تفسير سورة الحشر

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة الحشر من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ
سورة الحشر مدنية وهي عشرون وأربع آيات.

سورة الحشر
وهي أربع وعشرون آية مدنية
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢)
قوله تبارك وتعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ، يعني: صلى لله، ويقال: خضع لله، ويقال: هو التسبيح بعينه مَا فِي السَّماواتِ من الملائكة. وَما فِي الْأَرْضِ يعني: من الخلق. وَهُوَ الْعَزِيزُ في ملكه، الْحَكِيمُ في أمره. ثم قال عز وجل: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا، يعني: يهود بني النضير. مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ. وكان بدأ أمر بني النضير، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلم بعث ثلاثة بعوث، أحد البعوث مرشد بن أبي مرشد الغنوي، وأمره على سبعة نفر إلى بعض النواحي، فساروا حتى جاءوا بطن الرجيع، فنزلوا عند شجرة، فأكلوا من تمر عجوة كانت معهم، فسقطت نوايات بالأرض، وكانوا يسيرون بالليل ويكمنون بالنهار، فكمنوا بالجبل.
فجاءت امرأة من هذيل ترعى الغنم، فرأت النوايات التي سقطت في الأرض، فأنكرت صفرهن فعرفت أنها تمر المدينة، فصاحت في قومها: أنتم أتيتم. فجاؤوا يطلبونها، فوجدوهم قد كمنوا في الجبل، فقالوا لهم: انزلوا ولكم الأمان. فقالوا: لا نعطي بأيدينا. فقاتلوهم، فقتلوا كلهم إلا عبد الله بن طارق، فجرحوه وحسبوا أنه قد مات، فتركوه فنجا من بينهم.
وبقي أخوهم عاصم بن ثابت بن الأفلح، ففرغ جعبته ثم جعل يرميهم ويرتجز، ويقاتلهم حتى فنيت سبله ثم طاعن بالرمح حتى انكسر الرمح وبقي السيف. ثم قال: اللهم
422
إني قد حميت دينك أول النهار، فاحم جسدي في آخره. وكانوا يجردون من قتل أصحابه، فلما قتلوا عاصماً، حمته الدبر وهي الذنابير، حتى جاء السيل من الليل، فذهب به الدبر.
وأسروا خبيب بن عدي ورجل آخر اسمه زيد بن الديشة، فأما خبيب فذهبوا به إلى مكة، فاشترته امرأة ومعها أناس من قريش- قتل لهم قتيل يوم بدر- فلما جيء بخبيب أتي به في الشهر الحرام، فحبس حتى انسلخ الشهر الحرام ثم خرجوا به من الحرم ليصلبوه، فقال لهم: اتركوني أصلي ركعتين، فصلاهما. ثم قال: لولا خشيت أن يقولوا جزع من الموت، لازددت. فقال: اللهم ليس هاهنا أحد أن يبلغ عني رسولك السلام، فبلغ أنت عني السلام.
ثم التفت إلى وجوههم، وقال: اللهم أحصهم عدداً وأهلكهم بدناً يعني: متفرقين، ولا تبقي منهم أحداً. ثم صلبوه. وأما صاحبه، الذي أسر معه، اشتراه صفوان بن أمية.
وأما البعث الثاني، فإنه بعث محمد بن سلمة مع أصحابه، فقتل أصحابه عن نحو طريق العراق، وارتث هو من وسط القتلى فنجا.
وأما البعث الثالث، فإن عمرو بن مالك كتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أن ابعث إليَّ رجالاً يعلموننا القرآن، ويفقهوننا في الدين، فهم في ذمتي وجواري. فبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي في أربعة عشر من المهاجرين والأنصار، فساروا نحو بئر معونة. فلما ساروا ليلة من المدينة، بلغهم أن عمرو بن مالك مات، فكتب المنذر بن عمرو إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستمده، فأمده صلّى الله عليه وسلم بأربعة نفر منهم عمرو بن أمية الضمري، والحارث بن الصمة، وسعد بن أبي وقاص، ورجل آخر فساروا حتى بلغوا بئر معونة، وكتبوا إلى ربيعة بن عامر بن مالك:
نحن في ذمتك وذمة أبيك، أفنقدم إليك أم لا؟ فقال: أنتم في ذمتي وجواري فأقدموا.
