تفسير سورة الذاريات

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الذاريات من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة الذاريات مكية، وأيها ستون.

﴿والذاريات ذروا﴾ أى الرياح االتى تذرو التراب وغيرها وقرئ بإدغام التاءِ في الذال
﴿فالحاملات وِقْراً﴾ أيِ السحبِ الحاملةِ للمطرِ أو الرياحِ الحاملة للسحاب وقرئ وَقْرا عَلى تسميةِ المحمولِ بالمصدرِ
﴿فالجاريات يُسْراً﴾ أيِ السفنُ الجاريةُ فِى البحرِ أو الرياحِ الجاريةِ في مهابِّها أوِ السحبِ الجاريةِ في الجوِّ بسوقِ الرياحِ أوِ الكواكبِ الجاريةِ فِي مجارِيها ومنازِلِها ويُسْراً صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أيْ جرياً ذَا يُسْرٍ
﴿فالمقسمات أَمْراً﴾ أي الملائكةِ الَّتيِ تقسّمُ الأمورَ منَ الأمطارِ والأرزاقِ وغيرِها أو السحبِ التَّي يقسمُ الله تعالَى بَها أرزاقَ العبادِ وقد جُوِّز أن يراد بالكُلِّ الرياحُ تنزيلاً لاختلافِ العنوانِ منزلةِ اختلافِ الذاتِ فإنها كما تذر وما تذرُوه تثيرُ السحابَ وتحملُه وتجْري في الجوِّ جرياً سهلاً وتقسمُ الأمطارَ بتصريفِ السحابِ في الأقطارِ فإنْ حُملت الأمورُ المقسمُ بها على ذواتٍ مختلفةٍ فالفاءُ لترتيبِ الإقسامِ باعتبارِ ما بينها من التفاوت في الدِلالة على كمال القدرةِ وإلاَّ فهيَ لترتيبِ ما صدرَ عن الريحِ مِنَ الأفاعيل فإنها تذر الأبخرةَ إلى الجوِّ حتَّى تنعقدَ سحاباً فتجريَ بهِ باسطةً لهُ إلى ما أمرتْ بهِ فتقسمُ المطرَ وقوله تعالى
﴿إنما تُوعَدُونَ لصادق﴾ ﴿وَإِنَّ الدين لَوَاقِعٌ﴾ جوابٌ للقسمِ وفي تحصيص الأمورِ المذكورةِ بالإقسامِ بَها رمزٌ إلى شهادتِها بتحققِ مضمون الجملة المقسم عليها منْ حيثُ إنَّها أمورٌ بديعةٌ مخالفةٌ لمقتضَى الطبيعةِ فمَنْ قدرَ عَلَيها فهُو قادرٌ عَلى البعثِ الموعودِ وما موصولةٌ أو مصدريةٌ ووصفُ الوعدِ بالصدقِ كوصفِ العيشةِ بالرِّضَا وَالدِّينُ الجزاءُ ووقوعُه حصولُه
136
٧ ١ {
137
﴿والسماء ذَاتِ الحبك﴾ قال ابنُ عبَّاسٍ وقتادةُ وعكرمةُ ذاتُ الخَلْقِ المُستوِي وقالَ سعيدُ بنُ جُبَيرٍ ذاتُ الزينةِ وقالَ مجاهدٌ هيَ المتقنةُ البنيانِ وقالَ مقاتلٌ والكلبيُّ والضَّحاكُ ذاتُ الطرائقِ والمرادُ إمَّا الطرائقُ المحسوسةُ التَّي هيَ مسيرُ الكواكبِ أوِ المعقولةُ التَّي يسلُكُها النظارُ أوِ النجومُ فإنَّ لهَا طرائقَ وعنِ الحسنِ حَبْكُها نُجُومُها حيثُ تزينُها كما تزينُ المُوشَّى طرائقُ الوَشْي وهيَ إمَّا جمعُ حِبَاكٍ أو حَبِيكةٍ كَمِثَالٍ ومثل وطريقة وطرق وقرئ الحبك بوزنِ السِّلْكِ والحَبَكِ كالجَبَلِ والحَبْكِ كالبَرقِ والحِبَكِ كالنِّعَمِ والحِبِكِ كالإِبِلِ
﴿إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ﴾ أيْ متخالفٍ متناقضِ وهُوَ قولُهم في حقِّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تارةً شاعرٌ وأخْرى ساحرٌ وأخرى مجنونٌ وفي شأنِ القرآنِ الكريمِ تارةً شعرٌ وأُخْرى سحرٌ وأُخْرى أساطيرُ وفي هَذا الجواب تأييد ليكون الحبكِ عبارةً عنْ الاستواءِ كما يلوح به ما نُقلَ عنِ الضَّحاكِ منْ أنَّ قولَ الكفرةِ لا يكونُ مستوياً إنَّما هُو متناقضٌ مختلفٌ وقيلَ النكتةُ في هذا القسمِ تشبيهُ أقوالِهم في اختلافِها وتنافِي أغراضِها بطرائقِ السمواتِ في تباعدِها واختلافِ غاياتِها وليسَ بذاكَ
