تفسير سورة الكهف

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ الْكَهْفِ
قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ... (١)﴾
قال الزمخشري: هذا تعليم للأمة كيف يحمدونه على نعمائه، وقال ابن عطية: لما [عانده*] الكفار، وأنزل الكتاب عليه للجزاء لهم، أمر بأن [يحمد الله*] على ذلك (١)، وفيه سؤالان: الأول: هلا قيل لَا عوج له، فهو أخص من قوله (ولم يجعل له عوجا)؟، الثاني: هلا [قيل*]: ولم يجعل فيه عوجا، فهو أبلغ؟ وأجيب عن الأول بأن الجعل أسند إلى الله تعالى فلا فرق بين كون العوج منفيا عنه لذاته أو باعتبار الجعل؛ لأن الكل مسند إليه لأنه كلامه؟ وأجيب عن الثاني بأن فيه أخص من له ونفي الأعم يستلزم نفي الأخص ولا ينعكس.
قوله تعالى: ﴿قَيِّمًا... (٢)﴾.. جعله الزمخشري تأكيدا، وأجاب ابن عرفة بأنه تأسيس، قال: لأن إقليدس فسر المستقيم بأنه أقرب خط بين نقطتين أو الخط المتوازي بين نقطتين وأن الموجودات أولها النقطة ثم الخط ثم السطح ثم الجسم ثم الدائرة فلا شك أن الجسم والخط يصدق عليه الاعوجاج والاستقامة، وأما النقطة فما يصدق عليها إنها معوجة ولا إنها مستقيمة، وكلام الزمخشري يقتضي أنه كلما انتفى الاعوجاج ثبتت الاستقامة، وليس كذلك بل ينتفي الاعوجاج ولا يثبت الاستقامة ما قلناه في النقطة قيل له إنها على طرفي النقيض وإنما يصح ما قاله فيما هو قائل لها بحيث إذا انتفى أحدهما عنه ثبت له الآخر بدليل أن الغرض لَا يقال له إنه متحرك ولا ساكن، والحركة والسكون نقيضان فقال ما نزعناه في قوله كلما انتفى الاعوجاج تثبت الاستقامة قيل له: وهذا معنى من المعاني فليس يقابل لهما.
قوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ... (٦)﴾
تقرئ (نفسك) بالفتح والكسر (٢)، وكان بعضهم يقول الفرق بين قولك زيد ضارب [عمروا*] [وبين قولك زيد ضارب عمرو، أنك*] إن أردت الإخبار عن مجرد ضربه عمرو نصبت وإن أردت الإخبار عن خصيصه بضرب عمرو وخصصت لأن من أنواع الإضافة التخصيص.
قوله تعالى: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ... (١١)﴾
الفاء للسبب ولا يصح أن تكون عاطفة على (فقالوا) لأنها تشترك في الإعراب والمعنى وهذا ليس من قولهم.
(١) النص في المحرر الوجيز هكذا:
"وسبب هذه البدأة في هذه السورة أن رسول الله ﷺ لما سألته قريش عن المسائل الثلاث، الروح، والكهف، وذي القرنين، حسبما أمرتهم بهن يهود، قال لهم رسول الله ﷺ غدا أخبركم، بجواب سؤالكم، ولم يقل إن شاء الله، فعاتبه الله عز وجل بأن استمسك الوحي عنه خمسة عشر يوما، فأرجف به كفار قريش، وقالوا: إن محمدا قد تركه ربه الذي كان يأتيه من الجن، وقال بعضهم: قد عجز عن أكاذيبه إلى غير ذلك، فشق ذلك على رسول الله ﷺ وبلغ منه، فلما انقضى الأمد الذي أراد الله تعالى عتاب محمد إليه، جاءه الوحي من الله بجواب الأسئلة وغير ذلك، فافتتح الوحي بحمد الله الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ أي بزعمكم أنتم يا قريش، وهذا كما تقول لرجل يحب مساءتك فلا يرى إلا نعمتك الحمد لله الذي أنعم علي وفعل بي كذا على جهة النقمة عليه." اهـ (المحرر الوجيز. ٣/ ٤٩٤).
(٢) (بَاخِعٌ نَفْسَكَ)، على الأصل، وعلى الإضافة (بَاخِعُ نَفْسِكَ): أى قاتلها ومهلكها. اهـ
قوله تعالى: (سِنِينَ عَدَدًا).
قال الزمخشري: يحتمل القلة والكثرة.
ابن عرفة: وكان بعضهم يرجح حمله على الكثرة بوجهين: الأول: قوله تعالى: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا)، الثاني: إن عرف القرآن واللغة في اللفظ معدودة أي معدودات القلة وفي لفظ عدد الكثرة، قال تعالى: (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ)، (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً)، وقال تعالى: (وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا).
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (١٣)﴾
بالتوفيق بوحدانيته والتثبيت، وقال ابن عرفة: يحتمل أن يراد آمنوا بوجود الله وزدناهم هدى بالإيمان بوحدانيته أو آمنوا بوجود الله إيمانا مستلزما لوحدانيته تعالى وزدناهم هدى بالعثور على الدليل الدال على وحدانيته.
قوله تعالى: ﴿وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ... (١٤)﴾
أي ربطنا الإيمان على قلوبهم فهو إشارة إلى أنه إيمان قوي لَا يؤثر فيه الشكوك ولا يعرض له وهن ولا يدركه خلل بوجه بل هم مصممون عليه كما تربط الحمل على الدابة حتى توقعه من عليها.
قوله تعالى: (فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
راجع للإيمان بوجود الله تعالى.
قوله تعالى: (لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا).
راجع للإيمان بوجود الله تعالى فهو لف ونشر.
قوله تعالى: (لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا).
أي قولا وشططا، وهو الإفراط في الظلم والإبعاد منه من شيط إذا بعد قاله الزمخشري.
ابن عرفة: قال الجوهري: يقال شط إذا بعد ورجل شاط أي طويل وغمر أو شاطة أي طويلة، وقال ابن عبيد: يقال شط إذا قال قولا بعيدا خارجا عن الصواب فيحتمل أن يكون المراد لقد قلنا قولا غريبا في عبادتنا الله حيث انفرادنا بها سائر بلدنا.
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (١٥)﴾
الفاء للسبب أي بسبب هذه المقالة لَا أظلم منه. قال: والجمع بينه وبين قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) أنه ينتج تساويهما في الظلم قال: ومن أفتى في قتله غير مستند لدليل ولا إلى نقل صحيح فهو مفترٍ على الله الكذب؛ لأن الحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (١٧)﴾
لأن الحكم الشرعي هو خطاب الله تعالى؛ فإن قلت: هلا قيل: ولي له فهو أبلغ فالجواب إن نفي الوجدان يستلزم البحث عن الولي وعدم وجوده وهو إنكار أشق من عدمه.
قوله تعالى: ﴿وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ... (١٨)﴾
فإن بعضهم يقول عرف القرآن أن الرقاد أشد من النوم، قال تعالى: (فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ) وقال: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا).
قوله تعالى: (وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ).
هذه الآية خرج فيها الأمر الخارق للعادة بالأمر العادي لأن حياتهم ثلاثمائة عام وتسعة أعوام بلا أكل ولا شرب أمر خارق للعادة وتقلبهم يمينا وشمالا أمر عادي، قال: وقعت مسألة في مسلمين ومشركين فضرب مسلم رجلا فقتله، وقال: إنما هو كافر فشهدت عليه بينة أنه قصد إلى ضرب رجل هو مسلم وكانت البينة أو ماتوا فهل للقاتل في الحال تعلق بالحال وارتباط بها أم لَا؟ فهل يقال إن شهادتهم بقصده إلى ضربه وهو مسلم يستلزم شعوره بأنه مسلم فيلزمه القصاص أم لَا يستلزم ذلك، وإنما هو خطأ وفي المسألة قولان، وكان بعضهم يستدل عند الآية على أنه لَا تعلق له به ولا يستلزمه لأن حسابهم أيقاظ لَا يستلزم حسابهم رقود بل هم في نفس الأمر رقود والناظر إليهم يعتقد إنهم أيقاظ.
قوله تعالى: (وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا).
ابن عرفة: عادتهم يوردون فيها أن الرعب والخوف منهم يسبب في الفرار عنهم فهلا قدم عليه، وعادتهم يجيبون بإنه إشارة لشدة الخوف منهم؛ لأن الهارب منهم مهما بعد عنهم أطمأنت نفسه وأمن من خوفه، وهو الهارب منهم لَا يزال مرعوبا فالرعب منهم سابق على القرب ومتأخر عنه فهو أشد في الخوف.
قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ... (١٩)﴾.. من نومهم فبعثهم في الغرابة شبيه بنومهم، وهذا من رشح المجاز لأن البعث إنما هو من الموت لَا من النوم فشبه بالقيام من النوم.
قوله تعالى: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ).
ولم يقل أحدهم إشارة إلى قائل تحرير عارف بطريق السؤال والاستدلال كما يقول تاج الدين، والفخر: ولقائل أن يقول كذا إذا كان السؤال قويا يفسر الجواب عنه.
قوله تعالى: (كَمْ لَبِثْتُمْ).
ولم يقل كم رقدتم؛ لأن الرقاد يقتضي الاستغراق في النوم، والمستغرق لَا يدري ما حل به ولا يعرف ما يحدث فعبر باللبث الذي هو أعم من اليقظة والرقاد ليحسن سؤاله له ونظيره قولك سألت زيدا اللغوي ما هو العرفج؟ فقال: أحسن من قولك سألت زيداً ما هو العرفج؟
قوله تعالى: (قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).
وقال تعالى في سورة طه: (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا) فكان بعضهم يورد هنالك سؤالا وهو أن الأمثل طريقة إنما يقول لبثتم شهرا أو عاما قال: (كَمْ لَبِثْتُمْ) فقول من أخبره بلبثه شهرا أصوب من قول من أخبره بلبثه يوما، قال: وأجيب بأن حال الدنيا بالنسبة إلى حال الآخرة [كالعدم*] فكان الأنسب قول من قال: لبثت يوما.
قوله تعالى: (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ).
قالوا هذا المخاطب على المتكلم والأصوب إن كان يقول ربنا أعلم بما لبثنا فالجواب أن يكون كل واحد منهم قال لأصحابه ربكم أعلم بما لبثتم فجمعت أقواله وخلط بعضها ببعض لأنه جمع لضميرهم تغليبا للمخاطب على الغائب بل جمع لأقوالهم.
قوله تعالى: (بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ).
قال ابن عطية فكانت دراهم على قدر [أخفاف الربع*] أي الجمل.
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ... (٢٠)﴾.. معناه أي يطلعوا عليكم ويتحققوا ذواتكم يرجموكم.
قال ابن عرفة: انظر هذا الكلام في نفسه صدق أو كذب قال: هذا عندي جار على ما قالوه في كتاب النكاح فيمن رأى امرأة في الطريق فقال هذه طالق فكان ظانا أنها زوجته فتبين أنها أجنبية عنه، فقيل: يلزم الطلاق اعتبارا بنيته، وقيل: لَا يلزم اعتبارا بما في نفس الأمر، وكذلك مسألة من قال: يا ناصح فأجاب مرزوق فقال له: أنت حر فعلى القول الأول يلزم الطلاق له يكون هذا الكلام صدقا؛ لأنهم اعتقدوا أنهم كفار لعلمهم أن الملك الكافر لم يزل جبارا على القول باعتبار ما في نفس الأمر يكون هذا الكلام كذبا، قال: ويؤخذ منه أن بين أوصى رجلا بوصية فإنه يقتضي له أن يذكر له من الأوصاف ما يجعله به على امتثال ما أوصاه به ولاسيما أن هذه الأوصاف فيها ما يرجع إلى ذات الموصى.
قوله تعالى: (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ).
إن قلت: لما قدره على التحفظ منهم بأن يكفروا في الظاهر ويؤمنوا في الباطن؟ قلنا: التحفظ منهم من الكفر في الظاهر [تنزيها لذواتهم عن الكفر ظاهرا أو باطناً*].
وقوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ... (٢١).. قال ابن عرفة: كان بعضهم يرد على إمام الحرمين في قوله في حد النظر إنه هو الذي يؤدي إلى العثور على الوجه الذي منه [يدل*] الدليل فإن العثور عليه يكون اتفاقيا من غير قصد تقول عثر زيد على كذا إذا أصابه من غير قصد إليه فمعنى الآية، وكذلك جعلنا ناس عاثرين عليهم من العاثر لأنه يعثر على الشيء من غير قصد.
قوله تعالى: (لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ).
الوعد على حقيقته [وهو في الكتب السالفة*] فمجرد الإخبار به كاف في أنه حق، فلا حاجة إلى ذكر ما يحققه، وإن كان المراد بالوعد الإلهام بمعنى [أُلهموا ذلك*] أو خطر ببالهم، فأطلع الله تعالى على ما تحقق لهم ما حصل في اعتقادهم، وقد وقع الوعد في القرآن بمعنى الإلهام، قال تعالى: (فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) بعد أن قال: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).
قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ... (٢٢)﴾
قال الزمخشري: إن قلت: لأي شيء، عبر في الأول بالسين دون ما عداه؟ فأجاب بوجهين: الأول: بأن عطفه بالواو يصير الاستقبال منصبا على الجميع، الثاني: أن [يراد*] به فعل بمعنى الاستقبال في الأول دون الذي هو صالح له. قال: والصواب أن يقال: إن الفعل إذا كان غريبا عجيبا مما يستبعد وقوعه ويستغرب يؤتى فيه بالسين الدالة على تحقيق وقوعه لَا على الاستقبال كقوله تعالى: (سَيَقُول السُفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ)، وقوله ستكتب شهادتهم وهنا لَا شك إن قول من قال: إنهم (ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ)، أبعد عن الصواب وأغرب من قول من قال: إنهم (خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ) لأن الصحيح إنهم (سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) فما قرب منه أصوب مما بعد وقوله ثلاثة خبرا مبتدأ أي هم ثلاثة وحذف المبتدأ هنا لأن الخبر لَا يصلح إلا له، أي الثلاثة إلا لهم، قيل لابن عرفة: الدليل من الآية على أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، قوله تعالى: (قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ) فانقسم المجيبون قسمين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم، وقسم قالوا ربكم أعلم بَما لبثتم وقد عبر عن قول كل قسم بضمير الجمع وأقل الجمع ثلاثة.
قوله تعالى: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ... (٢٤)﴾
اللام للتعليل، واختلف في تفسيره، فقيل معناه أنها إذن الله في فعله فله أن يخبر بفعله مطلقا غير مقيد بالمشيئة وما لم يسمع منه إذنا فلا يخبر بفعله إلا مقيدا بالمشيئة، وفسره الزمخشري بوجهين: أحدهما لَا تقولن ذلك القول إلا أن يشاء الله أن يقوله بأن يأذن لك فيه، والثاني: لَا يقوله إلا مقرونا بلفظ إن شاء الله.
قوله تعالى: ﴿لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ... (٢٧)﴾
الضمير إما عائد على الكتاب أو على الرب، والمراد له لَا مبدل لكلمات غيره أو لا مبدل لكلمته التي هي خبر؛ لأن الإخبار لَا ينسخ أو يقال: إن النسخ تغيير لَا تبديل، وفرق بعضهم أبدل في الأمر الحسي وبدل في المعنوي، وهذا إشارة إلى قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
قوله تعالى: (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا).
إن قلت: هلا قيل لن تجد مبدلا لكلماته، والجواب أن التبديل راجع إلى الكتاب لا إلى المكلف [ووجه*] أن الملتحد راجع إلى الإنسان فهو أمر ملائم محبوب يطلبه الإنسان ويحث عليه فناسب الوجدان المقتضي المطلب والبحث.
قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ... (٢٨)﴾
قال ابن عرفة: عادتهم يستدلون بهذه الآية على صحة بين واو المفعول معه وواو العطف من أن واو العطف تقتضي التشريك في المعنى وواو المفعول معه لَا يقتضي التشريك، فإذا قلت جاء زيد وعمرو فهو يقتضي اشتراكهما في المجيء كما أنك تقول: جلست والنار فلا يقتضي اشتراكهما في الجلوس، وكذلك هذا لأنه هو الذي يجلس معهم.
قوله تعالى: (بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ).
إن أريد بالدعاء الصلاة فيكون لفظ الغداة والعشي على بابه وإن أريد به تنقية الدعاء فيكون من باب قوله مطرنا السهل والجبل وضربته الظهر والبطن.
قوله تعالى: (وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).
إما من الإفراط: وهو الزيادة في الشيء والتجاوز وتعدي الحدود أو من التفريط، وهو النقض وعدم الوفاء بما أمر الله تعالى به.
قوله تعالى: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ... (٢٩)﴾
قال ابن عرفة: إن عاد الضمير على (مَن) فظاهر، وإن عاد على (الله) فقيل فهم الآية؛ لأن الأول أمر بالإيمان، والثاني لَا يصِح أن يكون أمرا بالكفر، قال تعالى (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) وإن جعلته خبر الذم مخالفة الجملة الثانية للأولى مع إنه جزاء التقسيم.
قوله تعالى: (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ).
