تفسير سورة الزخرف

الكشاف أو تفسير الزمخشري
تفسير سورة سورة الزخرف من كتاب الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل المعروف بـالكشاف أو تفسير الزمخشري .
لمؤلفه الزمخشري . المتوفي سنة 538 هـ
مكية وقال مقاتل‏ :‏ إلا قوله ‏ " ‏ واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا ‏ " ‏ وهي تسع وثمانون آية

نزوله عليه، فما معنى قوله وَلَا الْإِيمانُ والأنبياء لا يجوز عليهم إذا عقلوا وتمكنوا من النظر والاستدلال أن يخطئهم الإيمان بالله وتوحيده، ويجب أن يكونوا معصومين من ارتكاب الكبائر ومن الصغائر التي فيها تنفير قبل المبعث وبعده، فكيف لا يعصمون من الكفر؟ قلت:
الإيمان اسم يتناول أشياء: بعضها الطريق إليه العقل، وبعضها الطريق إليه السمع، فعنى به ما الطريق إليه السمع دون العقل، وذاك ما كان له فيه علم حتى كسبه بالوحي. ألا ترى أنه قد فسر الإيمان في قوله تعالى وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ بالصلاة، لأنها بعض ما يتناوله الإيمان مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا من له لطف ومن لا لطف له، فلا هداية تجدى عليه صِراطِ اللَّهِ بدل. وقرئ: لتهدي، أى: يهديك الله. وقرئ: لتدعو.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قرأ حم عسق كان ممن تصلى عليه الملائكة ويستغفرون له ويسترحمون له» «١».
سورة الزخرف
مكية. وقال مقاتل: إلا قوله وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا وهي تسع وثمانون آية [نزلت بعد الشورى] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤)
أقسم بالكتاب المبين وهو القرآن وجعل قوله إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا جوابا للقسم «٢»
(١). أخرجه الثعلبي وابن مردويه باسنادهما إلى أبى بن كعب.
(٢). قال محمود: «أقسم بالكتاب المبين وجعل قوله إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا جوابا للقسم... الخ» قال أحمد: تنبيه حسن جدا. ووجه التناسب فيه أنه أقسم بالقرآن، وإنما يقسم بعظيم، ثم جعل المقسم عليه تعظيم القرآن بأنه قرآن عربى مرجو به أن يعقل به العالمون، أى: يتعقلوا آيات الله تعالى فكان جواب القسم مصححا للقسم، وكذلك أقسم أبو تمام بالثنايا، وإنما يقسم الشعراء بمثل هذا الاشعار بأنه في غاية الحسن، ثم جعل المقسم عليه كونها في نهاية الحسن، لا أنها هي أغريض، وهو من أحسن تشبيهات الثايا، فجعل المقسم عليه مصححا للقسم والله أعلم.
وهو من الأيمان الحسنة البديعة، لتناسب القسم والمقسم عليه، وكونهما من واد واحد. ونظيره قول أبى تمام:
وثناياك إنّها إغريض «١»
الْمُبِينِ البين للذين أنزل عليهم، لأنه بلغتهم وأساليبهم. وقيل: الواضح للمتدبرين.
وقيل الْمُبِينِ الذي أبان طرق الهدى من طرق الضلالة، وأبان ما تحتاج إليه الأمة في أبواب الديانة جَعَلْناهُ بمعنى صيرناه معدّى إلى مفعولين. أو بمعنى خلقناه معدّى إلى واحد، كقوله تعالى وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ. وقُرْآناً عَرَبِيًّا حال. ولعلّ: مستعار لمعنى الإرادة «٢»، لتلاحظ «٣» معناها ومعنى الترجي «٤»، أى: خلقناه عربيا غير عجمى: إرادة أن تعقله العرب، ولئلا يقولوا لولا فصلت آياته، وقرئ: أمّ الكتاب بالكسر وهو اللوح، كقوله تعالى بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ سمى بأم الكتاب، لأنه الأصل الذي أثبتت فيه الكتب منه تنقل وتستنسخ. على رفيع الشأن في الكتب، لكونه معجزا من بينها حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة، أى: منزلته عندنا منزلة كتاب هما صفتاه، وهو مثبت في أم الكتاب هكذا.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٥]
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥)
(١).
وثناياك إنها إغريض... ولآل نوار أرض وميض
وأقاح منور في بطاح... هزه في الصباح روض أريض
لأبى تمام. والاغريض: البرد. والطلع والنوار: كرمان نور الشجر، واحده نوارة. والوميض: شديد البريق واللمعان. والأقاح: نور أبيض طيب الرائحة. والأريض: طيب الأرض، فيكون نضرا بهيجا: أقسم بثناياها أى: مقدم أسنانها، إنها: أى ثناياها إغريض. فالقسم وجوابه متعلقان بشيء واحد، وشبههما بالبرد وبنوار الأرض الشبيه باللآلئ، فاضافتها إليه للتشبيه. ووميض: نعت مقطوع للنوار. أو تابع للاغريض، لكن الأول أجزل، وشبهه بالأقاح الذي نور في البطاح، لأنه أنضر وأزهى. وهزه في الصباح من صفة الأقاح «وخص الصباح ليكون على الزهر بقية من الندى، فيكون في غاية النضرة والزهو. وفيه إيماء لتشبيه قوام محبوبته بأغصان الروض في التمايل وظهور الزهور في أعلى كل منهما، ولك أن تجعل «وميض» صفة للآلئ، وإن كانت جمعا، لأن فعيل بمعنى فاعل قد يعامل معاملته فعيل بمعنى مفعول، فيطلق على الواحد والمتعدد مذكرا ومؤنثا. ويروى بدل الشطر الثاني: ولآل توم ورق وميض. والتوم: واحده تومة «وهي حبة تعمل من الفضة كالدرة، ولا إشكال في إعرابه.
(٢). قال محمود: «ولعل مستعار لمعنى الارادة»
«فسره بالارادة» قال أحمد: قد بينا فساد ذلك غير ما مرة.
(٣). قوله «لتلاحظ معناها» لعله: ليلاحظ. (ع)
(٤). قوله «ومعنى الترجي» لعله: أو معنى. (ع)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً بمعنى: أفننحى عنكم الذكر ونذوده عنكم على سبيل المجاز، من قولهم: ضرب الغرائب عن الحوض. ومنه قول الحجاج: ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل. وقال طرفة:
أضرب عنك الهموم طارقها ضربك بالسّيف قونس الفرس «١»
والفاء للعطف على محذوف، تقديره: أنهملكم فنضرب عنكم الذكر، إنكارا لأن يكون الأمر على خلاف ما قدّم من إنزاله الكتاب. وخلقه قرآنا عربيا، ليعقلوه ويعملوا بمواجبه. وصفحا على وجهين. إما مصدر من صفح عنه: إذا أعرض، منتصب على أنه مفعول له، على معنى:
أفنعزل عنكم إنزال القرآن وإلزام الحجة به إعراضا عنكم. وإمّا بمعنى الجانب من قولهم:
نظر إليه بصفح وجهه وصفح وجهه، على معنى: أفننحيه عنكم جانبا، فينتصب على الظرف كما تقول: ضعه جانبا، وامش جانبا. وتعضده قراءة من قرأ: صفحا بالضم. وفي هذه القراءة وجه آخر: وهو أن يكون تخفيف صفح جمع صفوح، وينتصب على الحال، أى: صافحين معرضين أَنْ كُنْتُمْ أى: لأن كنتم. وقرئ: إن كنتم، وإذ كنتم. فإن قلت: كيف استقام معنى إن الشرطية، وقد كانوا مسرفين على البتّ؟ قلت: هو من الشرط الذي ذكرت أنه يصدر عن المدل «٢» بصحة الأمر، المتحقق لثبوته، كما يقول الأجير: إن كنت عملت لك فوفني حقي، وهو عالم بذلك، ولكنه يخيل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحق: فعل من له شك في الاستحقاق، مع وضوحه استجهالا له.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦ الى ٨]
وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨)
وَما يَأْتِيهِمْ حكاية حال ماضية مستمرة، أى: كانوا على ذلك. وهذه تسلية لرسول الله ﷺ عن استهزاء قومه. الضمير في أَشَدَّ مِنْهُمْ للقوم المسرفين، لأنه صرف الخطاب عنهم إلى رسول الله ﷺ يخبره عنهم وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أى سلف في القرآن في غير موضع منه ذكر قصتهم وحالهم العجيبة التي حقها أن تسير مسير المثل، وهذا وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ووعيد لهم.
(١). تقدم شرح هذا الشاهد بهذا الجزء صفحة ٨٧ فراجعه إن شئت اه مصححه.
(٢). قوله «عن المدل» أى: المواثق. أفاده الصحاح. (ع)
.

[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٩ الى ١١]

وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١١)
فإن قلت: قوله لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ وما سرد من الأوصاف عقيبه إن كان من قولهم «١»، فما تصنع بقوله فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ وإن كان من قول الله، فما وجهه؟ قلت: هو من قول الله لا من قولهم. ومعنى قوله لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الذي من صفته كيت وكيت، لينسبنّ خلقها إلى الذي هذه أوصافه وليسندنه إليه. بِقَدَرٍ بمقدار يسلم معه البلاد والعباد، ولم يكن طوفانا.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٢ الى ١٤]
وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤)
والْأَزْواجَ الأصناف ما تَرْكَبُونَ أى تركبونه. فإن قلت: يقال: ركبوا الأنعام وركبوا في الفلك «٢». وقد ذكر الجنسين فكيف قال ما تركبونه؟ قلت: غلب المتعدّى بغير
(١). قال محمود: «فان قلت: قوله لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ وما سرد من الأوصاف عقبه إن كان من قولهم... الخ» قال أحمد: الذي يظهر أن الكلام مجزأ، فبعضه من قولهم، وبعضه من قول الله تعالى، فالذي هو من قولهم خَلَقَهُنَّ، وما بعده من قول الله عز وجل، وأصل الكلام أنهم قالوا: خلقهن الله ويدل عليه قوله في الآية الأخرى وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ثم لما قالوا: خلقهن الله وصف الله تعالى ذاته بهذه الصفات، ولما سبق الكلام كله سياقه وأخذه، حذف الموصوف من كلامهم، وأقيمت الصفات المذكورة في كلام الله تعالى مقامه كأنه كلام واحد. ونظير هذا أن تقول للرجل: من أكرمك من القوم؟ فيقول أكرمنى زيد، فتقول أنت واصفا للمذكور: الكريم الجواد الذي من صفته كذا وكذا، ثم لما وقع الانتقال من كلامهم إلى كلام الله عز وجل، جرى كلامه عز وجل على ما عرف من الافتنان في البلاغة، فجاء أوله على لفظ الغيبة وآخره على الانتقال منها، إلى التكلم في قوله فَأَنْشَرْنا كل ذلك افتنان في أفنان البلاغة. ومن هذا النمط قوله تعالى حكاية عن موسى قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فجاء أول الكلام حكاية عن موسى، إلى قوله وَلا يَنْسى ثم وقع الانتقال من كلام موسى إلى كلام الله تعالى، فوصف ذاته أوصافا متصلة بكلام موسى، حتى كأنه كلام واحد. وابتدأ في ذكر صفاته على لفظ الغيبة إلى قوله فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى فانظر إلى تحقيق التطبيق بين الآيتين تر العجب، والله الموفق.
(٢). قال محمود: «يقال ركبت الدابة وركبت في الفلك... الخ» قال أحمد: لم يحرر العبارة في هذا الموضع فان قوله «غلب المتعدي بغير واسطة على المتعدي بنفسه» يوهم أن بين الفعلين تباينا وليس كذلك، فان المتعدي إلى الأنعام هو عين الفعل المتعدي إلى السفن غاية ما، ثم إن العرب خصته باعتبار بعض مفاعيله بالواسطة، وباعتبار بعضها بالتعدي بنفسه، والاختلاف بالتعدي والقصور. أو باختلاف آلات التعدي.
وباختلاف أعداد المفاعيل لا يوجب الاختلاف في المعنى، فمن ثم يعدون الفعل الواحد مرة بنفسه ومرة بواسطة، مثل: سكرت وأخواته، ويعدون الأفعال المترادفة بآلات مختلفة، مثل دعوت وصليت، فإنك تقول: صلى النبي على آل أبى أوفى، ولو قلت: دعا على آل أبى أوفى: لأفهم عكس المقصود، ولكن دعا لآل أبى أوفى، ويعدون بعضها إلى مفعولين، ومرادفه إلى مفعول واحد، كعلم وعرف، فلا يترتب على الاختلاف بالتعدي.
والقصور: الاختلاف في المعنى، فالذي يحرر من هذا: أن ركب باعتبار القبيلين معناه واحد، وإن خص أحدهما باقتران الواسطة والآخر بسقوطها، فالصواب أحد الأمرين: إما تقدير المتعلقين على ما هما عليه لو انفردا، فيكون التقدير ما تركبونه وتركبون فيه، والأقرب تعليله باعتبار التعدي بنفسه، ويكون هذا من تغليب أحد اعتباري الفعل على الآخر، وهو أسهل من التغليب في قوله تعالى فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ على أحد التأويلين فيه: فان التباين ثم ثابت بين الفعلين من حيث المعنى، أعنى: أجمع على الأمر وجمع الشركاء، ولكن لما تقاربا: غلب أحدهما على الآخر، ثم جعل المغلب هو المتعدي بنفسه، والله أعلم.
