تفسير سورة هود

بيان المعاني
تفسير سورة سورة هود من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

تفسير سورة هود عدد ٢- ٥٢- ١١
نزلت بمكة بعد سورة يونس عدا آيتي ١٣/ ١٤ وآية ١١٤ فإنها نزلت بالمدينة، وهي مئة وثلاث وعشرون آية، وألف وستمئة كلمة وتسعة آلاف وخمسمائة حرفا، وقد بينا الآيات بما بدئت به أول سورة يونس المارة، وختمت بما ختمت به سورة النمل المارة في ج ١.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى: «الر» اسم للسورة وللقرآن وإشارة لأسماء الله الحسنى وصفاته أي بعضها، وقال بعض المفسرين معناه أنا الله أرى، وقد تقدم ما فيه من البحث الوافي أول سورة الأعراف والسور المصدرة بالحروف المنقطعة المارة في ج ١ وفي السورة قبلها وقولنا الله أعلم بمراده بما فيها أحسن ما قيل فى معناها لأنها عبارة عن رموز بين الله ورسوله لا يعلمهما غيرهما على الحقيقة، وهكذا حكم الآيات المتشابهات في هذا القرآن العظيم إذ يوكل معناها إلى الله، قال الإمام الرياني الشيخ نعمة الله بن محمود النخجواني في تفسيره الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية في تفسير هذه اللفظة: أيها الإنسان الأحق الأليق لإعلاء لوامع أنوار الإلهية وارتفاع رايات رموز أسرار الربوبية بين الأنام بالبيان والتبيان هذا «كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ» إحكاما مبرما لا تنسخ ولا يطرأ عليها تبديل أو تعديل إذ لا كتاب بعده، وقد نسخت آياته أكثر أحكام الكتب القديمة وعدلتها إلى أحسن نظما وأخف عبئا وأعظم أجرا، وإني لأعجب ممن يقرأ هذه الآية ويقول بالنسخ إذ ما بعد الاحكام إلا التسليم بجميع ما جاء فيه. واعلم أن الر تقرا كما هو الأصل بتفخيم الراء وهكذا في كل راء مفتوحة أو كان ما قبلها مفتوحا ولا عبرة بالحرف الساكن بينهما أي بينهما وما قبلها لأنه حاجز غير حصين «ثُمَّ فُصِّلَتْ» تفصيلا بديعا ونظمت تنظيما رصينا فبيّنت الحلال من الحرام والحق من الباطل أكمل بيان وأتم تبيان وأوضحت القصص والأخبار أحسن إيضاح، وهذا الإحكام والتفصيل واقع ومنزل «مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ١» بأفعاله عليهم بأقواله يضع الأشياء مواضعها بما يصلح أحوال عباده شاهد لما يقع منهم وقد أمركم أيها الناس «أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ»
89
وحده لا شيء ولا أحد أبدا، وأن هنا مفسرة على ما جرينا عليه وهو أحسن من جعلها على تقدير اللام كما مشى عليه بعض المفسرين، والمعنى على الأول أن الله الذي أنزل هذا الكتاب وأحكم آياته وفصلها أمركم أن لا تعبدوا غيره وذلك لما في التفصيل من معنى القول دون حروفه، وعلى الثاني تكون مصدرية وتقدر اللام معها تعليلا وعليها يكون المعنى هذا كتاب أحكمت آياته ثم فصلت لئلا تعبدوا إلا الله، ويجوز أن تكون هذه الجملة مبتدأة للإغراء على التوحيد أي الأمر بالتبري عن عبادة غير الله تعالى أي الزموا التوحيد واتركوا عبادة الغير وارجعوا إلى الله ربي وربكم «إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ» أي يقول الله تعالى يا محمد قل لقومك إنني أيها العصاة «نَذِيرٌ» لكم من عقاب الله تعالى «وَبَشِيرٌ ٢» لكم أيها الطائعون بثوابه «وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» مما اقترفتموه من الذنوب واخترقتموه من العيوب «ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» بعدها عما سلف منكم حال حياتكم من كل ما يغضب الله فإذا فعلتم ذلك فإن الله تعالى «يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً» في هذه الدنيا بسعة الرزق والعافية والعزّ «إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى» عنده، واعلم أن ما جاء في الحديث الشريف: الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر لا يرد على هذه الآية لأنها سجن المؤمن بالنسبة لما أعده الله تعالى له في الآخرة من النعيم المقيم فكل ما أعطاه له في هذه الدنيا من النعم لا يعد شيئا بجانبه على أن ما يصيبه فيها من البلاء يكون مكفرا لذنوبه كي يلقى ربه وليس عليه ذنب يستوجب المجازاة وهذا لطف من الله بعباده المؤمنين، وكذلك الكافر فإن الدنيا له جنة بالنسبة لما أعده له من العذاب الأليم في الآخرة، فكل ما يصيبه في الدنيا من النعيم لا يوازيه عذاب ثانية واحدة من عذابها وأن ما يناله من الخير فيها فهو بمقابل حسناته التي يعملها كصلة رحم وإقراء ضيف وشبههما كي يلقى الله تعالى وليس له حسنة تستحق الجزاء الحسن وهذا زيادة في شؤمه وعذابه «وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ» زيادة من عمل صالح «فَضْلَهُ» جزاءه لا يبخس منه شيئا أبدا، قال أبو العالية من كثرت طاعاته في الدنيا زادت حسناته ودرجاته في الجنة لأن الدرجات تكون على قدر الأعمال، وقال ابن مسعود: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له
90
عشر حسنات، فإن عوقب بالسيئة في الدنيا بقيت له عشر حسنات وإن لم يعاقب بها بالدنيا أخذ من حسناته العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات، ثم يقول ابن مسعود ملك من غلبت آحاده أعشاره. فعلى العاقل
أن يكثر من الخير إبان شبابه وسعته، لأنه قد يعجز في الكبر والفقر عن القيام بما يريده من القربات، ولهذا قال الحافظ:
أترجو أن تكون وأنت شيخ كما قد كنت أيام الشباب
لقد كذبتك نفسك ليس شيىء دريس كالجديد من الثياب
«وَإِنْ تَوَلَّوْا» تتولوا وتعرضوا عن ما جئتكم به من الهدى وأسديت لكم من النصح والتوجيه والإرشاد «فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ» بمقتضى الشفقة والرحمة أن يحيط بكم «عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ٣» هو يوم الجزاء على الأعمال يوم مهول لا أعظم منه. واعلم أن كل عمل منعم عليه في الآخرة منعم على صاحبه في الدنيا أيضا بتزيين عمله في نظره وراحة ضميره إليه وتعلقه برضاء ربه، ورجاء ثوابه عليه، واطمئنان نفسه فيه، وانشراح قلبه له، وثناء الناس عليه، وترغيب الغير لمثله، وضرب المثل فيه بالخير والسماحة والعمل الطيب والفعل الحسن، كما أن كل عمل معذب عليه في الآخرة معذب ضمير صاحبه عليه في الدنيا بقبح صورته في نظره وسوء تصوّر عمله في قلبه، وإن كان ذاق لذته الظاهرة الزائلة بحينها وضيق صدره لما وقع بعد قضاء شهوته الحيوانية وتخوفه من سوء عاقبته إن كان له وجدان أو دين، وندمه على ما فرط منه وحسرته على تفريطه، وذم الناس له وتحذيرهم من عمله، وضرب مثل السوء به.
مطلب كل ما ينعم عليه العبد في الدنيا ينعم عليه في الآخرة وبالعكس:
روى الإمام أحمد بن حنبل والدارمي رحمهما الله بإسناد حسن في سنديهما عن وابصة بن معبد رضي الله عنه دفين الرقة من أعمال دير الزور- سابقا-، قال أتيت رسول الله ﷺ فقال جئت تسأل عن البر؟ قلت نعم (وهذا من الإخبار بالغيب لأنه ﷺ أخبره بما جاء يسأل عنه قبل أن يبديه له) قال استفت قلبك، البر ما اطمأنت
91
إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك بالفاء وفي رواية بالقاف- فعلى الأول من الفتيا وهي الجواز والرخصة والثاني من الإقتاء وهو الإرضاء، أي وإن أرضوك فلا تركن لقولهم.
وروى مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: البرّ حسن الخلق والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس. وروى الترمذي والنسائي عن أبي محمد الحسن بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله ﷺ وريحانته رضي الله عنهما قال حفظت من رسول الله: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك.
وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال ﷺ من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. قال تعالى «إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ» أيها الناس بعد الموت «جميعا» بركم وفاجركم «وَهُوَ» الذي أحياكم في الدنيا وأماتكم فيها ويحييكم ثانيا يوم القيامة ذلك الإله الواحد المتجلي في الآفاق بكمال الاستقلال والاستحقاق هو «عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ٤» لا يعجزه شيء «أَلا إِنَّهُمْ» أولئك الكفرة عند سماع آيات الله المنزلة عليك يا أكمل الرسل من ربك الملك الجبار القهار العلام «يَثْنُونَ» يلوون ويعطفون ويصرفون عنك «صُدُورَهُمْ» يزوّرونها عن رؤيتك وينحرفون بكليتهم عنك ويخفون ما فيها من عداوتك، يقال أزوّر عنه وثنى عنه لأن من يقبل على الشيء يقبل بصدره، ومن يدبر يزوّر وينحرف بصدره ويطوي كشحه، وهذه الآية في معرض الجواب عما تقدم من الترغيب والترهيب فكأن أولئك الكفرة بعد ما سمعوا من حضرة الرسول ذلك القول العظيم الإلهي الذي تخر له صم الجبال تمادوا في كفرهم وأصروا على ضلالهم ودارموا على إعراضهم المشار إليه بقوله (فإن تولوا) الجملة المارة في الآية ٣، وإنما خص الصدور بالازورار لأن ما فيها مكتوم، فكأنهم يظهرون له خلاف ما يبطنون، يدل عليه قوله تعالى «لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ» ﷺ والله لا تخفى عليه خافية فإنه جلت عظمته يخبر نبيّه بما يقع منهم ظاهرا وباطنا «أَلا» تنبيه ثان لما بعده بأنه شيء يهتم له ويجب الاعتناء به، وهو أن الله يعلم كل ما يقع منهم حتى أنهم «حِينَ» وقت وزمن «يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ» فيه فيغطون بها رءوسهم كراهية رؤية من تخطب
92
رؤيته ﷺ وكراهية سماع قوله الذي يشتاق إليه الجماد لا لأمر آخر، قاتلهم الله، فإنه تعالى يعلم قبل وقوعه منهم بأنهم فاعلوه وهؤلاء مثلهم مثل قوم نوح عليه السلام إذ أخبر الله عنهم حينما يتكلم معهم نوح عليه السلام بقوله (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) لئلا يسمعوا كلامه (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) لئلا يروه كما سيأتي في الآية ٧ من سورته الآتية تشابهت قلوبهم، أخزاهم الله الذي «يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ» في أنفسهم «وَما يُعْلِنُونَ» من كلامهم كما هو عالم من قبل ما يقع منهم سرا وجهرا قبل وقوعه «إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ٥» بما فيها من الأسرار المستكنة فكيف يخفى عليه حال هؤلاء؟! وفي هذه الآية دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها بل قبل وجودها الخارجي وهو مما لا ينكره أحد إلا بعض المعتزلة القائلين بأنه تعالى يعلم الأشياء بعد حدوثها، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، لما فيه من تشبيهه بخلقه، لأن العلم بالشيء بعد حدوثه يعلمه بعض خلقه فلا مزية فيه، وهذا كقول بعضهم إن الإسراء وقع مناما لأنه قد يقع لبعض خلقه من غير نكير، قال ابن عباس نزلت هذه الآية في الأخنس بن شريق وكان رجلا حلو الكلام حلو المنظر، وكان يلقى رسول الله بما يحب ويطوي بقلبه عليه ما يكره، وما قيل إنها نزلت في بعض المنافقين الذين كانوا يلقونه ﷺ بوجه منطلق ويبطنون له غير ذلك لا يتجه، لأن هذه السورة مكية والآية كذلك، والنفاق إنما ظهر في المدينة وهم فيها لا شك يقع منهم ذلك وأكثر، ولذلك سموا منافقين وهذه الآية تنطبق عليهم، إلا أنها لم تنزل بحقهم، اللهم إلا إذا كان هذا من قبيل الإخبار بالغيب عن شيء لم يقع، لعلمه تعالى بوقوعه فيما بعد، فيكون جائزا، ومثله كثير في القرآن، لأنه من جملة معجزاته ﷺ ومعجزات القرآن العظيم، وهو من قبيل ما تأخر حكمه عن نزوله، راجع أول سورة الطارق المارة في ج ١، قال تعالى «وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ» اسم لكل حيوان دب على وجه الأرض أي مشى عليها، ويطلق على ذوات الأربع عرفا، والمراد هنا ما هو عام للإنسان وغيره «إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها» تفضلا منه وتكرما لا واجبا «وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها» وبقاءها في عالم الشهادة، ومقدار ثباتها فيه وانفكاكها عنه، ومكامنها