﴿يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ﴾ أيْ يُصرفُ عنِ القرآنِ أو الرسول عليه الصلاة والسلام من صرف إذلا صرفَ أفظعُ منْهُ وأشدُّ وقيلَ يَصرفُ عَنْهُ منْ صُرفَ في علمِ الله تعالَى وقضائِه ويجوزُ أنْ يكونَ الضميرُ للقولِ المختلفِ عَلى مَعْنى يصدرُ إفكُ منْ أفكَ عنْ ذلكَ القولِ وقُرِىءَ مَنْ أفكَ عن ذلك القول وقرئ مَنْ أفكَ أيْ مَنْ أفكَ الناسَ وهُم قريشٌ حيثُ كانُوا يصدونَ الناسَ عنِ الإيمانِ
﴿قُتِلَ الخراصون﴾ دعاءٌ عليهمْ كقولِه تعالَى قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ وأصلُه الدعاءُ بالقتلِ والهلاكِ ثمَّ جَرى مجرى لعن والخرَّاصُونَ الكذَّابُونَ المقدرونَ ما لا صِحةَ لهُ وهُم أصحابُ القولِ المختلفِ كأنَّه قيلَ قُتِلَ هؤلاءِ الخرَّاصُونَ وقرئ قَتَل الخَرَّاصينَ أيْ قتلَ الله
﴿الذين هُمْ فِى غَمْرَةٍ﴾ منَ الجهلِ والضَّلالِ ﴿ساهون﴾ غافلونَ عَمِّا أُمروا بهِ
﴿يسألون أَيَّانَ يَوْمُ الدين﴾ أيْ مَتَى وقوعُ يومِ الجزاءِ لكنْ لا بطريقِ الاستعلامِ حقيقةً بلْ بطريقِ الاستعجالِ استهزاء وقرئ إِيَّانَ بكسرِ الهمزةِ
﴿يوم هم على النار يُفْتَنُونَ﴾ جوابٌ للسؤالِ أيْ يقعُ يوم هُم عَلى النارِ يحرقونَ
137
} ٤ ٢٠
ويعذبونَ ويجوزُ أنْ يكونَ يومَ خبراً لمبتدإٍ محذوفٍ أيْ هُوَ يومَ هم الخ والفتح لأضافة إلى غيرِ متمكنٍ ويؤيدُه أنَّه قُرِىءَ بالرفعِ
138
﴿ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ﴾ أيْ مقولاً لهمُ هَذا القولُ وَقولُه تعالَى ﴿هذا الذى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ جملةٌ من مبتدإٍ وخبرٍ داخلةٌ تحتَ القولِ المضمرِ أيْ هذَا ما كنتُم تستعجلونَ بهِ بطريقِ الاستهزاءِ ويجوزُ أنْ يكونَ هَذا بدلاً منْ فتنتِكم بتأويل العذابِ والذي صفتُه
﴿إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ﴾ لا يُبلُغ كُنهُها ولا يقادر قدرها
﴿آخذين ما آتاهم رَبُّهُمْ﴾ أي قابلينَ لما أعطاهُم راضينَ بهِ عَلَى مَعْنى أنَّ كُلَّ ما آتاهُم حسنٌ مَرضيٌّ يُتلقى بحسنِ القبولِ ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ﴾ في الدُّنيا ﴿مُحْسِنِينَ﴾ أيْ لأعمالِهم الصالحةِ آتينَ بَها عَلى ما ينبغي فلذلكَ نالُوا ما نالُوا منَ الفوزِ العظيمِ ومَعْنى الإحسانِ بالإجمالِ ما أشارَ إليهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بقولِه أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراهُ فإنَّه يراكَ وقَدْ فُسِّر بقولِه تعالَى
﴿كانُوا قليلاً منَ الليلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾ أيْ كانُوا يهجعونَ في طائفةٍ قليلةٍ منَ الليلِ على أنَّ قليلاً ظرفٌ أوْ كانُوا يهجعونَ هجوعاً قليلاً على أنَّه صفةٌ للمصدرِ ومَا مزيدةٌ في الوجهين ويجوز أن تكون مصدرية أو موصولة مرتفعة بقليلاً على الفاعلية أيْ كانُوا قليلاً منَ الليلِ هجوعُهم أوْ ما يهعجون فيه وفيه للمبالغات في تقليل نومهم واسرتاحتهم ذكرُ القليلِ والليلِ الذي هُوَ وقتَ الراحةِ والهجوعِ الذي هُو الغرارُ منَ النومِ وزيادةُ مَا ولا مساغَ لجعلِ ما نافيةً عَلى مَعْنى أنَّهم لا يهجعونَ منَ الليلِ قليلاً بل يُحْيونَهُ كُلَّه لَما أنَّ مَا النافيةَ لا يعمل ما بعدها فيما قَبْلَها
﴿وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ أيْ هُم مع قلةِ هجوعِهم وكثرةِ تهجدِهمْ يداومونَ على الاستغفارِ في الأسحارِ كأنَّهم أسلفُوا ليلَهُم باقترافِ الجرائمِ وفي بناءِ الفعلِ على الضميرِ إشعارٌ بأنَّهُم الأحقاءُ بأنْ يوصفُوا بالاستغفارِ كأنَّهم المختصونَ بهِ لاستدامتِهم لهُ وإظنابهم فيهِ
﴿وَفِى أموالهم حَقٌّ﴾ أيْ نصيبٌ وافرٌ يستوجبونَهُ على أنفسهم تقرُّباً إلى الله تعالى وإشفاقا على الناس ﴿لَّلسَّائِلِ والمحروم﴾ للمستجدِي والمتعففِ الذَّي يحسبُهُ النَّاسُ غنياً فحيرم الصادقة