238
واسطة، لقوّته على المتعدّى بواسطة، فقيل: تركبونه عَلى ظُهُورِهِ على ظهور ما تركبون وهو الفلك والأنعام. ومعنى ذكر نعمة الله عليهم: أن يذكروها في قلوبهم معترفين بها مستعظمين لها، ثم يحمدوا عليها بألسنتهم، وهو ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا وضع رجله في الركاب قال: «بسم الله» فإذا استوى على الدابة قال: «الحمد لله على كل حال، سبحان الذي سخر لنا هذا... إلى قوله... لمنقلبون» وكبر ثلاثا وهلل ثلاثا «١». وقالوا: إذا ركب «٢» في السفينة قال: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وعن الحسن بن على رضى الله عنهما أنه رأى رجلا يركب دابة فقال: سبحان الذي سخر لنا هذا. فقال: أبهذا أمرتم؟ فقال: وبم أمرنا؟ قال: أن تذكروا نعمة «٣» ربكم: كان قد أغفل التحميد فنبهه عليه. وهذا من حسن مراعاتهم لآداب الله ومحافظتهم على دقيقها وجليلها. جعلنا الله من المقتدين بهم، والسائرين بسيرتهم، فما أحسن بالعاقل النظر في لطائف الصناعات، فكيف بالنظر في لطائف الديانات؟ مُقْرِنِينَ مطيقين. يقال: أقرن الشيء، إذا أطاقه. قال ابن هرمة:
(١). أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم من حديث على. وأسنده الثعلبي باللفظ المذكور هنا. ولمسلم من طريق على الأرزى عن ابن عمر «أن رسول الله ﷺ كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا ثم قال: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا الآية.
(٢). لم أجده من فعله صلى الله عليه وسلم. وفي الطبراني من حديث الضحاك عن ابن عباس رفعه «أمان لأمتى من الغرق إذا ركبوا في الفلك أن يقولوا: بسم الله، وما قدروا الله حق قدره- الآية بسم الله مجريها ومرساها»
ورواه في الدعاء من حديث الحسن بن على رضى الله عنهما.
(٣). أخرجه الطبري والطبراني في الدعاء من طريق مجلس عن حسين بن على فذكره.
239
وأقرنت ما حمّلتنى ولقلّما يطاق احتمال الصّد يا دعد والهجر «١»
وحقيقة «أقرنه» : وجده قرينته وما يقرن به، لأنّ الصعب لا يكون قرينة للضعيف. ألا ترى إلى قولهم في الضعيف: لا يقرن به الصعبة. وقرئ: مقرنين، والمعنى واحد. فإن قلت: كيف اتصل بذلك قوله وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ؟ قلت: كم من راكب دابة عثرت به أو شمست أو تقحمت «٢» أو طاح من ظهرها فهلك، وكم من راكبين في سفينة انكسرت بهم فغرقوا، فلما كان الركوب مباشرة أمر مخطر، واتصالا بسبب من أسباب التلف: كان من حق الراكب وقد اتصل بسبب من أسباب التلف أن لا ينسى عند اتصاله به يومه، وأنه هالك لا محالة فمنقلب إلى الله غير منفلت من قضائه، ولا يدع ذكر ذلك بقلبه ولسانه حتى يكون مستعد اللقاء الله بإصلاحه من نفسه، والحذر من أن يكون ركوبه ذلك من أسباب موته في علم الله وهو غافل عنه، ويستعيذ بالله من مقام من يقول لقرنائه: تعالوا نتنزه على الخيل أو في بعض الزوارق، فيركبون حاملين مع أنفسهم أوانى الخمر والمعازف، فلا يزالون يسقون حتى تميل طلاهم «٣» وهم على ظهور الدواب، أو في بطون السفن وهي تجرى بهم، لا يذكرون إلا الشيطان، ولا يمتثلون إلا أوامره. وقد بلغني أنّ بعض السلاطين ركب وهو يشرب من بلد إلى بلد بينهما مسيرة شهر، فلم يصح إلا بعد ما اطمأنت به الدار، فلم يشعر بمسيره ولا أحس به، فكم بين فعل أولئك الراكبين وبين ما أمره الله به في هذه الآية. وقيل: يذكرون عند الركوب ركوب الجنازة.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٥ الى ١٨]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨)
(١). لابن هرمة «وأقرنت الشيء: إذا وجدته قرينا لك لا يزيد عنك، ثم استعمل في الاطاقة توسعا. ولقلما اللام للقسم. وقل: فعل. وما: كافة، ركبت معه فصار المراد منه النفي ولا فاعل له، وشبه المعقول من الصد والهجر بالمحسوس على طريق الكناية والحمل تخييل. يقول: أطقت ما حملتني إياه من صدك عنى وهجرك لي، والحال أنه لا يطاق احتمالهما. وفي الاعتراض بندائها: نوع استعطاف. [.....]
(٢). قوله «أو شمست أو تقحمت»
في الصحاح: شمس الفرس شموسا وشماسا: منع ظهره. وفيه «القحمة» بالضم: المهلكة. وقحم الطريق: مصاعبه اه، فتقحم الدابة براكبها: خوضها به في قحمته. (ع)
(٣). قوله «حتى تميل طلاهم» في الصحاح «الطلى» الأعناق. قال الأصمعي: واحدتها طلية. وقال أبو عمرو والفراء: واحدتها طلاة. (ع)
240
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً متصل بقوله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أى: ولئن سألتهم عن خالق السماوات والأرض ليعترفن به، وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزاء فوصفوه بصفات المخلوقين. ومعنى مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً أن قالوا الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزءا له وبعضا منه، كما يكون الولد بضعة من والده وجزءا له. ومن بدع التفاسير: تفسير الجزء بالإناث، وادعاء أنّ الجزء في لغة العرب: اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب، ووضع مستحدث منحول، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه: أجزأت المرأة، ثم صنعوا بيتا وبيتا:
إن أجزأت حرّة يوما فلا عجب «١»
زوجتها من بنات الأوس مجزئة «٢»
وقرئ: جزؤا، بضمتين لَكَفُورٌ مُبِينٌ لجحود للنعمة ظاهر جحوده، لأنّ نسبة الولد إليه كفر، والكفر أصل الكفران كله أَمِ اتَّخَذَ بل اتخذ، والهمزة للإنكار، تجهيلا لهم وتعجيبا من شأنهم، حيث لم يرضوا بأن جعلوا لله من عباده جزءا، حتى جعلوا ذلك الجزء شر الجزأين: وهو الإناث دون الذكور، على أنهم أنفر خلق الله عن الإناث وأمقتهم لهنّ، ولقد بلغ بهم المقت إلى أن وأدوهنّ، كأنه قيل: هبوا أنّ إضافة اتخاذ الولد إليه جائزة فرضا وتمثيلا، أما تستحيون من الشطط في القسمة؟ ومن ادعائكم «٣» أنه آثركم على نفسه بخير الجزأين
(١).
إن أجزأت حرة يوما فلا عجب قد تجزئ الحرة المذكار أحيانا
قيل: «الجزؤ» اسم للأنثى، واشتقوا منه: أجزأت المرأة، إذا ولدت جزءا: أى أنثى. وأنكره الزمخشري وقال إنه اصطناع لا لغة. والمعنى: إن ولدت امرأة حرة أنثى في بعض الأحيان فلا عجب، فان الحرة التي تلد الذكور كثيرا قد تلد أنثى في بعض الأوقات. وقيل: حرة الأولى اسم امرأة، والثانية صفة.
(٢).
زوجتها من بنات الأوس مجزئة للعوسج اللدن في أبيانها زجل
قيل: «المجزئة» التي تلد البنات. والجزؤ: البنت. وأنكره الزمخشري وقال: إنه مصنوع لا لغة. والعوسج:
ضرب من الشوك. والمراد به: عود المغزل المتخذ منه. واللدن: اللين. والزجل: صوت دوران المغزل.
ونحوه: وزوجتها، مبنى للمجهول. وروى: «نكحتها من بنات الأوس» هو أبو قبيلة سميت باسمه، تلد تلك المرأة البنات. وجعل العوسج لدنا، لأنه أكثر دويا ورنينا في دورانه.
(٣). قال محمود: «كأنه قيل: هبوا أن إضافة الولد إليه جائزة فرضا وتمثيلا، أما تستحيون من الشطط في القسمة؟ ومن ادعاء أنه آثركم على نفسه... الخ» قال أحمد: نحن معاشر أهل السنة نقول: إن كل شيء بمشيئة الله تعالى، حتى الضلالة والهدى: اتباعا لدليل العقل، وتصديقا لنص النقل في أمثال قوله تعالى يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وآية الزخرف هذه لا تزيد هذا المعتقد الصحيح إلا تمهيدا، ولا تفيده إلا تصويبا وتسديدا، فنقول: إذا قال الكافر: لو شاء الله ما كفرت، فهذه كلمة حق أراد بها باطلا. أما كونها كلمة حق فلما مهدناه. وأما كونه أراد بها باطلا، فمراد الكافر بذلك أن يكون له الحجة على الله، توهما أنه يلزم من مشيئة الله تعالى لضلالة من ضل: أن لا يعاقبه على ذلك، لأنه إنما فعل مقتضى مشيئته كما توهم القدرية إخوان الوثنية ذلك، فأشركوا بربهم، واعتقدوا أن الضلالة وقعت بمشيئة الخلق على خلاف مشيئة الخالق، فالذين أشركوا بالملائكة أرفع منهم درجة، لأن هؤلاء أشركوا أنفسهم الدنية في ملك ربهم المتوحد بالربانية جل وعلا، فإذا وضح ما قلناه فإنما رد الله عليهم مقالتهم هذه، لأنهم توهموا أنها حجة على الله، فدحض الله حجتهم، وأكذب أمنيتهم، وبين أن مقالتهم صادرة عن ظن كاذب وتخرص محض، فقال: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ وقد أفصحت أخت هذه الآية مع هذه الآية عن هذا التقدير، وذلك قوله تعالى في سورة الأنعام سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ فبين تعالى أن الحامل لهؤلاء على التكذيب بالرسل والاشراك بالله:
اغترارهم بأن لهم الحجة على الله بقولهم لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا فشبه تعالى حالهم في الاعتماد على هذا الخيال بحال أوائلهم، ثم بين أنه معتقد نشأ عن ظن خلب وخيال مكذب، فقال إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ثم لما أبطل أن يكون لهم في مقالتهم حجة على الله: أثبت تعالى الحجة له عليهم بقوله فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ثم أوضح أن الرد عليهم ليس إلا في احتجاجهم على الله بذلك، لا لأن المقالة في نفسها كذب فقال فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ وهو معنى قولهم لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا من حيث أن لو مقتضاها امتناع الهداية لامتناع المشيئة، فدلت الآية الأخيرة على أن الله تعالى لم يشأ هدايتهم، بل شاء ضلالتهم. ولو شاء هدايتهم لما ضلوا، فهذا هو الدين القويم والصراط المستقيم، والنور اللائح والمنهج الواضح. والذي يدحض به حجة هؤلاء مع اعتقاد أن الله تعالى شاء وقوع الضلالة منهم: هو أنه تعالى جعل للعبد تأتيا وتيسرا للهداية وغيرها من الأفعال الكسبية. حتى صارت الأفعال الصادرة منه مناط التكليف، لأنها اختيارية يفرق بالضرورة بينهما وبين العوارض القسرية، فهذه الآية أقامت الحجة، ووضحت لمن اصطفاه الله للمعتقدات الصحيحة الحجة، ولما كانت تفرقة دقيقة. لم تنتظم في ملك الأفهام الكثيفة، فلا جرم أن أفهامهم تبددت، وأفكارهم تبدلت، فغلت طائفة القدرية واعتقدت أن العبد فعال لما يريد على خلاف مشيئة ربه، وجارت الجبرية فاعتقدت أن لا قدرة للعبد البتة ولا اختيار، وأن جميع الأفعال صادرة منه على سبيل الاضطرار. أما أهل الحق فمنحهم الله من هدايته قسطا، وأرشدهم إلى الطريق الوسطى، فانتهجوا سبل السلام، وساروا ورائد التوفيق لهم إمام، مستضيئين بأنوار العقول المرشدة إلى أن جميع الكائنات بقدرة الله تعالى ومشيئته، ولم يغب عن أفهامهم أن يكون بعض الأفعال للعبد مقدورة، لما وجدوه من التفرقة بين الاختيارية والقسرية بالضرورة، لكنها قدرة تقارن بلا تأثير، وتميز بين الضروري والاختياري في التصوير، فهذا هو التحقيق، والله ولى التوفيق.