93
ومساكنها، ومحل وكرها الذي تأوي إليه في الأرض والبحار والجبال والهواء وغيرها، «وَمُسْتَوْدَعَها» قبل خروجها إلى عالم الظهور وقبل استقرارها في الأصلاب والأرحام والبيوض وغيرها، وبعد انعدامها من المحلات التي تدفن فيها أو تضمحل بها، وما قيل إن تفسير المستودع بهذا لا يلائم
تكفل الله بأرزاقها إذ لا مجال له ولا حاجة للرزق فيه مردود، لأن المراد بالتكفل مدة بقائها في برزخ المادة واحتياجها للرزق، فتنتهي مدته بالأجل المقدر لكل دابة، فكأنه قيل إن الله تعالى متكفل برزق كل دابة، ويعلم مكانها أول ما تحتاج إلى الرزق ومكانها آخر ما تحتاج إليه. ولهذا البحث صلة في الآية ٩٨ من سورة الأنعام الآتية، وقد ألمعنا إليه في الآية ٩ من سورة مريم المارة في ج ١ «كُلٌّ» من الدواب دوّن اسمه ورزقه ومستقره ومستودعه، وما يطرأ عليه في مدة أجله «فِي كِتابٍ مُبِينٍ ٦» ظاهر مثبت فيه كل شيء قبل خلقه وبعد خلقه، وموضح فيه آجال الأشياء ومصيرها بعد موتها وانعدامها بأي صورة كانت وتكون، والدبّ مأخوذ من الدبيب وهو الشيء الخفيف وعليه قوله:
زعمتني شيخا ولست بشيخ إنما الشيخ من يدب دبيبا
ويفهم من هذه الآية أن الله تعالى يسوق رزق كل دابة إليها دون أن تسعى إليه بمقتضى تكفله لها بدليل قوله تعالى (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ) الآية ٢٢ من الذاريات الآتية، وقوله صلى الله عليه وسلم: لو توكلتم على الله لحق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا. وما جاء في الخبر: لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب. وتؤذن أيضا في حمل العباد على التوكل، إلا أنه لا يمنع من مباشرة الأسباب، مع العلم بأن الله تعالى هو المسبب لها وجاء في الخبر: (اعقل وتوكل) وقال تعالى (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) الآية ١٦ من سورة الملك الآتية، ففيهما إيذان بتعاطي الأسباب مع التوكل على الله، إلا أنه لا ينبغي أن يعتقد عدم حصول الرزق بدون مباشرة سبب، فإنه تعالى يرزق كثيرا من خلقه دون مباشرة الأسباب أصلا، فقد جاء في بعض الأخبار أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي تعلق قلبه بأحوال أهله
94
إذ أمره الله تعالى بالاشتغال بتبليغ الرسالة إلى من يعلم عتوه له وعناده وبغضه له بسبب قتل الرجل من قومه قاتله الله ولم يحسب قتل الألوف من قبله من قوم موسى، فأمره الله تعالى أن يضرب صخرة بعصاه، فضربها فانشقت عن صخرة ثانية، فضربها فانشقت عن صخرة ثالثة، فضربها فانشقت عن دودة كالذرة، وفي فمها شيىء يجري مجرى الغذاء لها، وسمعها تقول سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ولا ينساني، فتنبه موسى عليه السلام لذلك وصرف نظره عن ذكر أهله. وما أحسن قول ابن أذينة:
لقد علمت وما الإسراف من خلقي... إن الذي هو رزقى سوف يأتيني
أسعى إليه فيعييني تطلبه... ولو أقمت أتاني لا يعنيني
وقد صدقه الله تعالى حيث وقد على هشام بن عبد الملك، فلما رآه قرّعه بقوله هذا فقال له وتشد رحلك من المدينة إلى الشام بطلب الرزق، فتركه ورجع، فلما غاب عنه ندم هشام على ما وقع منه نحوه، وكانوا يخشون الشعراء حفظا لكرامتهم، لأن الشاعر قد لا يترك عادته من الهجاء كما لا يتركها في المدح، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ذبوا بأموالكم عن أعراضكم، فأرسل بجائزته إليه من دمشق إلى المدينة، فلما رأى أنه أرسلها رغما عنه دون طلب منه، قال للرسول قل له قد صدقت في قولي ولو أراد الله لما بعثك بها من الشام إلى المدينة، فأخبر الرسول هشام بن عبد الملك بما قاله ابن أذينة فسمعه ورجع عن كلامه.
مطلب إرسال الرزق عفوا وكون العرش على الماء وكيفية الخلق:
ولا ينبغي لمثله أن يفعل ذلك، ويوجد أخبار وآثار كثيرة في هذا الشأن، وقد ألغى أمر الأسباب إلغاء تاما القائل:
مثل الرزق الذي تطلبه... مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعا... وإذا وليت عنه تبعك
وهذا يكون بحسب مكابرة الأشخاص واعتقاداتهم، وبالجملة فينبغي الوثوق بالله وربط القلب به فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وتشير هذه الآية أيضا إلى
95
أن الحرام رزق وإلا فمن يأكل طول عمره حراما يلزم أن لا يكون مرزوقا، وهو خلاف الواقع، وقدمنا ما يتعلق في هذا عند الآية ٥٩ من سورة يونس المارة وما يتعلق بالكسب في الآية ٢٠ من سورة المزمل، والآيتين ٤٠/ ٣٩ من سورة والنجم، وفي الآية ١٣ من سورة فاطر المارات في ج ١، قال تعالى «وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ» راجع تفسيرها في الآية ٦٠ من سورة الفرقان المارة في ج ١ وفيها ما يرشدك إلى المواقع الأخرى التي تعرضنا فيها للبحث عما فيها، وله صلة في الآية ٩ من سورة فصلت الآتية «وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ» قبل خلق السموات والأرض، فتدل هذه الآية على أن العرش والماء خلقا قبل السموات والأرض، وفي وقوف العرش على الماء مع عظمته اعتبار لأهل الأفكار، وفيه من كمال القدرة ما فيه، لأن البناء الضعيف إذا لم يكن له أساس على أرض صلبة لم يثبت فكيف بهذا الخلق العظيم قد وضع على الماء، ولم يخرج عن حيّزه الطبيعي؟ ولا يقال كيف، لأن افعال الله تعالى لا تعلل وقدرته لا تضاهى كما قدمنا في الآية ٩٢ من سورة يونس المارة، روى مسلم عن عبد الله بن عمر وبن العاص قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء.
وأخرج الطيالسي وأحمد والترمذي وحسنه وابن ماجه وابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الأسماء والصفات عن أبي رزين العقيلي قال: قلت يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء، وخلق عرشه على الماء. وروى البخاري عن عمران بن حصين قال دخلت على النبي ﷺ وعقلت ناقتي بالباب، فأتى ناس من تميم فقال اقبلوا البشرى يا بني تميم، فقالوا بشرتنا فأعطنا، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دخل ناس من أهل اليمن فقال اقبلوا البشر يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا قبلنا يا رسول الله، ثم قالوا جئنا نتفقه في الدين ونسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ قال كان الله سبحانه وتعالى ولم يكن معه شيء، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء، ثم أتاني رجل فقال يا عمران أدرك ناقتك فقد ذهبت،
96
فانطلقت أطلبها، فإذا السراب يقطع دونها، وأيم الله لوددت أنها ذهبت ولم أقم.
هذا ومعنى كان الله ولم يكن معه شيء، يعني لا الماء ولا العرش ولا غيرهما، ومعنى كان عرشه على الماء، يعني خلق الماء وخلق العرش فوقه، ومعنى العماء سحاب رقيق ليس معه شيء، ومعنى قوله ليس فوقه هواء أي ليس فوق العماء هواء، وكذلك وما تحته هواء، وفي رواية في عمى بالقصر لا بالمد، وعليه يكون المعنى أن لا شيء ثابت في ذلك، لأنه من عمى معرفته عن الخلق أي كان قبل أن يخلق خلقه، ولم يكن شيء غيره، ويكون معنى ما فوقه هواء ليس فوق العمى هواء ولا تحته هواء، لأنه لا شيء، وإذا كان لا شيء فليس يثبت له هواء بوجه ما.
وقيل العمى كل أمر لا يدركه الفطن والله أعلم، لأن هذا التأويل على كلام العرب المعقول عنهم، وإلا فلا أحد يدري كيف كان ذلك العماء، فيجب الإيمان به بلا تكييف، لأن الأمور المتشابهة ينبغي الإيمان بها حسب ظاهرها والوقوف عندها، وذلك طريق السلامة، راجع الآية ٥ من سورة طه المارة في ج ١ تجد ما يسرك «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» في هذه الدنيا وأكثر ورعا عن محارم الله، وأعظم شكرا لنعمائه، وأحسن تفكرا في موضوعاته، وأشدّ تدبرا في مكوناته أي لهذا خلقها وخلق ما فيها من الخلق الذي من جملته أنتم أيها العقلاء، ورتب فيها ما تحتاجون إليه من بدء وجودكم وأسباب معايشكم، وأودع فيها ما تستدلون به على بدائع مكوناته، وتعتبرون بها على ما يقع من مقدراته ليعاملكم معاملة المختبر الممتحن فيرى المحسن منكم لخلقه ويجاز به على إحسانه، والمسيء التصرف في ذلك فيعاقبه على إساءته، وإلا فهو عالم بالصالح والطالح قبل إيجادهما «وَلَئِنْ قُلْتَ» يا سيد الرسل لكفار قومك «إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ» أحياء كحياتكم هذه فتسألون عما عملتم وتحاسبون عما وقع منكم في الدنيا، فيثاب المؤمن على إيمانه ويعاقب الكافر على كفره «لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا» الذي يقوله محمد ويزعم أنه من القرآن الذي أنزل عليه من ربه ما هو «إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ٧» ظاهر خداعه باطل لا أصل له، يريد به أن نقول ما يقوله من الحياة بعد الموت وعبادة الإله الواحد ليغرينا به، قال تعالى «وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ
97
الْعَذابَ»
الذي وعدناك بإنزاله عليهم يا سيد الرسل عند عدم قبولهم ما تتلوه عليهم من وحينا «إِلى أُمَّةٍ» آجال وجماعة من الأوقات «مَعْدُودَةٍ» قلائل معلومة محدودة لأن الدنيا كلها قليلة بالنسبة إلى الآخرة، ويطلق لفظ الأمة على الجماعة من الناس، فكأنه تعالى قوله يقول لو أخرناهم بمقدار حياة أمة وانقراضها ومجيء أمة أخرى «لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ» ما يمنع العذاب الذي توعدنا به يا محمد من النزول استهزاء وسخرية بك يا أكمل الرسل، لشدة جهلهم وعدم علمهم أن لمقدراتنا كلها آجالا مقدرة لا تقدم ولا تؤخر عما هو مدون في علمنا الأزلي، ولكن قل لهم إنه نازل بهم لا محالة، ثم صدّر الخطاب بأداة التنبيه المار ذكرها في الآية الخامسة من هذه السورة فقال «أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ» بوجه من الوجوه لأن أجل الله إذا حل لا يحول وهو مهلكهم البتة.