فخرج إليهم عامر بن الطفيل، واستعان برعل وذكوان وعصية فخرجوا إلى المسلمين.
فقاتلوهم، فقتلوا كلهم إلا عمرو بن أمية الضمري، والحارث بن الصمة، وسعد بن أبي وقاص، كانوا تخلفوا. فنزلوا تحت شجرة إذ وقع على الشجرة طير، فرمى عليهم بعلقة دم، فعرفوا أن الطير قد شرب الدم، فقال بعضهم لبعض: قد قتل أصحابنا. فصعدوا أعلى الجبل، فنظروا فإذا القوم صرعى، وقد اعتكفت عليهم الطير، فقال الحارث بن الصمة: أنا لا أنتهي حتى أبلغ مصارع أصحابي.
فخرج إليهم فقاتل القوم، فقتل منهم رجلين. ثم أخذوه فقالوا له: ما تحب أن نصنع بك؟ فقال لهم: ابلغوا بي مصارع قومي. فلما بلغ مصارع أصحابه، أرسلوه فقاتلهم، فقتل منهم اثنين. ثم قتل فرجع عمرو بن أمية الضمري، ورجع معه الرجلان الآخران إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فخرج رجلان من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم مستأمنين، قد كساهما وحملهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: من أنتما؟ قال: كلابيان. فقتلهما عمرو بن أمية الضمري، وأخذ سلبهما، ودخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، فقال: بئس ما صنعت حين قتلتهما.
423
فلما جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأخبره خبر هذه البعوث الثلاثة في ليلة واحدة، صلى الصبح في ذلك اليوم، وقال في الركعة الثانية: اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سنين كسني يوسف، اللهم العن رعلان وذكوان وبني لحيان، اللهم غفار، غفر الله لها وسالم سالمها الله، وعصية عصت الله ورسوله.
فجاء أناس من بني كلاب يلتمسون من رسول الله صلّى الله عليه وسلم دية الكلابيين، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، صالح بني النضير على أن لا يكونوا معه ولا عليه فاستعان النبيّ صلّى الله عليه وسلم في عقل الكلابيين قبائل الأنصار فلما بلغ العالية استعان من بني النضير فقال:
أعينوني في عقل أصابني، فقال: هؤلاء حلفائي. فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومعه أبو بكر، وعمر، وعلي- رضي الله عنهم- إلى بني النضير، فقال حيي بن أخطب: اجلس يا أبا القاسم حتى نطعمك ونعطيك ما سألتنا. فجلس النبيّ صلّى الله عليه وسلم في صفه، ومعه أبو بكر، وعمر، وعلي- رضي الله عنهم- فقال حيي بن أخطب لأصحابه: إنما هو في ثلاثة نفر لا ترونه أقرب من الآن، فاقتلوه لا تروا شراً أبداً.
فنزل جبريل- عليه السلام- وأخبره، فقام النبيّ صلّى الله عليه وسلم كأنه يريد حاجة، حتى دخل المدينة فجاء إنسان، فسألوه عنه فقال: رأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلم دخل أول البيوت. فقاموا من هناك، فقال حيي بن أخطب: عجل أبو القاسم عليه، فقد أردنا أن نطعمه ونعطيه الذي سأله. فلما رجع النبي صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة، جمع الناس وجاء بالجيش، واختلفوا في قتل كَعْب بن الأشرف، فقال بعضهم لبعض: قد كان قتل قبل ذلك، وقال بعضهم: قتل في هذا الوقت. فبعث محمد بن سلمة، فخرج محمد بن سلمة، وأبو نائلة، ورجلان آخران، فأتوه بالليل، وقالوا: أتيناك نستقرض منك شيئاً من التمر. فخرج إليهم فقتلوه، ورجعوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فخرج إليهم.