241
وأعلاهما وترك له شرهما وأدناهما؟ وتنكير بَناتٍ وتعريف بِالْبَنِينَ وتقديمهنّ في الذكر عليهم لما ذكرت في قوله تعالى يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ. بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا بالجنس الذي جعله له مثلا، أى: شبها لأنه إذا جعل الملائكة جزءا لله وبعضا منه، فقد جعله من جنسه ومماثلا له، لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد، يعنى: أنهم نسبوا إليه هذا الجنس. ومن حالهم أن أحدهم إذا قيل له: قد ولدت لك بنت اغتم واربدّ وجهه «١» غيظا وتأسفا وهو مملوء من الكرب. وعن بعض العرب: أن امرأته وضعت أنثى، فهجر البيت الذي فيه المرأة، فقالت:
(١). قوله «وأريد وجهه غيظا» تغير إلى الغبرة من الغضب. أفاده الصحاح. (ع)
242
ما لأبى حمزة لا يأتينا يظل في البيت الّذى يلينا
غضبان أن لا نلد البنينا ليس لنا من أمرنا ماشينا
وإنّما نأخذ ما أعطينا «١»
والظلول بمعنى الصيرورة، كما يستعمل أكثر الأفعال الناقصة بمعناها. وقرئ: مسودّ ومسوادّ، على أن في ظَلَّ ضمير المبشر، ووَجْهُهُ مُسْوَدًّا جملة واقعة موقع الخبر، ثم قال: أو يجعل للرحمن من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته. وهو أنه يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ أى يتربى في الزبنة والنعمة، وهو إذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم «٢» ومجاراة الرجال: كان غير مبين، ليس عنده بيان، ولا يأتى ببرهان يحتج به من يخاصمه، «٣» وذلك لضعف عقول النساء ونقصانهنّ عن فطرة الرجال، يقال: قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها.
وفيه. أنه جعل النشء في الزينة والنعومة من المعايب والمذام، وأنه من صفة ربات الحجال، فعلى الرجل أن يجتنب ذلك ويأنف منه، ويربأ بنفسه عنه، ويعيش كما قال عمر رضى لله عنه:
اخشوشنوا واخشوشبوا وتمعددوا «٤». وإن أراد أن يزين نفسه زينها من باطن بلباس التقوى، وقرئ: ينشأ، وينشأ، ويناشأ. ونظير المناشأة بمعنى الإنشاء: المغالاة بمعنى الإغلاء.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ١٩]
وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)
قد جمعوا في كفرة ثلاث كفرات. وذلك أنهم نسبوا إلى الله الولد، ونسبوا إليه أخس
(١).
ما لأبى حمزة لا يأتينا يظن في البيت الذي يلينا
غضبان أن لا تلد البنينا ليس لنا من أمرنا ماشينا
وإنما نأخذ ما أعطينا حكمة ربى ذى الجلال فينا
لامرأة ولدت أنثى، فهجر زوجها بيتها والاستفهام إنكارى. ويظل: استئناف، أى يصير دائما في البيت الذي يقرب منا، ولا يأوى إلى بيتنا. وغضبان: أى هو غضبان، فهو على تقدير الاستفهام. ويحتمل أنه إخبار، أى: هو غضبان من عدم ولادتنا البنين، ثم ترضته واستعطفته بقولها: ليس لنا من أمرنا ما نشاء، فخفف همزة شئنا القافية، ولا نأخذ إلا ما أعطانا الله إياه، لأن الأمر كله لله، تلك حكمته فينا معاشر الخلق.
(٢). قوله «إلى مجاثاة الخصوم» مفاعلة من «جثا يجثو» إذا برك على ركبتيه. أفاده الصحاح. (ع)
(٣). قوله «يحتج به من يخاصمه» لعله: على من يخاصمه. أو لعله: يحج به من يخاصمه، أى: يغلبه في الحجاج (ع)
(٤). أخرجه أبو عبيد في الغريب: حدثنا أبو بكر بن عياش عن عاصم بن أبى العدس الأسدى عن عمر رضى الله عنه أنه قال. ذكر هذا وزاد: واجعلوا الرأس رأسين- الحديث» موقوفا. ورواه ابن حبان من طريق أبى عثمان.
قال: أتانا كتاب عمر فذكر قصة فيها هذا.
النوعين وجعلوه من الملائكة الذين هم أكرم عباد الله على الله، «١» فاستخفوا بهم واحتقروهم.
وقرئ: عباد الرحمن، وعبيد الرحمن، وعبد الرحمن، وهو مثل لزلفاهم واختصاصهم. وإناثا، وأنثا: جمع الجمع. ومعنى جعلوا: سموا وقالوا إنهم إناث. وقرئ: أشهدوا وأشهدوا، بهمزتين مفتوحة ومضمومة. وآ أشهدوا بألف بينهما، وهذا تهكم بهم، بمعنى أنهم يقولون ذلك من غير أن يستند قولهم إلى علم، فإن الله لم يضطرهم إلى علم ذلك، ولا تطرّقوا إليه باستدلال، ولا أحاطوا به عن خبر يوجب العلم، فلم يبق إلا أن يشاهدوا خلقهم، فأخبروا عن هذه المشاهدة سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ التي شهدوا بها على الملائكة من أنوثتهم وَيُسْئَلُونَ وهذا وعيد.
وقرئ: سيكتب، وسنكتب: بالياء والنون. وشهادتهم، وشهاداتهم. ويساءلون، على: يفاعلون.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٢٠]
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠)
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ هما كفرتان أيضا مضمومتان إلى الكفرات الثلاث، وهما: عبادتهم الملائكة من دون الله، وزعمهم أن عبادتهم بمشيئة الله، كما يقول إخوانهم المجبرة «٢». فإن قلت: ما أنكرت على من يقول: قالوا ذلك على وجه الاستهزاء، ولو قالوه جادين لكانوا مؤمنين؟ قلت: لا دليل على أنهم قالوه مستهزئين، وادعاء ما لا دليل عليه باطل، على أن الله تعالى قد حكى عنه ذلك على سبيل الذم والشهادة بالكفر: أنهم جعلوا له من عباده جزءا، وأنه اتخذ بنات وأصفاهم بالبنين، وأنهم جعلوا الملائكة المكرمين إناثا، وأنهم عبدوهم وقالوا: لو شاء الرحمن ما عبدناهم، فلو كانوا ناطقين بها على طريق الهزء: لكان النطق بالمحكيات «٣» - قبل هذا المحكي الذي هو إيمان عنده لوجدّوا في النطق به- مدحا لهم، من قبل أنها كلمات كفر نطقوا بها على طريق الهزء، فبقى أن يكونوا جادين، وتشترك كلها في أنها كلمات كفر، فإن قالوا: نجعل هذا الأخير وحده مقولا على وجه الهزء دون ما قبله، فما بهم إلا تعويج
(١). قوله «هم أكرم عباد الله على الله» هذا عند المعتزلة. أما أهل السنة فبعض البشر أكرم عندهم من الملك. (ع)
(٢). قوله «المجبرة» يريد أهل السنة، حيث قالوا: إنه تعالى يريد الشر كالخير، لأنه لا يقع في ملكه إلا ما يريد، لكن هذا لا يستلزم الجبر ولا ينافي اختيار العبد، لما له في أفعاله من الكسب وإن كانت مخلوقة له تعالى في الحقيقة، بل الجبر إنما يكون لو كان العبد لا دخل له في أفعاله أصلا، كالريشة في الهواء، كما قالت المجبرة الحقيقية.
وإنما ذم الله تلك المقالة من الكفار لأنهم قالوها استهزاء وعنادا، لا إقرارا واعتقادا. والدليل على ذلك إجماع سلف الأمة على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. (ع)
(٣). قوله: «لكان النطق بالمحكيات... الخ» ممنوع، وكذا ما بعده، والمعتزلة قالوا: لا يريد الشر بناء على أن الارادة هي الأمر، وهو ممنوع، وعفا الله عن صاحب الكتاب في بذأة لسانه على أهل السنة، وجعلهم إخوان الكفار. (ع)
كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لتسوية مذهبهم الباطل. ولو كانت هذه كلمة حق نطقوا بها هزءا لم يكن لقوله تعالى ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ معنى، لأنّ من قال لا إله إلا الله على طريق الهزء: كان الواجب أن ينكر عليه استهزاؤه ولا يكذب، لأنه لا يجوز تكذيب الناطق بالحق جادّا كان أو هازئا. فإن قلت: ما قولك فيمن يفسر ما لهم- بقولهم: «١» إن الملائكة بنات الله- من علم إن هم إلا يخرصون في ذلك القول لا في تعليق عبادتهم بمشيئة الله؟ قلت: تمحل مبطل وتحريف مكابر. ونحوه قوله تعالى سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢)
الضمير في مِنْ قَبْلِهِ للقرآن أو الرسول. والمعنى: أنهم ألصقوا عبادة غير الله بمشيئة الله:
قولا قالوه غير مستند إلى علم، ثم قال: أم آتيناهم كتابا قبل هذا الكتاب نسبنا فيه الكفر والقبائح إلينا، فحصل لهم علم بذلك من جهة الوحى، فاستمسكوا بذلك الكتاب واحتجوا به.
بل لا حجة لهم يستمسكون بها إلا قولهم إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ على دين. وقرئ: على إمة، بالكسر، وكلتاهما من الأمّ وهو القصد، فالأمة: الطريقة التي تؤم، أى: تقصد، كالرحلة للمرحول إليه. والأمة: الخالة التي يكون عليها الآم وهو القاصد. وقيل: على نعمة وحالة حسنة عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ خبر إن. أو الظرف صلة لمهتدون.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٢٣]
وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣)
مُتْرَفُوها الذين أترفتهم النعمة، أى أبطرتهم فلا يحبون إلا الشهوات والملاهي، ويعافون مشاق الدين وتكاليفه.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥)
قرئ: قل، وقال، وجئتكم، وجئناكم، يعني، أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من
(١). قوله «ما قولك فيمن يفسر ما لهم بقولهم» لعله: «يفسر ما لهم بذلك بقوله ما لهم بقولهم... الخ» (ع) [.....]
دين آبائكم؟ قالوا: إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه، وإن جئتنا بما هو أهدى وأهدى.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (٢٦) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (٢٧) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٨)
قرئ: براء، بفتح الباء وضمها. وبريء، فبرىء وبراء، نحو كريم وكرام، «١» وبراء: مصدر كظماء، ولذلك استوى فيه الواحد والاثنان والجماعة، والمذكر والمؤنث. يقال: نحن البراء منك، والخلاء منك الَّذِي فَطَرَنِي فيه غير وجه: أن يكون منصوبا على أنه استثناء منقطع، كأنه قال: لكن الذي فطرني فإنه سيهدين، وأن يكون مجرورا بدلا من المجرور بمن، كأنه قال:
إننى براء مما تعبدون إلا من الذي فطرني. فإن قلت: كيف تجعله بدلا وليس من جنس ما يعبدون من وجهين، أحدهما: أن ذات الله مخالفة لجميع الذوات، فكانت مخالفة لذوات ما يعبدون.
والثاني، أن الله تعالى غير معبود بينهم والأوثان معبودة؟ قلت: قالوا: كانوا يعبدون الله مع أوثانهم، وأن تكون إِلَّا صفة بمعنى غير، على أن «ما» في ما تعبدون موصوفة، تقديره:
إننى براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني، فهو نظير قوله تعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا. فإن قلت: ما معنى قوله سَيَهْدِينِ على التسويف؟ قلت: قال مرة فَهُوَ يَهْدِينِ ومرّة فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ فاجمع بينهما وقدّر، كأنه قال. فهو يهدين وسيهدين، فيدلان على استمرار الهداية في الحال والاستقبال وَجَعَلَها وجعل إبراهيم صلوات الله عليه كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي قوله إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ في ذريته، فلا يزال فيهم من يوحد الله ويدعو إلى توحيده، لعل من أشرك منهم يرجع بدعاء من وحد منهم. ونحوه وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وقيل: وجعلها الله. وقرئ: كلمة على التخفيف وفي عقبه كذلك، وفي عاقبه، أى: فيمن عقبه، أى: خلفه.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٢٩]
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (٢٩)
بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ يعنى: أهل مكة، وهم من عقب إبراهيم بالمدّ في العمر والنعمة، فاغتروا بالمهلة، وشغلوا بالتنعم واتباع الشهوات وطاعة الشيطان عن كلمة التوحيد حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وهو القرآن وَرَسُولٌ مُبِينٌ الرسالة واضحها بما معه من الآيات البينة، فكذبوا به وسموه ساحرا وما جاء به سحرا ولم يوجد منهم ما رجاه إبراهيم. وقرئ: بل متعنا. فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ مَتَّعْتُ بفتح التاء؟ قلت: كأن الله تعالى اعترض على ذاته في قوله وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
(١). قوله «نحو كريم وكرام» في الصحاح. الكرام- بالضم-: مثل الكريم. (ع)
فقال: بل متعتهم بما متعتهم به من طول العمر والسعة في الرزق، حتى شغلهم ذلك عن كلمة التوحيد. وأراد بذلك الإطناب في تعييرهم، لأنه إذا متعهم بزيادة النعم وجب عليهم أن يجعلوا ذلك سببا في زيادة الشكر والثبات على التوحيد والإيمان، لا أن يشركوا به ويجعلوا له أندادا، فمثاله أن يشكو الرجل إساءة من أحسن إليه، ثم يقبل على نفسه فيقول. أنت السبب في ذلك بمعروفك وإحسانك، وغرضه بهذا الكلام توبيخ المسيء لا تقبيح فعله.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (٣٠) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (٣١)
فإن قلت: قد جعل مجيء الحق والرسول غاية التمتيع، ثم أردفه «١» قوله وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ فما طريقة هذا النظم ومؤداه؟ قلت: المراد بالتمتيع ما هو سبب له، وهو اشتغالهم بالاستمتاع عن التوحيد ومقتضياته، فقال: بل اشتغلوا عن التوحيد حتى جاءهم الحق ورسول مبين، فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها عن غفلتهم لاقتضائها التنبه، ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق فقال: ولما جاءهم الحق جاءوا بما هو شر من غفلتهم التي كانوا عليها: وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق، ومكابرة الرسول، ومعاداته، والاستخفاف بكتاب الله وشرائعه، والإصرار على أفعال الكفرة والاحتكام على حكمة الله في تخير محمد من أهل زمانه بقولهم لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ وهي الغاية في تشويه صورة أمرهم. قرئ على رجل، بسكون الجيم من القريتين: من إحدى القريتين، كقوله تعالى يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ أى من أحدهما. والقريتان: مكة والطائف. وقيل: من رجلي القريتين، وهما: الوليد بن المغيرة المخزومي وحبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، عن ابن عباس.