﴿وفي الأرض آيات لّلْمُوقِنِينَ﴾ أيْ دلائلُ واضحةٌ على شؤنه تعالى على التفاصيل منْ حيثُ إنَّها مدحوةٌ
138
} ٥ ٢ {
كالبساطِ الممهدِ وفَيها مسالكُ وفجاجٌ للمتقلبينَ في أقطارِها والسالكينِ في مناكِبها وفَيها سهل وجبل وبر وبحر وقطعٌ متجاوراتٌ وعيونٌ متفجرةٌ ومعادنُ مفتنةٌ وأنها تلقحُ بألوانِ النباتِ وأنواعِ الأشجارِ وأصنافِ الثمارِ المختلفةِ الألوانِ والطعومِ والروائحِ وفَيها دوابُّ مُنبثةٌ قد رتبَ كلُّها ودبر لمنافع ساكنها ومصالحِهم فِي صحتِهم واعتلالِهم
139
﴿وَفِى أَنفُسِكُمْ﴾ أي وفي أنفسكم آياتٌ إذ ليسَ في العالمِ شيءٌ إلاَّ وفِى الأنفسِ له نظيرٌ يدلُّ دَلالَتُه على ما انفرد بهِ من الهيئاتِ النَّافعةِ والمناظرِ البهيةِ والتركيباتِ العجيبةِ والتمكنِ من الأفعالِ البديعةِ واستنباطِ الصنائعِ المختلفةِ واستجماعِ الكمالاتِ المتنوعةِ ﴿أَفلاَ تُبْصِرُونَ﴾ أي ألا تنظُرون فلا تبصرونَ بعينِ البصيرةِ
﴿وَفِى السماء رِزْقُكُمْ﴾ أيْ أسبابُ رزقُكِم أو تقديرُه وقيل المراد بالسماء السحاب وبالرزقِ المطرُ فإنَّه سببُ الأقواتِ ﴿وَمَا تُوعَدُونَ﴾ منَ الثوابِ لأَنَّ الجنةَ في االسماء السابعةِ أو لأنَّ الأعمالَ وثوابَها مكتوبةٌ مقدرةٌ في السماءِ وقيلَ إنَّهُ مبتدأ خبرُه قولُه تعالَى
﴿فَوَرَبّ السماء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ﴾ عَلى أنَّ الضميرَ لَما وأمَّا عَلى الأولِ فأماله وإمّا لَما ذكرَ منْ أمر الآياتِ والرزقِ عَلى أنَّه مستعارٌ لاسمِ الإشارةِ ﴿مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ﴾ أيْ كَما أنَّه لا شكَّ لكُم فِي أنكُم تنطقونَ ينبغِي أنْ لا تشكُّوا في حقِّيتهِ ونصبُه عَلى الحاليةِ من المستكنِ في لحقٌّ أو عَلَى أنَّه وصفٌ لمصدر محذوفٍ أيْ إنَّه لحقٌّ حقاً مثلَ نطقكِم وقيلَ إنَّه مبني على الفتح لإضافته إلى غيرِ متمكنٍ وهُوَ مَا إنْ كانتْ عبارةً عنْ شيءٍ وأن بما في حيزها إن جُعلت زائدة ومحلُّه الرفعُ على أنَّه صفةٌ لحقٌّ ويؤيده القراءة بأتاك
﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم﴾ تفخيمٌ لشأنِ الحديثِ وتنبيهٌ على أنَّه ليسَ ممَّا علِمهُ رسولُ الله ﷺ بغيرِ طريقِ الوحي والضيفُ في الأصلِ مصدرُ ضافهُ ولذلكَ يُطلق عَلى الواحدِ والجماعةِ كالزَّورِ والصَّوْم وكانُوا اثني عشرَ ملَكاً وقيلَ تسعةً عاشرُهم جبريلُ وقيلَ ثلاثة جبريل وميكائيل وملكٌ آخرُ معهمَا عليهمْ السَّلامُ وتسميتُهم ضيفاً لأنَّهم كانُوا في صورةِ الضَّيفِ حيثُ أضافَهُم إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ أو لأنهمُ كانوا في حسبانه كذلكَ ﴿المكرمين﴾ أي المكرمينَ عندَ الله تعالَى أو عندَ إبراهيمَ حيثُ خدمَهُم بنفسه وبزوجته
﴿إذ دخلوا عليه﴾ طرف للحديثِ أو لما في الضيفِ منْ مَعْنى الفعلِ أو المكرمينَ إنْ فسَّر بإكرامِ إبراهيمَ ﴿فَقَالُواْ سَلامًا﴾ أي نسلم عليكَ سلاماً ﴿قَالَ﴾ أيْ إبراهيمُ ﴿سلام﴾ أيْ عليكُم سلامٌ عُدِلَ بهِ إلى الرفعِ بالابتداءِ للقصدِ إلى الثباتِ والدوامِ حتى تكون تحتيه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ
139
} ١ ٢٦
