في الحمد لله، هل هي جنسية أو عهدية؟ فقال: يقولون إنها جنسية، فقال: لا بل هي عهدية، لأن الله لما علم عجز خلقه عن كنه حمده، حمد نفسه بنفسه، وأبقاه لهم يحمدونه به. قوله: (أو هما) أي الإعلام والثناء، ويكون هذا من باب استعمال الجملة في الخبر والإنشاء، على سبيل الجمع بين الحقيقة والمجاز، فاستعمالها في الخبر حقيقة، واستعمالها في الإنشاء مجاز، وحينئذٍ فيكون المقصود من هذه الجملة أمرين: الإعلام للإيمان والتصديق، وإنشاء الثناء. قوله: (أفيدها الثالث) أي أكثرها فائدة، لدلالته على أمرين مقصود كل منهما بالذات. إن قلت: إن إنشاء الثناء يسلتزم الإعلام، والإعلام يستلزم إنشاء الثناء. قلنا: نعم، لكن فرق بين الحاصل المقصود، والحاصل الغير المقصود، فتحصل أنه إذا جعلت الجملة خبرية فقط، كان الثناء حاصلاً غير مقصود، وإن جعلت إنشائية فقط، كان الإيمان بها حاصلاً غير مقصود، وإن استعملت فيهما، كان كل مقصوداً لذاته. قوله: ﴿ ٱلَّذِي أَنْزَلَ ﴾ تعليق الحكيم بالمشتق يؤذن بالعلية، كأنه قال: الحمد لله لأجل إنزاله الخ، وإنما جعل الإنزال سبباً في الحمد، لأنه أعظم نعمة وجدت دنيا وأخرى، إذ به تنال سعادة الدارين، إذ فيه صلاح المعاد والمعاش، قال تعالى:﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ﴾[النحل: ٨٩].
قوله: ﴿ عَلَىٰ عَبْدِهِ ﴾ الإضافة لتشريف المضاف، ولذا قال القاضي عياض: وَممَّا زَادَنِي شَرَفاً وَتِيهاً   وَكدْتُ بِأَخْمصي أَطَأُ الثريَّادُخُولِي تَحْتَ قولِكَ يَا عِبَادِي   وإن صيرت أَحْمد لِي نَبِيّاقوله: ﴿ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ ﴾ الجملة إما معطوفة على قوله: ﴿ أَنْزَلَ ﴾ فتكون من جملة المحمود عليه، أو حال كما قال المفسر. قوله: (اختلافاً) أي في اللفظ، والمعنى والعوج بالكسر الفساد في المعاني، وبالفتح في الأجسام، قوله: (تناقضاً) نعت لاختلافاً على حذف المضاف، أي ذا تناقض.
قوله: ﴿ قَيِّماً ﴾ إن أريد به الاستقامة في المعنى، كان حالاً مؤكدة كما قال المفسر، وإن أريد به الاستقامة مطلقاً، كان حالاً مؤسسة. قوله: (مستقيماً) أي معتدلاً قائماً بمصالح العباد، دنيا وأخرى، فهو مصلح لصحابه دنياه وآخرته، من حيث أنه يؤنسه في قبره ويتلقى عنه السؤال، ويكون نوراً على الصراط، ويوضع في الميزان، ويرقى به درجات الجنة، وهذا للعامل به، وقائم على غير العامل به، بمعنى أنه يكون حجة عليه، أو المعنى قيماً حسن الألفاظ والمعاني، لكونه في أعلى طبقات الفصاحة والبلاغة. فإن قلت: ما فائدة التأكيد؟ قلنا: دفع توهم أن نفي العوج عن غالبه، لأن الحكم للغالب. قوله: ﴿ لِّيُنْذِرَ ﴾ متعلق بأنزل، وهو ينصب مفعولين، قدر المفسر الأول بقوله: (الكافرين) والثاني هو قوله: ﴿ بَأْساً ﴾، وقوله: ﴿ وَيُنْذِرَ ﴾ معطوف على قوله: ﴿ لِّيُنْذِرَ ﴾ الأول؛ وحذف مفعوله الثاني لدلالة ما هنا عليه، وذكر مفعوله الأول، ففي الكلام احتباك، حيث حذف من كل نظير ما أثبته في الآخر قوله: (الكتاب) هو فاعل ﴿ يُنْذِرَ ﴾ وفي بعض النسخ (بالكتاب) وحينئذٍ فيكون فاعل الإنذار، إما ضمير عائد على الله، أو على محمد. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾ نعت للمؤمنين، وقوله: ﴿ أَنَّ لَهُمْ ﴾ أي بأن لهم، وإنما ذكر المفعولين معاً لعدم، النظير لهم، بخلاف أهل الإنذار، فأنواعهم مختلفة. قوله: ﴿ مَّاكِثِينَ ﴾ أي مقيمين فيه. قوله: (هو الجنة) أي الأجر الحسن. قوله: (من جملة الكافرين) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ وَيُنْذِرَ ﴾ معطوف على ﴿ لِّيُنْذِرَ ﴾ الأول، عطف خاص على عام، والنكتة التشنيع والتقبيح عليهم، حيث نسبوا لله الولد، وهو مستحيل عليه، قال تعالى:﴿ تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَـٰنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً ﴾[مريم: ٩٠-٩٢].
قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ قَالُواْ ٱتَّخَذَ ٱللَّهُ وَلَداً ﴾ أي مولوداً ذكراً أو أنثى، فيشمل النصارى واليهود ومشركي العرب. قوله: ﴿ مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ ﴾ أي لاستحالته عليه عقلاً. قوله: (بهذا القول) هذا أحد أوجه في مرجع الضمير، والثاني أنه راجع للولد، أي أنهم نسبوا له الولد، مع عدم علمهم به لاستحالته وعدم وجوده، الثالث أنه راجع لله، أي ليس لهم علم بالله، إذ لو علموه لما نسبوا له الولد. قوله: (من قبلهم) بفتح الميم بدل من آبائهم، أي فالمراد بآبائهم من تقدمهم عموماً، وليس المراد بهم خصوص من لهم عليها ولادة. قوله: ﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً ﴾ كبر فعل ماض لإنشاء الذم، والتاء علامة التأنيث، والفاعل مستتر تقديره هي، و(كلمة تمييز) له والمخصوص بالذم محذوف قدره المفسر بقوله: (مقالتهم) وهذه الجملة مستأنفة لإنشاء ذمهم، ونظيرها قوله تعالى:﴿ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ ﴾[الصف: ٣].
قوله: ﴿ تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ﴾ أي من غير تأمل وتدبر فيها، بل جرت على ألسنتهم من غير سند. قوله: (في ذلك) أي في هذا المقام، وهو نسبة الولد لله. قوله: ﴿ إِلاَّ كَذِباً ﴾ صفة لموصوف محذوف، قدره المفسر قوله: (مقولاً).
قوله: ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ ﴾ الخ، لعل تأتي للترجي وللإشفاق وكل ليس مقصوداً هنا، بل المراد هنا النهي، والمعنى لا تبخع نفسك، أي لا تهلكها من أجل أسفك وغمك على عدم إيمانهم. قوله: (بعدم) تفسير لآثارهم، أي فالآثار جمع أثر، والمراد منه البعدية. قوله: ﴿ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ ﴾ شرط حذف جوابه للدلالة ما قبله عليه، والتقدير فلا تهلك، والمقصود منه تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى لا تحزن على عدم إيمانهم حزناً يؤدي لإهلاك نفسك، وأما أصل الحزن والغم، فهو شرط في الإيمان لا ينهى عنه، لأن الرضا وشرح الصدر بالكفر كفر. قوله: (لحرصك) علة للعلة. قوله: (ونصبه على المفعول) أي والعامل فيه باخع. قوله: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا ﴾ كالتعليل لما قبله، فهو من جملة تسليته صلى الله عليه وسلم، وجعل إن كانت بمعنى صير، فزينة مفعول ثان، وإن كانت بمعنى خلق، فزينة حال أو مفعول لأجله، وعلى كل فقوله: ﴿ مَا عَلَى ٱلأَرْضِ ﴾ مفعول. قوله: (وغير ذلك) أي من باقي النعم التي خلقها الله للعباد، كالذهب والفضة والمعادن. قوله: ﴿ زِينَةً لَّهَا ﴾ أي يتزين بها ويتنعم، قال تعالى:﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ ﴾[آل عمران: ١٤] الآية. قوله: (لنختبر الناس) أي نعاملهم معاملة المختبر. قوله: (ناظرين إلى ذلك) حال من الناس، أي لنختبر الناس في حال نظرهم إلى الزينة. قوله: ﴿ أَيُّهُم ﴾ مبتدأ، و ﴿ أَحْسَنُ ﴾ خبر و ﴿ عَمَلاً ﴾ تمييز، والجملة في محل نصب، سدت مسد مفعولي نبلو. قوله: (أي أزهد له) تفسير لقوله: ﴿ أَحْسَنُ ﴾، والمعنى نميز بين حسن العمل وسيئه بتلك الزينة، فمن زهدها كان من أهل الحسن، ومن رغب فيها كان بضد ذلك فتدبر. قوله: ﴿ لَجَاعِلُونَ ﴾ أي مصيرون، و ﴿ صَعِيداً ﴾ مفعول ثان. قوله: (فتاتاً) بضم الفاء مصدر كالحطام والرفات أي تراباً. قوله: ﴿ جُرُزاً ﴾ نعت لصعيداً، والمعنى إنا لنعبد ما على وجه الأرض من الزينة، تراباً مستوياً بالأرض، كصعيد أملس لا نبات به. إن قلت: إن قوله: ﴿ مَا عَلَيْهَا ﴾ صريح في أن الأرض تستمر، فيكون منافياً لقوله في الآية الأخرى﴿ يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ ﴾[ابراهيم: ٤٨] أجيب: بأنه خص ما على الأرض من الزينة، لأنه الذي به الغرور والفتنة.
قوله: ﴿ أَمْ حَسِبْتَ ﴾ ﴿ أَمْ ﴾ منقطعة وفيها ثلاثة مذاهب: مذهب الجمهور تفسر ببل والهمزة، وعند طائفة تفسر بالهمزة وحدها، وعليه درج عند طائفة أخرى تفسر ببل وحدها. قوله: (أي ظننت) الاستفهام إنكاري، أي لا تظن أن قصة أهل الكهف عجيبة دون باقي الآيات، فإن غيرها من الآيات الدالة على قدرة الله، كالليل والنهار والسماوات والأرض أعجب منها، قوله: ﴿ ٱلْكَهْفِ ﴾ مفرد، وجمعه كهوف وأكهف. قوله: (والغار في الجبل) أي وإن لم يكن متسعاً وهو قول، وقل إن الكهف الغار المتسع، فإن لم يتسع سمي غاراً فقط. قوله: ﴿ وَٱلرَّقِيمِ ﴾ هو بمعنى مرقوم. قوله: (اللوح) أي وكان من رصاص، وقل من حجارة، وهو مدفون عند باب الغار تحت البناء الذي عليه، وقيل: إن الرقيم اسم الوادي الذي فيه أصحاب الكهف، وقيل اسم للقرية، وقيل اسم الجبل وقيل اسم كتاب مرقوم عندهم، فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى، وقيل دراهمهم التي كانت معهم، وقيل كلبهم. قوله: (فيه أسماؤهم) أي ففيه فلان بن فلان، من مدينة كذا، خرج في وقت كذا، من سنة كذا. قوله: (في قصتهم) أي وكانت بعد عيسى عليه السلام. قوله: (ليس الأمر كذلك) أي ليست أعجبها، ولا هي عجب دون غيرها، بل هي من جملة الآيات العجيبة.