النبيّ صلّى الله عليه وسلم مع الجيش إلى بني النضير، فقال لهم: اخرجوا منها. فإذا جاء وقت الجذاذ، فجذوا ثماركم. فقالوا: لا نفعل.
فحاصرهم النبي صلّى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، نحن نعطيك الذي سألتنا. قال: «لاَ ولكن اخْرُجُوا مِنْهَا، وَلَكُمْ مَا حَمَلَتِ الإِبِلُ إلاّ الحَلَقَةُ»، يعني: السلاح، قالوا: لا. فحاصرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة، وأمر بقطع نخيلهم، ونقب بيوتهم. فلما رأت اليهود ما يصنعون بهم، فكلما نقب المسلمون بيت فروا إلى بيت، آخر ينتظرون المنافقين. وقد قال المنافقون لهم: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، وإن قوتلتم لننصرنكم. فلما رأوا أنه لا يأتيهم أحد من المنافقين ولحقهم من الشر ما لحقهم، قال بعضهم لبعض: ليس لنا مقام بعد النخيل، فنحن نعطيك يا أبا القاسم على أن تعتق رقابنا إلا الحلقة ونخرج، فأجلاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم من المدينة، ولهم ما حملت الإبل إلا الحلقة.
424
فأخذ أموالهم، فقسمها بين المهاجرين، ولم يعطها أحداً من الأنصار إلا رجلين كانا محتاجين مثل حاجة المهاجرين، وهما سهل بن حنيف وسماك بن خرشة أبو دجانة، فنزلت هذه الآية: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ يعني: بني النضير لِأَوَّلِ الْحَشْرِ، يعني: أول الإجلاء من المدينة. وقال عكرمة: من شك بأن الحشر هو الشام، فليقرأ هذه الآية هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ. فلما قال لهم: اخرجوا من المدينة، قالوا: إلى أين؟ قال: إلى أرض المحشر. فقال لهم: إنهم أول من يحشر، وأخرج من ديارهم.
ثم قال: مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا، يعني: ما ظننتم أيها المؤمنين أن يخرجوا من ديارهم. وذلك إن بني النضير كان لهم عز ومنعة، وظن الناس أنهم بعزهم ومنعتم لا يخرجون. وَظَنُّوا أَنَّهُمْ، يعني: وحسبوا بني النضير أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ يعني: أن حصونهم تمنعهم من عذاب الله. فَأَتاهُمُ اللَّهُ، يعني: أتاهم أمر الله، ويقال:
فَأَتاهُمُ اللَّهُ بما وعد لهم. مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا، يعني: لم يظنوا أنه ينزل بهم، وهو قتل كعب بن الأشرف، ويقال: خروج النبي صلّى الله عليه وسلم مع الجيش إليهم. وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، يعني: جعل في قلوبهم الخوف.
يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ. وذلك أنهم حصنوا أزقتهم بالدروب، وكان المسلمون ينقبون بيوتهم، ويدخلونها، وكان اليهود ينقبون بيوتهم من الجانب الآخر ويخرجون منها. ويقال: كان اليهود ينقبون بيوتهم، ليرموا بها على المسلمين وكان المسلمون يخربون نواحي بيوتهم، ليتمكنوا من الحرب. ويقال: كان اليهود أنفقوا في بيوتهم، فلما علموا أنهم يخرجون منها، جعلوا يخربونها كيلا يسكنها المسلمون وكان المؤمنون يخربونها، ليدخلوا عليهم. قرأ أبو عمرو يُخْرِبُونَ بالتشديد. والباقون بالتخفيف. قال بعضهم: هما لغتان:
خرب وأخرب. وروي عن الفراء أنه قال: من قرأ بالتشديد، فمعناه يهدمون ومن قرأ بالتخفيف، فمعناه يعطلون. ثم قال فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ، يعني: من له البصارة في أمر الله.
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٣ الى ٥]
وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥)
قوله عز وجل: وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ، يعني: لولا أن قضى الله عليهم
425
الإخراج من جزيرة العرب إلى الشام، لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا يعني: لعذبهم بالقتل والسبي.