أحسنَ منْ تحيتهم وقُرئَا مرفوعينَ وقرىءَ سِلْمٌ وقرىء منصوباً والمعنى واحدٌ ﴿قَوْمٌ مُّنكَرُونَ﴾ أنكرهُمْ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ للسلامِ الذَّي هو عَلمٌ للإسلامِ أو لأنَّهم ليسُوا ممنْ عهدَهُم منَ النَّاسِ أو لأنَّ أوضاعَهُم وأشكالَهمُ خلافُ ما عليه النَّاسُ ولعلَّه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنَّما قالَهُ في نفسِه من غير أن يشعرَهُم بذلكَ لا أنَّه خاطبُهم بهِ جَهْراً أو سألُهم أنْ يعرِّفوُه أنفسَهُم كَما قيلَ وإلاَّ لكشفُوا أحوالَهُم عندَ ذلكَ وَلَمْ يتصدَّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لمقدماتِ الضيافةِ
140
﴿فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ﴾ أيْ ذهبَ إليهمْ عَلى خُفيةٍ منْ ضيفِه فإنَّ منْ أدبِ المضيفِ أنْ يبادَرهُ بالقِرى ويبادرَ بهِ حذاراً مِنْ أن يكفَهُ ويعذَرهُ أو يصيرَ مُنتْظراً والفاءُ في قولِه تعالَى ﴿فَجَاء بِعِجْلٍ سَمِينٍ﴾ فصيحةٌ مفصحةٌ عن جُمَلٍ قد حُذفتْ ثقة بدلالهِ الحالِ عليها وإيذاناً بكمالِ سرعةِ المجىءِ بالطعامِ كما في قولِه تعالى فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق أيْ فذبحَ عجلاً فحنذَهُ فجاءَ بهِ
﴿فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ﴾ بأنْ وضعَهُ لديهم حسَبما هُو المعتادُ ﴿فقال أَلاَ تَأْكُلُونَ﴾ إِنْكاراً لعدمِ تعرضِهم للأكلِ
﴿فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ﴾ أضمرَ في نفسِه ﴿خِيفَةً﴾ لتوهمِ أنَّهم جاؤا للشرِّ وقيلَ وقعَ في قلبه أنهم ملائكة جاؤال للعذابِ ﴿قَالُواْ لاَ تَخَفْ﴾ قيلَ مسحَ جبريلُ عليهِ السلامُ العجلَ بجناحِه فقامَ يندرج حتَّى لحقَ بأُمِّهِ فعرفَهُم وأمِنَ منهُم ﴿وَبَشَّرُوهُ﴾ وفي سورةِ الصافاتِ وبشرناهُ أيْ بواسطتِهم ﴿بغلام﴾ هو إسحاقُ عليه السلام ﴿عليم﴾ عنه بلوغِه واستوائِه
﴿فَأَقْبَلَتِ امرأته﴾ سارةُ لمَّا سمعتْ بشارتَهمُ إلي بيتِها وكانتْ في زاويةٍ تنظرُ إليهمْ ﴿فِى صَرَّةٍ﴾ في صيحةٍ من الصريرِ ومحلُّه النصبُ عَلى الحاليّةِ أو المفعوليةِ إنْ جُعلَ أقبلتْ بمَعْنى أخذتْ كما يقالُ أقبلَ يشتُمنِي ﴿فَصَكَّتْ وَجْهَهَا﴾ أيْ لطمتْهُ منَ الحياءِ لما أنَّها وجدتْ حرارةَ دمِ الطمثِ وقيلَ ضربتْ بأطرافِ أصابعِها جبينَها كما يفعلُه المتعجب ﴿وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ﴾ أيْ أنَا عجوزٌ عاقرٌ فكيفَ ألدُ
﴿قَالُواْ كَذَلِكِ﴾ مثلَ ذلكَ القولِ الكريمِ ﴿قَالَ رَبُّكِ﴾ وَإنَّما نحنُ معبرونَ نخبركِ بهِ عنْهُ تعالَى لاَ أنَّا نقولُه منْ تلِقاءِ أنفسِنا ﴿إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم﴾ فيكونُ قولُه حقاً وفعلُه متقناً لا محالةَ رُوي أنَّ جبريلَ عليهِ السَّلامُ قالَ لهَا انْظُري إلى سقفِ بيتك فنظرتْ فذا جذوعُه مورقةٌ مثمرةٌ ولَمْ تكُنْ هذهِ المفاوضةُ معَ سارةَ فقطْ بلْ معَ إبراهيَم عليهِ السَّلامُ أَيْضاً حسبَما شُرح في سورةِ الحجر وإنما يُذكِرْ هَهُنا اكتفاءً بما ذكر هناك كما أنه لم يُذكر هناك سارة اكتفاءً بما ذُكر ههنا وفي سُورة هودٍ
(قَالَ)
140
} ٢ ٣٩
أيْ إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ لَمَّا عِلَم أنَّهم ملائكةٌ أُرسلوا لأمرٍ ﴿فَمَا خَطْبُكُمْ﴾ أى ما شأنُكم الخطيرُ الذَّي لأَجْلِه أُرسلتم سَوى البشارةِ ﴿أَيُّهَا المرسلون﴾
141
﴿قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ﴾ يعنون قومَ لوطٍ
﴿لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ﴾ أيْ بعدَ ما قلبنَا قُرَاهُمْ وجعلنَا عاليَها سافلَها حسبَما فُصّل في سائرِ السورِ الكريمةِ ﴿حِجَارَةً مّن طِينٍ﴾ أيْ طينٍ متحجرٍ هُوَ السجيلُ
﴿مُّسَوَّمَةً﴾ مُرسلةً منْ أسمتُ الماشيةَ أيْ أرسلتُها أو معلمة من المسومة وهيَ العلامةُ وقدْ مَرَّ تفصيله في سورة هود ﴿عِندَ رَبّكَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾ المجاوزينَ الحدَّ في الفُجورِ وقولُه تعالَى