إن قلت: هلا قال: وإن استغاثوا فإنه محقق وقوعه؟ فالجواب: إنه على سبيل التعظيم والتهويل؛ فناسب حرف الشك المقتضي لشربهم من المهل على تقدير طلبهم ذلك الطلب الغير محقق.
قوله تعالى: (يَشْوِي الْوُجُوهَ).
ولم يقل: وجوههم؛ إشارة إلى عظمته وتعدي دخانه للغير بحيث يخرج عنهم، ويكاد يشوي وجوه غيرهم معهم.
قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ... (٣١)﴾
إما أن لكل واحد جنات، أو على الجمع على سبيل التوزيع؛ فلكل واحد جنة؛ فإن قلت: هلا قيل لهم: جنات عدن، ويستغنى عن لفظ (أُولَئِكَ)؟ فالجواب: أن فيه زيادة تأكيد وتعظيم لهم؛ ولذلك أتى فيه بلفظ البعيد، كما قالت زليخا: (فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ).
قوله تعالى: (جَنَّاتُ عَدْنٍ).
قال بعضهم: سميت عدنا لوجهين:
إما لأنها من عدن بالمكان إذا أقيم به فهي دار إقامة والدنيا دار رحيل وائتمان.
وإما أن كل نعيم وإذ لم يمل؛ فهي إشارة إلى أن أهلها يقيمون عليها محبون فيها لا يملون منها بوجه.
قوله تعالى: (يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا).
قدم التحلية على اللباس مع أن الحاجة إلى اللباس أقوى من الحاجة إلى التحلية، فالتحلية أمر تكميلي، واللباس حاجي فهو أهم، وقال في سورة الإنسان (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ) فقدم اللباس على التحلية، قال: وعادتهم يجيبون بأن التحلية هنا بالذهب أمر تكميلي، فقدمت على اللباس تنبيها على أنه أيضا أمر تكميلي زائد على اللباس الحاجي، وقدم في سورة الإنسان الحاجي وعطف على التحلية، فهي أيضا أمر حاجي لأنها بالفضة، فهي أقل ما يتحلى به، والتحلية بالذهب أمر زائد عليه تكميلي.
قوله تعالى: (ثِيَابًا خُضْرًا).
أخذ منه أن الخضرة أحسن الألوان لأنها وسط بين السواد والبياض، والسواد مجمع للبصر مع أنه يحدث انقباضا في النفس، والبياض مفرق للبصر مع أنه يؤثر انبساطا وسرورا في النفس، وأجيب بأن الخضرة أحسن الألوان المغيرة بالصباغ، وأما البياض فهو أحسن الألوان، والسندس [ما رقَّ من الحرير*]، وأما الإستبرق [ما غلظ منه*]، فإن قلت: الإستبرق دون الحرير؛ بدليل قوله تعالى في سورة الرحمن: (مُتَّكِئِينَ عَلَى
فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) فجعله بطانة، فالجواب: أن الإستبراق فيه الأرفع والأدنى، فجعل بطانة وأرفعه شبيه بالسندس.
فإن قلت: لم قال: (يُحَلَّوْنَ) فحذف الفاعل وبناه للمفعول، وقال: (وَيَلْبَسُونَ) ولم يحذف الفاعل؟ فالجواب: أن اللباس ساتر للعورة فيلبسه الإنسان منفعة خشية [التكشف*] على عورته، والتحلية ليس فيها كشف عورة فلا يتكلف استعمالها بيده؛ بل يستنيب من يكفيه مؤنتها ويزوجه منها، وتقدم عنه توجيها، وقال تعالى في سوِرة الحج (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا) وقرئ (وَلُؤْلُؤ) بالخفض؛ فتكون الإشارة على هذا (من ذهب وفضة ولؤلؤ).
قوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ... (٣٢)﴾
ابن عرفة: قالوا القاعدة في مثل هذا أن يقال: واذكر لهم قصة رجلين؛ لأن هذا من باب الإخبار عن الواقع، وأجيب بأن ضرب المثل فيه بالفعل والانفعال والأثر؛ لأن الضرب أمر حسن، فكان هذا المذكور ينفي أثرا من التذكر والموعظة بمن جرى له ذلك.
قيل لابن عرفة: أو يكون قياسا تمثيليا.
قال بعض الطلبة: قدم في الآية السبب على مسببه؛ لأن المناسب في خروج الثمرة، فهلا قيل (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا) وفي خلالهما ثمرا (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا).
قيل لابن عرفة: وقوله (وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا) مستغنى عنه؛ لأنه مجرد تأكيد؛ لأن معنى الإضافة في قوله (آتَتْ أُكُلَهَا) تقتضي بها؛ كقوله تعالى: (أَمْ عَلَى قُلُوب أَقفَالُهَا) (إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا).
قيل لابن عرفة: (وَجَعَلْنَا) بمعنى صيرنا أو بمعنى خلقنا؛ فإن كانت بمعنى خلقنا فيكون هو أنشأهما واخترعهما، وإن كانت بمعنى صيرنا فيحتمل أن يكون أنشأهما غيره واشتراهما هو منه، والآية دالة على أن العنب أفضل الفواكه؛ لأنه بدأ به وكان أكثر غرس الجنتين.
قوله تعالى: ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ... (٣٥)﴾
إنما أفردها تنبيها على أنه استشعر ذلك عند دخوله إحداهما فأحرى إذا دخلهما، أو لأن الدخول لَا يقع إليهما في حالة واحدة بل إنما يدخل إحداهما أولا ثم يدخل الأخرى بعد ذلك.
قوله تعالى: (مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا).
إن أراد الأرض والسماوات فيؤخذ منه أنه كان يقول بقدم العالم. قاله ابن عطية:
قال ابن عرفة: لأن بما ثبت قدمه يستحال عدمه؛ فعكسها ابن عطية، فقال: ما استحال عدمه ثبت قدمه هذه أصول العالم وهي السماوات والأرض، وأما الجزئيات كالأشجار والثمار فمعلوم أنها تفنى ويخلفها غيرها.
قوله تعالى: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ... (٣٧)﴾
كفره إما بإنكاره المعاد؛ لقوله (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً)، أو شكه فيه لقوله (وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي).
ابن عرفة: وتقدمنا فيها إشكال وهو ما الموجب لتكفيره إياه؛ مع أن المعاد عند أهل السنة إنما هو ثابت بالسمع لَا بالعقل، والعقل اقتضى إمكانه وتجويز وقوعه؛ لأن وجوب وقوعه، والمعتزلة يقولون: إنه واجب الوقوع عقلا بناء على قاعدة التحسين والتقبيح عندهم، فإما أن يجاب بأنهم لعلهم كان غيرهم سمع واقتضى وجوب المعاد وإنكاره كفرا، وفهم عنه أنه مشرك بالله حسبما أقر به على نفسه في آخر الآية، في قوله (وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (٤٢).. قيل لابن عرفة: فكيف يكفره بإنكاره ما ثبت بالسمع ثم يستدل بما فيه بالعقل.
قوله تعالى: (مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ).
استدل له بأصل بعد منفصل وهو التراب، وأصل بعد متصل وهو النطفة؛ أي خلق أباك من تراب ثم من نطفة.
قوله تعالى: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ).
أفردهما؛ وهما جنتان تحقيرا لهما.
قوله تعالى: (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ).
ابن عرفة: وكان بعضهم يقول سببا للذم إن كان فعليا، فالعادة تكون الندم بتقليب الكف، وإن كان قوليا فيكون بالقرع على السن.
كما قال الشهرستاني في أول نهاية الإقدام:
[لقد طفت في تلك المعاهد كلّها... وسيّرت طرفي بين تلك العوالم
فلم أر إلّا واضعا كفّ حائر... على ذقنه أو قارعا سنّ نادم*]
قوله تعالى: (وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا).
قال ابن مالك: حرف النداء إن دخل على ليت فإنه للتشبيه لَا للنداء؛ كقوله تعالى: (يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا)؛ لأنه لم يكن هنالك من [تناديه*].
قال ابن عرفة: بل هنالك ربها، أي يا رب ليتني مت قبل هذا.
قوله تعالى: ﴿وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ... (٤٣)﴾
قال الزمخشري: أي يقدرون على نصره من دون الله.
قال الطيبي: إنما صرف اللفظ على ظاهره؛ فالمعنى لم ينصره أحد بالفعل دون الله؛ فمفهومه أن الله ينصره مع أن الثابت أن الله لَا ينصره؛ لذلك قال: لم يقدر على نصرته أحد دون الله، فمفهومه إن الله قادر على نصرته ولم ينصره، ورده ابن عرفة بأن هذا غير محتاج إليه؛ لأن في الآية (وَلَم تَكُنْ) ولفظ كان المنفي يقتضي نفي القابلية، فالمعنى ولم تكن له فيه قابلية لنصرته سوى الله فهي مفهومة أن الله قابل لنصرته ولم ينصره، وهذا المعنى ليس من الآية.
