تفسير سورة الكهف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ
سورة الكهف
مكية. وهي مائة وإحدى عشرة آية، أو خمس عشرة. ووجه المناسبة لما قبلها : أنه لما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالحمد لله على كمال تنزيهه، أخبر أنه يستحق ذلك لإنعامه بأجل النعم، وهو إنزال الكتاب العزيز، الذي هو سبب الهداية الموصلة إلى النعيم المقيم. أو تكون تتميما لقوله :﴿ وقرآنا فرقناه. . ﴾ [ الإسراء : ١٠٦ ] الخ.

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ﴾ * ﴿ قَيِّماً لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً ﴾ * ﴿ مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ﴾ * ﴿ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً ﴾ * ﴿ مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً ﴾
قلت :﴿ قَيّمًا ﴾ : حال من الكتاب، والعامل فيه :" أنزل "، ومنعه الزمخشري ؛ للفصل بين الحال وذي الحال، واختار أن العامل فيه مضمر، تقديره : جعله قيّمًا، و " لينذر " : يتعلق بأنزل، أو بقيّمًا. والفاعل : ضمير الكتاب، أو النبي صلى الله عليه وسلم، و " بأسًا " : مفعول ثان، وحذف الأول، أي : لينذر الناس بأسًا، كما حذف الثاني من قوله :﴿ ويُنذر الذين قالوا. . . ﴾ الخ ؛ لدلالة هذا عليه.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ الحمدُ لله ﴾ أي : الثناء الجميل حاصل لله، والمراد : الإعلام بذلك ؛ للإيمان به، أو الثناء على نفسه، أو هما معًا. ثم ذكر وجه استحقاقه له، فقال :﴿ الذي أَنزل على عبده الكتابَ ﴾ أي : الكتاب الكامل المعروف بذلك من بين سائر الكتب، الحقيق باختصاص اسم الكتاب، وهو جميع القرآن. رتَّب استحقاق الحمد على إنزاله ؛ تنبيهًا على أنه أعظم نعمائه، وذلك لأنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد، والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد.
وفي التعبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبد، مضافًا إلى ضمير الجلالة تنبيه على بلوغه صلى الله عليه وسلم إلى معاريج العبادة وكمال العبودية أقصى غاية الكمال، حيث كان فانيًا عن حظوظه، قائمًا بحقوقه، خالصًا في عبوديته لربه.
﴿ ولم يجعلْ له ﴾ أي : للكتاب ﴿ عِوَجًا ﴾ ؛ شيئًا من العوج، باختلافٍ في اللفظ، وتناقض في المعنى، وانحراف في الدعوة. قال القشيري : صانه عن التناقض والتعارض، فهو كتابٌ عزيزٌ من ربِّ عزيز، ينزل على عَبْدٍ عزيز.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من كملت عبوديته لله، وصار حُرًّا مما سواه، بحيث تحرر من رق الأكوان، وأفضى إلى مقام الشهود والعيان، أنزل الله على قلبه علم التحقيق، وسلك به منهاج أهل التوفيق، منهاجًا قيمًا، لا إفراط فيه ولا تفريط، محفوظًا في باطنه من الزيغ والإلحاد، وفي ظاهره من الفساد والعناد، قد تولى الله أمره وأخذه عنه، فهو على بينة من ربه فيما يأخذ ويذر. فإن أَذِنَ له في التذكير وقع في مسامع الخلق عبارتُه، وجليت إليهم إشارته، فبَشَّر وأنذر، ورغّب وحذّر، يُبشر أهل التوحيد والتنزيه بنعيم الجنان، وبالنظر إلى وجه الرحمان، ويُنذر أهل الشرك بعذاب النيران، وبالذل والهوان، نعوذ بالله من موارد الفتن.
﴿ قَيّمًا ﴾ : مستقيمًا متناهيًا في الاستقامة، معتدلاً لا إفراط فيه ولا تفريط، فهو تأكيد لما دل عليه نفي العوج، مع إفادته كون ذلك من صفاته الذاتية، حسبما تُنبئ عنه الصيغة. أو قَيّمًا بالمصالح الدينية والدنيوية للعباد، على ما ينبئ عنه ما بعده من الإنذار والتبشير، فيكون وصفًا له بالتكميل، بعد وصفه بالكمال، أو : قَيّمًا على ما قبله من الكتب السماوية، وشاهدًا بصحتها ومهيمنًا عليها. ﴿ ليُنذر ﴾ : ليُخوّف اللهُ تعالى به، أو الكتاب، والأول أوْلى ؛ لتناسب المعطوفين بعده، أي : أنزل الكتاب لينذر بما فيه الذين كفروا ﴿ بأسًا ﴾ : عذابًا ﴿ شديداً من لدنه ﴾ أي : صادرًا من عنده، نازلاً من قِبَله، في مقابلة كفرهم وتكذيبهم.
﴿ ويُبشِّر ﴾ بالتشديد والتخفيف، ﴿ المؤمنين ﴾ : المصدقين به، ﴿ الذين يعملون ﴾ أي : العُمال ﴿ الصالحاتِ ﴾ التي تَنْبَثُّ في تضاعيفه ﴿ أنَّ لهم ﴾ أي : بأن لهم في مقابلة إيمانهم وأعمالهم ﴿ أجرًا حسنًا ﴾، هو الجنة وما فيها من المثوبات الحسنى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من كملت عبوديته لله، وصار حُرًّا مما سواه، بحيث تحرر من رق الأكوان، وأفضى إلى مقام الشهود والعيان، أنزل الله على قلبه علم التحقيق، وسلك به منهاج أهل التوفيق، منهاجًا قيمًا، لا إفراط فيه ولا تفريط، محفوظًا في باطنه من الزيغ والإلحاد، وفي ظاهره من الفساد والعناد، قد تولى الله أمره وأخذه عنه، فهو على بينة من ربه فيما يأخذ ويذر. فإن أَذِنَ له في التذكير وقع في مسامع الخلق عبارتُه، وجليت إليهم إشارته، فبَشَّر وأنذر، ورغّب وحذّر، يُبشر أهل التوحيد والتنزيه بنعيم الجنان، وبالنظر إلى وجه الرحمان، ويُنذر أهل الشرك بعذاب النيران، وبالذل والهوان، نعوذ بالله من موارد الفتن.
﴿ ماكثين فيه ﴾ أي : في ذلك الأجر ﴿ أبدًا ﴾ على سبيل الخلود. والتعبير بالمضارع في الصلة - أعني : الذين يعملون - ؛ للإشعار بتجدد الأعمال الصالحات واستمرارها، وإجراء الموصول على الموصوف بالإيمان ؛ إيماءً بأن مدار قبول الأعمال هو الإيمان.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من كملت عبوديته لله، وصار حُرًّا مما سواه، بحيث تحرر من رق الأكوان، وأفضى إلى مقام الشهود والعيان، أنزل الله على قلبه علم التحقيق، وسلك به منهاج أهل التوفيق، منهاجًا قيمًا، لا إفراط فيه ولا تفريط، محفوظًا في باطنه من الزيغ والإلحاد، وفي ظاهره من الفساد والعناد، قد تولى الله أمره وأخذه عنه، فهو على بينة من ربه فيما يأخذ ويذر. فإن أَذِنَ له في التذكير وقع في مسامع الخلق عبارتُه، وجليت إليهم إشارته، فبَشَّر وأنذر، ورغّب وحذّر، يُبشر أهل التوحيد والتنزيه بنعيم الجنان، وبالنظر إلى وجه الرحمان، ويُنذر أهل الشرك بعذاب النيران، وبالذل والهوان، نعوذ بالله من موارد الفتن.
وتقديم الإنذار على التبشير ؛ لإظهار كمال العناية بزجر الكفار عما هم عليه، مع مراعاة تقديم التخلية على التحلية. وتكرير الإنذار بقوله تعالى :﴿ ويُنذرَ الذين قالوا اتخذ اللهُ ولدًا ﴾ : متعلق بفرقة خاصة، ممن عمَّهُ الإنذار السابق، من مستحقي البأس الشديد ؛ للإيذان بكمال فظاعة حالهم، لغاية شناعة كفرهم وضلالهم، أي : وينذر، من بين سائر الكفرة، هؤلاء المتفوهين بمثل هذه القولة العظيمة، وهم كفار العرب الذين قالوا : الملائكة بنات الله، واليهود القائلون : عزير ابن الله، والنصارى القائلون : المسيح ابن الله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من كملت عبوديته لله، وصار حُرًّا مما سواه، بحيث تحرر من رق الأكوان، وأفضى إلى مقام الشهود والعيان، أنزل الله على قلبه علم التحقيق، وسلك به منهاج أهل التوفيق، منهاجًا قيمًا، لا إفراط فيه ولا تفريط، محفوظًا في باطنه من الزيغ والإلحاد، وفي ظاهره من الفساد والعناد، قد تولى الله أمره وأخذه عنه، فهو على بينة من ربه فيما يأخذ ويذر. فإن أَذِنَ له في التذكير وقع في مسامع الخلق عبارتُه، وجليت إليهم إشارته، فبَشَّر وأنذر، ورغّب وحذّر، يُبشر أهل التوحيد والتنزيه بنعيم الجنان، وبالنظر إلى وجه الرحمان، ويُنذر أهل الشرك بعذاب النيران، وبالذل والهوان، نعوذ بالله من موارد الفتن.
و﴿ مِن عِلْم ﴾ : مبتدأ مجرور بحرف زائد، أو فاعل بالمجرور ؛ لاعتماده على النفي، و " كلمة " : تمييز.
﴿ ما لهم به من عِلْمٍ ﴾ أي : ما لهم باتخاذه الولد شيء من علم أصلاً ؛ لضلالهم وإضلالهم، ﴿ ولا لآبائهم ﴾ الذين قلدوهم، فتاهوا جميعًا في تيه الجهالة والضلالة، أو : ما لهم علم بما قالوا، أصواب أم خطأ، بل إنما قالوه ؛ رميًا بقولٍ عن عمي وجهالة، من غير فكر ولا روية، كقوله تعالى :﴿ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [ الأنعَام : ١٠٠ ]. أو : ما لهم علم بحقيقة ما قالوا، وبعِظَم رتبته في الشناعة، كقوله تعالى :
﴿ وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً ( ٨٨ ) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً ( ٨٩ ) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ( ٩٠ ) ﴾ [ مريَم : ٨٨-٩٠ ]، وهو الأنسب لقوله :﴿ كَبُرتْ كلمةٌ ﴾ أي : عظمت مقالتهم هذه في الكفر والافتراء ؛ لما فيها من نسبته سبحانه إلى ما لا يكاد يليق بجناب كبريائه ؛ لما فيه من التشبيه والتشريك، وإيهام احتياجه تعالى إلى ولد يُعينه ويخلفه. فما أقبحها مقالة ﴿ تخرج من أفواههم ﴾ أي : يتفوهون بها من غير حقيقة ولا تحقيق لمعناها، ﴿ إن يقولون إِلا كذبًا ﴾ : ما يقولون في ذلك إلا قولاً كذبًا، لا يكاد يدخل فيه إمكان الصدق أصلاً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من كملت عبوديته لله، وصار حُرًّا مما سواه، بحيث تحرر من رق الأكوان، وأفضى إلى مقام الشهود والعيان، أنزل الله على قلبه علم التحقيق، وسلك به منهاج أهل التوفيق، منهاجًا قيمًا، لا إفراط فيه ولا تفريط، محفوظًا في باطنه من الزيغ والإلحاد، وفي ظاهره من الفساد والعناد، قد تولى الله أمره وأخذه عنه، فهو على بينة من ربه فيما يأخذ ويذر. فإن أَذِنَ له في التذكير وقع في مسامع الخلق عبارتُه، وجليت إليهم إشارته، فبَشَّر وأنذر، ورغّب وحذّر، يُبشر أهل التوحيد والتنزيه بنعيم الجنان، وبالنظر إلى وجه الرحمان، ويُنذر أهل الشرك بعذاب النيران، وبالذل والهوان، نعوذ بالله من موارد الفتن.
ولما كانت قريش تتفوه بشيء من هذه الكلمات، التي شنع الله على من تفوه بها، وكان عليه الصلاة والسلام يتأسف من ذلك، خفف عنه ذلك، وأمره بالتسلي عنهم، فقال :
﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ﴾ * ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ * ﴿ وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً ﴾
قلت :﴿ أسفًا ﴾ : مفعول من أجله لباخع، أو حال، أي : متأسفًا، وجواب " إن " : محذوف، أي : إن لم يؤمنوا فعلك باخع نفسك.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ فلعلك ﴾ يا محمد ﴿ باخعٌ ﴾ : مهلك ﴿ نفسَك ﴾ وقاتلها بالغم والأسف على تخلف قومك عن الإيمان وفراقهم عنك، ﴿ على آثارهم ﴾ إذا تولوا عنك، عندما تدعوهم إلى الله. شبهه، لأجل ما تداخله من الوجد على توليتهم، بمن فارقته أعزته، وهو يتحسر على آثارهم، ويبخع نفسه وجدًا عليهم. ﴿ إِن لم يُؤمنوا بهذا الحديث ﴾ أي : القرآن الذي عبّر عنه في صدر السورة بالكتاب، صدر ذلك منك ﴿ أسفًا ﴾ أي : بفرط الحزن والتأسف عليهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الخصوصية - من حيث هي - لها بداية ونهاية، فمن شأن أهل بدايتها : الحرص على الخير لهم ولعباد الله، فيتمنون أن الناس كلهم خصوص أو صالحون، فإذا رأوا الناس أعرضوا عنها تأسفوا عليهم، وإذا أقبلوا عليهم فرحوا من أجلهم، زيادة في الهداية لعباد الله، فإذا تمكنوا منها ورسخت أقدامهم فيها، وحصل لهم الفناء الأكبر، لم يحرصوا على شيء، ولم يتأسفوا من فوات شيء، لهم ولغيرهم.
وقد يتوجه العتاب لهم على الحرص في بدايتهم ؛ تكميلاً لهم، وترقية إلى المقام الأكمل.
وقوله تعالى :﴿ إنا جعلنا ما على الأرض... ﴾ الخ، هو حكمة تخلف الناس عن الخصوصية، حتى يتميز الطالب لها من المعرض عنها، فمن أقبل على زينة الدنيا وزهرتها، فاتته الخصوصية، وبقي من عوام الناس، ومن أعرض عنها وعن بهجتها، وتوجه بقلبه إلى الله، كان من المخصوصين بها، المقربين عند الله.
وهذا هو أحسن الأعمال التي اختبر الله به عباده بقوله :﴿ لنبلوهم أيهم أحسن عملاً ﴾، وفي الحديث :" الدنيا مال مَنْ لاَ مَالَ لَه، لَهَا يَجْمَعُ مَنْ لاَ عَقْلَ لَه. وعليها يُعَادِي مَنْ لاَ عِلْمَ عِنْدَه " ١ وفي الزهد والترغيب أحاديث كثيرة مفردة بالتأليف، وبالله التوفيق.

ثم علّل وجه إدبارهم عن الإيمان، وهو اغترارهم بزهرة الدنيا، فقال :﴿ إِنا جعلنا ما على الأرض ﴾ ؛ من الأشجار والأزهار والثمار، وما اشتملت عليه من المعادن، وأنواع الملابس والمطاعم، والمراكب والمناكح، ﴿ زينةً لها ﴾ أي : مبهجة لها، يستمتع بها الناظرون، وينتفعون بها مأكلاً وملبسًا، ونظرًا واعتبارًا، حتى إن الحيّات والعقارب ؛ من حيث تذكيرها بعذاب الآخرة، من قبيل المنافع، بل كل حادث داخل تحت الزينة من حيثُ دلالته على الصانع، وكذلك الأزواج والأولاد، بل هم من أعظم زينتها، داخلون تحت الابتلاء. جعلنا ذلك ﴿ لنبلوهم ﴾ : لنختبرهم، حتى يظهر ذلك للعيان، ﴿ أيُّهم أحسنُ عملاً ﴾، أيهم أزهد فيها، وأقبلهم على الله بالعمل الصالح ؛ إذ لا عمل أحسن من الزهد في الدنيا ؛ إذ هو سبب للتفرغ لأنواع العبادة، بدنية وقلبية.
قال أبو السعود : وحسن العمل : الزهد فيها، وعدم الاكتراث بها، والقناعة باليسير منها، وصرفها على ما ينبغي، والتأمل في شأنها، وجعلها ذريعة إلى معرفة خالقها، والتمتع بها حسبما أذن الشرع، وأداء حقوقها، والشكر على نعمها، لا جعْلها وسيلة إلى الشهوات، والأغراض الفاسدة، كما يفعله الكفرة وأهل الأهواء. . . انظر بقية كلامه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الخصوصية - من حيث هي - لها بداية ونهاية، فمن شأن أهل بدايتها : الحرص على الخير لهم ولعباد الله، فيتمنون أن الناس كلهم خصوص أو صالحون، فإذا رأوا الناس أعرضوا عنها تأسفوا عليهم، وإذا أقبلوا عليهم فرحوا من أجلهم، زيادة في الهداية لعباد الله، فإذا تمكنوا منها ورسخت أقدامهم فيها، وحصل لهم الفناء الأكبر، لم يحرصوا على شيء، ولم يتأسفوا من فوات شيء، لهم ولغيرهم.
وقد يتوجه العتاب لهم على الحرص في بدايتهم ؛ تكميلاً لهم، وترقية إلى المقام الأكمل.
وقوله تعالى :﴿ إنا جعلنا ما على الأرض... ﴾ الخ، هو حكمة تخلف الناس عن الخصوصية، حتى يتميز الطالب لها من المعرض عنها، فمن أقبل على زينة الدنيا وزهرتها، فاتته الخصوصية، وبقي من عوام الناس، ومن أعرض عنها وعن بهجتها، وتوجه بقلبه إلى الله، كان من المخصوصين بها، المقربين عند الله.
وهذا هو أحسن الأعمال التي اختبر الله به عباده بقوله :﴿ لنبلوهم أيهم أحسن عملاً ﴾، وفي الحديث :" الدنيا مال مَنْ لاَ مَالَ لَه، لَهَا يَجْمَعُ مَنْ لاَ عَقْلَ لَه. وعليها يُعَادِي مَنْ لاَ عِلْمَ عِنْدَه " ١ وفي الزهد والترغيب أحاديث كثيرة مفردة بالتأليف، وبالله التوفيق.

﴿ وإِنا لجاعلون ما عليها ﴾ ؛ عند تناهي الدنيا ؛ ﴿ صعيدًا جُرُزًا ﴾ أي : ترابًا يابسًا، لا نبات فيه، بعدما كان يَتَعجب من بهجته النظارُ، ويتشرف بمشاهدته الأبصار، فلا يغتر بما يذهب ويفنى إلا من لا عقل له، فلا تستغرب إدبارهم، إذ لا عقل لهم.
ويحتمل أن يكون تسليةً للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ من حيث إنه أرشده إلى شهود تدبير الحق، فيسلو، بذلك عن إعراضهم ؛ لغيبته في المصور المدبر عن الصور، وعن الزينة في المُزَيِّن فالكون مظهر الصفات ومرآتها، ويغيب في الذات - التي هي معدنها - بإفناء الظاهر، وإفناء الأفعال، كما نبّه عليه بقوله :﴿ وإِنا لجاعلون. . . ﴾ الخ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الخصوصية - من حيث هي - لها بداية ونهاية، فمن شأن أهل بدايتها : الحرص على الخير لهم ولعباد الله، فيتمنون أن الناس كلهم خصوص أو صالحون، فإذا رأوا الناس أعرضوا عنها تأسفوا عليهم، وإذا أقبلوا عليهم فرحوا من أجلهم، زيادة في الهداية لعباد الله، فإذا تمكنوا منها ورسخت أقدامهم فيها، وحصل لهم الفناء الأكبر، لم يحرصوا على شيء، ولم يتأسفوا من فوات شيء، لهم ولغيرهم.
وقد يتوجه العتاب لهم على الحرص في بدايتهم ؛ تكميلاً لهم، وترقية إلى المقام الأكمل.
وقوله تعالى :﴿ إنا جعلنا ما على الأرض... ﴾ الخ، هو حكمة تخلف الناس عن الخصوصية، حتى يتميز الطالب لها من المعرض عنها، فمن أقبل على زينة الدنيا وزهرتها، فاتته الخصوصية، وبقي من عوام الناس، ومن أعرض عنها وعن بهجتها، وتوجه بقلبه إلى الله، كان من المخصوصين بها، المقربين عند الله.
وهذا هو أحسن الأعمال التي اختبر الله به عباده بقوله :﴿ لنبلوهم أيهم أحسن عملاً ﴾، وفي الحديث :" الدنيا مال مَنْ لاَ مَالَ لَه، لَهَا يَجْمَعُ مَنْ لاَ عَقْلَ لَه. وعليها يُعَادِي مَنْ لاَ عِلْمَ عِنْدَه " ١ وفي الزهد والترغيب أحاديث كثيرة مفردة بالتأليف، وبالله التوفيق.

ثم شرع في قصة أهل الكهف المقصودة بالذات فقال :
﴿ أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا * إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا * فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا * ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا* ﴾
قلت :﴿ أم ﴾ : منقطعة مقدرة ببل، التي هي للانتقال من حديث إلى حديث، لا للإبطال، والهمزة : للاستفهام عند الجمهور، وبمعنى " بل "، فقط، عند غيرهم، و﴿ عجبا ﴾ : خبر كان، و﴿ من آياتنا ﴾ : حال منه.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ أم حَسِبْتَ ﴾ أي : ظننت يا محمد، والمراد : حسبان أمته ﴿ أنَّ أصحابَ الكهف ﴾، وهو الغار الواسع في الجبل. واختُلف في موضعه ؛ فقيل : بقرب فلسطين، وقيل : بالأندلس بمقربة من لوشة في جهة غرناطة. وذكر ابن عطية أنه دخل كهفهم، وفيه موتى، ومعهم كلبهم، وعليهم مسجد، وقريب منه بناء يقال له الرَّقِيم، قد بقي موضع جدرانه، وفي تلك الجهة آثار يقال لها : مدينة " دقيوس "، والله أعلم. وقال ابن جزي : ومما يُبعد ذلك ما رُوي أن معاوية مرَّ عليهم، وأراد الدخول إليهم ولم يدخل، هيبةً، ومعاوية لم يدخل الأندلس قط، وأيضا : فإن الموتى في لَوْشة يراهم الناس، ولا يدرك أحد الرعب الذي ذكر الله في أهل الكهف. ه.
والمشهور : أن الرقيم هو اللوح المكتوب فيه أسماؤهم وأنسابهم، وكان جُعِل ذلك الكتاب في خزانة الملك، وهو لوح من رصاص أو حجر، أمر بكتب أسمائهم فيه لما شكا قومُهم فقْدَهم. وقيل : اسم كلبهم.
أي : أظننت أنهم ﴿ كانوا ﴾ في قصتهم ﴿ من ﴾ بين ﴿ آياتنا عَجَبًا ﴾ أي : كانوا عجبًا دون باقي آياتنا، ليس الأمر كذلك. والمعنى : أن قصتهم، وإن كانت خارقة للعادة، ليست بعجيبة، بالنسبة إلى سائر الآيات التي من تعاجيبها ما ذكر من خلق الله تعالى على الأرض، من الأجناس والأنواع الفائتة الحصر من مادة واحدة، بل هي عندها كالنزر الحقير. وقال القشيري : أزال موضع الأعجوبة من أوصافهم، بما أضاف إلى نفسه بقوله :﴿ من آياتنا ﴾، وقَلْبُ العادةِ مِنْ قِبَلِ اللهِ غيرُ مُسْتَنْكَرٍ ولا مُبْتَدَعٍ. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : عادته تعالى فيمن انقطع إليه بكليته، وآوى إلى كهف رعايته، وأيس من رفق مخلوقاته، أن يكلأه بعين عنايته، ويرعاه بحفظ رعايته، ويُغَيِّبَ سمع قلبه عن صوت الأكدار، ويصون عين بصيرته عن رؤية الأغيار، حين انحاشوا إلى حِمى رحمته المانع، وتظللوا تحت ظل رشده الواسع. وبالله التوفيق.
و﴿ إذ أوى ﴾ : ظرف لعجبا، لا لحسبت، أو مفعول اذكر، أي : اذكر هذا الوقت العجيب، وهو حين التجأ الفتية إلى الكهف، و﴿ لنا ﴾ و﴿ من أمرنا ﴾ : يتعلق ب﴿ هيئ ﴾.
ثم ذكر أول قصتهم، فقال :﴿ إِذْ أوى الفتيةُ ﴾ : جمع فتى، وهو الشاب الكامل، أي : اذكر حين التجأ الفتية إلى الكهف، هاربين بدينهم، خائفين على إيمانهم من كفار قومهم، ورأسهم " دقيانوس "، على ما يأتي في قصتهم.
﴿ فقالوا ﴾ ؛ حين دخلوا الغار :﴿ ربَّنا آتنا من لدُنك ﴾ ؛ من مستبطن أمورك وخزائن رحمتك الخاصة المكنونة عن أعين العادات، ﴿ رحمةً ﴾ خاصة تستوجب الرفق والأمن من الأعداء، ﴿ وَهَيِّئ ﴾ : أصلح ﴿ لنا من أمرنا ﴾ الذي نحن عليه من مفارقة الكفار ومهاجرتهم، ﴿ رَشَدًا ﴾ : هداية نصير بها راشدين مهتدين، أو : اجعل أمرنا كله رشدًا وصوابًا، كقولك : لقيت منك أسدًا، فتكون من باب التجريد، أو : إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب، وأصل التهيئة : إحداث هيئة الشيء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : عادته تعالى فيمن انقطع إليه بكليته، وآوى إلى كهف رعايته، وأيس من رفق مخلوقاته، أن يكلأه بعين عنايته، ويرعاه بحفظ رعايته، ويُغَيِّبَ سمع قلبه عن صوت الأكدار، ويصون عين بصيرته عن رؤية الأغيار، حين انحاشوا إلى حِمى رحمته المانع، وتظللوا تحت ظل رشده الواسع. وبالله التوفيق.
﴿ فَضَرَبْنَا على آذانهم ﴾ أي : أَنَمْنَاهُمْ، شبَّه الإنامة الثقيلة المانعة من وصول الأصوات إلى الآذان بضرب الحجاب عليها، وتخصيص الآذان بالذكر مع اشتراك سائر المشاعر لها في الحَجْب عن الشعور عند النوم ؛ لأنها تحتاج إلى الحجب أكثر، إذ هي الطريقة للتيقظ غالبًا. والفاء في ﴿ فضربنا ﴾ : مثلها في قوله :﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ ﴾ [ الأنبياء : ٩٠ ]، بعد قوله :﴿ إِذ نادى ﴾، فإنَّ الضرب المذكور، وما ترتب عليه من التقليب ذات اليمين وذات الشمال، والبعث، وغير ذلك، إيتاءُ رحمةٍ لَدُنِّيَّةٍ خفيةٍ عن أبصار المستمسكين بالأسباب العادية ؛ استجابة لدعوتهم، أي : فاستجبنا لهم وأَنَمْناهم، ﴿ في الكهف سنينَ عددًا ﴾ أي : ذوات عدد، أو تُعَدُّ عددًا، أو معدودة، ووصْف السنين بذلك : إمَّا للتكثير، وهو الأنسب بكمال القدرة، أو التقليل، وهو الأليق بمقام إنكار كون القصة عجبًا من سائر الآيات العجيبة ؛ فإن مدة لبثهم كبعض يوم عنده تعالى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : عادته تعالى فيمن انقطع إليه بكليته، وآوى إلى كهف رعايته، وأيس من رفق مخلوقاته، أن يكلأه بعين عنايته، ويرعاه بحفظ رعايته، ويُغَيِّبَ سمع قلبه عن صوت الأكدار، ويصون عين بصيرته عن رؤية الأغيار، حين انحاشوا إلى حِمى رحمته المانع، وتظللوا تحت ظل رشده الواسع. وبالله التوفيق.
و﴿ أي الحزبين ﴾ : معلق لنعلم عن المفعولين ؛ لما فيه من معنى الاستفهام، وهو مبتدأ، و " أحصى " : خبره، وهو فعل ماض، و﴿ أمدا ﴾ مفعوله.
و﴿ لما لبثوا ﴾ : حال منه، أو مفعول " أحصى "، واللام زائدة و﴿ ما ﴾ : موصولة، و﴿ أمدا ﴾ تمييز، وقيل :﴿ أحصى ﴾ : اسم تفضيل، من الإحصاء بحذف الزوائد، و﴿ أمدا ﴾ : منصوب بفعل دل عليه أحصى، أي : يحصى كقوله١ :
وأضرب منا بالسيوف القوانسا ***. . .
لأن اسم التفضيل لا ينصب المفعول به، إجماعًا، ويجوز أن يكون تمييزًا بعد اسم التفضيل.
﴿ ثم بعثناهم ﴾ ؛ أيقظناهم من تلك النومة الشبيهة بالموت، ﴿ لنعْلَمَ ﴾ علم مشاهدة، أي : ليتعلق علمنا تعلقًا حاليًّا كتعلقه أولاً تعلقًا استقباليًّا، ﴿ أيُّ الحزبين ﴾ : الفريقين المختلفين في مدة لبثهم المذكور في قوله :﴿ قالوا لبثنا يومًا. . . ﴾ الخ، ﴿ أحْصَى ﴾ أي : أضبط ﴿ لِما لَبِثُوا ﴾ : للبثهم، ﴿ أمدًا ﴾ أي : غاية، فيظهر بذلك عجزهم، ويُفوضوا ذلك إلى العليم الخبير، ويتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، من حفظ أبدانهم وأديانهم، فيزدادوا يقينًا بكمال قدرته وعلمه، وليتيقنوا به أمر البعث، ويكون ذلك لطفًا بمؤمني زمانهم، وآية بينة لكفارهم، وعبرةً لمن يأتي بعدهم، فهذه حِكَمُ إيقاظهم بعد نومهم، والله عليم حكيم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : عادته تعالى فيمن انقطع إليه بكليته، وآوى إلى كهف رعايته، وأيس من رفق مخلوقاته، أن يكلأه بعين عنايته، ويرعاه بحفظ رعايته، ويُغَيِّبَ سمع قلبه عن صوت الأكدار، ويصون عين بصيرته عن رؤية الأغيار، حين انحاشوا إلى حِمى رحمته المانع، وتظللوا تحت ظل رشده الواسع. وبالله التوفيق.

١ صدر البيت:
أكر وأحمى للحقيقة منهم ***...
والبيت للعباس بن مرداس في ديوانه ص٦٩، والأصمعيات ص٢٠٥، وحماسة البحتري ص٤٨، وخزانة الأدب ٨/٣١٩، وشرح التصريح ١/٣٣٩، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص٤٤١، ولسان العرب (قنس)..

ثم تمم قصتهم، فقال :
﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ * ﴿ وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إِلهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً ﴾ * ﴿ هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ﴾ * ﴿ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً ﴾
قلت :﴿ بالحق ﴾ : إما صفة لمصدر محذوف، أو حال من ضمير " نَقُصُّ "، أو من " نبأهم "، أو صفة له، على رأي من يرى حذف الموصول مع بعض صلته، أي : نَقُصُّ قصصًا ملتبسًا بالحق، أو نقصه متلبسين بالحق، أو نقص نبأهم ملتبسًا بالحق، أو نبأهم الذي هو ملتبس بالحق.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ نحن نقصُّ عليك نبأَهم ﴾، والنبأ : الخبر الذي له شأن وخطر، قصصًا ملتبسًا ﴿ بالحق ﴾ : بالصدق الذي لا يطرقه كذب ولا ريبة.
وخبرهم، حسبما ذكر محمد بن إسحاق : أنه قد مرج أهل الإنجيل، وظهرت فيهم الخطايا، وطغت ملوكهم، فعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وكان مَنْ بَالَغَ في ذلك وعتا عتوًا كبيرًا :" دقيانوس " ؛ فإنه غلا فيه غلوًا كبيرًا، فجاس خلال الديار والبلاد ؛ بالعبث والفساد، وقتل من خالفه ممن تمسك بدين المسيح، وكان يتتبع الناس فيُخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان، فمن رغب في الحياة الدنيا الدنية : تبعه وصنع ما يصنع، ومن آثر عليها الحياة الأبدية : قتله وقطع آرابه، وعلّقها بسور المدينة وأبوابها. فلما رأى الفتيةُ ذلك، وكانوا عظماء مدينتهم، وكانوا بني الملوك، قاموا فتضرعوا إلى الله تعالى، واشتغلوا بالصلاة والدعاء، فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أعوان الجبار، فأحضروهم بين يديه، فقال لهم ما قال، فخيَّرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان، فقالوا : إن لنا إلهًا ملأ السماواتِ والأرض عظمةً وجبروتًا، لن ندعو من دونه أحدًا، ولن نُقر بما تدعونا إليه أبدًا، فاقض ما أنت قاض، فأمر بنزع ما عليهم من الثياب الفاخرة، وأخرجهم من عنده. زاد في رواية : وضمنهم أهلهم، وخرج إلى مدينة ( نينوى ) ؛ لبعض شأنه، وأمهلهم إلى رجوعه ؛ ليتأملوا في أمرهم، وإلاَّ فعل بهم ما فعل بسائر المسلمين.
فأجمعت الفتيةُ على الفرار والالتجاء إلى الكهف الحصين، فأخذ كلٍّ منهم من بيت أبيه شيئًا، فتصدقوا ببعضه، وتزودوا بالباقي، فأَوَوْا إلى الكهف. وفي رواية : أنهم مروا بكلب فتبعهم، على ما يأتي في شأنه، فجعلوا يُصَلُّون في ذلك الكهف آناء الليل وأطراف النهار، ويبتهلون إلى الله - سبحانه - بالأنين والجُؤَار، ففوضوا أمر نفقتهم إلى " يمليخا "، فكان إذا أصبح يضع عنه ثيابه الحسان، ويلبس ثياب المساكين، ويدخل المدينة ويشتري ما يهمهم، ويتحسس ما فيها من الأخبار، ويعود إلى أصحابه، فلبثوا على ذلك إلى أن قَدِم الجبارُ المدينةَ فطلبهم، وأحضر آباءهم، فاعتذروا بأنهم عَصَوْهم ونهبوا أموالهم، وبذروها في الأسواق، وفروا إلى الجبل.
فلما رأى " يمليخا " ما رأى من الشر رجع إلى أصحابه وهو يبكي، ومعه قليل من الزاد، فأخبرهم بما شهد من الهول، ففزعوا إلى الله - عزّ وجلّ - وخروا له سُجدًا، ثم رفعوا رؤوسهم وجلسوا يتحدثون في أمرهم، فبينما هم كذلك إذ ضرب الله على آذانهم فناموا، ونفقتُهم عند رؤوسهم. فخرج " دقيانوس " في طلبهم بخيله ورَجله، فوجدهم قد دخلوا الكهف، فأمر بإخراجهم فلم يُطق أحدٌ منهم أن يَدخله، فلما ضاق بهم ذرعًا، قال قائل منهم : أليس لو كنتَ قدرتَ عليهم قتلتهم ؟ قال : بلى. قال : فابْنِ عليهم باب الكهف وَدَعْهم يموتوا ؛ جُوعًا وعَطَشًا، ففعل فكان شأنهم ما قص الله تعالى، إذ قال :
﴿ إِنهم فتيةٌ ﴾، استئناف بياني، كأن سائلاً سأل عن حالهم، فقال : إنهم فتية شبان كاملون في الفتوة ﴿ آمنوا بربهم ﴾، فيه التفات إلى ذكر الربوبية التي اقتضت تربيتهم وحفظهم، ﴿ وزدناهم هُدىً ﴾ ؛ بأن ثبَّتناهم على ما كانوا عليه، وأظهرنا لهم من مكنونات محاسننا ما آثروا به الفناء على البقاء. وفيه التفات إلى التكلم ؛ لزيادة الاعتناء بشأنهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد وصف الله - تعالى - أهلَ الكهف بخمسة أوصاف هي من شعار الصوفية ؛ الإيمان، الذي هو الأساس، وزيادة الاهتداء بتربية الإيقان إلى الوصول إلى صريح العرفان، وربط القلب في حضرة الرب، والقيام في إظهار الحق أو لداعي الوجد، والصدع بالحق من غير مبالاة بأحد من الخلق.
وقال الورتجبي في قوله تعالى :﴿ وزدناهم هُدىً ﴾ : أي : زدناهم نورًا من جمالي، فاهتدوا به طرق معارف ذاتي وصفاتي، وذلك النور لهم على مزيد الوضوح إلى الأبد ؛ لأن نوري لا نهاية له. وقال عند قوله :﴿ إِذ قاموا ﴾ : قد استدل بهذه الآية بعضُ المشايخ على حركة الواجدين في وقت السماع والذكر ؛ لأن القلوب إذا كانت مربوطة بالملكوت ومحل القدس حرَّكها أنواعُ الأذكار وما يَرِد عليها من فنون السماع. والأصل قوله :﴿ وربطنا على قلوبهم إِذ قاموا ﴾، نعم هذا المعنى إذا كان القيام قيامًا بالصورة، أي : الحسية في القيام الحسي، وإذا كان القيام من جهة الحفظ والرعاية، والربط من جهة النقل من محل التلوين إلى محل التمكين، فالاستدلال بها في السكون في الوجد أحسن، إذا كان الربط بمعنى التسكين والقيام بمعنى الاستقامة. هـ.
قلت : الحاصل : أنا إذا حملنا القيام على الحسي ففيه دليل لأهل البداية على القيام في الذكر والسماع. وإذا حملناه على القيام المعنوي، وهو النهوض في الشيء، أو الاستقامة عليه كان فيه دلالة لأهل النهاية على السكون وعدم التحرك، وكأنه يشير إلى قضية الجنيد في بدايته ونهايته. والله تعالى أعلم.
وقال ابن لب : قد اشتهر الخلاف بين العلماء في القيام لذكر الله - تعالى - وقد أباحته الصوفية، وفعلته ودامت عليه، واستفادوه من كتاب الله تعالى من قوله - عزّ وجلّ - في أصحاب الكهف :﴿ إِذ قاموا فقالوا ربُّنا ربُّ السماوات والأرض ﴾، وإن كانت الآية لها محامل أخرى سوى هذا. هـ. قلت : وقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً ﴾ [ آل عمران : ١٩١ ] : صريح في الجواز.
وقال في القوت : وقد روينا أنه صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل يظهر التأوه والوجد، فقال مَنْ كان معه : أتراه يا رسولَ الله مُرائيًا ؟ فقال :" لا، بل أوّاه منيب " ١، وقال لآخر : أظهر صوته بالآية :" أسْمِع الله عزَّ وجّل ولا تُسَمِّع "، فأنكر عليه بما شهد فيه، ولم ينكر على أبي موسى قوله :( لو علمتُ أنك تَسمع لحبَّرته لك تحبيرًا ) ؛ لأنه ذو نية في الخير وحسن قصد به، ولذا كل من كان له حسن قصد، ونية خير، في إظهار عمل، فليس من السمعة والرياء في شيء ؛ لتجرده من الآفة الدنيوية، وهي الطمع والمدح. هـ.

و﴿ إذ قاموا ﴾ : ظرف لربطنا، ﴿ وشططًا ﴾ : صفة لمحذوف، أي : قولاً شططًا، أي : ذا شطط، وُصِف به ؛ للمبالغة.
﴿ وربطنا على قلوبهم ﴾ أي : قويناهم، حتى اقتحموا مضايق الصبر على هجر الأهل والأوطان، والنعيم والإخوان، واجترأوا على الصدع بالحق من غير خوف ولا حذر، والرد على دقيانوس الجبار ؛ ﴿ إِذْ قاموا ﴾ أي : انتصبوا لإظهار شعار الدين، قال مجاهد : خرجوا من المدينة فاجتمعوا على غير ميعاد. فقال أكبرهم : إني لأجد في نفسي شيئًا، إن ربي هو رب السماوات والأرض، فقالوا : نحن أيضًا كذلك، فقاموا جميعًا ﴿ فقالوا ربُنا ربُّ السماواتِ والأرضِ ﴾، وعزموا على التصميم بذلك. وقيل : قاموا بين يدي الجبار من غير مبالاة به، حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام، فحينئذ يكون ما سيأتي من قوله تعالى :﴿ هؤلاء. . . ﴾ الخ : منقطعًا صادرًا عنهم، بعد خروجهم من عنده.
ثم قالوا :﴿ لن ندعوَ من دونه إِلهًا ﴾، لا استقلالاً ولا اشتراكًا، ولم يقولوا : ربًا ؛ للتصميم على الرد على المخالفين، حيث كانوا يُسمون أصنامهم آلهة، وللإشعار بأن مدار العبودية على وصف الألوهية. ﴿ لقد قُلنا إِذًا شَطَطًا ﴾ : قولاً ذا شطط، وهو الجور والتعدي، أي : لقد جُرنا وأفرطنا في الكفر، وقلنا قولاً خارجًا عن حد المعقول، إنْ دعونا إلهًا غير الله جَزْمًا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد وصف الله - تعالى - أهلَ الكهف بخمسة أوصاف هي من شعار الصوفية ؛ الإيمان، الذي هو الأساس، وزيادة الاهتداء بتربية الإيقان إلى الوصول إلى صريح العرفان، وربط القلب في حضرة الرب، والقيام في إظهار الحق أو لداعي الوجد، والصدع بالحق من غير مبالاة بأحد من الخلق.
وقال الورتجبي في قوله تعالى :﴿ وزدناهم هُدىً ﴾ : أي : زدناهم نورًا من جمالي، فاهتدوا به طرق معارف ذاتي وصفاتي، وذلك النور لهم على مزيد الوضوح إلى الأبد ؛ لأن نوري لا نهاية له. وقال عند قوله :﴿ إِذ قاموا ﴾ : قد استدل بهذه الآية بعضُ المشايخ على حركة الواجدين في وقت السماع والذكر ؛ لأن القلوب إذا كانت مربوطة بالملكوت ومحل القدس حرَّكها أنواعُ الأذكار وما يَرِد عليها من فنون السماع. والأصل قوله :﴿ وربطنا على قلوبهم إِذ قاموا ﴾، نعم هذا المعنى إذا كان القيام قيامًا بالصورة، أي : الحسية في القيام الحسي، وإذا كان القيام من جهة الحفظ والرعاية، والربط من جهة النقل من محل التلوين إلى محل التمكين، فالاستدلال بها في السكون في الوجد أحسن، إذا كان الربط بمعنى التسكين والقيام بمعنى الاستقامة. هـ.
قلت : الحاصل : أنا إذا حملنا القيام على الحسي ففيه دليل لأهل البداية على القيام في الذكر والسماع. وإذا حملناه على القيام المعنوي، وهو النهوض في الشيء، أو الاستقامة عليه كان فيه دلالة لأهل النهاية على السكون وعدم التحرك، وكأنه يشير إلى قضية الجنيد في بدايته ونهايته. والله تعالى أعلم.
وقال ابن لب : قد اشتهر الخلاف بين العلماء في القيام لذكر الله - تعالى - وقد أباحته الصوفية، وفعلته ودامت عليه، واستفادوه من كتاب الله تعالى من قوله - عزّ وجلّ - في أصحاب الكهف :﴿ إِذ قاموا فقالوا ربُّنا ربُّ السماوات والأرض ﴾، وإن كانت الآية لها محامل أخرى سوى هذا. هـ. قلت : وقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً ﴾ [ آل عمران : ١٩١ ] : صريح في الجواز.
وقال في القوت : وقد روينا أنه صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل يظهر التأوه والوجد، فقال مَنْ كان معه : أتراه يا رسولَ الله مُرائيًا ؟ فقال :" لا، بل أوّاه منيب " ١، وقال لآخر : أظهر صوته بالآية :" أسْمِع الله عزَّ وجّل ولا تُسَمِّع "، فأنكر عليه بما شهد فيه، ولم ينكر على أبي موسى قوله :( لو علمتُ أنك تَسمع لحبَّرته لك تحبيرًا ) ؛ لأنه ذو نية في الخير وحسن قصد به، ولذا كل من كان له حسن قصد، ونية خير، في إظهار عمل، فليس من السمعة والرياء في شيء ؛ لتجرده من الآفة الدنيوية، وهي الطمع والمدح. هـ.

و﴿ هؤلاء ﴾ : مبتدأ، وفي اسم الإشارة تحقير لهم، و﴿ قومنا ﴾ : عَطْفُ بيانٍ له. و﴿ اتخذوا ﴾ : خبر.
﴿ هؤلاء قومُنَا ﴾ قد ﴿ اتخذوا من دونه آلهةً ﴾، فيه معنى الإنكار، ﴿ لولا ﴾ : هلا ﴿ يأتونَ عليهم ﴾ : على ألوهيتهم ﴿ بسلطان بَيِّن ﴾ : بحجة ظاهرة، ﴿ فمن أظلمُ ﴾ أي : لا أحد أظلم ﴿ ممن افترى على الله كذبًا ﴾ بنسبة الشريك إليه ؛ فإنه أظلم من كل ظالم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد وصف الله - تعالى - أهلَ الكهف بخمسة أوصاف هي من شعار الصوفية ؛ الإيمان، الذي هو الأساس، وزيادة الاهتداء بتربية الإيقان إلى الوصول إلى صريح العرفان، وربط القلب في حضرة الرب، والقيام في إظهار الحق أو لداعي الوجد، والصدع بالحق من غير مبالاة بأحد من الخلق.
وقال الورتجبي في قوله تعالى :﴿ وزدناهم هُدىً ﴾ : أي : زدناهم نورًا من جمالي، فاهتدوا به طرق معارف ذاتي وصفاتي، وذلك النور لهم على مزيد الوضوح إلى الأبد ؛ لأن نوري لا نهاية له. وقال عند قوله :﴿ إِذ قاموا ﴾ : قد استدل بهذه الآية بعضُ المشايخ على حركة الواجدين في وقت السماع والذكر ؛ لأن القلوب إذا كانت مربوطة بالملكوت ومحل القدس حرَّكها أنواعُ الأذكار وما يَرِد عليها من فنون السماع. والأصل قوله :﴿ وربطنا على قلوبهم إِذ قاموا ﴾، نعم هذا المعنى إذا كان القيام قيامًا بالصورة، أي : الحسية في القيام الحسي، وإذا كان القيام من جهة الحفظ والرعاية، والربط من جهة النقل من محل التلوين إلى محل التمكين، فالاستدلال بها في السكون في الوجد أحسن، إذا كان الربط بمعنى التسكين والقيام بمعنى الاستقامة. هـ.
قلت : الحاصل : أنا إذا حملنا القيام على الحسي ففيه دليل لأهل البداية على القيام في الذكر والسماع. وإذا حملناه على القيام المعنوي، وهو النهوض في الشيء، أو الاستقامة عليه كان فيه دلالة لأهل النهاية على السكون وعدم التحرك، وكأنه يشير إلى قضية الجنيد في بدايته ونهايته. والله تعالى أعلم.
وقال ابن لب : قد اشتهر الخلاف بين العلماء في القيام لذكر الله - تعالى - وقد أباحته الصوفية، وفعلته ودامت عليه، واستفادوه من كتاب الله تعالى من قوله - عزّ وجلّ - في أصحاب الكهف :﴿ إِذ قاموا فقالوا ربُّنا ربُّ السماوات والأرض ﴾، وإن كانت الآية لها محامل أخرى سوى هذا. هـ. قلت : وقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً ﴾ [ آل عمران : ١٩١ ] : صريح في الجواز.
وقال في القوت : وقد روينا أنه صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل يظهر التأوه والوجد، فقال مَنْ كان معه : أتراه يا رسولَ الله مُرائيًا ؟ فقال :" لا، بل أوّاه منيب " ١، وقال لآخر : أظهر صوته بالآية :" أسْمِع الله عزَّ وجّل ولا تُسَمِّع "، فأنكر عليه بما شهد فيه، ولم ينكر على أبي موسى قوله :( لو علمتُ أنك تَسمع لحبَّرته لك تحبيرًا ) ؛ لأنه ذو نية في الخير وحسن قصد به، ولذا كل من كان له حسن قصد، ونية خير، في إظهار عمل، فليس من السمعة والرياء في شيء ؛ لتجرده من الآفة الدنيوية، وهي الطمع والمدح. هـ.