وعن مجاهد: عتبة بن ربيعة وكنانة بن عبد ياليل. وعن قتادة: الوليد بن المغيرة وعروة بن مسعود
(١). قال محمود: «فان قلت: قد جعل مجيء الحق والرسول غاية التمتيع، ثم أردفه... الخ» قال أحمد:
كلام نفيس لا مزيد عليه، إلا أن قوله: «خيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها» إطلاق ينبغي اجتنابه، والله أعلم وما أحسن مجيء الغاية على هذا النحو مجيء الاضراب في بعض التارات، فكما جاءت الغاية هنا- وليس المراد بها أن الفعل المذكور قبلها منقطع عندها على ما هو المفهوم منها، بل المراد استمراره وزيادته، فكأن تلك الحالة النافعة انتهت بوجود ما هو أكمل منها- كذلك الاضراب في مثل قوله تعالى بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ وهذه الاضرابات ليست على معنى أن الثاني منها رد للأول، بل ثانيها آكد من أولها، وجاء الاضراب مع التوافق والزيادة للاشعار بأن الثاني لما زاد على الأول صار باعتبار زيادته ونقصان الأول كأنهما شيئان متنافيان يضرب عن أولهما ويثبت آخرهما، ومثله كثير وبالله التوفيق.
الثقفي، وكان الوليد يقول: لو كان حقا ما يقول محمد لنزل هذا القرآن علىّ أو على أبى مسعود الثقفي، وأبو مسعود: كنية عروة بن مسعود ما زالوا ينكرون أن يبعث الله بشرا رسولا، فلما علموا بتكرير الله الحجج أن الرسل لم يكونوا إلا رجالا من أهل القرى، جاءوا بالإنكار من وجه آخر، وهو تحكمهم أن يكون أحد هذين، وقولهم: هذا القرآن ذكر له على وجه الاستهانة به، وأرادوا بعظم الرجل: رياسته وتقدّمه في الدنيا، وعزب عن عقولهم أن العظيم من كان عند الله عظيما.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٣٢]
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)
أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ هذه الهمزة للإنكار المستقل بالتجهيل والتعجيب من اعتراضهم وتحكمهم، وأن يكونوا هم المدبرين لأمر النبوّة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بها، والمتولين لقسمة رحمة الله التي لا يتولاها إلا هو بباهر قدرته وبالغ حكمته، ثم ضرب لهم مثلا فأعلم أنهم عاجزون عن تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم في دنياهم، وأنّ الله عزّ وعلا هو الذي قسم بينهم معيشتهم وقدرها ودبر أحوالهم تدبير العالم بها، فلم يسوّ بينهم ولكن فاوت بينهم في أسباب العيش، وغاير بين منازلهم فجعل منهم أقوياء وضعفاء وأغنياء ومحاويج وموالي وخدما، ليصرف بعضهم بعضا في حوائجهم ويستخدموهم في مهنهم ويتسخروهم في أشغالهم، حتى يتعايشوا ويترافدوا ويصلوا إلى منافعهم ويحصلوا على مرافقهم، ولو وكلهم إلى أنفسهم وولاهم تدبير أمرهم، لضاعوا وهلكوا. وإذا كانوا في تدبير المعيشة الدنية في الحياة الدنيا على هذه الصفة، فما ظنك بهم في تدبير أمور الدين الذي هو رحمة الله الكبرى ورأفته العظمى؟ وهو الطريق إلى حيازة حظوظ الآخرة والسلم إلى حلول دار السلام؟ ثم قال وَرَحْمَتُ رَبِّكَ يريد: وهذه الرحمة وهي دين الله وما يتبعه من الفوز في المآب: خير مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا. فان قلت: معيشتهم ما يعيشون به من المنافع «١»، ومنهم من يعيش بالحلال، ومنهم من يعيش بالحرام، فإذن قد قسم الله تعالى الحرام كما قسم الحلال. قلت: الله تعالى قسم لكل عبد معيشته وهي مطاعمه ومشاربه وما يصلحه من المنافع وأذن له في تناولها، ولكن شرط عليه
(١). قال محمود: «فان قلت: معيشتهم ما يعيشون به من المنافع... الخ» قال أحمد: قد تقدم أن الرزق عند أهل السنة يطلق على ما يقوم الله به حال العبد حلالا كان أو حراما، وهذه الآية معضدة، والزمخشري بنى على أصله وقد تقدم.
وكلفه أن يسلك في تناولها الطريق التي شرعها، فإذا سلكها فقد تناول قسمته من المعيشة حلالا، وسماها رزق الله، وإذا لم يسلكها تناولها حراما، وليس له أن يسميها رزق الله «١»، فالله تعالى قاسم المعايش والمنافع، ولكن العباد هم الذين يكسبونها صفة الحرمة بسوء تناولهم، وهو عدولهم فيه عما شرعه الله إلى ما لم يشرعه.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (٣٣) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (٣٤) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (٣٥)
لِبُيُوتِهِمْ بدل اشتمال من قوله لِمَنْ يَكْفُرُ ويجوز أن يكونا بمنزلة اللامين في قولك:
وهبت له ثوبا لقميصه. وقرئ: سقفا، بفتح السين وسكون القاف. وبضمها وسكون القاف وبضمها: جمع سقف، كرهن ورهن ورهن. وعن الفراء: جمع سقيفة وسقفا بفتحتين، كأنه لغة في سقف وسقوفا، ومعارج ومعاريج. والمعارج: جمع معرج، أو اسم جمع لمعراج: وهي المصاعد إلى العلالي عَلَيْها يَظْهَرُونَ أى على المعارج، يظهرون السطوح يعلونها، فما اسطاعوا أن يظهروه. وسررا، بفتح الراء لاستثقال الضمتين مع حرفى التضعيف لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ اللام هي الفارقة بين إن المخففة والنافية. وقرئ بكسر اللام، أى: الذي هو متاع الحياة، كقوله تعالى مَثَلًا ما بَعُوضَةً ولما بالتشديد بمعنى إلا، وإن نافية. وقرئ: إلا. وقرئ: وما كل ذلك إلا. لما قال خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ فقلل أمر الدنيا وصغرها: أردفه ما يقرّر قلة الدنيا عنده من قوله وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً أى: ولولا كراهة أن يجتمعوا على الكفر ويطبقوا عليه، لجعلنا لحقارة زهرة الحياة الدنيا «٢» عندنا للكفار سقوفا ومصاعد وأبوابا وسررا كلها
(١). قوله «وليس له أن يسميها رزق الله» هذا على مذهب المعتزلة. وأما عند أهل السنة فالرزق ما ينتفع به ولو حراما. والمصنف يريد أن الله لا ييسر الحرام، لأنه لا يفعل القبيح عند المعتزلة. ومذهب أهل السنة أن فاعل الكائنات كلها هو الله تعالى. (ع)
(٢). قال محمود: «معناه لولا كراهية أن يجتمعوا على الكفر لجعلنا للكفرة سقوفا من فضة أى لوسعنا عليهم الدنيا لحقارتها عندنا» قال أحمد: «لولا» هنا أخت «لولا» في قوله وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ... الآية تلك أن تصحح الكلام بتقدير كراهة ذلك بأن لا تقدر محذوفا كما قدمته، فيكون وجه الكلام هاهنا أن إجماعهم على الكفر مانع من بسط الدنيا. وهذا هو معنى لولا المطرد أن ما بعدها أبدا مانع من جوابها، ولكن قد يكون المانع موجودا تحقيقا فيمتنع الجواب بلا إشكال، كقوله تعالى فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ وهو الأكثر. وقد يكون وجوده تقديرا معه وعلى ذلك الآية، أى: لو وجد بسط الدنيا للكافر مقدرا، لوجد مانعه عندنا وهو الاجتماع على الكفر مقدرا معه، وكل ما أدى وجوده إلى وجود مانعه لا يوجد.
من فضة وزخرف، وجعلنا لهم زخرفا، أى: زينة من كل شيء. والزخرف: الزينة والذهب.
ويجوز أن يكون الأصل: سقفا من فضة وزخرف، يعنى: بعضها من فضة وبعضها من ذهب، فنصب عطفا على محل مِنْ فِضَّةٍ وفي معناه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو وزنت الدنيا عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء» «١» فإن قلت: فحين لم يوسع على الكافرين للفتنة التي كان يؤدّى إليها التوسعة عليهم من إطباق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها، فهلا وسع على المسلمين ليطبق الناس على الإسلام؟ قلت: التوسعة عليهم مفسدة أيضا لما تؤدى إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا، والدخول في الدين لأجل الدنيا من دين المنافقين «٢»، فكانت الحكمة فيما دبر: حيث جعل في الفريقين أغنياء وفقراء، وغلب الفقر على الغنى.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٣٦ الى ٣٩]
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٧) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (٣٨) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (٣٩)
قرئ: ومن يعش، بضم الشين وفتحها. والفرق بينهما أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل: عشى. وإذا نظر نظر العشى ولا آفة به قيل عشا. ونظيره: عرج، لمن به الآفة «٣».
(١). فيه عبد الحميد بن سليمان وتابعه زكريا بن منظور. وقال الترمذي: وفي الباب عن أبى هريرة، وحديثه عند البزار من حديث صالح مولى التوأمة عنه. ولفظه «ما أعطي كافرا منها شيئا» ورواه البيهقي في الشعب في الحادي والسبعين من رواية أبى معشر عن المقبري عنه وفي الباب عن ابن عباس. أخرجه أبو نعيم في الحلية. وفيه الحسن ابن عمارة وهو ضعيف جدا. وأخرجه القضاعي في مسند الشهاب من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر، بلفظ المصنف قال ابن طاهر: فيه على بن محمد بن أحمد بن أبى عوف عن أبى مصعب عنه، لا أصل له من حديث ملك
(٢). قال محمود: «فحين لم يوسع على الكافرين للفتنة التي كان يؤدى إليها التوسعة من الاطباق على الكفر» فهلا وسع على المسلمين ليطبق الناس على الايمان؟ وأجاب بأن التوسعة عليهم مفسدة أيضا لما يؤدى إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا، وذلك من دين المنافقين» قال أحمد: سؤال وجواب مبنيان على قاعدتين فاسدتين. إحداهما:
تعليل أفعال الله تعالى، والأخرى: أن الله تعالى أراد الإسلام من الخلق أجمعين. أما الأولى فقد أخرس الله السائل عنه بقوله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ وأما الثانية فقد كفى الله المؤمنين الجواب عنه فيه بقوله وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً.
(٣). قال محمود: «يقال عشى بصره بكسر الشين إذا أصابته الآفة... » قال أحمد: في هذه الآية نكتتان بديعتان، إحداهما: الدلالة على أن النكرة الواقعة في سياق الشرط تفيد العموم، وهي مسألة اضطرب فيها الأصوليون وإمام الحرمين من القائلين بافادتها العموم، حتى استدرك على الأئمة إطلاقهم القول بأن النكرة في سياق الإثبات تخص، وقال: إن الشرط يعم، والنكرة في سياقه تعم. وقد رد عليه الفقيه أبو الحسن على الأنبارى شارح كتابه ردا عنيفا. وفي هذه الآية للإمام ومن قال بقوله كفاية، وذلك أن الشيطان ذكر فيها منكرا في سياق شرط، ونحن نعلم أنه إنما أراد عموم الشياطين لا واحدا لوجهين، أحدهما: أنه قد ثبت أن لكل أحد شيطانا، فكيف بالعاشى عن ذكر الله، والآخر: يؤخذ من الآية: وهو أنه أعاد عليه الضمير مجموعا في قوله وَإِنَّهُمْ فانه عائد إلى الشيطان قولا واحدا «ولولا إفادته عموم الشمول لما جاز عود ضمير الجمع عليه بلا إشكال، فهذه نكتة تجد عند إسماعها لمخالفي هذا الرأى سكتة. والنكتة الثانية: أن في هذه الآية ردا على من زعم أن العود على معنى من يمنع من العود على لفظها بعد ذلك. واحتج المانع لذلك بأنه إجمال بعد تفسير، وهو خلاف المعهود من الفصاحة.