قوله تعالى: ﴿وَخَيْرٌ عُقْبًا (٤٤)﴾
قال الزمخشري، وابن عطية: أي خير في العاقبة باعتبار الدنيا والآخرة.
ابن عرفة: ويحتمل أن يراد العذاب؛ أي هو خير في العقوبة؛ لأن عقوبة الكافر هو للمؤمن خير. فيكون ذلك في الدنيا كما وقع في هذه القضية.
قوله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... (٤٥)﴾
ابن عرفة: وجه مناسبتها لما قبلها؛ أنه لما تقدم ذم الحياة الدنيا باعتبار ما نشأ عنها من الشرك، والعجب، والبطر، والرياء عقبه بذمها في نفسها بكون نعيمها زائلا مضمحلا [شبهها بالماء*] في كونه ينزل فينشأ عنه النبات الأخضر الناعم ثم يضمحل، فكذلك الإنسان يوجد بعد أن لم يكن ثم تدرج حالاته من الصغر إلى الشباب، ثم إلى الكبر ثم ينعدم.
قوله تعالى: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا).
ابن عرفة: مقتدرا أبلغ من قادر.
قوله تعالى: ﴿الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا... (٤٦)﴾
قال ابن عرفة: كان ابن قيس حكى عن والده: أنه رأى في الأندلس ضعيفا يستعطي ومعه أربعة أولاد، يقول: ارحموا من خالف كتاب الله حيث قدم التزوج على اكتساب المال، فابتلي بالفقر وكثرة البنين، وهو خلاف ما قال الزمخشري في قوله تعالى: (وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى) ولفظ البنين خاص بالذكور، ولذلك لم يقل: المال والأولاد لدخول الآيات في الأولاد، وقد كانوا يقولونهم ويتشاءمون بهن فكيف يكونون زينة؟!
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ... (٤٧)﴾
ابن عرفة: انظر هل اليوم القطعة من الزمان، أو الزمان الذي لَا ينقسم إلى شيء؟ والظاهر الأول.
قوله تعالى: (وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً).
ابن عرفة: إذا قلنا: إنها هذه الأرض فيؤخذ منه أنها بسيطة؛ لأن ظاهرها أن الإنسان يرى جميعها ولو كانت [كورية*] لما رأي إلا بعضها، لأنا نفرق بين قولك: رأيت الأرض، وقولك: رأيت بعض الأرض.
قوله تعالى: (وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا).
ورد الزمخشري سؤالا: لما قال (وَحَشَرْنَاهُم) بالماضي و (نسير) روي بالمضارع؟ وأجاب: بأن الحشر متقدم على نسير الجبال، ورؤية الأرض بارزة.
وأجاب ابن عرفة: بأن الكفار خالفوا في الإعادة والحشر؛ فأتى فيه بلفظ الماضي تحقيقا له حتى كأنه واقع، كقوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)، و (نُسَيِّرُ الْجِبَالَ)، ورؤية الأرض بارزة، فلم يقع النص على الخلاف فيهما إلا زمنا، وأجيب: فلم عطف (فَلَمْ نُغَادِرْ) بالفاء والأصل فيه الواو؛ لأنه حال؛ أي وحشرناهم في حالة العموم وعدم الترك ولا تصح السببية؛ لأن الحشر ليست بسبب في عدم المغايرة، وليست عدم المغايرة تعقبه بل هي معه، قال: وأجيب بأن المغادرة هي الترك، والترك يستلزم تقدم سببي عليه؛ فلذلك عطف بالفاء، وذكر بعضهم أن المجانين لَا يحشرون ولا يبعثون.
قوله تعالى: ﴿وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا... (٤٨)﴾
قيل: إنهم صف واحد، وقيل: إنهم صفوف، وعبر بالواحد عن الجمع إشارة إلى كمال قدرة الله تعالى في تنزيل الجماعة عنده منزلة الواحد في العرض والرؤية، ونظيره قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) عبر هنالك بالواحد عن الجماعة تحريضا على المقاتلة، وحثا على التقدم في الصف الأول الموالي للعدو، وحتى كان الجميع صفاً واحداً.
قوله تعالى: (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا).
إن قلت: الأصل أن يقال: بل زعمتم أن لن نجعل لكم؛ لأنه ماض فالأصل نفيه بـ لم، وأجيب بأنه مكانه حكاية حال ماضيه.
قوله تعالى: ﴿وَوُضِعَ الْكِتَابُ... (٤٩)﴾
ابن عرفة: الكتاب إما واحد بالنوع؛ أي تضع لكل إنسان كتابه، أو واحد بالشخص ويكون واحدا للناس كلهم؛ وهو اللوح المحفوظ أو شبهه فيه جميع أعمال الخلق وغير موضع، ولم يقل: وأحضر الكتاب، وكذلك قال في سورة (تَنْزِيلٌ) تنبيها على أنه وضع للنظر فيه والاطلاع عليه؛ بخلاف ما لو قيل: وأحضر الكتاب؛ فإنه لَا يتعمد هذا المعنى.
قوله تعالى: (وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا).
هل هو تأكيد؛ لقوله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ)، وقوله تعالى: (وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ)، أو هو كقوله تعالى: (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى) قيل: هو تأكيد؛ لأنه إذا أحصى الصغائر فأحرى أن يحصي الكبائر، وأجيب بأنه تأسيس إشارة إلى أن إحصاءه الصغيرة بجميع أجزائها كمن أحصى جزءاً من خمسة أجزاء؛ فإنه قد يقدر أن يحصي صغيرة من عشرة أجزاء، وقد لَا يقدر عليها، وإما أنه تأكيد والعطف للتسوية إن إحصاءه للصغيرة مساو لإحصائه للكبيرة، وإحاطته بعلمها واحدة تنبيها على كمال الإحاطة، وإما لأن العطف ليدل اللفظ على إحصائه الكبيرة دلالتين بالمطابقة وباللزوم.
قلت: وأجاب صاحب الفلك الدائر بأن الآية ليست لتفصيل أحوال الواحدة، فيكون إحصاء الصغيرة فيها يستلزم إحصاء الكبيرة؛ وإنما هي لإحاطة علم الله تعالى
بأعمال العباد، والعلم بالصغير لَا يستلزم العلم بالكبير بخلاف العكس، كقولك: إذا أبصرت من هو على عشرة فراسخ فأحرى أن تبصر من هو على فرسخ واحد.
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ... (٥٠)﴾
قال ابن عرفة: هذه الآية تكررت في القرآن لما اشتملت من الأمر الغريب العجيب والوعظ؛ لأن إبليس كان من الملائكة فأُخرج منهم، وكان آدم في الجنة فأُهبط منها فينبغي الاتعاظ بهما وأن لَا يثق بعلمه، ويكون حائطا مراقبا حركاته وسكناته، قال: والسجود إما حقيقة، إن قلنا: إن الملائكة أجسام متحيزون، أو بمعنى الخضوع، إن قلنا: إنهم غير متحيزين، ونقول بالجوهر المفارق، والصحيح أن إبليس ليس من الملائكة؛ لأن الملائكة أجمع العلماء على عصمتهم فكيف يكون إبليس منهم؟
قوله تعالى: (كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ).
وهذا من تقديم العلة على المعلول [كقولك: سهى فسجد، وزنا فرجم]، وقد يقدم المعلول على العلة فكونه من الجن علة في فسقه.
قوله تعالى: (عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ).
دليل على أن الأمر غير الإرادة؛ لأن الله تعالى أمره بالسجود ولم يرده منه؛ إذ لو أراده لوقع تعالى أن يكون في ملكه ما لَا يريد.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ... (٥٢)﴾
إن قلت: لم عبر في الأول بالنداء، وفي الثاني بالدعاء؟ قال: فعادتهم يجيبون بأن النداء يكون لمحبوب الدعاء للإنسان ولمكروهه، والدعاء إنما يكون لمحبوبه؛ فما يدعو الإنسان إلا من يجيب فهو أخص من النداء، ولذلك قرن الأخص؛ لأن الاستجابة إنما تكون بالمؤاخذة دون المخالفة، فلذلك قال: (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) أي فلم يجيبوهم بغرضهم.
قال ابن عرفة: وغلط هنا ابن عطية، وأبو حيان، فنقلا عن ابن كثير أنه قرأ (شركائي) بالقصر بغير مد ولا همز وليس كذلك، وإنما قرأ ذلك في سورة النحل حسبما نص عليه الشاطبي، وابن غلبون في أصول القراءات.
قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ... (٥٩)﴾
ابن عرفة: الظاهر عندي بأن الألف واللام في القرى للعهد، والمراد قرى الأولين الذين تقدم ذكرهم في قوله تعالى: (إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ).
قوله تعالى: ﴿مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ... (٦٠)﴾
كان بعضهم يقول: يقع في نفسي أن مجمع البحرين هو مجمع البحر المالح ووادي مجردة عند الذرية، وهو الذي يقال له: فرق البحرين والصخرة فصخرة أبي ربيعة، والجدار في المجدية، والسفينة هي التي كانت تجلب الحجر والرخام؛ إنما الحقيقة العادية من خراسان.
قال الزمخشري: مجمع البحرين ملتقى بحري فارس والروم بالمشرق، وقيل: طنجة بالأندلس عند زقاق سبتة وهو ملتقى بحر الظلمات والبحر الآخر، وقيل: إفريقية، واختلفوا في الخضر هل هو حي أم ميت، لقوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "لا إسلام لمن لَا هجرة له"، فلو كان حيا لهاجر، وقال [مكي بن أبي طالب*] في القوت: إنه هاجر، وقال أبو المعالي: الظاهر أنه [... ]. ووقع في البخاري: "أَرَأَيْتَكُمْ [لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا، لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ*] "، فأجيب بأنه لعله كان بين السماء والأرض أو كان في البحر، والمراد بالأرض أرض بلدهم التي هم فيها، كقوله تعالى: (يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ).
قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا... (٦١)﴾
معطوف على فعل مقدر، أي صارا فلما بلغا.
قوله تعالى: (نَسِيَا حُوتَهُمَا).
النسيان إما بمعنى الترك، أو هو في حق يوشع عليه السلام على حقيقته، وفي حق موسى بمعنى الترك، فإن قلت: لاتخاذ الترك متقدم على النسيان؛ لأن يوشع لما رقد موسى وبقي هو يحرس، طاش الحوت ودخل في البحر، فهم يوشع أن يوقظ موسى وهابه (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا) وعزم يوشع على أن يخبر بذلك موسى إذا استيقظ من نومه، فلما استيقظ سيء أن يخبره؛ فكان الأولى أن يقال: فلما بلغا مجمع بينهما اتخذ سبيله في البحر سربا فنسيا حوتهما، ولإتيان العطف بالفاء
المقتضية للترتيب ولو كان بالواو ما قال فيه إشكال، قال: والجواب: أن يجعل النسيان هنا بمعنى الترك، ويكون النسيان في قوله (إِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ) على حقيقته.
قوله تعالى: ﴿وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ... (٦٣)﴾
أن أذكره قد يكون النسيان من الله تعالى، وقد يكون من الشيطان؟ فنسيه هنا للشيطان ظنا منه، وإلا فيكون الله تعالى أنساه ذلك لما أراده من إطلاعه على الخضر.
قوله تعالى: ﴿فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا... (٦٥)﴾
قال المفسرون: المراد بالرحمة النبوة؛ فيكون الخضر نبيا.
قال ابن عرفة: وكان بعضهم يقول: الرحمة على إبقائها وقدم ذكرها احتراسا لما يأتي من قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ) وقتله للغلام يوهم اتصافه بالغلظة والجفاء فاحترس من ذلك بأنه متصف بكمال الرحمة، وما فعل ذلك إلا بأمر من الله إما بوحي إن كان نبيا على لسان الملك، أو بأنها أمر من الله تعالى إن كان وليا.
قوله تعالى: ﴿قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (٦٦)﴾
قال ابن عرفة: فيه إشارة إلى أنك كنت غير عالم فعلمت، وكذلك إما كما علمت علمني؛ فلذلك لم يقل (مِمَّا عُلِّمْتَ)؛ فإن قلت: ما يقبل التعليم العلم الظاهر الذي له أمارات ودلائل، وأما علم الباطن فلا ينحصر ولا يقبل تعليما، ولذلك قال (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي)، فالجواب: أن موسى صلى الله عليه وعلى آله وسلم ظن أنه راجع للعلم الظاهر الذي ينحصر بالأمارات والدلائل، فأسفرت العاقبة أنه من علم الباطن الذي لَا يقبل تعليما، أو يقال: إنه طلب منه أن يعلمه طريق السلوك الموصلة لما وصل هو إليه.
قال ابن عرفة: و (رُشْدًا) لَا يصح أن يكون من باب الأعمال بحيث يطلبه بعلمني، وعلمت أن تكون مفعولا ثانيا لكل واحد منهما؛ لأنك إن علمت فعلمني يجب أن يضمر في الثاني مفعولا ولا يكون إلا منطوقا به لَا مقدرا؛ لأنه يؤدي إلى نصبه العامل للعهد وقطعه عنه، وإن أعلمته للثاني يبقى الموصول بغير عائد فيتعين أن يكون معمولا للأول، ولا تكون المسألة من باب الإعمال.
قوله تعالى: ﴿فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا... (٧١)﴾
قال ابن عرفة: خرقها خرقا يصيبها ولا يضرها؛ ولذلك لم يغرق من أهلها أحد.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم جعل هنا جواب الشرط فعل الخضر وهو الخرق لا قول موسى، وجعل في قتل الغلام فعل الخضر معطوف بالفاء، وجواب الشرط قول موسى؟ فأجاب بأن الخرق متراخ عن الركوب، والقتل يعقب لفاء الغلام، وتبعه أبو حيان.
قال ابن عرفة: إنما عادتهم يجيبون بأن خرق السفينة ملائم لسببه وهو الركوب؛ لأنهم فعلوا معهم أمرا ملائما فحملوهم بغير قول؛ ففعل هو معهم بسبب ذلك أمرا ملائما وهو خرق السفينة الموجب إنجائهم من الملك الذي يأخذ كل سفينة غصبا؛ فناسب جعله سببا عنه، وأما قتل الغلام فليس ملائم للفاء؛ وإنما الملائم له فعل مقدر وهو خوف أن يرهق والديه المؤمنين طغيانا وكفرا؛ فلذلك عطفه على الشرط ولم يجعله جوابا له ولا سببا عنه.
قوله تعالى: (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا).
أي شيئا عظيما، كقول أبي [سفيان*] في حديث هرقل: [لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ، إِنَّهُ يَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ*].
قوله تعالى (لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ... (٧٣)
قال ابن عطية: كانت الأولى من موسى نسيانا، والثانية شرطا، والثالثة تعمدا فكان الجمع شرطا، قال: أما كون الثانية شرطا؛ فلأن مفهوم قوله (لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ) أنه إن عاد إلى ذلك يؤاخذه فهذا شرط في الثانية.
قيل لابن عرفة: بل الشرط هو قوله: إن سألتك بعدها، فقال: إنما شرط ذلك بعد وقوع الغفلة الثانية، وأما الثالثة فتعمد؛ لأنه عزم على فراقه؛ فلذلك أنكر عليه.
قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ... (٧٧)﴾
ولم يقل: وصلا إلى أهل قرية؛ إشارة إلى أن إتيانهم لها كان على قصد، والقرية قيل: هي الأبلة، قالوا: وهي أبعد أرض إلى السماء.
ابن عرفة: إن قلنا: إن الأرض كورية فمن هو في أعلى الكورة أقرب إلى السماء ممن هو في جوانبها، مثل: بطيخة موضوعة في قبة فصعدت نملة في أعلى البطيخة، ونملة في جوانبها، فإن التي في أعلاها أقرب إلى سقف القبة.
قوله تعالى: (اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا).
فيها سؤالان:
الأول: لم أعاد الاسم الظاهر، وهلا قال: استطعماهم؟ قال: فأجيب بأن المراد أنهما استطعما كرم أهلها ومن يظن به منهم التكرم؛ لَا أنهما قصدا الجميع.
السؤال الثاني: أن الاستطعام أعم لصدقه لأدنى شيء، والضيافة أخص إما ليلة أو ثلاثة أيام أو نحو ذلك؛ فاستعمل في الآية إلا في الثبوت والأخص في النفي، والقاعدة عكس ذلك، قال: وأجيب: بأنهما قصدا التلطف في الطلب فعبرا بأدنى العبارات، وهو الإطعام الذي حصل مدلوله باللقمة الواحدة، وقوبلا هما بالامتناع من الضيافة بقصدهما الإسراف من أهلها الذين لَا يطلب منهم إلا المقابلة بالتسامي في [الإكرام*] على قدر همهم وعظم منازلهم؛ بل إنما أجاب بأن موسى والخضر عليهما السلام لَا يقابلان إلا بالضيافة الكاملة لَا مطلق الطعام؛ فلذلك قال (فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا).
قوله تعالى: (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ).