﴿فَأَخْرَجْنَا﴾ الخ حكايةٌ منْ جهتِه تعالَى لِمَا جَرى عَلى قومِ لُوطٍ عليهِ السَّلامُ بطريقِ الإجْمَالِ بعدَ حكايةِ ما جَرَى بينَ الملائكةِ وبينَ إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ من الكلامِ والفاءُ فصيحة مفصحةٌ عن جُمَلٍ قدْ حُذفتْ ثقةً بذكرِها في مواضعَ أُخَرَ كأنَّه قيلَ فباشرُوا مَا أُمروا بهِ فأخرجنَا بقولِنا فأسرِ بأهلِكَ الخ ﴿مَن كَانَ فِيهَا﴾ أيْ في قُرى قومِ لُوطٍ وإضمارُهَا بغيرِ ذكرٍ لشهرتِها ﴿مِنَ المؤمنين﴾ ممنْ أمنَ بلوطٍ
﴿فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ﴾ أيْ غيرَ أهْلِ بيتٍ ﴿مِنَ المسلمين﴾ قيلَ هم قوم لوطٌ وابنتاهُ وقيلَ كانَ لوطٌ وأهلُ بيتِه الذينَ نجَوا ثلاثةَ عشرَ
﴿وَتَرَكْنَا فِيهَا﴾ أيْ في القرية ﴿آية﴾ أيْ علامةً دالةً على ما أصابهُم من العذابِ قيلَ هيَ تلكَ الأحجارُ أوْ صخرٌ منضودٌ فيهَا أَوْ ماءٌ منتنٌ ﴿لّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم﴾ أيْ مِنْ شأنِهم أنْ يخافُوه لسلامةِ فطرتِهم ورقةِ قلوبِهم دونَ مَنْ عَداهُم منْ ذَوي القلوبِ القاسيةِ فإنَّهم لا يعتدونَ بَها وَلاَ يعدونها آيةً
﴿وَفِى موسى﴾ عطفٌ عَلى قولِه تعالَى وفي الأرضِ أو عَلى قولِه تعالَى وتركنَا فيهَا آيةً عَلى مَعْنى وجعلنَا في مُوسى آيةً كقولِ منْ قالَ علفتها تبنا وماءا باردا ﴿إذ أرسلنا﴾ قيلَ هُو منصوبٌ بآيةً وَقيلَ بمحذوفٍ أيْ كائنةً وقتَ إرسالِنا وقيلَ بترَكْنا ﴿إلى فِرْعَوْنَ بسلطان مُّبِينٍ﴾ هُو ما ظهرَ عَلى يديهِ منْ المعجزاتِ الباهرةِ
﴿فتولى بِرُكْنِهِ﴾ أيْ فأعرضَ عنِ الإيمانِ بهِ وازورّ كقولِه تعالَى وَنَأَى بِجَانِبِهِ
141
٤٧ ٤٠
وقيلَ فتولَّى بما يتقوَّى بهِ منْ مُلْكِه وَعساكِره فإنَّ الركنَ اسمٌ لمَا يركنُ إليهِ الشيءُ وَقُرىءَ برُكُنِهِ بضمِّ الكافِ ﴿وَقَالَ ساحر﴾ أيْ هُو ساحرٌ ﴿أَوْ مَجْنُونٌ﴾ كأنَّه نسبَ ما ظهر على يديهِ عليه الصَّلاةُ والسلام من الخوارقِ العجيبةِ إلى الجنِّ وترددَ في أنَّه حصل باختيارِه وسعيهِ أو بغيرِهما
142
﴿فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم فِى اليم﴾ وفيه امن الدلالةِ عَلى غايةِ عظمِ شأنِ القدرةِ الربانيةِ ونهايةِ قمأة فرعون وقومه ﴿وَهُوَ مُلِيمٌ﴾ أيْ آتٍ بما يُلام عليه منَ الكفرِ والطغيانِ والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في فأخذنَاهُ
﴿وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم﴾ وصفتْ بالعُقم لأنها أهلكتهم وقطعتْ دابرَهم أوْ لأنَّها لم تتضمنْ خيراً ما منْ إنشاءِ مطرٍ أو إلقاحِ شجرٍ وهي النكباءُ أو الدبُورُ أو الجنوبُ
﴿مَا تَذَرُ مِن شَىْء أَتَتْ عَلَيْهِ﴾ أيْ جرتْ عليهِ ﴿إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم﴾ هو كل مارم وَبليَ وتفتت منْ عظمٍ أو نباتٍ أو غيرِ ذلكَ
﴿وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ﴾ وهُو قولُه تعالَى تمتعُوا في دارِكم ثلاثةَ أَيَّامٍ قيلَ قالَ لهُم صالحٌ عليهِ السَّلامُ تصبحُ وجوهُكم غداً مصفرةً وبعدَ غدٍ مُحمرَّةً واليومَ الثالثَ مُسودةً ثمَّ يصبحكُم العذابُ