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ، يعني: ذلك الذي أصابهم من الجلاء في الدنيا والعذاب في الآخرة. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ، يعني: خالفوا الله ورسوله في الدين، ويقال: عادوا الله ورسوله. وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ وأصله من يشاقق الله، إلا أن إحدى القافين أدغمت في الأخرى وشددت، يعني: من يخالف الله ورسوله في الدين، فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ، يعني: إذا عاقب، فعقوبته شديدة.
قوله عز وجل: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ يعني: من نخلة أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فلم تقطعوها، فَبِإِذْنِ اللَّهِ يعني: بأمر الله. وقال عكرمة: لما دخل المسلمون على بني النضير، أخذوا يقطعون النخل، فنهاهم بعضهم، وتأولوا قوله تعالى: وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ [البقرة: ٢٠٥] وقال بعضهم: يقطع ويتأول قوله تعالى:
وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا [التوبة: ١٢٠]، فأنزل الله تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ. وقال الزهري في قوله: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ اللينة: ألوان النخل كلها إلا العجوة، وقال الضحاك: اللينة: النخلة الكرمة والشجرة الطيبة المثمرة، وقال مجاهد: اللينة: الشجرة المثمرة.
وروى ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: نهى بعض المهاجرين بعضاً عن قطع النخل، وقالوا: إنما هي مغانم المسلمين. فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعها، وبتحليل من قطعها، وإنما قطعها وتركها بإذن الله تعالى. وعن ابن عباس أنه قال: أمر النبي صلّى الله عليه وسلم بقطع النخل، فشق ذلك على بني النضير مشقة شديدة، فقالوا للمؤمنين: تزعمون أنكم تكرهون الفساد وأنتم تفسدون في الأرض، فدعوها قائمة فإنما هي لمن غلب، فنزل: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ واللينة هي النخلة كلها ما خلا العجوة أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها وهي العجوة فَبِإِذْنِ اللَّهِ يعني: القطع والترك بإذن الله.
وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه أمر عبد الله بن سلام، وأبا ليلى المازني بقطع النخل، فكان أبو ليلى يقطع العجوة، وكان عبد الله بن سلام يقطع اللون، فقيل لأبي ليلى: لِمَ تقطع العجوة؟
قال: لأن فيه كبت العدو. وقيل لابن سلام: لِمَ تقطع اللون، قال: لأني أريد أن تبقى العجوة للمسلمين. فأنزل الله تعالى رضاً بما فعل الفريقان، فقال الله تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ. ثم قال عز وجل: وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ يعني:
وليذل العاصين الناقضين العهد.
426

[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٦ الى ١٠]

وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) مَّآ أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠)
ثم قال عز وجل: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ، يعني: ما أعطى الله ورسوله من بني النضير وذلك أنهم طلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلم أن يقسم أموالهم بين جميع المسلمين كما قسم أموال بدر، فلم يفعل النبيّ صلّى الله عليه وسلم، وقسم بين فقراء المهاجرين، فنزل وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ يعني: ما أعطى الله ورسوله من أموال بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ يعني: ما أجريتم عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ، يعني: لا على خيل ولا على إبل أتيتم، بل إنكم مشيتم مشيا حتى فتحتموها. ويقال: أوجف الفرس والبعير، إذا أسرعا يعني: لم يكن عن غزوة أوجفتم خيلا ولا ركابا. وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ يعني: محمدا صلّى الله عليه وسلم عَلى مَنْ يَشاءُ من بني النضير. وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من النصرة والغنيمة.
ثم بين لمن يعطي تلك الغنائم، فقال: مَّآ أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى، يعني:
من بني النضير وفدك ويقال: بني قريظة والنضير وخيبر. فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ، يعني: لله أن يأمركم فيه بما أحب. وروى عبد الرازق، عن معمر، عن الزهري قال: كانت بنو النضير للنبي صلّى الله عليه وسلم خالصا، لم يفتحوها عنوة ولكن افتتحوها على صلح، فقسمها بين المهاجرين. ثم قال: وَلِذِي الْقُرْبى، يعني: قرابة الرسول صلّى الله عليه وسلم. وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ.