قوله: ﴿ إِذْ أَوَى ٱلْفِتْيَةُ إِلَى ٱلْكَهْفِ ﴾ أي نزلوه وسكنوه. وحاصل قصتهم كما قال محمد بن إسحاق: لما طغى أهل الإنجيل، وكثرت فيهم الخطايا، حتى عبدوا الأصنام وذبحوا لها، وبقي فيهم من هو على دين عيسى، مستمسكين بعبادة الله وتوحيده، وكان بالروم ملك يقال له دقيانوس، عبد الأصنام، وذبح للطواغيت، وكان يحمل الناس على ذلك، ويقتل من خالفه، فمر بمدينة أصحاب الكهف، وهي مدينة من الروم يقال لها أفسوس، واسمها عند العرب طرطوس، فاستخفى منه أهل الإيمان، فصار يرسل أعوانه، فيفتشون عليهم ويحضرونهم له، فيأمرهم بعبادة الأصنام، ويقتل من يخالفه، فلما عظمت هذه الفتنة، وراى الفتية ذلك، حزنوا حزناً شديداً، وكانوا من أشراف الروم، وهم ثمانية، وكانوا على دين عيسى، فأخبر الملك بهم وبعبادتهم، فبعث إليهم، فأحضروا بين يديه يبكون، فقال: ما منعكم أن تذبحوا لآلهتنا وتجعلوا أنفسكم كأهل المدينة؟ فاختاروا إما أن تكونوا على ديننا، وإما أن نقتلكم، فقال له أكبرهم: إن لنا إلهاً عظمته ملء السماوات والأرض، لن ندعو من دونه إلهاً أبداً، اصنع ما بدا لك، وقال أصحابه مثل ذلك. فأمر الملك بنزع لباسهم، والحلية التي كانت عليهم، وكانوا مسورين ومطوقين، وكانوا غلماناً مرداً حساناً جداً، وقال: سأتفرع لكم وأعاقبكم، وما يمنعني من فعل ذلك بكم، إلا أني أراكم شباباً، فلا أحب أن أهلككم، وإني قد جعلت لكم أجلاً، تدبرون فيه أمركم، وترجعون إلى عقولكم، ثم إنه سافر لغرض من أغراضه، فخافوا أنه إذا رجع من سفره، يعاقبهم أو يقتلهم، فاستشوروا فيما بينهم، واتفقوا على أن يأخذ كل واحد منهم نفقة من بيت أبيه، يتصدق ببعضها ويتزود بالباقي، ففعلوا ذلك، وانطلقوا إلى جبل قريب من مدينتهم يقال له ينجلوس فيه كهف، ومروا في طريقهم بكلب فتبعهم، فطردوه فعاد، ففعلوا ذلك مراراً، فقال لهم الكلب: أنا أحب أحباب الله عزَّ وجل، فناموا وأنا أحرسكم فتبعهم، فدخلوا الكهف وقعدوا فيه، ليس لهم عمل إلا الصلاة والصيام والتسريح والتحميد، وجعلوا نفقتهم تحت يد واحد منهم اسمه تمليخا، كان يأتي المدينة يشتري لهم الطعام سراً، ويتجسس لهم الخبر، فلبثوا في ذلك الغار ما شاء الله، ثم رجع الملك دقيانوس من سفره إلى المدينة، وكان تلميخا يومئذ بالمدينة يشتري لهم طعاماً، فجاء وأخبرهم برجوع الملك وأنه يفتش عليهم، ففزعوا وشرعوا يذكرون الله عز وجل، ويتضرعون إليه في دفع شره عنهم، وذلك عند غروب الشمس، فقال لهم تمليخا: يا إخوتاه، كلوا وتوكلوا على ربكم، فأكلوا وجلسوا يتحدثون ويتواصون، فبينما هم كذلك، إذ ألقى الله عليهم النوم في الكهف، وألقاه أيضاً على كلبهم، وهو باسط ذراعيه على باب الكهف، ففتش عليهم الملك فدل عليهم، فتحير فيما يصنع بهم، فألقى الله في قلبه أن يسد عليهم باب الغار، وأراد الله عز وجل أن يكرمهم بذلك ويجعلهم آية للناس، وأن يبين لهم أن الساعة آتية، وأنه قادر على بعث العباد من بعد الموت، فأمر الملك بسده وقال: دعوهم في كهفهم يموتون جوعاً وعطشاً، ويكون كهفهم الذي اختاروه قبراً لهم، وهو يظن إنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم، وقد توفى الله أرواحهم وفاة نوم، ثم إن رجلين مؤمنين في بيت الملك دقيانوس يكتمان ايمانهما، شرعا يكتبان قصة هؤلاء الفتية، فكتبا وقت فقدهم وعددهم وأنسابهم ودينهم، وممن فروا في لوحين من رصاص، وجعلاهما في تابوت من نحاس، وجعلا التابوت في البنيان وقالا: لعل الله أن يظهر على هؤلاء الفتية قوماً مؤمنين قبل يوم القامة، فيعرفوا من هذه الكتابة خبرهم، ثم مات الملك دقيانوس هو وقومه؛ ومر بعده سنون وقرون، وتغايرت الملوك ثم ملك تلك المدينة رجل صالح يقال له بيطروس، واختلف الناس عليه، فمنهم المؤمن بالساعة، ومنهم الكافر بها فشق ذلك عليه، حيث كان يسمعهم يقولون: لا حياة إلا حياة الدنيا، وإنما تبعث الأرواح دون الأجساد، فجعل يتضرع ويقول: رب أنت تعلم اختلاف هؤلاء، فابعث لهم آية تبين لهم أمر الساعة والبعث، فأراد الله أن يظهره على الفتية أصحاب الكهف، ويبين للناس شأنهم، ويجعلهم آية وحجة عليهم، ليعلموا أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، فألقى الله في قلب رجل من أهل تلك الناحية، أن يهدم ذلك البناء الذي على باب الكهف، ويبني بحجارته حظيرة لغنمه، فهدمه وبنى به حظيرة لغنمه، فلما انفتح باب الكهف، بعث الله هؤلاء الفتية، فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة نفوسهم، وقد حفظ الله عليهم أبدانهم وجمالهم وهيئتهم، فلم يتغير منها شيء، فكانت هيئتهم وقت أن استيقظوا، كهيتئهم وقت أن رقدوا، ثم أرسلوا تلميخا إلى المدينة ليشتري لهم الطعام، فذهب فرأى المدينة قد تغير حالها وأهلها وملكها، وقد أخذه أهل المدينة وذهبوا به إلى ذلك الملك المؤمن، فأخبره تمليخا بقصته وقصة أصحابه، فقال بعض الحاضرين: يا قوم لعل هذه آية من آيات الله، جعلها الله لكم على يد هذا الفتى، فانطلقوا بنا حتى يرينا أصحابه، فانطلق أريوس وأسطيوس من عظماء المملكة، ومعهما جميع أهل المدينة، كبيرهم وصغيرهم، نحو أصحاب الكهف لينظروا إليهم، فأول من دخل عليهم، هذان العظيمان الكبيران، فوجدا في أثر البناء تابوتاً من نحاس، ففتحاه فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوباً فيهما قصتهم، فلما قرأوهما عجبوا وحمدوا الله الذي أراهم آية تدلهم على البعث، ثم أرسلوا قاصداً إلى ملكهم الصالح بيدروس، أن عجل بالحضور إلينا، لعلك ترى هذه الآية العجيبة، فإن فتية بعثهم الله وأحياهم، وكان قد توفاهم ثلاثمائة سنة وأكثر، فلما جاءه الخبر، ذهب همه، وقال أحمدك رب السماوات والأرض، تفضلت عليّ ورحمتني، ولم تطفئ النور الذي جعلته لآبائي، فركب وتوجه نحو الكهف، فدخل عليهم وفرح بهم واعتنقهم ووقف بين أيديهم، وهم جلوس على الأرض، يسبحون الله ويحمدونه، فقالوا له: نستودعك الله، والسلام عليك ورحمة الله، حفظك الله وحفظ ملكك، ونعيذك بالله من شر الإنس والجن، فينما الملك قائم، إذ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا، وتوفى الله أنفسهم، فقام الملك إليهم، وجعل ثيابهم عليهم، وأمر أن يجعل كل رجل منهم في تابوت من ذهب، فلما مشى ونام، أتوه في منامه فقالوا له: إنا لم نخلق من ذهب ولا فضة، ولكنا خلقنا من الترا وإلى التراب نصير، فاتركنا كما كنا في الكهف على التراب، حتى يبعثنا الله منه، فأمر الملك عند ذلك بتابوت من ساج فجعلوا فيه، وأمر أن يبنى على باب الكهف مسجد فيه، ويسد به باب الغار فلا يراهم أحد، وجعل لهم عيداً عظيماً، وأمر أن يؤتى كل سنة اهـ ملخصاً من الخازن. قوله: (جمع فتى) أي كصبي وصبية. قوله: (أصلح) أي أو أيسر. قوله: (هداية) أي تثبيتاً على الإيمان، وتوفيقاً للأعمال الصالحة. قوله: ﴿ فَضَرَبْنَا عَلَىٰ آذَانِهِمْ ﴾ مفعوله محذوف تقديره حجاباً مانعاً لهم من السماع، وهذا هو المعنى الحقيقي، وليس مراداً بل المراد أنمناهم، ففي الكلام تجوز، حيث شبه إلقاء النوم بضرب الحجاب، واستعير اسم المشبه به للمشبه، واشتق من الضرب ضربنا بمعنى أنمنا، استعارة تصريحية تبعية. قوله: (معدودة) أشار بذلك إلى أن عدداً مصدر بمعنى معدود نعت لسنين، وسيأتي عدها في الآية. قوله: (علم مشاهدة) جواب عما يقال: كيف قال تعالى: ﴿ لِنَعْلَمَ ﴾ مع أنه تعالى عالم بكل شيء أزلاً، فأجاب بقوله: (علم مشاهدة) والمعنى ليظهر ويشاهد ويحصل لهم ما تعلق به علمنا أزلاً من ضبط مدتهم. قوله: (الفريقين المختلفين) قيل المراد بالفريقين أصحاب الكهف، لافتراقهم فرقتين: فرقة تقول يوم، وفرقة تلوق بعض يوم، وقيل هم أهل المدينة، افترقوا فرقتين في قدر مدتهم بالتخمين والظن. قوله: (فعل) أي ماض وليس اسم تفضيل، لأنه لا يبنى من غير الثلاثي. قوله: (للبثهم) أشار بذلك إلى أن ما مصدرية مراعى فيها اعتبار المدة، وقوله: (متعلق بما بعده) أي حال منه، و ﴿ أَمَداً ﴾ مفعول ﴿ أَحْصَىٰ ﴾.
قوله: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم ﴾ أي نفصل لك يا محمد خبرهم. قوله: ﴿ بِٱلْحَقِّ ﴾ الباء للملابسة، والجار والمجرور حال من نبأ. قوله: ﴿ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ ﴾ أي شباب كانوا من عظماء أهل تلك المدينة، وأحدهم كان وزيراً للملك. قوله: ﴿ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ ﴾ أي صدقوا به وانقادوا لأحكامه. قوله: (قويناها على قول الحق) أي حيث خالفوا الملك، ولم يحصل لهم منه رعب ولا خوف. قوله: ﴿ إِذْ قَامُواْ ﴾ ظرف لربطنا، أي ربطنا على قلوبهم وقت قيامهم. قوله: (بين يدي ملكهم) أي واسمه دقيانوس. قوله: ﴿ فَقَالُواْ ﴾ أي خطاباً للملك ثلاث جمل، وآخرها قوله: ﴿ شَطَطاً ﴾.
قوله: ﴿ لَن نَّدْعُوَاْ ﴾ أي نعبد. قوله: (أي قولاً ذا شطط) أشار بذلك إلى أن شططاً منصوب على المصدرية، صفة لمحذوف على حذف مضاف، أي إفراط في الكفر، أي مجاوزة الحد فيه.
قوله: ﴿ هَـٰؤُلاۤءِ قَوْمُنَا ﴾ هذه جمل ثلاث، قالوها فيما بينهم بعد خروجهم من عند الملك، وآخرها قوله: ﴿ كَذِباً ﴾.
قوله: (عطف بيان) أي أو بدل. قوله: ﴿ ٱتَّخَذُواْ ﴾ خبر المبتدأ. قوله: (هلا) أشار بذلك إلى أن لولا للتحضيض، والمقصود من ذكر هذا الكلام فيما بينهم، تذاكر التوحيد وتقوية أنفسهم عليه. قوله: (على عبادتهم) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: (أي لا أحد) أشار بذلك إلى أن الاستفهام إنكاري بمعنى النفي. قوله: (قال بعض الفتية لبعض) قدره إشارة إلى أن ﴿ إِذِ ﴾ ظرف منصوب بمحذوف، أي قال بعضهم لبعض وقت اعتزالهم. قوله: ﴿ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ ﴾ ﴿ مَا ﴾ موصولة أو مصدرية، والمعنى وإذ اعتزلموهم والذي يعبدونه غير الله، أو معبوداتهم غير الله. قوله: ﴿ يَنْشُرْ لَكُمْ ﴾ أي يبسط ويوسع. قوله: (وبالعكس) أي فهما قراءتان سبعيتان، وأما الجارحة فبكسر الميم فقط. قوله: (من غداء وعشاء) أي وغير ذلك. قوله: ﴿ وَتَرَى ٱلشَّمْسَ ﴾ الخطاب للنبي أو لكل أحد، والمعنى لو كنت هناك عندهم واطلعت على كهفهم. لرأيت الشمس إذا طلعت الخ. قوله: (بالتشديد) أي فأصله تتزاور، قلبت التاء زاياً وأدغمت في الزاي. قوله: (والتخفيف) أي بحذف إحدى التاءين، وهما قراءتان سبعيتان. قوله: (ناحيته) أشار بذلك إلى أن ذات اليمين وذات الشمال ظرف مكان، بمعنى جهة اليمين وجهة الشمال، والمراد يمين الداخل للكهف وشماله، وذلك أن كهفهم مستقبل بنات نعش، فتميل عنهم الشمس طالعة وغاربة لئلا تؤذيهم بحرها، ولا ينافي هذا ما تقدم في القصة أنه سد باب الكهف وبنى عليه مسجد، لأن الكهف له محل منفتح من أعلاه جهة بنات نعش. قوله: ﴿ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ﴾ أي وسطه والجملة حالية. قوله: (المذكور) أي من نومهم وحمايتهم من إصابة الشمس لهم. قوله: ﴿ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ ﴾ جملة معترضة في أثناء القصة لتسلية صلى الله عليه وسلم. قوله: ﴿ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً ﴾ أي معيناً. قوله: ﴿ مُّرْشِداً ﴾ أي هداياً.
قوله: ﴿ وَتَحْسَبُهُمْ ﴾ خطاب للنبي أو لكل أحد. قوله: (بكسر القاف) أي كفخذ وأفخاذ، ويضم أيضاً كعضد وأعضاد. قوله: ﴿ وَنُقَلِّبُهُمْ ﴾ الخ قيل يقلبون في كل سنة مرة وفي يوم عاشوراء، وقيل يقلبون مرتين، وقيل تسع سنين، والمقلب لهم قيل الله، وقيل ملك يأمره الله تعالى، قوله: ﴿ وَكَلْبُهُمْ ﴾ وكان أصفر اللون، وقيل أسمر، وقيل كلون السماء، اسمه قمطير، وقيل ريان، وهو من جملة الحيوانات التي تدخل الجنة، وبهذا تعلم ان حب الصالحين والتعلق بهم يورث الخير العظيم والفوز بجنات النعيم. قوله: ﴿ ذِرَاعَيْهِ ﴾ منصوب ببساط، وهو ليس بمعنى الماضي المنقطع بل المستمر، وقولهم اسم الفاعل لا يعمل إن كان بمعنى الماضي لا بمعنى المستقبل. قوله: (بفناء الكهف) أي رحبته، وقيل المراد بالوصيد العتبة، وقيل الباب، وقيل التراب. قوله: ﴿ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ الخطاب للنبي أو لكل أحد. قوله: ﴿ فِرَاراً ﴾ منصوب على المصدر من معنى الفعل قبله أو على الحال أي فاراً. قوله: ﴿ رُعْباً ﴾ أي فزعاً. وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية نحو الروم، فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف، فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء نظرنا إليهم، فقال ابن عباس: قد منع من ذلك من هو خير منك ﴿ لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً ﴾، فبعث معاوية ناساً فقال: أذهبوا فانظروا، فلما دخلوا الكهف، بعث الله عليهم ريحاً فأخرجتهم. قوله: (بسكون العين وضمها) ظاهره أن القراءات أربع، وليس كذلك بل ثلاث فقط سبعيات، لأن اللام إن خففت جاز في العين السكون والضم، وإن شددت تعين في العين السكون فقط. قوله: (كما فعلنا بهم ما ذكرنا) أي من إلقاء النوم عليهم تلك المدة الطويلة، فيكون أيقاظهم آية أخرى يعتبر بها هم وغيرهم.
قوله: ﴿ لِيَتَسَآءَلُوا ﴾ اللام للسببية أو للعاقبة والصيرورة. قوله: ﴿ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ ﴾ أي واحد منهم وهو كبيرهم ورئيسهم مكسلمينا. قوله: ﴿ كَم لَبِثْتُمْ ﴾ ﴿ كَم ﴾ منصوبة على الظرفية ومميزها محذوف تقديره كم يوماً. قوله: ﴿ أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ﴾ أو للشك منهم لترددهم في غروب الشمس وعدمه. قوله: (لأنهم دخلوا الكهف) الخ، ظاهره أنهم ناموا في يوم دخولهم، وتقدم أنهم مكثوا مدة في الكهف قبل نومهم، يتعبدون ويأكلون ويشربون، فكان المناسب أن يقول: لأنهم ناموا طلوع الشمس الخ. قوله: ﴿ قَالُواْ ﴾ أي بعضهم لبعض. قوله: (متوقفين في ذلك) أي في قدر مدة لبثهم. قوله: ﴿ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ ﴾ هذا تفويض منهم لأمر الله احتياطاً وحسن أدب. قوله: ﴿ فَٱبْعَثُواْ ﴾ أي أرسلوا. قوله: ﴿ أَحَدَكُمْ ﴾ أي وهو تمليخا. قوله: ﴿ بِوَرِقِكُمْ ﴾ قيل الورق الفضة المضروبة، وقيل الفضة مطلقاً، وتحذف فاء الكلمة فيقال رقة. قوله: (بسكون الراء وكسرها) سبعيتان قوله: ﴿ هَـٰذِهِ ﴾ أي الدراهم التي كانت معهم من بيوت آبائهم، فإنهم انفقوا بعضها قبل نومهم، وبقي بعضها معهم، فوضعوه عند رؤوسهم حين ناموا، وكان عليها اسم ملكهم دقيانوس، وكان الواحد منها قدر خف ولد الناقة الصغير. قوله: (الآن) أي في الإسلام، وأما في الجاهلية فكانت تسمى أفسوس، وقيل أفسوس من أعمال طرطوس. قوله: (أحل) أي أحل ذبيحته لأنهم كان منهم من يذبح للطواغيت، وكان فيه قوم يخفون إيمانهم، فطلبوا أن يكون طعامهم من ذبيحة المؤمنين. قوله: ﴿ وَلْيَتَلَطَّفْ ﴾ أي يترفق في ذهابه ورجوعه لئلا يعرف. قوله: ﴿ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ﴾ أي لا يفعلن ما يؤدي إلى شعور أحد بكم. قوله: ﴿ إِنَّهُمْ ﴾ أي أهل المدينة. قوله: ﴿ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ ﴾ أي يغلبوكم ويطلعوا عليكم. قوله: ﴿ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ ﴾ أي يصيروكم إليها. قوله: ﴿ وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً ﴾ أي لن تظفروا بمطلوبكم لو وقع منكم ذلك ولو كرهاً. إن قلت: كيف أثبتوا عدم الفلاح بالعود في ملتهم، مع الإكراه المستفاد من قوله: ﴿ إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ ﴾ الخ، مع أن المكره غير مؤاخذ بما أكره عليه؟ أجيب: بأن هذا مخصوص بشريعتنا، وأما من قبلنا، فكانوا يؤاخذون بالإكراه بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:" رفع عن أمتي الخطأ والنسان وما استكرهوا عليه ". قوله: ﴿ وَكَذٰلِكَ ﴾ أي كما أنمناهم وبعثناهم. قوله: (قومهم والمؤمنين) قدر ذلك إشارة إلى أن مفعول ﴿ أَعْثَرْنَا ﴾ محذوف. قوله: (أي قومهم) أي ذرية قومهم، لأن قومهم قد انقرضوا قوله: (بلا غذاء) أي قوت. قوله: ﴿ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ ﴾ أي القيامة. قوله: (معمول لأعثرنا) المناسب جعله ظرفاً لمحذوف تقديره اذكر، أو لقوله: ﴿ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُواْ ﴾.