مطلب أداة التنبيه وجواز تقديم خبر ليس عليها:
واستدل جمهور البصريين على جواز تقديم خبر ليس عليها كما يجوز تقديمه على اسمها بلا خلاف، لأن يوم منصوب بمصروفا الذي هو خبرها، ولا عبرة لمن ادعى عدم الجواز بعد أن وقع في كتاب الله تعالى، قال في البحر: تتبعت دوارين العرب فلم أظفر بتقديم خبر ليس عليها، ولا تقديم معموله إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية وقول الشاعر:
فيأبى فما يزداد إلا لجاجة وكنت أبيا في الخنى لست أقدم
فإنه مقدم عليها، قال تعالى «وَحاقَ بِهِمْ» أحاط بهم من جميع جهاتهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ ٨» أي العذاب المعبر عنه بما من كل جوانبهم فلا محيص لهم للتخلص منه، وأصل (حاقَ) حقّ مثل زل وزال وذم وذام، وجاء بمعنى الماضي لتحقق وقوعه، وإلا فالمقام يستدعي مجيئه مستقلا لعدم وقوعه بعد (ان يحيق بهم) وجاء بيستهزئون مكان يستعجلون، لأن استعجالهم بطلب نزول العذاب كان بطريق السخرية، لأنهم غير مصدقين به قال تعالى «وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً» من صحة وسعة وأمن بحيث يجد لذّتها، ولذلك عبّر
98
بالإذاقة عن الإعطاء والإيصال «ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ» لعدم قيامه بشكرها، قال عليه الصلاة والسلام اشكروا النعم لا تكفروها، فإنها إن زالت فهيهات أن تعود. فالعاقل يقدر النعمة حال تلبسه بها، والجاهل لا يقدرها حتى تسلب منه بالمرض والضّيق والخوف فإذ ذاك يندم ولات حين مندم، وعبّر عن السلب بالنزع إشعارا بشدة تعلقه بها وإيذانا بزيادة حرصه عليها «إِنَّهُ لَيَؤُسٌ» من عودها إليه قنوط الرجاء من فضل الله، لعدم صبره وتوكله عليه وثقته به، ولو كان متوكلا وثقا بالله لقيدها بالشكر ولكنه «كَفُورٌ ٩» لما أسلفه الله من النعم شديد الجحود لها كأن لم ينعم عليه بشيء، لأن الضيق بعد سعة الرزق، والمرض بعد الصحة، والخوف بعد الأمن صعب جدا، لا يقدر من يصبر عليه كل أحد، أجارنا الله من ذلك. قال تعالى «وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ» وأرهقته «لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي» تباعد عني كل ما يسوءني من فقر ومرض وخوف وذل، فيأمن مكر الله إذ يغيب عن باله زوالها إذا لم يؤد شكرها ويصرفها مصارفها ولم يضفها إلى الله تعالى بل إلى الصدقة والعادة والكد، ولهذا فقد ذمه الله بقوله عز قوله «إِنَّهُ لَفَرِحٌ» بما ناله من ذلك الخير «فَخُورٌ ١٠» به على غيره، ولم يخطر بباله أن ذلك كله من ربه. واعلم أن للفرح لذة في القلب تحصل بنيل المراد، واليئوس والفخور والكفور، أحمد مبالغة تدل على الكثرة والفخر والتطاول على الناس بما عنده من المعاقب والمال والنشب والرياش والرياسة، واللام في لئن في الآيات الأربع المارة موطئة للقسم، وجوابه سادس جواب الشرط كما في قوله:
لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها وأمكنني منها إذا لا أقيلها
برفع أقيلها لأن إذن هنا حرف جواب وجزاء فقط، إذ فصلت لا النافية بينها وبين الفعل، وشرط النصب بها عدم الفصل والتصدير وكون الفعل بعدها مستقبلا ولم يغتفر بالفصل بينها وبين الفعل إلا بالقسم كقوله:
إذن والله نرميهم بحرب يشيب الطفل من قبل المشيب
لأن الفصل بغير القسم يمنع تسلط الناصب، وعليه قول أبي محجن الثقفي رحمه الله:
99
إذا مت فادفنّي إلى أصل كرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنّي في الفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
بالرفع لعدم تسلط الناصب بسبب الفصل بلا، وإنما قلت رحمه الله لأنه تاب توبة نصوحا في حرب القادسية، وسنأتي على قصته في غير هذا الموضع.
قال تعالى «إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا» على الشدائد والمصائب وأيقنوا أن الله تعالى سيبدل عسرهم يسرا، وخسرهم نفعا، وخوفهم أمنا، وذلّهم عزّا، فإن هؤلاء يسندون كل ما يصيهم إلى ربهم ويعلمون أن الخير برضاه والشر بقضاه. واعلم أن هذا الاستثناء متصل من الإنسان إذا أردنا بالإنسان الهار ذكره في الآية المتقدمة الجنس، وأل فيه للاستغراق، ومنقطع إذا أردنا به الإنسان الكافر، وأل فيه للعهد. قال ابن عباس المراد كافر معين وهو الوليد بن المغيرة أو عبد الله بن أمية المخزومي. على أن الإطلاق أولى، فيدخل فيه المذكوران وغيرهم، ولا مندوحة عندي في تخصيص هذين الكافرين وأضرابهما في نزول آيات الله، وهم أصغر من ذلك، والأحسن أن يجنح المفسر إلى عدم تقييد أو تخصيص آيات الله بإنسان أو شيء إلا إذا كان هناك مقيد أو مخصص، وإلا فالإطلاق والتعميم أولى وأحسن للذين فقهوا معنى الآيات «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» مع صبرهم وداوموا عليها حال عسرهم ويسرهم وشكروا الله تعالى على ما آتاهم من فضله من النعم ورجوا منه دوامها وصبروا وحمدوا عند زوالها «أُولئِكَ» الذين هذه صفاتهم «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» عظيمة لذنوبهم مهما كانت، لأن الغفور لا يعظم عليه شيء «وَ» لهم بعد هذه المغفرة «أَجْرٌ كَبِيرٌ ١١» لا أكبر منه وهو الجنة، وقد وصف الله تعالى ثوابهم بالكبر لما يحتوي عليه من النعيم السرمدي ولاشتماله على رضاء الله. هذا ولما تمادى الكفرة على طلب اقتراح الآيات من حضرة الرسول تعنتا لا استرشادا، لأنهم لو كانوا مستهدين لكفتهم آية واحدة ولما داوموا على استهانتهم بحضرة الرسول وعدم اعتبارهم ما يتلوه عليهم من القرآن الحكيم، ضاق صدره الشريف من ذلك، واشتد ضيقه لما يرى من ضحكهم وسخريتهم واستهزائهم عليه وعلى ربه وكتابه، وخاف أن يلحقه ملل من الإدمان على وعظهم هيّجه
100
الله تعالى والهب في قلبه التشدد بأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم ما يلقيه إليهم من الوحي، فقال جل جلاله «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ» من هذا القرآن مخافة عدم قبولهم به «وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ» من عتو كفرة قومك، فلا تتلوه عليهم ولا تبلغهم أحكامه. قال ضائق لمشاكلة تارك، وليدل على أن الضيق عارض له لأنه ﷺ أفسح الناس صدرا وأوسعهم خلقا، كيف لا وقد مدحه ربه بقوله عز قوله (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) الآية ٥ من سورة نون المارة في ج ١، وقوله تعالى (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) الآية ١٦٠ من آل عمران الآتية في ج ٣.
مطلب في اسم الفاعل والآيتين المدنيتين والتحدي بالقرآن:
إلا أن الضيق يطرأ عليه أحيانا بسبب ما يلاقي من قومه، ولأن كل صفة مشبهة إذا قصد بها الحدوث تحول إلى فاعل، فتقول في سيد وجواد وسمين سائد وجائد وسامن مثلا، وعلى هذا قول اللص إذ يصف السجن:
بمنزلة أما اللئيم فامن بها وكرام الناس باد شحوبها
فعلى هذا أن كل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل يرد إليه إن أريد به معنى الحدوث من غير توقف على سماع، وما قيل إن العدول من ضيّق إلى ضائق لمجرد مشاركة تارك ليس بشيء، ولا يوجد في القرآن اسم فاعل من ضاق على وزن ضائق إلا هذا كما لا يوجد فيه فعل خماسي أصالة.
واعلم أن ما قاله بعض المفسرين من أن النبي ﷺ همّ أن يدع سبّ آلهتهم ظاهرا حينما قالوا له (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ) بما ليس فيه سبّ آلهتنا ولا مخالفة آبائنا كما تقدم في الآية ١٥ من سورة يونس المارة غير سديد وحاشاه من ذلك، لأنه ﷺ معصوم من الإخبار مما أمر بتبليغه أن يبلغه بخلاف ما هو لا خطأ ولا عمدا، ولا سهوا ولا غلطا، ومعصوم أيضا أن يسكت عن شيء منه أو يكتمه، لأنه محتم عليه أن يبلغ ما أنزل إليه كما أنزل حرفيا، وإن الله تعالى عاصمه من كيد كل كائد كما سيمر عليك في الآية ٧٠ من المائدة في ج ٣، وقد
101
أجمعت العلماء على ذلك، لأن تجويز ترك شيء من القرآن يؤدي إلى الشك في أداء الشريعة والتكاليف المطلوبة من البشر، إذ المقصود من إرسال الرسل تبليغ وحي الله للمرسل إليهم، فإذا لم يحصل فقد فاتت الفائدة المتوخاة من إرسالهم، وهم معصومون من ذلك كله، راجع آخر سورة والنجم المارة في ج ١ تجد ما يطمئن إليه ضميرك ويشرح له صدرك في هذا البحث «أَنْ يَقُولُوا» أي لعلك تترك تبليغ بعض الوحي مخافة قولهم «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ» مال كثير يستغني به عن السعي ويجلب الناس بسبب بثه إليهم، الكنز هو ما يدخر من المال ولا يكون إلا كثيرا، وعبروا بالإنزال دون الإعطاء أو الحصول، لأن مرادهم التعجيز يكون ذلك على خلاف العادة، لأن الكنوز إنما تكون في الأرض فتستخرج منها لا أنها تنزل من السماء «أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ» يصدق كل ما يقوله لنا إنه من عند ربه حتى نصدقه، وإلا بمجرد كلامه فلا، لأنا نعلم أنه مختلقه من من نفسه أو يتعلمه من الغير أو يسمعه من خرافات الأولين، يقول الله تعالى لحبيبه إذا صارحوك بهذه الأقوال التافهة فأعرض عنهم «إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ» لهم من عذاب الله والله شاهد على رسالتك فلست بحاجة إلى المال الذي فيه مطمع قومك ولا إلى الملك ليشهد لك على وحينا، ولست بوكيل على إيمانهم «وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ١٢» بما فيه أنت وقومك، قال ابن عباس إن هذا القول والقول في سورة يونس الآية ٥ المارة قالته طائفة من الكفرة، أي عبد الله المخزومي ورفقاؤه من الضلال وإن حضرة الرسول قال لكل منهم لا أقدر على شيء من ذلك، فنزلت تلك الآية هناك وهذه هنا. وأول الآيتين المدنيتين ١٣/ ١٤ في هذه السورة هو قوله تعالى «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ» اختلق محمد هذا القرآن ونسبه إلى الله «قُلْ» يا سيد الرسل لهؤلاء المفترين «فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ» أي تحداهم يا محمد بذلك، لأنهم عرب مثلك، والقرآن باللغة العربية، فقل إذا كنتم تزعمون أني افتريته فافتروا عشر سور مثله، وكان نزل من القرآن عند هذه الحادثة جميع السور المكية وهي ست وثمانون سورة، وقسم من المدني، لأن هذه الحادثة وقعت في المدينة، وهاتين الآيتين نزلت فيها متأخرتين
102
عن سورتها المكية التي عددها بحسب النزول، اثنتان وخمسون سورة، فتراهم عاجزين عن الإتيان ببعض سورة من مثل هذا القرآن مهما بلغوا في الفصاحة، لأن كلام الخلق لا يضاهي كلام الخالق، وقد ذكرنا في سورة يونس المارّة عند قوله تعالى (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) الآية ٣٨ أن معناها هناك مثل جميع ما نزل، فلما عجزوا تحداهم الآن بعشر سور، وقيل معناها هناك في الإخبار بالغيب والأحكام والوعد والوعيد لا بسورة واحدة، ومثلها الآية ٨٨ من سورة الإسراء المارة في ج ١، ومعناها هنا في الفصاحة والبلاغة من غير إخبار عن غيب ولا ذكر حكم ولا وعد ولا وعيد، ولهذا فلا دليل لمن قال إن هود نزلت قبل يونس، لأنه تحداهم بعشر سور فلما عجزوا تحداهم بسورة واحدة، تأمل وقد بينا أن يونس نزلت قبل هود على ما عليه الجمهور، وهود بعدها بالتنزيل وفي ترتيب القرآن أيضا، فضلا عن أن هذه الآية والتي بعدها مدنيتان، وأن بينها وبين آية يونس سنين وأشهرا وأياما، هذا ولما تحداهم بهذا الكلام أمره أن يقول لهم «وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ» من شركائكم وأعوانكم وأمثالكم من كل خلقه ليساعدوكم على الإتيان بذلك «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ١٣» أنه مفترى، ولا تكرار في هذه الآية وآية يونس لأن هذه مدنية وبعشر سور، وتلك مكية،
وبكل سوره النازلة وآية البقرة عدد ٢٣ بخلافها كما سيأتي في تفسيرها في ج ٣. وقد بينا عند تفسير آية يونس ما هو أوضح من هذا فراجعه. قال تعالى «فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ» جاء الضمير بالجمع تعظيما لحضرة الرسول وطبعا لم ولن يستجيبوا لأنهم أقل من ذلك «فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ» هذا القرآن كله يا محمد عليكم «بِعِلْمِ اللَّهِ» تعالى بواسطة أمينه جبريل عليه السلام ليس بمفترى، لأنكم وجميع الخلق لا تقدرون على الإتيان بسورة منه، ولا آية معجزة أيضا «وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» وحده الإله القادر على إنزاله وجعله معجزا للخلق أجمع، فقل لعامة الكفار هو كلام الله «فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ١٤» مذعنون له منقادون لعظمته، خاضعون لأوامره ونواهيه. وبعد إظهاركم العجز عن ما تحداكم به لم يبق شائبة شبهة بأنه من عند غير الله بل من عند الله حقيقة، وأن ما أنتم عليه من الشرك والإنكار باطل،
103
فاتركوا هذه المكابرة والعناد وآمنوا بالله ورسوله. انتهت الآيتان المدنيتان.