قيل لابن عرفة: هل هذا مجاز في الإسناد؟ فقال: لَا بل هو مجاز في الإفراد؛ لأن إرادته مجاز وانقضاضه مجاز؛ حتى كان بعضهم يقول: المجاز في الإسناد لا يمكن بصورة إلا في مثال واحد؛ وهو: أنا قد قررنا الفرق بين الحكم التقييدي والحكم الإسنادي، كقولك: الرجل العاقل قائم؛ فالعقل قيد والقيام إسناد، فإذا قلنا: الذي لَا تجوز شهادته فهو صادق بكون الحكم التقييدي عند المنطقيين من قبيل التصديق لَا من التصور؛ فهو مجازي في الإسناد، وهو من مجاز إطلاق الملزوم على اللازم.
قوله تعالى: ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ... (٧٨)﴾
الإشارة إما إلى الشرط الواقع بينهما، والتقدير هذا فراق الصلة بيني وبينك، فإن قلت: هلا قال: هذا فراق بيننا، فإن أعاد لفظ بين تحقيقا للمفارقة حتى لَا يجمع بينه وبيّنه في لفظ بيننا.
قيل لابن عرفة: إن الحريري قال في مقاماته في السابعة والثلاثين:
واستنزل [الريَّ*] من درِّ السحاب
[فإنْ بُلّتْ يَداكَ بهِ فليَهنِكَ الظّفَرُ*].
قال ابن عرفة: هذا نظير ما وقع في الغيبة فيمن عير برعاية الغنم، فقال: رعى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال به مالك: إن قاله على سبيل التسلي أُدِّب، وإن قاله على غير ذلك ضرب عنقه، قلت: يريد أن يحتد به التنقيص.
قوله تعالى: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (٧٩)﴾
أورد الزمخشري سؤالا: اغتصاب الملك للسفن سبب لتعييب الخضر لهذه السفينة، فهو مقدم عليه فلم أخر عنه؟ وأجاب: بأن السبب فيه أمران كونها للمساكين ولخشية الاغتصاب، فوسط المسبب بين علتيه؛ كقولك: زيد في ظني قائم.
قال ابن عرفة: وعادتهم يجيبون بأن الحكم تارة يؤتى به مقرونا بعلته، وتارة يؤتى به بسؤال محتاجا جوابا عنه فيؤخر العلة.
وهذا كما يقول السماكي: وهم وتنبيه، وذلك أن ركوبها للمساكين ليس بعلة في إعابتها؛ بل يتوهم أنه علة في العكس، فيقول القائل: فلم أعابها وهي للمساكين؟ فيقال: خشية اغتصاب الملك لها.
وقال الطيبي: أخر العلة فيكون بيانا للسبب والارتباط الذي بين العلة وهي المسكنة، وبين المعلول.
فقال ابن عرفة: بل هي جواب عن السؤال متوهم إيراده على جعل المسكنة سببا في إعابة السفينة.
فإن قلت: لم قال في السفينة (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا)، وفي قتل الغلام (فَأَرَدْنَا)؟ فأجيب بأن الأول متعلق بالإعابة فأسندها إلى نفسه، والثاني متعلق بتبديله بما هو خير منه فشرك غيره معه على سبيل التواضع والأدب.
قوله تعالى: ﴿فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (٨٠)﴾
قال ابن عرفة: يؤخذ من الآية أنه إذا تعارض احتمال يوهم [نقض*] دين الإسلام مع تحقق حفظ النفس، فقلت: احتمال يوهم [نقض*] الدين؛ لأن الخضر قتل الغلام باحتمال توهم أن يكفر إذا كبر، ويكفر أبواه بسبب كفره.
قوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ... (٨٣)﴾
الطلب من الأعلى للأدنى [أمر*]، وعلته سؤال وخضوع، فهذا سؤال حقيقة [ويجب على هذا*] أن يكون قوله تعالى: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ)
[تهكما بهم*]، قالوا: وذو القرنين إما اسم علم له أو صفة، وذكروا فيه وجوها:
إما أنه ضرب في القرن الأيمن من رأسه جرحا ومات بسببه؛ فأحياه الله، فضرب في قرنه الأيسر جرحا فمات؛ فأحياه الله.
وحكى ابن عطية، عن علي: أنه ملك، وعن عمر: أنه ليس بنبي ولا ملك، وحكى الزمخشري العكس سواء.
قوله تعالى: (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا).
ولم يقل: إن شاء الله مع أنه أمر بأن لَا يقول الشيء إني فاعله غدا إلا أن يشاء الله، واكتفى بذكره ذلك هناك عن حكاية هنا، والآية على تقدير مضاف إما أولا وآخرا فإن قدرته.
قلت؛ ويسألونك عن حال ذي القرنين، فيعود الضمير في قوله تعالى: (عَلَيْكُم مِنْهُ ذِكْرًا) على حاله، وإن لم يقدره أولا فيحتاج إلى تقديره آخرا؛ أي سأتلوا عليكم من خبره ذكرا، وتنوين (ذِكْرًا) إما للتقليل إشارة إلى عظم حاله، وإلا لم ينكر إلا أقله للتعظيم، وأن النفي ذكر منه، وإن قل فهو عظيم في ذاته، قال تعالى في قصة أهل الكهف (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ)، ولم يقل: من نبأهم، وقال تعالى (قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا)؛ لأن قصة أهل الكهف منحصرة، وأمر هذا الرجل غير منحصر.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ... (٨٤)﴾
ابن عرفة: إن كان أمر تبليغ هذا اللفظ فيكون حكاية لكلام الله تعالى: أي قل لهم إنا مكنا له في الأرض، وإن كان من كلام الله فيكون شبه التفات، وإلا كان يقال: إن الله مكن له في الأرض.
قوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).
إن كان نبيا فيكون المراد العموم في الأنواع والتبعيض في إعادتها؛ فأدنى بعض كل نوع؛ لأن النبي لا يصد عنه شيء.
قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ... (٨٦)﴾
[لا أنها تغرب فيها حقيقة*]؛ لأن العين جزء من الأرض، والشمس أكبر من الأرض بكثير فكيف يغرب الجرم الكبير في الصغير؟ فالمراد أن ذلك المحل رآها منه حتى
غربت ولا يغرب كل يوم فيه؛ فإن لها مغارب ومشارق، ومع أنها تغرب على قوم وتطلع على آخرين، ومع ما ورد في حديث أبي ذر، قال له: «أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ؟» [قلت لا، قال «إنها تغرب في عين حامية» *].
قوله تعالى: (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا).
إما للتخيير أو للتفصيل؛ أي للتخيير في أنواع العذاب إما تعذيبهم بالقتل أو بالأسر وهو [الحسن*]، أو للتفصيل للتخيير؛ بمعنى إما أن تعذبهم، وإما أن تحسن إليهم فاختار هو [حسنها*].
قال ابن عرفة: وبدأ بمغرب الشمس قبل مطلعها؛ إشارة إلى ما يقول الحكماء أول الفكر أجر العمل، وهي العلة الغائبة تنبيها للإنسان على النظر في عواقب الأمور، وأنه يكون على حذر من أجرته فيعمل على ما يحصلها، وإذا أراد أن يفعل أمرا تفكر في عواقبه وحينئذ يفعله.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٨٩)﴾
العطف بـ ثم إشارة إلى المهملة التي بين فعله الأول والثاني لَا سيما مع كونه ملكا [لَا ينتهي أمره*] إلا بعد طول ومهلة.
قيل لابن عرفة: ذكروا أن عمره أربعون سنة، والمعمور من الأرض مسافة ثمانين فكيف مشى هذا المقدار؟ فقال: هذا خرق عادة والرجل نبي أو ولي أو ملك فلا يستغرب في حقه أن يقطع المسافة الطويلة على الزمن القليل.
قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ... (٩٠)﴾
ابن عرفة: قالوا: ما الحكمة في إدخال لفظة (إِذَا) في [المطلع*]؛ مع أنك إنما تقول: إنما سرت حتى أدخل المدينة، فهلا قال: حتى بلغ مغرب الشمس، وحتى بلغ مطلعها؟ فأجيب بأن لفظة (إِذَا) تفيد القصد أنها بعد [الحامية*]، كقولك: سرت حتى أبلغ مكة فأعتمر، إن العمرة مقصودة لك من [الأول احترازا*] من أن يكون فعلك لها إشاريا اختياريا من غير قصد له، وكذلك هنا إنما كان سيره ليبلغ أول المعمور وآخره، فيدعوا النَّاس إلى الإيمان بالله، لَا أنه كان اتفاقيا، قال: وقرأ الأكثرون بالفتح في سورة (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) لوضوح إرادة المكان هنا، ووضوح إرادة الزمان هناك أو المصدر.