قوله: (أي المؤمنون والكفار) أي فقال المؤمنون: نبني عليهم مسجداً يصلي فيه الناس لأنهم على ديننا، وقال الكفار: نبني عليهم بيعة لأنهم من أهل ملتنا. قوله: ﴿ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ﴾ يحتمل أن يكون من كلام الله، أو من كلام المتنازعين. قوله: (وهم المؤمنون) أي الذين كانوا في زمن الملك بيدروس الرجل الصالح. قوله: (وفعل ذلك على باب الكهف) أي وبقي ظهر الكهف منفتحاً كما تقدم. قوله: (أي المتنازعون) أي وهم النصارى والمؤمنون.
قوله: ﴿ ثَلاثَةٌ ﴾ خبر مبتدأ محذوف قدره المفسر بقوله: (هم). قوله: ﴿ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة صفة لثلاثة، وكذا يقال في قوله: ﴿ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ ﴾ ﴿ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ ﴾.
قوله: (نجران) موضع بين الشام واليمن والحجاز. قوله: ﴿ رَجْماً بِٱلْغَيْبِ ﴾ أي ظناً من غير دليل ولا برهان. قوله: (أي المؤمنون) أي قالوا ذلك بإخبار الرسول لهم عن جبريل عليه السلام. قوله: (بزيادة الواو) أي من غير ملاحظة معنى التوكيد. قوله: (وقيل تأكيد) أي زائدة، لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، وحكمة زيادتها الإشارة إلى تصحيح هذا القول دون ما قبله. قوله: (ودلالة على لصوق الصفة) الخ، العطف للتفسير على ما قبله، فهما قولان فقط. قوله: ﴿ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم ﴾ أي من غيره. قوله: ﴿ مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾ أي وهو النبي ومن سمع منه. قوله: (وذكرهم سبعة) أي وهم: مكسلمينا وتمليخا ومرطونس ونينوس وساريولس وذونوانس وفليستطيونس وهو الراعي، و اسم كلبهم قمطير، وقيل حمران، وقيل ريان، قال بعضهم: علموا أولادكم أسماء أهل الكهف، فإنها لو كتبت على باب دار لم تحرق، وعلى متاع لم يسرق، وعلى مركب لم تغرق. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: خواص أسماء أهل الكهف، تنفع لتسعة أشياء: للطلب، والهرب، ولطف الحريق تكتب على خرقة وترمى في وسط النار تطفأ بإذن الله، ولبكاء الأطفال، والحمى المثلثة، وللصداع تشد على العضد الأيمن، ولأم الصبيان، وللركوب في البر والبحر، ولحفظ المال، ولنماء العقل، ونجاة الآثمين اهـ. قوله: ﴿ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً ﴾ أي غير متعمق فيه، بل نقص عليهم ما في القرآن، من غير تجهيل لهم وتفتيش على عقائدهم. قوله: (بما أنزل إليك) أي وهو القرآن. قوله: ﴿ وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً ﴾ أي لا تسأل عن قصتهم، فإن فيما أوحي إليك الكفاية. قوله: (اليهود) المناسب عدم التقييد بذلك، بل يقيد بالنصارى، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام سأل نصارى نجران عنهم فنهي عن ذلك. قوله: (وسأله أهل مكة) أي بتعليم اليهود لهم حيث قالوا لهم: سلوه عن الروح وأصحاب الكهف وعن ذي القرنين، فسألوه عنها فقال: أبقوني غداً أخبركم، ولم يقل إن شاء الله، فأبطا الوحي بضعة عشر يوماً وأربعين حتى شق عليه، وتمارت قريش في ذلك. قوله: (فنزل) أي بعد انقضاء تلك المدة، تعليماً لأمته الأدب، وتفويض الأمور إلى الله تعالى، فإن الإنسان لا يدري ما يفعل به، فإذا كان هذا الخطاب لرسول الله وهو سيد الخلق، فما بالك بغيره؟
قوله: (أي لأجل شيء) أي تهتم به وتريد القدوم عليه. قوله: ﴿ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً ﴾ المراد بالفعل ما يشمل القول. قوله: (أي فيما يستقبل من الزمان) أشار بذلك إلى أن المراد بالغد ما يستقبل، كان في يومك أو بعده بقليل أو كثير، لا خصوص اليوم الذي بعد يومك. قوله: ﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ ﴾ استثناء من عمو الأحوال، كأنه قال: لا تقولن لشيء في حال من الأحوال، إلا في حال تلبسك بالتعليق على مشيئة الله. قوله: (ويكون ذكرها بعد النسيان) الخ، أي لما روي أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت الآية قال: إن شاء الله. قوله: (قال الحسن وغيره ما دام في المجلس) أي ولو انفصل عن الكلام السابق، وقال ابن عباس: يجوز انفصاله إلى شهر، وقيل إلى سنة، وقل أبداً، وقيل إلى أربعة أشهر، وقيل إلى سنتين، وقيل ما لم يأخذ في كلام آخر، وقل يجوز بشرط أن ينوي في الكلام، وقيل يجوز انفصاله في كلام الله تعالى، لأنه أعلم بمراده، لا في كلام غيره، وعامة المذاهب الأربعة على خلاف ذلك كله، فإن شرط حل الأيمان بالمشيئة أن تفصل وأن يقصد بها حل اليمين، ولا يضر الفصل بتنفس أو سعال أو عطاس، ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك للكفر، لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر. قوله: ﴿ وَقُلْ ﴾ أي لأهل مكة. قوله: ﴿ أَن يَهْدِيَنِ ﴾ أي يدلني. قوله: (في الدلالة) متعلق بأقرب قوله: ﴿ رَشَداً ﴾ إما مفعول مطلق ليهديني لموافقته له في المعنى وإليه يشير المفسر بقوله: (هداية)، ويصح أن يكون تمييز الأقرب، أي لأقرب هداية من هذا. قوله: (وقد فعل الله تعالى ذلك) أي هداه لما هو أعجب، وأطلعه على ما هو أغرب، حث شاهد ما شاهد في ليلة الإسراء، وأعطاه علوم الأولين والآخرين، وفاق عليهم بعلوم لم يطلع عليها أحد سواه، وأشار المفسر بذلك، إلى أن الترجي في كلام الله بمنزلة التحقق. قوله: ﴿ وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ﴾ هذا رد على أهل الكتاب، حيث اختلفوا في مدة لبثهم. قوله: (عطف بيان) أي لأن تمييز المائة في الكثير مفرد مجرور، وفي قراءة بالإضافة، وعليها فتكون من القليل، قال ابن مالك: وَمَائة وَالأَلْف لِلْفَرْدِ أَضِفْ   وَمَائَة بِالْجَمْعِ نزرا قَدْ رَدَفقوله: (تسع سنين) أي لأن كل ثلاث وثلاثين سنة وثلث سنة شمسية تزيد سنة قمرية. قوله: (أي تسع سنين) أشار بذلك إلى أن حذف المميز من الثاني لدلالة الأول عليه.
قوله: ﴿ قُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ ﴾ إن قلت: ما فائدة الأخبار بذلك بعد أن بين الله ذلك؟ أجيب بأوجه: أحدها: أن المعنى قل الله أعلم بأن الثلاثمائة سنة والتسع، قمرية لا شمسية، خلافاً لزعم بعض الكفار أنها شمسية. ثانيها: أن المعنى الله أعلم بحقيقة لبثهم وكيفيته. ثالثها: أن المعنى الله أعلم بمدة لبثهم قبل البعث وبعده. واعلم أنه اختلف في أصحاب الكهف، هل ماتوا ودفنوا، أو هم نيام وأجسامهم محفوظة؟ والصحيح أنهم نيام، ويستيقظون عند نزول عيسى، ويحجون معه، ويموتون قبل يوم القيامة، حين تأتي الريح اللينة، وكما قال صلى الله عليه وسلم:" وليحجن عيسى ابن مريم ومعه أصحاب الكهف فإنهم لم يحجوا بعد "ذكره ابن عيينة، وفي رواية: مكتوب في التوراة والإنجيل أن عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله، وأنه يمر بالروحاء حاجاً ومعتمراً، ويجمع الله له ذلك، فيجعل الله حواريه أصحاب الكهف والرقيم، فيمرون حجاجاً فإنهم لم يحجوا ولم يموتوا أهـ. قوله: (أي علمه) أي علم السماوات والأرض وما غاب فيهما. قوله: (على جه المجاز) أي لأن التعجب استعظام أمر خفي سبب وعظم وصف الله ظاهر بالبرهان لا يخفى، فإحاطته بالموجودات سمعاً وبصراً وعلماً أمر ثابت بالبرهان، وصار كالضروري، وإنما المقصود ذكر العظمة لا حقيقة التعجب. قوله: ﴿ مِن وَلِيٍّ ﴾ إما مبتدأ مؤخر أو فاعل بالظرف. قوله: ﴿ فِي حُكْمِهِ ﴾ أي قضائه. قوله: ﴿ وَٱتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ ﴾ أي ولا تعتبر بهم. قوله: ﴿ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ ﴾ أي لايقدر أحد أن يغير شيئاً من القرآن، فلا تخش من قراءتك عليهم تدبيله، بل هو محفوظ من ذلك، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إلى يوم القيامة،. قوله: (ملجأ) أي تلتجئ إليه وتستغيث به عند النوازل والشدائد غير الله تعالى.
قوله: ﴿ وَٱصْبِرْ نَفْسَكَ ﴾ في هذه الآية أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بمراعاة فقراء المسلمين والجلوس معهم، وهي أبلغ من آية الأنعام، لأن تلك إنما نهي فيها عن طردهم؛ وهذه أمر بحبس نفسه على الجلوس معهم، وكأن الله يقول له: احبس نفسك على ما يكرهه غيرك، من رثاثة ثياب الفقراء ورائحتهم الكريهة، ولا تلتفت لجمال الأغنياء وحسن ثيابهم، فإن حسن الظاهر مع فساد الباطن غير نافع. قال الشاعر: جَمَالُ الْوَجْهِ مَع قُبْحِ النُّفُوسِ   كَقنْدِيلٍ عَلَى قَبْرِ المَجُوسِقوله: ﴿ مَعَ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم ﴾ أي يعبدونه. قوله: ﴿ بِٱلْغَدَاةِ وَٱلْعَشِيِّ ﴾ المراد بالغداة: أوائل النهار وآواخر الليل، وبالعشي: أوائل الليل وآواخر النهار، وحينئذ فقد استغرقوا أوقاتهم في العبادة. قوله: ﴿ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ أي يقصدون بعبادتهم ذات ربهم ورضاه عليهم. قوله: (لا شيئاً من أعراض الدنيا) ولا شيئاً من نعيم الجنة، وهذا مقام الكمل، والصحابة به أحرى. قوله: (تنصرف) ﴿ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ﴾ هو كناية عن الإعراض عنهم، أي لا تعرض عنهم، بل أقبل عليهم، وهو جواب عما يقال كان مقتضى الظاهر، ولا تعد عينيك بالنصب، لأنه فعل متعد، مع أن التلاوة بالرفع لا غير، فأجاب المفسر بأنها وإن كانت بالرفع، إلا أنها ترجع لمعنى النصب، لأن الفعل مسند للعينين، وهو في الحقيقة مسند لصاحبهما، ولذلك عبر بتنصرف، لتصحيح رفع العينين دون تصرف. قوله: ﴿ تُرِيدُ زِينَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ الجملة حال من الكاف في ﴿ عَيْنَاكَ ﴾ والشرط موجود، وهو كون المضاف جزءاً من المضاف إليه، والمعنى لا تنصرف عيناك عنهم، حال كونك طالباً زينة الدنيا، بمجالسة الأغنياء، وصحبة أهل الدنيا، والخطاب للنبي، والمراد هو وغيره، وإنما خوطب النبي وإن كان معصوماً من ذلك، تسلية للفقراء وتطميناً لقلوبهم. قوله: (وهو عيينة بن حصن) أي الفزاري أتى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يسلم، وعنده جماعة من الفقراء، منهم سلمان وعليه شملة صوف قد عرق فها، وبيده خوص يشقه وينسجه، فقال عيينة للنبي: أما يؤذيك ريح هؤلاء؟ ونحن سادات مضر وأشرافها، إن أسلمنا تسلم الناس، وما يمنعنا من اتباعك إلا هؤلاء، فنحهم عنك حتى نتبعك، أو اجعل لنا مجلساً ولهم مجلساً، وقد أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، وكان في حنين من المؤلفة قلوبهم، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم منها مائة بعير، وكذا أعطى الأقرع بن جابس، وأعطى العباس بن مرداس أربعين بعيراً. وقيل: نزلت في أصحاب الصفة، وكانوا سبعمائة رجل فقراء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا يخرجون إلى تجارة ولا زرع ولا ضرع، يصلون صلاة وينتظرون أخرى، فلما نزلت قال النبي صلى الله عليه وسلم:" الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر نفسي معهم ". قوله: ﴿ فُرُطاً ﴾ مصدر فرط سماعي، أي متجاوزاً فيه الحد.
قوله: ﴿ وَقُلِ ﴾ (له) أي لعيينة بن حصن. قوله: ﴿ ٱلْحَقُّ ﴾ خبر مبتدأ محذوف قدره المفسر بقوله: (هذا القرآن). قوله: (تهديد لهم) أي تخويف وردع لا تخيير وإباحة، لذكره الوعد الحسن على الإيمان، والوعيد بالنار على الكفر، فالعاقل لا يرضى بفوات النعيم واختيار العذاب. قوله: ﴿ إِنَّا أَعْتَدْنَا ﴾ راجع لقوله: ﴿ وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾، وقوله: (إن الذين آمنوا) راجع لقوله: ﴿ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن ﴾ فهو لف ونشر مشوش. قوله: ﴿ أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ﴾ صفة النار، أو السرادق، كناية عن الصور وهو نار أيضاً، لما ورد أن أرضها من رصاص، وحيطانها من نحاس، وسقفها من كبريت، ووقودها الناس والحجارة، فإذا أوقدت فيها النار، وصار الكل ناراً، أجارنا الله منها بمنّه وكرمه. قوله: ﴿ يُغَاثُواْ ﴾ فيه مشاكلة لقوله: ﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُواْ ﴾ وتهكم بهم إذ لا إغاثة فيه، لأنه لا ينقذ من المهالك. قوله: (كعكر الزيت) بفتحتين هو اسم لما يبقى في إناء الزيت بعد أخذ الصافي منه، وهو تشبيه في الصورة، وإلا فهو نار كما وصفه بقوله: ﴿ يَشْوِي ٱلْوجُوهَ ﴾.
قوله: (أي قبح مرتفقاً) أي فحول الإسناد إلى النار، ونصب ﴿ مُرْتَفَقاً ﴾ على التمييز، لأن ذكر الشيء مبهماً، ثم مفسراً أوقع في النفس. قوله: (وهو مقابل) أي ذكر على سبب المقابلة والمشاكلة لما سأتي في الجنة. قوله: (وإلا) أي إلا نقل أنه مشاكلة بل على سبيل الحقيقة. قوله: (وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر) أي وهو الرابط، لأنه بمعنى الموصول الذي هو اسم أن، على حد: سعاد الذين أضناك حب سعاداً. قوله: (أي نثيبهم) تفسير لقوله: ﴿ لاَ نُضِيعُ ﴾.