قال تعالى «مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها» بأعماله الحسنة فيها ونيته الصادقة، ورضي باستبدال الباقي بالفاني والدائم بالمنقطع «نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها» كاملة زائدة «وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ ١٥» شيئا منها ولا ينقصون نقيرا والضميران عائدان للحياة الدنيا، الثاني مؤكد للأول، لأن البخس لا يكون إلا في الدنيا من أولى الأمر، ونجس الآخرة ناشىء عن التقصير في الأعمال الصالحة.
نزلت هذه الآية في كل من عمل عملا يبتغي به غير الله، والبخس نقص الحق على سبيل الظلم من أيّ كان، وجاء هنا على ظاهر الحال محافظة على صور الأعمال ومبالغة في نفي النقص، فكأنه نقص لحقوقهم التي يزعمونها، وفعل يبخسون هذا لم يكرر في القرآن. هذا، وما أخرجه النحاس في ناسخه عن ابن عباس بأن هذه الآية منسوخة بآية (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ) الآية ١٨ من سورة الإسراء المارة في ج ١، مردود من وجهين: الأول أن هذه من الأخبار والأخبار لا يدخلها النسخ كما نوهنا به في الآية ٤١ من سورة يونس المارة، الثاني أن آية الإسراء مقدمة على هذه بالنزول، والمقدم لا ينسخ المؤخر كما بيناه في بحث الناسخ والمنسوخ في المقدمة ج ١، فلا معنى للقول بالنسخ البتة «أُولئِكَ» الذين وصفوا أعلاه هم «الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ» لأنهم استوفوا ثواب أعمالهم في الدنيا وقد عملوها لأجلها «وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها» من الخير لأنهم صنعوه للسمعة والرياء فلم يقصدوا فيه رضاء الله، فكافأهم عليه في الدنيا لأن عمل الخير لا بد وأن يكون له ثواب لا يعدمه فاعله بمقتضى قوله تعالى (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) الآية ٧ من سورة الزلزلة في ج ٣.
مطلب العمل لغير الله والآية المدنية الثالثة وعود الضمير في منه:
قال تعالى «وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ١٦» في الدنيا من الخير أي في الآخرة لأنه كان لغير الله ولمكافأتهم عليه فيها، والباطل لا ثواب له في الآخرة.
أخرج مسلم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: قال الله تبارك
104
وتعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه.
وأخرج الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ من تعلم علما لغير الله أو أراد به غير الله فليتبوأ مقعده من النار. وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله ﷺ من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصبب به غرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة. أي ريحها. وما قيل إن هذه الآية نزلت في اليهود لا دليل له لأنها مكية وليست من المستثنيات والآية مطلقة وسبب نزولها ما ذكرناه آنفا، أما الآية المدنية الثالثة فهي قوله تعالى «أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ» وأراد بأعماله الصالحة وجه الله تعالى ابتغاء ثوابه لأنه يعمل مخلصا على برهان ناصع وحجة واضحة دالة على طريق الحق والصواب فيما يأتيه ويذره لأن البيّنة هي الدلالة الواضحة عقلية كانت أو محسوسة، وتطلق على الدليل مطلقا وهاؤها للمبالغة وتنوينها للتعظيم، أي بينة عظيمة الشان، والمراد بها هنا القرآن المعبر عنه بالبيّنة ولذلك ذكر الضمير هنا بتأويل البينة بالبرهان أو القرآن أي الذي يعمل على هذا النور ليس كمن وصف بالآية المتقدمة من الذين يعملون على جهل وظلمة «وَيَتْلُوهُ» أي القرآن الموصوف بما تقدم «شاهِدٌ مِنْهُ» أي يتبع هذا القرآن دليل منه وهو الإعجاز في نظمه وإخباره بالغيب دليل كاف على أنه من عند الله تعالى «وَمِنْ قَبْلِهِ» أي القرآن، وذكر الضمير تأكيدا لأنه يكون المراد به هو هو «كِتابُ مُوسى» أي التوراة الجليلة لا الصحف المنزلة عليه قبلها لعدم إطلاق لفظ الكتاب عليها فهي شاهدة بصحته أنه من عند الله لأنه يخبر عما قبلها، وهذا كاف في الاستشهاد بكونه «إِماماً» في الدين والأحكام يقتدي به المهتدون «وَرَحْمَةً» عظيمة ونعمة كبرى لمن أنزل عليهم واتبعوه وعملوا بما فيه واهتدوا بهديه، لأن التوراة الجلية أول كتاب اشتمل على الأحكام والشرائع التي لا بد للبشر منها إذ الكتب والصحف قبلها كانت تحتوي على التوحيد والإيمان واعتقاد بالنبوة فقط، لذلك يقال لها صحف ولا يطلق عليها لفظ الكتاب إلا مجازا، وقد يجوز أن تتطرق الصحف لبعض الأحكام، راجع الآيتين ٣٦/ ٣٧ من سورة والنجم المارتين في ج ١ «أُولئِكَ» الذين اقتدوا في التوراة وعملوا فيها
105
من أهل الكتابين المخلصين الذين لا يكابرون ولا يعاندون ولا يبدلون ولا يغيرون شيئا منها برأيهم مما يكون مخالفا لمراد الله تعالى ولما أنزله على رسلهم ولا يكتمون الحق المشار إليهم بأنهم على بينة من ربهم «يُؤْمِنُونَ بِهِ» أي القرآن لأنه يشتمل على ما في التوراة «وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ» الذين تجزّبوا على حضرة الرسول من أهل مكة وأهل الكتابين وغيرهم «فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ» يوم القيامة ومصيره فيها، والموعد مكان الوعد قال حسان:
أوردتموها حياض الموت ضاحية فالنار موعدها والموت لا فيها
«فَلا تَكُ» أيها الإنسان الكامل «فِي مِرْيَةٍ» شك أو شبهة «مِنْهُ» بأنه من غير الله بل هو حقا من عنده راجع الآية ٩٤ من سورة يونس المارة «إِنَّهُ» أي هذا القرآن «الْحَقُّ» الصريح الواقع الواضح «مِنْ رَبِّكَ الذي رباك في أمر دينك ودنياك وفضلك على من سواك «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ١٧» أنه من عند الله لكثافة الرين الغاشي قلوبهم ولشدة عنادهم ومكابرتهم وعتوهم، واختلاف انكارهم، ونظير هذه الآية الآية ٢٨ من سورة الأحقاف الآتية. هذا، واعلم أن بعض المفسرين أعاد ضمير منه الأول إلى محمد ﷺ وقال إن الشاهد هو علي كرم الله وجهه، لاتصاله بحضرة الرسول، مستدلا بما قاله جابر بن عبد الله قال علي بن أبي طالب ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه الآية والآيتان، فقال له رجل وأنت أي آية نزلت فيك؟ فقال عليه السلام ما تقرأ الآية التي في هود (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) أي من النبي ﷺ والمراد تشريفه عليه السلام وهو المشرف على جميع الناس بعد الأنبياء، كيف لا وهو ابن عمه وبمنزلة هرون من موسى، وهو ختنه، وهو الذي فداه بنفسه يوم الهجرة، إلا أن سياق التنزيل يأباه، وهذا الخبر أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه، ولا يكاد يصح، ويرده ما روي عن محمد بن الحنفية، قال قلت لأبي (يعني عليا) أأنت التالي، قال وما تعني بالتالي؟ قلت قوله سبحانه (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) قال وددت أني هو، ولكنه لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والطبراني في الأوسط، ووجه هذا القول أن اللسان. يعرب عن الجنان
106
ويظهره، فجعل كالشاهد له، لأنه آلة البيان، وبه يتلى القرآن وتظهر فصاحته وبلاغته ودلالته على الغيب، قال محمود الآلوسي عليه الرحمة: إن في تقرير الاستدلال على أن المراد بالشاهد علي عليه السلام ضعفا وركاكة بلغت القصوى. ونقل أبو حيان أن هذا الشاهد هو أبو بكر رضي الله عنه مستدلا بقوله تعالى (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) الآية ٣٢ من سورة الزمر الآتية، وفيها بحث نفيس فراجعه. ويعني بالذي جاء بالصدق محمدا صلى الله عليه وسلم، والذي صدق به أبا بكر رضي الله عنه، لأنه كان الثاني بالغار، والثاني بالإمامة والخلافة، وكان من النبي ﷺ بمنزلة السمع والبصر، ويجعل عود الضمير للنبي بهذا المعنى لقوله ﷺ (إنهما يعني أبا بكر وعمر) منى بمنزلة السمع والبصر، نعم إنهما كانا كذلك وإن عليا كرم الله وجهه أقرب منهما لكن اختصاصهما أو أحدهما في هذه الآية بعيد ولم يرد القائل إلا تعزيز مكانتهما وتعظيمهما، وهما عظيمان عزيزان من دون هذا، ومن غير أن تقروا لهما ما هو خلاف الواقع، فمكانتهما عند الله وعند خلقه عظيمة بهذا وبغيره وهما عند الناس معظمان به وبدونه، على أن هناك أقوال أخر بأن الشاهد هو جبريل عليه السلام أو هو ملك آخر أو هو الإنجيل لأنه يتلوه في التصديق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لكن وجود نزولها قبل القرآن يأبى الركون إلى القول به، والقول الأول الذي جرينا عليه هو الصحيح، لمناسبته سياق التنزيل وقبوله من كبار المفسرين، كأبي السعود وأضرابه، وناهيك بمفتى الثقلين قدوة، وإنما نقلنا تلك الأقوال- وإن كنا لا نراها- للوقوف على صحتها وعدمه، وليعلم القارئ بالاطلاع عليها أننا لم نغفل شيئا مما له مساس بالمعاني ولا بالألفاظ. هذا، والله أعلم. انتهت الآية المدنية الثالثة، وهذه الآيات كغيرها من المدنيات واقعة بين ما قبلها وما بعدها كالمعترضة، قال تعالى «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً» لا أحد أظلم منه البتة، ولا أشد تعديا، ولا أكثر تجاوزا، لأن الكذب في نفسه كبيرة، وهو مجانب للإيمان فيما بين الناس، فكيف بالكذب على الله تعالى؟ فهو من أعظم الكبائر كما تشير إليه هذه الآية «أُولئِكَ» المفترون الكذب على الله «يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ» في الموقف العظيم يوم القيامة «وَيَقُولُ الْأَشْهادُ» الملائكة الذين
107
يحفظون أعمال بني آدم وغيرهم أو الأنبياء أو أهل الموقف حين يسألون عن ذلك
«هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ» في الدنيا، وهذا التشهير والفضيحة يكونان لكل من كذب على الله، وحينئذ يلعنهم أهل الموقف حينما يسمعون قول الله تعالى «أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ١٨» فيتنبه لذلك من لم يلعنهم، فيلعنهم أيضا.