وروى مالك بن أنس، عن عمر قال: كانت للنبي صلّى الله عليه وسلم ثلث صفايا بني النضير وخيبر وفدك.
فأما بنو النضير، فكانت حبسا لنوائبه. وأما فدك، فكانت لابن السبيل. وأما خيبر، فجزأها
427
ثلاثة أجزاء، فقسم جزأين بين المسلمين، وحبس جزءا للنفقة. فما فضل عن أهله، رده إلى فقراء المسلمين.
ثم قال: كَيْ لا يَكُونَ، المال. دُولَةً. قرأ أبو جعفر المدني دُولَةً بالضم وجعله اسم يكون وقراءة العامة بالنصب، يعني: لكي لا يكون دولة. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي دُولَةً بنصب الدال، والباقون بالضم. فمن قرأ بالضم، فهو اسم المال الذي يتداول، فيكون مرة لهذا ومرة لهذا. وأما النصب، فهو النقل والانتقال من حال إلى حال.
بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ، يعني: لكيلا يغلب الأغنياء على الفقراء، ليقسمونه بينهم.
ثم قال: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ، يعني: ما أعطاكم النبيّ صلّى الله عليه وسلم من الغنيمة فخذوه، وما أمركم الرسول فاعملوا به، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا يعني: فامتنعوا عنه. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن عصاه.
ثم ذكر أن الفيء للمهاجرين، فقال تعالى لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ، يعني: الغنائم للفقراء المهاجرين، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ، يعني: تركوا أموالهم وديارهم في بلادهم، وهاجروا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم. ويقال: هذا ابتداء ومعناه عليكم بالفقراء المهاجرين، يعني:
اعرفوا حقهم وصلوهم، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني: أخرجهم أهل مكة من ديارهم وأموالهم. يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً، يعني: يطلبون رزقا في الجنة ورضوان الله تعالى، وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يعني: يطيعون الله فيما أمرهم بطاعته. أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ يعني: الصادقين في إيمانهم فطابت أنفس الأنصار بذلك، فقالوا: هذا كله لهم وأموالنا أيضا لهم.
فأثنى الله تعالى على الأنصار، فقال عز وجل: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: استوطنوا الدار يعني: دار المدينة من قبل هجرتهم، يعني: نزلوا دار الهجرة في المدينة والإيمان، يعني: تبوءوا الإيمان، أي كانوا مؤمنين من قبل أن هاجر إليهم النبي صلّى الله عليه وسلم وأصحابه.
قال الله تعالى: يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ. يعني: يحبون من يقدم إليهم من المؤمنين، وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا، يعني: لا يكون في قلوبهم حسدا مما أعطوا، يعني:
المهاجرين. ويقال: حاجة يعني: حزازة، وهو الحزن ويقال: ولا يجدون في صدورهم بخلا وكراهة بما أعطوا. وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ في القسمة يعني: الغنيمة، يعني: تركوها للمهاجرين. وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ يعني: حاجة.
وروى وكيع، عن فضيل بن عمران، عن أبي هريرة- رضي الله عنه- إن رجلا من الأنصار نزل به ضيف، فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه، فقال لامرأته: نومي الصبية وأطفئي السراج، وقربي إلى الضيف ما عندك، فنزل وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ. ويقال: إن رجلا من الأنصار أهدي له برا من مشوي، فقال: لعل جاري أحوج
428
مني، فبعث إليه. ثم إن جاره بعثه إلى آخر، فطاف سبعة أبيات، ثم عاد إلى الأول، فنزل وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ قال الله تعالى وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ يعني:
ومن يمنع بخل نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ يعني: الناجين. وروى وكيع بإسناده، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال «بريء من الشح من أدى الزكاة وأقرى الضيف وأعطى في النائبة».
وقد أثنى الله تعالى على المهاجرين وعلى الأنصار، ثم أثنى على الذين من بعدهم على طريقتهم، فقال: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني: التابعين، ويقال: يعني: الذين هاجروا من بعد الأولين. يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ يعني: أظهروا الإيمان قبلنا، يعني: المهاجرين والأنصار. وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا يعني: غشا وحسدا وعداوة لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ يعني: رحيم بعبادك المؤمنين.