﴿فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ﴾ أي فاستكبرُوا عن الامتثالِ بهِ ﴿فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة﴾ قيلَ لما رأوا العلاماتِ الي بيَّنها صالحٌ عليهِ السَّلامُ منَ اصفرارِ وجوهِهم واحمرارِها واسودادِها عمدُوا إلى قتلِه عليهِ السَّلامُ فنجاهُ الله تعالَى إلى أرضِ فلسطينَ ولمَّا كانَ ضحوةُ اليومِ الرابعِ تحنطُوا وتكفنُوا بالأنطاعِ فأتتهُم الصيحةُ فهلكُوا وقرىءَ الصَّعقةُ وهيَ المرةُ منَ الصعْقِ ﴿وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾ إليهَا ويعاينونَها
﴿فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ﴾ كقولِه تعالَى فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين ﴿وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ﴾ بغيرِهم كَما لم يمتنعُوا بأنفسِهم
﴿وَقَوْمَ نُوحٍ﴾ أيْ وأهلكنَا قومَ نوحٍ فإنَّ ما قبلَهُ يدلُّ عليه أَوْ وَاذكُرْ ويجوزُ أنْ يكونَ معطوفاً على محل عادٍ ويؤيدُه القراءةُ بالجرِّ وقيلَ هو معطوفٌ على مفعولِ فأخذنَاهُ ﴿مِن قَبْلُ﴾ أيْ منْ قبلِ هؤلاءِ المُهلَكين ﴿إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين﴾ خارجينَ عنِ الحدودِ فيمَا كانُوا فيهِ منَ الكفرِ وَالمعاصِي
﴿والسماء بنيناها بِأَيْدٍ﴾ أيْ بقوةٍ ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾
142
٥٢ ٨٤
لقادرونَ منَ الوسعِ بمَعْنى الطاقةِ والموسعُ القادرُ عَلى الإنفاقِ أوْ لموسعونَ السماءَ أو ما بينَها وَبينَ الأرضِ أو الرزقِ
143
﴿والأرض فرشناها﴾ مهدناهَا وبسطناهَا ليستقروا علَيها ﴿فَنِعْمَ الماهدون﴾ أيْ نحنُ
﴿وَمِن كُلّ شَىْء﴾ أيْ من الأجناس ﴿زَوْجَيْنِ﴾ أيْ نوعينِ ذكراً وأنثى متقابلينَ السماءَ والأرضَ والليلَ والنهار والشمش والقمرَ والبرَّ والبحرَ ونحوَ ذلكَ ﴿لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أي فعلنَا ذلكَ كُلَّه كي تتذكُروا فتعرفُوا أنَّه خالقُ الكُلِّ ورازقُه وأنَّه المستحقُّ للعبادةِ وأنَّه قادرٌ عَلى إعادةِ الجميعِ فتعملُوا بمقتضاهُ وقولُه تعالَى
﴿فَفِرُّواْ إِلَى الله﴾ مقدرٌ لقولٍ خُوطبَ بهِ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلم بطريقِ التلوينِ والفاءُ إما لترتيب الأمرِ على ما حكي من أثار غضبِه الموجبةِ للفرارِ منْهَا ومنْ أحكامِ رحمتِه المستدعيةِ للفرار إليَها كأنَّه قيلَ قُلْ لَهُم إذَا كانَ الأمرُ كذلكَ فاهربُوا إلى الله الذى هذه شؤنه بالإيمانِ والطاعةِ كيْ تنجوا من عقابهِ وتفوزُوا بثوابِه وَإِمَّا للعطفِ عَلى جملةٍ مقدَّرةٍ مترتبةٍ عَلى قولِه تعالَى لعلَّكُم تذكرونَ كأنَّه قيلَ قُلْ لَهُم فتذكُروا ففرُّوا إلى الله الخ وقوله تعالى ﴿إني لكم مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ تعليلٌ للأمرِ بالفرارِ إليهِ تعالَى أو لوجوبِ الامتثالِ بهِ فإنَّ كونَهُ عليهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ مُنذِراً منُهُ تعالَى موجبٌ عليهِ عليهِ الصَّلاة والسَّلامُ أنْ يأمرَهُم بالفرارِ إليهِ وعليهمْ أنْ يمتثلُوا بهِ أي إنِّي لكُم منَ جهتِه تعالَى منذرٌ بين كونه منذرا أو مظهرٌ لما يجبُ إظهارُهُ منَ العذابِ المنذَرِ بهِ وفي أمرِه تعالَى للرسول ﷺ بأنْ يأمرَهُم بالهربِ إليهِ تعالَى منْ عقابِه وتعليلِه بأنه عليه الصلاة والسلام ينذرُهم منْ جهتِه تعالَى لا منْ تلقاءِ نفسِه وعدٌ كريمٌ بنجاتِهم من المهروبِ وفوزِهم بالمطلوبِ وقولُه تعالَى
﴿وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخر﴾ نهيٌ موجبٌ للفرارِ منْ سببِ العقابِ بعدَ الأمرِ بالفرارِ منْ نفسِه كمَا يُشعر بهِ قولُه تعالى إِنّى لَكُمْ مِنْهُ أيْ منَ الجعلِ المنهيِّ عنْهُ ﴿نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ فإنَّ تعلقَ كلمةِ منْ بالإنذارِ معَ كونِ صلتِه الباءَ بتضمينِه معنى الإفر يقالُ فَرَّ منْهُ أيْ هربَ وأفرَّه غيرُهُ كأنَّه قيلَ وفِرُّوا منْ أنْ تجعلُوا معَهُ تعالَى اعتقاداً أَو قولاً إلهاً آخر وفيهِ تأكيدٌ لما قبلَهُ منَ الأمرِ بالفرارِ من العقابِ إليهِ تعالَى لكنْ لا بطريقِ التكريرِ كمَا قيل بل بالنهى ععن سببه وإيجاب الفرار