وهذه الجملة يحتمل أن تكون من كلام الأشهاد بالنظر لظاهرها، والأشهاد جمع شاهد وشهود، ويجمع على شهداء، فيكون جمع الجمع، وقد جاءت بلفظ الجمع في القرآن، وكلاهما بمعنى واحد، إلا أن الأخير أبلغ من الأول. روى البخاري ومسلم عن صفوان بن محرز المازني قال: بينما ابن عمر يطوف بالبيت إذ عرض له رجل، فقال يا أبا عبد الرحمن أخبرني ما سمعت من رسول الله ﷺ في النجوى، قال سمعت رسول الله ﷺ يقول يدنو المؤمن من ربّه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، تعرف ذنب كذا وكذا، فيقول أعرف مرتين، فيقول سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته، وفي رواية ثم تطوى صحيفة حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد، وفي رواية فينادي بهم على رءوس الأشهاد من الخلق (هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) الآية المارة. وقيل إنه من كلام الله تعالى، والأول أولى بالمقام.
ثم وصف الله تعالى هؤلاء الظالمين أنفسهم بالكذب عليه فقال «الَّذِينَ يَصُدُّونَ» الناس ويمنعونهم «عَنْ» اتباع «سَبِيلِ اللَّهِ» ويحولون دون سلوكه «وَيَبْغُونَها» الطريق المعدلة المستقيمة المؤدية إلى الإيمان السويّ «عِوَجاً» مائلة عن السواء منحرفة عن الإستواء، بإلقاء الشبهات في قلوب الناس وقلب معاني الدلائل الدالة على صحة دين الإسلام «وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ ١٩» جاحدون وجودها منكرون البعث بعد الموت، وكرر لفظ هم تأكيدا لكفرهم «أُولئِكَ» الصادون الناس عن الإيمان المنكرون النشأة الآخرة الطالبون منهج السبل المضلة «لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ» الإله القدير العليم، ومهما ضربوا «فِي الْأَرْضِ» لا يفلتون عن قبضة الرّب، ولا يتمكنون من الهرب إذا أراد عذابهم للانتقام منهم «وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ» يقدرون على تخليصهم أو يدافعون
108
عنهم ويقونهم من عذاب الله إذا أراد إيقاعه فيهم، ولكنه تعالى يمهلهم في الدنيا ليزدادوا إثما ويأخذوا ما هو مقدر لهم في الأزل من رزق حرام وعمل سيىء حتى لا يبقى لهم شيء في الدنيا ثم يميتهم و «يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ» في الآخرة على عدم إيمانهم وصدّهم الناس عن الإيمان ومنعهم من سلوك الطريق المستقيم وإنكارهم الآخرة، لأنهم صموا في الدنيا عن سماع هذا الحق و «ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ» لما يبلغهم نبيهم من وحي الله «وَما كانُوا يُبْصِرُونَ ٢٠» نهج السلام لينتفعوا به، وقد حرموا فوائد هاتين الحاستين التي منحها الله الإنسان ليستعملها في طلب الخير ودفع الشر، مع أن الحيوانات العجم تستفيد منها بدفع ما يضرهم برؤية أو سماع
«أُولئِكَ»
الذين هذه صفتهم هم «الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ»
بإبدالهم عبادة النافع الضار بعبادة الأوثان التي لا تضّر ولا تنفع «وَضَلَّ عَنْهُمْ»
بسبب صفقتهم الخاسرة «ما كانُوا يَفْتَرُونَ
٢١»
في الدنيا على أنفسهم وغيرهم من أن الأوثان أو ما يعبدونهم من الملائكة وغيرهم يشفعون لهم في الآخرة «لا جَرَمَ» لا محالة حقا وجرم في الأصل فعل ماضي بمعنى كسب، قال الشاعر:
نصبنا رأسه في جذع نخل بما جرمت يداه وما اعتدينا
وتأتي بمعنى حقا كما هنا أي مع لا وهي اسم لا، أي حقا «أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ٢٢» لأنهم باعوا الجنة بالنار واستبدلوا المخلوق بالخالق، فلا أخسر منهم أبدا، وهذا هو الخسران المبين، قال تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا» بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر «وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ» ضميمة على إيمانهم «وَأَخْبَتُوا» خشعوا وخضعوا لله وأنابوا واطمأنوا له فرجعوا «إِلى رَبِّهِمْ» وانقطعوا لعبادته وهذا إشارة إلى أعمال القلوب كما أن العمل إشارة إلى أعمال الجوارح، لأن الأولى لا تنفع في الآخرة بدون الثانية ولا تقبل «أُولئِكَ» الذين هذا نعتهم «أَصْحابُ الْجَنَّةِ» في الدار الآخرة جزاء إيمانهم وإخلاصهم «هُمْ فِيها خالِدُونَ ٢٣» دائبون آمنون لا يخرجون منها أبدا «مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ» أصحاب النار المذكورين أولا «كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَ» مثل أصحاب الجنة المذكورين أخيرا كا «الْبَصِيرِ
109
وَالسَّمِيعِ»
على سبيل المقابلة أحد أبواب البديع وهي أن يؤتى بمعنيين أو أكثر ثم بما يقابل كل منهما من أضداد، فيعود الأول إلى الأول والثاني على الثاني بطريق اللّف والنشر المرتب، فانظروا أيها الناس «هَلْ يَسْتَوِيانِ» هذان الصنفان الأولان مع الصنفين الآخرين «مَثَلًا» كلا، لا يستويان، فقل لهم يا سيد الرسل «أَفَلا تَذَكَّرُونَ ٢٤» معاني هذا المثل ومغزاه فتنتفعون به، وبعد أن بين تعالى ما يدل على توحيده وأحوال المؤمنين والكافرين وموقفهم مع حضرة الرسول بين أنبيه أخبار من تقدم من الأنبياء مع أقوامهم بقوله جل قوله «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ» ليرشدهم إلى سلوك طريقه، فقال لهم «إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ ٢٥» أخوفكم عقاب الله وأحذركم من الإشراك به وآمركم «أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ» وحده فهو المستحق للعبادة «إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ» إن لم تتركوا عباده الأوثان وترجعوا لطاعة الرحمن «عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ ٢٦» شديد عذابه وصف اليوم بالألم لوفوعه فيه «فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ» يا نوح «إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا» مالك ميزة علينا بشيء فكيف تريد أن تستأثر بطاعتنا إليك «وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا» أسافلنا من الحاكة والإسكافية وأشباههم ذرى الحرف الخسيسة الذين أطاعوك «بادِيَ الرَّأْيِ» دون تدبر وتفكر على وهلة بما طليت عليهم من فصاحة لسانك ولين جانبك، ولو أنهم ذوو مكانة عندنا أو أنهم تمعنوا في الأمر الذي دعوتهم إليه وتصوروا العواقب لما اتبعوك حالا وتركوا دين آبائهم، ثم تجارءوا عليه، قاتلهم الله، فقالوا له جهارا «وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ» في مال أو جاه أو شرف أو غيره من المميزات التي توجب طاعتك، لا أنت ولا من اتبعك السوقة الذين لا نرضى مجالستهم، فكيف تريد أن ننقاد لك وتكون لك السلطة علينا.
وجوابكم هذا لحضرته على غاية من الجهل وسوء الأدب، لأن الرفعة في الدين ومتابعة الرسل لا تكون بالشرف والسمعة والصيت والرياسة الدنيوية، وأن الدعوة إلى الله للبشر لا تكون إلا من بشر مثلهم اختصه الله تعالى وشرفه برسالته، لأن الفضيلة المعتبرة عند الله هي الإيمان به والانقياد لأوامره والاجتناب عن مناهيه
110
لا بما ذكروه من الأمور الدنيوية وشرف الصنعة، وما هذا الجواب منهم إلا لفرط جهلهم وتوغلهم في الدنيا وملاذها وانهماكهم في شهواتهم، ولذلك ختموا كلامهم بقولهم «بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ ٢٧» في هذه الدعوى أنت وأتباعك، وإن تصديقهم لك عبارة عن مواطئة تمهيد للحصول على الرياسة علينا «قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي» فيما بشرتكم به وأنذرتكم منه واضحة شاهدة على صدقي «وَآتانِي» الذي أرسلني إليكم «رَحْمَةً» هديا ومعرفة ونبوة ورسالة «مِنْ عِنْدِهِ» وهو إله الكل «فَعُمِّيَتْ» ألبست وأخفيت «عَلَيْكُمْ» فلم تهدكم ولم تهتدوا إليها، لأن الحجة كما تكون بصيرة ومبصرة تكون عماء وعمها، وإن الأعمى والأعمه كما أنه لا يهتدي لا يقدر أن يهدي غيره، لذلك لا نقدر على إلزامكم بها «أَنُلْزِمُكُمُوها» قسرا وجبرا «وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ ٢٨» نافرون عنها، كلا لا نستطيع على ذلك إذ لا إكراه في قبول الدين بل يجب الإقدام عليه والإقبال إليه طوعا برغبته ومحبته «وَيا قَوْمِ» تدبروا ما أقوله لكم وانظروا عاقبته وتلقوه بحسن نية، واعلموا أني «لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالًا» لتظنوا بي طمعا ولا رياسة لتشتبهوا فيّ من أجلها أو تشكّوا أن إنذاري لكم لأمور دنيوية كلا «إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ» الذي أرسلني، وأن ما أبذله إليكم من النصح وأسديه لكم من الإرشاد لمجرد هدايتكم لطريق الله وحمايتكم من عذابه المترتب على إصراركم على الكفر «وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا» بي وصدقوني من أجل قولكم أنهم أراذل خسيسو الحرفة، فقراء وضيعون بالحسب والنسب، فهذا كله لا يمنعي من قبول إيمانهم، ولا يجوز لي أن أتباعد عنهم «إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ» بعد الموت، فيشكونني إليه، فيعاقبني على طردهم، لأن وظيفتي قبول إيمان من يؤمن مهما كان، وإن الإيمان سيجعل لهم شرفا وحسبا أعلى عند الله مما أنتم عليه «وَلكِنِّي أَراكُمْ» يا قوم بأقوالكم هذه وتطاولكم عليّ «قَوْماً تَجْهَلُونَ ٢٩» عظمة الله الذي عنده أكرم الناس أتقاهم لمحارمه وأخوفهم من عذابه، لا الأكثرون أموالا والأكبرون جاها والأحسنون حرفة، ولا العالون نسبا وحسبا، فالمؤمن الحقير بأعينكم خير عند الله من العظيم الكافر، فارتكزوا
111
على الحكمة ولا تتسافهوا بإطالة اللسان على المؤمنين مهما كانوا، فهم أحسن منكم عندي وعند الله، لأنكم لا تعلمون ما ينبغي أن يعلم. هذا وقد يأتي لفظ الجهل بمعنى التعدي على الغير، ومنه قول صاحب المعلقة:
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلين
وقدمنا في الآية ١١١ من الشعراء في ج ١ أن خسة الصنعة لا تضر مع الإيمان، وكم من صاحب صنعة خسيسة هو عند الله أفضل من كثير من خلقه، راجع الآية ١١٣ من سورة الحجرات في ج ٣ «وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ» يوم الجزاء ويحول دون تعذيبي والانتقام مني «إِنْ طَرَدْتُهُمْ» الآن بعد أن أظهروا الإيمان بالله وأخلصوا دينهم له «أَفَلا تَذَكَّرُونَ ٣٠» عاقبة أمر الذين يطردون المؤمنين، فتنبهوا عما أنتم فيه من الاستكبار والضاد، ونبهوا أنفسكم وغيركم، وأعرضوا عن مجادلتكم هذه التافهة، وآمنوا مثلهم لتفوزوا بخيري الدنيا والآخرة.