وقد نقض الكندي هذا بقوله تعالى وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً ونقض غيره بقوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ... الآية وكان جدي رحمه الله قد استخرج من هذه الآية بعض ذلك، لأنه أعاد على اللفظ في قوله: يَعْشُ ولَهُ مرتين، ثم على المعنى في قوله لَيَصُدُّونَهُمْ ثم على اللفظ بقوله حَتَّى إِذا جاءَنا وقد قدمت أن الذي منع ذلك قد يكون اقتصر بمنعه على مجيء ذلك في جملة واحدة وأما إذا تعددت الجمل واستفلت كل بنفسها فقد لا يمنع ذلك حتى رددت على الزمخشري في قوله تعالى لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً فان الجملة واحدة، فانظره في موضعه.
250
وعرج، لمن مشى مشية العرجان من غير عرج. قال الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره «١»
أى: تنظر إليها نظر العشىّ لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء. وهو بين في قوله حاتم:
أعشو إذا ما جارتى برزت... حتّى يوارى جارتى الخدر «٢»
(١).
كسوب ومتلاف إذا ما سألته... تهلل واهتز اهتزاز المهند
وذاك امرؤ إن يعطك اليوم نائلا... بكفيه لم يمنعك من نائل الغد
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره... تجد خير نار عندها خير موقد
للحطيئة، يقول: هو كثير الكسب وكثير الإتلاف، وبينهما طباق التضاد: إذا سألته أجابك بسرعة وطلاقة وجه وهو المراد بقوله: تهلل واهتز كاهتزاز السيف المطلق من حديد الهند، إذا أعطاك اليوم عطاء بكفيه معا كناية عن كثرة العطاء، وسألته في غد أعطاك أيضا. وعشى يعشى كرضى يرضى: إذا كان ببصره آفة. وعشى يعشو: إذا تعاشى بغير آفة. والمعنى: منى تأته على هيئة الأعشى- مجاز عن إظهار الفاقة- تجده أكرم الناس، عبر عنه بذلك على طريق الكناية.
(٢).
ناري ونار الجار واحدة... وإليه قبلي تنزل القدر
ما ضرني جار أجاوره... ألا يكون لبابه ستر
أعشو إذا ما جارتى برزت... حتى يوارى جارتى الخدر
لحاتم الطائي: وعشى يعشى كرضى يرضى: صار لا يبصر ليلا، وعشا يعشو كدعا يدعو: إذا نظر كنظر الأعشى.
يقول: إن ناري هي نار جارى، وتنزل قدرى إليه ليأكل منها قبلي أو ناري ونار جارى واحدة في الزمن والقوة ومع ذلك تنزل قدره إليه قبلي ليأكلها سريعا خوف اطلاع أحد عليه. لكن يبعد هذا أن المقام ليس لذم الجار بل للمدح. ثم هذا كناية عن شدة كرمه على غيره، ثم وصف نفسه بالعفة بقوله: ما ضرني جار من جيراني بمسبة ولا غيرها من أن لا يكون لبابه حجاب يستر أهله، فانى أتغافل وأغض بصرى إذا خرجت جارتى، حتى يسترها بينها. وأتى بالظاهر موضع المضمر ليفيد أنه ينبغي مراعاة حق الجوار. والاحتمال الأول أقعد، لأن معناه أنه يبره ويعف عن محارمه. وأما الثاني ففيه ذم جاره، وهو لا يلائم بعده.
251
وقرئ: يعشو، على أنّ من موصولة غير مضمنة معنى الشرط. وحق هذا القارئ أن يرفع نقيض. ومعنى القراءة بالفتح: ومن يعم عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ وهو القرآن، كقوله تعالى صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ وأما القراءة بالضم فمعناها: ومن يتعام عن ذكره، أى: يعرف أنه الحق وهو يتجاهل ويتغابى، كقوله تعالى وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ. نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً نخذله «١» ونخل بينه وبين الشياطين، كقوله تعالى وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ وقرئ: يقيض، أى: يقيض له الرحمن ويقيض له الشيطان. فإن قلت: لم جمع ضمير من وضمير الشيطان في قوله وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ؟ قلت: لأنّ مَنْ مبهم في جنس العاشى، وقد قيض له شيطان مبهم في جنسه، فلما جاز أن يتناولا لإبهامهما غير واحدين: جاز أن يرجع الضمير إليهما مجموعا حَتَّى إِذا جاءَنا العاشى. وقرئ: جاءانا، على أنّ الفعل له ولشيطانه. قالَ لشيطانه يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ يريد المشرق والمغرب، فغلب. كما قيل: العمران والقمران. فإن قلت: فما بعد المشرقين؟ قلت: تباعدهما، والأصل: بعد المشرق من المغرب، والمغرب من المشرق. فلما غلب وجمع المفترقين بالتثنية: أضاف البعد إليهما أَنَّكُمْ في محل الرفع على الفاعلية، يعنى: ولن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب كما ينفع الواقعين في الأمر الصعب اشتراكهم فيه، لتعاونهم في تحمل أعبائه وتقسمهم لشدّته وعنائه، وذلك أنّ كل واحد منكم به من العذاب ما لا تبلغه طاقته، ولك أن تجعل الفعل للتمني في قوله يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ على معنى: ولن ينفعكم اليوم ما أنتم فيه من تمنى مباعدة القرين. وقوله أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ تعليل، أى: لن ينفعكم تمنيكم، لأنّ حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه وهو الكفر. وتقوّيه قراءة من قرأ: إنكم بالكسر. وقيل: إذا رأى الممنوّ بشدّة «٢» من منى بمثلها: روّحه ذلك ونفس بعض كربه، وهو التأسى الذي ذكرته الخنساء:
(١). قوله «نقيض له شيطانا: نخذله» تأويله بذلك مبنى على أنه تعالى لا يفعل القبيح، وهو مذهب المعتزلة. وعند أهل السنة أنه فاعل الكائنات كلها، فالآيات على ظاهرها (ع)
(٢). قوله «إذا رأى الممنو بشدة» أى المبتلى. ومنى: أى ابتلى. أفاده الصحاح (ع)
252
أعزى النّفس عنه بالتّأسى «١»
فهؤلاء لا يؤسيهم اشتراكهم ولا يروّحهم، لعظم ما هم فيه. فإن قلت: ما معنى قوله تعالى إِذْ ظَلَمْتُمْ؟ قلت: معناه: إذ صح ظلمكم وتبين ولم يبق لكم ولا لأحد شبهة في أنكم كنتم ظالمين، وذلك يوم القيامة. وإذ: بدل من اليوم. ونظيره:
إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة «٢»
أى: تبين أنى ولد كريمة.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٤٠]
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٠)
كان رسول الله ﷺ يجد ويجتهد ويكدّ روحه في دعاء قومه، وهم لا يزيدون على دعائه إلا تصميما على الكفر وتماديا في الغىّ، فأنكر عليه بقوله أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ إنكار تعجيب من أن يكون هو الذي يقدر على هدايتهم، وأراد أنه لا يقدر على ذلك منهم إلا هو وحده على سبيل الإلجاء والقسر، كقوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤١ الى ٤٣]
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (٤٢) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٣)
(١).
يذكرني طلوع الشمس صخرا وأذكره بكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخى ولكن أعزى النفس عنه بالتأسى
للخنساء ترثى أخاها. وإسناد التذكير الطلوع: مجاز عقلى، لأنه سبب في تذكيرها إياه، وكذلك الغروب حيث كان ذهابه عند الأول وإيابه عند الثاني عادة. أو لأنه يذهب في الأول للغارات، ويجلس في الثاني مع الضيفان. أو لأن طلوعها يشبه طلعته، وغروبها: يشبه موته. وفيه نوع من البديع يسمى التنكيت: وهو الإتيان بلفظ يسد غيره مسده، لولا نكتة فيه ترجح اختصاصه بالذكر: لكان اختصاصه خطأ، كما في اختصاص الوقتين هنا. أفاده السيوطي في شرح عقود الجمان. وفيه أيضا نوع آخر يسمى الادماج: وهو أن يضمن كلام سيق لمعنى معنى آخر، كما ضمن الكلام المسوق هنا لمعنى الرثاء معنى المدح بالشجاعة والكرم. أو بحسن الطلعة. والباء في «بكل» سببيه.
ويحتمل أن الاسناد للأول من باب الاسناد للزمان، فتكون الباء في الثاني بمعنى «في» أو «مع» وذكر الشمس ثانيا في آخر المصراع الثاني من باب رد العجز على الصدر. وأعزى النفس: أسليها وأصبرها عنه بالتأسى، أى:
الاقتداء بغيري من أهل المصائب وفي اقتدائها بالباكين من الرجال: إشعار بتجلدها وعظم شأنها مثلهم. وروى «على أمواتهم» بدل: «على إخوانهم»، و «أسلى» بدل «أعزى».
(٢). مر شرح هذا الشاهد بالجزء الثالث صفحة ٤٠ فراجعه إن شئت اه مصححه. [.....]
«ما» في قوله فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ بمنزلة لام القسم: في أنها إذا دخلت دخلت معها النون المؤكدة، والمعنى: فإن قبضناك قبل أن ننصرك عليهم ونشفى صدور المؤمنين منهم فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أشد الانتقام في الآخرة، كقوله تعالى: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ وإن أردنا أن ننجز في حياتك ما وعدناهم من العذاب النازل بهم وهو يوم بدر، فهم تحت ملكتنا وقدرتنا لا يفوتوننا: وصفهم بشدة الشكيمة في الكفر والضلال ثم أتبعه شدة الوعيد بعذاب الدنيا والآخرة.
وقرئ: نرينك، بالنون الخفيفة. وقرئ: بالذي أوحى إليك، على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل والمعنى: وسواء عجلنا لك الظفر والغلبة أو أخرنا إلى اليوم الآخر. فكن مستمسكا بما أوحينا إليك وبالعمل به فإنه الصراط المستقيم الذي لا يحيد عنه إلا ضال شقى، وزد كل يوم صلابة في المحاماة على دين الله، ولا يخرجك الضجر بأمرهم إلى شيء من اللين والرخاوة في أمرك، ولكن كما يفعل الثابت «١» الذي لا ينشطه تعجيل ظفر، ولا يثبطه تأخيره.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (٤٤) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (٤٥)
وَإِنَّهُ وإنّ الذي أوحى إليك لَذِكْرٌ لشرف لَكَ وَلِقَوْمِكَ، وَلسوف تُسْئَلُونَ عنه يوم القيامة، وعن قيامكم بحقه، وعن تعظيمكم له، وشكركم على أن رزقتموه وخصصتم به من بين العالمين، ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال لإحالته، ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم، هل جاءت عبادة الأوثان قط في ملة من ملل الأنبياء؟ وكفاه نظرا وفحصا «٢» : نظره في كتاب الله المعجز المصدّق لما بين يديه، وإخبار الله فيه بأنهم يعبدون من دون الله ما لم ينزل به سلطانا. وهذه الآية في نفسها كافية لا حاجة إلى غيرها، والسؤال الواقع مجازا عن النظر، حيث لا يصح السؤال على الحقيقة: كثير منه مساءلة الشعراء الديار والرسوم والأطلال. وقول من قال: سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجنى ثمارك؟ فإنها إن لم تجبك حوارا «٣» أجابتك اعتبارا. وقيل له: إن النبي ﷺ جمع له الأنبياء ليلة الإسراء في بيت المقدس فأمّهم. وقيل له: سلهم، فلم يشكك ولم يسأل. وقيل: معناه سل أمم من أرسلنا وهم أهل الكتابين: التوراة والإنجيل. وعن
(١). قوله «ولكن كما يفعل الثابت» لعله: وكن. أو لعله: ولكن كن. (ع)
(٢). قال محمود: «سؤال الرسل مجاز عن الفحص في شرائعهم والنظر في مللهم... الخ» قال أحمد: ويشهد لارادة سؤال الأمم فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ والله أعلم.