قوله تعالى: (لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا)
أي سترا معهودا.
قوله تعالى: ﴿وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (٩١)﴾
إشارة إلى علم الله تعالى بالجزئيات والكليات، فكذلك (خُبْرًا).
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٩٢) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ... (٩٣)﴾
قال الزمخشري: إن اسم الجبلين والسد بفتح السين مصدر سد يسد سدا، [فهو اسم*]، [وانتصب بَيْنَ على أنه مفعول به مبلوغ*] أخرج عن أصله، كما أخرج في قوله تعالى: (هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) فجعل مضافا، وكما أخرج في (لَقَدْ تَقَطَّعَ [بَيْنُكُمْ) *] فجعل فاعلا.
ابن عرفة: وقال ابن أبي الربيع ابن سالم في الاكتفاء: إن المعتصم الملك كان في البلد التي جال فيها سر من رأى، وإنه رأى في منامه قائلا يقول له: إن سد يأجوج ومأجوج قد وقع، قال: فلما استيقظ شق عليه ذلك فأعد من جيشه خمسين فارسا، وأمَّر عليهم واحدا منهم، وأعطاه خمسة آلاف زيادة، وأعطاه من المال والطعام شيئا كثيرا؛ فخرجوا وغابوا عنه ثمانية وعشرين شهرا، فلما قدموا عليه أخبروا أنهم مشوا من أرض إلى أرض وهم يسألون ويلتمسون الدليل، ويخرجون كتب الملك إلى عمال البلاد فيمدونهم بالمال والطعام إلى أن وصلوا إلى بلاد خربة غير عامرة، فذكر لهم أن يأجوج ومأجوج كانوا أخربوها ثم وصلوا بعدها إلى مؤمنين فأخبروهم أن السد قريب منهم، وبلغوهم إليه فوجدوا له بابا شاهقا له قفل طوله عشرة أذرع وغلظه ذراعا ومفتاحه مغلق فوقه، وعادتهم يأتون إليه في يوم معين من أيام كل جمعة؛ فيضربون عليه بذلك المفتاح ضربا عنيفا ليشعروا يأجوج ومأجوج بعمارة تلك الجهة، فيسمعون عند ذلك لهم ضجيجا وصياحا يرتعش له النفوس، ووجد عند السد شيئا كثيرا من الأواني والقدور التي بلغته الغاية في كبر جرمها، وهي من بقايا ما كان ذو القرنين أذاب فيه النحاس والرصاص، وقالوا: إن بعض يأجوج ومأجوج علا في أعلى السد فسقط منهم اثنان أحياء فماتا.
قال ابن عرفة: وظاهر الحديث أن الدعوة بلغت يأجوج ومأجوج، لقوله: يدخل النار من يأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ويتبعون شخصا ومنكم شخص واحد.
قوله تعالى: (لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ).
هؤلاء يفهمون كلاما مع أن الكلام هو المفيد، والقول يطلق على المفيد وغيره؛ فالكلمة الواحدة قول وليست بكلام؛ فالقول يطلق على التصورات، والكلام يطلق على التصديقات، قال: والجواب أنهم إذا لم يفهموا القول المطلق على المطلق فأحرى أن لَا يفهموا الكلام.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ... (٩٤)﴾
مع أنهم لَا يفهمون القول، فكلفهم لهذا الكلام لغاية اضطرارهم إليه على عادة المريض أو العاجز عن الكلام، أنه لَا يتكلم إلا عند الحاجة الفادحة والضرورة التي لا بد له منها.
قوله تعالى: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا).
يؤخذ منه أن الإنسان إذا طلب من الملك حاجة يعلم أنه يقوم بها ولا يحتاج إلى معونته فيها فإنه يبدأ بنفسه ويعرض لها في الإعانة بها؛ فلذلك قالوا: (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا) مع علمهم بعدم افتقاره إلى ذلك لكثرة جنوده وماله.
قوله تعالى: ﴿فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ... (٩٥)﴾
مثل قوله تعالى: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا).
قوله تعالى: ﴿آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ... حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (٩٦)﴾
قرئ (آتُونِي) بمعنى أعطوني، وقرئ [(أتُونِي)] من الإتيان بمعنى المجيء؛ فزبر على هذا منصوبة بإسقاط حرف الجر؛ أي بزبر الحديد.
قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ
[قَالَ انْفُخُوا حَتَّى) *] غاية [والمغيى بها*] مقدر تقديره فآتوه ما طلب، وأخذ في بناء السد (حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا) فنفخوا حتى إذا جعله نارا، والمساواة إما بمعنى أنه صعد بالبناء حتى ساوى أعلى الجبلين في الارتفاع، وإما بمعنى أنه كان يبني بناء مساويا لعرض الصدفين؛ أي للجانب الذي ظهر يأجوج ومأجوج من الصدفين؛ فيصعد مثلا مقدار إقامة [ويوقد عليه*] حتى يصير نارا؛ فيفرغ عليه القطر ثم يبني فوقه بناء آخر مساويا لوجه الصدفين فيصعد به مثل ذلك؛ حتى علا به إلى أن ساوى أعلى الجبلين من غير زيادة عليهما ولا نقصان.
قوله تعالى: (حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا).
نسب الجعل إليه اعتناء به وإلا فليس في قدرته جعله نارا وإنما ذلك بفعل الله تعالى وهو مجاز؛ أي جعله ذا نار إلا أنه هو نفس النار، والنار لَا توجد إلا في شيء، قال تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا) ولم يقل: أنشأتموها.
قيل لابن عرفة: فالنار جسم أو عرض؟ فقال: جسم مجاور ما حل فيه إلا يمازجه.
قوله تعالى: ﴿فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (٩٧)﴾
عبر في الأول بالفعل وفي الثاني بالاسم، فهلا قيل: وما استطاعوا أن ينقبوه، أو يقال: فما استطاعوا له ظهورا؟ قال: فعادتهم يجيبون بأن الفعل عندنا مشتق من المصدر فدلالته على المعنى أظهر من دلالة المصدر؛ لأن المشتقات تدل منها على ما اشتقت منه وزيادة، فلما كانت دلالة الفعل على المعنى أظهر من دلالة المصدر عليه عبر به عن الظهور لتكون دلالته مناسبة للفظه، كما قيل: [صرصر البازي وصرصر العصفور*]، وعبر عن النقب بالاسم على الأصل؛ لأنه مفعول والأصل أن يكون مفردا، أو يحتمل أن يجاب بمراعاة رءوس الآي.
قيل لابن عرفة: أو يقال: إن الصعود عليه أصعب من نقبه فنفى بلفظ الفعل المقتضي لعموم عجزهم عن قليله فأحرى كثيره؛ فالنقب أخف، فنفى أشده لأنهم ذكروا أنهم ينقبون كل وقت ولا يتم لهم ذلك، ولما في حديث البخاري: " [فُتِحَ اليَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ» وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا*] "، وهي علامة على قرب الساعة، فإن قلت: لم حذفت التاء من اسطاعوا الأول، وثبتت في الثاني؟ فأجاب أبو جعفر الزبير بوجهين:
أحدهما: أن معمول الأول جملة، ومعمول الثاني مفرد والجملة أكثر حروفا من المفرد؛ فناسب حذف التاء من الأول دون الثاني (١).
الوجه الثاني: أن الظهور على السد أسهل من نقبه وأخف فناسب التخفيف بحذف التاء من عامله وهو اسطاعوا، كما قالوا في صرصر البازي؛ أي اللفظ فيه مناسب لمعناه.
قوله تعالى: ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨)﴾
قال ابن عرفة: هذا يدل على أنه كان عنده علم يتم بناء ويبقى صحيحا إلى أمد معلوم، وكان يجوز أن يكون ذلك على يديه.
(١) في المطبوع هكذا [لتعاد] وهي كلمة لا معنى لها، وكذلك فهي غير موجودة في ملاك التأويل لابن الزبير.
قوله تعالى: (وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا)
إن قلت: ما الفائدة فيه؟ فالجواب: إنه دليل على صحة ما يقولون من أن ذا القرنين كان عالما بقواعد المنطق؛ لأن هذا قياس شرطي استغنى فيه عن المقدم فينتج عين الثاني، فيقال: كلما جاء وعد ربي جعله دكاء، والمقدم حق فالثاني حق؛ أي وعد ربي حق فجعله دكاء حق؛ لأن ذا القرنين قرأ على أرسطاطاليس.
قيل لابن عرفة: وكان أرسطاطاليس فيلسوفا طبائعيا، وذو القرنين سني، فقال: وكذا إمام الحرمين سني وشيخة الجبائي معتزلي.