قوله: (بما تضمنه) أي بثواب تضمنه ﴿ أُوْلَـٰئِكَ ﴾ إلى قوله ﴿ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ﴾، وقد اشتملت هذه الآية على خمسة أنواع من الثواب: الأول جنات عدن، الثاني تجري من تحتهم الأنهار، الثالث يحلون فيها، الرابع ويلبسون ثياباً، الخامس متكئين الخ. قوله: ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ ﴾ أي تحت مساكنهم. قوله: (قيل من زائدة) أي بدليل آية﴿ هَلْ أَتَىٰ ﴾[الإنسان: ١]﴿ وَحُلُّوۤاْ أَسَاوِرَ ﴾[الإنسان: ٢١].
قوله: (وهي جمع أسورة) أي فأساور جمع الجمع. قوله: ﴿ مِن ذَهَبٍ ﴾ جاء في آية أخرى من فضة، وفي أخرى من ذهب ولؤلؤ، فيلبس كل واحد الأساور الثلاث، لما ورد أنه يسور المؤمن في الجنة بثلاثة أسورة: سوار من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ، وفي الصحيح تبلغ حلية المؤمن حيث يبلغ الوضوء. قوله: ﴿ مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ ﴾ جمع سندسة واستبرقة، قيل ليسا جمعين. قوله: (من الديباج) أي الحرير. قوله: (بطائنها) أي الفرش. قوله: ﴿ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا ﴾ حال عاملها محذوف، أي يجلسون متكئين. قوله: (جمع أريكة) أي كسفينة، ولا يقال له أريكة، إلا إذا كان في داخل الحجلة وبدونها سرير، وتقدم أن السرير عليه سبعون فراشاً، كل فراش عليه زوجة من الحور العين. قوله: (في الحجلة) بفتحتين في محل نصب على الحال. قوله: (للعروس) يستعمل في الرجل والمرأة، لكن الجمع مختلف، فيقال رجال عرس ونساء عرائس. قوله: (الجنة) قدره إشارة إلى أن المخصوص بالمدح محذوف. قوله: ﴿ مُرْتَفَقاً ﴾ أي منتفعاً ومسكناً.
قوله: ﴿ وَٱضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً ﴾ قيل نزلت في أخوين من أهل مكة من بني مخزوم وهما: أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسود وكان مؤمناً، وأخوه الأسود بن عبد الأسود وكان كافراً، فشبههما الله برجلين من بني إسرائيل أخوين، أحدهما مؤمن واسمه يهوذا وقيل تمليخا، والآخر كافر واسمه قبطوس، وهما اللذان وصفهما الله في سورة الصافات بقوله:﴿ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾[الصافا: ٥١] الآيات، وكانت قصتهما على ما ذكر عطاء الخراساني قال: كان رجلان شريكان، لهما ثمانية آلاف دينار، وقيل كانا أخوين ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار فاقتسماها، فاشترى أحدهما أرضاً بألف دينار، فقال صحابه: أللهم إن فلاناً قد اشترى أرضاً بألف دينار، وأنا أشتري منك أرضاً في الجنة بألف دينار، فتصدق بها، ثم إن صاحبه بنى داراً بألف دينار، فقال هذا: اللهم إن فلاناً بنى داراً بألف دينار، وإني اشتريت منك داراً في الجنة بألف دينار، فتصدق بها، ثم إن صاحبه تزوج امرأة وأنفق عليها ألف دينار، فقال هذا: أللهم إني أخطب إليك امرأة من نساء الجنة بألف دينار، فتصدق بها، ثم إن صحابه اشترى خدماً ومتاعاً بألف دينار، فقال هذا: اللهم إني أشتري منك خدماً ومتاعاً في الجنة بألف دينار، فتصدق بها، ثم أصابته حاجة شديدة فقال: لو أتيت صاحبي لعله ينالني منه معروف، فجلس على طريق حتى مر به في خدمه وحشمه فقام إليه، فنظره صاحبه فعرفه، فقال: فلان؟ قال: نعم، قال: ما شأنك؟ قال: أصابتني حاجة بعدك، فأتيتك لتعينني بخير، قال: فما فعل بمالك، وقد اقتسمنا مالاً وأخذت شطره؟ فقص عليه قصته فقال: وإنك لمن المصدقين بهذا؟ اذهب فلا أعطيك شيئاً فطرده، فقضي عليهما فتوفيا فنزل فيهما﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ ﴾[الصافات: ٥٠] الخ، وليس هذا مخصوصاً بأبي سلمة وأخيه، بل هو مثل لكل من أقبل على الله وترك زينة الدنيا، ومن اغتر بالدنيا وزينتها، وترك الإقبال على الله، قوله: (بدل) أي ويصح أن يكون مفعولاً ثانياً لأن ضرب مع المثل يجوز أن يتعدى لاثنين. قوله: ﴿ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ ﴾ أي جعلنا النخل حولهما ومحيطاً بكل منهما. قوله: ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً ﴾ أي ليكون جامعاً للأقوات والفواكة. قوله: (مفرد) أي باعتبار لفظه، وقوله: (يدل على التثنية) أي باعتبار معناه، فاعتبر اللفظ تارة فأفرد. والمعنى أخرى فثنى. قوله: (مبتدأ) أي وهو مرفوع بضمة مقدرة على الألف المحذوفة لالتقاء الساكنين، منع من ظهورها التعذر.
و ﴿ كِلْتَا ﴾ مضاف، و ﴿ ٱلْجَنَّتَيْنِ ﴾ مضاف إليه، وهذا إعرابه إن أضيف لظاهر، فإن أضيف لضمير، كان ملحقاً بالمثنى فيعرب بالحروف. قوله: ﴿ آتَتْ أُكُلَهَا ﴾ ألخ، هذا كناية عن نموها وزياداتها، فليست كالأشجار يتم ثمرها في بعض السنين وينقص في بعض. قوله: ﴿ وَفَجَّرْنَا ﴾ أي شققنا. قوله: (يجري بينهما) أي ليسقي أرضه ومواشيه بسهولة. قوله: ﴿ وَكَانَ لَهُ ﴾ أي لأحدهما. قوله: ﴿ ثَمَرٌ ﴾ المراد به أمواله التي هي من غير الجنتين، كالنقد والمواشي، وسمي ثمراً لأنه يثمر أي يزيد. قوله: (بفتح الثاء والميم) الخ، القراءات الثلاث سبعية. قوله: (وهي جمع ثمرة) أي بفتحتين، وهذا على كل واحد من الأوجه الثلاثة، فالمفرد لا يختلف، وإنما الاختلاف في الجمع، فقوله: (كشجرة) الخ لف ونشر مرتب. قوله: ﴿ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ ﴾ حاصل مقالات الكافر لصحابه المؤمن ثلاث، وكلها شنعية، الأولى ﴿ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ ﴾ الخ، الثانية ﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ ﴾ الخ، الثالثة ﴿ وَمَآ أَظُنُّ ٱلسَّاعَةَ قَائِمَةً ﴾ الخ. قوله: (يفاخره) أي يراجعه بالكلام الذي فيه الافتخار. قوله: ﴿ أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً ﴾ الخ.
﴿ أَنَا ﴾ مبتدأ، و ﴿ أَكْثَرُ ﴾ خبره، و ﴿ مِنكَ ﴾ متعلق بمحذوف حال من مالاً و ﴿ مَالاً ﴾ تمييز محول عن المبتدأ، والأصل مالي أكثر منك، فحذف المبتدأ، وأقيم المضاف إليه مقامه فانفصل، وجعل المبتدأ في الأصل تمييزاً، ويقال في قوله: ﴿ وَأَعَزُّ نَفَراً ﴾ ما قيل هنا. قوله: (ويريه أثارها) أي بهجتها وحسنها، وفي نسخة أثمارها وهي ظاهرة. قوله: ﴿ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ ﴾ الجملة حالية من فاعل ﴿ دَخَلَ ﴾.
و ﴿ لِّنَفْسِهِ ﴾ مفعوله واللام زائدة. قوله: ﴿ قَائِمَةً ﴾ أي كائنة وحاصلة. قوله: (على زعمك) دفع بهذا ما يقال إنه ينكر البعث، فكيف يقول ذلك؟ فأجاب بأنه مجاراة له في زعمه. قوله: (مرجعاً) أشار بذلك إلى أن ﴿ مُنْقَلَباً ﴾ تمييز وهو اسم مكان من انقلاب بمعنى الرجوع، والمراد عاقبة المآل. قوله: ﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ ﴾ أي وهو المؤمن، وقد رد المقالات الثلاث على طريق اللف والنشر المشوش. قوله: ﴿ أَكَفَرْتَ ﴾ الاستفهام للتوبيخ والتقريع، والمعنى لا ينبغي ولا يليق منك الكفر بالذي خلقك الخ، وهذا رد للمقالة الأخيرة. قوله: ﴿ رَجُلاً ﴾ مفعول ثاني لسواك لأنه بمعنى (صيرك) كما قال المفسر. قوله: ﴿ لَّٰكِنَّاْ ﴾ استدراك على قوله: ﴿ أَكَفَرْتَ ﴾ كأنه قال: أنت كافر بالله، لكن أنا مؤمن، واختلف القراء في وصل ﴿ لَّٰكِنَّاْ ﴾ فبعضهم يثبت ألفاً بعد النون، وبعضهم يحذفها، وفي الوقف تثبت قولاً واحداً لثبوتها في الرسم. قوله: (أو حذفت الهمزة) أي من غير نقل، فقوله: (ثم أدغمت النون) أي بعد تسكينها بالنسبة للنقل، وعلى الثاني فهي سكانة فتدغم حالاً. قوله: (ضمير الشأن) أي فهو مبتدأ، والجملة بعده خبره، ولا تحتاج لرابط لأنها عينة في المعنى، وهو معها خبر عن (أنا) والرابط الياء من ﴿ رَبِّي ﴾.
قوله: ﴿ وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ﴾ مراده لا أكفر به، لأن إنكار البعث كفر.
قوله: ﴿ وَلَوْلاۤ إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ ﴾ هذا رد للمقالة الثانية ﴿ وَلَوْلاۤ ﴾ تخضيضية داخلة على قلت، و ﴿ إِذْ ﴾ ظرف لقلت مقدم عليه، وجملة ﴿ مَا شَآءَ ٱللَّهُ ﴾ خبر محذوف قدره المفسر بقوله: (هذا) قوله: (لم ير فيه مكروهاً) أي لم يصب فيه بمصيبة. قوله: ﴿ إِن تَرَنِ ﴾ هذا رد للمقالة الأولى. قوله: (ضمير فصل) أي و ﴿ أَقَلَّ ﴾ مفعول ثان وقرئ بالرفع، فيكون خبراً عن أنا، و ﴿ مَالاً وَوَلَداً ﴾ تمييزان، وقوله: ﴿ فعسَىٰ ﴾ الخ، جواب الشرط. قوله: ﴿ أَن يُؤْتِيَنِ ﴾ يحتمل أن يكون في الدنيا والآخرة. قوله: (جمع حسبانه) أي فهو اسم جنس جمعي، يفرق بينه وبين واحده بالتاء. قوله: (بمعنى غائراً) أي ذاهباً في الأرض. قوله: (لأن غور الماء) الخ، أي أو يقال أنه يفسر الحسبان بالقضاء الإلهي، وهو عام يتسبب عنه: إما إصباح الجنة ﴿ صَعِيداً زَلَقاً ﴾ أو ﴿ مَآؤُهَا ﴾ وعلى هذا فيكون معطوفاً على ﴿ يُصْبِحَ ﴾.
قوله: ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ ﴾ أي أمواله. بدليل قول المفسر (مع جنته). قوله: (بأوجه الضبط) أي الثلاثة. قوله: ﴿ وَهِيَ خَاوِيَةٌ ﴾ الجملة حالية. قوله: ﴿ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ﴾ جمع عرش وهو بيت من جريد أو خشب، يجعل فوقه الثمار قوله: (دعائهما) جمع دعامة وهي الخشب ونحوه، الذي ينصب ليمد الكرم عليه. قوله: ﴿ وَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي ﴾ أي تحسراً وندماً على تلف ماله لا توبة، بدليل قوله: ﴿ وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ ﴾ الخ. قوله: (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ يَنصُرُونَهُ ﴾ أي يدفعون عنه الهلاك. قوله: ﴿ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً ﴾ أي قادراً على ذلك. قوله: ﴿ هُنَالِكَ ﴾ يصح أن يكون خبراً مقدماً و ﴿ ٱلْوَلاَيَةُ ﴾ مبتدأ مؤخر، أو تكون هذه الجملة مستقلة، أو معمولاً لمنتصراً، وقوله: ﴿ ٱلْوَلاَيَةُ لِلَّهِ ﴾ مبتدأ وخبر. قوله: (الملك) أي القهر والسلطنة. قوله: (بالرفع) راجع لفتح الواو وكسرها، وكذا قوله: (وبالجر) فالقراءات أربع سبعيات. قوله: ﴿ خَيْرٌ ثَوَاباً ﴾ أي إثابة قوله: (لو كان يثيب) أي فاسم التفضيل على بابه، على فرض أن غير الله يثيب. قوله: ﴿ وَخَيْرٌ عُقْباً ﴾ إي إن عاقبة طاعة المؤمن، خير من عاقبة طاعة غيره. قوله: (بضم القاف وسكونها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (صير) أي شبه.
قوله: ﴿ مَّثَلَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ﴾ أي صفتها وحالها وهيئتها. قوله: ﴿ كَمَآءٍ ﴾ أي كصفة وحال وهيئة ماء الخ، وهذه الآية نظير قوله تعالى:﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ ٱلْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَٰهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَٰماً ﴾[الحديد: ٢٠].
قوله: (تكاثف) أي غلظ والتف بعضه على بعض. قوله: (أو امتزاج الماء بالنبات) أشار بذلك إلى أنه تفسير ثان لاختلط، ومن المعلوم أن الامتزاج من الجانبين، فصح نسبته إلى النبات، وإن كان في عرف اللغة والاستعمال، أن الباء تدخل على الكثير الغير الطارئ، وقد دخلت هنا على الكثير الطارئ، مبالغة في كثرة الماء، حتى كأنه الأصل. قوله: (فروي) بفتح الراء وكسر الواو ارتوى. قوله: ﴿ هَشِيماً ﴾ أي مشهوماً مكسرواً. قوله: (وتفرقه) عطف تفسير. قوله: (المعنى) أي معنى المثل. قوله: (شبه) فعل أمر، وفاعله مستتر عائد على النبي صلى الله عليه وسلم، و ﴿ ٱلدُّنْيَا ﴾ مفعوله. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: ﴿ وَكَانَ ٱللَّهُ ﴾ أي ولم يزل. قوله: (قادراً) المناسب أن يقول كامل القدرة كما يؤخذ من الصيغة. قوله: ﴿ ٱلْمَالُ ﴾ أي وهو الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث. قوله: ﴿ زِينَةُ ﴾ هو مصدر بمعنى اسم المفعول بدليل قوله: (يتجمل بهما فيها) ولذا صح الإخبار به عن الاثنين. قوله: (هي سبحان الله) الخ، أي وتسمى غراس الجنة، أي أن بكل واحدة من هذه الكلمات، تغرس له شجرة في الجنة، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، وقيل إن المراد بالباقيات الصالحات، الصلوات الخمس، وقيل أركان الإسلام، وقيل كل ما يثاب عليه العبد في الدار الآخرة وهو الأتم، وإنما خص المفسر (سبحان الله) الخ، بالباقيات الصالحات، لمزيد فضلها وثوابها، ولذا أوصى رسول الله عمه العباس بصلاة التسابيح، ولو في العمرة مرة، وأوصى الخليل رسول الله، بأن يأمر أمته أن يكثروا من غراس الجنة، كما في حديث الإسراء. قوله: ﴿ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ﴾ التفضيل ليس على بابه، لأن زينة الدنيا ليس فيها خير، ولا يرد علينا أن السعي على العيال من الخير، لأنه من حيز الباقيات الصالحات، لا من حيز الزينة، أو يقال إنه على بابه بالنسبة لزعم الجاهل. قوله: (ويرجوه) عطف تفسير.