(٣). قوله «تجبك حوارا» أى مخاطبة بالنطق. في الصحاح: استحاره، أى: استنطقه. (ع)
الفراء: هم إنما يخبرونه عن كتب الرسل، فإذا سألهم فكأنه سأل الأنبياء.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٦) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (٤٧)
ما أجابوه به عند قوله: إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ محذوف، دل عليه قوله: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا وهو مطالبتهم إياه بإحضار البينة على دعواه وإبراز الآية إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ أى يسخرون منها ويهزءون بها ويسمونها سحرا، وإذا للمفاجأة. فإن قلت: كيف جاز أن يجاب لما بإذا المفاجأة؟ قلت: لأنّ فعل المفاجأة معها مقدّر. وهو عامل النصب «١» في محلها، كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فاجئوا وقت ضحكهم.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٤٨]
وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤٨)
فإن قلت: إذا جاءتهم آية واحدة من جملة التسع فما أختها التي فضلت عليها في الكبر من بقية الآيات؟ قلت: أختها التي هي آية مثلها. وهذه صفة كل واحدة منها فكان المعنى على أنها أكبر من بقية الآيات على سبيل التفصيل والاستقراء واحدة بعد واحدة، كما تقول: هو أفضل رجل رأيته، تريد: تفضيله على أمة الرجال الذين رأيتهم إذا قروتهم رجلا رجلا «٢»، فإن قلت:
هو كلام متناقض، لأنّ معناه: ما من آية من التسع إلا هي أكبر من كل واحدة منها، فتكون واحدة منها فاضلة ومفضولة في حالة واحدة. قلت: الغرض بهذا الكلام أنهنّ موصوفات بالكبر، لا يكدن يتفاوتن فيه، وكذلك العادة في الأشياء التي تتلاقى في الفضل وتتفاوت منازلها فيه التفاوت اليسير أن تختلف آراء الناس في تفضيلها، فيفضل بعضهم هذا وبعضهم ذاك، فعلى ذلك بنى الناس كلامهم فقالوا: رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض، وربما اختلفت آراء الرجل
(١). قال محمود: «جازت فيه إجابة لما بإذا التي المفاجأة لأن فعل المفاجأة مقدر معها وهو العامل فيها النصب... الخ» قال أحمد: الظاهر في تسويغ هذا الإطلاق- والله أعلم: أن كل واحدة من هذه الآي إذا أفردتها بالفكر استغرقت عظمتها الفكر وبهرته، حتى يجزم أنها النهاية، وأن كل آية دونها. فإذا نقل الفكرة إلى أختها استوعيت أيضا فكره بعظمها، وذهل عن الأولى فجزم بأن هذه النهاية، وأن كل آية دونها. والحاصل أنه لا يقدر الفكر على أن يجمع بين آيتين منهما، ليتحقق عنده الفاضلة من المفضولة، بل مهما أفرده بالكفر جزم بأنه النهاية. وعلى هذا التقدير يجرى جميع ما يرد من أمثاله، والله أعلم.
(٢). قوله «إذا قروتهم رجلا رجلا» أى تتبعتهم. (ع)
255
الواحد فيها، فتارة يفضل هذا وتارة يفضل ذاك. ومنه بيت الحماسة:
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم الّتى يسرى بها السّارى «١»
وقد فاضلت الأنمارية بين الكملة من بنيها، ثم قالت: لما أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت.
ثكلتهم «٢» إن كنت أعلم أيهم أفضل، هم كالحلقة المفرّغة لا يدرى أين طرفاها لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى الإيمان «٣». فإن قلت لو أراد رجوعهم لكان. قلت: إرادته فعل غيره ليس إلا أن يأمره به «٤» ويطلب منه إيجاده، فإن كان ذلك على سبيل القسر وجد،
(١).
هينون لينون أيسار ذوو كرم سواس مكرمة أبناء أيسار
إن يسئلوا الخير يعطوه وإن جهدوا فالجهد يخرج منهم طيب أخبار
وإن توددتهم لانوا وإن شهموا كشفت أذمار شرّ غير أشرار
لا ينطقون عن الفحشا وإن نطقوا ولا يمارون من مارى بإكثار
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسرى بها الساري
لعبيد بن الأبرص. وقيل للعرندس. وهينون لينون: جمع هين ولين: تخفيف هين ولين بالتشديد، على فيعل.
وأيسار: جمع يسر، كقطب وأقطاب، وهو في الأصل ضد العسر، سمى به الرجل مبالغة، أو جمع يسرة كقصبة، وهي في الأصل: الخط في باطن الكف، أطلقت على الرجل إشعارا بالكرم. وسواس: جمع سائس، بمعنى مالك متصرف بالمصلحة، وبمعنى الولي المصلح، وجهده الطعام: إذا اشتاق إليه واشتهاه. وجهد الرجل فهو مجهود:
أصابه القحوط والمشقة. وقوله «فالجهد يخرج منهم» جواب الشرط. ويحتمل أنه استئناف مفرغ على ما قبله.
وإن جهدوا: جوابه دل عليه ما قبله. والشهامة: الخشونة، وشهمت الفرس حركته ليسرع. وأذمار شر: أى شجعان حرب: جمع ذمر ككبد، من ذمر الرجل: عبس وغضب. وذمر الأسد زأر بصوته، أى: إن حملتهم على الحرب أظهرت منهم شجعان حرب غير أشرار. وضمن النطق معنى الاخبار، فعداه بعن. ويجوز أنها بمعنى الباء.
والمماراة: الجدال. وبإكثار: متعلق بمارى، أو بيمارون. من تلقه منهم تقل فيه: لاقيت أشرفهم لتساويهم في الشرف، فهم مثل النجوم في التساوي في الشرف والاهتداء والاستضاءة بكل، فكما أن النجم يهتدى به المسافر، كذلك هم يهتدى بهم المختبط الطالب للمعروف أو المتحير في أمر معضل. ويروى بدل «وإن جهدوا... الخ» :
... وإن خبروا... في الجهد أدرك منهم طيب أخبار
أى: إن اختبروا علم كرمهم وحسن سيرتهم.
(٢). قوله «ثكلتهم» الثكل: فقدان المرأة ولدها. (ع)
(٣). قال محمود: «معناه إرادة أن يرجعوا عن الكفر إلى الايمان... الخ» قال أحمد: تقدم في غير موضع أن «لعل» حيثما وردت في سياق كلام الله تعالى فالمراد صرف الرجاء إلى المخلوقين، أى: ليكونوا بحيث يرجى منهم ذلك، هذا هو الحق. وعليه تأول سيبويه ما ورد. وأما الزمخشري فيحمل «لعل» على الارادة، لأنه.
لا يتحاشى مع اعتقاد أن الله يريد شيئا ويريد العبد خلافه، فيقع مراد العبد ولا يقع مراد الرب- تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا- فما أشنعها زلة وأبشعها خلة. ولقد أساء الأدب في هذا الموضع، حتى إنه لولا تعين الرد عليه لما جرى القلم ينقل ما هذى به وما اهتدى. وقد جرى على سنن أوائله في جعل حقيقة الأمر هو الارادة وأضاف إلى ذلك اعتقاد أن العبد يوجد فعله ويخلقه، وأن مراد العبد يقع، ومراد الرب لا يقع، فهذه ظلمات ثلاث بعضها فوق بعض، نعوذ بالله من هذه الغواية: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا.
(٤). قوله «ليس إلا أن يأمره به» هذا مذهب المعتزلة. أما مذهب أهل السنة: فإرادته غير الأمر، سواء كانت لفعل نفسه أو لفعل غيره، ولا يلزم تأويل الآية بالارادة، لجواز أن يكون معناها: ليكون حالهم عند الأخذ بالعذاب حال من يرجي رجوعهم. (ع)
256
وإلا دار بين أن يوجد وبين أن لا يوجد على حسب اختيار المكلف، وإنما لم يكن الرجوع لأنّ الإرادة لم تكن قسرا ولم يختاروه. والمراد بالعذاب: السنون، والطوفان، والجراد، وغير ذلك.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (٥٠)
وقرئ: يا أيه الساحر، بضم الهاء، وقد سبق وجهه. فإن قلت: كيف سموه بالساحر مع قولهم إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ؟ قلت: قولهم إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ: وعد منوي إخلافه، وعهد معزوم على نكثه، معلق بشرط أن يدعو لهم وينكشف عنهم العذاب. ألا ترى إلى قوله تعالى فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فما كانت تسميتهم إياه بالساحر بمنافية لقولهم: إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ وقيل: كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لاستعظامهم على السحر: بِما عَهِدَ عِنْدَكَ بعهده عندك: من أن دعوتك مستجابة. أو بعهده عندك وهو النبوّة. أو بما عهد عندك فوفيت به وهو الإيمان والطاعة. أو بما عهد عندك من كشف العذاب عمن اهتدى.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥١ الى ٥٣]
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (٥١) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (٥٢) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (٥٣)
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ جعلهم محلا لندائه وموقعا له. والمعنى: أنه أمر بالنداء في مجامعهم وأما كنهم من نادى فيها بذلك، فأسند النداء إليه، كقولك: قطع الأمير اللص، إذا أمر بقطعه. ويجوز أن يكون عنده عظماء القبط، فيرفع صوته بذلك فيما بينهم، ثم ينشر عنه في جموع القبط، فكأنه نودي به بينهم فقال أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ يعنى أنهار النيل ومعظمهما أربعة: نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تنيس: قيل: كانت تجرى تحت قصره. وقيل: تحت سريره لارتفاعه. وقيل: بين يدي في جناني وبساتينى. ويجوز أن تكون الواو عاطفة للأنهار على ملك مصر. وتجرى: نصب على الحال منها، وأن تكون الواو
للحال، واسم الإشارة مبتدأ، والأنهار صفة لاسم الإشارة، وتجرى خبر للمبتدإ وليت شعري كيف ارتقت إلى دعوة الربوبية همة من تعظم بملك مصر، وعجب الناس من مدى عظمته، وأمر فنودي بها في أسواق مصر وأزقتها، لئلا تخفى تلك الأبهة «١» والجلالة على صغير ولا كبير وحتى يتربع في صدور الدهماء مقدار عزته وملكوته. وعن الرشيد: أنه لما قرأها قال: لأولينها أخس عبيدي، فولاها الخصيب، وكان على وضوئه. وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها، فخرج إليها فلما شارفها ووقع عليها بصره قال: أهى القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال: أليس لي ملك مصر، والله لهى أقل عندي من أن أدخلها، فثنى عنانه أَمْ أَنَا خَيْرٌ أم هذه متصلة، لأنّ المعنى: أفلا تبصرون أم تبصرون، إلا أنه وضع قوله أَنَا خَيْرٌ موضع: تبصرون، لأنهم إذا قالوا له: أنت خير، فهم عنده بصراء، وهذا من إنزال السبب منزلة المسبب. ويجوز أن تكون منقطعة على: بل أأنا خير، والهمزة للتقرير، وذلك أنه قسم تعديد أسباب الفضل والتقدّم عليهم من ملك مصر وجرى الأنهار تحته، ونادى بذلك وملأ به مسامعهم، ثم قال: أنا خير كأنه يقول: أثبت عندكم واستقر أنى أنا خير وهذه حالى مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ أى ضعيف حقير. وقرئ: أما أنا خير وَلا يَكادُ يُبِينُ الكلام لما به من الرتة «٢»، يريد: أنه ليس معه من العدد وآلات الملك والسياسة ما يعتضد به، وهو في نفسه مخل بما ينعت به الرجال من اللسن والفصاحة، وكانت الأنبياء كلهم أبيناء «٣» بلغاء. وأراد بإلقاء الأسورة عليه:
إلقاء مقاليد الملك إليه، لأنهم كانوا إذا أرادوا تسويد الرجل سوّروه بسوار وطوّقوه بطوق من ذهب مُقْتَرِنِينَ إما مقترنين به من قولك: قرنته فاقترن «٤» به، وإما من: اقترنوا، بمعنى تقارنوا، لما وصف نفسه بالملك والعزة ووازن بينه وبين موسى صلوات الله عليه، فوصفه بالضعف وقلة الأعضاد اعترض فقال: هلا إن كان صادقا ملكه ربه وسوّده وسوّره، وجعل الملائكة أعضاده وأنصاره. وقرئ: أساور جمع أسورة، وأساوير جمع أسوار وهو السوار، وأساورة على تعويض التاء من ياء أساوير. وقرئ: ألقى عليه أسورة وأساور، على البناء للفاعل، وهو الله عز وجل.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٥٤]
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٥٤)
(١). قوله «تلك الأبهة» كسكرة، كذا بهامش الصحاح. وفي الصحاح: «دهماء الناس» : جماعتهم. (ع)
(٢). قوله «لما به من الرتة» بالضم: العجمة في الكلام، كذا في الصحاح. (ع)
(٣). قوله «وكانت الأنبياء كلهم أبيناء» في الصحاح: بان الشيء بيانا: اتضح، فهو بين، والجمع أبيناه، مثل هين وأهيناء. (ع)
(٤). قوله «قرنته فاقترن به» لعله قرنته به فاقترن (ع)
فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فاستفزهم. وحقيقته: حملهم على أن يخفوا له ولما أراد منهم، وكذلك:
استفز، من قولهم للخفيف: فز.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (٥٦)
آسَفُونا منقول من أسف أسفا إذا اشتد غضبه. ومنه الحديث في موت الفجأة: رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر «١». ومعناه: أنهم أفرطوا في المعاصي وعدوا طورهم، فاستوجبوا أن نعجل لهم عذابنا وانتقامنا، وأن لا نحلم عنهم. وقرئ: سلفا جمع سالف، كخادم وخدم.
وسلفا- بضمتين- جمع سليف، أى: فريق قد سلف. وسلفا: جمع سلفة، أى: ثلة قد سلفت.