قوله تعالى: ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ... (٩٩)﴾
قال ابن عرفة: انظر هل يؤخذ منه أن الترك فعل؛ أي جعلنا بعضهم يموج في بعض؟
قيل لابن عرفة: إن الأصوليين ما جعلوا الترك إلا الكف عن الشيء؛ فكذلك سعوا إلى الله تعالى.
فقال ابن عرفة: بل أجازوا نسبته إليهم بدليل أنهم ألزموا من يقول به قدم العالم.
قوله تعالى: (إِنْ أُرِيدُ).
إن يأجوج ومأجوج فيكون التنوين عوضا عن الجملة في قوله تعالى: (فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) أي يوم عدم استطاعتهم، وتكون إذ على بابها ظرف زمان لما مضى حقيقة، أو أريد جميع فيكون التنوين عوضا من جملة مجيئها كذا الله تعالى وهو يوم القيامة، ويكون إذا ما ظرف زمان لما يستقبل، أو ماضيه في معنى المستقبل، مثل: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) ولذلك قرأتها بقوله (يَمُوجُ) وهو مستقبل.
قوله تعالى: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا).
التأكيد بالمصدر لتحقيق الجمع؛ إما في نفسه؛ فيكون تأكيد الجمع، أو باعتبار الزمان؛ فيكون تأسيسا، فأفاد الفعل جمع أجزائهم، وأفاد الثاني الإتيان بهم مجتمعين في زمن واحد للحساب؛ فهو على الأول مصدر مؤكد لنفسه، وعلى الثاني مؤكد لغيره.
قوله تعالى: ﴿وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (١٠٠)﴾
قال ابن عطية: يحتمل أن يكون هذا من باب القلب؛ أي عرضناهم على جهنم.
فرده ابن عرفة بأن القلب مجاز، والتأكيد يرفع المجاز، ولذلك احتجوا به في قوله تعالى: (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) على صحة وقوع الكلام من الله حقيقة، وإلا كان يقول: أنه من باب القلب (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا).
قوله تعالى: ﴿كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي... (١٠١)﴾
ظاهره عام في المؤمنين والكافرين؛ فلذلك أضاف الذكر إلى الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (١٠٢)﴾
إنما قال: الكافرين، ولم يقل: أعتدنا جهنم لهم؛ لاحتمال عود الضمير على لفظ عبادي وهم الملائكة.
قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (١٠٣)﴾
قال ابن عرفة: هذا استفهام حقيقة، كأنه يقول: هل نخبركم بالأخسرين أعمالا، إن سألتهم عنهم فهم الذين ضل سعيهم، وقال هنا (نُنَبِّئُكُم) بالنون.
وقال في [الشعراء
(هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (٢٢١) *].
وقال في سورة آل عمران (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ)، وقال: (وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) فعبر في هؤلاء بهمزة المتكلم وحده، وهما بنون من غيره لوضوح مدلول هذه وخفاء مدلول تلك الآيات، وتوقف صحتها على المعجزة، والمعنى ضل في الآخرة سعيهم في الدنيا؛ لأن كل ما عملوه يذهب عنهم ولا يجدونه فأشبه الضالة الذاهب، قال: وأسند الضلال للسعي والإحسان للصنع؛ لأن السعي أعم من الصنع، فناسب إسناده إلى الضلال؛ لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص، والضلال نفي والإحسان إثبات، فصار كقوله تعالى: (فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ).
قوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ... (١٠٥)﴾
قال ابن عرفة: يؤخذ منها أن جحد المعاد محبط للعمل، وأنه كفر، قيل له: إنما أحبط أعمالهم اتصافهم بالكفر وجحد المعاد معا، فقال: بل كل واحد من الأمرين كاف في ذلك بدليل أن مجرد الكفر كاف في إحباط العمل، وكذلك جحد المعاد.
قيل لابن عرفة: اقتضت الآية أن أعمالهم حبطت مجموع الأمرين، ودليل الدليل من خارج على أن مجرد الكفر محبط للعمل وليس من الآية، فقال: بل من الآية؛ لأن تعليق الحكم على الوصف المناسب يشعر بعلة ذلك الحكم للوصف.
قال الفخر: لَا يقال: من زنا وأكل الحلوى فاجلدوه؛ فدل على أن كل واحد من الوصفين على انفراده كافٍ في إحباط العمل.
قوله تعالى: (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا).
ظاهره أنه لَا يوزن أعمالهم السيئة إذ لها أثر مع الكفر، وظاهر قوله تعالى: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أنها توزن.
فقال ابن عرفة: لعل تلك في العصاة وخلودهم غير مؤبد، قيل له: بل ظاهرها التأبيد، فقال: أو تكون خفة الموازين مجازا عبارة عن عدم ما يجعل فيها فلذلك تخف.
قال ابن عطية، والزمخشري: أن ابن الكواء قال علي بن أبي طالب: من هم؟ فقال هم أهل حروراء وإننا منهم.
قال ابن عرفة: هذا إما تشديد عليه، وإما بناء بأن المعاصي محبطة للعمل، وكان ابن الكواء من المعتزلة.
قوله تعالى: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي... (١٠٩)﴾
اختلف الزمخشري، وابن عطية في سبب نزولها.
فقال ابن عطية: [سبب نزولها أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: كيف تزعم أنك نبي الأمم كلها، [ومبعوث إليها*]، وأنك أعطيت [ما يحتاجه*] النَّاس من العلم، [وأنت مقصر*] قد سئلت عن الروح ولم تجب فيه؛ فنزلت الآية معلمة [باتساع معلومات*] الله تعالى، وأنها [غير*] متناهية وعلم الله غير متناه، فلا يستغرب من النبي أن يقول: لَا علم لي بهذه المسألة، قال: وهذا مخالف لما قال اليهود في سؤالهم له عن الروح حيث سألوه عنه، فقالوا: إن أجابكم عنه فليس بنبي، وإن لم يجبكم عنه فهو نبي؛ المراد بالكلمات: إما علم الله القديم الأزلي ومعلوم الله تعالى من حيث تعلقه، والمتعلق بذاته هو العلم لا المعلوم.
قوله تعالى: (لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي).
كان بعضهم ينتقد على أبي سعيد قوله في المدونة: ويؤمر الجنب بالوضوء قبل الغسل، فإن اغتسل بعده أجزأه، ويقول: إنه ليس في المدونة. فإِن اغتسل بعده
أجزأه، بل قوله: فقبل الغسل يجزئ عنه، ؛ لأن قولك: جاء زيد قبل عمرو يقتضي مجيء عمرو، وكأن غيره لَا يقتضيه، لأنك تقول: [... ] زيد ابنه قبل أن يتزايد لابنه الولد، ولا يلزم منه أن يكون لابنه ولد، ويحتج عليه بآيات من القرآن منها هذه، وكان الآخر يجيب بأن هذه في سياق الشرط يتركب من المحال؛ لأن المحال يستلزم محالات؛ لأن كون البحر مدادا لكلمات الله ونفاذ كلمات الله محال.
قوله تعالى: (وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا).
وقال في لقمان (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ) فانظر أيهما أبلغ؟
قال ابن عرفة: كلاهما بليغ؛ لأنه ليس المراد نفس سبعة أبحر بل هو مبالغة، وكذلك هنا ليس المراد مثله فقط بل مثله ومثل مثله إلى ما لَا نهاية له.
وقوله تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ).
اعلم أن لو حرف امتناع، وينتفي منها عند الأصوليين الأول لانتفاء الثاني، وكذا عند المنطقيين خلافا للنحويين؛ بدليل قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ) فانتفت الآلهة لانتفاء الفناء.
لَوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ... (١١٠)
يؤخذ منه أن المماثلة بين الشيئين لَا ينافي اختصاص أحدهما بأمر دون الآخر، فالأنبياء عليهم السلام مماثلون لنا في الخلق في الأمور الذاتية، وإن اختصوا بأمر عرضي، ويؤخذ منه أن هداية نفوسهم مماثلة لغيرهم، فليست النبوة أمرًا مكتسبا بوجه؛ بل هي خصوصية ألحقهم الله بها من غير تطبع ولا اختلاف مجاز.
قوله تعالى: (يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ).
إن قلت: تغليب على المخاطب؛ فهلا قال: إنما إلهنا إله واحد، فالجواب: أنه موحد لله تعالى لَا يعتقد له شريكا، والآية حيث مخرج الرد عليهم. فناسب أن يقول (إِلَهُكُم) لأنهم يشركون به، والوحدة في الأمر الذاتي، والأمر الحكمي.
قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ).
ولم يقل: يرجو لقاء ربكم، ولذلك لم يقل: فاعملوا صالحا تهيئا لهم على العمل الصالح، والرجاء إما على بابه، أو بمعنى الخوف على جهاز المجاز.
Icon