قوله: ﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ ﴾ هذا كالدليل لكون الدنيا فانية ذاهبة. قوله: (هباء) أي غباراً. وقوله: (منبثاً) أي مفرقاً كما في سورة الواقعة. قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: ﴿ وَتَرَى ٱلأَرْضَ ﴾ أي تبصرها. قوله: (ولا غيره) أي من بناء وشجرة وبحار وغير ذلك. قوله: ﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ ﴾ أتى به ماضياً، إشارة إلى أن الحشر مقدم على تسيير الجبال والبروز، ليعاينوا تلك الأهوال العظام، كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك، وعلى هذا، فتبديل الأرض يحصل وهم ناظرون لذلك، ووقت التبديل يكون الخلق على الصراط، وقيل على أجنحة الملائكة كما تقدم. قوله: ﴿ فَلَمْ نُغَادِرْ ﴾ عطف على قوله: ﴿ حَشَرْنَاهُمْ ﴾ والمغادرة من جانب، ولذا فسرها بقوله: (نترك). قوله: (حال) أي من الواو في ﴿ عُرِضُواْ ﴾، و ﴿ صَفَّاً ﴾ مفرد وقع موقع الجمع، فالمعنى جميعاً، ونظيره قوله تعالى:﴿ ثُمَّ ٱئْتُواْ صَفّاً ﴾[طه: ٦٤] أي جميعاً، أو المراد صفوفاً، لما ورد: أهل الجنة مائة وعشرون صفاً، أنتم منها ثمانون. وورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله تبارك وتعالى ينادي بصوت رفيع غير فظيع: يا عبادي، أنا الله، لا إله إلا أنا، أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وأسرع الحاسبين، يا عبادي، لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، أحضروا حجتكم، ويسروا جوابكم، فإنكم مسؤولون محاسبون، يا ملائكتي أقيموا عبادي صفوفاً على أطراف أنامل أقدامهم للحساب ". قوله: (ويقال لهم) أي توبيخاً وتقريعاً. قوله: (أو فرادى) أي مفردين عن المال والبنين. قوله: (غرلاً) جمع أغرل أي مختوتين. قوله: ﴿ بَلْ زَعَمْتُمْ ﴾ أي قلتم قولاً كذباً. قوله: (أي أنه) أي الحال والشأن. قوله: ﴿ مَّوْعِداً ﴾ أي مكاناً تبعثون فيه.
قوله: ﴿ وَوُضِعَ ٱلْكِتَابُ ﴾ هو بالبناء للمفعول في قراءة العامة، وقرئ شذوذاً بالبناء للفاعل، وهو الله أو الملك. قوله: (في يمينه) أي فحين يقرؤه يبيض وجهه ويقول:﴿ هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَـٰبيَهْ ﴾[الحاقة: ١٩]، إلى آخر ما في الحاقة. قوله: (وفي شماله من الكافرين) أي فحين يقرؤه يسود وجهه ويقول:﴿ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ ﴾[الحاقة: ٢٥] الخ. قوله: (هلكتنا) أي هلاكنا، والمقصود التحسر والتندم، وقيل الياء حرف نداء و ﴿ وَيْلَتَنَا ﴾ منادى تنزيلاً لها منزلة العاقل، فكأنه يقول: يا هلاكي احضر فهذا أوانك. قوله: (وهو مصدر) أي الويل، وقوله: (لا فعل له من لفظه) أي بل من معناه وهو هلك. قوله: ﴿ مَالِ هَـٰذَا ٱلْكِتَابِ ﴾ ما استفهامية مبتدأ، ولهذا الكتاب خبره، أي أي شيء ثبت لهذا الكتاب؟ قوله: ﴿ لاَ يُغَادِرُ ﴾ الجملة حالية من الكتاب. قوله: (تعجبوا) أشار بذلك إلى أن الاستفهام للتعجب. قوله: (منه) أي الكتاب. قوله: (في ذلك) أي الإحصاء المذكور. قوله: ﴿ وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾ أي لا يعامله معاملة الظالم، بحيث يعذبه من غير ذنب، أو ينقص من أجره.
قوله: (منصوب باذكر) أي فإذ ظرف لذلك المقدر. والمعنى اذكر يا محمد لقومك وقت قولنا للملائكة الخ، والمراد اذكر لهم تلك القصة، وقد كررت في القرآن مراراً لأن معصية إبليس أول معصية ظهرت في الخلق. قوله: (سجود انحناء) جواب عما يقال: إن السجود لغير الله كفر، وتقدم الجواب بأن السجود لله وآدم كالقبلة، أو أن محل كون السجود لغير الله كفراً، إن لم يكن هو الآمر به وإلا فالكفر في المخالفة. قوله: ﴿ فَسَجَدُوۤاْ ﴾ أي جميعاً. قوله: (قيل هم نوع من الملائكة) أي وعلى هذا القول، فهم ليسوا معصومين كالملائكة، بل يتوالدون ويعصون. قوله: (وإبليس أبو الجن) هذا توجيه لكونه منقطعاً وهو الحق، وعليه فالجن نوع آخر غير الملائكة، فالجن من نار، والملائكة من نور. قوله: (فله ذرية) تفريع على كونه أباً، إذ الأب يستلزم ابناً. قوله: ﴿ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ﴾ أي تكبر وحسد. قوله: ﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والاستفهام توبيخي. والمعنى أبعد ما حصل منه ما حصل يليق منكم اتخاذه؟ الخ. قوله: ﴿ وَذُرِّيَّتَهُ ﴾ عطف على الضمير في تتخذونه، قال مجاهد: من ذرية إبليس، لاقس وولهان، وهما صاحبا الطهارة والصلاة اللذان يوسوسان فيهما، ومن ذريته مرة وبه يكنى: وزلنبور وهو صاحب الأسواق، يزين اللغو والحلف الكاذب ومدح السلع. وبتر وهو صاحب المصائب، يزين خدش الوجوه ولطم الخدود وشق الجيوب. والأعور وهو صاحب الزنا، ينفخ في إحليل الرجل وعجيزه المرأة، ومطروس وهو صاحب الأخبار الكاذبة، يلقيها في أفواه الناس، لا يجدون لها أصلاً. وداسم وهو الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسم ولم يذكر الله دخل معه اهـ. قال القرظي: واختلف هل لإبليس أولاد من صلبه؟ فقال الشعبي: سألني رجل فقال: هل لإبليس زوجة؟ فقلت: إن ذلك عرس لم أشهده، ثم ذكرت قوله تعالى: ﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي ﴾ فعلمت أنه لا تكون ذرية إلا من زوجة، فقلت: نعم. وقال مجاهد: إن إبليس أدخل فرجه في فرج نفسه، فباض خمس بيضات، فهذه أصل ذريته. وقيل: إن الله خلق له في فخذه اليمنى ذكراً، وفي فخذه اليسرى فرجاً، فهو ينكح هذا بهذا، فيخرج له كل يوم عشر بيضات، يخرج من كل بيضة سبعون شيطاناً وشيطانة، فهو يفرخ ويطير، وأعظمهم عند أبيه منزلة، أعظمهم في بني آدم فتنة. وقال قوم: ليس له أولاد ولا ذرية، وإنما المراد بذريته أعوانه من الشياطين. قوله: (تطيعونهم) أي بدل طاعتي. قوله: (حال) أي من مفعول تتخذون. قوله: ﴿ لِلظَّالِمِينَ ﴾ متعلق ببدلاً، الواقع تمييزاً للفاعل المستتر، وقوله: (أبليس وذريته) بيان للمخصوص بالذم المحذوف، والأصل بئس البدل إبليس وذريته. قول: (أي إبليس وذريته) تفسير للضمير في ﴿ أَشْهَدتُّهُمْ ﴾ فالمعنى لم أحضرهم حين خلقت السماوات والأرض، ولا حين خلقت أنفسهم، فكيف تتخذونهم أولياء تطيعونهم. قوله: ﴿ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ ٱلْمُضِلِّينَ ﴾ فيه وضع الظاهر موضع المضمر. قول: ﴿ عَضُداً ﴾ هو في الأصل العضو الذي هو من المرفق إلى الكتف، ثم أطلق على المعين والناصر، والمراد هنا مقدماً لهم في مناصب خير، بل هم مطرودون عنها، فكيف يطاعون؟ قوله: (بالياء والنون) أي وهما قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ ﴾ أي زعمتم شركاء، فالمفعولان محذوفان. قوله: (ليشفعوا لكم) متعلق بنادوا. قوله: ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم ﴾ أي مشتركاً. قوله: (وادياً من أودية جهنم) قال أنس بن مالك: هوواد في جهنم من قيح ودم. قوله: (من وبق بالفتح) أي كوعد. قوله: ﴿ وَرَأَى ٱلْمُجْرِمُونَ ٱلنَّارَ ﴾ أي عاينها من مسيرة أربعين عاماً. قوله: ﴿ مَصْرِفاً ﴾ أي مكاناً يجلون فيه غيرها.
قوله: (من جنس كل مثل) أي معنى غريب بديع، يشبه المثل في غرابته. قوله: (خصومة في الباطل) هذا هو معنى الجدل هنا، وفيه إشارة إى أن المؤمن ليس كثير الجدل في الباطل، بل هو شديد الخصومة في الحق. قوله: ﴿ وَيَسْتَغْفِرُواْ ﴾ عطف على ﴿ أَن يُؤْمِنُوۤاْ ﴾.
قوله: ﴿ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ ﴾ الكلام على حذف مضاف، أي إلا انتظارهم وطلبهم إتيان مثل سنة الأولين بقولهم:﴿ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ ﴾[الأنفال: ٣٢] الآية. قوله: (وهو الهلاك) أي الذي يستأصلهم. قوله: (المقدر) أي في الأزل، وقوله: (عليهم) أي الأولين. قوله: ﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ﴾ أي الناس. قوله: (مقابلة وعياناً) تفسير لقبلاً بكسر ففتح. قوله: (أي أنواعاً) تفسير لقبلاً بضمتين، فكل من القراءتين له معنى بخصه. قوله: (القرآن) المناسب أن يقول: أي جميع ما جاءت به الرسل. قوله: ﴿ ءَايَٰتِي ﴾ المناسب تفسيرها بمعجزات الرسل لا خصوص القرآن، لأنه في كل كافر من هذه الأمة وغيرها. قوله: ﴿ وَمَآ أُنْذِرُواْ ﴾ ﴿ مَآ ﴾ موصولة، والعائد محذوف أي الذي أنذروا به، أو مصدرية أي إنذارهم. قوله: ﴿ هُزُواً ﴾ يقرأ بالهمزة والواو سبعيتان. قوله: ﴿ فَأَعْرَضَ عَنْهَا ﴾ أي لم يتدبرها وقت تذكيره بها. قوله: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا ﴾ بمنزلة التعليل لقوله: ﴿ فَأَعْرَضَ ﴾.
قوله: (فلا يسمعونه) أي سماع تفهم وانتفاع، قوله: ﴿ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلْعَذَابَ ﴾ أي المستأصل لهم. قوله: (وهو يوم القيامة) أشار بذلك إلى أن المراد بالموعد الزمان المعد لهم، ويصح أن يراد به المكان. قوله: ﴿ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ ﴾ أي العذاب. قوله: ﴿ مَوْئِلاً ﴾ الموئل المرجع من وأل يئل أي رجع، ويقال للملجأ أيضاً، يقال وأل فلان إلى فلان إذ لجأ إليه، والمعنى لن يجدوا غير العذاب ملجأ يلتجئون إليه، كناية عن عدم خلوصهم منه. قوله: (أهلها) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف.
قوله: ﴿ أَهْلَكْنَاهُمْ ﴾ أي في الدنيا كما قال تعالى:﴿ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً ﴾[العكنبوت: ٤٠] الخ. قوله: ﴿ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم ﴾ أي لهلاكهم المذكور وقتاً معيناً نزل بهم فيه، فكذلك قومك لهم وقت ينزل بهم فيه، وهو معنى قوله: ﴿ مَّوْعِداً ﴾.
قوله: (وفي قراءة) أي وهي سبعية أيضاً، وتحتها قراءتان فتح اللام وكسرها، فمجموع القراءات السبعية ثلاثة: ضم الميم مع فتح اللام، وفتح الميم مع فتح اللام أو كسرها. قوله: ﴿ وَ ﴾ (اذكر) قدره إشارة إلى أن إذ ظرف لمحذوف، والمعنى اذكر يا محمد لقومك وقت قول موسى لفتاه الخ، والمراد اذكر لهم قصته وما وقع له مع الخضر عليهما السلام. قوله: (هو ابن عمران) أي رسول بني إسرائيل، من سبط لاوي بن يعقوب، وهذا هو الصحيح الذي أجمعت عليه الآثار الصحيحة، ولا يقدح فيه كونه يتعلم من الخضر، لأن الكامل يقبل الكمال، سواء قلنا إن الخضر نبي أو ولي، فاستفادته منه لا تقدح في كونه أفضل منه، لأن تلك مزية، وهي لا تقتضي الأفضلية، يدل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع كونه أعلم الناس، أمره الله بالاستزادة من العلم بقوله:﴿ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ﴾[طه: ١١٤] خلافاً لمن زعم أن موسى بن ميشا بن يوسف بن يعقوب، وادعى أنه نبي قبل موسى بن عمران، محتجاً بأن الله بعد أن أنزل على موسى بن عمران التوراة، وكلمة بلا واسطة، وأعطاه المعجزات العظيمة الباهرة، يبعد أن يستفيد من مطلق نبي أو ولي، وهذا القول خلاف الصحيح. قوله: (يوشع بن نون) هو ابن أفراثيم بن يوسف، أرسله الله بعد موسى، فقاتل الجبارين وردّت له الشمس، وتقدمت قصته في المائدة. قوله: (كان يتبعه) هذا بيان وجه إضافته إلى موسى، وكان ابن أخته، وقيل كان عبداً له وهو بعيد، لأن شرط النبي الحرية. قوله: ﴿ لاۤ أَبْرَحُ ﴾ هي من أخوات كان، اسمها مستتر وجوباً، وخبرها محذوف قدره المفسر بقوله: (أسير) أي لا أبرح سائراً. قوله: (ملتقى بحر الروم) الخ، أي وملتقاهما عند البحر المحيط. قوله: (مما يلي المشرق) أي وذلك بإفريقية. قوله: (دهراً طويلاً) وقيل الحقب ثمانون سنة، وقيل سنة واحدة بلغة قريش، وقيل سبعون، ويجمع على أحقاب، كعنق وأعناق. قوله: (إن بعد) أي إن لم أدركه، والمعنى لا بد من سيري إلى أن أبلغ مجمع البحرين، أو أسير زمناً طويلاً حتى أيأس من الوصول. قوله: (بين البحرين) أشار بذلك إلى أن (بين) ظرف وهو الموضع الذي وعد موسى أن يجتمع بالخضر. قوله: ﴿ نَسِيَا حُوتَهُمَا ﴾ قيل كان مشوياً، وقيل كان مملحاً، وقد أكلا منه زمناً طويلاً، قبل أن يدركا الصخرة. قوله: (نسي يوشع حمله) هذا يقتضي أنه كان موجوداً على البر حين نسيه يوشع، ولكن الموجود في القصة، أن موسى ويوشع لما وصلا الصخرة التي عندها عين الحياة ناما، ثم استيقظ يوشع، فتوضأ من تلك العين، فانتضح الماء عليه فعاش ووثب في الماء، فهذا يقتضي أنه نسي إخبار موسى بما رأى، فالمناسب للمفسر أن يقول: نسي يوشع أن يخبر موسى بما شاهده من الأمر العجيب. إن قلت: إن شأن الأمر العجيب عدم نسيانه. أجيب بأنه أدهش من عظيم ما رأى من قدرة الله وعظمته، للحكمة التي ترتبت على ذلك. قوله: ﴿ فَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُ ﴾ هذا الاتخاذ قبل النسيان، فيكون في الآية تقديم وتأخير، والأصل فأدركته الحياة فخرج من المكتل وسقط في البحر فاتخذ سبيله. قوله: ﴿ سَرَباً ﴾ مفعول ثان لاتخذ. قوله: (وذلك) أي سبب ذلك. قوله: (فانجاب) أي انقطع الماء وانكشف. قوله: (فبقي) أي صار. قوله: (كالكوة) هي بالفتح نقب البيت، والجمع كوى بكسر الكاف ممدوداً ومقصوراً. قوله: (لم يلتئم) أي يلتصق حتى رجع إليه موسى فرأى مسلكه. قوله: (ما تحته) أي فجعل الحوت لا يمس شيئاً في البحر إلا يبس. قوله: (ذلك المكان) أي مجمع البحرين.