وفي الآية دليل: أن من ترحم على الصحابة واستغفر لهم، ولم يكن في قلبه غل لهم، فله حظ في المسلمين، وله أجر مثل أجر الصحابة. ومن شتم أو لم يترحم عليهم، أو كان في قلبه غل لهم، ليس له حظ في المسلمين، لأنه ذكر للمهاجرين فيه حظ، ثم ذكر الأنصار، ثم ذكر الذين جاءوا من بعدهم، وقد وصفهم الله بصفة الأولين، إذ دعا لهم وفي الآية دليل: أن الواجب على المؤمنين أن يستغفروا لإخوانهم الماضين، وينبغي للمؤمنين أن يستغفروا لآبائهم ولمعلميهم الذين علموهم أمور الدين. ثم نزل في شأن المنافقين:
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ١١ الى ١٧]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لاَ يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥)
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧)
429
فقال عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يعني: منافقي المدينة. يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني: من بني النضير. لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً يعني: ولا نطيع محمدا صلّى الله عليه وسلم في خذلانكم. وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ يعني:
لنعينكم. وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في مقالتهم، وإنما قالوا ذلك بلسانهم في غير حقيقة قلوبهم، فقال الله تعالى: لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ يعني: لئن أخرج بنو النضير، لا يخرج المنافقين معهم. وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ يعني: لا يمنعونهم من ذلك. وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ يعني: ولو أعانوهم لا يثبتون على ذلك وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ يعني: رجعوا منهزمين. ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ، ثم لا يثبتون يعني: لا يُمْنَعون من الهزيمة.
ثم قال عز وجل: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً يعني: أنتم يا معشر المسلمين أشد رهبة فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ، يعني: خوفهم منكم أشد مِنْ عَذَابِ الله في الآخرة. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ، يعني: لا يعقلون أمر الله تعالى.
ثم أخبر عن ضعف اليهود في الحرب، فقال عز وجل: لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً، يعني:
لا يخرجون إلى الصحراء لقتالكم. إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ، يعني: حصينة أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ، يعني: يقاتلونكم من وراء جدر، فحذف الألف وهو جمع الجدار. قرأ ابن كثير وأبو عمرو من وراء جدار بالألف، والباقون جُدُرٍ بحذف الألف وهو جماعة وممن قرأ جدار، فهو واحد يريد به الجمع. ثم قال: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ، يعني: قتالهم فيما بينهم إذا اقتتلوا شديد، وأما مع المؤمنين فلا. ثم قال تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً، يعني: تظن أن المنافقين واليهود على أمر واحد وكلمتهم واحدة. وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى، يعني: قلوب اليهود مختلفة ولم يكونوا على كلمة واحدة. ذلِكَ بِأَنَّهُمْ يعني: ذلك الاختلاف بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ يعني:
لا يعقلون أمر الله تعالى.
ثم ضرب لهم مثلا، فقال عز وجل: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: مثل بني النضير مثل الذين من قبلهم، يعني: أهل بدر. قَرِيباً يعني: كان قتال بدر قبل ذلك بقريب، وهو مقدار سنتين أو نحو ذلك قريبا. ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ يعني: عقوبة ذنبهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني: عذابا شديدا في الآخرة ثم ضرب لهم مثلا آخر في الآخرة، وهو مثل المنافقين مع اليهود حين خذلوهم ولم يعينوهم. كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ يعني: برصيصا الراهب.