و﴿ ما يعبدون ﴾ : موصول، عطف على الضمير المنصوب، أو مصدرية، أي : وإذ اعتزلتموهم ومَعْبُودِيهِمْ إلا الله، أو عبادتهم إلا عبادة الله، وعلى التقديرين : فالاستثناء متصل على تقدير أنهم كانوا مشركين يعبدون الله والأصنام. ومنقطع ؛ على تقدير تمحضهم بعبادة الأوثان، ويجوز أن تكون ﴿ ما ﴾ نافية ؛ على أنه إخبار من الله - تعالى - عن الفتية بالتوحيد، معترض بين " إذ " وجوابه العامل فيها.
﴿ وإذ اعتزلتموهم ﴾ أي : فارقتموهم ﴿ و ﴾ فارقتم ﴿ ما يعبدون إِلا الله فَأْووا إِلى الكهف ﴾ : فالتجئوا إليه، والمعنى : وإذا اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقاديًا فاعتزلوهم اعتزالاً جسمانيًا، ﴿ ينشرْ لكم ربٌُّكم ﴾ : يبسط لكم ويوسع عليكم ﴿ من رحمته ﴾ في الدارين، ﴿ ويهيئ لكم من أمركم ﴾ الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين، ﴿ مِرْفَقًا ﴾ : ما ترتفقون به، أي : تنتفعون، وجزمهم بذلك ؛ لنصوع يقينهم، وقوة وثوقهم بفضل الله. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد وصف الله - تعالى - أهلَ الكهف بخمسة أوصاف هي من شعار الصوفية ؛ الإيمان، الذي هو الأساس، وزيادة الاهتداء بتربية الإيقان إلى الوصول إلى صريح العرفان، وربط القلب في حضرة الرب، والقيام في إظهار الحق أو لداعي الوجد، والصدع بالحق من غير مبالاة بأحد من الخلق.
وقال الورتجبي في قوله تعالى :﴿ وزدناهم هُدىً ﴾ : أي : زدناهم نورًا من جمالي، فاهتدوا به طرق معارف ذاتي وصفاتي، وذلك النور لهم على مزيد الوضوح إلى الأبد ؛ لأن نوري لا نهاية له. وقال عند قوله :﴿ إِذ قاموا ﴾ : قد استدل بهذه الآية بعضُ المشايخ على حركة الواجدين في وقت السماع والذكر ؛ لأن القلوب إذا كانت مربوطة بالملكوت ومحل القدس حرَّكها أنواعُ الأذكار وما يَرِد عليها من فنون السماع. والأصل قوله :﴿ وربطنا على قلوبهم إِذ قاموا ﴾، نعم هذا المعنى إذا كان القيام قيامًا بالصورة، أي : الحسية في القيام الحسي، وإذا كان القيام من جهة الحفظ والرعاية، والربط من جهة النقل من محل التلوين إلى محل التمكين، فالاستدلال بها في السكون في الوجد أحسن، إذا كان الربط بمعنى التسكين والقيام بمعنى الاستقامة. هـ.
قلت : الحاصل : أنا إذا حملنا القيام على الحسي ففيه دليل لأهل البداية على القيام في الذكر والسماع. وإذا حملناه على القيام المعنوي، وهو النهوض في الشيء، أو الاستقامة عليه كان فيه دلالة لأهل النهاية على السكون وعدم التحرك، وكأنه يشير إلى قضية الجنيد في بدايته ونهايته. والله تعالى أعلم.
وقال ابن لب : قد اشتهر الخلاف بين العلماء في القيام لذكر الله - تعالى - وقد أباحته الصوفية، وفعلته ودامت عليه، واستفادوه من كتاب الله تعالى من قوله - عزّ وجلّ - في أصحاب الكهف :﴿ إِذ قاموا فقالوا ربُّنا ربُّ السماوات والأرض ﴾، وإن كانت الآية لها محامل أخرى سوى هذا. هـ. قلت : وقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً ﴾ [ آل عمران : ١٩١ ] : صريح في الجواز.
وقال في القوت : وقد روينا أنه صلى الله عليه وسلم مرَّ برجل يظهر التأوه والوجد، فقال مَنْ كان معه : أتراه يا رسولَ الله مُرائيًا ؟ فقال :" لا، بل أوّاه منيب " ١، وقال لآخر : أظهر صوته بالآية :" أسْمِع الله عزَّ وجّل ولا تُسَمِّع "، فأنكر عليه بما شهد فيه، ولم ينكر على أبي موسى قوله :( لو علمتُ أنك تَسمع لحبَّرته لك تحبيرًا ) ؛ لأنه ذو نية في الخير وحسن قصد به، ولذا كل من كان له حسن قصد، ونية خير، في إظهار عمل، فليس من السمعة والرياء في شيء ؛ لتجرده من الآفة الدنيوية، وهي الطمع والمدح. هـ.

ثم ذكر حالهم في الكهف، فقال :
﴿ وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذالِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً ﴾ * ﴿ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً ﴾
قلت :﴿ تزاور ﴾ أصله : تتزاور، فأُدغمت التاء في الزاي. وقرأ الكوفيون بحذفها، وابن عامر ويعقوب :" تَزَوَّرُ " كتَمرد، كلها من الزَّوْر بمعنى الميل. و﴿ ذات اليمين ﴾ : ظرف بمعنى الجهة. وجملة :﴿ وهم في فجوة ﴾ : حال.
يقول الحقّ جلّ جلاله : في بيان حالهم بعدما أووا إلى الكهف :﴿ وترى الشمسَ إِذا طلعت تزَاورُ ﴾ أي : تنتحي وتميل ﴿ عن كهفهم ﴾ الذي أووا إليه، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب. وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقًا، بل الإنباء بكون الكهف بحيث لو رأيته ترى الشمس إذا طلعت تميل عن كهفهم ﴿ ذاتَ اليمين ﴾ أي : جهة ذات يمين الكهف، عند الداخل إلى قعره، ﴿ وإِذا غَرَبَت ﴾ أي : وتراها إذا غربت ﴿ تَقْرِضُهم ﴾ أي : تقطعهم وتتعدى عنهم ﴿ ذاتَ الشمال ﴾ أي : جهته وجانبه الذي يلي المشرق. وكان ذلك بتصريف الله تعالى على منهاج خرق العادة ؛ كرامة لهم. وقيل : كان باب الكهف شماليًا يستقبل بنات نعش، ﴿ وهم في فجوةٍ منه ﴾ : في موضع واسع منه، وذلك موقع لإصابة الشمس، ومع ذلك يُنحيها الله عنهم.
﴿ ذلك من آيات الله ﴾ أي : ما صنع الله بهم من ميل الشمس عنهم عند طلوعها وغروبها، من آيات الله العجيبة الدالة على كمال علمه وقدرته، وفضيلة التوحيد وكرامة أهله عنده سبحانه. قال بعضهم : هذا قبل سد دقيانوس باب الكهف، قلت : كان قبل السد وبعد هدم السد ؛ لأنه هُدم بعدُ، فما قام أهل الكهف حتى وجدوه مهدومًا. وظاهر الآية يُرجح من قال : إنه من باب خرق العادة.
﴿ مَن يَهدِ الله فهو المهتدِ ﴾ الذي أصاب الفلاح. والمراد : إما الثناء عليهم، والشهادة بإصابة المطلوب، والإخبار بتحقيق ما أمَّلُوه من نشر الرحمة وتهيئة المرافق، أو التنبيه على أن أمثال هذه الآية كثيرة، ولكن المنتفع بها هو مَنْ وفقه الله وهداه للاستبصار بها، ﴿ ومن يُضلل ﴾ أي : يخلق فيه الضلال ؛ بصرف اختياره إليه، ﴿ فلن تجد له ﴾، ولو بالغت في التتبع والاستقصاء، ﴿ وليًّا ﴾ : ناصرًا ﴿ مُرشدًا ﴾، يهديه إلى ما ذكر من الفلاح. والجملة معترضة بين أجزاء القصة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : للصوفية - رضي الله عنهم - تشبه قويّ بأهل الكهف، في الانقطاع إلى الله، والتجرد عن كل ما سواه، والانحياش إلى الله، والفرار من كل ما يشغل عن الله، والتماس الرحمة الخاصة من الله، وطلب التهيئة لكل رشد وصواب، ولهذا المعنى ختم الشيخ القطب ابن مشيش تصليته المشهورة بما دَعَوْا به، حين أووا إلى كهف الإيواء ؛ تَشَبُّهًا بهم في مطلق الانقطاع والفرار من مواطن الحس. ولذلك لَمَّا تشبهوا بهم حفظهم الله - أي : الصوفية - ممن رام أذاهم، وغيّبهم عن حس أنفسهم، وأشهدهم عجائب لطفه وقدرته، ومن تمام التشبه بهم : أنك قلَّ أن تجد فرقة تُسافر منهم إلا ويتبعهم كلب يكون معهم، حتى شهدتُ ذلك في جُل أسفارنا مع الفقراء ؛ تحقيقًا لكمال التشبيه. والله تعالى أعلم.
و﴿ ذراعيه ﴾ : مفعول " باسط " ؛ لأنه حكاية حال، أي : يبسط، و﴿ فرارًا ﴾ : مصدر ؛ لأنه عبارة عن معنى التولية، أو حال، أي : لوليت فارًا، و﴿ رُعْبًا ﴾ : مفعول ثان لملئت، أو تمييز.
ثم قال :﴿ وتحسبُهُم ﴾ بالفتح والكسر، أي : تظنهم ﴿ أيقاظًا ﴾، لانفتاح أعينهم، أو لكثرة تقلبهم، وهو جمع " يقظ " ؛ بظم القاف وكسرها، ﴿ وهم رقود ﴾ أي : نيام، ﴿ ونُقلِّبهم ﴾ في رقودهم ﴿ ذاتَ اليمين ﴾ أي : جهة تلي أيمانهم، ﴿ وذات الشمال ﴾ أي : جهة تلي شمائلهم ؛ لكي لا تأكل الأرضُ ما يليها من أبدانهم. قال ابن عباس رضي الله عنه : لو لم يتقلبوا لأكلتهم الأرض.
قيل : كانوا يتقلبون مرتين في السنة. وقيل : مرة يوم عاشوراء. وقيل : في تسع سنين.
﴿ وكلبهم باسطٌ ذراعيه ﴾، حكاية حال ماضية أي : يبسط ذراعيه، وهو من المرفق إلى رأس الأصابع. ﴿ بالوصيد ﴾ أي : بموضع من الكهف، وقيل : بالفِناء من الكهف، وقيل : العَتَبة. وهذا الكلب، قيل : هو كلبٌ مَروا به فتبعهم، فطردوه مرارًا، فلم يرجع، فأنطقه الله، فقال : يا أولياء الله لا تخشوا إصابتي ؛ فإني أُحب أحباء الله، فناموا حتى أحرُسَكم. وقيل : هو كلبُ راعٍ مروا به فتبعهم على دينهم، ومر معه كلبه، ويؤيده قراءة :( وَكَالِبُهُمْ ) أي : وصاحب كلبهم، وقيل : هو كلب صيد لهم أو زرع، واختُلف في لونه ؛ قيل أحمر، وقيل : أصفر، وقيل : أصهب.
﴿ لو اطّلعتَ عليهم ﴾ أي : لو عاينتهم وشاهدتهم. والاطلاع : الإشراف على الشيء بالمعاينة والمشاهدة، ﴿ لولَّيت منهم فرارًا ﴾ : هربًا بما شاهدت منهم، ﴿ ولمُلئتَ منهم رُعْبًا ﴾، أي : خوفًا يملأ الصدور برُعبه، لِمَا ألبسهم الله من الرهبة، أو لعظم أجرامهم وانفتاح أعينهم، وكانت منفتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم. وعن معاوية : أنه غزا الروم فمرّ بالكهف، فقال : لو كُشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال ابن عباس رضي الله عنه : ليس لك ذلك ؛ قد منع الله تعالى مَنْ هو خير منك، حيث قال :﴿ لو اطلعت عليهم. . . ﴾ الآية، فلم يسمع، وقال : ما أنتهي حتى أعْلَم علمهم، فبعث ناسًا، وقال : اذهبوا فانظروا، ففعلوا، فلما دخلوا بعث الله ريحًا فأحرقتهم. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : للصوفية - رضي الله عنهم - تشبه قويّ بأهل الكهف، في الانقطاع إلى الله، والتجرد عن كل ما سواه، والانحياش إلى الله، والفرار من كل ما يشغل عن الله، والتماس الرحمة الخاصة من الله، وطلب التهيئة لكل رشد وصواب، ولهذا المعنى ختم الشيخ القطب ابن مشيش تصليته المشهورة بما دَعَوْا به، حين أووا إلى كهف الإيواء ؛ تَشَبُّهًا بهم في مطلق الانقطاع والفرار من مواطن الحس. ولذلك لَمَّا تشبهوا بهم حفظهم الله - أي : الصوفية - ممن رام أذاهم، وغيّبهم عن حس أنفسهم، وأشهدهم عجائب لطفه وقدرته، ومن تمام التشبه بهم : أنك قلَّ أن تجد فرقة تُسافر منهم إلا ويتبعهم كلب يكون معهم، حتى شهدتُ ذلك في جُل أسفارنا مع الفقراء ؛ تحقيقًا لكمال التشبيه. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر بعثهم من نومهم، فقال :
﴿ وَكَذالِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً ﴾ * ﴿ إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُواْ إِذاً أَبَداً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وكذلك ﴾ أي : وكما أنمناهم وحفظنا أجسادهم من البلاء والتحلل، وكان ذلك آية دالة على كمال قدرتنا، ﴿ بعثناهم ﴾ من النوم ﴿ ليتساءلوا بينهم ﴾ أي : ليسأل بعضُهم بعضًا، فيترتب عليه ما فصّل من الحِكَم البالغة، أو : ليتعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، فيزدادوا يقينًا على كمال قدرة الله، ويستبصروا أمر البعث، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم.
﴿ قال قائلٌ منهم ﴾ هو رئيسهم، واسمه :" مكْسلَيمنيا " :﴿ كم لبثتمْ ﴾ في منامكم ؟ لعله قال ذلك ؛ لِمَا رأى من مخالفة حالهم، لِمَا هو المعتاد في الجملة، ﴿ قالوا ﴾ أي : بعضهم :﴿ لبثنا يومًا أو بعض يوم ﴾، قيل : إنما قالوا ذلك ؛ لأنهم دخلوا الكهف غُدوة، وكان انتباههم آخر النهار، فقالوا :﴿ لبثنا يومًا ﴾، فلما رأوا أن الشمس لم تغرب بعدُ قالوا :﴿ أو بعض يوم ﴾، وكان ذلك إخبارًا عن ظنِّ غالب، فلم يُعْزَوْا إلى الكذب.
﴿ قالوا ﴾ أي : بعضٌ آخر منهم، بما سنح له من الأدلة، ولِمَا رأى من طول أظافرهم وشعورهم :﴿ ربكُم أعلمُ بما لبثتم ﴾ أي : أنتم لا تعلمون مدة لبثكم، وإنما يعلمها الله - سبحانه -، وهذا رد منهم على الأولين بأجمل ما يكون من حسن الأدب، ﴿ فابعثوا أحَدكم بورقكم هذه إِلى المدينة ﴾، أعرضوا عن البحث عن المدة، وأقبلوا على ما يهم في الوقت، والورق : الفضة، مضروبة أو غير مضروبة، ووصْفُها باسم الإشارة يقتضي أنها كانت معينة ليشتري بها قوت ذلك اليوم، وحملها دليل على أن التزود لا ينافي التوكل، وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يتزود لغار حراء ليتعبد فيه. ثم قالوا :﴿ فلينظر أيُّها ﴾ أي : أيُّ أهلها ﴿ أزكى طعامًا ﴾ أي : أحل وأطيب، أو أكثر وأرخص، ﴿ فليأتِكُمْ برزقٍ منه ﴾ أي : من ذلك الأزكى طعامًا، ﴿ وليتلطف ﴾ : وليتكلف اللطفَ في دخول المدينة وشراء الطعام، لئلا يُعرف، ﴿ ولا يُشْعِرَنَّ بكم أحدًا ﴾ ؛ ولا يخبر بكم ولا بمكانكم أحدًا من أهل المدينة، أو : لا يفعل ما يؤدي إلى ذلك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وكذلك بعثنا مَنْ توجه إلينا من نوم الغفلة والجهالة ليتساءلوا بينهم ؛ ليتعرفوا ما أنعم الله به عليهم من اليقظة والنجاة من البطالة، فإذا انتبهوا من نوم الغفلة، استصغروا أيام البطالة ؛ لأن أيام الغفلة قليلة أمدادها، وإن كثرت آمادها، وفي الحِكَم :" رب عمر اتسعت آماده، وقَلَّْتْ أمداده "، بخلاف زمان اليقظة، فإنه كثيرة أمداده، وإن قلّتْ آماده، فهو طويل ؛ معنىً، وإن قلَّ ؛ حسًا، ولذلك قال في الحِكَم أيضًا :" ورب عمر قليلةٌ آماده، كثيرةٌ أمداده ".
وقال أيضًا :" من بورك له في عمره : أدرك في يسيرٍ من الزمان مِنْ مِنَن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة ".
فإن توقفوا على قوت أشباحهم التمسوا أطيبه وأزكاه وأحله، فإنَّ أكل الحلال يُنور القلوب وينشط الأعضاء للطاعة، وتلطفوا في أخذه من غير مزاحمة ولا حرص ولا تعب، فإنْ أطلعهم الله على سره المكنون من أسرار ذاته بالغوا في إخفائه، حتى لا يُشْعروا به أحدًا من خلقه، غير من هو أهلٌ له ؛ لأنهم، إن أظهروه لغيرهم، رجموهم أو أعادوهم إلى ملتهم، بأن يقهروهم إلى الرجوع عن طريق القوم، ولن يفلحوا إذًا أبدًا. وبالله التوفيق.

ثم علل النهي بقوله :﴿ إِنهم إِن يَظْهَرُوا عليكم ﴾ : يطلعوا عليكم، أو يظفروا بكم، والضمير : للأهل المقدر في " أيها "، أي : إنَّ أهل المدينة إن يظفروا بكم ﴿ يَرجُموكم ﴾ إن ثبتم على ما أنتم عليه، ﴿ أو يُعيدوكم في مِلَّتهمْ ﴾ أي : يصيروكم إليها ويدخلوكم فيها ؛ كرهًا، كقوله تعالى :﴿ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ [ إبراهيم : ١٣ ]، وقيل : كانوا على ملتهم ثم خالفوهم للحق. ﴿ ولن تُفلحوا إِذًا ﴾ ؛ إن دخلتم فيها، ولو بالكره والجبر، ﴿ أبدًا ﴾، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وفيه من التشديد والتحذير ما لا يخفى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : وكذلك بعثنا مَنْ توجه إلينا من نوم الغفلة والجهالة ليتساءلوا بينهم ؛ ليتعرفوا ما أنعم الله به عليهم من اليقظة والنجاة من البطالة، فإذا انتبهوا من نوم الغفلة، استصغروا أيام البطالة ؛ لأن أيام الغفلة قليلة أمدادها، وإن كثرت آمادها، وفي الحِكَم :" رب عمر اتسعت آماده، وقَلَّْتْ أمداده "، بخلاف زمان اليقظة، فإنه كثيرة أمداده، وإن قلّتْ آماده، فهو طويل ؛ معنىً، وإن قلَّ ؛ حسًا، ولذلك قال في الحِكَم أيضًا :" ورب عمر قليلةٌ آماده، كثيرةٌ أمداده ".
وقال أيضًا :" من بورك له في عمره : أدرك في يسيرٍ من الزمان مِنْ مِنَن الله تعالى ما لا يدخل تحت دوائر العبارة ولا تلحقه الإشارة ".
فإن توقفوا على قوت أشباحهم التمسوا أطيبه وأزكاه وأحله، فإنَّ أكل الحلال يُنور القلوب وينشط الأعضاء للطاعة، وتلطفوا في أخذه من غير مزاحمة ولا حرص ولا تعب، فإنْ أطلعهم الله على سره المكنون من أسرار ذاته بالغوا في إخفائه، حتى لا يُشْعروا به أحدًا من خلقه، غير من هو أهلٌ له ؛ لأنهم، إن أظهروه لغيرهم، رجموهم أو أعادوهم إلى ملتهم، بأن يقهروهم إلى الرجوع عن طريق القوم، ولن يفلحوا إذًا أبدًا. وبالله التوفيق.

ثم ذكر اطلاع قوم أهل الكهف عليهم، فقال :
﴿ وَكَذالِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُواْ ابْنُواْ عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً ﴾ ﴿ سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً ﴾
قلت :﴿ إذ يتنازعون ﴾ : ظرف لقوله :﴿ أعثرنا ﴾، لا ليعلموا، أي : أعثرنا هم عليهم حين يتنازعون بينهم. . . الخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وكذلك ﴾ أي : وكما أنمناهم وبعثناهم لازدياد يقينهم ﴿ أعْثَرْنا عليهم ﴾ : أطلعنا الناس عليهم ﴿ ليَعْلموا ﴾ أي : ليعلم القوم الذين كانوا في ذلك الوقت ﴿ أنَّ وعد الله ﴾ أي : وعده بالبعث والثواب والعقاب ﴿ حقٌّ ﴾ صادق لا خُلْف فيه، أو : ثابت لا مرد له ؛ لأن نومهم وانتباههم كحال من يموت ثم يُبعث، ﴿ وأنَّ الساعة ﴾ أي : القيامة، التي هي عبارة عن وقت بعث الخلائق جميعًا ؛ للحساب والجزاء، ﴿ لا ريبَ فيها ﴾ : لا شك في قيامها، فإنَّ مَنْ شاهد أنه جلّ وعلا تَوفَّى نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنة وأكثر، حافظًا لأبدانها من التحلل والفساد، ثم أرسلها كما كانت، لا يبقى معه ريب، ولا يختلجه شك، في أن وعده تعالى حق، وأنه يبعث مَنْ في القبور، ويجازيهم بأعمالهم.
وكان ذلك الإعثار ﴿ إِذْ يتنازعون ﴾ : حين كانوا يتنازعون ﴿ بينهم أمْرَهُم ﴾، في أمر البعث مختلفين فيه ؛ ففرقة أقرّت، وفرقة جَحَدّتْ، وقائل يقول : تُبعث الأرواح فقط، وآخر يقول : تُبعث جميعُ الأجسام بالأرواح، قيل : كان ملك المدينة حينئذ رجلاً صالحًا، ملَكها ثمانيًا وعشرين سنة، ثم اختلف أهلُ مملكته في البعث كما تقدم، فدخل الملِكُ بيته وغلق الباب، ولبس مسحًا وجلس على رماد، وسأل ربه أن يظهر الحق، فألقى الله - عزّ وجلّ - في نفس رجل من ذلك البلد الذي فيه الكهف، أن يهدم بنيان فم الكهف، فهدم ما سدَّ به " دقيانوس " بابَ الكهفِ ؛ ليتخذه حظيرة لغنمه، فعند ذلك بعثهم الله - تعالى - فجرى بينهم من التقاول ما جرى.
رُوِيَ أنَّ المبعوث لمَّا دخل المدينة ؛ ليشتري الطعام، أخرج دراهمه، وكانت على ضرب ( دقيانوس )، فاتهموه أنه وجد كنزاً، فذهبوا به إلى الملك، فقص عليه القصة، فقال بعضهم : إن آباءنا أخبرونا أن فتية فروا بدينهم من ( دقيانوس )، فلعلهم هؤلاء، فانطلق الملكُ وأهلُ المدينة ؛ من مسلم وكافر، فدخلوا عليهم وكلموهم، ثم قالت الفتية للملك : نُودعك الله ونعيذك به من الإنس والجن، ثم رجعوا إلى مضاجعهم، فماتوا، فألقى المَلِكُ عليهم ثيابه، وجعل لكل منهم تابوتًا من ذهب، فرآهم في المنام كارهين للذهب، فجعلها من الساج، وبنى على باب الكهف مسجدًا. وقيل : لما انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى : مكانَكَم حتى أدخل أولاً ؛ لئلا يفزعوا، فدخل، فَعُمِّي عليهم المدخل، فبنوا ثَمَّةَ مسجدًا.
وقيل : المتنازَع فيه : أمر الفتية قبل بعثهم، أي : أعثرنا عليهم حين يتذاكرون بينهم أمرهم، وما جرى بينهم وبين دقيانوس من الأحوال والأهوال، ويتلقون ذلك من الأساطير وأفواه الرجال.
وعلى التقديرين : فالفاء في قوله :﴿ فقالوا ابنُوا ﴾ فصيحة، أي : أعثرنا عليهم فرأوا ما رأوا، ثم ماتوا، فقال بعضهم :﴿ ابنوا عليهم ﴾ : على باب كهفهم ﴿ بُنيانًا ﴾ ؛ لئلا يتطرق إليهم الناس، ففعلوا ذلك ؛ ضنًا بمقامهم ومحافظة عليهم.
ثم قالوا :﴿ ربهم أعلمُ بهم ﴾، كأنهم لما عجزوا عن إدراك حقيقة حالهم ؛ من حيث النسبة، ومن حيث العدد، ومن حيث بُعد اللبث في الكهف، قالوا ذلك ؛ تفويضًا إلى علام الغيوب. أو : يكون من كلامه سبحانه ؛ ردًا لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين، ﴿ قال الذين غلبوا على أمرهم ﴾، وهو الملك والمسلمون، وكانوا غالبين في ذلك الوقت :﴿ لنَتَّخِذَنَّ عليهم مسجدًا ﴾، فذكر في القصة أنه جعل على باب الكهف مسجدًا يصلي فيه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : عادة الحق تعالى في أوليائه أن يُخْفِيهم أولاً عن أعين الناس، رحمةً بهم ؛ إذ لو أظهرهم في البدايات ؛ لفتنوهم وردوهم إلى ما كانوا عليه، حتى إذا تخلصوا من البقايا، وتمكنوا من معرفة الحق وشهوده، أعثر عليهم من أراد سعادته ووصوله إلى حضرته ؛ ليعلموا أن وعد الله بإبقاء العدد الذين يحفظ الله بهم نظام العالم في كل زمان حق، وأنّ خراب العالم بانقراضهم، وقيام الساعة لا ريب فيه. وفي الآية تنبيه على ذم الخوض بما لا علم للعبد به، ومدح من رد العلم إلى الله في كل شيء. والله تعالى أعلم.
و﴿ رجمًا ﴾ : حال، أي : راجمين بالغيب، أو مفعول مُطلق، أي : يرجمون رجمًا.
ثم وقع الخوض في عهد نبينا - عليه الصلاة والسلام - بين نصارى نجران حين قدموا المدينة، فجرى بينهم ذكر أهل الكهف وبين المسلمين في عددهم، كما قال تعالى :﴿ سيقولون ثلاثةٌ رابعُهُم كلبهم ﴾، وهو قول اليعقوبية من النصارى، وكبيرهم السيد، وقيل : قالته اليهود، ﴿ ويقولون خمسة سادِسُهم كلبهُم ﴾، هو قول النسطورية منهم، وكبيرهم العاقب، ﴿ رجمًا بالغيب ﴾ : رميًا بالخبر من غير اطلاع على حقيقة الأمر، أو ظنًا بالغيب من غير تحقيق، ﴿ ويقولون سبعة وثامنهمْ كلبهم ﴾، وهو ما يقوله المسلمون بطريق التلقي من هذا الوحي، وعدم نظمه في سلك الرجم بالغيب، وتغيير سبكه ؛ بزيادة الواو المفيدة لزيادةِ تأكيد النسبة فيما بين طرفيها، يَقضي بصحته.
قال تعالى :﴿ قل ﴾ يا محمد ؛ تحقيقًا للحق، وردًا على الأولين :﴿ ربي أعلم بعدَّتهم ﴾ أي : ربي أقوى علمًا بعدتهم، ﴿ ما يعلمهم ﴾ أي : ما يعلم عددهم ﴿ إِلا قليلٌ ﴾ من الناس، قد وفقهم الله تعالى للاطلاع عليهم بالدلائل أو بالإلهام. قال ابن عباس رضي الله عنه :" أنا من ذلك القليل "، قال : حين وقعت الواو انقطعت العدة، وأيضًا حين سكت عنه تعالى ولم يقل : رجمًا بالغيب، علم أنه حق. وعن علي - كرم الله وجهه - : أنهم سبعة، أسماؤهم : يمليخا، وهو الذي ذهب بورقهم، ومكسيلمينيا، وهو أكبرهم والمتكلم عنهم، ومشلينا، وفي رواية الطبري : ومجْسَيْسِيا بدله، وهؤلاء أصحاب يمين الملك، وكان عن يساره : مرنوش ودبرنوش وجشاذنوس، وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره، والسابع : الراعي الذي تبعهم حين هربوا من دقيانوس، واسمه : كفشططيوش. وذكر ابن عطية عن الطبري غير هؤلاء، وكلهم عجميون، قال : والسندُ في معرفتهم واهْ. والله تعالى أعلم.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ فلا تُمَارِ ﴾ أي : لا تجادل ﴿ فيهم ﴾ ؛ في شأن أهل الكهف ﴿ إِلا مِراءً ظاهرًا ﴾ قدر ما تعرض له الوحي من وصفهم، من غير زيادة عليه، مع تفويض العلم إلى الله، فلا تُصرح بجهلهم، ولا تفضح خطأهم، فإنه يُخل بمكارم الأخلاق، ﴿ ولا تَسْتَفْتِ فيهم ﴾ : في شأنهم ﴿ منهم ﴾ ؛ من الخائضين ﴿ أحدًا ﴾ ؛ فإن فيما أوحي إليك لمندوحة عن ذلك، مع أنهم لا علم لهم بذلك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : عادة الحق تعالى في أوليائه أن يُخْفِيهم أولاً عن أعين الناس، رحمةً بهم ؛ إذ لو أظهرهم في البدايات ؛ لفتنوهم وردوهم إلى ما كانوا عليه، حتى إذا تخلصوا من البقايا، وتمكنوا من معرفة الحق وشهوده، أعثر عليهم من أراد سعادته ووصوله إلى حضرته ؛ ليعلموا أن وعد الله بإبقاء العدد الذين يحفظ الله بهم نظام العالم في كل زمان حق، وأنّ خراب العالم بانقراضهم، وقيام الساعة لا ريب فيه. وفي الآية تنبيه على ذم الخوض بما لا علم للعبد به، ومدح من رد العلم إلى الله في كل شيء. والله تعالى أعلم.
ثم نهى نبيه عن المجادلة بعد وضوح الحق فقال :
* ﴿ وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْيء إِنِّي فَاعِلٌ ذلِكَ غَداً ﴾ * ﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً ﴾ * ﴿ وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِاْئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُواْ تِسْعاً ﴾ * ﴿ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً ﴾
﴿ ولا تقولنّ لشيء ﴾ أي : لأجل شيء تعزم عليه :﴿ إِني فاعلٌ ذلك ﴾ الشيء ﴿ غدًا ﴾ : فيما يستقبل من الزمان مطلقًا، فيصدق بالغد وما بعده ؛ لأنه نزل حين قالت اليهود لقريش : سلوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين. فسألوه صلى الله عليه وسلم فقال :" غدًا أخبركم "، ولم يستثن، فأبطأ عليه الوحي، حتى شقَّ عليه، وكذبته قريشٌ، ثم نزلت السورة بعد أربعة عشر يومًا، أو قريبًا منها١، على ما ذكره أهل السِّيَر، أي : لا تَقُلْ إني فاعل شيئًا في حال من الأحوال إلا متلبسًا بمشيئته على الوجه المعتاد، وهو أن تقول : إن شاء الله، أو في وقت من الأوقات، إن شاء الله أن تقوله، بمعنى : أن يأذن لك فيه، فإن النسيان بمشيئته تعالى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تضمنت إشارة الآية خمس خصال من خصال الصوفية :
الأولى : ترك المراء والجدال، إلا ما كان على وجه المذاكرة والمناظرة في استخراج الحق أو تحقيقه، من غير ملاججة ولا مخاصمة، في سهولة وليونة وسلامة القلوب.
الثانية : استفتاء القلوب فيما يعرض من الأمور ؛ قال صلى الله عليه وسلم :" اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وإنْ أفتاك المفْتونَ وأفتَوْك، فالبر ما اطمأن القلب وسكن إليه، والإثم ما حاك في الصدر وتردد " ١، والمراد بالقلوب التي تُسْتَفْتَى. القلوب الصافية المنورة بذكر الله، الزاهدة فيما سوى الله، فإنها إذا كانت بهذه الصفة لا يتجلى فيها إلا الحق، ولا تسكن إلا إلى الحق، بخلاف القلوب المخوضة بحب الدنيا والهوى، فلا تفتي إلا بما يوافق هواها.
الثالثة : التفويض إلى مشيئة الله وتدبيره، والرضا بما يبرز به القضاء، بحيث لا يعقد على شيء، ولا يجزم بفعل شيء، إلا ملتبسًا بمشيئة الله، فينظر ما يفعل الله، فالعاقل إذا أصبح نظر ما يفعل الله به، والجاهل إذا أصبح نظر ما يفعل بنفسه، كما قال صاحب الحِكم.
الرابعة : الاشتغال بالذكر والفكر، حتى يغيب عما سوى المذكور ؛ قال تعالى :﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ أي : إذا نسيت ما سواه، حينئذ تكون ذاكرًا حقيقة، فالذكر الحقيقي : هو الذي يغيب صاحبه عن شهود نفسه ورسمه وحسه، حتى يكون الحق تعالى هو المتكلم على لسانه ؛ لشدة غيبته فيه، وهذا أمر مشاهد لمن عثر على شيخ التربية والتزم صحبته.
الخامسة : التماس الترقي والزيادة في الاهتداء واليقين، فكل مقام يدركه ينبغي أن يطلب مقامًا أعلى منه، ولا نهاية لعلمه تعالى ولا لعظمته، ﴿ وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدًا ﴾، وبالله التوفيق.


١ أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٤/٣٩٤، والطبري في تفسيره ١٥/١٩١..
قلت :﴿ إلا أن يشاء ﴾ : استثناء مفرغ من النهي، أي : لا تقولن في حال من الأحوال، إلا حال ملابسةٍ بمشيئته تعالى على الوجه المعتاد، وهو أن تقول : إن شاء الله، أو : في وقت من الأوقات، إلا وقت إن شاء الله.
﴿ واذكر ربكَ ﴾ بقولك : إلا أن يشاء الله ؛ مستدركًا له، ﴿ إِذا نسيتَ ﴾ : إذا فرط منك نسيان ثم ذكرته. وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنه : ولو بعد سنة ما لم يحنث. ولذلك جوَّز تأخير الاستثناء. وعامة الفقهاء على خلافه، إذ لو صح ذلك لما تقرر طلاق ولا عتاق، ولم يعلم صدق ولا كذب، وقال القرطبي : هذا في تدارك الترك والتخلص من الإثم، وأما الاستثناء المغير للحكم فلا يكون إلا متصلاً به، ويجوز أن يكون المعنى : واذكر ربك ؛ بالتسبيح والاستغفار ؛ إذا نسيت الاستثناء ؛ مبالغة في الحث عليه، أو : اذكر ربك إذا اعتراك نسيان ؛ لتستدرك ما فات، وحُمل على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها. وسيأتي في الإشارة بقية الكلام عليها.
﴿ وقل عسى أن يَهْديَنِ ربي ﴾ : يوفقني ﴿ لأقربَ من هذا ﴾ أي : لنبأ أقرب وأظهر من نبأ أصحاب الكهف، من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي، ﴿ رَشَدًا ﴾ أي : إرشادًا للناس ودلالة على ذلك. وقد فعل عزّ وجلّ ذلك ؛ حيث آتاه من البينات ما هو أعظم وأبين لقصص الأنبياء، المتباعدة أيامهم، والإخبار بالغيوب والحوادث النازلة في الأعمار المستقبلة إلى قيام الساعة.
أو : لأقرب رشدًا وأدنى خيرًا من المَنْسِي، أي : عسى أن يدلني على ما هو أصلح لي من الذي نسيته ؛ إذ يجوز أن يكون نسيانه خيرًا له من ذكره ؛ إذ فيه إظهار قهريته تعالى، وغناه عن خلقه، وعدم مبالاته بإدبار من أدبر وإقبال من أقبل، أو : الطريق الأقرب من هذا الذي هدى إليه أهل الكهف ؛ رشدًا وصوابًا، وقد فعل ذلك حيث هداه إلى الدين القيِّم الذي أظهره على الأديان كلها، ولو كره المشركون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تضمنت إشارة الآية خمس خصال من خصال الصوفية :
الأولى : ترك المراء والجدال، إلا ما كان على وجه المذاكرة والمناظرة في استخراج الحق أو تحقيقه، من غير ملاججة ولا مخاصمة، في سهولة وليونة وسلامة القلوب.
الثانية : استفتاء القلوب فيما يعرض من الأمور ؛ قال صلى الله عليه وسلم :" اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وإنْ أفتاك المفْتونَ وأفتَوْك، فالبر ما اطمأن القلب وسكن إليه، والإثم ما حاك في الصدر وتردد " ١، والمراد بالقلوب التي تُسْتَفْتَى. القلوب الصافية المنورة بذكر الله، الزاهدة فيما سوى الله، فإنها إذا كانت بهذه الصفة لا يتجلى فيها إلا الحق، ولا تسكن إلا إلى الحق، بخلاف القلوب المخوضة بحب الدنيا والهوى، فلا تفتي إلا بما يوافق هواها.
الثالثة : التفويض إلى مشيئة الله وتدبيره، والرضا بما يبرز به القضاء، بحيث لا يعقد على شيء، ولا يجزم بفعل شيء، إلا ملتبسًا بمشيئة الله، فينظر ما يفعل الله، فالعاقل إذا أصبح نظر ما يفعل الله به، والجاهل إذا أصبح نظر ما يفعل بنفسه، كما قال صاحب الحِكم.
الرابعة : الاشتغال بالذكر والفكر، حتى يغيب عما سوى المذكور ؛ قال تعالى :﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ أي : إذا نسيت ما سواه، حينئذ تكون ذاكرًا حقيقة، فالذكر الحقيقي : هو الذي يغيب صاحبه عن شهود نفسه ورسمه وحسه، حتى يكون الحق تعالى هو المتكلم على لسانه ؛ لشدة غيبته فيه، وهذا أمر مشاهد لمن عثر على شيخ التربية والتزم صحبته.
الخامسة : التماس الترقي والزيادة في الاهتداء واليقين، فكل مقام يدركه ينبغي أن يطلب مقامًا أعلى منه، ولا نهاية لعلمه تعالى ولا لعظمته، ﴿ وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدًا ﴾، وبالله التوفيق.

﴿ ولَبِثُوا في كهفهم ﴾ ؛ أحياءً، مضروبًا على آذانهم، ﴿ ثلاث مائةٍ سنينَ وازدادوا تسعًا ﴾، رُوي عن علي - كرم الله وجهه - أنه قال : عند أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية، والله تعالى ذكر السنة القمرية، والتفاوت بينهما في كل مائة ثلاثُ سنين، فيكون ثلاث مائة سنة وتسع سنين. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تضمنت إشارة الآية خمس خصال من خصال الصوفية :
الأولى : ترك المراء والجدال، إلا ما كان على وجه المذاكرة والمناظرة في استخراج الحق أو تحقيقه، من غير ملاججة ولا مخاصمة، في سهولة وليونة وسلامة القلوب.
الثانية : استفتاء القلوب فيما يعرض من الأمور ؛ قال صلى الله عليه وسلم :" اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وإنْ أفتاك المفْتونَ وأفتَوْك، فالبر ما اطمأن القلب وسكن إليه، والإثم ما حاك في الصدر وتردد " ١، والمراد بالقلوب التي تُسْتَفْتَى. القلوب الصافية المنورة بذكر الله، الزاهدة فيما سوى الله، فإنها إذا كانت بهذه الصفة لا يتجلى فيها إلا الحق، ولا تسكن إلا إلى الحق، بخلاف القلوب المخوضة بحب الدنيا والهوى، فلا تفتي إلا بما يوافق هواها.
الثالثة : التفويض إلى مشيئة الله وتدبيره، والرضا بما يبرز به القضاء، بحيث لا يعقد على شيء، ولا يجزم بفعل شيء، إلا ملتبسًا بمشيئة الله، فينظر ما يفعل الله، فالعاقل إذا أصبح نظر ما يفعل الله به، والجاهل إذا أصبح نظر ما يفعل بنفسه، كما قال صاحب الحِكم.
الرابعة : الاشتغال بالذكر والفكر، حتى يغيب عما سوى المذكور ؛ قال تعالى :﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ أي : إذا نسيت ما سواه، حينئذ تكون ذاكرًا حقيقة، فالذكر الحقيقي : هو الذي يغيب صاحبه عن شهود نفسه ورسمه وحسه، حتى يكون الحق تعالى هو المتكلم على لسانه ؛ لشدة غيبته فيه، وهذا أمر مشاهد لمن عثر على شيخ التربية والتزم صحبته.
الخامسة : التماس الترقي والزيادة في الاهتداء واليقين، فكل مقام يدركه ينبغي أن يطلب مقامًا أعلى منه، ولا نهاية لعلمه تعالى ولا لعظمته، ﴿ وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدًا ﴾، وبالله التوفيق.

﴿ قُلِ الله أعلم بما لَبِثُوا ﴾ أي : الزمان الذي لبثوا فيه. ﴿ له غيبُ السماوات والأرض ﴾ أي : ما غاب فيهما، وخفي من أحوال أهلها، ﴿ أبصِرْ به وأسمعْ ﴾ أي : ما أسمعه وما أبصره. دل بصيغة التعجب على أن سمعه تعالى وبصره خارج عما عليه إدراك المدركين ؛ لأنه تعالى لا يحجبه شيء، ولا يحول دونه حائل، ولا يتفاوت بالنسبة إليه اللطيف والكثيف، والصغير والكبير، والخفي والجلي. والتعجب في حقه تعالى مجاز ؛ لأنه إنما يكون مما خفي سببه، ولأنه دهشة وروعة تلحق المتعجب عند معاينة ما لم يعتَدْه، وهو تعالى منزَّه عن ذلك، فيُؤَوَّل بأنه مبالغة في إحاطة سمعه وبصره بكل شيء، كما تقدم.
﴿ ما لهم من دونه من وليٍّ ﴾ أي : ما لأهل السماوات والأرض من دونه تعالى من ولي ؛ يتولى أمورهم وينصرهم إلا هو سبحانه، ﴿ ولا يُشرِكُ في حُكمِهِ ﴾ : في قضائه في علم الغيب ﴿ أحدًا ﴾ منهم، ولا يجعل له فيه مدخلاً، وقرئ بالخطاب لكل أحد، أي : ولا تشرك أيها السامع في حكمه وتدبيره أحدًا من خلقه، فإنه لا فعل له ولا تدبير. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تضمنت إشارة الآية خمس خصال من خصال الصوفية :
الأولى : ترك المراء والجدال، إلا ما كان على وجه المذاكرة والمناظرة في استخراج الحق أو تحقيقه، من غير ملاججة ولا مخاصمة، في سهولة وليونة وسلامة القلوب.
الثانية : استفتاء القلوب فيما يعرض من الأمور ؛ قال صلى الله عليه وسلم :" اسْتَفْتِ قَلْبَكَ، وإنْ أفتاك المفْتونَ وأفتَوْك، فالبر ما اطمأن القلب وسكن إليه، والإثم ما حاك في الصدر وتردد " ١، والمراد بالقلوب التي تُسْتَفْتَى. القلوب الصافية المنورة بذكر الله، الزاهدة فيما سوى الله، فإنها إذا كانت بهذه الصفة لا يتجلى فيها إلا الحق، ولا تسكن إلا إلى الحق، بخلاف القلوب المخوضة بحب الدنيا والهوى، فلا تفتي إلا بما يوافق هواها.
الثالثة : التفويض إلى مشيئة الله وتدبيره، والرضا بما يبرز به القضاء، بحيث لا يعقد على شيء، ولا يجزم بفعل شيء، إلا ملتبسًا بمشيئة الله، فينظر ما يفعل الله، فالعاقل إذا أصبح نظر ما يفعل الله به، والجاهل إذا أصبح نظر ما يفعل بنفسه، كما قال صاحب الحِكم.
الرابعة : الاشتغال بالذكر والفكر، حتى يغيب عما سوى المذكور ؛ قال تعالى :﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ أي : إذا نسيت ما سواه، حينئذ تكون ذاكرًا حقيقة، فالذكر الحقيقي : هو الذي يغيب صاحبه عن شهود نفسه ورسمه وحسه، حتى يكون الحق تعالى هو المتكلم على لسانه ؛ لشدة غيبته فيه، وهذا أمر مشاهد لمن عثر على شيخ التربية والتزم صحبته.
الخامسة : التماس الترقي والزيادة في الاهتداء واليقين، فكل مقام يدركه ينبغي أن يطلب مقامًا أعلى منه، ولا نهاية لعلمه تعالى ولا لعظمته، ﴿ وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدًا ﴾، وبالله التوفيق.