قوله: ﴿ مِن سَفَرِنَا هَـٰذَا ﴾ أي الذي وقع بعد مجازتهما الموعد. قوله: ﴿ نَصَباً ﴾ مفعول بلقينا. قوله: (وحصوله بعد المجاوزة) إنما كان حصول النصب بعد المجاوزة، لحصول السفر مع الانتظار والتشوق، وأما سفرهما قبل الوصول لمجمع البحرين، فكان مقصوداً دفعة، فلا مشقة فيه. قوله: (أي تنبه) أي تذكر واستمع لما ألقيه إليك من شأن الحوت. قوله: ﴿ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلْحُوتَ ﴾ أي نسيت إخبارك بما شاهدته منه كما تقدم. قوله: ﴿ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَٰنُ ﴾ إن قلت: إن الشيطان لا تسلط له على الأنبياء. أجيب: بأنه أضاف النسيان إليه هضماً لنفسه. قوله: (أي يتعجب منه موسى وفتاه) أي حيث أكلا من الحوت شقه الأيسر، ثم حيي بعد ذلك. قوله: (لما تقدم في بيانه) أي وهو وقوله: (وذلك أن الله أمسك عن الحوت جري الماء) الخ. قوله: (من نطلبه) وهوا لخضر.
قوله: ﴿ فَوَجَدَا عَبْداً ﴾ قيل دخل السرب مكان الحوت، فوجداه جالساً على جزيرة في البحر، وقيل وجداه عند الصخرة مغطى بثوب أبيض، طرفه تحت رأسه، والآخر تحت رجليه، فسلم عليه موسى، فرفع رأسه واستوى جالساً وقال: وعليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال له موسى: ومن أخبرك إني نبي بني إسرائيل؟ فقال: الذي أدراك بي ودلك علي، ثم قال: لقد كان لك في بني إسرائيل شغل، قال موسى: إن ربي أرسلني إليك لأتبعك وأتعلم منك. قوله: ﴿ مِّنْ عِبَادِنَآ ﴾ الإضافة لتشريف المضاف، أي من عبيدي الخصوصية. قوله: (هو الخضر) بفتح الخاء مع كسر الضاد أو سكونها، وبكسر الخاء مع سكون الضاد، ففيه ثلاث لغات، وهذا لقبه، واسمه بليا بفتح الباء وسكون اللام بعدها ياء تحتية آخره ألف مقصورة، ومعناه بالعربية أحمد بن ملكان، وكنيته أو العباس، قال بعض العارفين: من عرف اسمه واسم أبيه وكنيته ولقبه مات على الإسلام، ولقب بالخضر لأنه جلس على الأرض فاخضرت تحته، وقيل لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله، وهو من نسل نوح، وكان أبوه من الملوك. قوله: (نبوة في قول) أي وقد صححه جماعة، والجمهور على أنه حي إلى يوم القيامة لشربه من ماء الحياة، يجتمع به خواص الأولياء ويأخذون عنه، قال العارف السيد البكري صاحب ورد السحر في توسلاته: بِنَقِيبهم في كُلِّ عَصْرِ الخُضرِ أبِي الـ   ـعَبَاس من أَحْيَا بِمَاء وصالهحَي وَحَقّك لَمْ يَقل بِوَفَاتِهِ   إِلاَّ الَّذِي لَمِ يلقَ نُور جمالهفَعَلَيْهِ مِنِّي كُلَّمَا هَبَّ الصّبَا   أَزْكَى سَلاَمٌ طَابَ فِي إِرْسَالِهِوقد اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ عنه فهو صاحبي. قوله: ﴿ مِن لَّدُنَّا ﴾ أي مما يختص بنا، ولا يعلم بواسطة معلم من أهل الظاهر. قوله: (خطيباً) أي واعظاً يذكر الناس، حتى فاضت العيون ورقت القلوب، وكانت تلك الخطبة بعد هلاك القبط، ورجوع موسى إلى مصر. قوله: (إذ لم يرد العلم إليه) أي فكان عليه أن يقول مثلاً: الله أعلم، وهذا من باب عتاب الأحباب تأديباً لموسى، وإلا فالواقع أن موسى أعلم من الخضر. قوله: (هو أعلم منك) أي في خصوص علم الكشف والوقائع المخصوصة، وهو بالنسبة للعلم الذي أوحاه الله إلى موسى قليل، فلذلك رغب موسى في حيازته. قوله: (فكيف لي به) أي فلما سمع موسى هذا، تشوقت نفسه الزكية وهمته العلية لتحصيل علم ما لم يعلم. قوله: (قال تأخذ معك حوتاً) لعل الحكمة في تخصيصه ما ظهر بعد من حياته ودخوله في البحر. قوله: (فتجعله في مكتل) هو الزنبيل بكسر الزاي من خوص النخل، ويقال له القفه تسع خمسة عشر صاعاً. قوله: (فهو ثم) أي هناك. قوله: (جرية الماء) بكسر الجيم. قوله: (مثل الطاق) هو البناء المقوس كالقنطرة. قوله: (أن يخبره بالحوت) أي بما حصل من أمره. قوله: (قال موسى) أي بعد أن صليا الظهر من اليوم الثاني. قوله: (قال) أي النبي صلى الله عليه وسلم في شأن تفسير الآية.
قوله: ﴿ قَالَ لَهُ مُوسَىٰ ﴾ أي بعد أن تلاقيا وحصل الوصول. قوله: ﴿ هَلْ أَتَّبِعُكَ ﴾ استفهام تعطف رعاية للأدب في حق المعلم، وبذلك الأدب يحصل النفع والسؤدد. قوله: ﴿ عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ ﴾ أي ليس لي قصد في اتباعك إلا تعليمك إياي، لا شيئاً من الأغراض غير التعليم. قوله: ﴿ رُشْداً ﴾ مفعول ثان لتعلمني، أي لتعلمني صواباً من الذي علمكه. قوله: (وفي قراءة) أي وعليها فيكون من باب قتل، وقياس مصدره بفتح الراء، فيكون بضمها اسم مصدر، وعلى الأولى فيكون من باب طرب. قوله: (وسأله ذلك) جواب عما يقال: إن موسى من أولي العزم، ونبي وروسل جزماً، وأسمعه الله كلامه، وأعطاه التوراة، وهو أفضل من الخضر، فكيف يسعى إليه ويتعلم منه؟ فأجاب: بأن الزيادة في العلم مطلوبة، على أن علم الخضر لا يحتاج إليه موسى في شرعه، وإنما هي مزية خص بها الخضر، وأمر الله موسى أن يأخذها عن الخضر ويكتمها، لتكمل له جميع المزايا، ولا يقتضي أن الخضر أعلم منه، لأن موسى كامل في علمه، لا يحتاج إلى شيء من علم الخضر، وإنما علمه من مزية خصه الله بها لا يقتدى به فيها. قوله: ﴿ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ أي لما ترى من مخالفة شرعك ظاهراً، لأن المتعلم قسمان: متعلم ليس عنده شيء من العلوم، ولم يمارس الاستدلال، وهذا تعليمه سهل، ويقبل كل ما ألقي عليه، ومتعلم مارس الاستدلال وحصل العلوم، غير أنه يريد أن يزداد علماً على علمه، وهذا تعليمه شاق شديد، لأنه إذا رأى شيئاً أو سمع كلاماً، عرضه على ما عنده، فإن وافقه وإلا ناقش فيه. قوله: ﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ ﴾ الاستفهام تعجبي. قوله: (إني على علم) أي وهو علم الكشف. قوله: (وأنت على علم) أي وهو علم ظاهر الشريعة. قوله: (مصدر) أي مفعول مطلق مؤكد لعامله في المعنى، لأن (لم تحط) بمعنى (لم تخبر) والخبر بالضم معناه العلم، والأوضح أنه تمييز نسبه، أي لم تحط به من جهة لعلم. قوله: (أي وغير عاص) أشار ذلك إلى أن قوله: ﴿ وَلاَ أَعْصِي ﴾ معطوف على ﴿ صَابِراً ﴾ ولا بمعنى (غير). قوله: (لأنه لم يكن على ثقة من نفسه) أي فكأنه قال: ستجدني صابراً إن وافق شرعي، أو أوحى الله إلي في شأنه، فأنا لا أدري ما يفعله الله، ولم يقل الخضر إن شاء الله، لأن الله أطلعه على أن موسى لا يصبر على أمر يخالف شرعه، فحينئذ جزم بأنه لا يستطيع معه صبراً. قوله: (أن لا يثقوا إلى أنفسهم) ضمنه معنى يميلوا ويركنوا فعداه بإلى.
قوله: ﴿ فَلاَ تَسْأَلْني ﴾ أي لا تبادرني بالسؤال عن حكمته، بل اصبر حتى يظهر لك ما فيه من الباطن. قوله: (فتح اللام) أي مع الهمز، وهما قراءتان سبعيتان، وبدون الهمز مع تشديد النون لغير السبعة. قوله: (في علمك) أي بحسب ظاهر علمك. قوله: (واصبر) قدره إشارة إلى أنه المغيا بحتى. قوله: (بعلته) أي حكمته وسببه. قوله: ﴿ فَٱنْطَلَقَا ﴾ أي ومعهما يوشع، وإنما لم يذكر في الآية لأنه تابع، والمقصود ذكر موسى والخضر، وقيل لم يكن معهما، بل رده موسى حين التقى مع الخضر. قوله: (يمشيان على ساحل البحر) أي يطلبان سفينة، فوجدا سفينة فركباها، فقال أهلها: هؤلاء لصوص، لأنهم رأوهم نزلوا بغير زاد ولا متاع، فقال صاحب السفينة: ما هم بلصوص، ولكني أرى وجوه الأنبياء، وعن أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم:" مرت بهم سفينة، فكلموا أهلها أن يحمولهم فعرفوا الخضر بعلامة، فحملوهم بغير نول أي عوض ". قوله: (بفأس) بالهمزة جمعه فؤوس أي القدوم. قوله: (لما بلغت اللج) اللج بالضم جمع لجة وهو الماء الغزير. قوله: (وفي قراءة) أي وهما سبعيتان. قوله: (روي أن الماء لم يدخلها) وقيل إن موسى لما رأى ذلك، أخذ ثوبه فجعله في الخرق. قوله: ﴿ بِمَا نَسِيتُ ﴾ أي بالأمر الذي غفلت عنه، لقيام حمية الشرع بي، وقيل أراد بالنسيان الترك. قوله: ﴿ عُسْراً ﴾ مفعول ثاني لترهقني.
قوله: ﴿ غُلاَماً ﴾ قيل كان اسمعه شمعون. قوله: (لم يبلغ الحنث) يطلق الحنث على المعصية وعلى مخالفة اليمين، والمراد لم يبلغ حد التكليف، ومن باب إطلاق الملزوم وإرادة اللازم. قوله: (مع الصبيان) أي وكانوا عشرة. قوله: (أو اقتلع رأسه بيده) أي بعد أو لوى عنقه. قوله: (لأن القتل عقب اللقى) أي بخلاف السفينة، فإن الخرق لم يكن عقب ركوبها، فلذا لم يأت بالفاء. قوله: (وفي قراءة) وهما سبعيتان. قوله: ﴿ بِغَيْرِ نَفْسٍ ﴾ أي من غير استحقاقها للقتل، والجار والمجرور متعلق بقتلت. قوله: ﴿ لَّقَدْ جِئْتَ ﴾ أي فعلت. قوله: ﴿ نُّكْراً ﴾ هو أعظم من الأمر، لأن فيه القتل بالفعل، بخلاف خرق السفينة، فإنه يمكن تداركه، وقيل بالعكس، لأن الأمر قتل أنفس متعددة بسبب الخرق، فهو أعظم مِن قتل الغلام وحده. قوله: (بسكون الكاف وضمها) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (لعدم العذر هنا) لأنه لم يبد هنا عذراً. قوله: (بالتشديد والتخفيف) أي فهما قراءتان سبعيتان، والنون للوقاية أتى بها لتقي الفعل من الكسر، كما أتى بها في من وعن محافظة على تسكين النون. قوله: ﴿ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ ﴾ أي وكان إتيانهم لها بعد الغروب، والليلة باردة ممطرة. قوله: (هي أنطاكية) بتخفيف الياء. قوله: (طلبا منهم الطعام) روي أنهما طافا في القرية فاستطعاهم فلم يطعموهما، واستضافاهم فلم يضيفوهما، فأطعمتهم امرأة من أهل بربرة، فدعوا لنسائهم، ولعنا رجالهم، وعن قتادة: شر القرى من لا تضيف الضيف. قوله: (مائة ذراع) أي عرضه خمسون، وامتداده على وجه الأرض خمسمائة ذراع. قوله: ﴿ فَأَقَامَهُ ﴾ (الخضر بيده) قيل مسه بها فاستقام، وقيل أقامه بعامود، وقيل نقضه وبناه. قوله: ﴿ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾ أي كان ينبغي لك أخذ جعل منهم على فعلك، لتقصيرهم فينا مع حاجتنا، فقد فعلت المعروف مع غيره أهله. قوله: (وفي قراءة) أي بإظهار الذال وإدغامها في التاء، على كل فتكون القراءات أربعاً سبعيات. قوله: ﴿ بِتَأْوِيلِ ﴾ أي تفسير هذه الآيات التي وقعت لموسى مع الخضر، وحكمة تخصيص الخضر لموسى بتلك الثلاث، وما ورد أنه لما أنكر خرق السفينة، نودي: يا موسى أين كان تدبيرك هذا، وأنت في التابوت مطروحاً في اليم؟ فلما أنكر أمر الغلام قيل له: أين إنكارك هذا، من وكزك القبطي وقضائك عليه؟ فلما أنظر إقامة الجدار نودي: أين هذا من رفعك حجر البئر لبنتي شعيب دون أجر؟
قوله: ﴿ أَمَّا ٱلسَّفِينَةُ ﴾ شروع في وفاء ما وعد الخضر به موسى، على سبيل اللف والنشر المرتب، والسفينة تجمع على سفين وسفائن، ويجمع السفين على سفن بضمتين مأخوذة من السفن، كأنها تسفن الماء أي تقشره، وصاحبها سفان. قوله: ﴿ لِمَسَاكِينَ ﴾ (عشرة) أي وكانوا إخوة ورثوها عن أبيهم، خمسة زمنى، وخمسة يعملون في البحر، وقيل بكل واحد زمانه ليست بالآخر، فأما العمال منهم: فأحدهم مجذوم، والثاني أعور، والثالث أعرج، والرابع آدر، والخامس محموم لا تنقطع عنه الحمى الدهر كله وهو أصغرهم. والخمسة الذين لا يطيقون العمل: أعمى، وأصم، وأخرس، ومقعد، ومجنون، وكان البحر الذين يعملون فيه، ما بين فاس إلى الروم. قوله: ﴿ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾ أي فإذا رآها الملك معيبة تركها، فإذا جاوزوه أصلحوها وانتفعوا بها. قوله: ﴿ وَكَانَ وَرَآءَهُم ﴾ الجملة حالية على إضمار قد. قوله: (إذ رجعوا) من المعلوم أنه إذا كان وراءهم وقت رجوعهم. فبالضرورة يكون في حال توجههم أمامهم، فقد اتحد هذا القول مع ما بعده. وقد يجاب: بأن قوله: ﴿ وَكَانَ وَرَآءَهُم ﴾ أي في حال توجههم، لكنهم في حال رجوعهم يمرون عليه. وحينئذ فلا يكون أمامهم الآن، أي ووراء بمعنى أمام، قال تعالى:﴿ مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ ﴾[الجاثية: ١٠] قوله: ﴿ مَّلِكٌ ﴾ (كافر) أي وكان ملك غسان واسمه جيسور. قوله: (صالحة) أي صحيحة. قوله: ﴿ فَخَشِينَآ ﴾ أي أن الله أعلم الخضر بوقوع ذلك من الغلام إن لم يقتله. قوله: ﴿ أَن يُرْهِقَهُمَا ﴾ أي يكلفهما ويوقعهما في الكفر. قوله: (طبع كافراً) أي خلق مجبولاً على الكفر، وحينئذ فيكون مستثنى من حديث" كل مولود يولد على فطرة الإسلام ". قوله: (لمحبتهما له) علة لإيقاعه لهما في الكفر. قوله: (بالتشديد والتخفيف) قراءتان سبعيتان. قوله: ﴿ خَيْراً مِّنْهُ ﴾ اسم التفضيل ليس على بابه، إذ لم يكن في الغلام خير أو على بابه باعتبار زعمهما. قوله: ﴿ زَكَـاةً ﴾ تمييز، وكذا قوله: ﴿ رُحْماً ﴾.