مطلب تبرؤ الأنبياء من الحول والقوة وكون الإرادة غير الأمر وصنع السفينة:
«وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ» فاتبعوني لأعطيكم منها. وأدعي الفضل بها عليكم، وهذا جواب لقولهم (وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ) المار ذكره «وَلا» أقول لكم إني «أَعْلَمُ الْغَيْبَ» لأصدق ما ذكرتموه في حق المؤمنين بأن إيمانهم عن غير تدبّر وتفكر، فما لي حق بذلك، وما عليّ إلا قبول الإيمان على ظاهره، والله يتولى السرائر «وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ» وهو جواب على قولهم (ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا) المار آنفا، لأني في الحقيقة بشر مثلكم ولكن الله فضلني عليكم برسالته فقط، ولا دليل في هذه الآية على أن الملك أفضل من البشر على الإطلاق، لأن قول نوح عليه السلام هذا بمقابلة قولهم له كما مرّ، لأنهم كانوا يظنون أن الرسل لا يكونون من البشر لقرب عهدهم من بعضهم وتفشي أخبار الملائكة بينهم من يوم أمرهم بالسجود لآدم عليه السلام، فلهذا قال لهم:
(وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ) ولم يرد أن درجة الملائكة أفضل من درجة الأنبياء، وقدمنا في الآية ٧٠ من الإسراء في ج ١ ما يتعلق في هذا البحث فراجعه «وَلا
112
أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ»
تحتقرها وتستصغرها وتتصورها بأنهم أراذل (وكلمة تزدري لم تكرر في القرآن) حيث «لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً» رزقا في الدنيا لهوانهم عليه نزولا عند هواكم، فعسى الله أن يؤتيهم خير الدنيا والآخرة، لإيمانهم به وتصديقهم لرسوله وصبرهم على الفقر والذل اللذين تفتقدونهم بهما، فأعرضوا عنهم أيها القوم «اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ» من صدق الاعتقاد وخلوص الإيمان، وهذا جواب لقولهم آنفا ما معناه أنهم لم يتبعوك رغبة في دينك بل لكونهم فقراء لا وزن لهم عند أحد فاطردهم ليتبعك الأشراف فإنهم لا يتنازلون أن يجالسوهم ويكونوا من أتباعك معهم، وهذا مثل قول قريش لمحمد ﷺ في الآية ٥٠/ ٥٢ من سورة الأنعام والآية ٢٨ من سورة الكهف الآتيتين، وهكذا فقد تشابهت قلوبهم كما أخبر الله عنهم في الآية ١٦٧ من سورة البقرة ج ٣ من زمن نوح إلى زمن محمد ﷺ فإنك تجد محاورتهم للأنبياء على وتيرة واحدة «إِنِّي إِذاً» إذا قبلت قولكم وطردتهم «لَمِنَ الظَّالِمِينَ ٣١» لهم ولنفسي أيضا، وإني لا أرضى بالظلم فكيف أفعله، كما ليس لي أن أكذّب ظاهر إيمانهم ولا أبطله، لأن الله يعلم ما في ضمائرهم «قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا» بما أوتيت من بلاغة في القول وقوة في المحاججة وفصاحة في البرهان، وإنا لا نؤمن بك مهما أسرفت في النصح وبذلت من الرشد الذي تزعم أنه لصالحنا «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا» به من عذاب ربك وأنزله علينا «إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ٢٢» فيما تهددنا به من وعيدك، لأنا قد مللنا من تكرار قولك إنك رسول الله وإن لك ربا ينصرك علينا ويعذّبنا إن لم نؤمن بك ونتبعك «قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ» الذي كفرتم به وهو «إِنْ شاءَ» أنزله بكم عاجلا وإن شاء أخره وليس لي أن أقدم شيئا أو أؤخره خيرا كان أو شرا، لأني بشر مثلكم «وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ٣٣» الله العظيم القادر، ولا فائتين عذابه. ولا تقدرون على الهرب من قبضته «وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ» مهما بالغت فيه وأدمته «إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ» فيما أنتم عليه، ويضلكم عن هداه بما يجعله فيكم من البغي والطغيان. وفي هذه الآية دليل على
113
أن الإرادة غير الأمر كما قدمناه في الآية ٩٨ من سورة يونس المارة، أما ما ذكرناه في الآية ١٢ منها فهو في حق تزيين الأعمال وكونها من الله. واعلم أن إرادة الله تعالى مما يصح تعلقها بالإغواء والتزيين والإضلال حق، وأن وقوع خلاف مراده ممتنع محال، وأما المعتزلة القائلون بضدّ هذا فقد وقعوا في حيص بيض منها، واختلفوا في تأويلها، فمنهم من أولها بالإهلاك، ومنهم من لجأ إلى المجاز عن تركهم، ومنهم من جعل إن نافية، وكلها أقوال أرهى من بيت العنكبوت، لأن الآية صريحة لا تقبل التأويل. والحق أن يقولوا معنا بأن ذلك المهدي المضل المزين «هُوَ رَبُّكُمْ» الذي خلقكم ورباكم في هذه الدنيا «وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ٣٤» في الآخرة فيجاري المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته «أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ» أي الوحي الذي يتلوه عليهم كما تقول كفار مكة لك يا أكرم الرسل، لأنهم قاتلهم الله جاءوا على وتيرة واحدة بالاحتجاج والتكذيب والمجادلة مع جميع الرسل، ولهذا قال تعالى في الآية ١٦٨ من سورة البقرة في ج ٣، تشابهت قوبهم «قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي» جمع جرم، وهو اقتراف السوء، يقال أجرم فلان إذا فعل الجرم أي الذنب الكبير، ويقال لفاعله مجرم، أي عليّ إثم إجرامي «وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ ٣٥» أنتم في إسنادكم الافتراء إليّ لأنه جرم عظيم، وهذا آخر محاورة سيدنا نوح مع قومه في هذه السورة، وما قيل إن آية (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) المارة ترجع إلى كفار مكة وإنها معترضة بين محاورة نوح وقومه لا وجه له، لأن السياق يدل على أنها من تمام محاورته، والسياق يؤيد هذا، قال تعالى «وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ» لا تحزن ولا تأيس عليهم، فإني مهلكهم «بِما كانُوا يَفْعَلُونَ ٣٦» بك يا رسولي من الأذى، وبأنفسهم من الضلال والكفر.
قيل كانوا يضربون نوحا عليه السلام حين يدعوهم إلى الله ويدلهم على الهدى ويأمرهم بالرشاد حتي يغشى عليه، فإذا أفاق يقول رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، وهكذا كان سيدنا محمد ﷺ مع قومه، يقابلهم بالدعاء لهم بالهداية. هذا، ولما تمادوا على ما هم عليه وهو ينتظرهم جيلا بعد جيل ولم ينجع بهم نصحه، ولم يكفوا
114
عن أذاهم له ورأى كل جبل يظهر أنجس من الذي قبله، وقد أيس من إيمانهم، شكا أمره إلى الله بعد أن أقنطه من إيمانهم في هذه الآية، دعا عليهم كما هو مذكور في سورته الآتية في الآية ٢٦ فاستجاب سبحانه دعاءه، وأوحى إليه بقوله «وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا» على مرأى منا لئلا تزبغ عن الصواب في كيفية صنعها المثبتة في أزلنا، وذلك لأن الله تعالى كما خلق في عالم الذر جميع الناميات، صور أيضا كل الجامدات، فكان كل ما يظهر منها طبق ما هو مكون عنده في لوحه وكلمة (بِأَعْيُنِنا) جاءت هنا وفي الآية ١٤ من سورة القمر المارة في ج ١، «وَوَحْيِنا» أي اصنعها بمقتضى ما نأمرك به من عرضها وطولها وثخنها وارتفاعها وعمقها وهيئتها ومم يكونّها ومقدار ما تستوعبه، قال ابن عباس لم يعلم نوح كيف يصنعها فأوحى الله إليه أن يجعلها مثل جؤجؤ الطائر، «وَلا تُخاطِبْنِي» يا رسولي بعد انهاءك عملها وطوافها على وجه الماء الذي سأقدره لها «فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا» من قومك ولا تتشفع لأحد منهم، ولا تسألن بتأخير عذابهم «إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ٣٧» حتما محكوم عليهم في الموت غرقا حكما مبرمأ قضي فيه أزلا وجف به القلم، فلا سبيل إلى كفه «وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ» امتثالا لأمر ربّه حسبما أوحي له به.
قال الأخباريون: بعد أن سمع نوح من ربه ما سمع أقبل على عمل السفينة، ولهي عن قومه بها، فقلع الخشب وضرب الحديد، ومحيا الإسفلت وهو القار، أي القير الأسود، واستحضر كل ما يحتاجه لعملها، وباشر صنعها بيده بمقتضى ستراءى له من صورتها، فصار لا يخطىء بشيء لأن العلم له هو الله ربه والعمل بجرأة النبوة كما فهمه من معنى الوحي وكيف يخطىء وهو أكمل البشر في زمانه، وصنع الكامل لا يكون إلا كاملا، وجعل يدأب على عملها وحده «وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ» ضحكوا من عمله واستهزءوا به، ويقولون له صرت نجارا بعد أن كنت نبيا، وكيف تصنع سفينة في أرض ييس من برية لا ماء فيها، وذلك أنه بدأ عملها بعيدا عن قومه وعن الماء بوحي ربه، وعادة الرسل أنهم لا يسألون ربهم عند ما يأمرهم بشيء تأدبا ولعلمهم أنه لا يأمرهم إلا بما فيه فوزهم، راجع الآية ٦٢ من الشعراء المارة في ج ١ «قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا» على ما ترون من
115
عمل أمرني به ربي «فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ» إذا نجانا الله وعذبكم «كَما تَسْخَرُونَ ٦٨» منا الآن، قال هذا على سبيل الإزدواج في مشاكلة الكلام كما في قوله تعالى (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) الآية ٤٠ من سورة الشورى الآتية، لأن السخرية بمعناها المعلوم لا يليق صدورها من منصب النبوة ولما رآهم ازدادوا بالاستهتار به هددهم بقوله «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» غب عملكم هذا وسترون «مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ» في هذه الدنيا فيذله ويهينه ثم يهلكه ويدمّره «وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ ٣٩» في الآخرة لا يتحول عنه، وهو عذاب النار الدائم أنحن أم أنتم، ثم ثابر على عمله ولم يعبا بهم حتى أكملها، قالوا كانت بطول ثمانين ذراعا وعرض خمسين وارتفاع ثلاثين وهو عمقها بذراعه عليه السلام، والذراع من رءوس الأصابع إلى المنكب، وجعلها ثلاث طبقات: عليا ووسطى وسفلى، وجعل فيها كوى ليطل منها إلى الخلاء وليرى بعضهم بعضا منها، وكانت من خشب الساج، وقال الحسن كان طولها ألفا ومثني ذراع، وعرضها ستمئة، وقال غيره طولها ثلاثمائة ذراع، والأول أولى وأنسب وأوجه، أما ما قيل إن صنعها استغرق ثلاثين سنة فإن صح فيكون للقول الثاني وجه، والله سبحانه وتعالى أعلم، إذ لم يبين لنا ذلك، والقرآن اقتصر على ذكرها فقط، ولما أمر بر كوبها عند انتهاء الأجل المقدر لإغراق قومه، حمل عليه السلام أهله ومن آمن به، ومن كل ذي روح زوجين اثنين فيها كما أمر، وهذا ما يدل على عظمتها، قالوا وقد جعل الله له علامة على ركوبها بقوله عزّ قوله «حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا» بإنفاد عذابهم، وحان الوقت المقدر لإغراقهم في سابق علمه «وَفارَ التَّنُّورُ» بالماء إذ جعلناه علامة لقرب نزول العذاب لقوم نوح عليه السلام وإنجائه ومن آمن به أي أبق منتظرا ظهور هذه الأمارة فإذا رأيتها «قُلْنَا» لك اركب فيها أنت وأهلك ومن آمن بك و «احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ» من أنواع الحيوان «زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» واترك الباقين «وَأَهْلَكَ» احملهم أيضا، ويدخل في الأهل من آمن به لأنهم صاروا من أهله لقول رسول الله سلمان منّا أهل البيت. ويجعله من أهله إلا لإيمانه. هذا، واعلم أن التنور هو الذي يخبز به، وهو بلغ