ثمَّ أمره بتلاوة كتابه الذي هو أصل كل رشد وصواب، وأقرب هداية لذوي الألباب، فقال تعالى :﴿ وَاتْلُ مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ واتلُ ما أُوحي إليك من كتاب ربك ﴾ أي : أسرده على ما نزل، ولا تسمع لقولهم :﴿ ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَآ ﴾ [ يونس : ١٥ ]، أو اتبع أحكامه، ﴿ لا مُبدِّل لكلماته ﴾ : لا قادر على تبديله غيره، أو : لا مغير لما وعد بكلماته للمخالفين له، ﴿ ولن تجدَ ﴾ أبدًا ﴿ من دونه مُلتحدًا ﴾ أي : ملجأ، تعدل إليه عند إلمام مُلمة، أو : لن تجد، إن بدلت ؛ تقديرًا، وخالفت ما أنزل إليك، ملتحدًا : ملجأ تميل إليه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : القرآن شفاء لكل داء فمن نزلت به شدة حسية أو معنوية، دنيوية أو دينية، ففزع إليه بالتلاوة أو الصلاة به، رأى فَرَجًا، وقريبًا، فالالتجاء إلى كلام الله هو الالتجاء إلى الله، فإنَّ الحق تعالى يتجلى في كلامه للقلوب على قدر صفائها، وأما من التجأ إلى غير الله فقد خاب رجاؤه وبطل سعيه ؛ قال تعالى :﴿ ولن تجد من دونه ملتحدًا ﴾ تميل إليه فيأويك. والله تعالى أعلم.
ثم أمر بصحبة الفقراء، الذين يعينونه على تلاوة كتابه ونصر دينه والتمسك به، فقال :
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾
قلت :﴿ ولا تعد ﴾ : نهي مجزوم بحذف الواو، و﴿ عيناك ﴾ : فاعل، و﴿ تريد ﴾ : حال من الكاف، أو من فاعل ﴿ تَعْدُ ﴾.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ واصبرْ نفسك ﴾ أي : احبسها ﴿ مع الذين يدعون ربهم ﴾ أي : يعبدونه ﴿ بالغداةِ والعَشِيِّ ﴾، قيل : الصلوات الخمس، فالغداة : الصبح، والعَشِيِّ : الظهر وما بعده، وقيل : الصبح والعصر، قلت : والأظهر أنها الصلاة التي كانوا يُصلونها قبل فرض الصلاة، وهي ركعتان بالغداة والعشي. قال ابن عطية : ويدخل في الآية مَنْ يدعو في غير صلاة، ومن يجمع لمذاكرة علم، وقد رَوى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" لَذِكْرُ اللهِ بالغَدَاةِ والعَشِيِّ أَفْضَلُ مِنْ حَطْمِ السُّيُوف فِي سَبيل اللهِ، ومِنْ إعْطَاءِ المَال سحا " ١
وقيل :﴿ يدعون ربهم ﴾ في جميع الأوقات، وفي طرفَيْ النهار، والمراد بهم فقراء المؤمنين ؛ كعمار وصهيب وخباب وبلال، رُوي أن رؤساء الكفرة من قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك، وقالوا : إن ريح جِبَابِهم تؤذينا، فنزلت الآية٢. رُوي أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت خرج إليهم وجلس بينهم، وقال :" الحمدُ لله الذي جَعَلَ في أمتي مَنْ أُمرْتُ أنْ أصبرْ نَفْسِي معه " ٣. وقيل : نزلت في بيان أهل الصُّفَّة، وكانوا نحو سبعمائة، فتكون الآية مدنية.
ثم وصفهم بالإخلاص، فقال :﴿ يُريدون وجهه ﴾ أي : معرفة ذاته، لا جنة ولا نجاة من نار، ﴿ ولا تَعْدُ عيناك عنهم ﴾ أي : لا تجاوزهم بنظرك إلى غيرهم، من عداه : إذا جاوزه، وفي الوجيز : ولا تصرف بصرك عنهم إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة، ﴿ تُريد زينةَ الحياةِ الدنيا ﴾ أي : تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا.
﴿ ولا تُطِعْ ﴾ في تنحية الفقراء عن مجلسك ﴿ مَن أغفلنا قلبَه عن ذِكْرِنا ﴾ أي : جعلناه غافلاً عن الذكر وعن الاستعداد له، كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء عن مجلسك، فإنهم غافلون عن ذكرنا، على خلاف ما عليه المؤمنون من الدعاء في مجامع الأوقات، وفيه تنبيه على أن الباعث على ذلك الدعاء غفلة قلبية عن جناب الله - سبحانه - حتى خفي عليه أن الشرف إنما هو بتحلية القلب بالفضائل، لا بتحلية الجسد بالملابس والمآكل. ﴿ واتَّبَعَ هواه ﴾ : ما تهواه نفسه، ﴿ وكان أمره فُُرطًا ﴾ : ضياعًا وهلاكًا، وهو من التفريط والتضييع، أو من الإفراط والإسراف، فإن الغفلة عن ذكر الله - تعالى - تُؤدي إلى اتباع الهوى المؤدي إلى التجاوز والتباعد عن الحق والصواب. والله تعالى أعلم.
الإشارة : في الآية حثٌّ على صحبة الفقراء والمُكْث معهم، وفي صحبتهم أسرار كبيرة ومواهب غزيرة، إذ بصحبتهم يَكتسبُ الفقير آداب الطريق، وبصحبتهم يقع التهذيب والتأديب، حتى يتأهل لحضرة التقريب، وبصحبتهم تدوم حياة الطريق، ويصل العبد إلى معالم التحقيق، وفي ذلك يقول الشيخ أبو مدين رضي الله عنه :
مَا لَذّةُ العَيْشِ إلا صُحبة الفُقرا هُمُ السَّلاَطِينُ والسَّادَاتُ والأُمَرَا
فاصْحَبْهُمُ وتَأَدَّبْ فِي مَجَالِسِهِم وَخَلِّ حظَّكَ مَهْمَا خَلَّفُوكَ وَرَا
إلى آخر كلامه.
وقوله تعالى :﴿ واصبر نفسك ﴾ قال القشيري : لم يقل : واصبر قلبك ؛ لأن قلبه كان مع الحق تعالى، فأمره بصحبة الفقراء جَهْرًا بجهر، واستخلص قلبه لنفسه سِرًا بِسرٍّ. ه. قال الورتجبي : اصبر نفسك مع هؤلاء الفقراء، العاشقين لجمالي، المشتاقين إلى جلالي، الذين هم في جميع الأوقات يسألون متى لقاء وجهي الكريم، ويريدون أن يطيروا بجناح المحبة إلى عالم وَصْلي، حتى يكونوا مُتسلين بصحبتك عن مقام الوصال، وفي رؤيتهم لك رؤية ذلك الجمال. ه.
وقوله تعالى :﴿ يريدون وجهه ﴾، بيَّن أن دعاءهم وسؤالهم إنما هو رؤيته ولقاؤه، شوقًا إليه ومحبة فيه، من غير تعلق بغيره، أو شُغل بسواه، بل همتهم الله لا غيره، وإِلاَّ لَمَا صدق قصر إرادتهم عليه. قال في الإحياء : من يعمل اتقاء من النار خوفًا، أو رغبة في الجنة رجاء، فهو من جملة النيات الصحيحة ؛ لأنه ميل إلى الموعود في الآخرة، وإن كان نازلاً بالإضافة إلى قصد طاعة الله وتعظيمه لذاته ولجلاله، لا لأمرٍ سواه. ثم قال : وقول رويم : الإخلاص : ألا يريد صاحبه عليه عوضًا في الدارين، هو إشارة لإخلاص الصدِّيقين، وهو الإخلاص المطلق، وغيره إخلاص بالإضافة إلى حظوظ العاجلة. ه. من الحاشية.
١ أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ١٨٥٠..
٢ أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٤/٣٩٦..
٣ أخرجه الطبري في تفسيره ١٥/٢٣٥..
ثم أمره بالصدع بالحق، فقال :
﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً ﴾
قلت :﴿ الحق ﴾ : خبر، أي : هذا الذي أُوحي إليَّ الحقُّ.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ وقل ﴾ : يا محمد لأولئك الغافلين المتبعين أهواءهم، أو : لمن جاءك من الناس : هذا الذي جئتكم به من عند ربي هو ﴿ الحقُّ من ربكم ﴾ أي : من جهة ربكم، لا من جهتي، حتى يتصور فيه التبديل، أو يمكن التردد في اتباعه. ﴿ فمَن شاء فليؤمن ومَن شاء فليكفرْ ﴾، وهو تهديد، أي : فمن شاء أن يؤمن فليؤمن كسائر المؤمنين، ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعليل، ومن شاء أن يكفر فليفعل، وفيه مع التهديد الاستغناء عن متابعتهم، وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم.
ثم أوعدهم على الكفر، فقال :﴿ إِنا أعْتَدْنا للظالمين ﴾ أي : هيأنا للكافرين بالحق، بعد ما جاء من الله سبحانه، والتعبير عنهم بالظالمين ؛ للتنبيه على أن اختيارهم الكفر ظلمٌ وتجاوزٌ عن الحد، ووضعٌ للشيء في غير محله، أي : هيأنا لهم ﴿ نارًا ﴾ عظيمة ﴿ أحاط بهم ﴾ أي : محيطُ بهم ﴿ سُرادِقُها ﴾ أي : سورها المحيط بها، والتعبير بالماضي ؛ لتحقق وقوعه، والسرادق : ما يحيط بالشيء، كالجدار ونحوه. قيل : هو حائط من نار، وقيل : دخانها. ﴿ وإِن يستغيثوا ﴾ ؛ من العطش ﴿ يُغَاثوا بماء كالمهل ﴾ : كَمُذَاب الحديد والرصاص في الحرارة. وقيل : كرديء الزيت في اللون، ﴿ يشوي الوجوه ﴾ إذا قُدم ليشرب ؛ بحرارته. عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" هو كَعَكِرِ الزَّيْتِ، فَإِذَا قُرّبَ مِن الكافر سَقَطَتْ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فِيهِ، فإذَا شَرِبَهُ تقَطَّعَت أَمْعَاؤُه " ١
﴿ بئسَ الشرابُ ﴾ ذلك، ﴿ وساءت ﴾ ؛ النار ﴿ مُرتفقًا ﴾ : مُتَّكًا، وأصل الارتفاق : نصب المِرفق تحت الخد ليتكئ عليه، وأنى ذلك في النار، وإنما هو بمقابلة قوله في المؤمنين :﴿ وحسنت مرتفقًا ﴾.
الإشارة : ينبغي للواعظ، أو المُذكر، أو العالم، ألا يحرص على الناس، بل يستغني بالله في أموره كلها، وإنما يُبين الحق من الباطل، ويقول : هذا الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن يشاء فليكفر. هذا إذا كان لعامة الناس، وأما إن كان لخاصتهم ؛ كأهل الرئاسة والجاه، فاختلف فيه ؛ فقال بعضهم : يسلك هذا المنهاج يُبين الحق ولا يبالي، محتجًا بالآية، قال : نحن أمة محمدية، قال تعالى له :﴿ وقل الحق من ربكم. . . ﴾ الآية، وقال بعضهم : ينبغي أن يلين لهم القول ؛ لقوله تعالى :﴿ فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ﴾ [ طه : ٤٤ ]، وهو الأليق بطريق السياسة، فمن أعرض عن الوعظ، وبقي على ظلمه، فالآية تجر ذيلها عليه. والله تعالى أعلم.
١ أخرجه أحمد في المسند ٣/٧٠..
ثم ذكر ضدهم، فقال :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً ﴾ * ﴿ أُوْلَائِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَآئِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً ﴾
قلت : جملة :﴿ إنّا لا نضيع ﴾ : خبر " إن "، والعائد محذوف، أي : أحسن عملاً، أو : وقع الظاهر موقعه ؛ فإن من أحسن عملاً في الحقيقة هو الذي آمن وعمل صالحًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إِن الذين آمنوا ﴾ أي : اختاروا الإيمان، من قوله :﴿ فمن شاء فليؤمن ﴾، وكأنه في المعنى عطف على قوله :﴿ أعتدنا للظالمين ﴾، أي : والذين آمنوا هيأنا لهم كذا وكذا، ولعل تغيير سبكه : للإيذان بكمال تنافي مآلَيْ الفريقين، أي : إن الذين آمنوا بالحق الذي أُوحي إليك ﴿ وعَمِلُوا ﴾ الأعمال ﴿ الصالحات ﴾، حسبما بيَّن فيما أوحي إليك، ﴿ إِنا لا نُضِيعُ أجرَ من أحسن عملاً ﴾، وأتقنه على ما تقتضيه الشريعة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إن الذين آمنوا إيمان الخصوص، وعملوا الأعمال التي تقرب إلى حضرة القدوس ؛ وهي تحملُ ما يثقل على النفوس، أولئك لهم جنات المعارف، تجري من تحت قلوبهم أنهار العلوم والمواهب، يُحلَّون فيها بمقامات اليقين، ويلبسون ثياب العز والنصر والتمكين، متكئين على سرر الهنا والسرور، قد انقضت عنهم أيام المحن والشرور، جعلنا الله فيهم بمنّه وكرمه.
و﴿ أولئك ﴾ : استئناف ؛ لبيان الأجر، أو : خبر " إن "، وما بينهما اعتراض، أو خبر بعد خبر. و﴿ من أساور ﴾ : ابتدائية، و﴿ من ذهب ﴾ : بيانية، و﴿ أساور ﴾ : جمع أسورة، أو أسوار جمع سوار، فهو جمع الجمع.
﴿ أولئك ﴾ ؛ المنعوتون بهذه النعوت الجليلة ﴿ لهم جناتُ عدن تجري ﴾ من تحت قصورهم ﴿ الأنهار ﴾ ؛ من ماء ولبن وخمر وعسل، ﴿ يُحلَّون فيها من أساورَ من ذهب ﴾
أي : كل واحد يُحلَّى بسوارين من ذهب. وكانت الأساور عند العرب من زينة الملوك، ﴿ ويَلْبَسُون ثيابًا خُضْرًا ﴾، وخصت الخضرة بثيابهم ؛ لأنها أحسن الألوان وأكثرها طراوة. وتلك الثياب ﴿ من سُنْدُسٍ وإِستبرقٍ ﴾، السندس : ما رقَّ من الديباج، والإستبرق : ما غلظ منه، جمع النوعين ؛ للدلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، ﴿ متكئين فيها على الأرائك ﴾ جمع أريكة، وهو السرير في الحجَال، أي : متكئين على الأسرة المُزينة بالستور الرفيعة، كحال العرائس المتنعمين. ﴿ نِعْمَ الثوابُ ﴾ ذلك، ﴿ وحَسُنَتْ مُرتفقًا ﴾ : متَّكأ. والآية عامة وإن نزلت في خصوص الصحابة رضي الله عنهم، وأماتنا على منهاجهم. آمين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إن الذين آمنوا إيمان الخصوص، وعملوا الأعمال التي تقرب إلى حضرة القدوس ؛ وهي تحملُ ما يثقل على النفوس، أولئك لهم جنات المعارف، تجري من تحت قلوبهم أنهار العلوم والمواهب، يُحلَّون فيها بمقامات اليقين، ويلبسون ثياب العز والنصر والتمكين، متكئين على سرر الهنا والسرور، قد انقضت عنهم أيام المحن والشرور، جعلنا الله فيهم بمنّه وكرمه.
ثم ضرب مثلا لمن اغتر بدنياه، ولمن زهد فيها وأقبل على مولاه، فقال :
﴿ وَاضْرِبْ لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً ﴾ * ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً ﴾ * ﴿ وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً ﴾ * ﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً ﴾ * ﴿ وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً ﴾ * ﴿ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ﴾ * ﴿ لَّاكِنَّاْ هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً ﴾ * ﴿ وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ اللَّهُ لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً ﴾ * ﴿ فعسَى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَآءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً ﴾ * ﴿ أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ﴾ * ﴿ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً ﴾ * ﴿ وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً ﴾ * ﴿ هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً ﴾
قلت :﴿ رجلين ﴾ : بدل من " مثلاً "، وجملة ﴿ جعلنا. . . ﴾ بتمامها : بيان للتمثيل، أو صفة لرجلين.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ واضربْ لهم ﴾ أي : للفريقين ؛ فريق المؤمنين والكافرين المتقدمين، ﴿ مَّثَلاً ﴾ ؛ من حيث عصيان الكافر، مع تقلبه في النعيم، وطاعة المؤمن، مع مكابدته مَشَاقَّ الفقر، وما كان مآلهما، لا من حيث ما ذكر من أن للكافر في الآخرة كذا وللمؤمن كذا، أي : واضرب لهم حالي ﴿ رجُلَيْن ﴾ مقدرين أو محققين، هما أخوان من بني إسرائيل، أو شريكان : كافر، واسمه قُطروس، ومؤمن، اسمه يهوذا، اقتسما ثمانية آلاف دينار، أو ورثَاها من أبيهما، فاشترى الكافر بنصيبه ضياعًا وعقارًا، وصرف المؤمن نصيبه إلى وجوه البر.
رُوِيَ : أن الكافر اشترى أرضًا بألف دينار، فقال صاحبه المؤمن : اللهم إن فلانًا اشترى أرضًا بألف، وإني أشتري منك أرضًا في الجنة بألف، فتصدق بألف دينار، ثم إن صاحبه بنى دارًا بألف دينار، فقال المؤمن : اللهم إن صاحبي بنى دارًا بألف، وإني أشتري منك دارًا في الجنة بألف، فتصدق بألف دينار، ثم إن صاحبه تزوج امرأة بألف دينار، فقال : اللهم، إن فلانًا تزوج بألف دينار، وإني أخطب منك من نساء الجنة بألف، فتصدق بألف دينار، ثم إن صاحبه اشترى خادمًا ومتاعًا بألف دينار، فقال : اللهم إن فلاناً اشترى خادماً ومتاعاً بألف، وإني أشتري منك خادماً ومتاعاً من الجنة بألف، فتصدق بألف دينار، ثم أصابته حاجة، فقال : لعل صاحبي يُناولني معروفه، فأتاه، فقال : ما فعل مالك ؟ فأخبره قصته، فقال : أو إنك لمن المصدقين بهذا ؟ والله لا أعطيك شيئًا، فلما تُوفيا آل أمرهما إلى ما ذكر الله في سورة الصافات بقوله :﴿ قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ( ٥١ ) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ( ٥٢ ) ﴾ [ الصافات : ٥١، ٥٢ ] الآية.
وبيَّن حالهما في الدنيا بقوله :﴿ جعلنا لأحدهما ﴾ وهو الكافر، ﴿ جنتين ﴾ : بساتين ﴿ من أعنابٍ ﴾ : من كروم متنوعة، ﴿ وحفَفناهما بنَخْلٍ ﴾ أي : جعلنا النخل محيطة بهما محفوظًا بها كرومهما، ﴿ وجعلنا بينهما ﴾ : وسطهما ﴿ زرعًا ﴾ ؛ ليكون كل منهما جامعًا للأقوات والفواكه، متواصل العمارة، على الهيئة الرائقة، والوضع الأنيق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد ضرب الله مثلاً لمن عكف على هواه، وقصر همته على زخارف دنياه، ولمن توجه بهمته إلى مولاه، وقدَّم دنياه لأخراه، فكان عاقبة الأول : الندم والخسران، وعاقبة الثاني : الهنا والرضوان، أوْ لمن وقف مع علمه واعتمد عليه، ولمن تبرأ من حوله وقوته في طلب الوصول إليه.
قال في لطائف المنن : لا تدخل جنة علمك وعملك، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذِل، فأخبر الله عنه بقوله :﴿ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا... ﴾ الآية. ولكن ادخلها كما بيّن لك، وقل كما رَضي لك :﴿ ولولا إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ﴾، وافهم ههنا قوله صلى الله عليه وسلم :" لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله كَنْزٌ من كُنُوزِ الجنة " ١. وفي رواية أخرى :" كنز من كنوز تحت العرش ". فالترجمة : ظاهر الكنز، والمكنوز فيها : صدق التبري من الحول والقوة، والرجوع إلى حول الله وقوته.

﴿ كلتا الجنتين آتت أُكُلَها ﴾ : ثمرها وبلغ مبلغًا صالحًا للأكل، ﴿ ولم تَظْلِم منه شيئًا ﴾ أي : لم تنقص من أكلها شيئًا في كل سنة، بخلاف سائر البساتين، فإن الثمار غالبًا تكثر في عام وتقل في عام، ﴿ وفجَّرْنا خِلالهما ﴾ : فيما بين كل من الجنتين ﴿ نَهَرًا ﴾ على حدةٍ، وقرئ بالسكون.
والنهر : الماء الكثير، وكان لكل بستان نهر ؛ ليدوم شربها ويدوم بهاؤها.
ولعل تأخير تفجير النهر عن ذكر إيتاء الأكل، مع أن الترتيب الخارجي العكس ؛ للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل وتفجير النهر في تكميل محاسن الجنتين، كما في قصة البقرة ونحوها، ولو عكس لأوهم أن المجموع خصلة واحدة بعضها مرتب على بعض.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد ضرب الله مثلاً لمن عكف على هواه، وقصر همته على زخارف دنياه، ولمن توجه بهمته إلى مولاه، وقدَّم دنياه لأخراه، فكان عاقبة الأول : الندم والخسران، وعاقبة الثاني : الهنا والرضوان، أوْ لمن وقف مع علمه واعتمد عليه، ولمن تبرأ من حوله وقوته في طلب الوصول إليه.
قال في لطائف المنن : لا تدخل جنة علمك وعملك، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذِل، فأخبر الله عنه بقوله :﴿ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا... ﴾ الآية. ولكن ادخلها كما بيّن لك، وقل كما رَضي لك :﴿ ولولا إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ﴾، وافهم ههنا قوله صلى الله عليه وسلم :" لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله كَنْزٌ من كُنُوزِ الجنة " ١. وفي رواية أخرى :" كنز من كنوز تحت العرش ". فالترجمة : ظاهر الكنز، والمكنوز فيها : صدق التبري من الحول والقوة، والرجوع إلى حول الله وقوته.

﴿ وكان له ثمرٌ ﴾ أي : وكان لصاحب الجنتين أنواع من المال غير الجنتين، من ثَمُرَ مالُه : إذا كثر. قال ابن عباس : الثمر : جميع المال ؛ من الذهب، والفضة والحيوان، وغير ذلك. وقال مجاهد : هو الذهب والفضة خاصة. ﴿ فقال لصاحبه ﴾ المؤمن، أخيه أو شريكه، ﴿ وهو يُحاوره ﴾ : يراجعه في الكلام، من حَار إذا رجع، وذلك أنه سأله عن ماله فيما أنفقه، فقال : قدمتُه بين يدي، لأقدم عليه، فقال له :﴿ أنا أكثرُ منك مالاً وأعزُ نفرًا ﴾ : حَشمًا وأعوانًا وأولادًا ذكورًا ؛ لأنهم الذين ينفرون معه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد ضرب الله مثلاً لمن عكف على هواه، وقصر همته على زخارف دنياه، ولمن توجه بهمته إلى مولاه، وقدَّم دنياه لأخراه، فكان عاقبة الأول : الندم والخسران، وعاقبة الثاني : الهنا والرضوان، أوْ لمن وقف مع علمه واعتمد عليه، ولمن تبرأ من حوله وقوته في طلب الوصول إليه.
قال في لطائف المنن : لا تدخل جنة علمك وعملك، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذِل، فأخبر الله عنه بقوله :﴿ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا... ﴾ الآية. ولكن ادخلها كما بيّن لك، وقل كما رَضي لك :﴿ ولولا إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ﴾، وافهم ههنا قوله صلى الله عليه وسلم :" لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله كَنْزٌ من كُنُوزِ الجنة " ١. وفي رواية أخرى :" كنز من كنوز تحت العرش ". فالترجمة : ظاهر الكنز، والمكنوز فيها : صدق التبري من الحول والقوة، والرجوع إلى حول الله وقوته.

﴿ ودخل جَنَّتَهُ ﴾ : بستانه الذي تقدم وصفه، وإنما وحده ؛ إما لعدم تعلق الغرض بتعدده، أو لاتصال أحدهما بالآخر، أو لأن الدخول يكون في واحدٍ واحد. فدخله ﴿ وهو ظالمٌ لنفسه ﴾ ؛ ضارُّ لها بعُجْبه وكفره، ﴿ قال ﴾ حين دخوله :﴿ ما أظنُ أن تَبِيدَ هذه ﴾ الجنة، أي : تفنى ﴿ أبدًا ﴾ ؛ لطول أمده وتمادي غفلته، وإنكارًا لفناء الدنيا وقيام الساعة، ولذلك قال :﴿ وما أظنُّ الساعة قائمةً ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد ضرب الله مثلاً لمن عكف على هواه، وقصر همته على زخارف دنياه، ولمن توجه بهمته إلى مولاه، وقدَّم دنياه لأخراه، فكان عاقبة الأول : الندم والخسران، وعاقبة الثاني : الهنا والرضوان، أوْ لمن وقف مع علمه واعتمد عليه، ولمن تبرأ من حوله وقوته في طلب الوصول إليه.
قال في لطائف المنن : لا تدخل جنة علمك وعملك، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذِل، فأخبر الله عنه بقوله :﴿ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا... ﴾ الآية. ولكن ادخلها كما بيّن لك، وقل كما رَضي لك :﴿ ولولا إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ﴾، وافهم ههنا قوله صلى الله عليه وسلم :" لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله كَنْزٌ من كُنُوزِ الجنة " ١. وفي رواية أخرى :" كنز من كنوز تحت العرش ". فالترجمة : ظاهر الكنز، والمكنوز فيها : صدق التبري من الحول والقوة، والرجوع إلى حول الله وقوته.

﴿ وما أظنُّ الساعة قائمةً ﴾ أي : كائنة فيما سيأتي، ﴿ ولئن رُدِدتُ إِلى ربي ﴾ ؛ بالبعث عند قيامها، كما تقول، ﴿ لأجدنَّ ﴾ حينئذ ﴿ خيرًا منها ﴾ : من الجنتين ﴿ مُنقلبًا ﴾ أي : مرجعًا وعاقبة، أي : كما أعطاني هذا في الدنيا سيعطيني أفضل منه في الآخرة، ومدار هذا الطمع واليمين الفاجرة : اعتقاد أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا ؛ لاستحقاقه لذاتِهِ، وكرامته عليه، ولم يَدْرِ أن ذلك استدراج.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد ضرب الله مثلاً لمن عكف على هواه، وقصر همته على زخارف دنياه، ولمن توجه بهمته إلى مولاه، وقدَّم دنياه لأخراه، فكان عاقبة الأول : الندم والخسران، وعاقبة الثاني : الهنا والرضوان، أوْ لمن وقف مع علمه واعتمد عليه، ولمن تبرأ من حوله وقوته في طلب الوصول إليه.
قال في لطائف المنن : لا تدخل جنة علمك وعملك، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذِل، فأخبر الله عنه بقوله :﴿ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا... ﴾ الآية. ولكن ادخلها كما بيّن لك، وقل كما رَضي لك :﴿ ولولا إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ﴾، وافهم ههنا قوله صلى الله عليه وسلم :" لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله كَنْزٌ من كُنُوزِ الجنة " ١. وفي رواية أخرى :" كنز من كنوز تحت العرش ". فالترجمة : ظاهر الكنز، والمكنوز فيها : صدق التبري من الحول والقوة، والرجوع إلى حول الله وقوته.

﴿ قال له صاحبه ﴾ ؛ أخوه المسلم ﴿ وهو يُحاوره أكفرتَ بالذي خلقك ﴾ أي : أصلك ﴿ من ترابٍ ﴾، فإن خلق آدم عليه السلام من تراب متضمن لخلق أولاده منه ؛ إذ لم تكن فطرته مقصورة على نفسه، بل كانت أنموذجًا منطويًا على فطرة سائر أفراد الجنس، انطواءً مجانسًا مُستتْبعًا لجريان آثارها على الكل، فكان خلْقُه عليه السلام من تراب خلقًا للكل منه، ﴿ ثم من نطفة ﴾ هي مادتك القريبة، ﴿ ثم سَوَّاك رجلاً ﴾ أي : عدلك وكملك إنسانًا ذكرًا، أو صيرك رجلاً، وفي التعبير بالموصول مع صلته : تلويح بدليل البعث الذي نطق به قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ [ الحَجّ : ٥ ].
قال البيضاوي : جعل كفره بالبعث كفرًا بالله ؛ لأنه منشأ الشك في كمال قدرة الله، ولذلك رتَّب الإنكار على خلقه إياه من التراب، فإن مَنْ قدر على إبداء خلقه منه قدر أن يعيده منه. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد ضرب الله مثلاً لمن عكف على هواه، وقصر همته على زخارف دنياه، ولمن توجه بهمته إلى مولاه، وقدَّم دنياه لأخراه، فكان عاقبة الأول : الندم والخسران، وعاقبة الثاني : الهنا والرضوان، أوْ لمن وقف مع علمه واعتمد عليه، ولمن تبرأ من حوله وقوته في طلب الوصول إليه.
قال في لطائف المنن : لا تدخل جنة علمك وعملك، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذِل، فأخبر الله عنه بقوله :﴿ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا... ﴾ الآية. ولكن ادخلها كما بيّن لك، وقل كما رَضي لك :﴿ ولولا إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ﴾، وافهم ههنا قوله صلى الله عليه وسلم :" لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله كَنْزٌ من كُنُوزِ الجنة " ١. وفي رواية أخرى :" كنز من كنوز تحت العرش ". فالترجمة : ظاهر الكنز، والمكنوز فيها : صدق التبري من الحول والقوة، والرجوع إلى حول الله وقوته.

ثم قال أخوه المسلم :﴿ لَكِنَّا ﴾ أصله : لكن أنا، وقُرئ به، فحُذفت الهمزة، فالتقت النونان فوقع الإدغام، ﴿ هو الله ربِّي ﴾، " هو " : ضمير الشأن، مبتدأ، خبره :" هو الله ربي "، وتلك الجملة : خبر " أنا "، والعائد منها : الضمير، وقرئ بإثبات " أنا " في الوصل والوقف، وفي الوقف خاصة، ومدار الاستدراك قوله تعالى :﴿ أكفرت ﴾، كأنه قال : أنت كافر، لكني مؤمن موحد، ﴿ ولا أُشركُ بربي أحدًا ﴾، وفيه تنبيه على أن كفره كان بالإشراك.
قاله أبو السعود.
قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمان الفاسي : والذي يظهر من قوله :﴿ ولولا إذ دخلت. . . ﴾ الآية، ومن قوله :﴿ يا ليتني لم أشرك. . . ﴾ الآية، أنه إشراك بالله في عدم صرف المشيئة إليه، ودعوى الاستقلال بنفسه دونه، وقد قال وهب بن منبه :( قرأت في تسعين كتابًا من كتب الله أن من وَكل إلى نفسه شيئًا من المشيئة فقد كفر )، ثم شكه في البعث تكذيب بوعد الله، وهو كفر صراح. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد ضرب الله مثلاً لمن عكف على هواه، وقصر همته على زخارف دنياه، ولمن توجه بهمته إلى مولاه، وقدَّم دنياه لأخراه، فكان عاقبة الأول : الندم والخسران، وعاقبة الثاني : الهنا والرضوان، أوْ لمن وقف مع علمه واعتمد عليه، ولمن تبرأ من حوله وقوته في طلب الوصول إليه.
قال في لطائف المنن : لا تدخل جنة علمك وعملك، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذِل، فأخبر الله عنه بقوله :﴿ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا... ﴾ الآية. ولكن ادخلها كما بيّن لك، وقل كما رَضي لك :﴿ ولولا إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ﴾، وافهم ههنا قوله صلى الله عليه وسلم :" لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله كَنْزٌ من كُنُوزِ الجنة " ١. وفي رواية أخرى :" كنز من كنوز تحت العرش ". فالترجمة : ظاهر الكنز، والمكنوز فيها : صدق التبري من الحول والقوة، والرجوع إلى حول الله وقوته.

و﴿ ما شاء الله ﴾ : خبر، أي : هذا ما شاء الله، أو الأمر ما شاء الله، أو مبتدأ حُذف الخبر، أي : الذي شاء الله كائن، أو شرطية، والجواب محذوف، أيْ : أيّ شيء شاء الله كان.
﴿ ولولا إِذْ دخلتَ جنتك ﴾ : بستانك، ﴿ قلتَ ما شاء الله ﴾ أي : هلاَّ قُلتَ عند دخولها :﴿ ما شاء الله ﴾ أي : الأمر ما شاء الله، أو ما شاء الله يكون، والمراد : تحضيضه على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى، إن شاء أبقاها، وإن شاء أخفاها، ﴿ لا قوة إِلا بالله ﴾ أي : لا قوة لي على عمارتها وتدبير أمرها إلا بمعونة الله وإقداره.
قال النبي صلى الله عليه وسلم :" مَنْ رَأَى شَيْئًا فأعْجَبه فَقَالَ : مَا شَاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بالله، لَمْ يضُرّهُ شَيءٌ " ١ وقال لأبي هريرة :" أَلاَ أَدُلُك عَلى كَلِمَةٍ مِن كُنُوزِ الْجَنَّة " ؟ قَال بَلَى يا رسُول الله، قال :" لاَ قوةَ إلاَّ بالله، إن قالها العبد قال اللهُ عَزّ وجلّ : أسْلم عبدي واسْتَسْلم " ٢ وقال لعبْدِ اللهِ بْنَ قَيْسٍ :" ألاَ أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الجَنَِّةِ " ؟ قال : بَلَى، يا رَسُولَ اللهِ، قَالَ :" لاَ حَوْلَ ولا قُوَّةَ إِلاَّ بالله " ٣.
ثم قال له أخوه المسلم :﴿ إِن ترنِ أنا أقلَّ منك مالاً وولدًا ﴾ في الدنيا، وفيه تقوية لمن فسر النفر بالولد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد ضرب الله مثلاً لمن عكف على هواه، وقصر همته على زخارف دنياه، ولمن توجه بهمته إلى مولاه، وقدَّم دنياه لأخراه، فكان عاقبة الأول : الندم والخسران، وعاقبة الثاني : الهنا والرضوان، أوْ لمن وقف مع علمه واعتمد عليه، ولمن تبرأ من حوله وقوته في طلب الوصول إليه.
قال في لطائف المنن : لا تدخل جنة علمك وعملك، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذِل، فأخبر الله عنه بقوله :﴿ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا... ﴾ الآية. ولكن ادخلها كما بيّن لك، وقل كما رَضي لك :﴿ ولولا إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ﴾، وافهم ههنا قوله صلى الله عليه وسلم :" لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله كَنْزٌ من كُنُوزِ الجنة " ١. وفي رواية أخرى :" كنز من كنوز تحت العرش ". فالترجمة : ظاهر الكنز، والمكنوز فيها : صدق التبري من الحول والقوة، والرجوع إلى حول الله وقوته.


١ أخرجه البيهقي في شعب الإيمان حديث ٤٣٧٠..
٢ أخرجه أحمد في المسند ٢/٢٩٨..
٣ أخرجه البخاري في المغازي باب ٣٨، والدعوات باب ٥١، ٦٨، والقدر باب ٧، ومسلم في الذكر حديث ٤٤، ٤٥، ٤٦..
﴿ فعسى ربي أن يُؤتين ﴾ في الآخرة أو في الدنيا ﴿ خيرًا من جنتك ﴾ والمعنى : إن ترني أفقر منك فأنا أتوقع من صُنع الله سبحانه أن يقلب ما بي وبك من الفقر والغنى، فيرزقني جنة خيرًا من جنتك، ويسلبك ؛ لكفرك نعمته، ويخرب جنتك، ﴿ ويُرسلَ عليها حُسْبانًا ﴾ : عذابًا ﴿ من السماء ﴾ يُذهبها، من بَرَدٍ أو صاعقة، وهو جمع : حُسْبَانة، وهي : المرامي من هذه الأنواع المذكورة، وتطلق أيضًا، في اللغة، على سهام تُرمى دفعة واحدة، ﴿ فتُصبح صعيدًا زَلقًا ﴾ أي : أرضًا ملساء، يزلق عليها ؛ الاستئصال ما عليها من النبات والشجر والبناء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد ضرب الله مثلاً لمن عكف على هواه، وقصر همته على زخارف دنياه، ولمن توجه بهمته إلى مولاه، وقدَّم دنياه لأخراه، فكان عاقبة الأول : الندم والخسران، وعاقبة الثاني : الهنا والرضوان، أوْ لمن وقف مع علمه واعتمد عليه، ولمن تبرأ من حوله وقوته في طلب الوصول إليه.
قال في لطائف المنن : لا تدخل جنة علمك وعملك، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذِل، فأخبر الله عنه بقوله :﴿ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا... ﴾ الآية. ولكن ادخلها كما بيّن لك، وقل كما رَضي لك :﴿ ولولا إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ﴾، وافهم ههنا قوله صلى الله عليه وسلم :" لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله كَنْزٌ من كُنُوزِ الجنة " ١. وفي رواية أخرى :" كنز من كنوز تحت العرش ". فالترجمة : ظاهر الكنز، والمكنوز فيها : صدق التبري من الحول والقوة، والرجوع إلى حول الله وقوته.

﴿ أو يُصبح ماؤُها ﴾ أي : النهر الذي خِلالَها ﴿ غَوْرًا ﴾ : غائرًا ذاهبًا في الأرض، و " زلقًا " و " غورًا " : مصدران، عبَّر بهما عن الوصف ؛ مبالغةً.
﴿ فلن تستطيعَ له طَلَبًا ﴾ أي : لن تستطيع أبدًا للماء الغائر طلبًا، بحيث لا يبقى له أثر يطلبه به، فضلاً عن وجدانه ورده.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد ضرب الله مثلاً لمن عكف على هواه، وقصر همته على زخارف دنياه، ولمن توجه بهمته إلى مولاه، وقدَّم دنياه لأخراه، فكان عاقبة الأول : الندم والخسران، وعاقبة الثاني : الهنا والرضوان، أوْ لمن وقف مع علمه واعتمد عليه، ولمن تبرأ من حوله وقوته في طلب الوصول إليه.
قال في لطائف المنن : لا تدخل جنة علمك وعملك، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذِل، فأخبر الله عنه بقوله :﴿ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا... ﴾ الآية. ولكن ادخلها كما بيّن لك، وقل كما رَضي لك :﴿ ولولا إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ﴾، وافهم ههنا قوله صلى الله عليه وسلم :" لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله كَنْزٌ من كُنُوزِ الجنة " ١. وفي رواية أخرى :" كنز من كنوز تحت العرش ". فالترجمة : ظاهر الكنز، والمكنوز فيها : صدق التبري من الحول والقوة، والرجوع إلى حول الله وقوته.

﴿ وأُحِيطَ بثَمَرِه ﴾ أي : هلكت أشجاره المثمرة، وأمواله المعهودة، وأصله : من إحاطة العدو، وهو عطف على مُقدر، كأنه قيل : فوقع بعض ما وقع من المحذور، وأهلكت أمواله، رُوي أن الله تعالى أرسل عليها نارًا فأحرقتها وغار ماؤها. ﴿ فأصبح يُقلَّب كفَّيه ﴾ ظهرًا لبطن، أو يضرب يديه واحدة على أخرى، يصفق بهما، وهو كناية عن الندم، كأنه قال : فأصبح يندم ﴿ على ما أنفق فيها ﴾ أي : في عمارتها من الأموال. وجعل تخصيص الندم بها دون ما هلك الآن من الجنة ؛ لأنه إنما يكون على الأفعال الاختيارية. انظر أبا السعود.
﴿ وهي ﴾ أي : الجنة ﴿ خاويةً ﴾ : ساقطة ﴿ على عُرُوشها ﴾ أي : دعائمها المصنوعة للكروم، فسقطت العروش أولاً ثم سقطت الكروم عليها. وتخصيص حالها بالذكر، دون الزرع والنخل، إِمَّا لأنها العمدة وهما من متمماتها، وإِمَّا لأن ذكر هلاكها مُغْن عن ذكر هلاك الباقي ؛ لأنها حيث هلكت، وهي مشتدة بعروشها فهلاك ما عداها أولى، وإِمَا لأن الإنفاق في عمارتها أكثر. ﴿ ويقولُ ﴾ أي : يقلب وهو يقول :﴿ يا ليتني لم أشركْ بربي أحدًا ﴾، كأنه تذكر موعظة أخيه، وعَلِمَ أنه إنما أُتِيَ من قِبَلِ شِرْكِهِ، فتمنى أنْ لم يكن مشركًا فلم يصبه ما أصابه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد ضرب الله مثلاً لمن عكف على هواه، وقصر همته على زخارف دنياه، ولمن توجه بهمته إلى مولاه، وقدَّم دنياه لأخراه، فكان عاقبة الأول : الندم والخسران، وعاقبة الثاني : الهنا والرضوان، أوْ لمن وقف مع علمه واعتمد عليه، ولمن تبرأ من حوله وقوته في طلب الوصول إليه.
قال في لطائف المنن : لا تدخل جنة علمك وعملك، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذِل، فأخبر الله عنه بقوله :﴿ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا... ﴾ الآية. ولكن ادخلها كما بيّن لك، وقل كما رَضي لك :﴿ ولولا إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ﴾، وافهم ههنا قوله صلى الله عليه وسلم :" لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله كَنْزٌ من كُنُوزِ الجنة " ١. وفي رواية أخرى :" كنز من كنوز تحت العرش ". فالترجمة : ظاهر الكنز، والمكنوز فيها : صدق التبري من الحول والقوة، والرجوع إلى حول الله وقوته.

﴿ ولم تكن له فئةٌ ﴾ : جماعة ﴿ ينصرونه ﴾ : يقدرون على نصره ؛ بدفع الهلاك عن أمواله، ﴿ من دون الله ﴾، فإنه القادر على ذلك وحده، ﴿ وما كان منتصرًا ﴾ أي : وما كان في نفسه ممنوعًا بقوته من انتقامه سبحانه منه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد ضرب الله مثلاً لمن عكف على هواه، وقصر همته على زخارف دنياه، ولمن توجه بهمته إلى مولاه، وقدَّم دنياه لأخراه، فكان عاقبة الأول : الندم والخسران، وعاقبة الثاني : الهنا والرضوان، أوْ لمن وقف مع علمه واعتمد عليه، ولمن تبرأ من حوله وقوته في طلب الوصول إليه.
قال في لطائف المنن : لا تدخل جنة علمك وعملك، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذِل، فأخبر الله عنه بقوله :﴿ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا... ﴾ الآية. ولكن ادخلها كما بيّن لك، وقل كما رَضي لك :﴿ ولولا إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ﴾، وافهم ههنا قوله صلى الله عليه وسلم :" لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله كَنْزٌ من كُنُوزِ الجنة " ١. وفي رواية أخرى :" كنز من كنوز تحت العرش ". فالترجمة : ظاهر الكنز، والمكنوز فيها : صدق التبري من الحول والقوة، والرجوع إلى حول الله وقوته.

و﴿ هنالك ﴾ : ظرف مقدم، و﴿ الولاية ﴾ : مبتدأ، والظرف : إشارة إلى الآخرة، وهذا أحسن.
﴿ هنالك ﴾ ؛ في ذلك المقام، وفي تلك الحال ﴿ الولاَيةُ لله الحقّ ﴾ أي : النصرة له وحده، لا يقدر عليها أحد غيره، وقُرئ :" الحقِ " ؛ بالكسر، صفة لله، وبالرفع، نعت للولاية. ويُحتمل أن يكون :﴿ هنالك ﴾ ظرفًا لمنتصرًا، أي : وما كان ممتنعًا من انتقام الله منه في ذلك الوقت، ففيه تنبيه على أن قوله :﴿ يا ليتني لم أشرك ﴾ : كان عن اضطرار وجزع مما دهاه، فلذلك لم ينفعه، كقوله تعالى :﴿ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا ﴾
[ غافر : ٨٥ ]. وحينئذ استأنف تعالى الإخبار عن كمال حفظه لأوليائه فقال :﴿ الولايةُ لله الحق ﴾ أي : الحفظ والرعاية والنصرة إنما هي من الله لأوليائه في الدنيا والآخرة، لا يخذلهم في حال من الأحوال، بل يتولى سياستهم ونصرهم وهدايتهم، كما هو شأن من اعتز بالله، دون من اعتز بغيره، فقوله :﴿ ولم تكن له فئة ﴾ : رد لقوله :﴿ وأعزُّ نفرًا ﴾ ؛ أي : بل النصرة لله لأوليائه، دون من تولى غيره.
والحاصل : أن من تولى الله فعاقبته النصرة، ومن تولى غيره فعاقبتُه الخذلان. والعياذ بالله. ويحتمل أن يكون قد تَم الكلام على القصة، ثم أعاد الكلام إلى ما قبل القصة، فقال :﴿ هنالك ﴾ عند ذلك، يعني : يوم القيامة ﴿ الولايةُ لله الحق ﴾ ؛ يتولون الله ويُؤمنون به، ويتبرأون مما كانوا يعبدون، ﴿ هو خيرٌ ثوابًا ﴾ أي : خير من يرجى ثوابه، ﴿ وخيرُ عُقبًا ﴾ أي : عاقبة لأوليائه.
والعُقب : العاقبة، يقال : عاقبة كذا وعُقْبَاهُ وعقبه، أي : آخره. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد ضرب الله مثلاً لمن عكف على هواه، وقصر همته على زخارف دنياه، ولمن توجه بهمته إلى مولاه، وقدَّم دنياه لأخراه، فكان عاقبة الأول : الندم والخسران، وعاقبة الثاني : الهنا والرضوان، أوْ لمن وقف مع علمه واعتمد عليه، ولمن تبرأ من حوله وقوته في طلب الوصول إليه.
قال في لطائف المنن : لا تدخل جنة علمك وعملك، وما أعطيت من نور وفتح فتقول كما قال من خذِل، فأخبر الله عنه بقوله :﴿ ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدًا... ﴾ الآية. ولكن ادخلها كما بيّن لك، وقل كما رَضي لك :﴿ ولولا إِذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ﴾، وافهم ههنا قوله صلى الله عليه وسلم :" لا حَوْلَ ولاَ قُوَّةَ إلاَّ بالله كَنْزٌ من كُنُوزِ الجنة " ١. وفي رواية أخرى :" كنز من كنوز تحت العرش ". فالترجمة : ظاهر الكنز، والمكنوز فيها : صدق التبري من الحول والقوة، والرجوع إلى حول الله وقوته.

ثم ضرب مثلا في سرعة ذهابها وفنائها، فقال :
﴿ وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً ﴾ * ﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾
قلت :﴿ كماءٍ ﴾ : خبر عن مضمر، أي : هي كماء، ويجوز أن يكون مفعولاً ثانيًا لاضْربْ، على أنه بمعنى " صيِّر ".
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ واضربْ لهم مَثَل الحياة الدنيا ﴾ أي : واذكر لهم ما يشبهها في زهرتها ونضارتها، وسرعة انقراضها وفنائها ؛ لئلا يطمئنوا إليها ويغفُلوا عن الآخرة، هي ﴿ كماءٍ أنزلناه من السماء ﴾ وهو المطر، ﴿ فاختلط به ﴾ أي : بسببه ﴿ نباتُ الأرض ﴾ بحيث التف وخالط بعضُه بعضًا ؛ من كثرته وتكاثفه، ثم مرت مدة قليلة ﴿ فأصبح هشيمًا ﴾ أي : مهشومًا مكسورًا، ﴿ تذروه الرياحُ ﴾ أي : تُفرقه وتطيره، كأن لم يَغْنَ بالأمس، ﴿ وكان الله على كل شيء مقتدرًا ﴾ : قادرًا، ومن جملة الأشياء : الإفناء والإنشاء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تقدم، مرارًا، التحذير من الوقوف مع بهجة الدنيا وزخارفها الغرارة ؛ لسرعة ذهابها وانقراضها. رَوى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يا أبا هريرة تريد أن أريك الدنيا " ؟ قلت : نعم، فأخذ بيدي، وانطلق، حتى وقف بي على مزبلة، رؤوس الآدميين ملقاة، وبقايا عظام نخرة، وخِرَق بالية قد تمزقت وتلوثت بنجاسات الآدميين، فقال :" يا أبا هريرة ؛ هذه رؤوس الآدميين التي تراها، كانت مثل رؤوسكم، مملوءة من الحرص والاجتهاد على جمع الدنيا، وكانوا يرجون من طول الأعمار ما ترجون، وكانوا يَجِدُّون في جمع المال وعمارة الدنيا كما تَجِدُّون، فاليوم قد تعرّت عظامهم، وتلاشت أجسامهم كما ترى، وهذه الخرق كانت أثوابهم التي كانوا يتزينون بها، وقت التجمل ووقت الرعونة والتزين، فاليوم قد ألقتها الرياح في النجاسات، وهذه عظام دوابهم التي كانوا يطوفون أقطار الأرض على ظهورها، وهذه النجاسات كانت أطعمتهم اللذيذة التي كانوا يحتالون في تحصيلها، وينهبها بعضُهم من بعض، قد ألقوها عنهم بهذه الفضيحة التي لا يقربها أحد ؛ من نتنها، فهذه جملة أحوال الدنيا كما تُشاهد وترى، فمن أراد أن يبكي على الدنيا فليبك، فإنها موضع البكاء. " قال أبو هريرة رضي الله عنه : فبكى جماعة الحاضرين " ٢.
﴿ المالُ والبنونَ زينةُ الحياةِ الدنيا ﴾ أي : مما تذروه رياح الأقدار، ويلحقه الفناء والبوار، ويدخل في الزينة : الجاهُ، وجميعُ ما فيه للنفس حظ ؛ فإنه يفنى ويبيد، ثم ذكر ما لا يفنى فقال :﴿ والباقياتُ الصالحاتُ ﴾ ؛ وهي أعمال الخير بأسرها، أو : الصلوات الخمس، أو :" سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر "، زاد بعضهم :" ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ". قال عليه الصلاة والسلام :" هي من كنز الجنة، وصفايا الكلام، وهن الباقيات الصالحات، يأتين يوم القيامة مقدمات ومعقبات١ ".
أو : الهمات العالية والنيات الصالحة ؛ إذ بها ترفع الأعمال وتُقبل. أو : كل ما أريد به وجه الله، وسميت باقيةً : لبقاء ثوابها عند فناء كل ما تطمح إليه النفس من حظوظ الدنيا وزينتها الفانية.
قال في الإحياء : كل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا، كالمال والجاه مما ينقضي على القرب، وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات، كالعلم والحرية ؛ لبقائهما ؛ كمالاً فيه، ووسيلة إلى القرب من الله تعالى، أما الحرية من الشهوات فتقطع عن غير الله، وتجرده عن سواه، وأما العلم الحقيقي فيفرده بالله ويجمعه عليه. ه.
وهي، أي : الباقيات الصالحات ﴿ خيرٌ عند ربك ﴾ أي : في الآخرة ﴿ ثوابًا ﴾ أي : عائدة تعود على صاحبها، بخلاف ما شأنه الفناء من المال والبنين ؛ فإنه يفنى ويبيد. وهذا كقوله تعالى :﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾ [ النحل : ٩٦ ]. وقوله :﴿ عند ربك ﴾ : بيان لما يظهر فيه خيريتها، لا لأفضليتها من المال والبنين مع مشاركتها لها في الخيرية ؛ إذ لا مشاركة لهما في الخيرية في الآخرة. ثم قال تعالى :﴿ وخيرٌ أملاً ﴾ أي : ما يُؤمله الإنسان ويرجوه عند الله تعالى ؛ حيث ينال صاحبها في الآخرة كل ما كان يُؤمله في الدنيا، وأما ما مرّ من المال والبنين فليس لصاحبه فيه أمل يناله. وتكرير " خير " ؛ للإشعار باختلاف حيثيتي الخيرية والمبالغة فيه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد تقدم، مرارًا، التحذير من الوقوف مع بهجة الدنيا وزخارفها الغرارة ؛ لسرعة ذهابها وانقراضها. رَوى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" يا أبا هريرة تريد أن أريك الدنيا " ؟ قلت : نعم، فأخذ بيدي، وانطلق، حتى وقف بي على مزبلة، رؤوس الآدميين ملقاة، وبقايا عظام نخرة، وخِرَق بالية قد تمزقت وتلوثت بنجاسات الآدميين، فقال :" يا أبا هريرة ؛ هذه رؤوس الآدميين التي تراها، كانت مثل رؤوسكم، مملوءة من الحرص والاجتهاد على جمع الدنيا، وكانوا يرجون من طول الأعمار ما ترجون، وكانوا يَجِدُّون في جمع المال وعمارة الدنيا كما تَجِدُّون، فاليوم قد تعرّت عظامهم، وتلاشت أجسامهم كما ترى، وهذه الخرق كانت أثوابهم التي كانوا يتزينون بها، وقت التجمل ووقت الرعونة والتزين، فاليوم قد ألقتها الرياح في النجاسات، وهذه عظام دوابهم التي كانوا يطوفون أقطار الأرض على ظهورها، وهذه النجاسات كانت أطعمتهم اللذيذة التي كانوا يحتالون في تحصيلها، وينهبها بعضُهم من بعض، قد ألقوها عنهم بهذه الفضيحة التي لا يقربها أحد ؛ من نتنها، فهذه جملة أحوال الدنيا كما تُشاهد وترى، فمن أراد أن يبكي على الدنيا فليبك، فإنها موضع البكاء. " قال أبو هريرة رضي الله عنه : فبكى جماعة الحاضرين " ٢.