﴿كذلك﴾ أي الأمرُ مثلُ ما ذكرَ منْ تكذيبِهم الرسولَ وتسميتِهم لَهُ ساحِراً أو مَجْنُوناً وقولُه تعالَى ﴿مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ﴾ الخ تفسيرٌ لهُ أيْ ما أتَاهُم ﴿مِن رَّسُولٍ﴾ مِنْ رسلِ الله ﴿إِلاَّ قَالُواْ﴾ في حَقَّه ﴿ساحر أَوْ مَجْنُونٌ﴾ ولا سبيلَ إِلى انتصابِ الكافِ بأَتَى لامتناعِ عملِ مَا بعدَ
143
٥٦ ٥ {
مَا النافيةِ فيمَا قبلَها
144
﴿أَتَوَاصَوْاْ بِهِ﴾ إِنْكارٌ وتعجيبٌ منْ حالِهم وإجماعِهم عَلى تلكَ الكلمةِ الشنيعةِ التي لاَ تكادُ تخطرُ ببالِ أحدٍ من العقلاءِ فضلاً عن التفوهِ بهَا أيْ أوصى بهذَا القولِ بعضُهم بعضاً حتَّى اتفقُوا عليهِ وقولُه تعالَى ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغون﴾ إضرابٌ عنْ كونِ مدار تفاقهم عَلى الشرِّ تواصيهم بذلكَ وإثباتٌ لكونِه أمراً أقبحَ منَ التَّواصِي وأشنعَ منْهُ منَ الطغيانِ الشاملِ للكُلِّ الدالِّ عَلى أنَّ صدورَ تلكَ الكلمةِ الشنيعةِ عنْ كُلِّ واحدٍ منْهُم بمقتضَى جبلَّتِه الخبيثةِ لا بموجبِ وصيةِ منْ قبلِهم بذلكَ من غير أن يكون ذلكَ مُقْتضى طباعِهم
﴿فَتَوَلَّ عَنْهُمْ﴾ فأعرضْ عنْ جدالِهم فقدْ كررتَ عليهِم الدعوةَ فأبَوا إلا الإباءَ ﴿فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ﴾ عَلى التولِّي بعدَ مَا بذلتَ المجهود وجاوزت في الإبلاغِ كُلَّ حدَ معهودٍ
﴿وَذَكَرَ﴾ أي أفعلْ التذكيرَ والموعظةَ ولاَ تدعُهما بالمرةِ أو فذكرهُم وَقدْ حُذِفَ الضَّميرُ لظهورِ الأَمْرِ ﴿فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين﴾ أي الذينَ قدرَ الله تعالَى إيمانَهُم أوِ الذينَ آمنُوا بالفعل فإنها تزيدهم بصيرة وقوةً في اليقينِ
﴿وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ استئنافٌ مؤكدٌ للأمرِ مقررٌ لمضمونِ تعليلهِ فإنَّ كونَ خَلقِهم مُغياً بعبادتِه تعالَى ممَّا يدعُوه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إلى تذكيرِهم ويوجبُ عليهمْ التذكرَ والاتعاظَ ولعلَّ تقديمَ خلقِ الجَنِّ في الذكرِ لتقدمهِ على خَلْق الإنسِ في الوجودِ ومَعْنى خلقِهم لعبادتِه تعالَى خلقُهم مستعدينَ لَها ومتمكنينَ منْها أتمَّ استعدادٍ وأكملَ تمكنٍ معَ كونِها مطلُوبةً مِنهُمْ بتنزيلِ ترتبِ الغايةِ عَلى مَا هيَ ثمرةٌ لَهُ منزلةَ ترتبِ الغرضِ عَلى ما هُو غرضٌ لَهُ فإنَّ استتباعَ أفعالِه تعالَى لغاياتٍ جليلةٍ ممَّا لاَ نزاعَ فيهِ قطعاً كيفَ لاَ وهيَ رحمةٌ منْهُ تعالَى وتفضلٌّ عَلى عبادِه وإنَّما الذي لا يليق بجنابه عَزَّ وجَلَّ تعليلُها بالغرضِ بمَعْنى الباعثِ عَلى الفِعْل بحيثُ لولاَهُ لم يفعلْهُ لإفضائِه إلى استكمالِه بفعلِه وهُوَ الكاملُ بالفعلِ منْ كُلِّ وجهٍ وأمَّا بمَعْنى نهايةٍ كماليةٍ يُفْضِي إليهَا فعلُ الفاعلِ الحقَّ فغيرُ منفى من أفعالِه تعالَى بل كُلُّها جارية على المنهاجِ وعَلى هَذا الاعتبارِ يدورُ وصفُه تعالَى بالحكمةِ ويكفى في تحقق مَعْنى التعليلِ عَلى ما يقولُه الفقهاءُ ويتعارفُه أهلُ اللغة هَذا المقدارُ وبِه يتحققُ مدلولُ اللامِ وأما إرادةُ الفاعلِ لَها فليستْ من مقتضياتِ اللامِ حَتَّى يلزمَ منْ عدمِ صدورِ العبادةِ عنِ البعضِ تخلفُ المرادِ عن الإرادةِ فإنْ تعوقَ البعضِ عنِ الوصولِ إلى الغايةِ معَ تعاضدِ المبادئ وتآخذِ المقدماتِ الموصلةِ إليهَا لا يمنعُ كونَها غايةً كما في قوله تعالى كِتَابٌ أنزلناه إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مّنَ الظلمات إِلَى النور ونظائِره وقيلَ المَعْنى إلا ليؤمُروا بعبادِتي كما في قوله تعالى وما أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إلها واحدا وقيلَ المرادُ سعداءُ الجنسينِ كما أنَّ المرادَ