وروى عدي بن ثابت، عن ابن عباس- رضي الله عنهما- قال: كان في بني إسرائيل راهب عبد الله تعالى زمانا من الدهر، حتى كان يؤتى بالمجانين فيعودهم ويداويهم، فيبرءون
430
على يديه. وأنه أتى بامرأة قد جنت وكان لها أخوة فأتوه بها، فكانت عنده، فلم يزل به الشيطان يزين له، حتى وقع عليها، فحملت. فلما استبان حملها، لم يزل به الشيطان يخوفه ويزين له، حتى قتلها ودفنها. ثم ذهب الشيطان إلى إخوتها في صورة رجل، حتى لقي أحدا من أخوتها، فأخبره بالذي فعل الراهب، وأنه دفنها في مكان كذا. فبلغ ذلك ملكهم، فسار الملك مع الناس، فأتوه فاستنزلوه من الصومعة فأقر لهم بالذي فعل، فأمر به، فصلب. فلما رفع على خشبة، تمثل له الشيطان، فقال: أنا الذي زينت لك هذا وألقيتك فيه، فهل لك أن تطيعني: فيما أقول لك، وأخلصك مما أنت فيه؟ فقال: نعم. قال: اسجد لي سجدة واحدة.
فسجد له، فذلك قوله: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ يعني: اسجد.
فَلَمَّا كَفَرَ يعني: سجد. قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ، قال ذلك على وجه الاستهزاء، كذلك المنافقون خذلوهم اليهود كما خذل الشيطان الراهب، فَكانَ عاقِبَتَهُما يعني: عاقبة الشيطان والراهب، أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها يعني: مقيمين فيها.
وكان ابن مسعود يقرأ خالدان فيها، وقراءة العامة بعده خالِدَيْنِ فِيها بالنصب. وإنما هو نصب على الحال. وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ يعني: الخلود في النار جزاء المنافقين والكافرين.
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ١٨ الى ٢٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (١٩) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (٢٢)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ يعني: اخشوا الله، ويقال: أطيعوا الله.
وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ يعني: ما عملت لغد، وأسلفت لغد أي ليوم القيامة، ومعناه:
تصدقوا واعملوا بالطاعة، لتجدوا ثوابه يوم القيامة. ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من الخير والشر.
ثم وعظ المؤمنين بأن لا يتركوا أمره ونهيه كاليهود. ويوحدوه في السر والعلانية، ولا يكونوا في المعصية كالمنافقين، فقال: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ يعني: تركوا أمر الله
تعالى. فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ يعني: خذلهم الله تعالى، حتى تركوا حظ أنفسهم أن يقدموا خيرا لها. أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ يعني: العاصين، ويقال: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ أي:
تركوا ذكر الله وما أمرهم به فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ يعني: فترك ذكرهم بالرحمة والتوفيق، ويقال:
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ يعني: تركوا عهد الله ونبذوا كتابه وراء ظهورهم، فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ يعني: أنساهم حالهم، حتى لم يعملوا لأنفسهم ولم يقدموا لها خيرا. أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ يعني: الناقضين للعهد.
ثم ذكر مستقر الفريقين، فقال: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ، يعني: لا يستوي في الكرامة والهوان في الدنيا والآخرة، لأن أصحاب الجنة في الدنيا موفقون منعمون معتصمون، وفي الآخرة لهم الثواب والكرامة، وأصحاب النار مخذولون في الدنيا معذبون في الآخرة. ويقال: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ في الآخرة، لان أصحاب الجنة يتقلبون في النعيم، وأصحاب النار يتقلبون في النار والهوان. ثم قال: أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ يعني: المستعدون الناجون، وأصحاب النار الهالكون.
ثم وعظهم ليعتبروا بالقرآن، فقال عز وجل: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ يعني:
القرآن الذي فيه وعده ووعيده لو أنزلناه على جبل، لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ يعني: خاضعا متصدعا، ويقال: يندق من خوف عذاب الله، فكيف لا يندق ولا يرق هذا الإنسان ويخشع؟ ويقال: هذا على وجه المثل، يعني: لو كان الجبل له تميز عقل، لتصدع من الخشية.
ثم قال عز وجل: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ يعني: نبينها للناس، لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ يعني: لكي يتعظوا في أمثال الله، يعني: يعتبرون ولا يعصون الله تعالى. ثم قال:
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ يعني: لا خالق ولا رازق غيره. عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يعني:
عالم السر والعلانية، ويقال: الغيب: ما غاب عن العباد. والشهادة: ما شاهدوه وعاينوه ويقال: عالم بما كان وبما يكون، ويقال: عالم بأمر الآخرة وبأمر الدنيا. ثم قال: هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ يعني: العاطف على جميع الخلق بالرزق، الرَّحِيمُ بالمؤمنين.