ومعناه: فجعلناهم قدوة للآخرين من الكفار، يقتدون بهم في استحقاق مثل عقابهم ونزوله بهم، لإتيانهم بمثل أفعالهم، وحديثا عجيب الشأن سائرا مسير المثل، يحدثون به ويقال لهم: مثلكم مثل قوم فرعون.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٥٧ الى ٥٩]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (٥٧) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩)
لما قرأ رسول الله ﷺ على قريش إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ امتعضوا «٢» من ذلك امتعاضا شديدا، فقال عبد الله بن الزبعرى: يا محمد، أخاصة لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه السلام: هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم، فقال: خصمتك ورب الكعبة، ألست تزعم أنّ عيسى ابن مريم نبىّ وتثني عليه خيرا وعلى أمه، وقد علمت أنّ النصارى يعبدونهما. وعزير يعبد. والملائكة يعبدون، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، ففرحوا وضحكوا، وسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى ونزلت هذه الآية «٣». والمعنى: ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلا، وجادل رسول الله ﷺ بعبادة النصارى إياه إِذا قَوْمُكَ
(١). تقدم في طه. [.....]
(٢). قوله «امتعضوا من ذلك» غضبوا منه وشق عليهم، كذا في الصحاح. (ع)
(٣). تقدم في أواخر الأنبياء.
259
قريش من هذا المثل يَصِدُّونَ ترتفع لهم جلبة وضجيج «١» فرحا وجزلا وضحكا بما سمعوا منه من إسكات رسول الله ﷺ بجدله، كما يرتفع لغط القوم ولجبهم إذا تعيوا بحجة ثم فتحت عليهم. وأمّا من قرأ: يصدّون- بالضم- فمن الصدود، أى: من أجل هذا المثل يصدّون عن الحق ويعرضون عنه. وقيل: من الصديد وهو الجلبة، وأنهما لغتان نحو: يعكف ويعكف ونظائر لهما وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ يعنون أنّ آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى، وإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا هينا ما ضَرَبُوهُ أى ما ضربوا هذا المثل لَكَ إِلَّا جَدَلًا إلا لأجل الجدل والغلبة في القول، لا لطلب الميز بين الحق والباطل بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ لدّ شداد الخصومة دأبهم اللجاج، كقوله تعالى قَوْماً لُدًّا وذلك أنّ قوله تعالى إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما أريد به إلا الأصنام، وكذلك قوله عليه السلام: «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم» إنما قصد به الأصنام، ومحال أن يقصد به الأنبياء والملائكة، إلا أن ابن الزبعرى بخبه وخداعه وخبث دخلته «٢»، لما رأى كلام الله ورسوله محتملا لفظه وجه العموم، مع علمه بأنّ المراد به أصنامهم لا غير، وجد للحيلة مساغا، فصرف معناه إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله، على طريقة المحك والجدال «٣» وحب المغالبة والمكابرة، وتوقح في ذلك فتوقر رسول الله ﷺ حتى أجاب عنه ربه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى فدل به على أنّ الآية خاصة في الأصنام، على أنّ الظاهر قوله وَما تَعْبُدُونَ لغير العقلاء. وقيل: لما سمعوا قوله تعالى إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ قالوا.
نحن أهدى من النصارى، لأنهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة، فنزلت. وقوله أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ على هذا القول: تفضيل لآلهتهم على عيسى، لأنّ المراد بهم الملائكة وما ضربوه لك إلا جدلا. معناه: وما قالوا هذا القول، يعنى: ء آلهتنا خير أم هو. إلا للجدال، وقرئ:
أآلهتنا خير، بإثبات همزة الاستفهام وبإسقاطها، لدلالة أم العديلة عليها. وفي حرف ابن مسعود: خير أم هذا. ويجوز أن يكون جدلا حالا، أى: جدلين. وقيل: لما نزلت إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ قالوا: ما يريد محمد بهذا إلا أن نعبده وأنه يستأهل أن يعبد وإن كان بشرا، كما عبدت النصارى المسيح وهو بشر. ومعنى يَصِدُّونَ يضجون ويضجرون. والضمير في أَمْ هُوَ لمحمد صلى الله عليه وسلم، وغرضهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم: السخرية به والاستهزاء.
ويجوز أن يقولوا- لما أنكر عليهم قولهم: الملائكة بنات الله وعبدوهم- ما قلنا بدعا من القول،
(١). قوله «ترتفع لهم جلبة وضجيج» أى صياح وكذا اللجب. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). قوله «وخبث دخلته» بالضم: باطن أمره. أفاده الصحاح، (ع)
(٣). قوله «على طريقة المحك» أى: اللجاج، كما في الصحاح. (ع)
260
ولا فعلنا نكرا من الفعل، فإنّ النصارى جعلوا المسيح ابن الله وعبدوه، ونحن أشف «١» منهم قولا وفعلا، فإنا نسبنا إليه الملائكة وهم نسبوا إليه الأناسى، فقيل لهم: مذهب النصارى شرك بالله، ومذهبكم شرك مثله، وما تنصلكم مما أنتم عليه بما أوردتموه إلا قياس باطل بباطل، وما عيسى إِلَّا عَبْدٌ كسائر العبيد أَنْعَمْنا عَلَيْهِ حيث جعلناه آية: بأن خلقناه من غير سبب، كما خلقنا آدم وشرفناه بالنبوّة وصيرناه عبرة عجيبة كالمثل السائر لبنى إسرائيل.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٦٠]
وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠)
وَلَوْ نَشاءُ لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر لَجَعَلْنا مِنْكُمْ لولدنا منكم يا رجال مَلائِكَةً يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم، كما ولدنا عيسى من أنثى من غير فحل، لتعرفوا تميزنا بالقدرة الباهرة، ولتعلموا أن الملائكة أجسام لا تتولد إلا من أجسام، وذات القديم متعالية عن ذلك.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٦١]
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦١)
وَإِنَّهُ وإن عيسى عليه السلام لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أى شرط من أشراطها تعلم به، فسمى الشرط علما لحصول العلم به. وقرأ ابن عباس: لعلم، وهو العلامة. وقرئ: للعلم. وقرأ:
أبىّ: لذكر، على تسمية ما يذكر به ذكرا، كما سمى ما يعلم به علما. وفي الحديث: أن عيسى عليه الصلاة والسلام ينزل على ثنية بالأرض المقدّسة: يقال لها أفيق وعليه ممصرتان، وشعر رأسه دهين، وبيده حربة، وبها يقتل الدجال، فيأتى بيت المقدس والناس في صلاة الصبح والإمام يؤم بهم، فيتأخر الإمام فيقدمه عيسى ويصلى خلفه على شريعة محمد عليه الصلاة والسلام، ثم يقتل الخنازير ويكسر الصليب، ويخرب البيع والكنائس، ويقتل النصارى إلا من آمن «٢» به.
وعن الحسن: أن الضمير للقرآن، وأن القرآن به تعلم الساعة، لأن فيه الإعلان بها فَلا تَمْتَرُنَّ بِها من المرية وهي الشك وَاتَّبِعُونِ واتبعوا هداي وشرعي. أو رسولي. وقيل: هذا أمر لرسول الله أن يقوله هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ أى هذا الذي أدعوكم إليه. أو هذا القرآن إن جعل الضمير في وَإِنَّهُ للقرآن.
(١). قوله «ونحن أشف منهم» أى: أرق. أفاده الصحاح. (ع)
(٢). أخرجه الثعلبي بغير سند. وهو موجود في أحاديث متفرقة. فقوله «ثنية أفيق» عند الحاكم من حديث عثمان بن أبى العاص. وقوله «وعليه ممصرتان» عند أحمد والحاكم من حديث أبى هريرة. وقوله والناس في صلاة الصبح، عند ابن ماجة من حديث أبى أسامة. وقوله «فيقتل الخنزير ويكسر الصليب» في الصحيح من حديث أبى هريرة.

[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٦٢]

وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٦٢)
عَدُوٌّ مُبِينٌ قد بانت عداوته لكم «١» : إذ أخرج أباكم من الجنة ونزع عنه لباس النور.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦٣ الى ٦٥]
وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٦٣) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٦٤) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (٦٥)
بِالْبَيِّناتِ المعجزات. أو بآيات الإنجيل والشرائع البينات الواضحات بِالْحِكْمَةِ يعنى الإنجيل والشرائع. فإن قلت: هلا بين لهم كل الذي يختلفون فيه ولكن بعضه؟ قلت: كانوا يختلفون في الديانات وما يتعلق بالتكليف وفيما سوى ذلك مما لم يتعبدوا بمعرفته والسؤال عنه، وإنما بعث ليبين لهم ما اختلفوا فيه مما يعنيهم من أمر دينهم الْأَحْزابُ الفرق المتحزبة بعد عيسى وقيل: اليهود والنصارى فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا وعيد للأحزاب. فإن قلت: مِنْ بَيْنِهِمْ إلى من يرجع الضمير فيه؟ قلت: إلى الذين خاطبهم عيسى في قوله قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وهم قومه المبعوث إليهم.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٦٦ الى ٧٣]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٦٦) الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣)
(١). قوله «قد بانت عداوته لكم» في الصحاح «بان الشيء بيانا» : اتضح فهو بين، كذلك أيان فهو مبين. (ع)
أَنْ تَأْتِيَهُمْ بدل من الساعة. والمعنى: هل ينظرون إلا إتيان الساعة. فإن قلت: أما أدى قوله بَغْتَةً مؤدّى قوله وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فيستغنى عنه؟ قلت: لا، لأنّ معنى قوله تعالى وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ: وهم غافلون لاشتغالهم بأمور دنياهم، كقوله تعالى تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ويجوز أن تأتيهم بغتة وهم فطنون يَوْمَئِذٍ منصوب بعدوّ، أى: تنقطع في ذلك اليوم كل خلة بين المتخالين في غير ذات الله، وتنقلب عداوة ومقتا، إلا خلة المتصادقين في الله، فإنها الخلة الباقية المزدادة قوّة إذا رأوا ثواب التحاب في الله تعالى والتباغض في الله. وقيل إِلَّا الْمُتَّقِينَ إلا المجتنبين أخلاء السوء. وقيل: نزلت في أبىّ بن خلف وعقبة ابن أبى معيط يا عِبادِ حكاية لما ينادى به المتقون المتحابون في الله يومئذ، والَّذِينَ آمَنُوا منصوب المحل صفة لعبادي، لأنه منادى مضاف، أى: الذين صدّقوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ مخلصين وجوههم لنا، جاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا. وقيل: إذا بعث الله الناس فزع كل أحد، فينادى مناد: يا عبادي فيرجوها الناس كلهم، ثم يتبعها الذين آمنوا فييأس الناس منها غير المسلمين.
وقرئ: يا عباد تُحْبَرُونَ تسرون سرورا يظهر حباره- أى: أثره- على وجوهكم، كقوله تعالى تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ وقال الزجاج: تكرمون إكراما يبالغ فيه. والحبرة:
المبالغة فيما وصف بجميل. والكوب: الكوز لا عروة له وَفِيها الضمير للجنة. وقرئ تشتهي وتشتهيه. وهذا حصر لأنواع النعم، لأنها إما مشتهاة في القلوب، وإما مستلذة في العيون.
وَتِلْكَ إشارة إلى الجنة المذكورة. وهي مبتدأ، والْجَنَّةُ خبر. والَّتِي أُورِثْتُمُوها صفة الجنة. أو الجنة صفة للمبتدإ الذي هو اسم الإشارة. والتي أورثتموها: خبر المبتدإ. أو التي أورثتموها: صفة، وبِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ الخبر، والباء تتعلق بمحذوف كما في الظروف التي تقع أخبار. وفي الوجه الأول تتعلق بأورثتموها. وشبهت في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة. وقرئ: ورّثتموها مِنْها تَأْكُلُونَ من للتبعيض، أى: لا تأكلون إلا بعضها، وأعقابها باقية في شجرها، فهي مزينة بالثمار أبدا موقرة بها، لا ترى شجرة عريانة من ثمرها كما في الدنيا. وعن النبي ﷺ «لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها «١» إلا نبت مكانها مثلاها «٢»
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٧٤ الى ٧٨]
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (٧٤) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (٧٥) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (٧٧) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٨)
(١). قوله «من ثمرها إلا نبت مكانها» في الخازن: ورد في الحديث «أنه لا ينزع أحد في الجنة من ثمرها ثمرة إلا نبت مكانها مثلاها». (ع)
(٢). أخرجه البزار عن ثوبان. وقد تقدم في البقرة.
263
لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ لا يخفف ولا ينقص، من قولهم: فترت عنه الحمى إذا سكنت عنه قليلا ونقص حرّها. والمبلس: اليائس الساكت سكوت يأس من فرج. وعن الضحاك: يجعل المجرم في تابوت من نار ثم يردم عليه فيبقى فيه خالدا: لا يرى ولا يرى هُمْ فصل عند البصريين، عماد عند الكوفيين. وقرئ: وهم فيها، أى: في النار «١» وقرأ على وابن مسعود رضى الله عنهما: يا مال، بحذف الكاف للترخيم، كقول القائل:
والحق يا مال غير ما تصف «٢»
وقيل لابن عباس: إن ابن مسعود قرأ: ونادوا يا مال، فقال: ما أشغل أهل النار عن الترخيم «٣».