١ أخرجه الطبراني في الأوسط ٤/٢٢٠..
ثم ذكر ما يكون بعد فناء الدنيا التي تقدم مثالها من أهوال الحشر والحساب، فقال :
﴿ وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾ * ﴿ وَعُرِضُواْ عَلَى رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً ﴾ * ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾
قلت :﴿ ويوم ﴾ : معمول لمحذوف، أي : واذكر، أو عطف على قوله :" عند ربك "، أي : والباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة، و﴿ حشرناهم ﴾ : عطف على ﴿ نُسيّر ﴾ ؛ للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المشركون، وعليه يدور أمر الجزاء، وكذا الكلام فيما عطف عليه، منفيًا وموجبًا، وقيل : هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ؛ ليعاينوا تلك الأهوال، كأنه قيل : وحشرناهم قبل ذلك. و﴿ نغادر ﴾ : نترك، يقال : غادره وأغدره : إذا تركه، ومنه : الغدير ؛ لما يتركه السيل في الأرض من الماء.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكر ﴿ يوم نُسيِّرُ الجبالَ ﴾ أي : حين نقلعها من أماكنها ونسيرها في الجو، على هيئتها، كما ينبئ عنه قوله تعالى :﴿ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ﴾ [ النمل : ٨٨ ] أو : نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منثورًا، والمراد من ذكره : تحذير الغافلين مما فيه من الأهوال، وقرئ :" تُسَيَّر " ؛ بالبناء للمفعول ؛ جريًا على سَنَن الكبرياء، وإيذانًا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل ؛ لظهور تعينه، ثم قال :﴿ وترى الأرضَ ﴾ أي : جميع جوانبها، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، أو لكل من يسمع، ﴿ بارزةً ﴾ : ظاهرة، ليس عليها جبل ولا غيره. بل تكون ﴿ فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً( ١٠٦ ) لاَّ تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً( ١٠٧ ) ﴾ [ طه : ١٠٦، ١٠٧ ]. ﴿ وحشرناهم ﴾ : جمعناهم إلى الموقف من كل حدب، مؤمنين وكافرين، ﴿ فلم نُغادرْ ﴾ أي : لم نترك ﴿ منهم أحدًا ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ويوم نُسير جبال الحس، أو الوهم، عن بساط المعاني، وترى أرض العظمة بارزة ظاهرة لا تخفى على أحد، إلا على أَكْمَهَ لا يُبصر القمر في حال كماله، وحشرناهم إلى الحضرة القدسية، فلم نغادر منهم، أي : ممن ذهب عنه الحس والوهم، أحدًا، وعُرضوا على ربك ؛ لشهود أنوار جماله وجلاله، صفًا، للقيام بين يديه، فيقول لهم : لقد جئتمونا من باب التجريد، كما خلقناكم أول مرة، مُطَهَّرِينَ من الدنس الحسي، غائبين عن العلائق والعوائق، وكنتم تزعمون أن هذا اللقاء لا يكون في الدنيا، وإنما موعده الجنة، ومن مات عن شهود حسه، وعن حظوظه، حصل له الشهود واللقاء قبل الموت الحسي، ووضع الكتاب في حق أهل الحجاب، فترى المجرمين من أهل الذنوب مشفقين مما فيه، ووجود العبد : ذَنْبٌ لا يقاس به ذنب، فَنَصْبُ الموازين، ومناقشةُ الحسابِ ؛ إنما هو لأهل الحجاب، وأما العارفون الفانون عن أنفسهم، الباقون بربهم، لم يبق لهم ما يُحاسبون عليه ؛ إذ لا يشهدون لهم فعلاً، ولا يرون لأحد قوة ولا حولا. والله تعالى أعلم.
ولمّا كان سبب العذاب ووجود الحجاب هو التكبر على رب الأرباب، ذكر وبالَهُ بإثر الحشر والحساب، أو تقول : لمَّا ذكر قصة الرجلين ذكر قُبح صنيع من افتخر بنفسه، وأنه شبيه بإبليس، وكل من افتخر واستنكف عن الانتظام في سلك فقراء المؤمنين كان داخلاً في حزبه.

و﴿ صفًّا ﴾ : حال، أي : مصْطفين.
﴿ وعُرِضُوا على ربك ﴾، شبهت حالتهم بحال جُنْدٍ عُرِضَ على السلطان، ليأمر فيهم بما يأمر. وفي الالتفات إلى الغيبة، وبناء الفعل للمفعول، مع التعرض لعنوان الربوبية، والإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - من تربية المهابة، والجري على سَنَن الكبراء، وإظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم - ما لا يخفى. قاله أبو السعود. ﴿ صَفًّا ﴾ أي : مصْطَفِّينَ غير متفرقين ولا مختلطين، كل أمة صَفٌّ، وفي الحديث الصحيح :" يَجْمَعُ اللهُ الأولين والآخرين في صَعِيدٍ واحِد، صفوفًا، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِيِ وَيَنْفُذُهُم البَصَرُ. . . " ١ الحديث بطوله. وفي حديث آخر :" أهل الجنة، يوم القيامة، مائة وعشرون صفًا، أنتم منها ثمانون صفًا " ٢.
يقال لهم - أي : للكفرة منهم :﴿ لقد جئتمونا كما خلقناكم أولَ مرة ﴾، وتركتم ما خولناكم وما أعطيناكم من الأموال وراء ظهوركم. أو : حفاة عراة غُرْلاً، كما في الحديث.
وهذه المخاطبة، بهذا التقريع، إنما هي للكفار المنكرين للبعث، وأما المؤمنون المُقِرون بالبعث فلا تتوجه إليهم هذه المخاطبة، ويدل عليه ما بعده من قوله :﴿ بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدًا ﴾ أي : زعمتم في الدنيا أنه، أي : الأمر والشأن، لن نجعل لكم وقتًا يَتَنَجَّزُ فيه ما وعدته من البعث وما يتبعه.
وهو إضراب وانتقال من كلام، إلى كلام، كلاهما ؛ للتوبيخ والتقريع.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ويوم نُسير جبال الحس، أو الوهم، عن بساط المعاني، وترى أرض العظمة بارزة ظاهرة لا تخفى على أحد، إلا على أَكْمَهَ لا يُبصر القمر في حال كماله، وحشرناهم إلى الحضرة القدسية، فلم نغادر منهم، أي : ممن ذهب عنه الحس والوهم، أحدًا، وعُرضوا على ربك ؛ لشهود أنوار جماله وجلاله، صفًا، للقيام بين يديه، فيقول لهم : لقد جئتمونا من باب التجريد، كما خلقناكم أول مرة، مُطَهَّرِينَ من الدنس الحسي، غائبين عن العلائق والعوائق، وكنتم تزعمون أن هذا اللقاء لا يكون في الدنيا، وإنما موعده الجنة، ومن مات عن شهود حسه، وعن حظوظه، حصل له الشهود واللقاء قبل الموت الحسي، ووضع الكتاب في حق أهل الحجاب، فترى المجرمين من أهل الذنوب مشفقين مما فيه، ووجود العبد : ذَنْبٌ لا يقاس به ذنب، فَنَصْبُ الموازين، ومناقشةُ الحسابِ ؛ إنما هو لأهل الحجاب، وأما العارفون الفانون عن أنفسهم، الباقون بربهم، لم يبق لهم ما يُحاسبون عليه ؛ إذ لا يشهدون لهم فعلاً، ولا يرون لأحد قوة ولا حولا. والله تعالى أعلم.
ولمّا كان سبب العذاب ووجود الحجاب هو التكبر على رب الأرباب، ذكر وبالَهُ بإثر الحشر والحساب، أو تقول : لمَّا ذكر قصة الرجلين ذكر قُبح صنيع من افتخر بنفسه، وأنه شبيه بإبليس، وكل من افتخر واستنكف عن الانتظام في سلك فقراء المؤمنين كان داخلاً في حزبه.


١ أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب ٣، ٩، وتفسير سورة ١٧، باب ٥، ومسلم في الإيمان حديث ٣٢٧، والبر حديث ٥٥..
٢ أخرجه أحمد في المسند ١/٤٥٣..
﴿ ووضع الكتاب ﴾ أي : كتاب كل أحد، إما في يمينه أو شماله، وهو عطف على :﴿ عُرِضوا ﴾، داخلٌ تحت الأمور الهائلة التي أريد بذكرها تذكير وقتها، وأورد فيه ما أورد في أمثاله من صيغة الماضي ؛ لتحقق وقوعه، وإيثار الإفراد ؛ للاكتفاء بالجنس، والمراد : صحائف أعمال العباد. ووضعها إما في أيدي أصحابها يمينًا وشمالاً، أو في الميزان. ﴿ فترى المجرمين ﴾ قاطبة، المنكرون للبعث وغيرهم، ﴿ مشفقين ﴾ : خائفين ﴿ مما فيه ﴾ من الجرائم والذنوب، ﴿ ويقولون ﴾، عند وقوفهم على ما في تضاعيفه ؛ نقيرًا أو قطميرًا :﴿ يا ويلتنا ﴾ أي : ينادون بتهلكتهم التي هُلكوها من بين التهلكات، ومستدعين لها ؛ ليهلكوا، ولا يرون تلك الأهوال، أي : يا ويلتنا احضري ؛ فهذا أوان حضورك، يقولون :﴿ ما لهذا الكتاب لا يُغادرُ ﴾ : لا يترك ﴿ صغيرةً ولا كبيرةً ﴾ من ذنوبنا ﴿ إلا أحصاها ﴾ أي : حواها وضبطها، وجملة ﴿ لا يغادر ﴾ : حال محققة ؛ لِمَا في الاستفهام من التعجب، أو استئنافية مبنية على سؤال مقدر، كأنه قيل : ما شأنه حتى يتعجب منه ؟ فقال : لا يغادر سيئة صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها، ﴿ ووجدوا ما عملوا ﴾ في الدنيا من السيئات، أو جزاء ما عملوا ﴿ حاضرًا ﴾ : مسطورًا عتيدًا، ﴿ ولا يظلم ربُّك أحدًا ﴾، فيكتب ما لم يعمل من السيئات، أو يزيد في عقابه المستحق له. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ويوم نُسير جبال الحس، أو الوهم، عن بساط المعاني، وترى أرض العظمة بارزة ظاهرة لا تخفى على أحد، إلا على أَكْمَهَ لا يُبصر القمر في حال كماله، وحشرناهم إلى الحضرة القدسية، فلم نغادر منهم، أي : ممن ذهب عنه الحس والوهم، أحدًا، وعُرضوا على ربك ؛ لشهود أنوار جماله وجلاله، صفًا، للقيام بين يديه، فيقول لهم : لقد جئتمونا من باب التجريد، كما خلقناكم أول مرة، مُطَهَّرِينَ من الدنس الحسي، غائبين عن العلائق والعوائق، وكنتم تزعمون أن هذا اللقاء لا يكون في الدنيا، وإنما موعده الجنة، ومن مات عن شهود حسه، وعن حظوظه، حصل له الشهود واللقاء قبل الموت الحسي، ووضع الكتاب في حق أهل الحجاب، فترى المجرمين من أهل الذنوب مشفقين مما فيه، ووجود العبد : ذَنْبٌ لا يقاس به ذنب، فَنَصْبُ الموازين، ومناقشةُ الحسابِ ؛ إنما هو لأهل الحجاب، وأما العارفون الفانون عن أنفسهم، الباقون بربهم، لم يبق لهم ما يُحاسبون عليه ؛ إذ لا يشهدون لهم فعلاً، ولا يرون لأحد قوة ولا حولا. والله تعالى أعلم.
ولمّا كان سبب العذاب ووجود الحجاب هو التكبر على رب الأرباب، ذكر وبالَهُ بإثر الحشر والحساب، أو تقول : لمَّا ذكر قصة الرجلين ذكر قُبح صنيع من افتخر بنفسه، وأنه شبيه بإبليس، وكل من افتخر واستنكف عن الانتظام في سلك فقراء المؤمنين كان داخلاً في حزبه.

وقال الواحدي : ثم أمر الله تعالى نبيه أن يذكر لهؤلاء المتكبرين عن مجالسة الفقراء قصة إبليس وما ورثه الكبر، فقال :
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً ﴾ * ﴿ مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً ﴾
قلت :﴿ إلا إبليس ﴾ : استثناء منقطع، إذا قلنا : إن إبليس لم يكن من الملائكة، وإذا قلنا : إنه منهم يكون متصلاً، ويكون معنى " كان " صار، أي : إلا إبليس صار من الجن لمَّا امتنع من السجود، أو بأن الملائكة كان منهم قوم يقال لهم الجن، وهم الذين خُلقوا من النار. وجملة ﴿ كان من الجن ﴾ : استئنافية سيقت مساق التعليل، كأنه قيل : ما له لم يسجد ؟ فقيل : كان أَصْلُهُ جنِّيًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إِذْ قلنا للملائكةِ ﴾ أي : وقت قوْلنا لهم :﴿ اسجدوا لآدمَ ﴾ سجود تحية وتكريم، ﴿ فسجدوا ﴾ جميعًا ؛ امتثالاً للأمر، ﴿ إِلا إِبليسَ ﴾ أبى واستكبر ؛ لأنه ﴿ كان من الجنِّ ﴾، وكان رئيسهم في الأرض، فلما أفسدوا أرسل الله عليهم جندًا من الملائكة، فغزوهم، فهربوا في أقطار الأرض، وأُخذ إبليس أسيرًا، فعرجوا به إلى السماء، فأسلم وتعبد في أقطار السماوات، فلما أُمرت الملائكة بالسجود امتنع ونزع لأصله، ﴿ ففسقَ ﴾ أي : خرج ﴿ عن أمر ربه ﴾ أي : عن طاعته، أو صار فاسقًا كافرًا بسبب أمر الله تعالى ؛ إذ لولا ذلك لَمَا أبى، والتعرض لوصف الربوبية المنافية للفسق ؛ لبيان كمال قُبح ما فعله.
قال تعالى :﴿ أفتتخذونه وذريَّتَه ﴾ أي : أولاده، أو أتباعه، وهم الشياطين، جُعلوا ذريةً ؛ مجازًا. وقال قتادة : إنهم يتوالدون كما يتوالد بنو آدم. وقيل : يُدْخِل ذنَبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين. والهمزة للإنكار والتعجب، والفاء للتعقيب، أي : أَعقبَ عِلْمكُم بصدور تلك القبائح منه، تتخذونه وذريته ﴿ أولياءَ ﴾ ؛ أحبار ﴿ من دوني ﴾ ؛ فتستبدلونهم، وتطيعونهم بدل طاعتي، والحال أنهم، أي : إبليس وذريته ﴿ لكم عدو ﴾ أي : أعداء. وأُفرد ؛ تشبيهًا له بالمصدر، كالقبول والولوع، ﴿ بئس للظالمين ﴾ : الواضعين للشيء في غير محله، ﴿ بدلاً ﴾ استبدلوه من الله تعالى، وهو إبليس وذريته. وفي الالتفات إلى الغيبة، مع وضع الظاهر موضع الضمير، من الإيذان بكمال السخط، والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلم قبيح، ما لا يخفى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية تنفيرٌ من الاستكبار والترفع على عباد الله تشبهًا بإبليس، وحثٌ على التواضع والخضوع لله في خلقه وتجلياته كيفما كانت، وفيها أيضًا الحض على إفراد الوجهة والمحبة لله، والتبري من كل ما سواه مما يشغل عن الله، وفيها أيضًا : النهي عن التطلع إلى ما لم يَرِدْ به من أسرار القدر نصٌ صريح في كتاب الله ولا في سنة رسول الله من أسرار القدر، وفيها أيضًا : النهي عن الاستعانة بأعداء الله في شأن كان. وبالله التوفيق.
﴿ ما أشهدتُهم ﴾ أي : ما أحضرت إبليس وذريته، أو : جميع الكفار ﴿ خلْقَ السماواتِ والأرضِ ﴾، حيث خلقتهما قبل خلقهم، ﴿ ولا خلقَ أنفسهم ﴾ : ولا أشهدت بعضهم خلق بعض : كقوله :﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [ النِّساء : ٢٩ ]. قاله البيضاوي.
قلت : الظاهر إبقاء الأنفس على ظاهرها، أي : ما أحضرتهم خلق أنفسهم، أي : ما كانوا حاضرين حين خلقت أنفسهم، بل هم مُحْدَثُونَ في غاية العجز والجهل، فكيف تتخذونهم أولياء من دوني ؟ وفي الآية رد على المنجِّمين الذين يخوضون في أسرار غيب السماوات بالتخمين، وعلى الطبائعيين من الأطباء ومن سواهم، من كل متخوض في هذه الأشياء، وعلى الكُهَّان وكل من يتطلع على الغيب بطريق الحدس، والمصدقين لهم. انظر ابن عطية.
قال تعالى :﴿ وما كنت مُتَّخِذَ المضلِّينِ ﴾ من الشياطين ﴿ عَضُدًا ﴾ أي : أعوانًا في شأن الخلق، أو في شأن من شؤوني، حتى تتخذوهم أولياء وتُشركوهم في عبادتي، وكان الأصل أن يقول : وما كنت متخذهم، فوقع المظهر موقع الضمير ؛ ذمًا لهم، وتسجيلاًً عليهم بالإضلال، وتأكيدًا لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء، وفيه تهكم بهم وإيذان بكمال ركاكة عقولهم وسخافة آرائهم ؛ حيث لا يفهمون هذا الأمر الجلي الذي لا يكاد يشتبه على أبلدِ الصبيان، فيحتاجون إلى التصريح به. انظر أبا السعود.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : في الآية تنفيرٌ من الاستكبار والترفع على عباد الله تشبهًا بإبليس، وحثٌ على التواضع والخضوع لله في خلقه وتجلياته كيفما كانت، وفيها أيضًا الحض على إفراد الوجهة والمحبة لله، والتبري من كل ما سواه مما يشغل عن الله، وفيها أيضًا : النهي عن التطلع إلى ما لم يَرِدْ به من أسرار القدر نصٌ صريح في كتاب الله ولا في سنة رسول الله من أسرار القدر، وفيها أيضًا : النهي عن الاستعانة بأعداء الله في شأن كان. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وبال من اتخذ وليا غير الله، فقال :
﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً ﴾ * ﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً ﴾
قلت :﴿ موبقًا ﴾ : اسم مكان، أو مصدر، من : وَبَقَ وبوقًا، كوثب وثوبًا، ووَبِقَ وبَقًا، كفرح فرحًا.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكر ﴿ يومَ يقولُ ﴾ الحق تعالى للكفار ؛ توبيخًا وتعجيزًا لهم :﴿ نادُوا شركائِيَ الذين زعمتم ﴾ أنهم شفعاؤكم ؛ ليشفعوا لكم، والمراد بهم كل ما عُبد من دون الله، أو إبليس وذريته، ﴿ فَدَعَوْهم ﴾ أي : نادوهم للإغاثة، ﴿ فلم يستجيبوا لهم ﴾ : فلم يُغيثوهم، ﴿ وجعلنا بينهم ﴾ أي : بين الداعين والمدعوين ﴿ مَّوبقًا ﴾ أي : مهلكًا يهلكون فيه جميعًا، وهو النار، وقيل : العداوة، وهي نوع من الهلاك، لقول عمر رضي الله عنه :" لا يكن حُبك كَلَفًا، ولا بُغْضك تلفًا ". وقيل : المراد بالبيْن : الوصل، أي : وجعلنا وصلهم في الدنيا هلاكًا في الآخرة، كقوله :﴿ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ﴾ [ الأنعَام : ٩٤ ]، وقيل : المراد بالشركاء : الملائكة، وعُزير، وعيسى - عليهم السلام -، ويراد حينئذ بالموبق : البرزخ البعيد، أي : وجعلنا بينهم وبين من عبدوهم برزخًا بعيدًا ؛ لأنهم في قعر جهنم، وهم في أعلى عليين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من اتخذ الله وليًا، بموالاة طاعته وإفراد محبته، كان الله له وليًا ونصيرًا عند احتياجه وفاقته، ومجيبًا له عند دعائه واستغاثته، ومن اتخذ وليًا غير الله خاب ظنه ومناه، فإذا استغاث به جعل بينه وبين المستغيث به موبقًا وبرزخًا بعيدًا، ومن وَالَى أولياء الله فإنما وإلى الله، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ﴾ [ الفَتْح : ١٠ ]. وبالله التوفيق.
﴿ ورأى المجرمون النارَ ﴾، وضع المُظْهَرَ موضع المُضْمَرِ ؛ تصريحًا بإجرامهم، وذمًا لهم، أي : ورأوا النار ﴿ فظنوا ﴾ أي : أيقنوا ﴿ أنهم مُّواقعوها ﴾ ؛ مخالطوها وواقعون فيها، ﴿ ولم يجدوا عنها مَصْرِفًا ﴾ أي : انصرافًا ومعدلاً ينصرفون إليه، نسأل الله السلامة من مواقع الهلاك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : من اتخذ الله وليًا، بموالاة طاعته وإفراد محبته، كان الله له وليًا ونصيرًا عند احتياجه وفاقته، ومجيبًا له عند دعائه واستغاثته، ومن اتخذ وليًا غير الله خاب ظنه ومناه، فإذا استغاث به جعل بينه وبين المستغيث به موبقًا وبرزخًا بعيدًا، ومن وَالَى أولياء الله فإنما وإلى الله، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ﴾ [ الفَتْح : ١٠ ]. وبالله التوفيق.
ثم ذكر كفرهم بالقرآن، مع كونهم آية واضحة للعيان، فقال :
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً ﴾ * ﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً ﴾ * ﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُواْ آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً ﴾ * ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُواْ إِذاً أَبَداً ﴾ * ﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً ﴾ * ﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً ﴾
قلت :﴿ جَدَلاً ﴾ : تمييز.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ولقد صرَّفنا ﴾ أي : كررنا وأوردنا على وجوهٍ كثيرة من النظر العجيب، ﴿ في هذا القرآنِ للناس ﴾ ؛ لمصلحتهم ومنفعتهم، ﴿ من كل مَثَلٍ ﴾ ؛ من كل خبر يحتاجون إليه، أو : من كل مثل مضروب يعتبرون به، ومن جملته ما مر من مثل الرجلين، ومثل الحياة الدنيا. أو : من كل نوع من أنواع المعاني البديعة الداعية إلى الإيمان، التي هي، في الغرابة والحسن واستجلاب القلوب، كالمثل المضروب، ليتلقوه بالقبول، فلم يفعلوا. ﴿ وكان الإنسانُ ﴾ بحسب جِبلَّته ﴿ أكثرَ شيءٍ جدلاً ﴾ أي : أكثر الأشياء، التي يتأتى منها الجدل، جدلاً، وهو هنا شدة الخصومة بالباطل، والمعنى : أن جدله أكثر من جدل كل مجادل، وفيها ذم الجدل. وسببها : مجادلة النضر بن الحارث كما قيل، وهي عامة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد صرّف الله في كتابه العزيز كل ما يحتاج إليه العباد، من علم الظاهر والباطن، لكن خوض القلوب فيما لا يعني، وكثرة مجادلتها بالباطل، صرفتها عن فهم أسرار الكتاب واستخراج غوامضه. فمن صفت مرآة قلبه أدرك ذلك منه.
وتصفيتها بصحبة أهل الصفاء، وهم العارفون بالله، ولا تخلو الأرض منهم حتى يأتي أمر الله، وما منع الناس من الإيمان بهم وتصديقهم إلا انتظارهم ظهور كرامتهم، ونزول العذاب على من آذاهم، وهو جهل بطريق الولاية ؛ لأنهم رحمة للعباد، أرسلهم الحق تعالى في كل زمان، يُذكِّرون الناس بالتحذير والتبشير، وبملاطفة الوعظ والتذكير، فاتخذهم الناس وما ذكروا به هزوًا ولعبًا، حيث حادوا عن تذكيرهم، ونفروا عن صحبتهم، فلا أحد أظلم ممن ذُكِّر بالله وبآياته فأعرض واستكبر ونسي ما قدمت يداه من المعاصي والأوزار، سَبَبُ ذلك : جَعْلُ الأكنة على القلوب، وسَفْحُ رَانِ المعاصي والذنوب، فلا يفقهون وعظًا ولا تذكيرًا، ولا يستمعون تحذيرًا ولا تبشيرًا، وإن تدعهم إلى الهدى والرجوع عن طريق الردى، فلن يهتدوا إذًا أبدًا ؛ لِمَا سبق لهم في سابق القضاء، فلولا مغفرته العامة، ورحمته التامة، لعجل لهم العذاب، لكن له وقت معلوم، وأجل محتوم، لا محيد عنه إذا جاء، ولا ملجأ منه ولا منجا. نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.

﴿ وما منع الناسَ ﴾ أي : أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم، من ﴿ أن يؤمنوا ﴾ بالله تعالى، ويتركوا ما هم فيه من الإشراك، ﴿ إِذْ جاءهُم الهُدَى ﴾ أي : حين جاءهم القرآن الهادي إلى الإيمان، بسبب ما فيه من فنون العلوم وأنواع الإعجاز، فيؤمنوا، ﴿ ويستغفروا ربهم ﴾ عما فرط منهم من أنواع الذنوب، التي من جملتها : مجادلتهم للحق بالباطل، ﴿ إِلا أن تأتيهم سُنَّةُ الأولين ﴾ أي : ما منعهم إلا إتيان سنة الأولين، وهو نزول العذاب المستأصل أو انتظاره، فيكون على حذف مضاف، أي : انتظار سنة الأولين، وهو الهلاك. قال ابن جزي : معناها أن المانع للناس من الإيمان والاستغفار هو القضاء عليهم بأن تأتيهم سُنَّة الأمم المتقدمة، وهي الإهلاك في الدنيا، أو يأتيهم العذاب أي : عذاب الآخرة. ه. قلت : والظاهر أن معنى الآية : ما منعهم من الإيمان إلا انتظار آية يرونها عيانًا، كعادة الأمم الماضية، فيهلكوا كما هي سُنَّة الله في خلقه، أو : عذاب ينزل بهم جهرًا، وهو معنى قوله :﴿ أو يأتيهم العذابُ قُبُلاً ﴾ أي : مقابلة وعيانًا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد صرّف الله في كتابه العزيز كل ما يحتاج إليه العباد، من علم الظاهر والباطن، لكن خوض القلوب فيما لا يعني، وكثرة مجادلتها بالباطل، صرفتها عن فهم أسرار الكتاب واستخراج غوامضه. فمن صفت مرآة قلبه أدرك ذلك منه.
وتصفيتها بصحبة أهل الصفاء، وهم العارفون بالله، ولا تخلو الأرض منهم حتى يأتي أمر الله، وما منع الناس من الإيمان بهم وتصديقهم إلا انتظارهم ظهور كرامتهم، ونزول العذاب على من آذاهم، وهو جهل بطريق الولاية ؛ لأنهم رحمة للعباد، أرسلهم الحق تعالى في كل زمان، يُذكِّرون الناس بالتحذير والتبشير، وبملاطفة الوعظ والتذكير، فاتخذهم الناس وما ذكروا به هزوًا ولعبًا، حيث حادوا عن تذكيرهم، ونفروا عن صحبتهم، فلا أحد أظلم ممن ذُكِّر بالله وبآياته فأعرض واستكبر ونسي ما قدمت يداه من المعاصي والأوزار، سَبَبُ ذلك : جَعْلُ الأكنة على القلوب، وسَفْحُ رَانِ المعاصي والذنوب، فلا يفقهون وعظًا ولا تذكيرًا، ولا يستمعون تحذيرًا ولا تبشيرًا، وإن تدعهم إلى الهدى والرجوع عن طريق الردى، فلن يهتدوا إذًا أبدًا ؛ لِمَا سبق لهم في سابق القضاء، فلولا مغفرته العامة، ورحمته التامة، لعجل لهم العذاب، لكن له وقت معلوم، وأجل محتوم، لا محيد عنه إذا جاء، ولا ملجأ منه ولا منجا. نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.

قال تعالى :﴿ وما نُرسل المرسلين ﴾ إلى الأمم ﴿ إِلا مبشرين ومنذرين ﴾ أي : مبشرين للمؤمنين بالثواب، ومنذرين للكافرين بالعقاب، دون إظهار الآيات واقتراح المعجزات، ﴿ ويُجادل الذين كفروا بالباطل ﴾ ؛ باقتراح الآيات ؛ كالسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها. يفعلون ذلك ﴿ ليُدْحِضُوا به ﴾ أي : بالجدال ﴿ الحقَّ ﴾، أي : يزيلونه عن مركزه ويبطلونه، من إدحاض القدم وهو إزلاقها. وجدالهم : قولهم لرسلهم عليهم السلام :﴿ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ ﴾ [ يس : ١٥ ]، ﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً ﴾
[ المؤمنون : ٢٤ ]، ونحوها. ﴿ واتخذوا آياتي ﴾ التي تخرّ لها صُمُّ الجبال، وهو القرآن، ﴿ وما أنذروا ﴾ أي : وإنذاري لهم، أو : الذي أنذروا به من العذاب والعقاب، ﴿ هُزُوًا ﴾ ؛ مهزوءًا به، أو محل استهزاء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد صرّف الله في كتابه العزيز كل ما يحتاج إليه العباد، من علم الظاهر والباطن، لكن خوض القلوب فيما لا يعني، وكثرة مجادلتها بالباطل، صرفتها عن فهم أسرار الكتاب واستخراج غوامضه. فمن صفت مرآة قلبه أدرك ذلك منه.
وتصفيتها بصحبة أهل الصفاء، وهم العارفون بالله، ولا تخلو الأرض منهم حتى يأتي أمر الله، وما منع الناس من الإيمان بهم وتصديقهم إلا انتظارهم ظهور كرامتهم، ونزول العذاب على من آذاهم، وهو جهل بطريق الولاية ؛ لأنهم رحمة للعباد، أرسلهم الحق تعالى في كل زمان، يُذكِّرون الناس بالتحذير والتبشير، وبملاطفة الوعظ والتذكير، فاتخذهم الناس وما ذكروا به هزوًا ولعبًا، حيث حادوا عن تذكيرهم، ونفروا عن صحبتهم، فلا أحد أظلم ممن ذُكِّر بالله وبآياته فأعرض واستكبر ونسي ما قدمت يداه من المعاصي والأوزار، سَبَبُ ذلك : جَعْلُ الأكنة على القلوب، وسَفْحُ رَانِ المعاصي والذنوب، فلا يفقهون وعظًا ولا تذكيرًا، ولا يستمعون تحذيرًا ولا تبشيرًا، وإن تدعهم إلى الهدى والرجوع عن طريق الردى، فلن يهتدوا إذًا أبدًا ؛ لِمَا سبق لهم في سابق القضاء، فلولا مغفرته العامة، ورحمته التامة، لعجل لهم العذاب، لكن له وقت معلوم، وأجل محتوم، لا محيد عنه إذا جاء، ولا ملجأ منه ولا منجا. نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.

﴿ ومَن أظلمُ ممّن ذُكِّرَ بآياتِ ربه ﴾ وهو القرآن العظيم، ﴿ فأعْرَضَ عنها ﴾ ؛ فلم يتدبرها ولم يؤمن بها، أي : لا أحد أظلم منه ؛ لأنه أظلم من كل ظالم ؛ حيث ضم إلى المجادلة التكذيب والإعراضَ، ﴿ ونَسِيَ ما قدمت يداه ﴾ من الكفر والمعاصي، ولم يتفكر في عاقبتها، ﴿ إِنا جعلنا على قلوبهم أكِنَّةً ﴾ : أغطية كثيرة تمنعهم من التدبر في الآيات، وهو تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم، فعل ذلك بهم كراهة ﴿ أن يفقهوه ﴾، أو : منعناهم أن يقفوا على كنهه. ﴿ و ﴾ جعلنا ﴿ في آذانهم وَقْرًا ﴾ أي : ثِقلاً يمنعهم من استماعه، ﴿ وإِن تَدْعُهُمْ إِلى الهدى فلن يهتدوا إِذًا أبدًا ﴾ أي : فلن يكون منهم اهتداء الْبتةَ مدة التكليف ؛ للطبع المتقدم على قلوبهم، وهذا في قوم مخصوصين سبق لهم الشقاء.
و " إذًا " : حرف جزاء وجواب، وهو، هنا، عن سؤال من النبي صلى الله عليه وسلم المدلول عليه بكمال عنايته بإسلامهم، كأنه قال صلى الله عليه وسلم :" ما لي لا أدعوهم " ؟ فقال : إن تدعهم. . . الخ. وجمع الضمير الراجع إلى الموصول في هذه المواضع الخمسة باعتبار معناه، كما أن إفراده في المواطن الخمسة المتقدمة باعتبار اللفظ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد صرّف الله في كتابه العزيز كل ما يحتاج إليه العباد، من علم الظاهر والباطن، لكن خوض القلوب فيما لا يعني، وكثرة مجادلتها بالباطل، صرفتها عن فهم أسرار الكتاب واستخراج غوامضه. فمن صفت مرآة قلبه أدرك ذلك منه.
وتصفيتها بصحبة أهل الصفاء، وهم العارفون بالله، ولا تخلو الأرض منهم حتى يأتي أمر الله، وما منع الناس من الإيمان بهم وتصديقهم إلا انتظارهم ظهور كرامتهم، ونزول العذاب على من آذاهم، وهو جهل بطريق الولاية ؛ لأنهم رحمة للعباد، أرسلهم الحق تعالى في كل زمان، يُذكِّرون الناس بالتحذير والتبشير، وبملاطفة الوعظ والتذكير، فاتخذهم الناس وما ذكروا به هزوًا ولعبًا، حيث حادوا عن تذكيرهم، ونفروا عن صحبتهم، فلا أحد أظلم ممن ذُكِّر بالله وبآياته فأعرض واستكبر ونسي ما قدمت يداه من المعاصي والأوزار، سَبَبُ ذلك : جَعْلُ الأكنة على القلوب، وسَفْحُ رَانِ المعاصي والذنوب، فلا يفقهون وعظًا ولا تذكيرًا، ولا يستمعون تحذيرًا ولا تبشيرًا، وإن تدعهم إلى الهدى والرجوع عن طريق الردى، فلن يهتدوا إذًا أبدًا ؛ لِمَا سبق لهم في سابق القضاء، فلولا مغفرته العامة، ورحمته التامة، لعجل لهم العذاب، لكن له وقت معلوم، وأجل محتوم، لا محيد عنه إذا جاء، ولا ملجأ منه ولا منجا. نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.

و﴿ ربك ﴾ : مبتدأ و﴿ الغفور ﴾ : خبره، و﴿ ذو الرحمة ﴾ : خبر بعد خبر، وقيل : الخبر :﴿ لو يؤاخذهم ﴾، و﴿ الغفور ذو الرحمة ﴾ : صفتان للمبتدأ، وإيراد المغفرة على جهة المبالغة دون الرحمة ؛ للتنبيه على كثرة الذنوب، وأيضًا : المغفرة ترك المؤاخذة، وهي غير متناهية، والرحمة فعل، وهو متناهي، وتقديم الوصف الأول ؛ لأن التخلية قبل التحلية، و( المُهْلَك ) ؛ بضم الميم وفتح اللام : اسم مصدر، من أهلك، فالمصدر، على هذا، مضاف للمفعول ؛ لأن الفعل متعد، وقرئ بفتح الميم، من هلك، فالمصدر، على هذا، مضاف للفاعل.
﴿ وربُّك الغفور ﴾ : البليغ المغفرة ﴿ ذو الرحمة ﴾ الموصوف بها، ﴿ لو يُؤاخذهم بما كسبوا ﴾ من المعاصي، التي من جملتها : ما حكي عنهم من مجادلتهم بالباطل، وإعراضهم عن آيات ربهم، وعدم مبالاتهم بما اجترحوا من الموبقات، ﴿ لعجَّلَ لهم العذابَ ﴾ قبل يوم القيامة ؛ لاستجلاب أعمالهم لذلك، والمراد : إمهال قريش، مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ﴿ بل لهم موعدٌ ﴾ وهو يوم القيامة، أو يوم بدر، والمعطوف عليه ببل : محذوف، أي : لكنهم ليسوا بمؤاخذين، ﴿ بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه موئلاً ﴾ أي : ملجأ يلتجئون إليه، أو مَنْجىً ينجون به، يقال : وأَلَ : أي : نجا، ووأل إليه : أي : التجأ إليه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد صرّف الله في كتابه العزيز كل ما يحتاج إليه العباد، من علم الظاهر والباطن، لكن خوض القلوب فيما لا يعني، وكثرة مجادلتها بالباطل، صرفتها عن فهم أسرار الكتاب واستخراج غوامضه. فمن صفت مرآة قلبه أدرك ذلك منه.
وتصفيتها بصحبة أهل الصفاء، وهم العارفون بالله، ولا تخلو الأرض منهم حتى يأتي أمر الله، وما منع الناس من الإيمان بهم وتصديقهم إلا انتظارهم ظهور كرامتهم، ونزول العذاب على من آذاهم، وهو جهل بطريق الولاية ؛ لأنهم رحمة للعباد، أرسلهم الحق تعالى في كل زمان، يُذكِّرون الناس بالتحذير والتبشير، وبملاطفة الوعظ والتذكير، فاتخذهم الناس وما ذكروا به هزوًا ولعبًا، حيث حادوا عن تذكيرهم، ونفروا عن صحبتهم، فلا أحد أظلم ممن ذُكِّر بالله وبآياته فأعرض واستكبر ونسي ما قدمت يداه من المعاصي والأوزار، سَبَبُ ذلك : جَعْلُ الأكنة على القلوب، وسَفْحُ رَانِ المعاصي والذنوب، فلا يفقهون وعظًا ولا تذكيرًا، ولا يستمعون تحذيرًا ولا تبشيرًا، وإن تدعهم إلى الهدى والرجوع عن طريق الردى، فلن يهتدوا إذًا أبدًا ؛ لِمَا سبق لهم في سابق القضاء، فلولا مغفرته العامة، ورحمته التامة، لعجل لهم العذاب، لكن له وقت معلوم، وأجل محتوم، لا محيد عنه إذا جاء، ولا ملجأ منه ولا منجا. نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.

﴿ وتلك القرى ﴾ ؛ أي : قرى عاد وثمود وأضرابها، أي : وأهل تلك القرى ﴿ أهلكناهم ﴾ بالعذاب ﴿ لمَّا ظلموا ﴾ أي : وقت ظلمهم، كما فعلت قريش بما حكى عنهم، ﴿ وجعلنا لمهلكهم ﴾ أي : عَيَّنَّا لهلاكهم ﴿ موعدًا ﴾ أي : وقتًا مُعَينًا، لا محيدَ لهم عن ذلك، فلتعتبر قريش بذلك ولا تغتر. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد صرّف الله في كتابه العزيز كل ما يحتاج إليه العباد، من علم الظاهر والباطن، لكن خوض القلوب فيما لا يعني، وكثرة مجادلتها بالباطل، صرفتها عن فهم أسرار الكتاب واستخراج غوامضه. فمن صفت مرآة قلبه أدرك ذلك منه.
وتصفيتها بصحبة أهل الصفاء، وهم العارفون بالله، ولا تخلو الأرض منهم حتى يأتي أمر الله، وما منع الناس من الإيمان بهم وتصديقهم إلا انتظارهم ظهور كرامتهم، ونزول العذاب على من آذاهم، وهو جهل بطريق الولاية ؛ لأنهم رحمة للعباد، أرسلهم الحق تعالى في كل زمان، يُذكِّرون الناس بالتحذير والتبشير، وبملاطفة الوعظ والتذكير، فاتخذهم الناس وما ذكروا به هزوًا ولعبًا، حيث حادوا عن تذكيرهم، ونفروا عن صحبتهم، فلا أحد أظلم ممن ذُكِّر بالله وبآياته فأعرض واستكبر ونسي ما قدمت يداه من المعاصي والأوزار، سَبَبُ ذلك : جَعْلُ الأكنة على القلوب، وسَفْحُ رَانِ المعاصي والذنوب، فلا يفقهون وعظًا ولا تذكيرًا، ولا يستمعون تحذيرًا ولا تبشيرًا، وإن تدعهم إلى الهدى والرجوع عن طريق الردى، فلن يهتدوا إذًا أبدًا ؛ لِمَا سبق لهم في سابق القضاء، فلولا مغفرته العامة، ورحمته التامة، لعجل لهم العذاب، لكن له وقت معلوم، وأجل محتوم، لا محيد عنه إذا جاء، ولا ملجأ منه ولا منجا. نسأل الله العصمة بمنِّه وكرمه.

ولمَّا ذكر الحق جلّ جلاله قصة أهل الكهف، وكان وقع فيها عتاب للرسول - عليه الصلاة والسلام - حيث لم يستثن بتأخير الوحي، وبقوله :﴿ ولا تقولن لشيء. . . ﴾ الخ، ذكر هنا قصة موسى مع الخضر - عليهما السلام - وكان سَبَبُها عتابَ الحق لموسى عليه السلام ؛ حيث لم يردَّ العلم إليه، حين قال له القائل : هل تعلم أحدًا أعلم منك ؟ فقال : لا، فذكر الحق تعالى قصتهما ؛ تسليةً لنبينا عليه الصلاة والسلام بمشاركة العتاب، فقال :﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً ﴾
قلت :﴿ لا أبرح ﴾ : ناقصة، وخبرها : محذوف : اعتمادًا على قرينة الحال ؛ إذ كان ذلك عن التوجه إلى السفر، أي : لا أبرح أسير في سفري هذا، ويجوز أن تكون تامة، من زال يزول، أي : لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ. . . الخ.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ و ﴾ اذكر ﴿ إذ قال موسى لفتاه ﴾ يوشع بن نون بن إفراثيم بن يوسف عليه السلام، وكان ابن أخته، سُمي فتاه ؛ إذ كان يخدمه ويتبعه ويتعلم منه العلم. والفتى في لغة العرب : الشاب، ولمَّا كانت الخدمة أكثر ما تكون من الفتيان، قيل للخادم : فتى، ويقال للتلميذ : فتى، وإن كان شيخًا، إذا كان في خدمة شيخه، فقال موسى عليه السلام :﴿ لا أبرحُ ﴾ : لا أزال أسير في طلب هذا الرجل، يعني : الخضر عليه السلام، ﴿ حتى أبلغَ مَجْمَعَ البحرين ﴾، وهو ملتقى بحر فارس والروم مما يلي المشرق، وهذا مذهب الأكثر. وقال ابن جزي : مجمع البحرين : عند " طنجة " ؛ حيث يتجمع البحر المحيط والبحر الخارج منه، وهو بحر الأندلس. قلت : وهو قول كعب بن محمد القرظي. ﴿ أو أَمْضِيَ حُقُبًا ﴾ أي : زمنًا طويلاً أتيقن معه فوات الطلب. والحقب : الدهر، أو ثمانون سنة، أو سبعون.
وسبب هذا السفر : أن موسى عليه السلام لما ظهر على مصر، بعد هلاك القبط، أمره الله تعالى أن يُذّكر قومه هذه النعمة، فقام فيهم خطيبًا بخطبة بليغة، رقَّت بها القلوب، وذرفت منها العيون، فقالوا له : من أعلم الناس ؟ فقال : أنا. وفي رواية : هل تعلم أحدًا أعلم منك ؟ فقال : لا. فعَتَب الله عليه ؛ إذ لم يَرُدَّ العلم إليه عزّ وجلّ، فأوحى الله إليه :" أعلم منك عبدٌ لي بمجمع البحرين، وهو الخضر " ١، وكان قبل موسى عليه السلام، وكان في مُقَدَّمَةِ ذي القرنين، فبقي إلى زمن موسى عليه السلام، وسيأتي ذكر التعريف به في محله، إن شاء الله.
وقال ابن عباس رضي الله عنه : إن موسى عليه السلام سأل ربه : أيُّ عبادك أحب إليك ؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني، قال : فأي عبادك أقضى ؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى، قال : فأي عبادك أعلم ؟ قال : الذي يستقي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمةً تدله على هدى، أو ترده عن ردى، قال : يا رب إن كان في عبادك من هو أعلم مني فدلني عليه ؟ قال : أعلم منك الخضر، قال : أين أطلبه ؟ قال : على ساحل البحر عند الصخرة٢.
قال : يا رب، كيف لي به ؟ قال : خُذ حُوتًا في مِكْتَلٍ، فحيثما فقدتَه فهو هناك، فأخذ حُوتًا مشويًا، فجعله في مِكْتَلٍ، فقال لفتاه : إذا فقدتَّ الحوت فأخبرني، وذهبا يمشيان إلى أن اتصلا بالخضر، على ما يأتي تمامه، إن شاء الله تعالى. وحديث الخطبة هو الذي في صحيح البخاري وغيره. والله تعالى أعلم أيُّ ذلك كان.
الإشارة : قصة سيدنا موسى مع الخضر - عليهما السلام - هي السبب في ظهور التمييز بين أهل الظاهر وأهل الباطن، فأهل الظاهر قائمون بإصلاح الظواهر، وأهل الباطن قائمون بتحقيق البواطن. أهل الظاهر مغترفون من بحر الشرائع، وأهل الباطن مغترفون من بحر الحقائق. قيل : هو المراد بمجمع البحرين، حيث اجتمع سيدنا موسى، الذي هو بحر الشرائع، والخضر عليه السلام، الذي هو بحر الحقائق، ولا يُفهم أن سيدنا موسى عليه السلام خال من بحر الحقائق، بل كان جامعًا كاملاً، وإنما أراد الحق تعالى أن يُنزله إلى كمال الشرف، بالتواضع في طلب زيادة العلم ؛ تأديبًا له وتربية، حيث ادعى القوة في نسبته العلم إلى نفسه، وفي الحِكَم :" منعك أن تدعي ما ليس لك مما للمخلوقين، أَفَيُبيح لك أن تدعي وصفه وهو رب العالمين ! ".
وهذه عادة الله تعالى مع خواصِّ أحبائه، إذا أظهروا شيئًا من القوة، أو خرجوا عن حد العبودية، ولو أنملة، أدبهم بأصغر منهم علمًا وحالاً ؛ عناية بهم، وتشريفًا لهم ؛ لئلا يقفوا دون ذروة الكمال، كقضية الشاذلي مع المرأة التي قالت له : تَمُنُّ على ربك بجوع ثمانين يومًا، وأنا لي تسعة أشهر ما ذقت شيئًا. وكقضية الجنيد والسَّرِي في جماعة من الصوفية، حيث تكلموا في المحبة، وفاض كل واحد على قدر اتساع بحره فيها، فقامت امرأة بالباب، عليها جُبة صوف، فردت على كل واحد ما قال، حيث أظهروا قوة علمهم، فأدبهم بامرأة.
ويؤخذ من طلب موسى الخضر - عليهما السلام - والسفر إليه : الترغيب في العلم، ولا سيما علم الباطن، فطلبه أمر مؤكد. قال الغزالي رضي الله عنه : هو فرض عين ؛ إذ لا يخلو أحد من عيب أو إصرار على ذنب، إلا الأنبياء - عليهم السلام - وقد قال الشاذلي رضي الله عنه : من لم يغلغل في علمنا هذا مات مُصرًا على الكبائر وهو لا يشعر. وبالله التوفيق.
١ أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب ٢٧..
٢ أخرجه الطبري في تفسيره ١٥/٢٧٧..
ثم ذكر بقية القصة، فقال :
﴿ فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً ﴾ * ﴿ فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً ﴾ * ﴿ قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً ﴾ * ﴿ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً ﴾ * ﴿ فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً ﴾
قلت :﴿ بينهما ﴾ : ظرف مضاف إليه ؛ اتساعًا، أو بمعنى الوصل، و﴿ سَرَبًا ﴾ : مفعول ثان لاتخذ.
يقول الحقّ جلّ جلاله : ثم إن موسى ويوشع - عليهما السلام - حملا حوتًا مشويًا وخُبزًا، وسارا يلتمسان الخضر، ﴿ فلما بلغا مَجْمَعَ بينهما ﴾ ؛ بين البحرين، أو مجمع وصل بعضهما ببعض، وجدا صخرة هناك، وعندها عين الحياة، لا يصيب ذلك الماءُ شيئًا إلا حَيِيَ بإذن الله، وكانا وَصَلاَ إليها ليلاً، فناما، فلما أصاب السمكة رَوْحُ الماء وبردُه اضطرب في المِكْتَلِ، ودخل البحر، وقد كانا أَكَلاَ منه، وكان ذلك بعد استيقاظ يوشع، وقيل : توضأ عليه السلام من تلك العين، فانتضح الماء على الحوت، فحيى ودخل البحر، فاستيقظ موسى، وذهبا، و﴿ نَسِيَا حوتَهما ﴾ أي : نسيا تفقد أمره وما يكون منه، أو نسي يوشع أن يعلمه، وموسى عليه السلام أن يأمر فيه بشيء، ﴿ فاتخذ ﴾ الحوت ﴿ سبيله ﴾ أي : طريقه ﴿ في البحر سَرَبًا ﴾ ؛ مسلكًا كالطّاق، قيل : أمسك الله جرية الماء على الحوت فجمد، حتى صار كالطاق في الماء ؛ معجزة لموسى أو الخضر - عليهما السلام -.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إنما صار الحوت دليلاً لسيدنا موسى عليه السلام بعد موته وخروجه عن إلفه، ثم حيى حياة خصوصية لَمَّا أنفق عليه من عين الحياة، كذلك العارف لا يكون دالاً على الله، وإمامًا يقتدى به حتى يموت عن شهود حسه، ويخرق عوائد نفسه، ويفنى عن بشريته، ويبقى بربه، حينئذ تحيا روحه بشهود عظمة ربه، ويصير إمامًا ودليلاً موصلاً إليه، ويَظهر منه خرق العوائد، كما ظهر من الحوت، حيث أمسك عن الماء الجرية فصار كالطَّاق، وذلك اقتدار، وإلى ذلك تشير أحوال الخضر، فكان الحوت مظهرًا لحاله في تلك القصة. قاله في الحاشية بمعناه.
وقال قبل ذلك في قوله :﴿ واتخذ سبيله في البحر عَجَبًا ﴾ : أي اتخذ الحوتُ، وجوِّزَ كونُ فاعلِ ( اتخذ ) : موسى، أي : اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبًا وخرقَ عادةٍ ؛ بأن مشى على الماء في طريق الحوت، حتى وجد الخضر على كبد البحر. ثم قال : وعلى الجملة : فالقضية تشير من جهة الخضر : للاقتدار وإسقاط الأسباب، ومن جهة موسى : لإثبات الأسباب ؛ حكمة، وحالة الاقتدار أشرف، وصاحب الحكمة أكمل ونفعه عام، بخلاف الآخر، فإن نفعه خاص. هـ.
وقوله تعالى :﴿ وعلّمناه من لدُنَّا علمًا ﴾، العلم اللدني : هو الذي يفيض على القلب من غير اكتساب ولا تعلم، قال عليه الصلاة والسلام :" من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللهُ علمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ". وذلك بعد تطهير القلب من النقائص والرذائل، وتفرغه من العلائق والشواغل، فإذا كمل تطهير القلب، وانجذب إلى حضرة الرب، فاضت عليه العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، منها ما تفهمها العقول وتدخل تحت دائرة النقول، ومنها ما لا تفهمها العقول ولا تحيط بها النقول، بل تُسلم لأربابها، من غير أن يقتدى بهم في أمرها، ومنها ما تفيض عليهم في جانب علم الغيوب ؛ كمواقع القدر وحدوث الكائنات المستقبلة، ومنها ما تفيض عليهم في علوم الشرائع وأسرار الأحكام، ومنها في أسرار الحروف وخواص الأشياء، إلى غير ذلك من علوم الله تعالى. وبالله التوفيق.