قوله: (جارية) أي بنتاً. قوله: (فولدت نبياً) وقيل اثني عشر نبياً، وقيل ولدت سبعين نبياً، وما فعله الخضر من قتل الغلام، إنما هو جار على شرعه لا على شرعنا، فإنه لا يجوز قتل الصبيان الكفار، إلا أن يقاتلوا بالسلاح في الحرب، ولو اطلع شخص على ما اطلع عليه الخضر، فلا يجوز له قتل الغلمان، وقد أرسل بعض الخوارج لابن عياض يسأله: كيف قتل الخضر الغلام الصغير، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أولاد الكفار، فضلاً عن أولاد المؤمنين؟ فكتب إليه على سبيل المجاراة والتسليم لدعواه: إن علمت من حال الولدان أن ما علمه علم موسى فلك أن تقتلهم. وروي أن موسى لما قال للخضر:﴿ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً ﴾[الكهف: ٧٤] الآية؟ غضب الخضر، واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه، وإذا فيه مكتوب: كافر لا يؤمن بالله أبداً.
قوله: ﴿ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ ﴾ اسم أحدهما أصرم والآخر صريم. قوله: ﴿ فِي ٱلْمَدِينَةِ ﴾ هي المعبر عنها أولاً بالقرية تحقيراً لها، لكون أهلها لم يضيفوهما، وعبر عنها بالمدينة تعظيماً لها، من حيث اشتمالها على هذين الغلامين وعلى أبيهما. قوله: (مال مدفون من ذهب وفضة) هذا أحد أقوال في تفسير الكنز، وقيل كان علماً في صحف مدفونة، وقيل كان لوحاً من ذهب مكتوب في أحد جانبيه بسم الله الرحمن الرحيم، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟ عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب؟ عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح؟ عجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل؟ عجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها كيف يطمئن إليها؟ لا إله إلا الله محمد رسول الله. وفي الحانب الآخر مكتوب: أنا الله، لا إله إلا أنا وحدي، لا شريك لي، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه. قوله: ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ﴾ قيل إنه أبوهما مباشرة، وقيل هو الأب السابع، وقيل العاشر، وكان يسمى كاشحاً، واسم أمهما دنيا، وفيه دليل على تقوى الأصول تنفع الفروع. قوله: (أي إيناس رشدهما) أي حتى يبلغا أن يعلم إيناس أشدهما، أي قوتهما وكمالهما. قوله: ﴿ وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا ﴾ أي من تحت الجدار، ولولا فعلا ذلك لضاع. قوله: (بل بأمر إلهام من الله) لم يقل بوحي، لعدم الجزم بنبوته. قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ أي ما ذكر من الأجوبة الثلاثة. قوله: (ونوعت العبارة) أي أن هذا التغاير تنويع في العبارة وبعضهم أبدى حكمه في اختلاف التعبير، وهي أن الأولى لما كان ظاهرها إفساداً محضاً، أضافه لنفسه حيث قال: فأردت، أدباً مع الله وإن كان الكل منه. والثاني لما كان فيه نوع إصلاح ونوع أفساد، عبر فيه بقوله: (فأردنا). والثالث لما كان إصلاحاً محضاً، أضافه لله بقوله: (فأراد بك) قيل إن الخضر لما أراد أن يفارق موسى، قال له موسى: أوصني، قال: كن بساماً ولا تكن ضحاكاً، ودع اللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تعب على الخطائين خطاياهم، وابك على خطيئتك يا ابن عمران.
قوله: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ ﴾ أي المشركون بأمر اليهود، فاليهود سبب في السؤال، وإن لم تقع منهم المباشرة له، فصح قول المفسر لليهود. قوله: ﴿ عَن ذِي ٱلْقَرْنَيْنِ ﴾ لقب بذلك لما قيل: إن له قرنين صغيرين في رأسه، وقيل لأنه أعطي علم الظاهر والباطن، وقيل لأنه ملك فارس والروم. قوله: (اسمه الإسكندر) أي وهو الذي بنى الإسكندرية وسماها باسمه. قوله: (ولم يكن نبياً) أي على الصحيح، وإنما كان ولياً فقط، وما يأتي مما يوهم نبوته، فمؤول ومحمول على الإلهام والإلقاء في القلب، وذلك غير مخصوص بالأنبياء، واسكندر هذا من أولاد سام بن نوح، وكان ابن عجوز ليس لها غيره، وكان أسود اللون، وكان على شريعة إبراهيم الخليل، فإنه أسلم على يديه ودعا له، وأوصاه بوصايا، وكان يطوف معه، وكان الخضر وزيره وابن خالته، وكان يسير معه على مقدمة جيشه، وهذا بخلاف ذي القرنين الأصغر، فإنه من ولد العيص بن إسحاق، وكان كافراً، عاش ألفاً وستمائة سنة، وكان قبل المسيح بثلاثمائة سنة، وفي القرطبي قال وهب بن منبه: كان ذو القرنين رجلاً من الروم، ابن عجوز من عجائزهم، ليس لها ولد غيره، كان اسمه إسكندر، فلما بلغ كان عبداً صالحاً، قال الله تعالى، أي على لسان نبي كان موجوداً أو بإلهام: يا ذا القرنين إني باعثك، أي سلطاناً إلى أمم الأرض، وهم أمم مختلفة ألسنتهم، وهم جميع أهل الأرض، وهم أصناف: أمتان بينهما طول الأرض كلها، وأمتان بينهما عرض الأرض كلها، وأمم في وسط الأرض منهم: الجن الإنس ويأجوج ومأجوج، فأما اللتان بينهما عرض الأرض، فأمة في قطر الأرض تحت الجنوب ويقال لها هاويل، وأمة في قطر الأرض الأيسر ويقال لها تأويل، وأما اللتان بينهما طول الأرض، فأمة عند مطلع الشمس يقال لها منسك، وأمة عن مغرب الشمس يقال لها ناسك، فقال ذو القرنين: إلهي لقد ندبتني لأمر عظيم، لا يقدر قدره إلا أنت، فأخبرني عن هذه الأمم، بأي قوة أكاثرهم، وبأي صبر أقاسيهم؟ وبأي لسان أناطقهم؟ وكيف لي بأن أفقه لغتهم وليس لي قوة؟ فقال الله تعالى: سأظفرك بما حملتك، أشرح لك صدراً فتسمع كل شيء، وأثبت لك فهماً فتفقه كل شيء، وألبسك الهيبة فلا يروعك شيء، وأسخر لك النور والظلمة، فيكونان جنداً من جنودك، يهديك النور من أمامك، وتحفظك الظلمة من ورائك، فلما قيل له ذلك، سار بمن اتبعه، فانطلق إلى الأمة التي عند مغرب الشمس، لأنها كانت أقرب الأمم منه، وهي ناسك، فوجد جنوداً لا يحصيها إلا الله، وقوة وبأساً لا يطيقه إلا الله تعالى، وألسنة مختلفة، وأهواء مشتتة، فكاثرهم بالظلمة، فضرب حولهم ثلاث عساكر من جنود الظلمة، قدر ما أحاط بهم من كل مكان، حتى جمعهم في مكان واحد، ثم دخل عليهم بالنور، فدعاهم إلى الله تعالى وإلى عبادته، فمنهم من آمن به، ومنهم من صدَّ عنه، فأدخل على الذين تولوا الظلمة، فغشيتهم من كل مكان، فدخلت في أفواههم وأنوفهم وأعينهم وبيوتهم، وغشيتهم من كل مكان، فتحيروا وهاجروا وأشفقوا أن يهلكوا، فعجوا إلى الله بصوت واحد: إنا آمنا، فكشفها عنهم وأخذهم عنوة ودخلوا في دعوته، فجند من أهل المغرب أمماً عظيمة، فجعلهم جنداً واحداً، ثم انطلق بهم يقودهم، والظلمة تسوقهم وتحرسه من خلفه والنور أمامه يقوده ويدله، وهو يسير في ناحية الأرض الأيمن، وهي هاويل، وسخر الله له يده وقلبه وعقله ونظره، فلا يخطئ إذا عمل عملاً، فإذا أتوا مخاضة أو بحراً، بنى سقفاً من ألواح صغار أمثال النعال، فيضمها في ساعة، ثم يحمل عليها من معه من تلك الأمم، فإذا قطع البحار والأنهار، فتقها ودفع إلى كل رجل لوحاً فلا يكترث بحمله، فانتهى إلى هاويل، ففعل بهم كفعله بناسك فآمنوا، فأخذ جيوشاً منهم، فانطلق إلى ناحية الأرض الأخرى، حتى انتهى إلى منسك عند مطلع الشمس، فعمل فيها وجند منها جنوداً، كفعله في الأولى، ثم كر مقبلاً، حتى أخذ بناحية الأرض اليسرى يريد تاويل، وهي الأرض التي تقابل هاويل، بينهما عرض الأرض ففعل فيها كفعله فيها قبلها، ثم عطف على الأمم التي وسط الأرض، من الإنس والجن ويأجوج ومأجوج، فلما كان في بعض الطريق، مما يلي منقطع الترك نحو المشرق، قالت أمة صالحة من الإنس: يا ذا القرنين، إن بين هذين الجبلين خلقاً من خلق الله كثيرين، ليس فيهم مشابهة للإنس، وهم أشباه البهائم، يأكلون العشب، ويفترسون الدواب والوحش كما تفترسها السباع، ويأكلون دواب الأرض كلها، من الحيات والعقارب والوزغ وكل ذي روح مما خلق الله في الأرض، وليس لله خلق تنمى نماءهم في العام الواحد، فإذا طالت المدة، سيملأون الأرض ويخرجون أهلها منها، فهل نجعل لك خرجاً، على أن تجعل بيننا وبينهم سداً، إلى آخر ما يأتي في الآية، وبالجملة فقد ملكه الله ومكنه ودانت له الملوك، فقد روي أن الذين ملكوا الدنيا كلها أربعة: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود، والإسكندر، والكافران: نمروذ، وبختنصر، وسيملكها من هذه الأمة خامس وهو المهدي. قوله: ﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ أي بالتصرف فيها حيث شاء. قوله: (طريقاً) أي كآلات السير وكثرة الجنود. قوله: (إلى مراده) أي وهو جميع الأرض. قوله: ﴿ فَأَتْبَعَ سَبَباً ﴾ بالتشديد والتخفيف، قراءتان سبعيتان. قوله: (موضع غروبها) أي فالمراد أنه بلغ آخر العمارة من الأرض ووصل إلى ساحل البحر المحيط، فلما لم يبق قدامه شط بل مياه لا آخر لها، رأى الشمس كأنها تغرب فيه، وسماه الله عيناً، لأنه بالنسبة إلى ما هو أعظم منه في علم الله كالعين، وإن كان عظيماً في نفسه. قوله: ﴿ حَمِئَةٍ ﴾ بالهمز بدون ألف، وبألف بعدها ياء، قراءتان سبعيتان، فأما الأولى فهي من الحمأة، وهي الطين الأسود. وأما الثانية فهي اسم فاعل من حمى يحمي. والمعنى في عين حارة، ولا تنافي بين القراءتين، لأن العين جامعة بين الوصفين: الحرارة وكون أرضها من طين. قوله: (وغروبها في العين) الخ، جواب عما يقال: إن الشمس في السماء الرابعة، وهي قدر كرة الأرض مائة وستين مرة، فكيف تسعها عين في الأرض تغرب فيها، فأجاب: بأن هذا الوجدان باعتبار ما رأى لا حقيقة، كما يرى راكب البحر الشمس طالعة وغاربة فيه، قوله: (كافرين) أي وكانوا في مدينة لها اثنا عشر ألف باب، كانت على ساحل البحر المحيط، وقوتهم ما يلفظه البحر من السمك، وكان لباسهم جلود الوحوش. قوله: ﴿ قُلْنَا ﴾ أي بألهام. قوله: (بالأسر) أي وسمي إحساناً بالنسبة للقتل. قوله: ﴿ أَمَّا مَن ظَلَمَ ﴾ أي استمر على ظلمه. قوله: ﴿ ثُمَّ يُرَدُّ ﴾ أي في الآخرة قوله: (بسكون الكاف وضمها) أي فهما سبعيتان. قوله: (أي لجهة النسبة) أي نسبة الخبر المقدم، وهو الجار المجرور، إلى المبتدأ المؤخر وهو الحسنى، والتقدير فالحسنى كائنة له من جهة الجزاء.
قوله: ﴿ وَسَنَقُولُ لَهُ ﴾ أي لمن آمن. قوله: (موضع طلوعها) أي الموضع الذي تطلع الشمس عليه أولاً، قيل بلغه في اثنتي عشر سنة، وقيل أقل، لأنه سخر له السحاب، وطويت له الأسباب. قوله: (هم الزنج) بفتح الزاي وكسرها. قوله: ﴿ سِتْراً ﴾ هو بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم، وهو في الآية بالكسر. قوله: (وسقف) أي ولا أشجار، لأن أرضهم رخوة لا تحمل بناء لعدم الجبال فيها، فتميد بأهلها ولا تستقر. قوله: (ويظهرون عند ارتفاعها) أي مغيبها يسعون في تحصيل مهمات معاشهم، فحالهم بالضد من أحوال الخلق، فما دامت الشمس طالعة فهم في السراديب، وإذا غربت خرجوا لتكسباتهم، قوله: (أي الأمر) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ كَذَلِكَ ﴾ خبر لمحذوف. قوله: ﴿ وَقَدْ أَحَطْنَا ﴾ الخ، الجملة مستأنفة من كلام الله، وفائدة الإخبار بذلك، الاعتناء بشأن ذي القرنين، وأن الله معه بالنصر والعون أينما حل. قوله: ﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ ﴾ تقدم أنه يقرأ بالتشديد والتخفيف. قوله: ﴿ سَبَباً ﴾ أي طريقاً آخر توصله لجهة الشمال، لأن يأجوج ومأجوج، وإن كانوا في وسط الأرض، إلا أنهم لجهة الشمال، لأن أرضهم واسعة جداً تنتهي إلى البحر المحيط، قال بعضهم: مسافة الأرض بتمامها، خمسمائة عام، ثلاثمائة بحار، ومائة وتسعون مسكن يأجوج ومأجوج، تبقى عشرة، للحبشة منها سبعة، وثلاثة لجملة الخلق غيرهم. قوله: (هنا وبعد) أي في هذه الآية وفي قوله الآتي:﴿ عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً ﴾[الكهف: ٩٤]، وفي يس﴿ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً ﴾[يس: ٩] فهذه المواضع تقرأ بالفتح والضم سبعيتان. قوله: (جبلان) أي عاليان جداً أملسان. قوله: (بمنقطع) بفتح الطاء أي آخر بلاد الترك. قوله: (سد الاسكندر ما بينما) أي الفتحة التي بين الجبلين، وقدرها مائة فرسخ، ومسيرة الفرسخ ساعة ونصف، فتكون مسيرته مائة وخمسين ساعة، مسيرة اثني عشر يوماً ونصف، فتبلغ مسافته نحو العقبة من مصر. قوله: (أي أمامهما) أي بقربهما.