وعن بعضهم: حسن الترخيم أنهم يقتطعون بعض الاسم لضعفهم وعظم ما هم فيه. وقرأ أبو السرار الغنوي: يا مال، بالرفع كما يقال: يا حار «٤» لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ من قضى عليه إذا أمانه فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ والمعنى: سل ربك أن يقضى علينا. فإن قلت: كيف قال وَنادَوْا يا مالِكُ بعد ما وصفهم بالإبلاس؟ قلت: تلك أزمنة متطاولة وأحقاب ممتدة، فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم، وعلمهم أنه لا فرج لهم، ويغوّثون «٥» أوقاتا لشدّة ما بهم ماكِثُونَ لابثون. وفيه استهزاء. والمراد: خالدون. عن ابن عباس رضى الله عنهما: إنما يجيبهم بعد ألف سنة «٦». وعن النبي ﷺ «يلقى على أهل
(١). قوله «وقرئ وَهُمْ فِيهِ أى في النار» لعل تأخير الكلام على هذه القراءة عن الكلام على الضمير السابق من تصرف الناسخ. لأنه مخالف لترتيب التلاوة. (ع)
(٢).
يحيى رفات العظام بالية والحق يا مال غير ما تصف
أى: يحيى الله المتفتت من العظام حال كونها بالية، يقال: رفته رفتا، إذا فتته. والرفات: اسم منه كالفتات، قال: والحق غير ما تذكره يا مالك، فرخمه بحذف الكاف، كأنه كان أخبره بموت أحد ثم ظهرت حياته.
(٣). لم أجده بإسناد. وفي البخاري عن يعلى بن أمية «أنه سمع النبي ﷺ يقرؤها كذلك».
(٤). قوله «كما يقال يا حار» في نداء حارث. (ع) [.....]
(٥). قوله «ويغوثون» في الصحاح «غوث الرجل» : قال وا غوثاه. (ع)
(٦). أخرجه الحاكم من رواية سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله وَنادَوْا يا مالِكُ قال: مكث عنهم ألف سنة ثم يقول: إنكم ماكثون، وروى الترمذي من رواية قطبة بن عبد العزيز عن الأعمش عن سمرة بن عطية عن شهر بن حوشب عن أم الدرداء عن أبى الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» يلقى على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون. فيغاثون بطعام من ضريع لا يسمن ولا يغنى من جوع- الحديث: وفيه قال الأعمش بين أن ينزل عليهم وإجابة مالك ألف عام» وقال الترمذي: قطبة ثقة.
وبعض أهل الحديث كان يرفع هذا. وهذا أخرجه الطيراني والبيهقي في الشعب ورواه الطبري من رواية شريك عن الأعمش موقوف ولم يفصل الكلام الأخير. ثم رواه من طريق قطبة مرفوعا، ولم يفعل أيضا.
264
النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيقولون: ادعوا مالكا، فيدعون يا مالك ليقض علينا ربك «١» ». لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ كلام الله عز وجل: بدليل قراءة من قرأ:
لقد جئتكم. ويجب أن يكون في قال ضمير الله عز وجل. لما سألوا مالكا أن يسأل الله تعالى القضاء عليهم: أجابهم الله بذلك كارِهُونَ لا تقبلونه وتنفرون منه وتشمئزون منه، لأنّ مع الباطل الدعة، ومع الحق التعب.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٧٩ الى ٨٠]
أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (٧٩) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (٨٠)
أَمْ أبرم مشركو مكة أَمْراً من كيدهم ومكرهم برسول الله ﷺ فَإِنَّا مُبْرِمُونَ كيدنا كما أبرموا كيدهم، كقوله تعالى أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ؟
وكانوا يتنادون فيتناجون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: ما المراد بالسر والنجوى؟ قلت: السر ما حدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال. والنجوى: ما تكلموا به فيما بينهم بَلى نسمعهما ونطلع عليهما وَرُسُلُنا يريد الحفظة عندهم يَكْتُبُونَ ذلك.
وعن يحيى بن معاذ الرازي: من ستر من الناس ذنوبه وأبداها للذي لا يخفى عليه شيء في السماوات فقد جعله أهون الناظرين إليه، وهو من علامات النفاق.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (٨١) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٨٢)
قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ وصح ذلك وثبت ببرهان صحيح توردونه وحجة واضحة تدلون بها فَأَنَا أَوَّلُ من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له: «٢» كما يعظم الرجل
(١). هو في الحديث الذي قبله.
(٢). قال محمود: «معناه إن صح وثبت برهان قاطع، فأنا أول من يعظم ذلك الولد وأسبقكم إلى طاعته والانقياد له... الخ» قال أحمد: لقد اجترأ عظيما وافتحم مهلكة في تمثيله ذلك بقول من سماه عدليا: إن كان الله خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه فأنا أول القائلين إنه شيطان وليس باله، فلينقم عليه ذلك بقول القائل: قد ثبت قطعا عقلا وشرعا أنه تعالى خالق لذلك في القلوب كما خلق الايمان، وفاء بمقتضى دليل العقل الدال على أن لا خالق إلا الله، وتصديقا بمضمون قوله تعالى هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ وقوله اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وإذا ثبتت هذه المقدمة عقلا ونقلا: لزمه فرك أذنه وغل عنقه، إذ يلحد في الله إلحادا لم يسقه إليه أحد من عباده الكفرة، ولا تجرأ عليه مارد من مردة الفجرة. ومن خالف في كفر القدرية فقد وافق على كفر من تجرأ فقال هذه المقالة واقتحم هذه الضلالة بلا محالة، فانه قد صرح بكلمة الكفر على أقبح وجوهها وأشنع أنحائها: والله المسئول أن يعصمنا وهو حسبنا ونعم الوكيل.
265
ولد الملك لتعظيم أبيه، وهذا كلام وارد على سبيل الفرض والتمثيل لغرض، وهو المبالغة في نفى الولد والإطناب فيه، وأن لا يترك الناطق به شبهة إلا مضمحلة مع الترجمة عن نفسه بثبات القدم في باب التوحيد، وذلك أنه علق العبادة بكينونة الولد وهي محال في نفسها، فكان المعلق بها محالا مثلها، فهو في صورة إثبات الكينونة والعبادة، وفي معنى نفيهما على أبلغ الوجوه وأقواها. ونظيره أن يقول العدلى للمجبر «١». إن كان الله تعالى خالقا للكفر في القلوب ومعذبا عليه عذابا سرمدا، فأنا أول من يقول: هو شيطان وليس بإله، فمعنى هذا الكلام وما وضع له أسلوبه ونظمه نفى أن يكون الله تعالى خالقا للكفر، وتنزيهه عن ذلك وتقديسه، ولكن على طريق المبالغة فيه من الوجه الذي ذكرنا، مع الدلالة على سماجة المذهب وضلالة الذاهب إليه، والشهادة القاطعة بإحالته والإفصاح عن نفسه بالبراءة منه، وغاية النفار والاشمئزاز من ارتكابه. ونحو هذه الطريقة قول سعيد بن جبير رحمه الله للحجاج حين قال له-: أما والله «٢» لأبدلنك بالدنيا نارا تلظى-: لو عرفت أن ذلك إليك ما عبدت إلها غيرك. وقد تمحل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف المليء بالنكت والفوائد المستقل بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه، فقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم، فأنا أول العابدين الموحدين لله، المكذبين قولكم بإضافة الولد إليه. وقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد من عبد يعبد: إذا اشتد أنفه فهو عبد وعابد. وقرأ بعضهم:
العبدين. وقيل: هي إن النافية، أى: ما كان للرحمن ولد، فأنا أول من قال بذلك وعبد ووحد، وروى أنّ النضر بن عبد الدار بن قصى قال: إن الملائكة بنات الله فنزلت، فقال النضر: ألا ترون أنه قد صدقنى. فقال له الوليد بن المغيرة: ما صدقك ولكن قال: ما كان للرحمن ولد فأنا أول الموحدين من أهل مكة: أن لا ولد له. وقرئ: ولد، بضم الواو. ثم نزه ذاته موصوفة بربوبية السماوات والأرض والعرش عن اتخاذ الولد، ليدل على أنه من صفة الأجسام.
(١). قوله «ونظيره أن يقول العدلى للمجبر» يريد: أحد المعتزلة لأحد أهل السنة، وفي هذا التنظير من سوء الأدب في حقه تعالى ما لا يخفى. (ع)
(٢). قوله «قال له: أما والله» في الصحاح: «أما» مخفف تحقيق للكلام الذي يتلوه اه. ولعل حذف الألف لغة، فليحرر. (ع)
266
ولو كان جسما لم يقدر على خلق هذا العالم وتدبير أمره.
[سورة الزخرف (٤٣) : آية ٨٣]
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٨٣)
فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا في باطلهم وَيَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ وهذا دليل على أنّ ما يقولونه من باب الجهل والخوض واللعب، وإعلام لرسول الله ﷺ أنهم من المطبوع على قلوبهم الذين لا يرجعون البتة، وإن ركب في دعوتهم كل صعب وذلول، وخذلان لهم وتخلية بينهم وبين الشيطان، كقوله تبارك تعالى اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ وإيعاد بالشقاء في العاقبة.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٨٤ الى ٨٥]
وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٨٤) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٥)
ضمن اسمه تعالى معنى وصف، فلذلك علق به الظرف في قوله فِي السَّماءِ وَفِي الْأَرْضِ «١» كما تقول، هو حاتم في طىّ حاتم في تغلب، على تضمين معنى الجواد الذي شهر به، كأنك قلت:
هو جواد في طى جواد في تغلب. وقرئ: وهو الذي في السماء الله وفي الأرض الله. ومثله قوله تعالى وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ كأنه ضمن معنى المعبود أو المالك أو نحو ذلك.
والراجع إلى الموصول محذوف لطول الكلام، كقولهم: ما أنا بالذي قائل لك شيئا، وزاده طولا أنّ المعطوف داخل في حيز الصلة. ويحتمل أن يكون فِي السَّماءِ صلة الذي وإله خبر مبتدإ محذوف، على أنّ الجملة بيان للصلة. وأنّ كونه في السماء على سبيل الإلهية والربوبية، لا على معنى الاستقرار. وفيه نفى الآلهة التي كانت تعبد في الأرض تُرْجَعُونَ قرئ بضم التاء وفتحها. ويرجعون، بياء مضمومة. وقرئ: تحشرون، بالتاء.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٨٦ الى ٨٧]
وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٨٦) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٨٧)
(١). قال محمود: «ضمن اسمه عز وجل معنى وصف، فعلق به الظرف، وهو قوله فِي السَّماءِ... الخ» قال أحمد: ومما سهل حذف الراجع مضافا إلى الطول الذي ذكره: وقوع الموصول خبرا عن مضمر لو ظهر الراجع لكان كالتكرار المستكره، إذ كان أصل الكلام: وهو الذي هو في السماء إله. ولا ينكر أن الكلام مع المحذوف الراجع أخف وأسهل، وأن الراجع إنما حذف على فلة حذف مثله لأمر متأكد، فانه لم يرد في الكتاب العزيز إلا في قوله تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ ومع أى في موضعين على رأى.
ولا يملك آلهتهم الذين يدعون من دون الله الشفاعة، كما زعموا أنهم شفعاؤهم عند الله، ولكن من شَهِدَ بِالْحَقِّ وهو توحيد الله، وهو يعلم ما يشهد به عن بصيرة وإيقان وإخلاص:
هو الذي يملك الشفاعة، وهو استثناء منقطع. ويجوز أن يكون متصلا، لأنّ في جملة الذين يدعون من دون الله: الملائكة، وقرئ: تدعون بالتاء. وتدّعون، بالتاء وتشديد الدال.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (٨٨) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٨٩)
وَقِيلِهِ قرئ بالحركات الثلاث، وذكر في النصب عن الأخفش أنه حمله على: أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم وقيله: وعنه: وقال قيله. وعطفه الزجاج على محل الساعة، كما تقول: عجبت من ضرب زيد وعمرا، وحمل الجرّ على لفظ الساعة، والرفع على الابتداء، والخبر ما بعده: وجوّز عطفه على علم الساعة على تقدير حذف المضاف. معناه: عنده علم الساعة وعلم قيله. والذي قالوه ليس بقوى في المعنى مع وقوع الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا، ومع تنافر النظم. وأقوى من ذلك وأوجه: أن يكون الجرّ والنصب على إضمار حرف القسم وحذفه، والرفع على قولهم: أيمن الله، وأمانة الله، ويمين الله، ولعمرك: ويكون قوله إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ جواب القسم، كأنه قيل: وأقسم بقيله يا رب. أو وقيله يا رب قسمي إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون فَاصْفَحْ عَنْهُمْ فأعرض عن دعوتهم يائسا عن إيمانهم، وودعهم وتاركهم، وَقُلْ لهم سَلامٌ أى تسلم منكم ومتاركة فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وعيد من الله لهم وتسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم. والضمير في وَقِيلِهِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإقسام الله بقيله رفع منه وتعظيم لدعائه والتجائه إليه.
عن النبي ﷺ «من قرأ سورة الزخرف كان ممن يقال له يوم القيامة يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون. ادخلوا الجنة بغير حساب» «١»
(١). أخرجه الثعلبي وابن مردويه والواحدي من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.
Icon