﴿ فلما جاوزا ﴾ مجمع البحرين، الذي جُعل موعدًا للملاقاة، وسارا بقية ليلتهما ويومهما إلى الظهر، وجد موسى عليه السلام حَرَّ الجوع، ف ﴿ قال لفتاه آتنا غداءنا ﴾ أي : ما نتغدى به، وهو الحوت، كما يُنبئ عنه الجواب، ﴿ لقد لَقِينا من سفرنا هذا نصبًا ﴾ : تعبًا وإعياء. قيل : لم يَنْصَبْ موسى ولم يَجُعْ قبل ذلك، ويدل عليه الإتيان بالإشارة، وجملة ﴿ لقد لقينا ﴾ : تعليل للأمر بإيتاء الغذاء، إما باعتبار أن النَّصَب إنما يعتري بسبب الضعف الناشئ عن الجوع، وإمَّا باعتبار ما في أثناء التغذي من استراحة مَّا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إنما صار الحوت دليلاً لسيدنا موسى عليه السلام بعد موته وخروجه عن إلفه، ثم حيى حياة خصوصية لَمَّا أنفق عليه من عين الحياة، كذلك العارف لا يكون دالاً على الله، وإمامًا يقتدى به حتى يموت عن شهود حسه، ويخرق عوائد نفسه، ويفنى عن بشريته، ويبقى بربه، حينئذ تحيا روحه بشهود عظمة ربه، ويصير إمامًا ودليلاً موصلاً إليه، ويَظهر منه خرق العوائد، كما ظهر من الحوت، حيث أمسك عن الماء الجرية فصار كالطَّاق، وذلك اقتدار، وإلى ذلك تشير أحوال الخضر، فكان الحوت مظهرًا لحاله في تلك القصة. قاله في الحاشية بمعناه.
وقال قبل ذلك في قوله :﴿ واتخذ سبيله في البحر عَجَبًا ﴾ : أي اتخذ الحوتُ، وجوِّزَ كونُ فاعلِ ( اتخذ ) : موسى، أي : اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبًا وخرقَ عادةٍ ؛ بأن مشى على الماء في طريق الحوت، حتى وجد الخضر على كبد البحر. ثم قال : وعلى الجملة : فالقضية تشير من جهة الخضر : للاقتدار وإسقاط الأسباب، ومن جهة موسى : لإثبات الأسباب ؛ حكمة، وحالة الاقتدار أشرف، وصاحب الحكمة أكمل ونفعه عام، بخلاف الآخر، فإن نفعه خاص. هـ.
وقوله تعالى :﴿ وعلّمناه من لدُنَّا علمًا ﴾، العلم اللدني : هو الذي يفيض على القلب من غير اكتساب ولا تعلم، قال عليه الصلاة والسلام :" من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللهُ علمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ". وذلك بعد تطهير القلب من النقائص والرذائل، وتفرغه من العلائق والشواغل، فإذا كمل تطهير القلب، وانجذب إلى حضرة الرب، فاضت عليه العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، منها ما تفهمها العقول وتدخل تحت دائرة النقول، ومنها ما لا تفهمها العقول ولا تحيط بها النقول، بل تُسلم لأربابها، من غير أن يقتدى بهم في أمرها، ومنها ما تفيض عليهم في جانب علم الغيوب ؛ كمواقع القدر وحدوث الكائنات المستقبلة، ومنها ما تفيض عليهم في علوم الشرائع وأسرار الأحكام، ومنها في أسرار الحروف وخواص الأشياء، إلى غير ذلك من علوم الله تعالى. وبالله التوفيق.

و﴿ إذ أوينا ﴾ : متعلق بمحذوف، أي : أخبرني ما دهاني حين أويتُ إلى الصخرة حتى لم أخبرك بأمر الحوت، فإني نسيتُ أن أذكر لك أمره. و﴿ أن أذكره ﴾ : بدل من الهاء في ﴿ أنسانيه ﴾ ؛ بدل اشتمال ؛ للمبالغة، و﴿ عجبًا ﴾ : مفعول ثان لاتخذ، وقيل : إن الكلام قد تم عند قوله :﴿ في البحر ﴾، ثم ابتدأ التعجب فقال :﴿ عجبًا ﴾ أي : أَعْجَبُ عَجَبًا، وهو بعيد. قاله ابن جزي. قلت : وهذا البعيد هو الذي ارتكب الهبطي.
﴿ قال ﴾ فتاه عليه السلام :﴿ أرأيت إذ أوينا إِلى الصخرة ﴾ أي : التجأنا إليها ونِمنا عندها، ﴿ فإني نسيتُ الحوت ﴾ أي : أخبرني ما دهاني حتى لم أذكر لك أمر الحوت، فإني نسيتُ أن أذكر لك أمره، ومراده بالاستفهام تعجيب موسى عليه السلام مما اعتراه من النسيان، مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى، ﴿ وما أنسانيهُ إِلا الشيطانُ ﴾ بوسوسته الشاغلة له عن ذلك، ﴿ أن أذكره ﴾، ونسبته للشيطان ؛ هضمًا لنفسه، واستعمال الأدب في نسبة النقائص إلى الشيطان، وإن كان الكل من عند الله.
وهذه الحالة، وإن كانت غريبة لا يعهد نسيانها، لكنه قد تعَوَدَّ بمشاهدة أمثالها من الخوارق مع موسى عليه السلام، وأَلِفَهَا قبل اهتمامه بالمحافظة عليها، أو لاستغراقه وانجذاب سره إلى جناب القدس، حتى غاب عن الإخبار بها.
﴿ قلت ﴾ : والظاهر أن نسيانه كان أمرًا إلهياً قهريًا بلا سبب، وحكمتُه ما لقي من النصب ؛ لتعظُم حلاوة العلم الذي يأخذه عن الخضر عليه السلام، فإن المُساق بعد التعب ألذ من المساق بغير تعب، ولذلك :" حفت الجنة بالمكاره ".
ثم قال :﴿ واتخذ ﴾ الحوتُ ﴿ سبيلَه في البحر عَجَبًا ﴾، فيه حذف، أي فحيى الحوت، واضطرب، ووقع في البحر، واتخذ سبيله فيه سبيلاً عجبًا، أو اتخاذًا عجبًا يُتعجب منه، وهو كون مسلكه كالطاق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إنما صار الحوت دليلاً لسيدنا موسى عليه السلام بعد موته وخروجه عن إلفه، ثم حيى حياة خصوصية لَمَّا أنفق عليه من عين الحياة، كذلك العارف لا يكون دالاً على الله، وإمامًا يقتدى به حتى يموت عن شهود حسه، ويخرق عوائد نفسه، ويفنى عن بشريته، ويبقى بربه، حينئذ تحيا روحه بشهود عظمة ربه، ويصير إمامًا ودليلاً موصلاً إليه، ويَظهر منه خرق العوائد، كما ظهر من الحوت، حيث أمسك عن الماء الجرية فصار كالطَّاق، وذلك اقتدار، وإلى ذلك تشير أحوال الخضر، فكان الحوت مظهرًا لحاله في تلك القصة. قاله في الحاشية بمعناه.
وقال قبل ذلك في قوله :﴿ واتخذ سبيله في البحر عَجَبًا ﴾ : أي اتخذ الحوتُ، وجوِّزَ كونُ فاعلِ ( اتخذ ) : موسى، أي : اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبًا وخرقَ عادةٍ ؛ بأن مشى على الماء في طريق الحوت، حتى وجد الخضر على كبد البحر. ثم قال : وعلى الجملة : فالقضية تشير من جهة الخضر : للاقتدار وإسقاط الأسباب، ومن جهة موسى : لإثبات الأسباب ؛ حكمة، وحالة الاقتدار أشرف، وصاحب الحكمة أكمل ونفعه عام، بخلاف الآخر، فإن نفعه خاص. هـ.
وقوله تعالى :﴿ وعلّمناه من لدُنَّا علمًا ﴾، العلم اللدني : هو الذي يفيض على القلب من غير اكتساب ولا تعلم، قال عليه الصلاة والسلام :" من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللهُ علمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ". وذلك بعد تطهير القلب من النقائص والرذائل، وتفرغه من العلائق والشواغل، فإذا كمل تطهير القلب، وانجذب إلى حضرة الرب، فاضت عليه العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، منها ما تفهمها العقول وتدخل تحت دائرة النقول، ومنها ما لا تفهمها العقول ولا تحيط بها النقول، بل تُسلم لأربابها، من غير أن يقتدى بهم في أمرها، ومنها ما تفيض عليهم في جانب علم الغيوب ؛ كمواقع القدر وحدوث الكائنات المستقبلة، ومنها ما تفيض عليهم في علوم الشرائع وأسرار الأحكام، ومنها في أسرار الحروف وخواص الأشياء، إلى غير ذلك من علوم الله تعالى. وبالله التوفيق.

و﴿ قصصًا ﴾ : مصدر، أي : يقصان قصصًا.
﴿ قال ﴾ موسى عليه السلام :﴿ ذلك ما كنا نبغ ﴾ أي : ذلك الذي ذكرت من أمر الحوت هو الذي كُنا نطلبه ؛ لكونه أمارة للفوز بالمرام، ﴿ فارتدَّا ﴾ أي : رجعا ﴿ على ﴾ طريقهما الذي جاءا منه، يَقُصَّان. يتبعان ﴿ آثارِهما قَصَصًا ﴾، حتى أتيا الصخرة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إنما صار الحوت دليلاً لسيدنا موسى عليه السلام بعد موته وخروجه عن إلفه، ثم حيى حياة خصوصية لَمَّا أنفق عليه من عين الحياة، كذلك العارف لا يكون دالاً على الله، وإمامًا يقتدى به حتى يموت عن شهود حسه، ويخرق عوائد نفسه، ويفنى عن بشريته، ويبقى بربه، حينئذ تحيا روحه بشهود عظمة ربه، ويصير إمامًا ودليلاً موصلاً إليه، ويَظهر منه خرق العوائد، كما ظهر من الحوت، حيث أمسك عن الماء الجرية فصار كالطَّاق، وذلك اقتدار، وإلى ذلك تشير أحوال الخضر، فكان الحوت مظهرًا لحاله في تلك القصة. قاله في الحاشية بمعناه.
وقال قبل ذلك في قوله :﴿ واتخذ سبيله في البحر عَجَبًا ﴾ : أي اتخذ الحوتُ، وجوِّزَ كونُ فاعلِ ( اتخذ ) : موسى، أي : اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبًا وخرقَ عادةٍ ؛ بأن مشى على الماء في طريق الحوت، حتى وجد الخضر على كبد البحر. ثم قال : وعلى الجملة : فالقضية تشير من جهة الخضر : للاقتدار وإسقاط الأسباب، ومن جهة موسى : لإثبات الأسباب ؛ حكمة، وحالة الاقتدار أشرف، وصاحب الحكمة أكمل ونفعه عام، بخلاف الآخر، فإن نفعه خاص. هـ.
وقوله تعالى :﴿ وعلّمناه من لدُنَّا علمًا ﴾، العلم اللدني : هو الذي يفيض على القلب من غير اكتساب ولا تعلم، قال عليه الصلاة والسلام :" من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللهُ علمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ". وذلك بعد تطهير القلب من النقائص والرذائل، وتفرغه من العلائق والشواغل، فإذا كمل تطهير القلب، وانجذب إلى حضرة الرب، فاضت عليه العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، منها ما تفهمها العقول وتدخل تحت دائرة النقول، ومنها ما لا تفهمها العقول ولا تحيط بها النقول، بل تُسلم لأربابها، من غير أن يقتدى بهم في أمرها، ومنها ما تفيض عليهم في جانب علم الغيوب ؛ كمواقع القدر وحدوث الكائنات المستقبلة، ومنها ما تفيض عليهم في علوم الشرائع وأسرار الأحكام، ومنها في أسرار الحروف وخواص الأشياء، إلى غير ذلك من علوم الله تعالى. وبالله التوفيق.

﴿ فوجدا عبدًا من عبادنا ﴾، التنكير ؛ للتفخيم والإضافة ؛ للتعظيم، وهو الخضر عليه السلام عند الجمهور، واسمه : بَلْيَا بن مَلْكَان يُعْصوا، والخضر لقب له ؛ لأنه جلس على فروةٍ بيضاء فاهتزّت تحته خضراء، كما في حديث أبي هريرة - عنه - صلى الله عليه وسلم١.
وقال مجاهد : سمي خضرًا ؛ لأنه كان إذا صلى خضر ما حوله، ثم قال : وهو ابن عابر بن شالِخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، وكان أبوه ملكًا. ه. وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر قصة الخضر، فقال :" كان ابن ملك من الملوك، فأراد أبوه أن يستخلفه من بعده، فأبى وهرب، ولحق بجزائر البحر، فلم يقدر عليه. قيل إنه شرب من عين الحياة ؛ فمُتع بطول الحياة.
رُوِيَ أن موسى عليه السلام حين انتهى إلى الصخرة رأى الخضر عليه السلام على طنْفَسَةٍ - أي : بساط - على وجه الماء، فسلم عليه. وعنه - عليه الصلاة والسلام - أنه قال :" انتهى موسى إلى الخضر، وهو نائم مُسَجى عليه ثوب، فسلَّمَ عليه فاستوى جالسًا، وقال : عليك السلام يا نبي بني إسرائيل، فقال موسى : من أخبرك أني نبي بني إسرائيل ؟ قال : الذي أدراكَ بي، وذلك عليَّ.
قال تعالى في حق الخضر :﴿ آتيناه رحمةً من عندنا ﴾، هي الوحي والنبوة، كما يُشعر به تنكير الرحمة، وإضافتها إلى جناب الكبرياء، وقيل : هي سر الخصوصية، وهي الولاية. ﴿ وعلَّمناه من لَّدُنَّا عِلْمًا ﴾ خاصًا، لا يكتنه كُنْهه، ولا يُقدر قدره، وهو علم الغيوب، أو أسرار الحقيقة، أو علم الذات والصفات، علمًا حقيقيًا. فالخضر عليه السلام قيل : إنه نبي ؛ بدليل قوله فيما يأتي :﴿ وما فعلته عن أمري ﴾، وقيل : وَلِيٌّ، واخْتلف : هل مات، أو هو حي ؟ وجمهور الأولياء : أنه حي، وقد لقيه كثيرٌ من الصلحاء والأولياء، حتى تواتر عنهم حياته. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إنما صار الحوت دليلاً لسيدنا موسى عليه السلام بعد موته وخروجه عن إلفه، ثم حيى حياة خصوصية لَمَّا أنفق عليه من عين الحياة، كذلك العارف لا يكون دالاً على الله، وإمامًا يقتدى به حتى يموت عن شهود حسه، ويخرق عوائد نفسه، ويفنى عن بشريته، ويبقى بربه، حينئذ تحيا روحه بشهود عظمة ربه، ويصير إمامًا ودليلاً موصلاً إليه، ويَظهر منه خرق العوائد، كما ظهر من الحوت، حيث أمسك عن الماء الجرية فصار كالطَّاق، وذلك اقتدار، وإلى ذلك تشير أحوال الخضر، فكان الحوت مظهرًا لحاله في تلك القصة. قاله في الحاشية بمعناه.
وقال قبل ذلك في قوله :﴿ واتخذ سبيله في البحر عَجَبًا ﴾ : أي اتخذ الحوتُ، وجوِّزَ كونُ فاعلِ ( اتخذ ) : موسى، أي : اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبًا وخرقَ عادةٍ ؛ بأن مشى على الماء في طريق الحوت، حتى وجد الخضر على كبد البحر. ثم قال : وعلى الجملة : فالقضية تشير من جهة الخضر : للاقتدار وإسقاط الأسباب، ومن جهة موسى : لإثبات الأسباب ؛ حكمة، وحالة الاقتدار أشرف، وصاحب الحكمة أكمل ونفعه عام، بخلاف الآخر، فإن نفعه خاص. هـ.
وقوله تعالى :﴿ وعلّمناه من لدُنَّا علمًا ﴾، العلم اللدني : هو الذي يفيض على القلب من غير اكتساب ولا تعلم، قال عليه الصلاة والسلام :" من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أَوْرَثَهُ اللهُ علمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ". وذلك بعد تطهير القلب من النقائص والرذائل، وتفرغه من العلائق والشواغل، فإذا كمل تطهير القلب، وانجذب إلى حضرة الرب، فاضت عليه العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، منها ما تفهمها العقول وتدخل تحت دائرة النقول، ومنها ما لا تفهمها العقول ولا تحيط بها النقول، بل تُسلم لأربابها، من غير أن يقتدى بهم في أمرها، ومنها ما تفيض عليهم في جانب علم الغيوب ؛ كمواقع القدر وحدوث الكائنات المستقبلة، ومنها ما تفيض عليهم في علوم الشرائع وأسرار الأحكام، ومنها في أسرار الحروف وخواص الأشياء، إلى غير ذلك من علوم الله تعالى. وبالله التوفيق.


١ أخرجه البخاري في أحاديث الأنبياء باب ٢٧..
ثم تمم قصتهما بعد التقائهما، فقال :
﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً ﴾ * ﴿ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ * ﴿ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً ﴾ * ﴿ قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَآءَ اللَّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً ﴾ * ﴿ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً ﴾
قلت :﴿ رُشْدًا ﴾ : مفعول ثاني لعلمت، أو : علة لأتبعك، أو : مصدر بإضمار فعله، أو : حال من كاف ﴿ أتبعك ﴾، أو : على إسقاط الخافض، أي : من الرشد، وفيه لغتان : ضم الراء وسكون الشين، وفتحهما، وهو : إصابة الخير.
يقول الحقّ جلّ جلاله : ولما اتصل موسى بالخضر - عليهما السلام - استأذنه في صحبته ليتعلم منه، ملاطفة وأدباً وتواضعاً، وكذلك ينبغي لمن يريد التعلم من المشايخ : أن يتأدب ويتواضع معهم. ﴿ قال له موسى هل أتبعك على أن تُعلّمَنِ رُشدًا ﴾ أي : مما علمك الله من العلم الذي يدل على الرشد وإصابة الصواب، لعلي أرشد به في ديني. ولا ينافي كونه نبيًا ذا شريعة أن يتعلم من غيره من أسرار العلوم الخفية ؛ إذ لا نهاية لعلمه تعالى، وقد قال له تعالى فيما تقدم : أعلم الناس من يبتغي علم غيره إلى علمه. رُوي أنهما لما التقيا جلسا يتحدثان، فجاءت خُطافة أو عصفور فنقر في البحر نقرة أو نقرتين، فقال الخضر : يا موسى خطر ببالك أنك أعلم أهل الأرض ؟ ما علمك وعلمي وعلم الأولين والآخرين في جنب علم الله إلا أقل من الماء الذي حمله هذا العصفور.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد أخذ الصوفية - رضي الله عنهم - آداب المريد مع الشيخ من قضية الخضر مع موسى - عليهما السلام - ؛ فطريقتهم مبنية على السكوت والتسليم، حتى لو قال لشيخه : لِمَ ؟ لَمْ يفلح أبدًا، سواء رأى من شيخه منكرًا أو غيره، ولعله اختبار له في صدقه، أو اطلع على باطن الأمر فيه، فأحوالهم خضرية، فالمريد الصادق يُسلم لشيخه في كل ما يرى، ويمتثل أمره في كل شيء، فَهِم وجه الشريعة فيه أم لا، هذا في علم الباطن، وأما علم الظاهر فمبني على البحث والتفتيش، مع ملاطفة وتعظيم.
قال الورتجبي : امتحن الحق تعالى موسى عليه السلام بصحبة الخضر ؛ لاستقامة الطريقة ولتقويم السنة في متابعة المشايخ، ويكون أسوة للمريدين والقاصدين في خدمتهم أشياخ الطريقة. هـ. قال القشيري في قوله :﴿ فلا تسألن عن شيء ﴾ : قال : ليس للمريد أن يقول لشيخه : لِمَ، ولا للمتعلم أن يقول لأستاذه، ولا للعامي أن يقول للمفتي فيما يفتي ويحكم : لِمَ. هـ.
وقال ابن البنا في تفسيره : يُؤخذ من هذه القصة : ترك الاعتراض على أولياء الله إذا ظهر منهم شيء مخالف للظاهر ؛ لأنهم فيه على دليل غير ظاهر لغيرهم، اللهم إلا أن يدعوك إلى اتباعه، فلا تتبعه إلا عن دليل، ويُسلم له في حاله، ولا تعترض عليه، ولا يمنعك ذلك من طلب العلم والتعلم منه، وإن كنت لا تعمل بعمله ؛ لأنه لا يجب عليك تقليده إلا عن دليل، فلا تعمل مثل عمله، وأنت ترى أنه مخالف لك في ظنك، ولا علم لك بحقيقة باطن الأمر، فلا تقفُ ما ليس لك به علم. والله الموفق والمرشد. هـ.
قلت : ما ذكره إنما هو في حق من لم يدخل تحت تربيته، فإنما هو طالب علم أو تبرك، وأما من التزم صحبته على طريق التربية فلا يتأخر عن امتثال ما أمره به، كيفما كان، نعم، إن لم ينبغ التوقف والتأني في الاقتداء به.
وقال في القوت في قوله :﴿ فلا تسألن عن شيء ﴾ : الشيء في هذا الموضع وصف مخصوص من وصف الربوبية من العلم، الذي علمه الخضر عليه السلام من لدنه، لا يصلح أن يسأل عنه، من معنى صفات التوحيد ونعوت الوحدانية، لا يوكل إلى العقول، بل يخص به المراد المحمول. هـ.
قال المحشي الفاسي : وهو - أي : المحمول - ما يرشَقْ فيهم من وصف الحق وقدرته، فيتصرفون، وهم في الحقيقة مُصرِّفُون، وهؤلاء هم أهل القبضة، الذين علَّمهم سِرَّ الحقيقة، فلهم قدرة لنفوذ شعاعها فيهم، فتتكوّن لهم الأشياء، وتنفعل لحملهم سر الحقيقة وظهورها لهم وفيهم، وهم كما قال : مرادون محمولون، فما يجري عليهم : قدر ﴿ وما رميت… ﴾ الآية. هـ.

ولَمَّا سأله صُحْبَتَهُ ﴿ قال ﴾ له :﴿ إِنك لن تستطيع معيَ صبرًا ﴾ ؛ لأنك رسول مكلف بحفظ ظواهر الشرائع، وأنا أطلعني الله تعالى على أمور خفية، لا تتمالك أن تصبر عنها ؛ لمخالفة ظاهرها للشريعة. وفي صحيح البخاري :" قال له الخضر : يا موسى، إني على علم من علم الله عَلَّمَنِيهِ، لا تعلمه أنت، وأنتَ على علمٍ من علم الله علَّمكَه الله، لا أعلمه " ١
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد أخذ الصوفية - رضي الله عنهم - آداب المريد مع الشيخ من قضية الخضر مع موسى - عليهما السلام - ؛ فطريقتهم مبنية على السكوت والتسليم، حتى لو قال لشيخه : لِمَ ؟ لَمْ يفلح أبدًا، سواء رأى من شيخه منكرًا أو غيره، ولعله اختبار له في صدقه، أو اطلع على باطن الأمر فيه، فأحوالهم خضرية، فالمريد الصادق يُسلم لشيخه في كل ما يرى، ويمتثل أمره في كل شيء، فَهِم وجه الشريعة فيه أم لا، هذا في علم الباطن، وأما علم الظاهر فمبني على البحث والتفتيش، مع ملاطفة وتعظيم.
قال الورتجبي : امتحن الحق تعالى موسى عليه السلام بصحبة الخضر ؛ لاستقامة الطريقة ولتقويم السنة في متابعة المشايخ، ويكون أسوة للمريدين والقاصدين في خدمتهم أشياخ الطريقة. هـ. قال القشيري في قوله :﴿ فلا تسألن عن شيء ﴾ : قال : ليس للمريد أن يقول لشيخه : لِمَ، ولا للمتعلم أن يقول لأستاذه، ولا للعامي أن يقول للمفتي فيما يفتي ويحكم : لِمَ. هـ.
وقال ابن البنا في تفسيره : يُؤخذ من هذه القصة : ترك الاعتراض على أولياء الله إذا ظهر منهم شيء مخالف للظاهر ؛ لأنهم فيه على دليل غير ظاهر لغيرهم، اللهم إلا أن يدعوك إلى اتباعه، فلا تتبعه إلا عن دليل، ويُسلم له في حاله، ولا تعترض عليه، ولا يمنعك ذلك من طلب العلم والتعلم منه، وإن كنت لا تعمل بعمله ؛ لأنه لا يجب عليك تقليده إلا عن دليل، فلا تعمل مثل عمله، وأنت ترى أنه مخالف لك في ظنك، ولا علم لك بحقيقة باطن الأمر، فلا تقفُ ما ليس لك به علم. والله الموفق والمرشد. هـ.
قلت : ما ذكره إنما هو في حق من لم يدخل تحت تربيته، فإنما هو طالب علم أو تبرك، وأما من التزم صحبته على طريق التربية فلا يتأخر عن امتثال ما أمره به، كيفما كان، نعم، إن لم ينبغ التوقف والتأني في الاقتداء به.
وقال في القوت في قوله :﴿ فلا تسألن عن شيء ﴾ : الشيء في هذا الموضع وصف مخصوص من وصف الربوبية من العلم، الذي علمه الخضر عليه السلام من لدنه، لا يصلح أن يسأل عنه، من معنى صفات التوحيد ونعوت الوحدانية، لا يوكل إلى العقول، بل يخص به المراد المحمول. هـ.
قال المحشي الفاسي : وهو - أي : المحمول - ما يرشَقْ فيهم من وصف الحق وقدرته، فيتصرفون، وهم في الحقيقة مُصرِّفُون، وهؤلاء هم أهل القبضة، الذين علَّمهم سِرَّ الحقيقة، فلهم قدرة لنفوذ شعاعها فيهم، فتتكوّن لهم الأشياء، وتنفعل لحملهم سر الحقيقة وظهورها لهم وفيهم، وهم كما قال : مرادون محمولون، فما يجري عليهم : قدر ﴿ وما رميت… ﴾ الآية. هـ.


١ أخرجه البخاري في العلم. باب ٤٤..
و﴿ خُبْرًا ﴾ : تمييز محول عن الفاعل، أي : لم يحط به خبرك.
ثم علّل عدم صبره بقوله :﴿ وكيف تصبرُ على ما لم تُحط به خُبْرًا ﴾ ؟ لأني أتولى أموراً خفية لا خُبر لك بها، وصاحب الشريعة لا يُسلم لصاحب الحقيقة العارية من الشريعة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد أخذ الصوفية - رضي الله عنهم - آداب المريد مع الشيخ من قضية الخضر مع موسى - عليهما السلام - ؛ فطريقتهم مبنية على السكوت والتسليم، حتى لو قال لشيخه : لِمَ ؟ لَمْ يفلح أبدًا، سواء رأى من شيخه منكرًا أو غيره، ولعله اختبار له في صدقه، أو اطلع على باطن الأمر فيه، فأحوالهم خضرية، فالمريد الصادق يُسلم لشيخه في كل ما يرى، ويمتثل أمره في كل شيء، فَهِم وجه الشريعة فيه أم لا، هذا في علم الباطن، وأما علم الظاهر فمبني على البحث والتفتيش، مع ملاطفة وتعظيم.
قال الورتجبي : امتحن الحق تعالى موسى عليه السلام بصحبة الخضر ؛ لاستقامة الطريقة ولتقويم السنة في متابعة المشايخ، ويكون أسوة للمريدين والقاصدين في خدمتهم أشياخ الطريقة. هـ. قال القشيري في قوله :﴿ فلا تسألن عن شيء ﴾ : قال : ليس للمريد أن يقول لشيخه : لِمَ، ولا للمتعلم أن يقول لأستاذه، ولا للعامي أن يقول للمفتي فيما يفتي ويحكم : لِمَ. هـ.
وقال ابن البنا في تفسيره : يُؤخذ من هذه القصة : ترك الاعتراض على أولياء الله إذا ظهر منهم شيء مخالف للظاهر ؛ لأنهم فيه على دليل غير ظاهر لغيرهم، اللهم إلا أن يدعوك إلى اتباعه، فلا تتبعه إلا عن دليل، ويُسلم له في حاله، ولا تعترض عليه، ولا يمنعك ذلك من طلب العلم والتعلم منه، وإن كنت لا تعمل بعمله ؛ لأنه لا يجب عليك تقليده إلا عن دليل، فلا تعمل مثل عمله، وأنت ترى أنه مخالف لك في ظنك، ولا علم لك بحقيقة باطن الأمر، فلا تقفُ ما ليس لك به علم. والله الموفق والمرشد. هـ.
قلت : ما ذكره إنما هو في حق من لم يدخل تحت تربيته، فإنما هو طالب علم أو تبرك، وأما من التزم صحبته على طريق التربية فلا يتأخر عن امتثال ما أمره به، كيفما كان، نعم، إن لم ينبغ التوقف والتأني في الاقتداء به.
وقال في القوت في قوله :﴿ فلا تسألن عن شيء ﴾ : الشيء في هذا الموضع وصف مخصوص من وصف الربوبية من العلم، الذي علمه الخضر عليه السلام من لدنه، لا يصلح أن يسأل عنه، من معنى صفات التوحيد ونعوت الوحدانية، لا يوكل إلى العقول، بل يخص به المراد المحمول. هـ.
قال المحشي الفاسي : وهو - أي : المحمول - ما يرشَقْ فيهم من وصف الحق وقدرته، فيتصرفون، وهم في الحقيقة مُصرِّفُون، وهؤلاء هم أهل القبضة، الذين علَّمهم سِرَّ الحقيقة، فلهم قدرة لنفوذ شعاعها فيهم، فتتكوّن لهم الأشياء، وتنفعل لحملهم سر الحقيقة وظهورها لهم وفيهم، وهم كما قال : مرادون محمولون، فما يجري عليهم : قدر ﴿ وما رميت… ﴾ الآية. هـ.

و﴿ لا أعصي ﴾ : عُطِفَ على :﴿ صابرًا ﴾.
﴿ قال ﴾ له موسى عليه السلام :﴿ ستجدني إِن شاء الله صابرًا ﴾ معك، غير مُعترض عليك. وتوسيط الاستثناء بين مفعولي الوجدان لكمال الاعتناء بالتيمن، ولئلا يتوهم تعلقه بالصبر، ﴿ ولا أعصي لك أمرًا ﴾، هو داخل في الاستثناء، أي : ستجدني إن شاء الله صابرًا وغير عاص.
وقال القشيري : وَعَدَ من نفسه شيئين : الصبر، وألاَّ يعصيه فيما يأمره به. فأما الصبر فَقَرنَه بالمشيئة، حتى وجده صابرًا، فلم يقبضْ على يدي الخضر فيما كان منه من الفعل. والثاني قال :﴿ ولا أعصي لك أمراً ﴾، فأطلق ولم يستثن، فعصى، حيث قال له الخضر :﴿ فلا تسألني عن شيء ﴾، فكان يسأله، فبالاستثناء لم يخالف، وبالإطلاق خالف. ه. قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : وفيه نظر ؛ للحديث الصحيح :" يرحم الله موسى، لو صبر. . . " مع أن قوله :" ولا أعصي. . . " الخ، غير خارج عن الاستثناء، كما تقدم، وإن احتمل خروجه، والظاهر : أن الاستثناء، كالدعاء، إنما ينفع إذا صادف القدر، وهو هنا لم يصادف، مع أنه هنا عارضه علم الخضر بكونه لم يصبر من قوله :﴿ لن تستطيع معي صبرًا ﴾، وقد أراد الله نفوذ علم الخضر. ه.
وقال ابن البنا : أن العهد إنما هو على قدر الاستطاعة، وإن الوفاء بالملتزم إنما يكون فيما لا يخالف الشرع، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ؛ لأن موسى عليه السلام لم يلتزم إلا ذلك. ولمّا رأى ما هو محرم تكلم. . . فافهم. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد أخذ الصوفية - رضي الله عنهم - آداب المريد مع الشيخ من قضية الخضر مع موسى - عليهما السلام - ؛ فطريقتهم مبنية على السكوت والتسليم، حتى لو قال لشيخه : لِمَ ؟ لَمْ يفلح أبدًا، سواء رأى من شيخه منكرًا أو غيره، ولعله اختبار له في صدقه، أو اطلع على باطن الأمر فيه، فأحوالهم خضرية، فالمريد الصادق يُسلم لشيخه في كل ما يرى، ويمتثل أمره في كل شيء، فَهِم وجه الشريعة فيه أم لا، هذا في علم الباطن، وأما علم الظاهر فمبني على البحث والتفتيش، مع ملاطفة وتعظيم.
قال الورتجبي : امتحن الحق تعالى موسى عليه السلام بصحبة الخضر ؛ لاستقامة الطريقة ولتقويم السنة في متابعة المشايخ، ويكون أسوة للمريدين والقاصدين في خدمتهم أشياخ الطريقة. هـ. قال القشيري في قوله :﴿ فلا تسألن عن شيء ﴾ : قال : ليس للمريد أن يقول لشيخه : لِمَ، ولا للمتعلم أن يقول لأستاذه، ولا للعامي أن يقول للمفتي فيما يفتي ويحكم : لِمَ. هـ.
وقال ابن البنا في تفسيره : يُؤخذ من هذه القصة : ترك الاعتراض على أولياء الله إذا ظهر منهم شيء مخالف للظاهر ؛ لأنهم فيه على دليل غير ظاهر لغيرهم، اللهم إلا أن يدعوك إلى اتباعه، فلا تتبعه إلا عن دليل، ويُسلم له في حاله، ولا تعترض عليه، ولا يمنعك ذلك من طلب العلم والتعلم منه، وإن كنت لا تعمل بعمله ؛ لأنه لا يجب عليك تقليده إلا عن دليل، فلا تعمل مثل عمله، وأنت ترى أنه مخالف لك في ظنك، ولا علم لك بحقيقة باطن الأمر، فلا تقفُ ما ليس لك به علم. والله الموفق والمرشد. هـ.
قلت : ما ذكره إنما هو في حق من لم يدخل تحت تربيته، فإنما هو طالب علم أو تبرك، وأما من التزم صحبته على طريق التربية فلا يتأخر عن امتثال ما أمره به، كيفما كان، نعم، إن لم ينبغ التوقف والتأني في الاقتداء به.
وقال في القوت في قوله :﴿ فلا تسألن عن شيء ﴾ : الشيء في هذا الموضع وصف مخصوص من وصف الربوبية من العلم، الذي علمه الخضر عليه السلام من لدنه، لا يصلح أن يسأل عنه، من معنى صفات التوحيد ونعوت الوحدانية، لا يوكل إلى العقول، بل يخص به المراد المحمول. هـ.
قال المحشي الفاسي : وهو - أي : المحمول - ما يرشَقْ فيهم من وصف الحق وقدرته، فيتصرفون، وهم في الحقيقة مُصرِّفُون، وهؤلاء هم أهل القبضة، الذين علَّمهم سِرَّ الحقيقة، فلهم قدرة لنفوذ شعاعها فيهم، فتتكوّن لهم الأشياء، وتنفعل لحملهم سر الحقيقة وظهورها لهم وفيهم، وهم كما قال : مرادون محمولون، فما يجري عليهم : قدر ﴿ وما رميت… ﴾ الآية. هـ.

ثم شرط عليه التسليم لِمَا يرى، فقال :﴿ فإِن اتبعتني فلا تسألني عن شيء ﴾ تشاهده من أفعالي، فهمْتَه أم لا، أي : لا تفاتحني بالسؤال عن حكمته، فضلاً عن مناقشته واعتراضه، ﴿ حتى أُحْدِثَ لك منه ذكرًا ﴾ ؛ حتى أبتدي بيانه لك وحكمته، وفيه إيذان بأن ما يصدر منه له حكمة خفية، وعاقبة صالحة. وهذا من أدب المتعلم مع العالم، والتابع مع المتبوع، أنه لا يعترض على شيخه بل يسأل ؛ مُسترشدًا بملاطفةٍ وأدب، وهذا في العلم الظاهر. وسيأتي في الإشارة ما يتعلق بعلم الباطن.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : قد أخذ الصوفية - رضي الله عنهم - آداب المريد مع الشيخ من قضية الخضر مع موسى - عليهما السلام - ؛ فطريقتهم مبنية على السكوت والتسليم، حتى لو قال لشيخه : لِمَ ؟ لَمْ يفلح أبدًا، سواء رأى من شيخه منكرًا أو غيره، ولعله اختبار له في صدقه، أو اطلع على باطن الأمر فيه، فأحوالهم خضرية، فالمريد الصادق يُسلم لشيخه في كل ما يرى، ويمتثل أمره في كل شيء، فَهِم وجه الشريعة فيه أم لا، هذا في علم الباطن، وأما علم الظاهر فمبني على البحث والتفتيش، مع ملاطفة وتعظيم.
قال الورتجبي : امتحن الحق تعالى موسى عليه السلام بصحبة الخضر ؛ لاستقامة الطريقة ولتقويم السنة في متابعة المشايخ، ويكون أسوة للمريدين والقاصدين في خدمتهم أشياخ الطريقة. هـ. قال القشيري في قوله :﴿ فلا تسألن عن شيء ﴾ : قال : ليس للمريد أن يقول لشيخه : لِمَ، ولا للمتعلم أن يقول لأستاذه، ولا للعامي أن يقول للمفتي فيما يفتي ويحكم : لِمَ. هـ.
وقال ابن البنا في تفسيره : يُؤخذ من هذه القصة : ترك الاعتراض على أولياء الله إذا ظهر منهم شيء مخالف للظاهر ؛ لأنهم فيه على دليل غير ظاهر لغيرهم، اللهم إلا أن يدعوك إلى اتباعه، فلا تتبعه إلا عن دليل، ويُسلم له في حاله، ولا تعترض عليه، ولا يمنعك ذلك من طلب العلم والتعلم منه، وإن كنت لا تعمل بعمله ؛ لأنه لا يجب عليك تقليده إلا عن دليل، فلا تعمل مثل عمله، وأنت ترى أنه مخالف لك في ظنك، ولا علم لك بحقيقة باطن الأمر، فلا تقفُ ما ليس لك به علم. والله الموفق والمرشد. هـ.
قلت : ما ذكره إنما هو في حق من لم يدخل تحت تربيته، فإنما هو طالب علم أو تبرك، وأما من التزم صحبته على طريق التربية فلا يتأخر عن امتثال ما أمره به، كيفما كان، نعم، إن لم ينبغ التوقف والتأني في الاقتداء به.
وقال في القوت في قوله :﴿ فلا تسألن عن شيء ﴾ : الشيء في هذا الموضع وصف مخصوص من وصف الربوبية من العلم، الذي علمه الخضر عليه السلام من لدنه، لا يصلح أن يسأل عنه، من معنى صفات التوحيد ونعوت الوحدانية، لا يوكل إلى العقول، بل يخص به المراد المحمول. هـ.
قال المحشي الفاسي : وهو - أي : المحمول - ما يرشَقْ فيهم من وصف الحق وقدرته، فيتصرفون، وهم في الحقيقة مُصرِّفُون، وهؤلاء هم أهل القبضة، الذين علَّمهم سِرَّ الحقيقة، فلهم قدرة لنفوذ شعاعها فيهم، فتتكوّن لهم الأشياء، وتنفعل لحملهم سر الحقيقة وظهورها لهم وفيهم، وهم كما قال : مرادون محمولون، فما يجري عليهم : قدر ﴿ وما رميت… ﴾ الآية. هـ.

ثم ذكر ما أراه من الخوارق، فقال :
﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً ﴾ * ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ * ﴿ قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً ﴾ * ﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً ﴾ * ﴿ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ﴾ * ﴿ قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً ﴾ * ﴿ فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً ﴾
قلت : ضمَّن ركوب السفينة معنى الدخول فيها، فعداه بفي، وقد تركه على أصله في قوله :﴿ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ﴾ [ النّحل : ٨ ].
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ فانطلقا ﴾ أي : موسى والخضر، وسكت عن الخادم ؛ لكونه تبعًا، وقيل : إن يوشع لم يصحبهما، بل رجع، فصارا يمشيان على ساحل البحر، فمرت بهم سفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر، فحملوهم بغير نَوْل، فلما لَجَّجُوا البَحْرَ أخذ الخضرُ فأسًا فخرق السفينة، فقلع لوحًا أو لوحين مما يلي الماء، فحشاها موسى بثوبه، و﴿ قال أخرقتها لتُغرق أهلَها ﴾ أو : ليَغرَق أهلُها، ﴿ لقد جئتَ ﴾ أي : أتيتَ وفعلت، ﴿ شيئًا إِمْرًا ﴾ أي : عظيمًا هائلاً، يقال : أَمِر الأمرُ : عظم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يُؤخذ من خرق السفينة أن المريد لا تفيض عليه العلوم اللدنية والأسرار الربانية حتى يخرق عوائد نفسه، ويعيب سفينة وجوده، بتخريب ظاهره، حتى لا يقبله أحد، ولا يُقبل عليه أحد، فبذلك يخلو بقلبه ويستقيم على ذكر ربه، وأما ما دام ظاهره متزينًا بلباس العوائد، فلا يطمع في ورود المواهب والفوائد.
ويُؤخذ من قتل الغلام : أنه لا بد من قتل الهوى، وكل ما فيه حظ للنفس والشيطان والطريق في ذلك أن تنظر ما يثقل على النفس فتُحمله لها، وما يخف عليها فتحجزها عنه، حتى لا يثقل عليها شيء من الحق. ويؤخذ من إقامة الجدار رسم الشرائع ؛ قيامًا بآداب العبودية، وصونًا لكنز أسرار الربوبية. ويؤخذُ منه أيضًا : الإحسان لمن أساء إليه، فإن أهل القرية أساؤوا ؛ بترك ضيافة الخضر، فقابلهم بالإحسان ؛ حيث أقام جدارهم. والله تعالى أعلم.

﴿ قال ﴾ الخضر :﴿ ألم أقل إِنك لن تستطيع معي صبرًا ﴾ ؛ تذكيرًا لما قاله له من قبلُ، وإنكارًا لِعدم الوفاء بالعهد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يُؤخذ من خرق السفينة أن المريد لا تفيض عليه العلوم اللدنية والأسرار الربانية حتى يخرق عوائد نفسه، ويعيب سفينة وجوده، بتخريب ظاهره، حتى لا يقبله أحد، ولا يُقبل عليه أحد، فبذلك يخلو بقلبه ويستقيم على ذكر ربه، وأما ما دام ظاهره متزينًا بلباس العوائد، فلا يطمع في ورود المواهب والفوائد.
ويُؤخذ من قتل الغلام : أنه لا بد من قتل الهوى، وكل ما فيه حظ للنفس والشيطان والطريق في ذلك أن تنظر ما يثقل على النفس فتُحمله لها، وما يخف عليها فتحجزها عنه، حتى لا يثقل عليها شيء من الحق. ويؤخذ من إقامة الجدار رسم الشرائع ؛ قيامًا بآداب العبودية، وصونًا لكنز أسرار الربوبية. ويؤخذُ منه أيضًا : الإحسان لمن أساء إليه، فإن أهل القرية أساؤوا ؛ بترك ضيافة الخضر، فقابلهم بالإحسان ؛ حيث أقام جدارهم. والله تعالى أعلم.

﴿ قال ﴾ موسى عليه السلام :﴿ لا تُؤاخذني بما نسيتُ ﴾ أي : بنسياني، أو بالذي نسيته، وهو وصيته بأن لا يسأله عن حكمة ما صدر عنه من الأفعال الخفية الأسباب قبل بيانه، أراد : نسي وصيته، ولا مؤاخذة على الناسي، وفي الحديث :" كانت الأولى مِن مُوسى نسيانًا ". أو : أراد بالنسيان الترك، أي : لا تُؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة. ﴿ ولا تُرهقني ﴾ أي : لا تُغْشِنِي ولا تُحَمِّلْنِي ﴿ من أمري ﴾، وهو اتباعك، ﴿ عُسرًا ﴾ أي : لا تعَسِّرْ عليّ في متابعتك، بل يسرها عليّ ؛ بالإغضاء والمسامحة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يُؤخذ من خرق السفينة أن المريد لا تفيض عليه العلوم اللدنية والأسرار الربانية حتى يخرق عوائد نفسه، ويعيب سفينة وجوده، بتخريب ظاهره، حتى لا يقبله أحد، ولا يُقبل عليه أحد، فبذلك يخلو بقلبه ويستقيم على ذكر ربه، وأما ما دام ظاهره متزينًا بلباس العوائد، فلا يطمع في ورود المواهب والفوائد.
ويُؤخذ من قتل الغلام : أنه لا بد من قتل الهوى، وكل ما فيه حظ للنفس والشيطان والطريق في ذلك أن تنظر ما يثقل على النفس فتُحمله لها، وما يخف عليها فتحجزها عنه، حتى لا يثقل عليها شيء من الحق. ويؤخذ من إقامة الجدار رسم الشرائع ؛ قيامًا بآداب العبودية، وصونًا لكنز أسرار الربوبية. ويؤخذُ منه أيضًا : الإحسان لمن أساء إليه، فإن أهل القرية أساؤوا ؛ بترك ضيافة الخضر، فقابلهم بالإحسان ؛ حيث أقام جدارهم. والله تعالى أعلم.