قوله: ﴿ قَوْماً ﴾ أي وهم الترك والروم. قوله: ﴿ لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ﴾ أي لغرابة لغتهم وبطء فهمهم. قوله: (وفي القراءة) أي وهما سبعيتان، والمعنى لا يفهمون غيرهم لشدة عجمتهم، فكلامهم مغلق. قوله: ﴿ قَالُواْ ﴾ أي قال مترجمهم، لأنهم من أولاد يافت بن نوح، وذو القرنين من أولاد سام، فلا يفهم لغتهم، وإنما كان لهم مترجم يفهم كلاً من اللغتين، وقيل خاطبوه بأنفسهم وفهم لغتهم، كرامة لما تقدم أن الله جعل له فهماً يفقه به كل شيء وهو الأقرب. قال أهل التواريخ: أولاد نوح ثلاثة: سام وحام ويافث، فسام: أبو العجم والعرب والروم. وحام: أبو الحبشة والزنج والنوبة. ويافث: أبو الترك والبربر وصقالبة ويأجوج ومأجوج. قال ابن عباس: هم عشرة أجزاء، ولد آدم كلهم جزء. قوله: ﴿ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ ﴾ روي أن كلاً من الجبلين اشتمل على أربعة آلاف أمة، لا يموت الواحد منهم، حتى ينتظر ألف ذكر من صلبه، كلهم قد حمل السلاح، وهم أصناف: صنف منهم طوله عشرون ومائة ذراع في السماء، وصنف منهم طولهم وعرضه سواء عشرون ومائة ذراع، وصنف منهم يفترش أحدهم إحدى إذنيه ويلتحف بالأخرى، لا يمرون بفعيل ولا وحيش ولا خنزير إلا أكلوه، ومن مات منهم أكلوه، والجميع كفار، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان ليلة الإسراء فلم يجيبوا. قوله: (بالهمز وتركه) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (أعجميان) أي لا اشتقاق لهما، ومنعا من الصرف للعملية والعجمة. قوله: (بالنهب والبغي) فكانوا يخرجون أيام الربيع إلى أرضهم، فلا يدعون فيها شيئاً أخضر إلا أكلوه، ولا يابساً إلا احتملوه وأدخلوه أرضهم. قوله: (عند خروجهم) أي من هذه الفتحة. قوله: (وفي قراءة خراجاً) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (وفي قراءة بنونين) أي وهي سبعية أيضاً. قوله: (غيره) أي كالملك. قوله: (وأجعل لكم السد تبرعاً) روي أنه قال لهم: أعدوا لي الصخر والحديد والنحاس حتى أعلم علمهم، فانطلق حتى توسط بلادهم، فوجد طول الواحد منهم، مثل نصف الرجل المربوع منا، لهم مخاليب وأضراس كالسباع، ولهم شعر يواري أجسادهم، ويتقون به من الحر والبرد، ولكل واحد منهم أذنان عظيمتان، يفترش إحداهما، ويلتحف بالأخرى، يصيف في واحدة، ويشتي في الأخرى، يتسافدون تسافد البهائم، فلما عاين ذو القرنين ذلك، اهتم بالسد، فبنى الجدار على الماء بالصخر والحديد والنحاس المذاب، فلما وصل إلى ظاهر الأرض، بنى بقطع الحديد، وأفرغ عليه النحاس المذاب، ولا يشكل هذا على ما تقدم من أنهم أصناف، لأنه رأى صنفاً من الأصناف. قوله: ﴿ آتُونِي ﴾ بفتح الهمزة وكسرها مع المد، فيهما قراءتان سبعيتان، فزبر على الفتح منصوب على المفعولية، وعلى الكسر منصوب بنزع الخافض. قوله: ﴿ زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ ﴾ جمع زبرة كغرف وغرفة. قوله: (بضم الحرفين) الخ، أي فالقراءات السبعية ثلاث. قوله: (بالبناء) متعلق بساوى. قوله: (ووضع المنافخ) جمع منفخ كمنبر، ويقال منفاخ كفمتاح، ويجمع على منافيخ. قوله: (فنفخوا) أي وهذه كرامة لذي القرنين، حيث منع الله حرارة النار على العملة الذين ينفخون ويفرغون النحاس، مع أنه أصعب من النار مع قربهم من ذلك. قوله: (وحذف من الأول) أي وهو وضميره لأنه فضلة، والأصل آتوني قطراً أفرغ عليه قطراً. قوله: (بين زبره) أي مكان الحطب والفحم الذي كان بينها، فلما أكلته النار، بقي ما بينهما خالياً، فأفرغ فيه النحاس المذاب فامتزج بالحديد. قوله: (لارتفاعه) أي فكان ارتفاعه مائتي ذراع. قوله: (وملاسته) أي فكان لا يثبت عليه قدم ولا غيره. قوله: ﴿ وَمَا ٱسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً ﴾ أي خرقاً فالفعل. كما يشهد له ما روى الشيخان عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم" أنهم يحفرونه كل يوم، حتى إذا كادوا يخرقونه قال الذي عليه: ارجعوا فستحفرونه غداً، قال: فيعيد الله كأشد مما كان، حتى إذا بلغ مدتهم، وأراد الله أن يبعثهم إلى الناس، قال الذي عليهم: ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله، قال فيرجعون فيجدونه على هيئته حين تركوه فيخرقونه، فيخرجون منه إلى الناس فيستسقون المياه وتنفر الناس منهم ". قوله: ﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي ﴾ أي وقت وعده. قوله: (بخروجهم) أي فيخرجون على الناس فينفرون منهم، فيرمون بسهام إلى السماء، فترجع مخضبة بالدماء، فيقولون: قهرنا من في الأرض ومن في السماء، فيزدادون قوة وقسوة. قوله: (قال تعالى) أشار بذلك إلى أن كلام ذي القرنين تم عند قوله: ﴿ حَقّاً ﴾ هذا من كلام الله.
قوله: ﴿ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ﴾ أي لشدة الازدحام عند خروجهم، وذلك عقب موت الدجال، فينحاز عيسى بالمؤمنين إلى جبل الطور فراراً منهم، ثم يلسط الله عليهم دوداً في أنفوهم فيموتون به، فتنتن الأرض منهم، فتأتي طيور ترميهم في البحر بدعاء عيسى عليه السلام، ولا يدخلون مكة ولا المدينة ولا بيت المقدس، ولا يصلون إلى من تحصن بورد أو ذكر. قوله: (لكثرتهم) أي وضيق الأرض، فإن أرضنا بالنسبة لأرضهم ضيقة جداً. قوله: ﴿ وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ﴾ أي النفخة الثانية، بدليل التعقيب في قوله: ﴿ فَجَمَعْنَاهُمْ ﴾ وأما النفخة الأولى، فعندها تخرج روح كل ذي روح، واختلف في القدر الذي بين النفختين، والصحيح أنه أربعون عاماً. قوله: (أي القرن) وهو بيد إسرافيل عليه السلام. قوله: (قربنا) أي أظهرنا بحيث يكونون مشاهدين لها. قوله: ﴿ يَوْمَئِذٍ ﴾ إن كان المراد به يوم المرقف، فالعرض على حقيقته بمعنى التقريب والإظهار، وإن كان المراد بعد انفضاضه، فالمراد بالعرض امتزاجها بهم، فيكون كناية عن دخولهم فيها وتعذيبهم بها، وفائدة التأكيد على الأول، الإشارة إلى أنه لم يكن بينهم وبينها حجاب. قوله: ﴿ أَعْيُنُهُمْ ﴾ أي بصائرهم. قوله: (لا يهتدون به) أي لا يتعظون ولا يؤثر في قلوبهم. قوله: ﴿ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ﴾ أي سماع قبول وفهم، لوجود الحجاب المانع لهم من ذلك.
قوله: ﴿ أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ ﴾ الهمزة داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير أكفروا فحسبوا الخ، والاستفهام للتوبيخ والتقريع. قوله: (ملائكتي وعيسى وعزيراً) أشار بذلك إلى تنوعهم في الكفر، فالمشركون يعبدون الملائكة، والنصارى يعبدون عيسى، واليهود يعبدون العزير. قوله: (وعزيراً) هذا لقبه، واسمه قطفير، أو أطفير. قوله: ﴿ مِن دُونِيۤ ﴾ أي غيري وهو صادق بكونهم يشركونهم معه في العبادة، أو خصوهم بالعبادة دونه. قوله: (مفعول ثان ليتخذوا) أي والأول قوله: ﴿ عِبَادِي ﴾ فمفعولاً اتخذ مذكوران. قوله: (والمفعول الثاني لحسب محذوف) أي والأول قوله: ﴿ أَن يَتَّخِذُواْ ﴾ الخ، والتقدير أظن الكافرون اتخاذهم عبادي من دوني أرباباً لا يغضبني، بل هو مغضب لي وأعاقبهم عليه، وبتفسير الأولياء بالأرباب، اندفعت شبهة من يزعم أن محبة الأولياء وزيارتهم إشراك، واستدلوا بمثل هذه الآية، فيقال: إن كان اعتقاد الأولياء على سبيل أنهم يضرون الخلق وينفعونهم بذواتهم، فمسلم أنه إشراك، وأما إن كان على سبيل أنهم عباد، اختاروا خدمة ربهم وعبادته، فاختارهم وأحبهم، فهذا الاعتقاد منج من المهالك، ومورث للفوز بصحبتهم ومرافقتهم في دار السلام لما ورد: المرء مع من أحب. قوله: (كلا) هي كلمة ردع وزجر. قوله: ﴿ إِنَّآ أَعْتَدْنَا ﴾ إي هيأنا وأحضرنا. قوله: (هؤلاء) أي الذين عبدوا الملائكة وعيسى وعزيراً. قوله: (وغيرهم) أي من بقية الكفار. قوله: (كالمنزل المعد للضيف) أي فهو استهزاء وسخرية بهم، من حيث سمى محل عذابهم نزلاً، والنزل اسم لمكان الضيف أو لما يهيأ له. قوله: ﴿ بِٱلأَخْسَرِينَ ﴾ جمع أخسر، إما بمعنى أشد الناس خسراناً، أو بمعنى خاسر. قوله: (طابق المميز) جواب عما يقال: كيف جمع التمييز مع أن أصله الإفراد؟ ولم جمع المصدر مع أنه لا يثني ولا يجمع؟ فأجاب: بأنه جمع لمشاكلة مميزة. قوله: ﴿ ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ ﴾ خبر مبتدأ محذوف، أي هم الذين الخ. قوله: (بطل عملهم) أي لأن شرط الثواب الإسلام، والكفر لا تنفع معه طاعة. قوله: ﴿ وَهُمْ يَحْسَبُونَ ﴾ الجملة حالية من فاعل ﴿ ضَلَّ ﴾.
قوله: (أي وبالبعث) أي فالمراد بلقاء الله، لقاء بعثه وحسابه الخ. قوله: ﴿ فَحَبِطَتْ ﴾ أي فبسبب ذلك. قوله: (أي لا نجعل لهم قدراً) أي منزلة، وإنما قال ذلك، لأن الكفار على التحقيق توزن أعمالهم، وبعضهم أجاب: بأن الآية فيها حذف النعت، والتقدير وزناً نافعاً. قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ (أي الأمر) أشار بذلك إلى أن قوله: ﴿ ذَلِكَ ﴾ خبر لمحذوف. قوله: (الذي ذكرت) تفسير لاسم الإشارة. قوله: (وابتدأ) أشار بذلك إلى أن جملة ﴿ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ ﴾ مستأنفة، وهو صادق بأن يكون ﴿ جَزَآؤُهُمْ ﴾ مبتدأ، و ﴿ جَهَنَّمُ ﴾ خبر، أو بالعكس، ويصح أن يكون ذلك مبتدأ أول، وجزاؤهم مبتدأ ثان، وجهنم خبر الثاني، وهو وخبره خبر الأول. قوله: ﴿ بِمَا كَفَرُواْ ﴾ الباء سببية، وما مصدرية، أي بسبب كفرهم واتخاذهم.
قوله: (في علم الله) أي قبل أن يخلقوا، وهو جواب عما يقال: إنهم يدخلونها في المستقبل، فلم عبر بالماضي؟ فأجاب: بأن المراد ثبتت واستقرت لهم قبل خلقهم، فهو نظير قوله تعالى:﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ ﴾[الأنبياء: ١٠١] الآية. قوله: (هو وسط الجنة) إما بسكون السين بمعنى أنها متوسطة بين الجنات، أو بفتحها بمعنى خيارها، قال كعب: ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس، فيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، والفردوس الجنة من الكرم خاصة، أو ما غالبها كرم، واختلف فيه فقيل هو عربي، وقيل أعجمي، وقيل هو رومي، وقيل فارسي، وقيل سرياني. قوله: (منزلاً) أي وقيل ما يهيأ للضيف. قوله: ﴿ خَالِدِينَ ﴾ حال مقدرة. قوله: ﴿ لاَ يَبْغُونَ ﴾ حال أخرى. قوله: (تحولاً) أي انتقالاً عنها إلى غيرها، لأن فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. قوله: ﴿ قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً ﴾ سبب نزولها: أن اليهود قالت: يا محمد إننا قد أوتينا التوارة، وفيها علم كثير، فكيف تقول:﴿ وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾[الإسراء: ٨٥] وقصدهم بذلك الإنكار عليه، وإثبات الفضل لهم. قوله: (أي ماؤه) أشار بذلك إلى أن الكلام على حذف مضاف. قوله: ﴿ لِّكَلِمَاتِ رَبِّي ﴾ أي النفسية القائمة بذاته، ويصح أن يراد بها الكلمات القرآنية الحادثة، ويكون المراد بعدم تناهيها باعتبار مدلولاتها. قوله: ﴿ لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ ﴾ أي فرغ. قوله: ﴿ قَبْلَ أَن تَنفَدَ ﴾ إن قلت: إن الآية تدل على نفاد الكلمات وفراغها، لأن مقتضى قوله: ﴿ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ﴾ أنها تفرغ بعد فراغ المداد. وأجيب: بأن قيل بمعنى غير. قوله: (بالتاء والياء) أي فهما قراءتان سبعيتان. قوله: (لنفد) قدره إشارة إلى أن لو شرطية جوابها محذوف ويوضح هذه الآية قوله تعالى في سورة لقمان﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَٱلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ ٱللَّهِ ﴾[لقمان: ٢٧].
قوله: (ونصبه) أي مداداً. وقوله: (على التمييز) أي لمثل. قوله: (باقية على مصدريتها) أي فما وإن كفتها عن العمل، لا تخرجها عن المصدرية. قوله: (والمعنى) أي المأخوذ من التركيب. قوله: ﴿ عَمَلاً صَالِحاً ﴾ أي بشروطه وأركانه. قوله: (بأن يرائي) هذا قدر زائد على التوحيد والعمل، وحينئذ فيكون بياناً للإيمان الكامل، الذي يرقى به صاحبه المراتب العلية واللقى الخاص، وإلا فالمراتب ثلاث: من أردا بعمله الحظ الفاني فهو في أدنى المراتب، ومن أراد به الخوف من العذاب والفوز بجزيل الثواب فهو أعلى منه، ومن أراد وجه الله فهو في أعلى المراتب.
Icon