144
٦٠ ٥٧
بقولِه تعالَى وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ الجن والإنس أشقياؤُهما ويَعضده قراءةُ مَن قرأَ وَمَا خَلَقْتُ الجنَّ والإنسَ منَ المؤمنينَ وقال مجاهد واختارَهُ البغويُّ معناه إلا ليعرفوه ومداره قوله ﷺ فيما يحيكه عنْ رَبِّ العزةِ كُنتُ كنزاً مخفياً فأحببتُ أنْ أُعْرَفَ فخلقتُ الخلقَ لأعرفَ ولعلَّ السرُّ في التعبيرِ عنِ المعرفةِ بالعبادةِ عَلى طريقِ إطلاقِ اسمِ السببِ عَلى المسببِ التنبيهُ عَلى أنَّ المعتبرَ هيَ المعرفةُ الحاصلة بعبادته تعالى ما يحصلُ بغيرِها كمعرفةِ الفلاسفةِ
145
﴿مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ﴾ بيانٌ لكَونِ شأنِه تعالَى معَ عبادةِ متُعالياً عنْ أنْ يكونَ كشأنِ السَّادِة معَ عبيدِهم حيثُ يملكونَهُم ليستعينُوا بهمْ في تحصيلِ معايشهِم وتهيئةِ أرزاقِهم أيْ ما أريدُ أنْ أصرفَهُم في تحصيلِ رزْقي ولا رِزْقهم بلْ أتفضلُ عليهمْ برزقِهم وبَما يصلحُهم ويعيِّشَهم منْ عندِي فليشتغلُوا بمَا خُلِقوا لَهُ منْ عِبادِتي
﴿إِنَّ الله هُوَ الرزاق﴾ الذي يرزقُ كلَّ ما يفتقر الى الرزق وفه تلويحٌ بأنَّه غنيٌّ عنْهُ وقُرِىءَ إنِّي أنَا الرزَّاقُ ﴿ذُو القُوَّةِ المتينِ﴾ بالرفعِ عَلى أنَّه نعتٌ للرزاقِ أوْ لذُو أَوْ خبرٌ بعد خبر أو خبر لمضمرٍ وقُرِىءَ بالجرِّ عَلى أنَّه وصفٌ للقوةِ على تأويلِ الاقتدارِ أوِ الأيدِ
﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ أيْ ظلُموا أنفسَهم بتعريضِها للعذابِ الخالدِ بتكذيبِ رسولِ الله ﷺ أوْ وضعُوا مكانَ التصديقِ تكذيباً وَهُم أهلُ مكةَ ﴿ذَنُوباً﴾ أيْ نصيباً وافراً منَ العَذَابِ ﴿مّثْلَ ذَنُوبِ أصحابهم﴾ مثلَ أنصباءِ نُظَرائِهم منَ الأممِ المحكيةِ وهُو مأخوذٌ من مقاسمةِ السُّقاةِ الماء بالذنوب وهو الدلوالعظيم المملوءُ ﴿فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ﴾ أيْ لا يطلُبوا منِّي أنْ أُعجِّلَ في المجىءِ بهِ يقالُ استعجَلهُ أيْ حثَّهُ عَلى العَجَلةِ وأمره بها ويقالُ استعجلَهُ أيْ طلبَ وقوعَهُ بالعجلةِ ومنْهُ قولِه تعالى أتى أَمْرُ الله فلا تستعلجوه وهُو جوابٌ لقولِهم مَتَى هذا الوعد إِن كنتم صادقينَ
﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ وضعَ الموصولُ موضعَ ضميرِهم تسجيلاً عليهم بما في حيز الصلةِ منَ الكُفر وإشعاراً بعلةِ الحكمِ والفاءُ لترتيبِ ثبوتِ الويلِ لهُم عَلى أنَّ لَهُم عذاباً عظيماً كَما أنَّ الفاءَ الأُولى لترتيبِ النَّهي عنْ الاستعجالِ عَلى ذلكَ ومِنْ في قولِه تعالَى ﴿مِن يَوْمِهِمُ الذى يُوعَدُونَ﴾ للتعليلِ أيْ يوعدونَهُ منْ يومَ بدرٍ وقيلَ يومَ القيامةِ وهُو الأنسبُ بَما في صدرِ السورةِ الكريمةِ الآتيةِ والأولُ هُو الأوفقُ لما قبلَهُ منْ حيثُ إنَّهما منَ العذاب الدنيوي عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ والذارياتِ أعطاهُ الله تعالَى عشرَ حسناتٍ بعدد كلِّ ريح سهبت وجرت في الدنيا
145
الطور ٨ ﴿
{بسم الله الرحمن الرحيم﴾
146
Icon