﴿ فانطلقا ﴾ أي : فقبل عذره ؛ فخرجا من السفينة فانطلقا ﴿ حتى إذا لقيا غلامًا فقتله ﴾ قيل : كان يلعب مع الغلمان ففتَلَ عنقه، وقيل : ضرب رأسه بحجر، وقيل : ذبحه، والأول أصح ؛ لوروده في الصحيح، رُوي أن اسم الغلام " جيسور " بالجيم، وقيل : بالحاء المهملة، فإِن قلت : لِمَ قال ﴿ خرقها ﴾ ؛ بغير فاءٍ، وقال :﴿ فقتله ﴾ بالفاء ؟ فالجواب : أن " خَرَقَها " : جواب الشرط، و﴿ قتله ﴾ : من جملة الشرط، معطوفًا عليه، والجزاء هو قوله :﴿ قال أقتلت ﴾، فإن قلت : لِمَ خولف بينهما ؟ فالجواب : أن خرق السفينة لم يتعقب الركوب، وقد تعقب القتل لِقاء الغلام. ه. وأصله للزمخشري. وقال البيضاوي : ولعل تغيير النظم بأن جعل خرقها جزاء، واعتراض موسى عليه السلام مستأنفًا في الأولى، وفي الثانية ﴿ فقتله ﴾ من جملة الشرط، واعتراضه جزاء ؛ لأن القتل أقبح، والاعتراض عليه أدخل، فكان جديرًا بأن يجعل عمدة الكلام، ولذلك وصله بقوله :﴿ لقد جئت شيئًا نُكرًا ﴾ أي : منكرًا. ه. وناقشه أبو السعود بما يطول ذكره.
﴿ قال ﴾ موسى عليه السلام في اعتراضه :﴿ أقتلتَ نفسًا زكية ﴾ : طاهرة من الذنوب، وقرئ بغير ألف ؛ مبالغةً، ﴿ بغير نَفْسٍ ﴾ أي : بغير قتلِ نفسٍ محرمةٍ، فيكون قصاصًا. وتخصيص نفي هذا القبيح بالذكر من بين سائر القبيحات من الكفر بعد الإيمان، والزنا بعد إحصان ؛ لأنه أقرب إلى الوقوع ؛ نظرًا لحال الغلام.
﴿ لقد جئتَ شيئًا نُكْرًا ﴾ أي : مُنكرًا، قيل : أنكرُ من الأول، إذ لا يمكن تداركه، كما يمكن تدارك الأول ؛ بالسد ونحوه. وقيل :" الإمْر " أعظم ؛ لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يُؤخذ من خرق السفينة أن المريد لا تفيض عليه العلوم اللدنية والأسرار الربانية حتى يخرق عوائد نفسه، ويعيب سفينة وجوده، بتخريب ظاهره، حتى لا يقبله أحد، ولا يُقبل عليه أحد، فبذلك يخلو بقلبه ويستقيم على ذكر ربه، وأما ما دام ظاهره متزينًا بلباس العوائد، فلا يطمع في ورود المواهب والفوائد.
ويُؤخذ من قتل الغلام : أنه لا بد من قتل الهوى، وكل ما فيه حظ للنفس والشيطان والطريق في ذلك أن تنظر ما يثقل على النفس فتُحمله لها، وما يخف عليها فتحجزها عنه، حتى لا يثقل عليها شيء من الحق. ويؤخذ من إقامة الجدار رسم الشرائع ؛ قيامًا بآداب العبودية، وصونًا لكنز أسرار الربوبية. ويؤخذُ منه أيضًا : الإحسان لمن أساء إليه، فإن أهل القرية أساؤوا ؛ بترك ضيافة الخضر، فقابلهم بالإحسان ؛ حيث أقام جدارهم. والله تعالى أعلم.

﴿ قال ﴾ له الخضرُ عليه السلام :﴿ ألم أقل لك إِنك لن تستطيعَ معي صبرًا ﴾، زاد " لك " ؛ لزيادة تأكيد المكافحة ؛ بالعتاب على رفض الوصية وقلة التثبت والصبر، لما تكرر منه الإنكار، ولم يَرْعَوِ بالتذكير، حتى زاد في النكير في المرة الثانية بذكر المنكر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يُؤخذ من خرق السفينة أن المريد لا تفيض عليه العلوم اللدنية والأسرار الربانية حتى يخرق عوائد نفسه، ويعيب سفينة وجوده، بتخريب ظاهره، حتى لا يقبله أحد، ولا يُقبل عليه أحد، فبذلك يخلو بقلبه ويستقيم على ذكر ربه، وأما ما دام ظاهره متزينًا بلباس العوائد، فلا يطمع في ورود المواهب والفوائد.
ويُؤخذ من قتل الغلام : أنه لا بد من قتل الهوى، وكل ما فيه حظ للنفس والشيطان والطريق في ذلك أن تنظر ما يثقل على النفس فتُحمله لها، وما يخف عليها فتحجزها عنه، حتى لا يثقل عليها شيء من الحق. ويؤخذ من إقامة الجدار رسم الشرائع ؛ قيامًا بآداب العبودية، وصونًا لكنز أسرار الربوبية. ويؤخذُ منه أيضًا : الإحسان لمن أساء إليه، فإن أهل القرية أساؤوا ؛ بترك ضيافة الخضر، فقابلهم بالإحسان ؛ حيث أقام جدارهم. والله تعالى أعلم.

﴿ قال ﴾ موسى عليه السلام :﴿ إِنْ سألتك عن شيء بعدها ﴾ ؛ بعد هذه المرة ﴿ فلا تُصاحبني ﴾ إن سألتُ صُحبتَكَ، وقرأ يعقوب :" فلا تصحبني " ؛ رباعيًا، أي : لا تجعلني صاحبًا لك، ﴿ قد بلغتَ من لدُنِّي عُذْرًا ﴾ أي : قد أعذرتَ ووجدت مِنْ قِبَلِي عذرًا في مفارقتي، حيث خالفتك ثلاث مرات. وعن النبي صلى الله عليه وسلم :" يرحم الله أَخِي مُوسَى، استحيا، فقال ذلك، لو لَبِثَ مَعَ صَاحِبِهِ لأبْصرَ أَعْجَبَ الأعَاجِيب " ١ وفي البخاري :" وددنا لو صبر موسى، حتى يقص الله علينا من أمرهما " ٢.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يُؤخذ من خرق السفينة أن المريد لا تفيض عليه العلوم اللدنية والأسرار الربانية حتى يخرق عوائد نفسه، ويعيب سفينة وجوده، بتخريب ظاهره، حتى لا يقبله أحد، ولا يُقبل عليه أحد، فبذلك يخلو بقلبه ويستقيم على ذكر ربه، وأما ما دام ظاهره متزينًا بلباس العوائد، فلا يطمع في ورود المواهب والفوائد.
ويُؤخذ من قتل الغلام : أنه لا بد من قتل الهوى، وكل ما فيه حظ للنفس والشيطان والطريق في ذلك أن تنظر ما يثقل على النفس فتُحمله لها، وما يخف عليها فتحجزها عنه، حتى لا يثقل عليها شيء من الحق. ويؤخذ من إقامة الجدار رسم الشرائع ؛ قيامًا بآداب العبودية، وصونًا لكنز أسرار الربوبية. ويؤخذُ منه أيضًا : الإحسان لمن أساء إليه، فإن أهل القرية أساؤوا ؛ بترك ضيافة الخضر، فقابلهم بالإحسان ؛ حيث أقام جدارهم. والله تعالى أعلم.


١ أخرجه أبو داود في الحروف والقراءات حديث ٢٩٨٤..
٢ أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٨، باب ٢، ٤، والترمذي في تفسير سورة ١٨، باب ١..
﴿ فانطلقا حتى إِذا أتيا أهل قريةٍ ﴾، هي أنطاكية، وقيل : أَيْلة، وقيل الأبُلة، وهي أبعد أرض الله من السماء، وقيل : برقة، وقال أبو هريرة وغيره : هي بالأندلس. ويُذكر أنها الجزيرة الخضراء. قلت : وهي التي تسمى اليوم طريفة، وأصلها بالظاء المشالة. وذلك على قول إن مجمع البحرين عند طنجة وسبتة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم :" كانوا أهل قرية لِئامًا " وقال قتادة : شر القرى التي لا يُضاف فيها الضيف، ولا يعرف لابن السبيل حقه.
ثم وصف القرية بقوله :﴿ استطعما أهلها ﴾ أي : طلبا منهم طعامًا، ولم يقل : استطعماهم، على أن يكون صفة لأهل ؛ لزيادة تشنيعهم على سوء صنيعهم، فإن الإباء من الضيافة، مع كونهم أهلها قاطنين بها، أشنع وأقبح.
رُوي أنهما طافا بالقرية يطلبان الطعام، فلم يطعموهما. واستضافاهم ﴿ فأَبَوا أن يُضيفوهما ﴾ بالتشديد، وقرئ بالتخفيف. يقال : ضافه : إذا كان له ضيفًا، أضافه وضيّفه : أنزله ضيفًا. وأصل الإضافة : الميل، من : ضاف السهمُ عن الغرض : مال، ونظيره : زاره، من الازْوِرَار، أي : الميل. فبينما هما يمشيان، ﴿ فوجدا فيها جدارًا ﴾، قال وهب : كان طوله مائة ذراع، ﴿ يُريد أن ينقضَّ ﴾ أي : يسقط، استعار الإرادة للمشارفة ؛ للدلالة على المبالغة في ذلك، والانقضاض : الإسراع في السقوط، وهو انفعال، من القض، يقال : قضضته فانقض، ومنه : انقضاض الطير والكوكب ؛ لسقوطه بسرعة. وقرئ : أن ينقاض، من انقاضت السنُّ : إذا سقطت طولاً. ﴿ فأقامه ﴾ قيل : مسحه بيده فقام، وقيل : نقضه وبناه، وهو بعيد. ﴿ قال ﴾ له موسى :﴿ لو شئتَ لاتخذتَ عليه أجرًا ﴾ نتعشى به، وهو تحريض له على أخذ الجُعل، أو تعريض بأنه فُضول، وكأنه لَمَّا رأى الحِرمَان ومساس الحاجة كان اشتغاله بذلك في ذلك الوقت مما لا يعني، فلم يتمالك الصبر عليه.
قال ابن التين : إن الثالثة كانت نسيانًا ؛ لأنه يبعد الإنكار لأمر مشروع، وهو الإحسان لمن أساء. ه. وفيه نظر ؛ فقد قال القشيري في تفسير الآية : لم يقل موسى : إنك ألْمَمْتَ بمحظور، ولكن قال : لو شئتَ، أي : فإن لم تأخذ بسببك فهلا أخذت بسببنا، فكان أخْذُ الأجر خيرًا من الترك، ولئن وَجَبَ حقُّهم فَلِمَ أخللت بحقنا ؟ ويقال : إنَّ سَفَرَه ذلك كان سفرَ تأديب، فَرُدَّ إلى تَحَمُّلِ المشقة، وإلاَّ فهو نسي، حيث سقى لبنات شعيب، وكان ما أصابه من التعب والجوع أكثر، ولكنه كان في ذلك الوقت محمولاً، وفي هذا الوقت مُتَحَمِّلا. ه.
قلت : لأن الحق تعالى أراد تأديبه فلم يحمل عنه، فكان سالكًا محضًا، وفي وقت السقي : كان مجذوبًا محمولاً عنه.
ثم قال القشيري : وكما أن موسى كان يُحب صحبة الخضر ؛ لما له فيه من غرض استزادةٍ من العلم، كان الخضر يحب ترك صحبته ؛ إيثارًا للخلوة بالله عنه. ه. قاله في الحاشية الفاسية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : يُؤخذ من خرق السفينة أن المريد لا تفيض عليه العلوم اللدنية والأسرار الربانية حتى يخرق عوائد نفسه، ويعيب سفينة وجوده، بتخريب ظاهره، حتى لا يقبله أحد، ولا يُقبل عليه أحد، فبذلك يخلو بقلبه ويستقيم على ذكر ربه، وأما ما دام ظاهره متزينًا بلباس العوائد، فلا يطمع في ورود المواهب والفوائد.
ويُؤخذ من قتل الغلام : أنه لا بد من قتل الهوى، وكل ما فيه حظ للنفس والشيطان والطريق في ذلك أن تنظر ما يثقل على النفس فتُحمله لها، وما يخف عليها فتحجزها عنه، حتى لا يثقل عليها شيء من الحق. ويؤخذ من إقامة الجدار رسم الشرائع ؛ قيامًا بآداب العبودية، وصونًا لكنز أسرار الربوبية. ويؤخذُ منه أيضًا : الإحسان لمن أساء إليه، فإن أهل القرية أساؤوا ؛ بترك ضيافة الخضر، فقابلهم بالإحسان ؛ حيث أقام جدارهم. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر افتراقهما، وبيان الحكمة في تلك الخوارق التي فعل، فقال :
﴿ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾ * ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ﴾ * ﴿ وَأَمَّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً ﴾ * ﴿ فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً ﴾ * ﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً ﴾
قلت :﴿ هذا ﴾، الإشارة إما إلى نفس الفراق، كقولك : هذا أخوك، أو إلى الوقت الحاضر، أي : هذا وقت الفراق. أو إلى السؤال الثالث. و﴿ بيني ﴾ : ظرف مضاف إليه المصدر ؛ مجازًا، وقرئ بالنصب، على الأصل.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قال ﴾ الخضر عليه السلام :﴿ هذا فراقُ بيني وبينك ﴾ فلا تصحبني بعد هذا، ﴿ سأنبئُك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا ﴾ أي : سأخبرك بالخبر الباطن، فيما لم تستطع عليه صبرًا ؛ لكونه منكرًا في الظاهر، فالتأويل : رجوع الشيء إلى مآله، والمراد هنا : المآل والعاقبة، وهو خلاص السفينة من اليد العادية، وخلاص أَبَوَيْ الغلام من شره، مع الفوز بالبدل الأحسن، واستخراج اليتيمين للكنز، وفي جعل صلة الموصول عدم استطاعته، ولم يقل :" بتأويل ما رأيت " ؛ نوعُ تعريضٍ به، وعناية عليه السلام.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الاعتراض على المشايخ موجب للبُعد عنهم، والبُعد عنهم موجب للبُعد عن الله، فلا وصول إلى الله إلا بالوصول إليهم مع التعظيم والاحترام ؛ " سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه " ؛ كما في الحِكَم. فالواجب على المريد، إذا كان بين يدي الشيخ، السكوت والتسليم والاحترام والتعظيم، إلا أن يأمره بالكلام، فيتكلم بآداب ووقار وخفض صوت، فإذا رأى منه شيئًا يخالف ظاهر الشريعة فليسلم له، ويطلب تأويله، فإن الشريعة واسعة، لها ظاهر وباطن، فلعله اطلع على ما لم يفهمه المريد.
وكذلك الفُقراء لا ينكر عليهم إلا ما كان محرّمًا مجمعًا على تحريمه، ولا تأويل فيه، كالزنا بالمعينة أو اللواط، وأما ما اختلف فيه، ولو خارج المذهب، فلا ينكر عليه، وكذلك ما فيه تأويل. هذا إن صحت عدالته، فقد قالوا : إن صحت عدالة المرء فليترك وما فعل. وتأمل قضية شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمان المجذوب في مسألة الثور الذي أمر الفقراء بذبحه، فلما ذبحوه تبين أنه كان صدقة عليه، وكذلك غيره من أرباب الأحوال، يُلتمس لهم أحسن المخارج، فإن أحوالهم خضرية، وما رأينا أحدًا أولع بالإنكار فأفلح أبدًا. وبالله التوفيق.

و﴿ غَصْبًا ﴾ : مصدر نوعي ليأخذ.
ثم جعل يفسر له، فقال :﴿ أما السفينة ﴾ التي خرقتُها، ﴿ فكانت لمساكين ﴾ : ضُعفاء، لا يقدرون على مدافعة الظلمة، فسماهم مساكين ؛ لذلهم وضعفهم، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :" اللهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وأمتْنِي مِسْكِينًا، واحْشُرْنِي في زُمرةِ المَسَاكِينِ " ١ فلم يُرد مسكنة الفقر، وإنما أراد التواضع والخضوع، أي : احشرني مخبتًا متواضعًا، غير جبار ولا متكبر، وقيل : كانت السفينة لعشرة إخوة : خمسة زَمْنَى، وخمسة ﴿ يعملون في البحر ﴾. وإسناد العمل إلى الكل، حينئذ، بطريق التغليب، ولأن عمل الوكيل بمنزلة الموكل. ﴿ فأردت أن أعيبها ﴾ : أجعلها ذات عيب، ﴿ وكان ورائهم ملكٌ ﴾ أي : أمامهم، وقرئ به، أو خلفهم، وكان رجوعهم عليه لا محالة، وكان اسمه :" جلندي بن كركر " وقيل :" هُدَدُ بن بُدَد "، قال ابن عطية : وهذا كله غير ثابت، يعني : تسمية الملك. ﴿ يأخذُ كلَّ سفينة ﴾ صالحة، وقرئ به، ﴿ غَصْبًا ﴾ من أصحابها.
وكان حق النظم أن يتأخر بيانُ إرادةِ التعيُّبِ عن خوف الغصب، فيقول : فكانت لمساكين، وكان ورائهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة، فأردت أن أعيبها ؛ لأن إرادة التعيب مُسَبَّبٌ عن خوف الغصب، وإنما قدّم ؛ للاعتناء بشأنها ؛ إذ هي المحتاجة إلى التأويل، ولأن في التأخير فصلاً بين السفينة وضميرها، مع توهم رجوعه إلى الأقرب قال البيضاوي : ومبني ذلك - أي : التعيب وخوف الغصب - على أنه متى تعارض ضرران يجب حمل أهونهما بدفع أعظمهما، وهو أصل ممهد، غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الاعتراض على المشايخ موجب للبُعد عنهم، والبُعد عنهم موجب للبُعد عن الله، فلا وصول إلى الله إلا بالوصول إليهم مع التعظيم والاحترام ؛ " سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه " ؛ كما في الحِكَم. فالواجب على المريد، إذا كان بين يدي الشيخ، السكوت والتسليم والاحترام والتعظيم، إلا أن يأمره بالكلام، فيتكلم بآداب ووقار وخفض صوت، فإذا رأى منه شيئًا يخالف ظاهر الشريعة فليسلم له، ويطلب تأويله، فإن الشريعة واسعة، لها ظاهر وباطن، فلعله اطلع على ما لم يفهمه المريد.
وكذلك الفُقراء لا ينكر عليهم إلا ما كان محرّمًا مجمعًا على تحريمه، ولا تأويل فيه، كالزنا بالمعينة أو اللواط، وأما ما اختلف فيه، ولو خارج المذهب، فلا ينكر عليه، وكذلك ما فيه تأويل. هذا إن صحت عدالته، فقد قالوا : إن صحت عدالة المرء فليترك وما فعل. وتأمل قضية شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمان المجذوب في مسألة الثور الذي أمر الفقراء بذبحه، فلما ذبحوه تبين أنه كان صدقة عليه، وكذلك غيره من أرباب الأحوال، يُلتمس لهم أحسن المخارج، فإن أحوالهم خضرية، وما رأينا أحدًا أولع بالإنكار فأفلح أبدًا. وبالله التوفيق.


١ أخرجه الترمذي في الزهد باب ٣٧، وابن ماجه في الزهد باب ٧..
﴿ وأما الغلامُ ﴾ الذي قتلتُه، ﴿ فكان أبواه مؤمنين ﴾ وقد طُبع هو كافرًا، وإنما لم يصرح بكفره ؛ لعدم الحاجة إليه ؛ لظهوره من قوله :﴿ فخشينا أن يُرهقهما ﴾ : فخفنا أن يغشى الوالدَيْنِ المؤمنَيْنِ ﴿ طغيانًا ﴾ عليهما ﴿ وكفرًا ﴾ بنعمتهما ؛ لعقوقه وسوء صنيعه، فَيُلْحِقُهُمَا شرًا، أو لشدة محبتهما له فيحملهما على طاعته، أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر، فلعله يميلهما إلى رأيه فيرتدا.
وإنما خشي الخضر عليه السلام منه ذلك ؛ لأن الله سبحانه أعلمه بحاله وأطلعه على عاقبة أمره، وقرئ :" فخاف ربك "، أي : كره سبحانه كراهية من خاف سوء عاقبة الأمر. ويجوز أن تكون القراءة المشهورة من قول الله سبحانه على الحكاية، أي فكرهنا أن يرهقهما طغيانًا وكفرًا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الاعتراض على المشايخ موجب للبُعد عنهم، والبُعد عنهم موجب للبُعد عن الله، فلا وصول إلى الله إلا بالوصول إليهم مع التعظيم والاحترام ؛ " سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه " ؛ كما في الحِكَم. فالواجب على المريد، إذا كان بين يدي الشيخ، السكوت والتسليم والاحترام والتعظيم، إلا أن يأمره بالكلام، فيتكلم بآداب ووقار وخفض صوت، فإذا رأى منه شيئًا يخالف ظاهر الشريعة فليسلم له، ويطلب تأويله، فإن الشريعة واسعة، لها ظاهر وباطن، فلعله اطلع على ما لم يفهمه المريد.
وكذلك الفُقراء لا ينكر عليهم إلا ما كان محرّمًا مجمعًا على تحريمه، ولا تأويل فيه، كالزنا بالمعينة أو اللواط، وأما ما اختلف فيه، ولو خارج المذهب، فلا ينكر عليه، وكذلك ما فيه تأويل. هذا إن صحت عدالته، فقد قالوا : إن صحت عدالة المرء فليترك وما فعل. وتأمل قضية شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمان المجذوب في مسألة الثور الذي أمر الفقراء بذبحه، فلما ذبحوه تبين أنه كان صدقة عليه، وكذلك غيره من أرباب الأحوال، يُلتمس لهم أحسن المخارج، فإن أحوالهم خضرية، وما رأينا أحدًا أولع بالإنكار فأفلح أبدًا. وبالله التوفيق.

﴿ فأردنا أن يُبدلهما ربُّهما خيرًا منه ﴾ ؛ بأن يرزقهما بدله ولدًا ﴿ خيرًا منه زكاةً ﴾ : طهارة من الذنوب والأخلاق الردية، ﴿ وأقربَ رُحْمًا ﴾ أي : رحمة وعطفًا، وفي التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما ما لا يخفى ؛ من الدلالة على وصول الخير إليهما، فلذلك قيل : ولدت لهما جارية، تزوجها نبي من الأنبياء فولدت نبيًا، هدى الله تعالى على يديه أمة من الأمم، وقيل : ولدت سبعين نبيًا، وقيل : أبدلهما ابنًا مؤمنًا مثلهما.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الاعتراض على المشايخ موجب للبُعد عنهم، والبُعد عنهم موجب للبُعد عن الله، فلا وصول إلى الله إلا بالوصول إليهم مع التعظيم والاحترام ؛ " سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه " ؛ كما في الحِكَم. فالواجب على المريد، إذا كان بين يدي الشيخ، السكوت والتسليم والاحترام والتعظيم، إلا أن يأمره بالكلام، فيتكلم بآداب ووقار وخفض صوت، فإذا رأى منه شيئًا يخالف ظاهر الشريعة فليسلم له، ويطلب تأويله، فإن الشريعة واسعة، لها ظاهر وباطن، فلعله اطلع على ما لم يفهمه المريد.
وكذلك الفُقراء لا ينكر عليهم إلا ما كان محرّمًا مجمعًا على تحريمه، ولا تأويل فيه، كالزنا بالمعينة أو اللواط، وأما ما اختلف فيه، ولو خارج المذهب، فلا ينكر عليه، وكذلك ما فيه تأويل. هذا إن صحت عدالته، فقد قالوا : إن صحت عدالة المرء فليترك وما فعل. وتأمل قضية شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمان المجذوب في مسألة الثور الذي أمر الفقراء بذبحه، فلما ذبحوه تبين أنه كان صدقة عليه، وكذلك غيره من أرباب الأحوال، يُلتمس لهم أحسن المخارج، فإن أحوالهم خضرية، وما رأينا أحدًا أولع بالإنكار فأفلح أبدًا. وبالله التوفيق.

﴿ وأما الجدارُ ﴾ الذي أقمتُ ﴿ فكان لغلامين يتيمين في المدينة ﴾ أي : القرية المذكورة فيما سبق، ولعل التعبير عنها بالمدينة ؛ لإظهار نوع اعتداد بها، باعتداد ما فيها من اليتيمين وأبيهما الصالح، قيل : اسم اليتيمين أصرم وصريم. ﴿ وكان تحته كنزٌ لهما ﴾ من فضة وذهب، كما في الحديث١، والذم على كنزهما إنما هو لمن لم يؤد زكاته، مع أن هذه شريعة أخرى. قال ابن عباس :( كان لوحًا من ذهب، مكتوب فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ؟ وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ؟ وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ؟ وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ؟ وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ؟ لا إله إلا الله، محمد رسول الله )٢. وقيل : كانت صحفًا فيها علم مدفون.
﴿ وكان أبوهما صالحًا ﴾، فيه تنبيه على أن سَعْيَهُ في ذلك كان لصلاح أبيهما، وفيه دليل على أن الله تعالى يحفظ أولياءه في ذريتهم، قيل : كان بينهما وبين الأب الذي حُفظا به سبعة أجداد. قال محمد بن المنكدر :( إن الله تعالى ليحفظ بالرجل الصالح ولده وولد ولده، ومَسربته التي هو فيها، والدويرات التي حولها، فلا يزالون في حفظ الله وستره ). وكان سعيد بن المسيب يقول لولده : إني لأزيد في صلاتي من أجلك، رجاء أن أُحْفَظَ فيك، ويتلو هذه الآية. وفي الحديث :" ما أحسن أحدٌ الخلافة في ماله إلا أحسن الله الخلافة في تركته " ٣ ويؤخذ من الآية : القيام بحق أولاد الصالحين ؛ إذ قام الخضر عليه السلام بذلك.
﴿ فأراد ربك ﴾ أي : مالكك ومُدبر أمرك. وفي إضافة الرب إلى ضمير موسى عليه السلام، دون ضميرهما، تنبيه له عليه السلام على تحتم كمال الانقياد، والاستسلام لإرادته سبحانه، وَوُجوب الاحتراز عن المناقشة فيما برز من القدرة في الأمور المذكورة وغيرها. أراد ﴿ أن يبلغا أشُدَّهما ﴾ : حُلُمَهُمَا وكمالَ رأيِهِمَا، ﴿ ويستخرجا كنزهما ﴾ من تحت الجدار، ولولا أني أقمته لانقض، وخرج الكنز من تحته، قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميته، وضاع بالكلية ؛ ﴿ رحمةً من ربك ﴾ مصدر في موضع الحال، أي : يستخرجا كنزهما مَرْحُومَيْنِ به من الله تعالى. أو : يتعلق بمضمر، أي : فعلت ما فعلت من الأمور التي شاهدتها، ﴿ رحمة من ربك ﴾ ؛ بمن فُعل له أو به.
وقد استعمل الخضر عليه السلام غاية الأدب في هذه المخاطبة ؛ فنسب ما كان عيبًا لنفسه، وما كان ممتزجًا له ولله تعالى ؛ فإن القتل بلا سبب ظاهرهُ عيبٌ، وإبداله بخير منه خير، فأتى بضمير المشاركة، وما كان كمالاً محضًا، وهو إقامة الجدار، نسبه لله تعالى.
ثم قال :﴿ وما فعلته ﴾ أي : ما رَأَيْتَ من الخوارق ﴿ عن أمري ﴾ أي : عن رأيي واجتهادي، بل بوحي إلهي مَلَكي، أو إلهامي، على اختلافٍ في نبوته أو ولايته، ﴿ ذلك ﴾ أي : ما تقدم ذكره من التأويلات، ﴿ تأويلُ ﴾ أي : مآل وعاقبة ﴿ ما لم تَسْطِع عليه صبرًا ﴾ أي : تفسير ما لم تستطع عليه صبرًا، فحذف التاء ؛ تخفيفًا، وهو فذلكة لِمَا تقدم، وفي جعل الصلة غير ما مرَّ تكرير للتنكير عليه وتشديد للعتاب. قيل : كل ما أنكر سيدنا موسى عليه السلام على الخضر قد جرى له مثله، ففي هذه الأمثلة حجة عليه، وذلك أنه لما أنكر خرق السفينة، نودي : يا موسى أين كان تدبيرك هذا وأنت مطروح في اليم ؟ فلما أنكر قتل الغلام وقيل له : أين إنكارك من وكْزك القبطي وقضائك عليه ؟ فلما أنكر إقامة الجدار، نودي : أين هذا من رفعك الحجر لبنات شعيب دون أجر ؟ والله تعالى أعلم.
رُوِيَ أنه قال له : لو صبرتَ لأتيتُ بك على ألفي عجيبة، كلها مما رأيت. ولما أراد موسى عليه السلام أن يفارقه، قال له : أوصني، قال : لا تطلب العلم لتحدث به، واطلبه لتعمل به. ه.
وفي رواية : قال له : اجعل همتك في معادك، ولا تخض فيما لا يعنيك، ولا تأمن الخوفَ، ولا تيأس الأمْن، وتدبر الأمور في علانيتك، ولا تذر الإحسان في قدرتك. فقال له : زدني يا ولي الله، فقال : يا موسى إياك واللجاجة، ولا تمش في غير حاجة، ولا تضحك، من غير عَجَب، ولا تُعير أحدًا بخطيئة بعد الندم، وابك على خطيئَتك يا ابن عمران، وإياك والإعجاب بنفسك، والتفريط فيما بقي من عمرك، فقال له موسى : قد أبلغت في الوصية، أتم الله عليك نعمته، وغمرك في رحمته، وكلأك من عدوه. فقال الخضر : آمين. فأوصني أنت يا نبي الله، فقال له موسى : إياك والغضب إلا في الله، ولا ترضى عن أحد إلا في الله، ولا تحب لدنيا ولا تبغض لدنيا، فإنك تخرج من الإيمان وتدخل في الكفر، فقال له الخضر : قد أبلغت في الوصية يا ابن عمران، أعانك الله على طاعته، وأراك السرور في أمرك، وحببك إلى خلقه، وأوسع عليك من فضله، قال موسى : آمين.
تنبيه : قد تقدم أن الجمهور على حياة الخضر عليه السلام. وسبب تعميره أنه كان على مقدمة ذي القرنين، فلما دخل الظلمات أصاب الخضر عين الحياة، فنزل فاغتسل منها، وشرب من مائها، فأخطأ ذو القرنين الطريق، فعاد، فلم يصادفها، قالوا : وإلياس أيضًا في الحياة، يلتقيان في كل سنة بالموسم، واحتج من قال بموت الخضر بقوله - عليه الصلاة والسلام-، كما في الصحيح، بعد صلاة العشاء :" أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّه عَلَى رأسِ مِائَةِ سَنَةِ، لا يَبْقَى ممَنْ هُوَ اليَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدًا " ٤، ويجاب بأن الخضر عليه السلام كان في ذلك الوقت في السحاب، أو يخصص الحديث به ؛ كما يخص بإبليس ومن عَمَّر من غيره. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : الاعتراض على المشايخ موجب للبُعد عنهم، والبُعد عنهم موجب للبُعد عن الله، فلا وصول إلى الله إلا بالوصول إليهم مع التعظيم والاحترام ؛ " سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه، ولم يصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه " ؛ كما في الحِكَم. فالواجب على المريد، إذا كان بين يدي الشيخ، السكوت والتسليم والاحترام والتعظيم، إلا أن يأمره بالكلام، فيتكلم بآداب ووقار وخفض صوت، فإذا رأى منه شيئًا يخالف ظاهر الشريعة فليسلم له، ويطلب تأويله، فإن الشريعة واسعة، لها ظاهر وباطن، فلعله اطلع على ما لم يفهمه المريد.
وكذلك الفُقراء لا ينكر عليهم إلا ما كان محرّمًا مجمعًا على تحريمه، ولا تأويل فيه، كالزنا بالمعينة أو اللواط، وأما ما اختلف فيه، ولو خارج المذهب، فلا ينكر عليه، وكذلك ما فيه تأويل. هذا إن صحت عدالته، فقد قالوا : إن صحت عدالة المرء فليترك وما فعل. وتأمل قضية شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمان المجذوب في مسألة الثور الذي أمر الفقراء بذبحه، فلما ذبحوه تبين أنه كان صدقة عليه، وكذلك غيره من أرباب الأحوال، يُلتمس لهم أحسن المخارج، فإن أحوالهم خضرية، وما رأينا أحدًا أولع بالإنكار فأفلح أبدًا. وبالله التوفيق.


١ أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٨، باب ١، والحاكم في المستدرك ٢/٣٦٩..
٢ أخرجه الطبري في تفسيره ١٦/٦..
٣ أخرجه المتقي الهندي في كنز العمال ١٦٠٧١..
٤ أخرجه البخاري في العلم باب ٤١، ومواقيت الصلاة باب ٢٠، ٤٠، وأبو داود في الملاحم باب ١٨..
ثم ذكر قصة ذي القرنين، الذي وقع السؤال عنه مع الروح وأهل الكهف، فقال :
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً ﴾ * ﴿ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ﴾ * ﴿ فَأَتْبَعَ سَبَباً ﴾ * ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً ﴾ * ﴿ قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً ﴾ * ﴿ وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ويسألونك ﴾ أي اليهود، سألوه على وجه الامتحان، أو قريش، بتلقينهم. والتعبير بالمضارع ؛ للدلالة على استمرارهم على ذلك إلى ورود الجواب، والمراد : ذو القرنين الأكبر، وكان على عهد إبراهيم عليه السلام، ويقال : إنه الذي قضى لإبراهيم حين تحاكم إليه في بئر السبع بالشام، واسمه تبرس، وقيل : هرديس، وأما ذو القرنين الأصغر، بالقرب من زمن عيسى عليه السلام، واسمه الإسكندر، وهو صاحب أرسطو الفيلسوف، وقيل : المراد به هنا الأصغر، واقتصر عليه المحلِّي.
قال الإمام الرازي : والأول أظهر ؛ لأن من بلغ مُلكه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها التنزيل إنما هو الأكبر، كما شهدت به كتب التواريخ. قلت : كلاهما بلغا الغاية القصوى، وملكا المشارق والمغارب، أما ذو القرنين الأكبر، فقيل : إنه كان ملِكًا عادلاً صالحًا، ملك الأقاليم، وقهر أهلها من الملوك، ودانت له البلاد، وإنه كان داعيًا إلى الله تعالى، سائرًا في الخَلْق بالمعونة التامة والسلطان المؤيد المنصور، وكان الخضر على مقدمة جيشه، بمنزلة المستشار الذي هو من الملك بمنزلة الوزير. وقيل : كان ابن خالته. وذكر الأزرقي وغيره أنه أسلم على يد إبراهيم عليه السلام، فطاف معه بالكعبة مع إسماعيل. ورُوي أنه حج ماشيًا، فلما سمع إبراهيم عليه السلام بقدومه تلقاه ودعا له، وأوصاه بوصايا. ويقال : إنه أُتي بفرس ليركب، فقال : لا أركب في بلد فيه الخليل، فعند ذلك سخّر له السحاب، وطوى له الأسفار، فكانت السحاب تحمله وعساكيره وجميع آلاتهم، إذا أرادوا غزو قوم. وسئل عنه عليّ رضي الله عنه : أكان نبيًا أو ملَكًا - بالفتح - ؟ فقال : لم يكن نبيًا ولا ملَكًا، ولكن كان عبدًا أحبَّ الله فأحبه الله، وناصَحَ الله فناصحه، فسخر له السحاب، ومدَّ له الأسباب.
وقال مجاهد : ملك الأرض أربعةٌ : مؤمنان وكافران، فالمؤمنان : سليمان وذو القرنين، والكافران : نمرود وبختنصر. ه.
وأما ذو القرنين الأصغر، وهو الإسكندر اليوناني، فرُوِيَ أنه لما مات أبوه جمع مُلْكَ الروم بعد أن كان طوائف، ثم قصد ملوك العرب وقهرهم، ثم مضى حتى أتى البحر الأخضر، ثم عاد إلى مصر، فبنى الإسكندرية وسماها باسمه، ثم دخل الشام وقصد بني إسرائيل، وورد بيت المقدس وذبح في مذبحةٍ، ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب، ودان له العراقيون والقبط والبربر، واستولى على ملوك الفرس، وقصد السند وفتحه، وبنى مدينة سرنديب وغيرها، ثم قصد الصين، وغزا الأمم البعيدة، ورجع إلى العراق ومرض ومات.
رُوِيَ أن أهل النجوم : قالوا له : إنك تموت على أرض من حديد، وتحت سماء من خشب، فبلغ بابل، ورعُف، وسقط عن دابته، فبسطت له دروع من حديد، فنام عليها، فآذته الشمس، فأظلوه بترس من خشب، فنظر، فقال : هذه أرض من حديد وسماء من خشب، فمات، وهو ابن ألف وستمائة سنة، وقيل : ثلاثة آلاف، قال ابن كثير : وهو غريب.
قلت : والذي لابن عساكر : أنه عاش ستًا وثلاثين سنة، وأنه كان بعد داود وسليمان - عليهما السلام - ثم قال ابن عساكر بعد كلام : وإنما بينّا هذا ؛ لأن كثيرًا من الناس يعتقدون أنهما واحد، وأن المذكور في القرآن العظيم هو المتأخر، فيقع بذلك خطأ كبير. كيف لا، والأول كان عبدًا صالحًا مؤمنًا، ملكًا عادلاً، وزيره الخضر عليه السلام، وقد قيل : إنه كان نبيًا، وأما الثاني فقد كان كافرًا، وزيره أرسْطَاطَاليس الفيلسوف، وقد كان بينهما من الزمان أكثر من ألفي سنة، فأين هذا من ذلك ؟ !. ه. فتأمله مع ما ذكر في اللُباب من تعزيته أمه، مما يدل على إسلامه، قال فيه : لما علم ذو القرنين أن الموت استعجله، دعا بكاتبه، فقال له : اكتب تعزيتي لأمي، بسم الله الرحمان الرحيم، من الإسكندر بن قيصر، رفيق أهل الأرض بجسده وأهل السماء بروحه، إلى أمي رومية ذات الصفا، التي لم تتمتع بثمرتها في دار الفناء، وعما قريب تجاوره في دار البقاء، يا أماه ؛ أسألك بودك لي وودي لك، هل رأيت لِحَيِّ قرارًا في الدار الدنيا ؟ وانظري إلى الشجر والنبات يخضر ويبتهج، ثم يهشم ويتناثر، كأن لم يغنَ بالأمس، وإني قد قرأت في بعض الكتب فيما أنزل الله : يا دنياي ارحلي بأهلِكِ، فإنكِ لستِ لهم بدار، إنما الدنيا واهبة الموت، موروثة الأحزان، مفرقة الأحباب، مخربة العمران، وكل مخلوق في دار الأغيار ليس له قرار. انظر بقية كلامه فيه. ولا يلزم من صحبته أرسطاطاليس أن يكون على دينه. والله تعالى أعلم.
واختُلِفَ في ذي القرنين المذكور في القرآن : هل كان نبيًا أو ملَكًا - بفتح اللام - أو ملِكًا - بالكسر - وهو الصحيح، واختلف في وجه تسميته بذي القرنين ؛ فقيل : كان في رأسه أو تاجه ما يشبه القرنين، وقيل : لأنه كان له ذؤابتان، وقيل : لأنه دعا الناس إلى الله عزّ وجلّ، فضُرب بقرنه الأيمن، ثم دعا إلى الله فضرب بقرنه الأيسر، وقيل : لأنه رأى في منامه أنه صعد الفلك فأخذ بقرني الشمس، وقيل : لأنه انقرض في عهده قرنان، وقيل : لأنه سخر له النور والظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه، وتحوطه الظلمة من ورائه. ه.
ثم ذكر الحق تعالى الجواب، فقال :﴿ قل سأتلو عليكم ﴾ أي : سأذكر لكم ﴿ منه ذكرًا ﴾ أي : خبرًا مذكورًا، أو قرآنا يخبركم بشأنه، والسين ؛ للتأكيد، والدلالة على التحقق المناسب لمقام تأييده صلى الله عليه وسلم، وتصديقه بإنجاز وعده، لا للدلالة على أن التلاوة ستقع في المستقبل ؛ لأن هذه الآية نزلت موصولة بما قبلها، حين سألوه صلى الله عليه وسلم عنه، وعن الروح، وعن أهل الكهف، فقال : غدًا أُخبركم، فتأخر الوحي كما تقدم، ثم نزلت السورة مفصلة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ذو القرنين لَمَّا أقبل بكليته على مولاه، ودعا إلى الله، ونصح لله، مكّنه الله تعالى من الأرض، ويسر له أموره، حتى قطع مشارقها ومغاربها، وكذلك من انقطع إلى الله، ورفع همته إلى مولاه، وأرشد الخلق إلى الله، تكون همته قاطعة، يقول للشيء كن فيكون، بقدرة الله وقدره. وسخر له الكون بأسره، يكون عند أمره ونهيه " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك "، يقول الله تعالى، في بعض كلامه :" يا عبدي كن لي كما أريد، أكن لك كما تريد ".
قال القشيري : ذو القرنين مكَّن له في الأرض جهرًا، فكانت تُطوى له إذا قطع أحوازها، وسُهل له أن يندرج في مشارقها ومغاربها، ويحظر أقطارها ومناكبها، ومن كان في محل الإعانة من الأولياء ؛ فالحق سبحانه يُمكنه في المملكة، ليحصل عند همته ما أراد من حصول طعام أو شراب، أو غيره من قطع مسافة، أو استتار عن أبصار، وتصديق مأمول، وتحقيق سؤال، وإجابة دعاء، وكشف بلاء، وفوق ذلك تمكينه من تحقيق همه له في أمره، ثم فوق ذلك في التمكين في أن يُحضِر بهمتهم قومًا بما شاؤوا، ويمنع قومًا عما شاؤوا، فلهم من الحق تحقيق أمل، إذا تصرفوا في المملكة بإرادات في سوانح وحادثات، وفوق هذا التمكين في المملكة إيصال قوم إلى منازل ومحالُ، فالله يحقق فيهم همتهم. هـ. قلت : وفوق ذلك كله تمكينهم من شهود ذاته، في كل وقت وحين، حتى لو طلبوا الحجاب لم يُجابوا، ولو كُلفوا أن يروا غيره لم يستطيعوا، وهؤلاء هم الذين لهم التمكين في الإيصال إلى منازل السائرين ومحالُ الواصلين. والله تعالى أعلم.

ثم شرع في تلاوة ذلك الذكر، فقال :﴿ إِنا مكنَّا له في الأرض ﴾ أي : مكنا له فيها قوة يتصرف فيها كيف يشاء، بتيسير الأسباب وقوة الاقتدار، حيث سخر له السحاب، ومدّ له في الأسباب، وبسط له النور، فكان الليل والنهار عليه سواء، وسهل له السير في الأرض وذللت له طرقها، ﴿ وآتيناه من كل شيء ﴾ أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه ﴿ سببًا ﴾ أي : طريقًا يُوصله إليه ؛ من علم، أو قدرة، أو آلة، فأراد الوصول إلى الغرب ﴿ فأتْبَع سببًا ﴾ : طريقًا يوصله إليه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ذو القرنين لَمَّا أقبل بكليته على مولاه، ودعا إلى الله، ونصح لله، مكّنه الله تعالى من الأرض، ويسر له أموره، حتى قطع مشارقها ومغاربها، وكذلك من انقطع إلى الله، ورفع همته إلى مولاه، وأرشد الخلق إلى الله، تكون همته قاطعة، يقول للشيء كن فيكون، بقدرة الله وقدره. وسخر له الكون بأسره، يكون عند أمره ونهيه " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك "، يقول الله تعالى، في بعض كلامه :" يا عبدي كن لي كما أريد، أكن لك كما تريد ".
قال القشيري : ذو القرنين مكَّن له في الأرض جهرًا، فكانت تُطوى له إذا قطع أحوازها، وسُهل له أن يندرج في مشارقها ومغاربها، ويحظر أقطارها ومناكبها، ومن كان في محل الإعانة من الأولياء ؛ فالحق سبحانه يُمكنه في المملكة، ليحصل عند همته ما أراد من حصول طعام أو شراب، أو غيره من قطع مسافة، أو استتار عن أبصار، وتصديق مأمول، وتحقيق سؤال، وإجابة دعاء، وكشف بلاء، وفوق ذلك تمكينه من تحقيق همه له في أمره، ثم فوق ذلك في التمكين في أن يُحضِر بهمتهم قومًا بما شاؤوا، ويمنع قومًا عما شاؤوا، فلهم من الحق تحقيق أمل، إذا تصرفوا في المملكة بإرادات في سوانح وحادثات، وفوق هذا التمكين في المملكة إيصال قوم إلى منازل ومحالُ، فالله يحقق فيهم همتهم. هـ. قلت : وفوق ذلك كله تمكينهم من شهود ذاته، في كل وقت وحين، حتى لو طلبوا الحجاب لم يُجابوا، ولو كُلفوا أن يروا غيره لم يستطيعوا، وهؤلاء هم الذين لهم التمكين في الإيصال إلى منازل السائرين ومحالُ الواصلين. والله تعالى أعلم.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨٤:ثم شرع في تلاوة ذلك الذكر، فقال :﴿ إِنا مكنَّا له في الأرض ﴾ أي : مكنا له فيها قوة يتصرف فيها كيف يشاء، بتيسير الأسباب وقوة الاقتدار، حيث سخر له السحاب، ومدّ له في الأسباب، وبسط له النور، فكان الليل والنهار عليه سواء، وسهل له السير في الأرض وذللت له طرقها، ﴿ وآتيناه من كل شيء ﴾ أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه ﴿ سببًا ﴾ أي : طريقًا يُوصله إليه ؛ من علم، أو قدرة، أو آلة، فأراد الوصول إلى الغرب ﴿ فأتْبَع سببًا ﴾ : طريقًا يوصله إليه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ذو القرنين لَمَّا أقبل بكليته على مولاه، ودعا إلى الله، ونصح لله، مكّنه الله تعالى من الأرض، ويسر له أموره، حتى قطع مشارقها ومغاربها، وكذلك من انقطع إلى الله، ورفع همته إلى مولاه، وأرشد الخلق إلى الله، تكون همته قاطعة، يقول للشيء كن فيكون، بقدرة الله وقدره. وسخر له الكون بأسره، يكون عند أمره ونهيه " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك "، يقول الله تعالى، في بعض كلامه :" يا عبدي كن لي كما أريد، أكن لك كما تريد ".
قال القشيري : ذو القرنين مكَّن له في الأرض جهرًا، فكانت تُطوى له إذا قطع أحوازها، وسُهل له أن يندرج في مشارقها ومغاربها، ويحظر أقطارها ومناكبها، ومن كان في محل الإعانة من الأولياء ؛ فالحق سبحانه يُمكنه في المملكة، ليحصل عند همته ما أراد من حصول طعام أو شراب، أو غيره من قطع مسافة، أو استتار عن أبصار، وتصديق مأمول، وتحقيق سؤال، وإجابة دعاء، وكشف بلاء، وفوق ذلك تمكينه من تحقيق همه له في أمره، ثم فوق ذلك في التمكين في أن يُحضِر بهمتهم قومًا بما شاؤوا، ويمنع قومًا عما شاؤوا، فلهم من الحق تحقيق أمل، إذا تصرفوا في المملكة بإرادات في سوانح وحادثات، وفوق هذا التمكين في المملكة إيصال قوم إلى منازل ومحالُ، فالله يحقق فيهم همتهم. هـ. قلت : وفوق ذلك كله تمكينهم من شهود ذاته، في كل وقت وحين، حتى لو طلبوا الحجاب لم يُجابوا، ولو كُلفوا أن يروا غيره لم يستطيعوا، وهؤلاء هم الذين لهم التمكين في الإيصال إلى منازل السائرين ومحالُ الواصلين. والله تعالى أعلم.