[سورة الحشر (٥٩) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٢٣) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٤)
ثم قال عز وجل: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ يعني: مالك كل شيء،
432
وهو الملك الدائم الذي لا يزول ملكه أبدا. ثم قال: الْقُدُّوسُ يعني: الطاهر عما وصفه الكفار ولهذا سمي بيت المقدس يعني: المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب. ثم قال:
السَّلامُ يعني: يسلم عباده من ظلمه، ويقال: سمى نفسه سلاما، لسلامته مما يلحق الخلق من العيب والنقص والفناء. ثم قال: الْمُؤْمِنُ يعني: يؤمن أولياؤه من عذابه ويقال:
الْمُؤْمِنُ أي: يصدق في وعده ووعيده ويقال: الْمُؤْمِنُ يعني: قابل إيمان المؤمنين. ثم قال: الْمُهَيْمِنُ يعني: الشهيد على عباده بأعمالهم، ويقال: الْمُهَيْمِنُ يعني: المويمن فقلبت الواو هاء، وهو بمعنى الأمين. ثم قال: الْعَزِيزُ يعني: الذي لا يعجزه شيء عما أراد ويقال: الْعَزِيزُ الذي لا يوجد مثله. ثم قال: الْجَبَّارُ يعني: القاهر لخلقه على ما أراده، ويقال: الغالب على خلقه ومعناهما واحد. ثم قال: الْمُتَكَبِّرُ يعني: المتعظم على كل شيء، ويقال: الْمُتَكَبِّرُ الذي تكبر عن ظلم عباده. ثم قال: سُبْحانَ اللَّهِ يعني: تنزيها لله تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ يعني: عما وصفه الكفار من الشريك والولد، ويقال: سُبْحانَ اللَّهِ، بمعنى: التعجب يعني عجبا عما وصفه الكفار من الشريك.
قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ يعني: خالق الخلق في أرحام النساء، ويقال: خالق النطف في أصلاب الآباء، المصور للولد في أرحام الأمهات ويقال: الْخالِقُ يعني:
المقدر. الْبارِئُ الذي يجعل الروح في الجسد، ويقال: الْبارِئُ يعني: خالق الأشياء ابتداء. ثم قال: الْمُصَوِّرُ للولد في أصلاب الآباء. لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يعني: الصفات العلى، ويقال: لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وهي تسعة وتسعون اسما، مائة غير واحد. مَنْ أحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ. وروى أبو هريرة- رضي الله عنه-، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال: إن لله تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْماً مائَةً غير واحد مَنْ أحْصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ.
ثم قال: يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: يخضع له ما في السموات والأرض، يعني: جميع الأشياء، كقوله: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ. ثم قال: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يعني: العزيز في ملكه، الحكيم في أمره. فإن قال قائل: قد قال الله تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ، فما الحكمة في أنه نهى عباده عن مدح أنفسهم ومدح نفسه؟ قيل له: عن هذا السؤال جوابان: أحدهما: أن العبد، وإن كان فيه خصال الخير فهو ناقص، وإن كان ناقصا لا يجوز له أن يمدح نفسه- والله سبحانه وتعالى تام الملك والقدرة، فيستوجب به المدح. فمدح نفسه ليعلم عباده فيمدحوه- وجواب آخر: أن العبد، وإن كان فيه خصال الخير، فتلك الخصال أفضال من الله تعالى، ولم يكن ذلك بقدرة العبد، فلهذا لا يجوز له أن يمدح نفسه. والله سبحانه وتعالى إنما قدرته وملكه له، ليس لغيره، فيستوجب به المدح. ومثال هذا أن الله تعالى نهى عباده أن لا يمنوا على أحد بالمعروف، وقد من الله تعالى على عباده للمعنى الذي ذكرناه في المدح والله أعلم بالصواب، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.
433
Icon