﴿ حتى إذا بلغ مَغْرِب الشمس ﴾ أي : منتهى الأرض من جهة المغرب، بحيث لا يتمكن أحد من مجاوزته، ووقف على حافة البحر المحيط الغربي، الذي فيه الجزاير المسماة بالخالدات، التي هي مبدأ الأطوال على أحد القولين. ﴿ وجدَها ﴾ أي : الشمس، ﴿ تغربُ في عينٍ حَمِئَةٍ ﴾ أي : ذات حمأ، وهو الطين الأسود، وقرئ : حامية، أي : حارة، رُوي أن معاوية رضي الله عنه قرأ حامية، وعنده ابن عباس، فقال ابن عباس : حمئة، فقال : معاوية لعبد الله بن عمرو بن العاص : كيف تقرأ ؟ قال : كما يقرأ أمير المؤمنين، ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب ؟ قال : في ماء وطين، كذا نجده في التوراة، فوافق قول ابن عباس رضي الله عنه.
وليس بينهما تنافٍ، لجواز كون العين جامعة بين الوصفين، وأما رجوع معاوية إلى قول ابن عباس بما سمعه من كعب الأحبار، مع أن قراءته أيضًا متواترة، فلكون قراءة ابن عباس قطعية في مدلولها، وقراءته محتملة، ولعله لَمَّا بلغ ساحل البحر المحيط رآها كذلك، إذ ليس في مطمح نظره غير الماء، كما يلوح به قوله تعالى :﴿ وجدها تغرب ﴾، ولم يقل : كانت تغرب ؛ فإن الشمس في السماء لا تغرب في الأرض.
﴿ ووجد عندها ﴾ أي : تلك العين ﴿ قومًا ﴾ ؛ قيل : كان لباسهم جلود الوحش، وطعامهم ما لفظه البحر، وكانوا كفارًا، فخيّره الله تعالى بين أن يعذبهم بالقتل، وأن يدعوهم إلى الإيمان، فقال :﴿ قلنا يا ذا القرنين إِما أن تُعَذَّبَ ﴾ بالقتل من أول الأمر، ﴿ وإِمّا أن تتخذ فيهم حُسْنًا ﴾ ؛ أمرًا ذا حُسْنٍ، وذلك بالدعوة إلى الإسلام والإرشاد إلى الشرائع، واستدل بهذا على نبوته، ومن لم يقل بها قال : كان بواسطة نبي كان معه في ذلك العصر، أو إلهامًا، بعد أن كان التخيير موافقًا لشريعة ذلك النبي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ذو القرنين لَمَّا أقبل بكليته على مولاه، ودعا إلى الله، ونصح لله، مكّنه الله تعالى من الأرض، ويسر له أموره، حتى قطع مشارقها ومغاربها، وكذلك من انقطع إلى الله، ورفع همته إلى مولاه، وأرشد الخلق إلى الله، تكون همته قاطعة، يقول للشيء كن فيكون، بقدرة الله وقدره. وسخر له الكون بأسره، يكون عند أمره ونهيه " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك "، يقول الله تعالى، في بعض كلامه :" يا عبدي كن لي كما أريد، أكن لك كما تريد ".
قال القشيري : ذو القرنين مكَّن له في الأرض جهرًا، فكانت تُطوى له إذا قطع أحوازها، وسُهل له أن يندرج في مشارقها ومغاربها، ويحظر أقطارها ومناكبها، ومن كان في محل الإعانة من الأولياء ؛ فالحق سبحانه يُمكنه في المملكة، ليحصل عند همته ما أراد من حصول طعام أو شراب، أو غيره من قطع مسافة، أو استتار عن أبصار، وتصديق مأمول، وتحقيق سؤال، وإجابة دعاء، وكشف بلاء، وفوق ذلك تمكينه من تحقيق همه له في أمره، ثم فوق ذلك في التمكين في أن يُحضِر بهمتهم قومًا بما شاؤوا، ويمنع قومًا عما شاؤوا، فلهم من الحق تحقيق أمل، إذا تصرفوا في المملكة بإرادات في سوانح وحادثات، وفوق هذا التمكين في المملكة إيصال قوم إلى منازل ومحالُ، فالله يحقق فيهم همتهم. هـ. قلت : وفوق ذلك كله تمكينهم من شهود ذاته، في كل وقت وحين، حتى لو طلبوا الحجاب لم يُجابوا، ولو كُلفوا أن يروا غيره لم يستطيعوا، وهؤلاء هم الذين لهم التمكين في الإيصال إلى منازل السائرين ومحالُ الواصلين. والله تعالى أعلم.

﴿ قال ﴾ ذو القرنين، لمن كان عنده : مختارًا للشق الأخير، وهو الدعاء إلى الإسلام :﴿ أمّا من ظَلَم ﴾ في نفسه، وأصرّ على الكفران، ولم يقبل الإيمان ﴿ فسوف نُعذِبُه ﴾ بالقتل. وعن قتادة : أنه كان يطبخ من كفر في القدور، ﴿ ثم يُرَدُّ إلى ربه ﴾ في الآخرة ﴿ نُعَذِّبُهُ ﴾ فيها ﴿ عذابًا نُكْرًا ﴾ ؛ منكرٌ فظيعًا، لم يُعهد مثله، وهو عذاب النار.
وفيه دلالة ظاهرة على أن الخطاب لم يكن بطريق الوحي إليه، أي : حيث لم يقل :" ثم يرد إليك "، وأن مقاولته كانت مع النبي، أو مع من عنده من أهل مشورته.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ذو القرنين لَمَّا أقبل بكليته على مولاه، ودعا إلى الله، ونصح لله، مكّنه الله تعالى من الأرض، ويسر له أموره، حتى قطع مشارقها ومغاربها، وكذلك من انقطع إلى الله، ورفع همته إلى مولاه، وأرشد الخلق إلى الله، تكون همته قاطعة، يقول للشيء كن فيكون، بقدرة الله وقدره. وسخر له الكون بأسره، يكون عند أمره ونهيه " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك "، يقول الله تعالى، في بعض كلامه :" يا عبدي كن لي كما أريد، أكن لك كما تريد ".
قال القشيري : ذو القرنين مكَّن له في الأرض جهرًا، فكانت تُطوى له إذا قطع أحوازها، وسُهل له أن يندرج في مشارقها ومغاربها، ويحظر أقطارها ومناكبها، ومن كان في محل الإعانة من الأولياء ؛ فالحق سبحانه يُمكنه في المملكة، ليحصل عند همته ما أراد من حصول طعام أو شراب، أو غيره من قطع مسافة، أو استتار عن أبصار، وتصديق مأمول، وتحقيق سؤال، وإجابة دعاء، وكشف بلاء، وفوق ذلك تمكينه من تحقيق همه له في أمره، ثم فوق ذلك في التمكين في أن يُحضِر بهمتهم قومًا بما شاؤوا، ويمنع قومًا عما شاؤوا، فلهم من الحق تحقيق أمل، إذا تصرفوا في المملكة بإرادات في سوانح وحادثات، وفوق هذا التمكين في المملكة إيصال قوم إلى منازل ومحالُ، فالله يحقق فيهم همتهم. هـ. قلت : وفوق ذلك كله تمكينهم من شهود ذاته، في كل وقت وحين، حتى لو طلبوا الحجاب لم يُجابوا، ولو كُلفوا أن يروا غيره لم يستطيعوا، وهؤلاء هم الذين لهم التمكين في الإيصال إلى منازل السائرين ومحالُ الواصلين. والله تعالى أعلم.

﴿ وأما مَنْ آمن ﴾ بموجب دعوته ﴿ وعَمِلَ ﴾ عملاً ﴿ صالحًا ﴾ حسبما يقتضيه الإيمان ﴿ فله ﴾ في الدارين ﴿ جزاء الحُسنى ﴾، أي : المثوبة الحسنى، أو الفعلة الحسنى جزاء، على قراءة النصب، على أنه مصدر مؤكد للجملة، قُدِّم عليه المبتدأ ؛ اعتناءً، أو حال، أو تمييز. ﴿ وسنقول له من أمرنا ﴾ أي : مما نأمر به ﴿ يُسْرًا ﴾ : سهلاً ميسرًا، غير شاق عليه. والله تعالى أعلم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : ذو القرنين لَمَّا أقبل بكليته على مولاه، ودعا إلى الله، ونصح لله، مكّنه الله تعالى من الأرض، ويسر له أموره، حتى قطع مشارقها ومغاربها، وكذلك من انقطع إلى الله، ورفع همته إلى مولاه، وأرشد الخلق إلى الله، تكون همته قاطعة، يقول للشيء كن فيكون، بقدرة الله وقدره. وسخر له الكون بأسره، يكون عند أمره ونهيه " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شهدته كانت الأكوان معك "، يقول الله تعالى، في بعض كلامه :" يا عبدي كن لي كما أريد، أكن لك كما تريد ".
قال القشيري : ذو القرنين مكَّن له في الأرض جهرًا، فكانت تُطوى له إذا قطع أحوازها، وسُهل له أن يندرج في مشارقها ومغاربها، ويحظر أقطارها ومناكبها، ومن كان في محل الإعانة من الأولياء ؛ فالحق سبحانه يُمكنه في المملكة، ليحصل عند همته ما أراد من حصول طعام أو شراب، أو غيره من قطع مسافة، أو استتار عن أبصار، وتصديق مأمول، وتحقيق سؤال، وإجابة دعاء، وكشف بلاء، وفوق ذلك تمكينه من تحقيق همه له في أمره، ثم فوق ذلك في التمكين في أن يُحضِر بهمتهم قومًا بما شاؤوا، ويمنع قومًا عما شاؤوا، فلهم من الحق تحقيق أمل، إذا تصرفوا في المملكة بإرادات في سوانح وحادثات، وفوق هذا التمكين في المملكة إيصال قوم إلى منازل ومحالُ، فالله يحقق فيهم همتهم. هـ. قلت : وفوق ذلك كله تمكينهم من شهود ذاته، في كل وقت وحين، حتى لو طلبوا الحجاب لم يُجابوا، ولو كُلفوا أن يروا غيره لم يستطيعوا، وهؤلاء هم الذين لهم التمكين في الإيصال إلى منازل السائرين ومحالُ الواصلين. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر سير ذي القرنين إلى جهة المشرق، فقال :
﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ﴾ * ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً ﴾ * ﴿ كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ثم أَتْبَع ﴾ ذو القرنين ﴿ سببًا ﴾ : طريقًا راجعًا من مغرب الشمس، موصلاً إلى مشرقها.
قلت :﴿ مَطْلِعَ ﴾ فيه لغتان : الكسر والفتح، و﴿ كذلك ﴾ : خبر عن مضمر، أي : أمر ذي القرنين كما وصفنا لك، أو صفة مصدر محذوف لِوَجَد، أو ﴿ نجعل ﴾ أي : وجدا أو جعلا كذلك، أو صفة لقوم، أي : على قوم مثل ذلك القبيل، الذي تغرب عليهم الشمس في الكفر والحكم، أو صفة لستر، أي : سترًا مثل ستركم.
﴿ حتى إِذا بلغ مَطْلِعَ الشمس ﴾ أي : الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولاً من معمورة الأرض، قيل : بلغه في اثنتي عشرة سنة، وقيل : في أقل من ذلك.
﴿ وجدها تطْلُع على قوم ﴾ عراة ﴿ لم نجعلْ لهم من دونها سترًا ﴾ من اللباس والبنيان، قيل : هم الزنج، وفي اللباب : قيل : إنهم بنو كليب، وقيل : إن بني كليب طائفة منهم، وهم قوم بآخر صين الصين، على صور بني آدم، إلاّ أنهم لهم أذناب كأذناب الكلاب، ووجوه كوجوه الكلاب، وأكثر قُوتِهم الحوت، ومَن مات منهم أكلوه، وملأوا موضع دماغه مسكًا وعنبرًا، وحبسوه عندهم ؛ تبركًا بآبائهم وأبنائهم. ثم قال : وليس لهم لباس إلا الجلود على عورتهم. ه.
وعن كعب : أن أرضهم لا تمسك الأبنية، وبها أسراب، فإذا طلعت الشمس دخلوا الأسراب أو البحر، فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم، يتراعون فيها كما ترعى البهائم. قال رجل من سمَرْقَنْد : خرجت حتى جاوزت الصين، فقالوا لي : بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة، فاستأجرت رجلاً حتى بلغتهم، فإذا أحدهم يفرش أذنه، ويلبس الأخرى، وكان صاحبي يُحسن لسانهم، فسألهم فقالوا : جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس. قال : فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة، فغشي عليَّ، ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن، فلما طلَعت الشمس على الماء، إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت، فأدخلونا سربًا لهم، فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر يصطادون السمك فيطرحونه في الشمس فينضج. ه. وعن مجاهد : من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض. ه.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كان ذو القرنين في الظاهر يلتمس مطلع الشمس الحسية، وفي الباطن يلتمس مطلع الشمس المعنوية، وهي شمس القلوب، التي تكشف أستار الغيوب، ثم أتبع سبَبًا يُوصل إلى شمس العيان، فوجدها تطلع على قلوب أهل العرفان، لم يجعل لهم من دونها سِتْرًا على الدوام، لما أتحفهم به من غاية الوصال والإكرام، حتى قال قائلهم : لو حجب عني الحق تعالى طرفة عين ما أعددت نفسي من المسلمين، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقول : وجدها تطلع على أهل التجريد، الخائضين في بحار التوحيد، وأسرار التفريد، وفيهم قال المجذوب رضي الله عنه :
أقَارِئينَ عِلْـمَ التَّوْحِيدِ هُنَا البُحورُ إلَيَّ تُنْبِي
هَذَا مَقَامُ أَهْلِ التَّجْرِيد الْوَاقفِينَ مَع ربِّي
قد تجرّدوا من لباس الزينة والافتخار، ولبسوا لباس المسكنة والافتقار، فعوضهم الله تعالى في قلوبهم لباس الغنى والعز والاقتدار، صبروا قليلاً، واستراحوا زمنًا طويلاً، تذللوا قليلاً، وعزّوا عزًا طويلاً، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.

قلت :﴿ مَطْلِعَ ﴾ فيه لغتان : الكسر والفتح، و﴿ كذلك ﴾ : خبر عن مضمر، أي : أمر ذي القرنين كما وصفنا لك، أو صفة مصدر محذوف لِوَجَد، أو ﴿ نجعل ﴾ أي : وجدا أو جعلا كذلك، أو صفة لقوم، أي : على قوم مثل ذلك القبيل، الذي تغرب عليهم الشمس في الكفر والحكم، أو صفة لستر، أي : سترًا مثل ستركم.
وقوله تعالى :﴿ كذلك ﴾ : أي : أمر ذي القرنين كما وصفنا، في رفعة المحل وبسط الملك، أو أمره فيهم كأمره في أهل مغرب الشمس، من التخيير والاختيار، أو وجد قومًا عند مطلع الشمس كذلك، وحكم فيهم، بحكم أولئك. أو :﴿ لم نجعل لهم ﴾ سترًا مثل ستركم من اللباس والأكنان والجبال. قال الحسن : كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، ولا تحمل البناء، فإذا طلعت الشمس هربوا إلى البحر. ه. قال تعالى :﴿ وقد أحطْنا بما لديه ﴾ من الأسباب والعُدَد، وما صدر عنه وما لاقاه ﴿ خُبْرًا ﴾ : علمًا تعلق بظواهره، وخفايا أمره، يعني : أن ذلك بلغ من الكثرة بحيث لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كان ذو القرنين في الظاهر يلتمس مطلع الشمس الحسية، وفي الباطن يلتمس مطلع الشمس المعنوية، وهي شمس القلوب، التي تكشف أستار الغيوب، ثم أتبع سبَبًا يُوصل إلى شمس العيان، فوجدها تطلع على قلوب أهل العرفان، لم يجعل لهم من دونها سِتْرًا على الدوام، لما أتحفهم به من غاية الوصال والإكرام، حتى قال قائلهم : لو حجب عني الحق تعالى طرفة عين ما أعددت نفسي من المسلمين، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقول : وجدها تطلع على أهل التجريد، الخائضين في بحار التوحيد، وأسرار التفريد، وفيهم قال المجذوب رضي الله عنه :
أقَارِئينَ عِلْـمَ التَّوْحِيدِ هُنَا البُحورُ إلَيَّ تُنْبِي
هَذَا مَقَامُ أَهْلِ التَّجْرِيد الْوَاقفِينَ مَع ربِّي
قد تجرّدوا من لباس الزينة والافتخار، ولبسوا لباس المسكنة والافتقار، فعوضهم الله تعالى في قلوبهم لباس الغنى والعز والاقتدار، صبروا قليلاً، واستراحوا زمنًا طويلاً، تذللوا قليلاً، وعزّوا عزًا طويلاً، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.

ثم أخذ ذو القرنين من الجنوب إلى الشمال، كما قال تعالى :
﴿ ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ﴾ * ﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً ﴾ * ﴿ قَالُواْ ياذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً ﴾ * ﴿ قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً ﴾ * ﴿ آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُواْ حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِيا أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً ﴾ * ﴿ فَمَا اسْطَاعُواْ أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً ﴾ * ﴿ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً ﴾ * ﴿ وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً ﴾ * ﴿ وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً ﴾ * ﴿ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ ثم أتْبَعَ ﴾ ذو القرنين ﴿ سببًا ﴾ : طريقًا ثالثًا بين المشرق والمغرب، سالكًا من الجنوب إلى الشمال.
قلت :﴿ بين السدين ﴾ : مفعول، لا ظرف ؛ لأنه يستعمل متصرفًا.
﴿ حتى إذا بلغ بين السدين ﴾ : بين الجبلين، اللذين سُدَّ ما بينهما، وهو منقطع أرض الترك، مما يلي المشرق، لا جبال أرمينية وأذربيجان، كما توهم، وفيه لغتان : الضم والفتح، وقيل : ما كان من فعل الله فهو مضموم، وما كان من عمل الخلق فهو مفتوح. ﴿ وجد من دونهما ﴾ أي : من ورائهما : مما يلي بر الترك، ﴿ قومًا ﴾ : أمة من الناس ﴿ لا يكادون يفقهون ﴾ : يفهمون ﴿ قولاً ﴾ ؛ لغرابة لغتهم، وقلة فطنتهم، وقرئ بالضم ؛ رباعيًا، أي : لا يُفصحون بكلامهم، واختلف فيهم، قيل : هم جيل من الترك ؛ قال السدي : الترك سُرْبة من يأجوج ومأجوج، خرجت، فضرب ذو القرنين السد، فبقيت خارجة. قلت : ولعلهم طلبوا منه ذلك، حين اعتزلوا قومهم، ثم قال : فجميع الترك منهم. وعن قتادة : أنهم، - أي : يأجوج ومأجوج - اثنتان وعشرون قبيلة، سد ذو القرنين على إحدى وعشرين، وبقيت واحدة، فسُموا الترك ؛ لأنهم تُرِكُوا خارجين. قال أهل التاريخ : أولاد نوح عليه السلام ثلاثة : سام وحام ويافث، فسام أَبو العرب والعجم والروم، وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة، ويافث أبو الترك والخرز والصقالبة ويأجوج ومأجوج. ه.
وقُرِئ بالهمز فيهما ؛ لأنه من أجيج النار، أي : ضوؤها وشررها، شُبهوا به في كثرتهم وشدتهم، وهو غير منصرف ؛ للعجمة والعلَمية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : السياحة في أقطار الأرض مطلوبة عند الصوفية في بداية المريد، أقلها سبع سنين، وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه : أقلها أربع عشرة سنة. وفيها فوائد، منها : زيارة الإخوان، والمذاكرة معهم، وهي ركن في الطريق، ومنها : نفع عباد الله، إن كان أهلاً لتذكيرهم، ( فلأن يهدي الله به رجلاً واحدًا خير له مما طلعت عليه الشمس ). ومنها : تأسيس باطنه وتشحيذ معرفته، ففي كل يوم يلقى تجليًا جديدًا، وتلوينًا غريبًا، يحتاج معه إلى معرفة كبيرة وصبر جديد، فالمريد كالماء، إذا طال مُكثه في مكانه أنتن وتغيَّر، وإذا جرى عَذُبَ وصَفَى. ومنها : أنه قد يلقى في سياحته من يربَحُ منه، أو يزيد به إلى ربه.
رُوِيَ أن ذا القرنين بينما هو يسير في سياحته إذ رُفع إلى أمة صالحة، يهدون بالحق وبه يعدلون، يقسمون بالسوية، ويحكمون بالعدل، وقبورهم بأبواب بيوتهم، وليْسَتْ لبيوتهم أبواب، وليس عليهم أُمراء، وليس بينهم قضاة، ولا يختلفون ولا يتنازعون، ولا يقتتلون، ولا يضحكون ولا يحزنون، ولا تُصيبهم الآفات التي تُصيب الناس، أطول الناس أعمارًا، وليس فيهم مسكين ولا فظ ولا غليظ، فعجب منهم، وقال : خبِّروني بأمركم، فلم أر في مشارق الأرض ومغاربها مثلكم، فما بال قبوركم على أبواب بيوتكم ؟ قالوا : لئلا ننسى الموت ؛ ليمنعنا ذلك من طلب الدنيا، قال : فما بال بيوتكم لا أبواب لها ؟ قالوا : ليس فيها مُتهم، ولا فينا إلا أمين مؤتمن. قال : فما بالكم ليس فيكم حُكَّام ؟ قالوا : لا نختصم، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء ؟ قالوا : لا نتكاثر. قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا : لا نفتخر، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا : من أُلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا، قال : فما بال طريقتكم واحدة وكلمتكم مستقيمة ؟ قالوا : من أجل أننا لا نتكاذب، ولا نتخادع، ولا يغتاب بعضنا بعضًا. قال : أخبروني من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم ؟ قالوا : صلحت صدورنا فنزع منها الغل والحسد، قال : فما بالكم ليس فيكم فقير ولا مسكين ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا نقسم بيننا بالسوية. قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا : من قِبَل الذلة والتواضع، قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارًا ؟ قالوا : من قِبَل أنَّا لا نتعاطى إلا الحق ونحكم بالسوية.
قال : فما بالكم لا تضحكون ؟ قالوا : لا نغفُل عن الاستغفار. قال : فما بالكم لا تحزنون ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا وَطَّنَّا أنفسنا للبلاء. فقال : فما بالكم لا تصيبكم الآفاتُ كما تصيب الناس ؟ قالوا : لأنا لا نتوكل على غير الله، قال : هل وجدتم آباءكم هكذا ؟ قالوا : نعم، وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم، ويُواسون فقراءهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويُحسنون إلى من أساء إليهم، ويحلمون عمن جهل عليهم، ويَصلُون أرحامهم، ويُؤدون أمانتهم، ويحفظون وقت صلاتهم، ويُوفون بعهدهم، ويَصدُقون في مواعدهم، فأصلح الله تعالى بذلك أمرهم وحفظهم، ما كانوا أحياءًا، وكان حقًا علينا أن نخلفهم في تركتهم. فقال ذو القرنين : لو كنت مُقيمًا لأقمت فيكم، ولكن لم أُومر بالمقام. هـ. ذكره الثعلبي.
وقال في القوت : قوله تعالى، في صفة أعدائه المحجوبين :﴿ كانت أعينهم في غطاء عن ذكري ﴾ : دليل الخطاب في تدبر معناه أن أولياءه المستجيبين له سامعون منه مكاشفون بذكره، ناظرون إلى غيبه، قال تعالى في ضده :﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾ [ هُود : ٢٠ ]، وقال :﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ... ﴾ [ هُود : ٢٤ ] الآية. هـ.

﴿ قالوا يا ذا القرنين ﴾، إما أن يكون قالوه بواسطة ترجمان، أو يكون فَهم كلامهم، فيكون من جملة ما آتاه الله تعالى من الأسباب، فقالوا له :﴿ إِن يأجوج ومأجوج ﴾، قد تقدم أنهم من أولاد يافث. وما يقال : إنهم من نطفة احتلام آدم لم يصح، واختلف في صفاتهم، فقيل : في غاية صغر الجثة وقصر القامة، لا يزيد قدمهم على شبر، وقيل : في نهاية عِظم الجسم وطول القامة، تبلغ قدودهم نحو مائة وعشرين ذراعًا، وفيهم من عرضه كذلك.
قال عبد الله بن مسعود : سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم عن يأجوج ومأجوج، فقال :" هم أمم، كل أمة أربع مائة ألف، لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذَكَر من صلبه، كلهم قد حمل السلاح "، قيل : يا رسول الله صفهم لنا، قال : هم ثلاثة أصناف : صنف منهم أمثال الأرز - وهو شجر بالشام طول الشجرة عشرون ومائة ذراع - وصنف عرضه وطوله سواء، عشرون ومائة ذراع، وصنف يفرش أذنه ويلتحف بالأخرى، لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه، ومن مات منهم أكلوه، مُقَدَّمَتُهُمْ بالشام، وسَاقَتُهُمْ بخراسان، يشربون أنهار المشرق، وبحيرة طبرية " ١.
فقالوا له :﴿ إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض ﴾ أي : في أرضنا، بالقتل، والتخريب، وإتلاف الزرع، قيل : كانوا يخرجون أيام الربيع، فلا يتركون أخضر إلا أكلوه، ولا يابسا إلا احتملوه، وكانوا يأكلون الناس أيضا. ﴿ فهل نجعل لك خرجا ﴾ أي : جعلا من أموالنا ﴿ على أن تجعل بيننا وبينهم سدا ﴾ ؛ بالفتح وبالضم، أي : حاجزا يمنعهم منا ؟
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : السياحة في أقطار الأرض مطلوبة عند الصوفية في بداية المريد، أقلها سبع سنين، وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه : أقلها أربع عشرة سنة. وفيها فوائد، منها : زيارة الإخوان، والمذاكرة معهم، وهي ركن في الطريق، ومنها : نفع عباد الله، إن كان أهلاً لتذكيرهم، ( فلأن يهدي الله به رجلاً واحدًا خير له مما طلعت عليه الشمس ). ومنها : تأسيس باطنه وتشحيذ معرفته، ففي كل يوم يلقى تجليًا جديدًا، وتلوينًا غريبًا، يحتاج معه إلى معرفة كبيرة وصبر جديد، فالمريد كالماء، إذا طال مُكثه في مكانه أنتن وتغيَّر، وإذا جرى عَذُبَ وصَفَى. ومنها : أنه قد يلقى في سياحته من يربَحُ منه، أو يزيد به إلى ربه.
رُوِيَ أن ذا القرنين بينما هو يسير في سياحته إذ رُفع إلى أمة صالحة، يهدون بالحق وبه يعدلون، يقسمون بالسوية، ويحكمون بالعدل، وقبورهم بأبواب بيوتهم، وليْسَتْ لبيوتهم أبواب، وليس عليهم أُمراء، وليس بينهم قضاة، ولا يختلفون ولا يتنازعون، ولا يقتتلون، ولا يضحكون ولا يحزنون، ولا تُصيبهم الآفات التي تُصيب الناس، أطول الناس أعمارًا، وليس فيهم مسكين ولا فظ ولا غليظ، فعجب منهم، وقال : خبِّروني بأمركم، فلم أر في مشارق الأرض ومغاربها مثلكم، فما بال قبوركم على أبواب بيوتكم ؟ قالوا : لئلا ننسى الموت ؛ ليمنعنا ذلك من طلب الدنيا، قال : فما بال بيوتكم لا أبواب لها ؟ قالوا : ليس فيها مُتهم، ولا فينا إلا أمين مؤتمن. قال : فما بالكم ليس فيكم حُكَّام ؟ قالوا : لا نختصم، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء ؟ قالوا : لا نتكاثر. قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا : لا نفتخر، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا : من أُلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا، قال : فما بال طريقتكم واحدة وكلمتكم مستقيمة ؟ قالوا : من أجل أننا لا نتكاذب، ولا نتخادع، ولا يغتاب بعضنا بعضًا. قال : أخبروني من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم ؟ قالوا : صلحت صدورنا فنزع منها الغل والحسد، قال : فما بالكم ليس فيكم فقير ولا مسكين ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا نقسم بيننا بالسوية. قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا : من قِبَل الذلة والتواضع، قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارًا ؟ قالوا : من قِبَل أنَّا لا نتعاطى إلا الحق ونحكم بالسوية.
قال : فما بالكم لا تضحكون ؟ قالوا : لا نغفُل عن الاستغفار. قال : فما بالكم لا تحزنون ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا وَطَّنَّا أنفسنا للبلاء. فقال : فما بالكم لا تصيبكم الآفاتُ كما تصيب الناس ؟ قالوا : لأنا لا نتوكل على غير الله، قال : هل وجدتم آباءكم هكذا ؟ قالوا : نعم، وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم، ويُواسون فقراءهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويُحسنون إلى من أساء إليهم، ويحلمون عمن جهل عليهم، ويَصلُون أرحامهم، ويُؤدون أمانتهم، ويحفظون وقت صلاتهم، ويُوفون بعهدهم، ويَصدُقون في مواعدهم، فأصلح الله تعالى بذلك أمرهم وحفظهم، ما كانوا أحياءًا، وكان حقًا علينا أن نخلفهم في تركتهم. فقال ذو القرنين : لو كنت مُقيمًا لأقمت فيكم، ولكن لم أُومر بالمقام. هـ. ذكره الثعلبي.
وقال في القوت : قوله تعالى، في صفة أعدائه المحجوبين :﴿ كانت أعينهم في غطاء عن ذكري ﴾ : دليل الخطاب في تدبر معناه أن أولياءه المستجيبين له سامعون منه مكاشفون بذكره، ناظرون إلى غيبه، قال تعالى في ضده :﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾ [ هُود : ٢٠ ]، وقال :﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ... ﴾ [ هُود : ٢٤ ] الآية. هـ.


١ أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٤/٤٥٠..
﴿ قال ما مكَّني ﴾ - بالفك وبالإدغام - أي : ما مكنني ﴿ فيه ربي ﴾، وجعلني في مكينًا قادرًا من الملك والمال وسائر الأسباب، ﴿ خيرٌ ﴾ من جُعْلِكم، فلا حاجة لي به، ﴿ فأَعينوني بقوة ﴾ الأبدان وعمل الأيدي، كصُنَّاع يحسنون البناء والعمل، وبآلاتٍ لا بد منها في البناء، ﴿ أجعل بينكم وبينهم رَدْمًا ﴾ أي : حاجزًا حصينًا، وبرزخًا مكينًا، وهو أكبر من السد وأوثق، يقال : ثوب مُردم ؛ إذا كان ذا رقاع فوق رقاع، وهذا إسعاف لهم فوق ما يرجون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : السياحة في أقطار الأرض مطلوبة عند الصوفية في بداية المريد، أقلها سبع سنين، وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه : أقلها أربع عشرة سنة. وفيها فوائد، منها : زيارة الإخوان، والمذاكرة معهم، وهي ركن في الطريق، ومنها : نفع عباد الله، إن كان أهلاً لتذكيرهم، ( فلأن يهدي الله به رجلاً واحدًا خير له مما طلعت عليه الشمس ). ومنها : تأسيس باطنه وتشحيذ معرفته، ففي كل يوم يلقى تجليًا جديدًا، وتلوينًا غريبًا، يحتاج معه إلى معرفة كبيرة وصبر جديد، فالمريد كالماء، إذا طال مُكثه في مكانه أنتن وتغيَّر، وإذا جرى عَذُبَ وصَفَى. ومنها : أنه قد يلقى في سياحته من يربَحُ منه، أو يزيد به إلى ربه.
رُوِيَ أن ذا القرنين بينما هو يسير في سياحته إذ رُفع إلى أمة صالحة، يهدون بالحق وبه يعدلون، يقسمون بالسوية، ويحكمون بالعدل، وقبورهم بأبواب بيوتهم، وليْسَتْ لبيوتهم أبواب، وليس عليهم أُمراء، وليس بينهم قضاة، ولا يختلفون ولا يتنازعون، ولا يقتتلون، ولا يضحكون ولا يحزنون، ولا تُصيبهم الآفات التي تُصيب الناس، أطول الناس أعمارًا، وليس فيهم مسكين ولا فظ ولا غليظ، فعجب منهم، وقال : خبِّروني بأمركم، فلم أر في مشارق الأرض ومغاربها مثلكم، فما بال قبوركم على أبواب بيوتكم ؟ قالوا : لئلا ننسى الموت ؛ ليمنعنا ذلك من طلب الدنيا، قال : فما بال بيوتكم لا أبواب لها ؟ قالوا : ليس فيها مُتهم، ولا فينا إلا أمين مؤتمن. قال : فما بالكم ليس فيكم حُكَّام ؟ قالوا : لا نختصم، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء ؟ قالوا : لا نتكاثر. قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا : لا نفتخر، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا : من أُلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا، قال : فما بال طريقتكم واحدة وكلمتكم مستقيمة ؟ قالوا : من أجل أننا لا نتكاذب، ولا نتخادع، ولا يغتاب بعضنا بعضًا. قال : أخبروني من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم ؟ قالوا : صلحت صدورنا فنزع منها الغل والحسد، قال : فما بالكم ليس فيكم فقير ولا مسكين ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا نقسم بيننا بالسوية. قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا : من قِبَل الذلة والتواضع، قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارًا ؟ قالوا : من قِبَل أنَّا لا نتعاطى إلا الحق ونحكم بالسوية.
قال : فما بالكم لا تضحكون ؟ قالوا : لا نغفُل عن الاستغفار. قال : فما بالكم لا تحزنون ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا وَطَّنَّا أنفسنا للبلاء. فقال : فما بالكم لا تصيبكم الآفاتُ كما تصيب الناس ؟ قالوا : لأنا لا نتوكل على غير الله، قال : هل وجدتم آباءكم هكذا ؟ قالوا : نعم، وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم، ويُواسون فقراءهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويُحسنون إلى من أساء إليهم، ويحلمون عمن جهل عليهم، ويَصلُون أرحامهم، ويُؤدون أمانتهم، ويحفظون وقت صلاتهم، ويُوفون بعهدهم، ويَصدُقون في مواعدهم، فأصلح الله تعالى بذلك أمرهم وحفظهم، ما كانوا أحياءًا، وكان حقًا علينا أن نخلفهم في تركتهم. فقال ذو القرنين : لو كنت مُقيمًا لأقمت فيكم، ولكن لم أُومر بالمقام. هـ. ذكره الثعلبي.
وقال في القوت : قوله تعالى، في صفة أعدائه المحجوبين :﴿ كانت أعينهم في غطاء عن ذكري ﴾ : دليل الخطاب في تدبر معناه أن أولياءه المستجيبين له سامعون منه مكاشفون بذكره، ناظرون إلى غيبه، قال تعالى في ضده :﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾ [ هُود : ٢٠ ]، وقال :﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ... ﴾ [ هُود : ٢٤ ] الآية. هـ.

﴿ آتُوني زُبَرَ الحديد ﴾ : جمع زبرة، وهي القطعة الكبيرة، وهذا لا ينافي رد خراجهم ؛ لأن المأمور الإيتاء بالثمن أو المناولة، كما ينبئ عنه قراءة :" ائتوني " ؛ بوصل الهمزة، أي : جيئوني بزبر الحديد، على حذف الباء، ولأن إيتاء الآلة من قبيل الإعانة بالقوة، دون الخراج على العمل.
قال القشيري : استعان بهم في الذي احتاج إليه منهم، ولم يأخذ منهم عُمالة ؛ لما رأى أن من الواجب عليه حق الحماية على حسب المُكنة. ه.
ولعل تخصيص الأمر بالإتيان بها دون سائر الآلات ؛ من الفحم والحَطب وغيرهما ؛ لأن الحاجة إليها أمسُّ ؛ لأنها الركن في السد، ووجودها أعز. قيل : حفر الأساس حتى بلغ الماء، وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب، والبنيان من زبر الحديد، وجعل بيْنهما الفحم والحطب، حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما، وكان بينهما مائة فرسخ، وذلك قوله تعالى :﴿ حتى إذا ساوى بين الصَّدَفَينِ ﴾، وقرئ بضمهما، أي : ما زال يبني شيئًا فشيئًا حتى إذا جعل ما بين ناصيتي الجبلين من البنيان مساويًا لهما في السُّمْك. قيل : كان ارتفاعه : مائتي ذراع، وعرضه : خمسون ذراعًا. وقرئ ﴿ سوَّى ﴾ ؛ بالتشديد، من التسوية.
فلما سوّى بين الجبلين بالبناء، ﴿ قال ﴾ للعَمَلة :﴿ انفخوا ﴾ النيران في الحديد المبني، ففعلوا ﴿ حتى إذا جعله ﴾ أي : المنفوخ فيه ﴿ نارًا ﴾ أي : كالنار في الحرارة والهيئة. وإسناد الجعل إلى ذي القرنين، مع أنه من فعل العملة ؛ للتنبيه على أنه العمدة في ذلك، وهم بمنزلة الآلة. ﴿ قال ﴾ للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة وغيرها :﴿ آتُوني أُفرغ عليه قِطْرًا ﴾ أي : آتوني نحاسًا مُذابًا أُفرغه عليه، وإسناد الإفراغ إلى نفسه، لِمَا تقدم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : السياحة في أقطار الأرض مطلوبة عند الصوفية في بداية المريد، أقلها سبع سنين، وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه : أقلها أربع عشرة سنة. وفيها فوائد، منها : زيارة الإخوان، والمذاكرة معهم، وهي ركن في الطريق، ومنها : نفع عباد الله، إن كان أهلاً لتذكيرهم، ( فلأن يهدي الله به رجلاً واحدًا خير له مما طلعت عليه الشمس ). ومنها : تأسيس باطنه وتشحيذ معرفته، ففي كل يوم يلقى تجليًا جديدًا، وتلوينًا غريبًا، يحتاج معه إلى معرفة كبيرة وصبر جديد، فالمريد كالماء، إذا طال مُكثه في مكانه أنتن وتغيَّر، وإذا جرى عَذُبَ وصَفَى. ومنها : أنه قد يلقى في سياحته من يربَحُ منه، أو يزيد به إلى ربه.
رُوِيَ أن ذا القرنين بينما هو يسير في سياحته إذ رُفع إلى أمة صالحة، يهدون بالحق وبه يعدلون، يقسمون بالسوية، ويحكمون بالعدل، وقبورهم بأبواب بيوتهم، وليْسَتْ لبيوتهم أبواب، وليس عليهم أُمراء، وليس بينهم قضاة، ولا يختلفون ولا يتنازعون، ولا يقتتلون، ولا يضحكون ولا يحزنون، ولا تُصيبهم الآفات التي تُصيب الناس، أطول الناس أعمارًا، وليس فيهم مسكين ولا فظ ولا غليظ، فعجب منهم، وقال : خبِّروني بأمركم، فلم أر في مشارق الأرض ومغاربها مثلكم، فما بال قبوركم على أبواب بيوتكم ؟ قالوا : لئلا ننسى الموت ؛ ليمنعنا ذلك من طلب الدنيا، قال : فما بال بيوتكم لا أبواب لها ؟ قالوا : ليس فيها مُتهم، ولا فينا إلا أمين مؤتمن. قال : فما بالكم ليس فيكم حُكَّام ؟ قالوا : لا نختصم، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء ؟ قالوا : لا نتكاثر. قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا : لا نفتخر، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا : من أُلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا، قال : فما بال طريقتكم واحدة وكلمتكم مستقيمة ؟ قالوا : من أجل أننا لا نتكاذب، ولا نتخادع، ولا يغتاب بعضنا بعضًا. قال : أخبروني من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم ؟ قالوا : صلحت صدورنا فنزع منها الغل والحسد، قال : فما بالكم ليس فيكم فقير ولا مسكين ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا نقسم بيننا بالسوية. قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا : من قِبَل الذلة والتواضع، قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارًا ؟ قالوا : من قِبَل أنَّا لا نتعاطى إلا الحق ونحكم بالسوية.
قال : فما بالكم لا تضحكون ؟ قالوا : لا نغفُل عن الاستغفار. قال : فما بالكم لا تحزنون ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا وَطَّنَّا أنفسنا للبلاء. فقال : فما بالكم لا تصيبكم الآفاتُ كما تصيب الناس ؟ قالوا : لأنا لا نتوكل على غير الله، قال : هل وجدتم آباءكم هكذا ؟ قالوا : نعم، وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم، ويُواسون فقراءهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويُحسنون إلى من أساء إليهم، ويحلمون عمن جهل عليهم، ويَصلُون أرحامهم، ويُؤدون أمانتهم، ويحفظون وقت صلاتهم، ويُوفون بعهدهم، ويَصدُقون في مواعدهم، فأصلح الله تعالى بذلك أمرهم وحفظهم، ما كانوا أحياءًا، وكان حقًا علينا أن نخلفهم في تركتهم. فقال ذو القرنين : لو كنت مُقيمًا لأقمت فيكم، ولكن لم أُومر بالمقام. هـ. ذكره الثعلبي.
وقال في القوت : قوله تعالى، في صفة أعدائه المحجوبين :﴿ كانت أعينهم في غطاء عن ذكري ﴾ : دليل الخطاب في تدبر معناه أن أولياءه المستجيبين له سامعون منه مكاشفون بذكره، ناظرون إلى غيبه، قال تعالى في ضده :﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾ [ هُود : ٢٠ ]، وقال :﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ... ﴾ [ هُود : ٢٤ ] الآية. هـ.

﴿ فما اسطاعوا ﴾ أي : استطاعوا ﴿ أن يَظْهَرُوه ﴾ أيْ : يعلوه بالصعود لارتفاعه، والفاء فصيحة، أي : ففعلوا ما أمرهم به من إيتاء القطر، فأفرغوه عليه، فاختلط والتصق بعضه ببعض، فصار جبلاً صلَدًا، فجاء يأجوج ومأجوج فقصدوا أن يعلوه أو ينتقبوه ﴿ فما اسطاعوا أن يَظْهَرُوه ﴾ ؛ لارتفاعه وملاسته، ﴿ وما استطاعوا له نَقْبًا ﴾ ؛ لصلابته، وهذه معجزة له ؛ لأن تلك الزُبَر الكبيرة إذا أثرت فيها حرارة النار لا يقدر أحد أن يجول حولها، فضلاً عن إفراغ القطر عليها، فكأنه تعالى صرف النار عن أبدان المباشرين للأعمال. والله على كل شيء قدير.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : السياحة في أقطار الأرض مطلوبة عند الصوفية في بداية المريد، أقلها سبع سنين، وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه : أقلها أربع عشرة سنة. وفيها فوائد، منها : زيارة الإخوان، والمذاكرة معهم، وهي ركن في الطريق، ومنها : نفع عباد الله، إن كان أهلاً لتذكيرهم، ( فلأن يهدي الله به رجلاً واحدًا خير له مما طلعت عليه الشمس ). ومنها : تأسيس باطنه وتشحيذ معرفته، ففي كل يوم يلقى تجليًا جديدًا، وتلوينًا غريبًا، يحتاج معه إلى معرفة كبيرة وصبر جديد، فالمريد كالماء، إذا طال مُكثه في مكانه أنتن وتغيَّر، وإذا جرى عَذُبَ وصَفَى. ومنها : أنه قد يلقى في سياحته من يربَحُ منه، أو يزيد به إلى ربه.
رُوِيَ أن ذا القرنين بينما هو يسير في سياحته إذ رُفع إلى أمة صالحة، يهدون بالحق وبه يعدلون، يقسمون بالسوية، ويحكمون بالعدل، وقبورهم بأبواب بيوتهم، وليْسَتْ لبيوتهم أبواب، وليس عليهم أُمراء، وليس بينهم قضاة، ولا يختلفون ولا يتنازعون، ولا يقتتلون، ولا يضحكون ولا يحزنون، ولا تُصيبهم الآفات التي تُصيب الناس، أطول الناس أعمارًا، وليس فيهم مسكين ولا فظ ولا غليظ، فعجب منهم، وقال : خبِّروني بأمركم، فلم أر في مشارق الأرض ومغاربها مثلكم، فما بال قبوركم على أبواب بيوتكم ؟ قالوا : لئلا ننسى الموت ؛ ليمنعنا ذلك من طلب الدنيا، قال : فما بال بيوتكم لا أبواب لها ؟ قالوا : ليس فيها مُتهم، ولا فينا إلا أمين مؤتمن. قال : فما بالكم ليس فيكم حُكَّام ؟ قالوا : لا نختصم، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء ؟ قالوا : لا نتكاثر. قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا : لا نفتخر، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا : من أُلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا، قال : فما بال طريقتكم واحدة وكلمتكم مستقيمة ؟ قالوا : من أجل أننا لا نتكاذب، ولا نتخادع، ولا يغتاب بعضنا بعضًا. قال : أخبروني من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم ؟ قالوا : صلحت صدورنا فنزع منها الغل والحسد، قال : فما بالكم ليس فيكم فقير ولا مسكين ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا نقسم بيننا بالسوية. قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا : من قِبَل الذلة والتواضع، قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارًا ؟ قالوا : من قِبَل أنَّا لا نتعاطى إلا الحق ونحكم بالسوية.
قال : فما بالكم لا تضحكون ؟ قالوا : لا نغفُل عن الاستغفار. قال : فما بالكم لا تحزنون ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا وَطَّنَّا أنفسنا للبلاء. فقال : فما بالكم لا تصيبكم الآفاتُ كما تصيب الناس ؟ قالوا : لأنا لا نتوكل على غير الله، قال : هل وجدتم آباءكم هكذا ؟ قالوا : نعم، وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم، ويُواسون فقراءهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويُحسنون إلى من أساء إليهم، ويحلمون عمن جهل عليهم، ويَصلُون أرحامهم، ويُؤدون أمانتهم، ويحفظون وقت صلاتهم، ويُوفون بعهدهم، ويَصدُقون في مواعدهم، فأصلح الله تعالى بذلك أمرهم وحفظهم، ما كانوا أحياءًا، وكان حقًا علينا أن نخلفهم في تركتهم. فقال ذو القرنين : لو كنت مُقيمًا لأقمت فيكم، ولكن لم أُومر بالمقام. هـ. ذكره الثعلبي.
وقال في القوت : قوله تعالى، في صفة أعدائه المحجوبين :﴿ كانت أعينهم في غطاء عن ذكري ﴾ : دليل الخطاب في تدبر معناه أن أولياءه المستجيبين له سامعون منه مكاشفون بذكره، ناظرون إلى غيبه، قال تعالى في ضده :﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾ [ هُود : ٢٠ ]، وقال :﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ... ﴾ [ هُود : ٢٤ ] الآية. هـ.

﴿ قال ﴾ ذو القرنين، لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم :﴿ هذا ﴾ أي : السد، أو تمكينه منه، ﴿ رحمةً ﴾ عظيمة ﴿ من ربي ﴾ على كافة العباد، لا سيما على مجاوريه، وفيه إيذان بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق، بل هو إحسان إلهي محض، وإن ظهر بمباشرتي. والتعرض لوصف الربوبية ؛ لتربية معنى الرحمة.
﴿ فإذا جاء وعدُ ربي ﴾ : وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج، أو بقيام الساعة ؛ بأن شارف قيامُها، ﴿ جعله ﴾ أي : السد المذكور، مع متانته ورصانته، ﴿ دكّاءَ ﴾ : مدكوكًا مبسوطًا مستويًا بالأرض، وفيه بيان عظمة قدرته تعالى، بعد بيان سعة رحمته، ﴿ وكان وعد ربي حقًا ﴾ : كائنًا لا محالة.
رُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إِنَّ يأجُوجَ ومأجُوجَ يَحْفِرُون السد، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ، قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمُ : ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرونه غَدًا، فيُعِيدُهُ اللهُ كأشَدّ مَا كَانَ، حَتَّى إِذَا بَلَغتْ مُدَّتُهُمْ، حَفَرُوا، حَتَّى إِذَا بَلَغتْ مُدَّتُهُمْ، حَفَرُوا، حَتَّى إِذَا كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ، قَالَ الذِي عَلَيْهم : ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدًا إِنْ شَاءَ الله، فَيَعُودُونَ إِلَيْه، وهُوَ على هَيْئَتِهِ كما تَرَكُوهُ، فَيَحْفِرُونَهُ فيخْرُجُونَ عَلَى النَّاس " ١. وسيأتي في الأنبياء تمام قصة خروجهم، إن شاء الله، وهذا آخر كلام ذي القرنين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : السياحة في أقطار الأرض مطلوبة عند الصوفية في بداية المريد، أقلها سبع سنين، وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه : أقلها أربع عشرة سنة. وفيها فوائد، منها : زيارة الإخوان، والمذاكرة معهم، وهي ركن في الطريق، ومنها : نفع عباد الله، إن كان أهلاً لتذكيرهم، ( فلأن يهدي الله به رجلاً واحدًا خير له مما طلعت عليه الشمس ). ومنها : تأسيس باطنه وتشحيذ معرفته، ففي كل يوم يلقى تجليًا جديدًا، وتلوينًا غريبًا، يحتاج معه إلى معرفة كبيرة وصبر جديد، فالمريد كالماء، إذا طال مُكثه في مكانه أنتن وتغيَّر، وإذا جرى عَذُبَ وصَفَى. ومنها : أنه قد يلقى في سياحته من يربَحُ منه، أو يزيد به إلى ربه.
رُوِيَ أن ذا القرنين بينما هو يسير في سياحته إذ رُفع إلى أمة صالحة، يهدون بالحق وبه يعدلون، يقسمون بالسوية، ويحكمون بالعدل، وقبورهم بأبواب بيوتهم، وليْسَتْ لبيوتهم أبواب، وليس عليهم أُمراء، وليس بينهم قضاة، ولا يختلفون ولا يتنازعون، ولا يقتتلون، ولا يضحكون ولا يحزنون، ولا تُصيبهم الآفات التي تُصيب الناس، أطول الناس أعمارًا، وليس فيهم مسكين ولا فظ ولا غليظ، فعجب منهم، وقال : خبِّروني بأمركم، فلم أر في مشارق الأرض ومغاربها مثلكم، فما بال قبوركم على أبواب بيوتكم ؟ قالوا : لئلا ننسى الموت ؛ ليمنعنا ذلك من طلب الدنيا، قال : فما بال بيوتكم لا أبواب لها ؟ قالوا : ليس فيها مُتهم، ولا فينا إلا أمين مؤتمن. قال : فما بالكم ليس فيكم حُكَّام ؟ قالوا : لا نختصم، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء ؟ قالوا : لا نتكاثر. قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا : لا نفتخر، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا : من أُلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا، قال : فما بال طريقتكم واحدة وكلمتكم مستقيمة ؟ قالوا : من أجل أننا لا نتكاذب، ولا نتخادع، ولا يغتاب بعضنا بعضًا. قال : أخبروني من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم ؟ قالوا : صلحت صدورنا فنزع منها الغل والحسد، قال : فما بالكم ليس فيكم فقير ولا مسكين ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا نقسم بيننا بالسوية. قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا : من قِبَل الذلة والتواضع، قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارًا ؟ قالوا : من قِبَل أنَّا لا نتعاطى إلا الحق ونحكم بالسوية.
قال : فما بالكم لا تضحكون ؟ قالوا : لا نغفُل عن الاستغفار. قال : فما بالكم لا تحزنون ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا وَطَّنَّا أنفسنا للبلاء. فقال : فما بالكم لا تصيبكم الآفاتُ كما تصيب الناس ؟ قالوا : لأنا لا نتوكل على غير الله، قال : هل وجدتم آباءكم هكذا ؟ قالوا : نعم، وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم، ويُواسون فقراءهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويُحسنون إلى من أساء إليهم، ويحلمون عمن جهل عليهم، ويَصلُون أرحامهم، ويُؤدون أمانتهم، ويحفظون وقت صلاتهم، ويُوفون بعهدهم، ويَصدُقون في مواعدهم، فأصلح الله تعالى بذلك أمرهم وحفظهم، ما كانوا أحياءًا، وكان حقًا علينا أن نخلفهم في تركتهم. فقال ذو القرنين : لو كنت مُقيمًا لأقمت فيكم، ولكن لم أُومر بالمقام. هـ. ذكره الثعلبي.
وقال في القوت : قوله تعالى، في صفة أعدائه المحجوبين :﴿ كانت أعينهم في غطاء عن ذكري ﴾ : دليل الخطاب في تدبر معناه أن أولياءه المستجيبين له سامعون منه مكاشفون بذكره، ناظرون إلى غيبه، قال تعالى في ضده :﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾ [ هُود : ٢٠ ]، وقال :﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ... ﴾ [ هُود : ٢٤ ] الآية. هـ.


١ أخرجه الترمذي في تفسير سورة ١٨، باب ٢، وأحمد في المسند ٢/٥١٠..
قال تعالى :﴿ وتركنا بعضهم يومئذ ﴾ : يوم مجيء الوعد، ويخرجون، ﴿ يموجُ في بعض ﴾ ؛ يزدحمون في البلاد، أو : يموج بعض الخلق في بعض، فيضطربون ويختلطون إنسهم وجنهم، حيارى من شدة الهول. رُوي أنهم يأتون البحر فيشربونه ويأكلون دوابه، ثم يأكلون الشجر وما ظفروا به، ممن لم يتحصن منهم من الناس، ولا يقدرون على دخول مكة والمدينة وبيت المقدس، ثم يبعث الله عليهم مرضًا في رقابهم، فيموتون مرة واحدة، فيرسل الله طيرًا فترميهم في البحر، ثم يرسل مطرًا تغسل الأرضَ منهم، ثم تُوضع فيها البركة، وهذا بعد خروج الدجال ونزول عيسى عليه السلام، ثم تنقرض الدنيا كما قال تعالى :
﴿ ونُفخ في الصُّور ﴾ ؛ لقيام الساعة، ﴿ فجمعناهم جمعًا ﴾، وسكت الحق تعالى عن النفخة الأولى ؛ اكتفاء بذكرها في موضع آخر، أي : جمعنا الخلائق بعدما تفرقت أوصالهم، وتمزقت أجسادهم، في صعيد واحد ؛ للحساب والجزاء، جمعًا عجيبًا لا يُكْتَنَهُ كُنْهُهُ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : السياحة في أقطار الأرض مطلوبة عند الصوفية في بداية المريد، أقلها سبع سنين، وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه : أقلها أربع عشرة سنة. وفيها فوائد، منها : زيارة الإخوان، والمذاكرة معهم، وهي ركن في الطريق، ومنها : نفع عباد الله، إن كان أهلاً لتذكيرهم، ( فلأن يهدي الله به رجلاً واحدًا خير له مما طلعت عليه الشمس ). ومنها : تأسيس باطنه وتشحيذ معرفته، ففي كل يوم يلقى تجليًا جديدًا، وتلوينًا غريبًا، يحتاج معه إلى معرفة كبيرة وصبر جديد، فالمريد كالماء، إذا طال مُكثه في مكانه أنتن وتغيَّر، وإذا جرى عَذُبَ وصَفَى. ومنها : أنه قد يلقى في سياحته من يربَحُ منه، أو يزيد به إلى ربه.
رُوِيَ أن ذا القرنين بينما هو يسير في سياحته إذ رُفع إلى أمة صالحة، يهدون بالحق وبه يعدلون، يقسمون بالسوية، ويحكمون بالعدل، وقبورهم بأبواب بيوتهم، وليْسَتْ لبيوتهم أبواب، وليس عليهم أُمراء، وليس بينهم قضاة، ولا يختلفون ولا يتنازعون، ولا يقتتلون، ولا يضحكون ولا يحزنون، ولا تُصيبهم الآفات التي تُصيب الناس، أطول الناس أعمارًا، وليس فيهم مسكين ولا فظ ولا غليظ، فعجب منهم، وقال : خبِّروني بأمركم، فلم أر في مشارق الأرض ومغاربها مثلكم، فما بال قبوركم على أبواب بيوتكم ؟ قالوا : لئلا ننسى الموت ؛ ليمنعنا ذلك من طلب الدنيا، قال : فما بال بيوتكم لا أبواب لها ؟ قالوا : ليس فيها مُتهم، ولا فينا إلا أمين مؤتمن. قال : فما بالكم ليس فيكم حُكَّام ؟ قالوا : لا نختصم، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء ؟ قالوا : لا نتكاثر. قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا : لا نفتخر، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا : من أُلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا، قال : فما بال طريقتكم واحدة وكلمتكم مستقيمة ؟ قالوا : من أجل أننا لا نتكاذب، ولا نتخادع، ولا يغتاب بعضنا بعضًا. قال : أخبروني من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم ؟ قالوا : صلحت صدورنا فنزع منها الغل والحسد، قال : فما بالكم ليس فيكم فقير ولا مسكين ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا نقسم بيننا بالسوية. قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا : من قِبَل الذلة والتواضع، قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارًا ؟ قالوا : من قِبَل أنَّا لا نتعاطى إلا الحق ونحكم بالسوية.
قال : فما بالكم لا تضحكون ؟ قالوا : لا نغفُل عن الاستغفار. قال : فما بالكم لا تحزنون ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا وَطَّنَّا أنفسنا للبلاء. فقال : فما بالكم لا تصيبكم الآفاتُ كما تصيب الناس ؟ قالوا : لأنا لا نتوكل على غير الله، قال : هل وجدتم آباءكم هكذا ؟ قالوا : نعم، وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم، ويُواسون فقراءهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويُحسنون إلى من أساء إليهم، ويحلمون عمن جهل عليهم، ويَصلُون أرحامهم، ويُؤدون أمانتهم، ويحفظون وقت صلاتهم، ويُوفون بعهدهم، ويَصدُقون في مواعدهم، فأصلح الله تعالى بذلك أمرهم وحفظهم، ما كانوا أحياءًا، وكان حقًا علينا أن نخلفهم في تركتهم. فقال ذو القرنين : لو كنت مُقيمًا لأقمت فيكم، ولكن لم أُومر بالمقام. هـ. ذكره الثعلبي.
وقال في القوت : قوله تعالى، في صفة أعدائه المحجوبين :﴿ كانت أعينهم في غطاء عن ذكري ﴾ : دليل الخطاب في تدبر معناه أن أولياءه المستجيبين له سامعون منه مكاشفون بذكره، ناظرون إلى غيبه، قال تعالى في ضده :﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾ [ هُود : ٢٠ ]، وقال :﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ... ﴾ [ هُود : ٢٤ ] الآية. هـ.

﴿ وعرَضْنَا جهنم ﴾ ؛ أظهرناها وأبرزناها ﴿ يومئذ ﴾ أي : يوم إذ جمعنا الخلائق كافة، ﴿ للكافرين ﴾ منهم، بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظًا وزفيرًا، ﴿ عَرضًا ﴾ فظيعًا هائلاً لا يقدر قدره، وخص العَرض بهم، وإن كان بمرْأى من أهل الموقف قاطبة ؛ لأن ذلك لأجلهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : السياحة في أقطار الأرض مطلوبة عند الصوفية في بداية المريد، أقلها سبع سنين، وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه : أقلها أربع عشرة سنة. وفيها فوائد، منها : زيارة الإخوان، والمذاكرة معهم، وهي ركن في الطريق، ومنها : نفع عباد الله، إن كان أهلاً لتذكيرهم، ( فلأن يهدي الله به رجلاً واحدًا خير له مما طلعت عليه الشمس ). ومنها : تأسيس باطنه وتشحيذ معرفته، ففي كل يوم يلقى تجليًا جديدًا، وتلوينًا غريبًا، يحتاج معه إلى معرفة كبيرة وصبر جديد، فالمريد كالماء، إذا طال مُكثه في مكانه أنتن وتغيَّر، وإذا جرى عَذُبَ وصَفَى. ومنها : أنه قد يلقى في سياحته من يربَحُ منه، أو يزيد به إلى ربه.
رُوِيَ أن ذا القرنين بينما هو يسير في سياحته إذ رُفع إلى أمة صالحة، يهدون بالحق وبه يعدلون، يقسمون بالسوية، ويحكمون بالعدل، وقبورهم بأبواب بيوتهم، وليْسَتْ لبيوتهم أبواب، وليس عليهم أُمراء، وليس بينهم قضاة، ولا يختلفون ولا يتنازعون، ولا يقتتلون، ولا يضحكون ولا يحزنون، ولا تُصيبهم الآفات التي تُصيب الناس، أطول الناس أعمارًا، وليس فيهم مسكين ولا فظ ولا غليظ، فعجب منهم، وقال : خبِّروني بأمركم، فلم أر في مشارق الأرض ومغاربها مثلكم، فما بال قبوركم على أبواب بيوتكم ؟ قالوا : لئلا ننسى الموت ؛ ليمنعنا ذلك من طلب الدنيا، قال : فما بال بيوتكم لا أبواب لها ؟ قالوا : ليس فيها مُتهم، ولا فينا إلا أمين مؤتمن. قال : فما بالكم ليس فيكم حُكَّام ؟ قالوا : لا نختصم، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء ؟ قالوا : لا نتكاثر. قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا : لا نفتخر، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا : من أُلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا، قال : فما بال طريقتكم واحدة وكلمتكم مستقيمة ؟ قالوا : من أجل أننا لا نتكاذب، ولا نتخادع، ولا يغتاب بعضنا بعضًا. قال : أخبروني من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم ؟ قالوا : صلحت صدورنا فنزع منها الغل والحسد، قال : فما بالكم ليس فيكم فقير ولا مسكين ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا نقسم بيننا بالسوية. قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا : من قِبَل الذلة والتواضع، قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارًا ؟ قالوا : من قِبَل أنَّا لا نتعاطى إلا الحق ونحكم بالسوية.
قال : فما بالكم لا تضحكون ؟ قالوا : لا نغفُل عن الاستغفار. قال : فما بالكم لا تحزنون ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا وَطَّنَّا أنفسنا للبلاء. فقال : فما بالكم لا تصيبكم الآفاتُ كما تصيب الناس ؟ قالوا : لأنا لا نتوكل على غير الله، قال : هل وجدتم آباءكم هكذا ؟ قالوا : نعم، وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم، ويُواسون فقراءهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويُحسنون إلى من أساء إليهم، ويحلمون عمن جهل عليهم، ويَصلُون أرحامهم، ويُؤدون أمانتهم، ويحفظون وقت صلاتهم، ويُوفون بعهدهم، ويَصدُقون في مواعدهم، فأصلح الله تعالى بذلك أمرهم وحفظهم، ما كانوا أحياءًا، وكان حقًا علينا أن نخلفهم في تركتهم. فقال ذو القرنين : لو كنت مُقيمًا لأقمت فيكم، ولكن لم أُومر بالمقام. هـ. ذكره الثعلبي.
وقال في القوت : قوله تعالى، في صفة أعدائه المحجوبين :﴿ كانت أعينهم في غطاء عن ذكري ﴾ : دليل الخطاب في تدبر معناه أن أولياءه المستجيبين له سامعون منه مكاشفون بذكره، ناظرون إلى غيبه، قال تعالى في ضده :﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾ [ هُود : ٢٠ ]، وقال :﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ... ﴾ [ هُود : ٢٤ ] الآية. هـ.

ثم ذكر وصفهم بقوله :﴿ الذين كانت أعينهم ﴾ وهم في الدنيا ﴿ في غطاءٍ ﴾ كثيف وغشاوة غليظة ﴿ عن ذكري ﴾ : عن سماع القرآن وتدبره، أو : عن ذكري بالتوحيد والتمجيد، أو كانت أعين بصائرهم في غطاء عن ذكري على وجه يليق بشأني، ﴿ وكانوا لا يستطيعون سمعًا ﴾ أي : وكانوا مع ذلك ؛ لفرط تصامُمِهم عن الحق وكمال عداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم، لا يستطيعون استماعًا منه لذكري وكلامي، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذا تمثيل لإعراضهم عن الأدلة السمعية، كما أن الأول تصوير لتعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : السياحة في أقطار الأرض مطلوبة عند الصوفية في بداية المريد، أقلها سبع سنين، وقال شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه : أقلها أربع عشرة سنة. وفيها فوائد، منها : زيارة الإخوان، والمذاكرة معهم، وهي ركن في الطريق، ومنها : نفع عباد الله، إن كان أهلاً لتذكيرهم، ( فلأن يهدي الله به رجلاً واحدًا خير له مما طلعت عليه الشمس ). ومنها : تأسيس باطنه وتشحيذ معرفته، ففي كل يوم يلقى تجليًا جديدًا، وتلوينًا غريبًا، يحتاج معه إلى معرفة كبيرة وصبر جديد، فالمريد كالماء، إذا طال مُكثه في مكانه أنتن وتغيَّر، وإذا جرى عَذُبَ وصَفَى. ومنها : أنه قد يلقى في سياحته من يربَحُ منه، أو يزيد به إلى ربه.
رُوِيَ أن ذا القرنين بينما هو يسير في سياحته إذ رُفع إلى أمة صالحة، يهدون بالحق وبه يعدلون، يقسمون بالسوية، ويحكمون بالعدل، وقبورهم بأبواب بيوتهم، وليْسَتْ لبيوتهم أبواب، وليس عليهم أُمراء، وليس بينهم قضاة، ولا يختلفون ولا يتنازعون، ولا يقتتلون، ولا يضحكون ولا يحزنون، ولا تُصيبهم الآفات التي تُصيب الناس، أطول الناس أعمارًا، وليس فيهم مسكين ولا فظ ولا غليظ، فعجب منهم، وقال : خبِّروني بأمركم، فلم أر في مشارق الأرض ومغاربها مثلكم، فما بال قبوركم على أبواب بيوتكم ؟ قالوا : لئلا ننسى الموت ؛ ليمنعنا ذلك من طلب الدنيا، قال : فما بال بيوتكم لا أبواب لها ؟ قالوا : ليس فيها مُتهم، ولا فينا إلا أمين مؤتمن. قال : فما بالكم ليس فيكم حُكَّام ؟ قالوا : لا نختصم، قال : فما بالكم ليس فيكم أغنياء ؟ قالوا : لا نتكاثر. قال : فما بالكم ليس فيكم ملوك ؟ قالوا : لا نفتخر، قال : فما بالكم لا تتنازعون ولا تختلفون ؟ قالوا : من أُلفة قلوبنا وصلاح ذات بيننا، قال : فما بال طريقتكم واحدة وكلمتكم مستقيمة ؟ قالوا : من أجل أننا لا نتكاذب، ولا نتخادع، ولا يغتاب بعضنا بعضًا. قال : أخبروني من أين تشابهت قلوبكم واعتدلت سيرتكم ؟ قالوا : صلحت صدورنا فنزع منها الغل والحسد، قال : فما بالكم ليس فيكم فقير ولا مسكين ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا نقسم بيننا بالسوية. قال : فما بالكم ليس فيكم فظ ولا غليظ ؟ قالوا : من قِبَل الذلة والتواضع، قال : فما جعلكم أطول الناس أعمارًا ؟ قالوا : من قِبَل أنَّا لا نتعاطى إلا الحق ونحكم بالسوية.
قال : فما بالكم لا تضحكون ؟ قالوا : لا نغفُل عن الاستغفار. قال : فما بالكم لا تحزنون ؟ قالوا : من قِبَل أَنَّا وَطَّنَّا أنفسنا للبلاء. فقال : فما بالكم لا تصيبكم الآفاتُ كما تصيب الناس ؟ قالوا : لأنا لا نتوكل على غير الله، قال : هل وجدتم آباءكم هكذا ؟ قالوا : نعم، وجدنا آباءنا يرحمون مساكينهم، ويُواسون فقراءهم، ويعفون عمن ظلمهم، ويُحسنون إلى من أساء إليهم، ويحلمون عمن جهل عليهم، ويَصلُون أرحامهم، ويُؤدون أمانتهم، ويحفظون وقت صلاتهم، ويُوفون بعهدهم، ويَصدُقون في مواعدهم، فأصلح الله تعالى بذلك أمرهم وحفظهم، ما كانوا أحياءًا، وكان حقًا علينا أن نخلفهم في تركتهم. فقال ذو القرنين : لو كنت مُقيمًا لأقمت فيكم، ولكن لم أُومر بالمقام. هـ. ذكره الثعلبي.
وقال في القوت : قوله تعالى، في صفة أعدائه المحجوبين :﴿ كانت أعينهم في غطاء عن ذكري ﴾ : دليل الخطاب في تدبر معناه أن أولياءه المستجيبين له سامعون منه مكاشفون بذكره، ناظرون إلى غيبه، قال تعالى في ضده :﴿ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ﴾ [ هُود : ٢٠ ]، وقال :﴿ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ... ﴾ [ هُود : ٢٤ ] الآية. هـ.

وسبب غطاء القلوب عن الاستماع والاستبصار هو اتباع الهوى ومحبة غير المولى، فلذلك أنكره الحق تعالى على الكفار بقوله :
﴿ أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيا أَوْلِيَآءَ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً ﴾
قلت :﴿ أن يتخذوا ﴾ : سد مسد المفعولين، أو حذف الثاني، أي : أَحَسِبُوا اتخاذهم نافعَهم و﴿ نزلاً ﴾ : حال من جهنم.
يقول الحقّ جلّ جلاله : منكرًا على الكفار المتقدمين :﴿ أفَحَسِبَ الذين كفروا ﴾ حين أعرضوا عن ذكري، وكانت أعينهم في غطاء عن رؤية دلائل توحيدي، ﴿ أن يتخذوا عبادي ﴾ كالملائكة والمسيح وعزير، أو الشياطين ؛ لأنهم عباد، ﴿ من دُونِي أولياءَ ﴾ أي : معبودين من دوني، يُوالونهِم بالعبادة، أن ذلك ينفعهم، أو : ألا نعذبهم على ذلك، بل نعذبهم على ذلك، ﴿ إِنا أَعتدنا ﴾ ؛ يَسَّرنا وهيأنا ﴿ جهنمَ للكافرين نُزُلاً ﴾ أي : شيئًا يتمتعون به أول ورودهم القيامة. والنزُل : ما يقدم للنزيل أي : الضيف، وعدل عن الإضمار ؛ ذمًا لهم على كفرهم، وإشعارًا بأن ذلك الإعتاد بسبب كفرهم، وعبَّر بالإعْتادِ ؛ تهكمًا بهم، وتخطئة لهم، حيث كان اتخاذهم أولياء من قبيل العتاد، وإعداد الزاد ليوم المعاد، فكأنه قيل : إنا أعتدنا لهم، مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدة والذُّخْرِ، جهنم ؛ عدة لهم. وفي ذكر النُزل : إيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هو أنموذج له، وتستحقر دونه، وقيل : النزل : موضع النزول، أي : أعتدناها لهم منزلاً يقيمون فيه. والله تعالى أعلم.
الإشارة : ما أحببتَ شيئًا إلا وكنتَ له عبدًا، وهو لا يُحب أن تكون لغيره عبدًا، فأَفْرد قلبك لله، وأَخْرِج منه كلَّ ما سواه، فحينئذ تكونُ عبدًا لله، حرًا مما سواه، فكل ما سوى الله باطلٌ، وظل آفل، فكن إبراهيميًا، حيث قال :﴿ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ﴾ [ الأنعَام : ٧٦ ]، فارفع أيها العبد همتك عن الخلق، وعلقها بالملك الحق، فلا تُحب إلا الله، ولا تطلب شيئًا سواه، كائنًا ما كان، من جنس الأشخاص، أو من جنس الأحوال أو المقامات أو الكرامات ؛ لئلا تنخرط في سلك من اتخذ من دون الله أولياء، فتكون كاذبًا في العبودية.
رُوِيَ عن الشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه أنه قال : قرأتُ الفاتحة، فقلت : الحمد لله رب العالمين. فقال لي الهاتف مِنْ قِبَل الله تعالى : صدقت، فقلت : الرحمان الرحيم، فقال : صدقت. فقلت : مالك يوم الدين، فقال : صدقت. فلما قلتُ : إياك نعبد، قال كذبتَ ؛ لأنك تعبد الكرامات، قال : ثم أدبني، وتبت لله تعالى. ذكره ابن الصباغ مُطولاً. قلت : ولعله قبل ملاقاة الشيخ، ولذلك عاتبه بقوله : يا أبا الحسن عِوَضُ ما تقول :" سَخِّر لي خلقك "، قل : يا رب كن لي، أرأيت إن كان لك أيفوتك شيء ؟ نفعنا الله بجميعهم.
وهذا الغلط يقع للمتوجهين ولغيرهم، يظنون أنهم يحسنون صنعا، وهم يسيئون، كما قال تعالى :
﴿ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا * أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا * ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا واتخذوا آياتي ورسلي هزوا * ﴾
قلت :﴿ أعمالاً ﴾ : تمييز.
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ قل ﴾ يا محمد :﴿ هل نُنبئُكم ﴾ يا معشر الكفرة ﴿ بالأخسرين أعمالاً ﴾ أي : بالذين خسروا من جهة أعمالهم ؛ كصدقةٍ، وعتق، وصلة رحم، وإغاثة ملهوف، حيث عملوها في حال كفرهم فلم تُقبل منهم، وهم :﴿ الذين ضلَّ سعيُهُم ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل آية في الكفار تجر ذيلها على الغافلين، فكل من قنع بدون عبادة فكرة الشهود والعيان، ينسحب عليه من طريق الباطن أنه ضل سعيه، وهو يحسب أنه يُحسن صُنعًا، فلا يقام له يوم القيامة وزن رفيع، فتنسحب الآية على طوائف، منها : منْ عَبَدَ اللهَ لطلب المنزلة عند الناس، وهذا عين الرياء ؛ رُوي عن عثمان أنه قال على المنبر :( الرياء سبعون بابًا، أهونها مثل نكاح الرجل أمه ).
ومنها : من عَبَدَ الله لطلب العوض والجزاء عند الخواصِّ، ومنها : من عبد الله لطلب الكرامات وظهور الآيات، ومنها : من عبد الله بالجوارح الظاهرة، وحجب عن الجوارح الباطنة، وهي عبادة القلوب، فإن الذرة منها تعدل أمثال الجبال من عبادة الجوارح، ومنها : من وقف مع الاشتغال بعلم الرسوم، وغفل عن علم القلوب، وهو بطالة وغفلة عند المحققين، ومنها من قنع بعبادة القلوب، كالتفكر والاعتبار، وغفل عن عبادة الأسرار، كفكرة الشهود والاستبصار، والحاصل : أن كل من وقف دون الشهود والعيان فهو بطّال، وإنْ كان لا يشعر، وإنما ينكشف له هذا الأمر عند الموت وبعده، وسيأتي عند قوله تعالى :﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ﴾ [ الزُّمَر : ٤٧ ]، زيادة بيان على هذا إن شاء الله. فقد يكون الشيء عبادة عند قوم وبطالة عند آخرين ؛ حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولا يفهم هذا إلا من ترقى عن عبادة الجوارح إلى عبادة القلوب والأسرار. وبالله التوفيق.

و﴿ في الحياة ﴾ : متعلق بسعيهم.
﴿ الذين ضلَّ سعيُهُم ﴾ أي : بطل بالكلية ﴿ في الحياة الدنيا ﴾ أي : بطل ما سَعْوا فيه في الحياة الدنيا وعملوه، ﴿ وهم يَحسبون ﴾ : يظنون ﴿ أنهم يُحسنُون صُنعًا ﴾ أي : يأتون بها على الوجه الأكمل، وقد تركوا شرط صحتها وكمالها، وهو الإيمان، واختلف في المراد بهم، فقيل : مشركو العرب، وقيل : أهل الكتابين، ويدخل في الأعمال ما عملوه في الأحكام المنسوخة المتعلقة بالعبادات. وقيل : الرهبان الذين يحبسون أنفسهم في الصوامع ويحْملونَها على الرياضات الشاقة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل آية في الكفار تجر ذيلها على الغافلين، فكل من قنع بدون عبادة فكرة الشهود والعيان، ينسحب عليه من طريق الباطن أنه ضل سعيه، وهو يحسب أنه يُحسن صُنعًا، فلا يقام له يوم القيامة وزن رفيع، فتنسحب الآية على طوائف، منها : منْ عَبَدَ اللهَ لطلب المنزلة عند الناس، وهذا عين الرياء ؛ رُوي عن عثمان أنه قال على المنبر :( الرياء سبعون بابًا، أهونها مثل نكاح الرجل أمه ).
ومنها : من عَبَدَ الله لطلب العوض والجزاء عند الخواصِّ، ومنها : من عبد الله لطلب الكرامات وظهور الآيات، ومنها : من عبد الله بالجوارح الظاهرة، وحجب عن الجوارح الباطنة، وهي عبادة القلوب، فإن الذرة منها تعدل أمثال الجبال من عبادة الجوارح، ومنها : من وقف مع الاشتغال بعلم الرسوم، وغفل عن علم القلوب، وهو بطالة وغفلة عند المحققين، ومنها من قنع بعبادة القلوب، كالتفكر والاعتبار، وغفل عن عبادة الأسرار، كفكرة الشهود والاستبصار، والحاصل : أن كل من وقف دون الشهود والعيان فهو بطّال، وإنْ كان لا يشعر، وإنما ينكشف له هذا الأمر عند الموت وبعده، وسيأتي عند قوله تعالى :﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ﴾ [ الزُّمَر : ٤٧ ]، زيادة بيان على هذا إن شاء الله. فقد يكون الشيء عبادة عند قوم وبطالة عند آخرين ؛ حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولا يفهم هذا إلا من ترقى عن عبادة الجوارح إلى عبادة القلوب والأسرار. وبالله التوفيق.

والمختار : العموم في كل من عمل عملاً فاسدًا، يظن أنه صحيح من الكفرة، بدليل قوله :﴿ أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ﴾ : بدلائل التوحيد، عقلاً ونقلاً، ﴿ ولقائه ﴾ : البعث وما يتبعه من أمور الآخرة، ﴿ فحَبِطَتْ ﴾ لذلك ﴿ أعمالُهم ﴾ المعهودة حبوطًا كليًا، ﴿ فلا نُقيم لهم ﴾ أي : لأولئك الموصوفين بحبوط الأعمال، ﴿ يومَ القيامة وزنًا ﴾ أي : فنُهينُهم، ولا نجعل لهم مقدارًا واعتبارًا ؛ لأن مدار التكريم : الأعمالُ الصالحة، وقد حبطت بالمرة ؛ قال صلى الله عليه وسلم :" يُؤتى بالرَّجُل السَّمِين العَظِيم يَوْمَ القِيَامَةِ، فلاَ يَزنُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ " ؛ اقْرَأوا إن شِئْتُمْ :﴿ فلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَزْنًا ﴾١. أو : لا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانًا ؛ لأن الكفر أحبطها. أو : لا نقيم لهم وزنًا نافعًا. قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : يأتي أناسٌ بأعمالهم يوم القيامة، هي عندهم في العِظَم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لا تزن شيئًا، فذلك قوله :﴿ فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنًا ﴾.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل آية في الكفار تجر ذيلها على الغافلين، فكل من قنع بدون عبادة فكرة الشهود والعيان، ينسحب عليه من طريق الباطن أنه ضل سعيه، وهو يحسب أنه يُحسن صُنعًا، فلا يقام له يوم القيامة وزن رفيع، فتنسحب الآية على طوائف، منها : منْ عَبَدَ اللهَ لطلب المنزلة عند الناس، وهذا عين الرياء ؛ رُوي عن عثمان أنه قال على المنبر :( الرياء سبعون بابًا، أهونها مثل نكاح الرجل أمه ).
ومنها : من عَبَدَ الله لطلب العوض والجزاء عند الخواصِّ، ومنها : من عبد الله لطلب الكرامات وظهور الآيات، ومنها : من عبد الله بالجوارح الظاهرة، وحجب عن الجوارح الباطنة، وهي عبادة القلوب، فإن الذرة منها تعدل أمثال الجبال من عبادة الجوارح، ومنها : من وقف مع الاشتغال بعلم الرسوم، وغفل عن علم القلوب، وهو بطالة وغفلة عند المحققين، ومنها من قنع بعبادة القلوب، كالتفكر والاعتبار، وغفل عن عبادة الأسرار، كفكرة الشهود والاستبصار، والحاصل : أن كل من وقف دون الشهود والعيان فهو بطّال، وإنْ كان لا يشعر، وإنما ينكشف له هذا الأمر عند الموت وبعده، وسيأتي عند قوله تعالى :﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ﴾ [ الزُّمَر : ٤٧ ]، زيادة بيان على هذا إن شاء الله. فقد يكون الشيء عبادة عند قوم وبطالة عند آخرين ؛ حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولا يفهم هذا إلا من ترقى عن عبادة الجوارح إلى عبادة القلوب والأسرار. وبالله التوفيق.


١ أخرجه البخاري في تفسير سورة ١٨، باب ٦، ومسلم في المنافقين حديث ١٨..
ثم بيَّن مآل كفرهم بعد أن بيَّن مآل أعمالهم، فقال :﴿ ذلك ﴾ الصنف الذين حبطت أعمالهم ﴿ جزاؤُهم جهنمُ ﴾، أو الأمر ذلك، ثم استأنف بقوله :﴿ جزاؤُهم جهنمُ بما كفروا ﴾ أي : بسبب كفرهم المتضمن لسائر القبائح، التي من جملتها ما تضمنه قوله :﴿ واتَّخذُوا آياتي ﴾ الدالة على توحيدي أو كلامي، أو معجزاتي، ﴿ ورسلي هُزُوًا ﴾ أي : مهزوًا بهم، فلم يقتنعوا بمجرد الكفر، بل ارتكبوا ما هو أعظم، وهو الاستهزاء بالآيات والرسل. عائذًا بالله من ذلك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : كل آية في الكفار تجر ذيلها على الغافلين، فكل من قنع بدون عبادة فكرة الشهود والعيان، ينسحب عليه من طريق الباطن أنه ضل سعيه، وهو يحسب أنه يُحسن صُنعًا، فلا يقام له يوم القيامة وزن رفيع، فتنسحب الآية على طوائف، منها : منْ عَبَدَ اللهَ لطلب المنزلة عند الناس، وهذا عين الرياء ؛ رُوي عن عثمان أنه قال على المنبر :( الرياء سبعون بابًا، أهونها مثل نكاح الرجل أمه ).
ومنها : من عَبَدَ الله لطلب العوض والجزاء عند الخواصِّ، ومنها : من عبد الله لطلب الكرامات وظهور الآيات، ومنها : من عبد الله بالجوارح الظاهرة، وحجب عن الجوارح الباطنة، وهي عبادة القلوب، فإن الذرة منها تعدل أمثال الجبال من عبادة الجوارح، ومنها : من وقف مع الاشتغال بعلم الرسوم، وغفل عن علم القلوب، وهو بطالة وغفلة عند المحققين، ومنها من قنع بعبادة القلوب، كالتفكر والاعتبار، وغفل عن عبادة الأسرار، كفكرة الشهود والاستبصار، والحاصل : أن كل من وقف دون الشهود والعيان فهو بطّال، وإنْ كان لا يشعر، وإنما ينكشف له هذا الأمر عند الموت وبعده، وسيأتي عند قوله تعالى :﴿ وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ ﴾ [ الزُّمَر : ٤٧ ]، زيادة بيان على هذا إن شاء الله. فقد يكون الشيء عبادة عند قوم وبطالة عند آخرين ؛ حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولا يفهم هذا إلا من ترقى عن عبادة الجوارح إلى عبادة القلوب والأسرار. وبالله التوفيق.

ثم ذكر ضد من تقدم من الكفرة، فقال :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً ﴾ * ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ﴾ * ﴿ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ﴾ * ﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً ﴾
يقول الحقّ جلّ جلاله :﴿ إِن الذين آمنوا ﴾ بآيات ربهم ولقائه، ﴿ وعملوا ﴾ الأعمال ﴿ الصالحات كانت لهم ﴾ ؛ فيما سبق من حكم الله تعالى ووعده، ﴿ جنَّاتُ الفردوسِ ﴾، وهي أعلى الجنان. وعن كعب : أنه ليس في الجنة أعلى من جنة الفردوس، وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، أي : أهل الوعظ والتذكير من العارفين. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :" في الجَنَِّ مِائَةُ دَرَجَةٍ، ما بَيْنَ كُل دَرَجتين كما بَيْنَ السَّمَاءِ والأرْض، أَعلاها الفِرْدَوس، ومِنْها تَفَجَّرُ أنْهَارُ الجنَّةِ، فَوْقَها عَرْشُ الرحمان، فإذَا سَأَلْتُمُ اللهُ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ " ١
وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم :" جنان الفردوس أربع : جنتان من فِضَّةٍ، أبنيتهما وآنيتُهُما، وجنَّتان من ذهب، أبنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظُرُوا إلى ربهمْ إلا رِدَاءُ الكبْرياءِ على وَجْهِه " ٢. وقال قتادة : الفردوس : ربوة الجنة. وقال أبو أمامة : هي سرة الجنة. وقال مجاهد : الفردوس : البستان بالرومية. وقال الضحاك : هي الجنة الملتفة الأشجار.
كانت لهم ﴿ نُزُلاً ﴾ أي : مقدمة لهم عند ورودهم عليه، على حذف مضاف، أي : كانت لهم ثمار جنة الفردوس نُزلاً، أو جعلنا نفس الجنة نُزلاً، مبالغةً في الإكرام، وفيه إيذان بأن ما أعدَّ الله لهم على ما نطق به الوحي على لسان النبوة بقوله :" أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر ". هو بمنزلة النُزُل بالنسبة إلى الضيافة وما بعدها، وإن جُعِلَ النُزل بمعنى المنزل ؛ فظاهر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إن الذين آمنوا إيمان الخصوص، وعملوا عمل الخصوص - وهو العمل الذي يقرب إلى الحضرة - كانت لهم جنة المعارف نُزلاً، خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً ؛ لأنَّ من تمكن من المعرفة لا يُعزل عنها، بفضل الله وكرمه، كما قال القائل :
مُذْ تَجَمَّعْتْ مَا خَشيتُ افْتِراقًا فأَنّا اليَوْمَ وَاصلٌ مَجْمُوعُ
ثم يترقون في معاريج التوحيد، وأسرار التفريد، أبدًا سرمدًا، لا نهاية ؛ لأن ترقيتهم بكلمة القدرة الأزلية، وهي كلمة التكوين، التي لا تنفد ؛ ﴿ قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي... ﴾ الآية. هذا مع كون وصف البشرية لا يزول عنهم، فلا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية. قل : إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليّ وحي إلهام، ويلقى في رُوعي أنما إلهكم إله واحد، لا ثاني له في ذاته ولا في أفعاله، فمن كان يرجو لقاء ربه في الدنيا لقاء الشهود والعيان، ولقاء الوصول إلى صريح العرفان ؛ فليعمل عملاً صالحًا، الذي لا حظ فيه للنفس ؛ عاجلاً ولا آجلاً، ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا، فلا يقصد بعبادته إلا تعظيم الربوبية، والقيام بوظائف العبودية، والله تعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.


١ أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٢..
٢ أخرجه البخاري في التوحيد باب ٢٤، وتفسير سورة ٥٥، ١، ٢، ومسلم في الإيمان حديث ٢٩٦..
﴿ خالدين فيها لا يَبْغُون عنها حِوَلاً ﴾ أي : لا يطلبون تحولاً عنها ؛ إذ لا يتصور أن يكون شيء أعز عندهم، وأرفع منها، حتى تنزع إليه أنفسهم، أو تطمح نحوه أبصارهم. ونعيمهم مجدد بتجدد أنفاسهم، لا نفادَ له ولا نهاية ؛ لأنه مكون بكلمة " كن "، وهي لا تتناهى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إن الذين آمنوا إيمان الخصوص، وعملوا عمل الخصوص - وهو العمل الذي يقرب إلى الحضرة - كانت لهم جنة المعارف نُزلاً، خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً ؛ لأنَّ من تمكن من المعرفة لا يُعزل عنها، بفضل الله وكرمه، كما قال القائل :
مُذْ تَجَمَّعْتْ مَا خَشيتُ افْتِراقًا فأَنّا اليَوْمَ وَاصلٌ مَجْمُوعُ
ثم يترقون في معاريج التوحيد، وأسرار التفريد، أبدًا سرمدًا، لا نهاية ؛ لأن ترقيتهم بكلمة القدرة الأزلية، وهي كلمة التكوين، التي لا تنفد ؛ ﴿ قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي... ﴾ الآية. هذا مع كون وصف البشرية لا يزول عنهم، فلا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية. قل : إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليّ وحي إلهام، ويلقى في رُوعي أنما إلهكم إله واحد، لا ثاني له في ذاته ولا في أفعاله، فمن كان يرجو لقاء ربه في الدنيا لقاء الشهود والعيان، ولقاء الوصول إلى صريح العرفان ؛ فليعمل عملاً صالحًا، الذي لا حظ فيه للنفس ؛ عاجلاً ولا آجلاً، ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا، فلا يقصد بعبادته إلا تعظيم الربوبية، والقيام بوظائف العبودية، والله تعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

قال تعالى :﴿ قل لو كان البحرُ ﴾ أي : جنس البحر ﴿ مِدَادًا ﴾، وهو ما تمد به الدواة من الحِبْر، ﴿ لِكلماتِ ربي ﴾ وهي ما يقوله سبحانه لأهل الجنة، من اللطف والإكرام، مما لا تكيفُه الأوهام، ولا تحيط به الأفكار، فلو كانت البحار مدادًا والأشجار أقلامًا لنفدت، ولم يبق منها شيء، ﴿ قبل أن تنفد كلماتُ ربّي ﴾ ؛ لأن البحار متناهية، وكلمات الله غير متناهية. ثم أكّده بقوله :﴿ ولو جئنا بمثله مدَدًا ﴾ أي : لنفد البحر من غير نفاد كلماته تعالى، هذا لو لم يجيء بمثله مددًا، بل ولو جئنا بمثله ﴿ مددًا ﴾ ؛ عونًا وزيادة ؛ لأن ما دخل عالم التكوين كله متناهٍ.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إن الذين آمنوا إيمان الخصوص، وعملوا عمل الخصوص - وهو العمل الذي يقرب إلى الحضرة - كانت لهم جنة المعارف نُزلاً، خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً ؛ لأنَّ من تمكن من المعرفة لا يُعزل عنها، بفضل الله وكرمه، كما قال القائل :
مُذْ تَجَمَّعْتْ مَا خَشيتُ افْتِراقًا فأَنّا اليَوْمَ وَاصلٌ مَجْمُوعُ
ثم يترقون في معاريج التوحيد، وأسرار التفريد، أبدًا سرمدًا، لا نهاية ؛ لأن ترقيتهم بكلمة القدرة الأزلية، وهي كلمة التكوين، التي لا تنفد ؛ ﴿ قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي... ﴾ الآية. هذا مع كون وصف البشرية لا يزول عنهم، فلا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية. قل : إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليّ وحي إلهام، ويلقى في رُوعي أنما إلهكم إله واحد، لا ثاني له في ذاته ولا في أفعاله، فمن كان يرجو لقاء ربه في الدنيا لقاء الشهود والعيان، ولقاء الوصول إلى صريح العرفان ؛ فليعمل عملاً صالحًا، الذي لا حظ فيه للنفس ؛ عاجلاً ولا آجلاً، ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا، فلا يقصد بعبادته إلا تعظيم الربوبية، والقيام بوظائف العبودية، والله تعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

﴿ قل ﴾ لهم :﴿ إِنما أنا بشرٌ مثلكم ﴾ يتناهى كلامي، وينقضي أجلي، وإنما خُصصت عنكم بالوحي والرسالة ؛ ﴿ يُوحى إِليَّ ﴾ من تلك الكلمات :﴿ أنما إِلهكم إِله واحد ﴾ لا شريك له في الخلق، ولا في سائر أحكام الألوهية، ﴿ فمن كان يرجو لقاء ربه ﴾ : يتوقعه وينتظره، أو يخافه، فالرجاء : توقع وصول الخير في المستقبل، فمن جعل الرجاء على بابه، فالمعنى : يرجو حسن لقاء ربه وأن يلقاه لقاء رضى وقبول.
ومن حمله على معنى الخوف، فالمعنى : يخاف سوء لقائه. قال القشيري : حَمْلُه على ظاهره أَوْلى ؛ لأن المؤمنين قاطبةً يرجون لقاءَ الله، فالعارفون بالله يرجون لقاءه والنظر إليه، والمؤمنون يرجون لقاءه وكرامته بالنعيم المقيم. ه. بالمعنى.
والتعبير بالمضارع في ﴿ يرجو ﴾ ؛ للدلالة على أن اللائق بحال المؤمنين : الاستمرار والاستدامة على رجاء اللقاء، أي : فمن استمر على رجاء لقاء كرامة الله ورضوانه ﴿ فليعملْ ﴾ ؛ لتحصيل تلك الطلبة العزيزة ﴿ عملاً صالحًا ﴾، وهو الذي توفرت شروط صحته وقبوله، ومدارها على الإتقان ؛ ظاهرًا، والإخلاص ؛ باطنًا. وقال سهل : العمل الصالح : المقيد بالسُنَّة، وقيل : هو اعتقاد جواز الرؤية وانتظار وقتها. ﴿ ولا يُشرك بعبادةِ ربه أحدًا ﴾ إشراكًا جليًا، كما فعل الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا ؛ حيث كفروا بآيات ربهم ولقائه، أو إشراكًا خفيًا، كما يفعله أهل الرياء، ومن يطلب به عوضًا أو ثناءً حسنًا.
قال شهر بنُ حَوشب : جاء رجل إلى عبادة بن الصامت، فقال : أرأيت رجلاً يُصلي يبتغي وجه الله، ويحب أن يُحمد عليه، ويتصدق يبتغي وجه الله ويُحب أن يُحمد عليه، ويحج كذلك ؟ قال عبادة : ليس له شيء، إن الله تعالى يقول :" أنا خيرُ شريك، فمن كان له شريك فهو له ". ورُوي أن جُنْدبَ بْنَ زُهَيْرٍ قَال لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم : إِنِّي لأعْمَلُ العَمَلَ للهِ تَعَالى، فإذا اطُّلِعَ عَلَيْهِ سرَّني، فقال له عليه الصلاة والسلام :" لَكَ أَجْرَان : أجْرُ السِّرِّ، وأَجْرُ العَلاَنِيَةِ " ١. وذلك إذا قصد أن يُقْتَدَى به، وكان مُخْلصًا في عمله. وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" اتقوا الشرك الأصغر، قالوا : وما الشرك الأصغر ؟ قال : الرياء " ٢.
وقال صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية - :" إن أخوف ما أخاف على أمتي الشرك الخفي، وإياكم وشرك السرائر، فإنَّ الشرك أخفى في أمتي من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء "، فشق ذلك على القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" ألا أدلكم على ما يذهب الله عنكم صغير الشرك وكبيره " ؟ قالوا : بلى، قال : قولوا :" اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك من كل ما لا أعلم ".
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مَنْ قَرَأ آخرَ سورة الكَهف - يعني :﴿ إن الذين آمنوا ﴾ إلى آخره - كَانَتْ لَهُ نُورًا من قَرْنِهِ إلى قَدَمِهِ، وَمَنْ قَرَأَهَا كُلَّها كانَتْ له نُورًا من الأرْضِ إلى السَّمَاءِ " ٣ وعنه صلى الله عليه وسلم :" مَنْ قَرَأَ عِنْدَ مَضْجِعِهِ :﴿ قل إنما أنا بشر مثلكم ﴾ الخ، كَانَ لَهُ مِنْ مَضْجَعِهِ نُورًا يَتَلألأ إلى مَكّةَ، حَشْوُ ذلِكَ النُّور مَلائِكَةٌ يُصَلُون حَتَّى يَقُومَ، وإنْ كَانَ بِمَكَةَ كانَ لَهُ نُورًا إلى البيتِ المَعْمُور ". قلت : ومما جُرِّب أن من قرأ هذه الآية، ﴿ إن الذين آمنوا ﴾ الخ، ونوى أن يقوم في أي ساعة شاء، فإن الله تعالى يُوقظه بقدرته. وانظر الثعلبي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:الإشارة : إن الذين آمنوا إيمان الخصوص، وعملوا عمل الخصوص - وهو العمل الذي يقرب إلى الحضرة - كانت لهم جنة المعارف نُزلاً، خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً ؛ لأنَّ من تمكن من المعرفة لا يُعزل عنها، بفضل الله وكرمه، كما قال القائل :
مُذْ تَجَمَّعْتْ مَا خَشيتُ افْتِراقًا فأَنّا اليَوْمَ وَاصلٌ مَجْمُوعُ
ثم يترقون في معاريج التوحيد، وأسرار التفريد، أبدًا سرمدًا، لا نهاية ؛ لأن ترقيتهم بكلمة القدرة الأزلية، وهي كلمة التكوين، التي لا تنفد ؛ ﴿ قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي... ﴾ الآية. هذا مع كون وصف البشرية لا يزول عنهم، فلا يلزم من ثبوت الخصوصية عدم وصف البشرية. قل : إنما أنا بشر مثلكم يُوحى إليّ وحي إلهام، ويلقى في رُوعي أنما إلهكم إله واحد، لا ثاني له في ذاته ولا في أفعاله، فمن كان يرجو لقاء ربه في الدنيا لقاء الشهود والعيان، ولقاء الوصول إلى صريح العرفان ؛ فليعمل عملاً صالحًا، الذي لا حظ فيه للنفس ؛ عاجلاً ولا آجلاً، ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا، فلا يقصد بعبادته إلا تعظيم الربوبية، والقيام بوظائف العبودية، والله تعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.


١ أخرجه الترمذي في الزهد (باب عمل السر)..
٢ أخرجه أحمد في المسند ٥/٤٢٨..
٣ أخرجه أحمد في المسند ٣/٤٣٩..
Icon