116
الفرس أيضا بهذا المعنى لا أنه فارسي في الأصل معرّب، راجع الآية ١٨ من سورة الشعراء المارة في ج ١، والفور ان الغليان يعني نبع الماء إذا اشتدّ صار كأنه يفور كالماء في القدر على النار، فإنه يفور عند اشتداد الحرارة، واختلف في موقعه قيل بالكوفة، وقيل بالهند، وقيل في الجزيرة في عين وردة، وقيل بالشام، وفي كل هذه المواضع محل يسمى تنورا، والأولى كونه في الجزيرة لقربها من جبل الجودي الذي استقرت عليه بنص القرآن كما سيأتي في الآية ٤٣ لأنهم قالوا إنها رست بالمنطقة التي طافت منها، ويوجد الآن في الجزيرة محل يسمى تينير وفوقه عين ماء عند جبل كوكب الآتي ذكره في الآية ٤٣ المذكورة، وما قيل إن التنور هو وجه الأرض أو هو طلوع الفجر ففيها صرف الحقيقة إلى المجاز دون مسوّغ ما، والحق أنه التنور المعلوم بمعناه الحقيقي، لأن الكلام إذا دار بين الحقيقة والمجاز كان حمله على الحقيقة أولى ولفظ التنور حقيقة هو الذي يخبز
فيه، ومعنى الزوجين كل اثنين لا يستغنى أحدهما عن الآخر، كالذكر والأنثى يقال لكل واحد منهما زوج، وليس المراد بالزوج هنا ما يقابل الفرد، ولأن المعنى من كل صنف زوجين ذكر وأنثى، قالوا حشر الله له جميع الحيوانات فجعل يضرب بيديه عليها، فتقع الأنثى بيده اليسرى والذكر باليمنى، فيعزلهم على حده، وقد خصص عليه السلام الطبقة السفلى للوحوش والهوام، والوسطى الدواب والأنعام، والعليا لحضرته ومن معه والطير وما يحتاجونه من الزاد حسبما أمره الله، وكان هذا بعد إكمال عمل السفينة طبقا لمراده وخاطبه جلّ خطابه أن أدخل فيها من شئت مما أمرتك «إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ» من أهلك وهو ابنه كنعان وزوجته واعلة فقط، وذلك لسابق علمه بغرقهما مع الكفرة لما هو مدون بأزله اختيارهما الكفر على الإيمان حسب تفديره وإرادته ولا يقع في كونه خلاف مراده «وَمَنْ آمَنَ» عطف على وأهلك أي كل المؤمنين معك، قال تعالى «وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ٤٠» جدا بالنسبة لكثرة قومه، ولم يبين جل جلاله مقدارهم ولهذا تضاربت الأقوال في عددهم وأصحها أنهم ثمانون نسمة كما روي عن ابن عباس، ويؤيد قوله وجود قرية بقرب الجودي الذي رست عليه السفينة مسماة بقرية الثمانين وهي معروفة الآن والجزيرة
117
معروفة بجزيرة ابن عمر
«وَقالَ» الملك السلام مخاطبا رسوله نوحا عليه السلام ومن آمن معه «ارْكَبُوا فِيها» فقد آن إغراق الكفرة، فأمر عليه السلام أن يستقر كل في طبقته، ولما تم ذلك لم يعرف عليه السلام كيف يمشيها على الماء فقال تعالى له ولصحبه إذا أردتم سيرها قولوا «بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها» فإنها تسير بإذن الله الذي نجاكم عليها «وَ» إذا أردتم إرساءها قولوا بسم الله «مُرْساها» فإنها تقف حالا وهذا تعليم من الله لعباده بأن من أراد أمرا فعليه أن يبدأه بذكر الله ليبارك له فيه وينجح بغايته المحمودة قالوا فصارت الأرض تنبع مياها غزيرة والسماء تمطر مياها وافرة مدة أربعين يوما بشدة وهم بالسفينة لم يبرحوا مكانهم ويشاهدون عظمة الله، قال تعالى (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ)
الآية ١١ (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) الآية ١٢ من سورة القمر المارة في ج ١، قالوا وارتفع الماء بالسفينة على أعلى جبل أربعين ذراعا فطافت بإذن الله بين عاصفة من الأمواج وصار سيدنا نوح عليه السلام إذا أراد إيقافها قال بسم الله مرساها فتفف، وإذا أراد سيرها قال بسم الله مجراها فتسير مهما كان يحوطها من أمواج وعواصف، ولم يحجه ربه إلى المرابط والمراسي والمجاديف والملاحين فقال عليه السلام شكرا لهذه النعمة «إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ٤١» بمن تاب وأناب من عباده، ومن رأفته يقبلهم إذا رجعوا إليه بعد كفرهم. ثم وصف الله تعالى سرعة سيرها بقوله جل قوله «وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ» عظيم هائل لدلالة التنوين أي في غاية من الشدة والموج ما ارتفع من الماء بسبب اشتداد عصف الرياح وقد شبهه الله تعالى في عظمته «كَالْجِبالِ» وبهذا أنجى الله المؤمنين جميعا وأغرق الكافرين ولم يرحم منهم أحدا استجابة لدعوة نبيهم حتى أم الصبي التي ضرب بها المثل: قالوا لما مر الماء بالسكك من القرية خافت امرأة على ابنها من الغرق فصعدت به إلى الجبل وكلما ارتفع صعدت به حتى بلغت قمته، فتناولها الماء فرفعت ولدها إلى حضنها فتناولها الماء فرفعته إلى رأسها فأدركها الماء فرفعته بيدها فوق رأسها فأخذها وإياه الماء فغرقا، ولذلك قالوا لو رحم الله أحدا من قوم نوح لرحم أم الصبي «وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ» كنعان أثناء نبع الماء من الأرض ونزوله من
118
السماء «وَكانَ فِي مَعْزِلٍ» عنه لأنه لم يركب معه في السفينة وكان منعزلا عن المؤمنين بعيدا عنهم «يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا» بالسفينة لتنجو من الغرق الذي ألم بك في الدنيا ومن العذاب المقدر لك في الآخرة إن لم تؤمن وتتبعنا «وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ ٤٢» فتهلك معهم غرقا الآن وتعذيبا غدا «قالَ» كنعان كلا لا أركب معكم ولا أغرق لأني «سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ» بسبب ارتفاعه إذ لا يبلغه الماء مهما ارتفع، وقد اختلف العلماء في هذا الجبل كما اختلفوا بالتنور فمن قال بالجزيرة وهو الأصوب كما نوهنا آنفا قال هو جبل كوكب وهو قريب من محل التنور قريبا من مجرى الخابور من الشرق الشمالي من جهة الحكة والذي يليه من الشرق الجنوبي جبل سنجار والذي يليه من الغرب الجنوبي جبل عبد العزيز والذي يليه من الشمال الغربي جبل ماردين وكلها بالجزيرة قريبة منه، ومن قال إنه بالكوفة أو بالهند أو بالشام ذكر غير ذلك من الجبال الموجودة هناك والأول ينطبق على المعنى لأنه قال (إلى جبل) منكر منون وكل هذه الجبال يراها الرائي من موضع التنور الواقع في الجزيرة أما الأخر على الأقوال الأخرى فلا ندري هل يراها من كان عند التنور الذي فيها أم لا فكأنه قال إني سأعتصم بأحد هذه الجبال «قالَ» له أبوه عليه السلام لا تعتر يا ولدي مما ترى من هذه الجبال ومن إغواء قومك فإنه «لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» ولا مانع من عذابه ولا منجى من إهلاكه ولا يخلص من هذا الغرق «إِلَّا مَنْ رَحِمَ» الله منهم إركابهم هذه السفينة التي أمرني ربي بصنعها الذين لم يقدر إغراقهم، وإن ما ترى من قولك وغيرهم فإنهم كلهم هالكون ولا زال يسديه النصح وهو بمانع حتى تباعدا عن بعضهما «وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ» بحيث لم يبق أحدهما يشاهد الآخر ولم يسمع صوته ولا يرى إشارته لأنه بعد ما طافت السفينة ارتفع ارتفاعا هائلا وصار لشدة علوه كالسد بينهما وقد شبهه الله بالجبال آنفا لعظم ارتفاعه «فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ٤٣» معهم
طبقا لقضاء الله وقدره أزلا، قال الأخباريون لما كثر الروث في السفينة لطول بقائها جارية على ظهر الماء أوحى الله إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل ففعل فوقع خنزير وخنزيرة ومسح
119
على الخنزير فوقعت منه فأرتان فأقبل الخنزيران على الروث فأكلوه وصار الفأر يفسد في السفينة ويقرض ما فيها، فأوحى الله إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة فأقبلا على الفأر فأكلاه إلا قليلا ودامت السفينة جارية ستة أشهر، إذ ركب فيها لعشر من رجب وهبطت على الجودي يوم عاشوراء، وتناهى الطوفان وخرجوا من السفينة وصاموا ذلك اليوم شكرا لله تعالى، وعمروا قرية هناك تسمى الآن سوق الثمانين وهي أول قرية عمرت على وجه الأرض بعد الطوفان.
مطلب المياه كلها من الأرض والبحر المكفوف:
وبعد أن تم مراد الله تعالى بإغراق الكفرة وإنجاء المؤمنين خاطب الأرض بقوله عز قوله «وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ» تشير هذه الآية على أن الماء كله من الأرض إذ أضافه إليها وهو موافق لقول من يقول أن الأمطار كلها من الأنجرة المتصاعدة من الأرض والبحار والأنهار وغيرها، وهذا مما يعرفه العرب الأقدمون إذ يقولون إن الغيوم تلتقم الماء من البحر تم تمطره، وعليه قوله:
شربن بماء البحر ثم ترفعت في لحج خضر لهن أجيج
وقال:
كالبحر يمطره السحاب وماله من عليه لأنه من مائه
راجع الآية ٣٠ من سورة النازعات الآتية تجد ما يتعلق في هذا البحث، وقال بعض العلماء المطر قسمان قسم من أبخرة الأرض والمياه وقسم من علم الله وذلك استنادا لما يقوله بعض العارفين بوجود بحر بين السماء والأرض يسمى المكفوف ينزل منه نوع من المطر، يؤيد هذا ظاهر الآية ٢٠ من سورة الزمر الآتية وهي قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ) وآية المؤمنين ١٨ الآتية أيضا وهي (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) وتقدم ما يدل على هذا في قصة المعراج أول سورة الإسراء المارة في ج ١، وعدم اطلاع الطبيعيين والفلكيين على هذا البحر لا يكون حجة على عدم وجوده، لأن دعوى النّفي لا تثبت بالنفي بل بالإثبات. والله تعالى قادر على أكثر من ذلك فلا
120
يستبعد شيء على الله تعالى وهو الخلاق العظيم، ولا يخفى أن أكثر أقوال الطبيعيين والفلكيين مبنية على الظن والحدس لأنها أمور غير محسوسة، والخطأ في الظن أكثر من صوابه وخاصة في غير المرئي ولا يعلم مكنونات الله إلا هو فعلى العاقل أن يؤمن بمثل هذه الأشياء لأن الإيمان بها لا يضره، ولا يجحدها فإن الجحد لها قد يضره والتسليم أسلم وهو مذهب السلف الصالح وناهيك بهم قدوة «وَيا سَماءُ أَقْلِعِي» أمسكي عن القطر «وَغِيضَ الْماءُ» نقص ونضب إذ انقطع من السماء انهماره ومن الأرض انفجاره فغار وذهب ولعبت الرياح شرقا وغربا، ونشفت الأرض وببست «وَقُضِيَ الْأَمْرُ» بإهلاك قوم نوح عليه السلام ومن قدر عليهم تبعا لهم ممن أراد الله تعالى إغراقه من غيرهم «وَاسْتَوَتْ» السفينة «عَلَى الْجُودِيِّ» جبل معروف الآن شمالي دجلة مما يقابل عين ديوار من أرض الجزيرة الواقعة جنوبي دجلة شمالي غربي الموصل «وَقِيلَ بُعْداً» وسحقا وهلاكا «لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ٤٤» وكلمة بعدا يقولها العرب إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك وعدم العودة، فإنهم يقولون بعدا بعدا، ولذلك خصوها بالسوء وهكذا كلما مرت هذه الكلمة يكون المراد منها ذلك المعنى، وقال الأخباريون لما استقرت السفينة على الجودي بعث نوح عليه السلام غرابا ليأتيه بخبر قومه فوقع على جيفة فلم يرجع اليه، ثم بعث لحمامة فجاءت بورق زيتون في منقارها ولطخت رجليها بالطين، فعلم نوح أن الماء ذهب بالمرة، فدعا على الغراب بالخوف فلذلك لا تراه يألف البيوت حتى لآن، وطوق الحمامة بالخصرة في عنقها، ودعا لها بالأمان، فمن ذلك اليوم ألفت البيوت واعتاد الملوك إرسالها بالكتب إلى من تريد. وهي كذلك حتى الآن لم يستغن عنها مع وجود الطائرات وغيرها وإذ نعمت النظر فلا تجد شيئا يستغرب الآن إلا وله أصل قبل، وإذا تتبعت هذه المنشآت الحديثة لم تجدها بنت سنتها بل لا بد وقد سبق لها بحث أو عمل، وإذا مر الفكر على عمل شيء أو بحث في أمر قد يستحيله عقل غيره أمعن نظره فيه وأفرغ تدبيره، فجعل له أساسا حتى إذا لم يتوفق لا نجاره تركه لعيره، وهكذا حتى استوت هذه المخترعات فظهرت لعالم الوجود، وهي وإن كانت من صنع البشر إلا أنها من إلهام الله تعالى إياه قال تعالى (وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ
121
وَما تَعْمَلُونَ)
الآية ٩٦ من الصافات الآتية، وسيظهر لنا هذا القرآن ما تستبعده العقول مثل قول أبي الحسن الأشعري إن بالإمكان أن يرى أعمى الصين بقة الأندلس راجع الآية ٣٨ من سورة الأنعام الآتية قالوا ومر نوح عليه السلام أثناء سيره بالسفينة على البيت الحرام، وقد رفعه الله تعالى من الغرق وبقي موضعه، فطافت به السفينة سبعا حوله، وأودع الحجر الأسود في جبل أبي قبيس. قالوا ولم ينج من الغرق سوى عوج بن عنق، لأنه حمل أخشاب السفينة من الشام الى المحل التي هي فيه حال صنعها. هذا ولا يقال كيف أغرق الله تعالى الأطفال والحيوان إذ لا ذنب لها، لأنه تعالى مالك لها والمالك يتصرف بملكه كيفها يشاء، ولأن هذا الإغراق مجرّد سبب للموت في حقهم، وأي مجذور في إماتة من لا ذنب له بالنسبة إلى المحيي المميت الذي في كل لحظة يحيي أمما ويميت أمما بما يقدره من الحروب والطاعون والخسف وغيرها
بسبب ولا سبب حسب حكمته البالغة، وهو الإله الفعال لما يريد الذي لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، ولا دافع لقدره ولا يسأل عما يفعل؟ وما قيل إن الله تعالى أعقم أرحام النساء قبل العرق بأربعين سنة كي لا يولد لهم ولد يهلك بسببهم، ليس بسديد، إذ لم يوجد ما يؤيده ويرد عليه إغراق الحيوانات والطيور وأولاد الأمم الأخرى الذين أصابهم الغرق وعمهم البلاء غير قوم نوح عليه السلام، لأن مبدأ دعوته خاصة لقومه ونهايتها عامة كما ذكرناه في الآية ٧٤ من سورة يونس المارة، ولا يوصف جل شأنه بظلم بتعميم العذاب، لما قدمناه غير مرة، وقالوا ان الحيوانات والطيور وقعت على قدمي نوح تلحسها راجية حملها معه بالسفينة، ولم يفعل، لأنه لم يؤمر بذلك. وقالوا إن الطوفان عم وجه الأرض كلها، وهناك أقوال بأنه عم جزيرة العرب وما بجوارها، يريدون قارة آسيا كلها، وان القرآن لم يذكر بأن الطوفان عم الأرض كلها، وان قوله تعالى حكاية عن سيدنا نوح عليه السلام في دعائه (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) الآية ٣٦ من سورته الآتية، وأن الله تعالى أجاب دعاءه، فلم يفهم منه أن إهلاكهم كان بالغرق مع قومه، إذ يمكن أنه أهلكهم بغير طوفان، فلا يكون دليلا قطعيا على إهلاكهم به، ولم يرد فيه خبر أو حديث صحيح، ولأن
122
لفظ الأرض يطلق على إقليم منها كأرض مصر، راجع الآيات ٢١- ٤٥ و ٥٦ من سورة يوسف الآتية ومثلها في سورة المؤمن وغيرها، وإذ لم يرد حديث صحيح أيضا في ذلك ولا فيما نقلناه عن الأخباريين والقصاص، فلا يحق لمجادل أن يجادل فيه، وإن تنويه المؤرخين إذا لم يقصد بحديث لا عبرة به أيضا، إذ لا يوجد تاريخ يعتمد عليه قبل التوراة التي هي أول كتاب استمدّ منه المؤرخون أقوالهم. هذا وأما ما جاء في هذه القصة من حسن النظم وبداعة التركيب وبلاغة القول وفصاحة إيجازه واطنابه وخاصة هذه الآية ٤٤، فحدّث ولا حرج، لأن البشر عاجز عن وصفه ولله در القائل في التنزيل وما جمعت آياته:
وعلى تفنّن واصفيه بحسنه يفنى الزمان وفيه ما لم يوصف
ورحم الله الأبوصيري حيث يقول:
آيات حق من الرحمن محدثة قديمة صفة الموصوف بالقدم
لم تقترن بزمان وهي تخبرنا عن المعاد وعن عاد وعن ارم
فما تعد ولا تحصى عجائبها ولا تسام على الإكثار بالسأم
مطلب في قوله تعالى انه ليس من أهلك وتفنيد قول من قال إنه ليس ابنه:
قال تعالى «وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ» بعد أن خرج من السفينة هو وأهله ومن معه وتذكر ابنه كنعان ووعد الله في الجاء أهله «فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي» وقد وعدتني بإنجائهم من الغرق «وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ» فلم أغرقته وأنت لا تخلف الميعاد ولم تستثنه «وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ ١٥» فاحكم لي بإنجاز وعدك، لأنك العادل في الحكم للعالم مما تحكم. قال هذا لأن الحاكم إذا حكم بالعدل ولم يعلم أنه عدل موافق للشرع بعد من أهل النار، لأنه بمنزلة العوارف الذين يحكمون برأيهم وبالقياس على أحكام من سلف من أمثالهم، لا يستند إلى كتاب سماوي أو تشريع نبوي أو قياس على أحدهما، فحكمه حكم الجاهل الذي يقضي بخلاف الحق، ولهذا قيل قاضيان في النار وقاض في الجنة، فالذي في الجنة قاضي عرف الحق وقضى به واللذان في النار هما الأولان، ولا فضل لحاكم على
123
غيره إلا بالعلم والعدل، ورب جاهل ظالم غشم في زماننا لقب بقاضي القضاة بمعنى أحكم الحاكمين كما لقب كافر بملك الملوك وهو مع كفره طاغ باغ، وأكره الناس على الله من تلقب بهذا، كما في الحديث الشريف إذ لا تليق هاتان الصفتان إلا برب العالمين «قالَ» تعالى «يا نُوحُ إِنَّهُ» ابنك الذي تذكرته وغرق مع من غرق «لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ» الذين هم على دينك وليس هو داخل بالوعد الذي وعدتكه «إِنَّهُ عَمَلٌ» بالتنوين وقرىء بكسر الميم فعلا ماضيا أي عمل عملا «غَيْرُ صالِحٍ» وعلى القراءة الثانية تقرأ غير بالنصب على أنها مفعولة لعمل، وعلى القراءة الأولى وهي كون عمل مصدرا فتضم راء غير على أنها صفة للعمل، ويكون المعنى هو نفسه عمل غير صالح لأنه مشرك كافر هذا مبالغة في ذمه لإفناع نوح عليه السلام بأنه ليس من أهله، ولذلك أغرقته لكونه غير داخل في الوعد.
واعلم أن هذا القراءة جائزة لأنه لم يبدل ولم يغير منها حرف، كما أنه لم يزد ولم ينقص من حروف الكلمة، وإنما التبديل وقع فى الإعراب فقط، وكل ما كان على هذا من القراءات لا بأس فيه، أما ما يقع فيها تبديل أو نقص حرف أو زيادته فلا تجوز ولا تعد قراءة إذ هي تفسير لبعض الكلمات وردت من بعض الأصحاب أو كتبت على هامش مصاحفهم. تدبر هذا واعلم أن أهل الرجل من يجمعه وإباهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما، ولما حكمت الشريعة برفع حكم النسب في كثير من الأحكام بين المسلم والكافر، قال سبحانه وتعالى منزل هذه الآية لشريعته الثابتة في أزله إنه ليس من أهلك الذين هم على طريقتك وملّنك، لأنه لم يؤمن بك مثلهم، ولهذا فإن صريح الآية أبانت أنه ليس من أهله، وفي مثل هذا قال القائل:
لا ينفع الأصل من هاشم إذا كانت النفس من باهله
لأن مدار الأهلية هو القرابة الدّينية وقد انقطعت بالكفر، ولذا لم يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر، ولا حجة بخبر سلمان منا أهل البيت فإن المراد به قرابة الدين وهي أقرب من النسب لكن في غير الإرث، قال أبو فراس:
124
وقال الآخر:
كانت مودة سلمان لنا نسبا ولم يكن بين نوح وابنه رحم
لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد خفض الشرك الحسيب أبا لهب
هذا ومن قال إنه ابن زوجته لا يلتفت إلى قوله بعد قول الله تعالى (وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ) وقوله (يا بُنَيَّ) و (إِنَّ ابْنِي) والقول في هذا كالقول بأن آزر عم إبراهيم مع صراحة القرآن بأنه أبوه كما سيأتي في الآية ٧٤ من سورة الأنعام.
أما ما قيل إنه من البغي والعياذ بالله، فإنه قول باطل تتنزه ساحة الأنبياء عنه ويخشى على قائله الكفر، واستدلاله بقوله تعالى (إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) أي من زوجتي لا من صلبي، استدلال واه لا قيمة له ولا عبرة به، كيف وقد سماه ابنه في الآيتين مرتين صراحة ولا بعد صراحة القرآن حاجة إلى تأويل أو كناية، وإنما قال عليه السلام من أهلي لأن الله تعالى وعده بإنجاء أهله وهو منهم على ظنه أن الكفر لم يخرجه من معنى الأهلية، لا لأنه كما زعم هذا القائل الجاهل بأحوال الأنبياء المبرئين من كل عيب مادي أو معنوي. أما ما استبعده بعض المفسرين من أنه لا يكون ابن النبي كافرا فبعيد عن الحقيقة، لأن قابيل كافر وهو ابن آدم عليه السلام، وإبراهيم خليل الله أبوه كافر. وقال ابن عباس ما بغت امرأة نبي قط، ولا يقال كيف طلب النجاة له وهو كافر، لأن رقة الأبوة والأمل من نوبته عند رؤية أهوال الإغراق دعتاه إلى مناداته لعله يسلم وينجو، وهذا من موجبات الدعوة للغير فضلا عن الولد. قال تعالى «فَلا تَسْئَلْنِ» يا رسولي عن شيء «ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» جاء لنهي في هذه الآية عام مندرج تحته النهي عن سؤاله بعدم إنجائه بدليل الفاء التفريعية، وقد روي عن ابن عباس أنه قال:
ضمير إنه من قوله تعالى (إِنَّهُ عَمَلٌ) إلخ، يعود إلى المسألة المستفادة من معنى السؤال، أي مسألتك إياي يا نوح عن ابنك عمل غير صالح لا أرضاه لك، كما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عنه، وفي رواية جرير سؤالك ما ليس لك به علم عمل غير صالح.
ويستدل بهاتين الروايتين اللتين لم تعلم صحتهما القائل بأنه ابن بغي، ويقول إنما أعاد الضمير ابن عباس إلى المسألة حذرا من نسبة الزنى إلى من لا ينسب إليه، وهو رضي الله عنه أجل قدرا من أن يخفى عليه ذلك المعنى أو يتصور من عود الضمير
125
إلى ابن نوح ما تصوره هذا الجاهل بقدر الأنبياء، فيسند الضمير إلى من ليس له لئلا يتصور ما يلزم من ذلك المحذور، كيف وهو حبر الأمة وأعلم الناس بمعاني كتاب الله بعد المنزل عليه ووحيه وخلفائه، فعلى العاقل أن لا يلتفت إلى ترهات كهذه تلصق بأعظم الرجال لتؤخذ عنهم وهم منها براء، ومن له مسكة من عقل أو لمعة من إيمان لا يصدق أقوالا كهذه بمجرد نقلها عنهم، لأن كثيرا من الدساس يفعلون هذا، قاتلهم الله وأخزاهم. قال تعالى «إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ٤٦» لمثل هذا وأنت من أصفيائي وكان عليه السلام لا يعلم أن سؤاله هذا محظور عليه، ولما علم مما أوحي إليه ربه أن طلبه نجاة ابنه وإدخاله في وعد ربه لا يرضى به ربه رجع واعتذر والتجأ إليه «قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ» بجوازه ورضائك به «وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي» جهلي هذا وخطئي بإقدامي على سؤالك شيئا لا يحق لي سؤاله، ولا يجوز لي طلبه البتة «وَتَرْحَمْنِي» بالعصمة عن العود إلى مثلها برحمتك التي وسعت كل شيء «أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ ٧٤» عملا واحرسني يا سيدي من أن أذهل عن شكر نعمتك، فإن الذهول عنه عندها معاملة خاسرة توجب زوالها. واعلم أن لا دلالة في هذه الآية على عدم عصمة الأنبياء، لأن الله تعالى وعد نوحا بإنجاء أهله وقد اتبع ظاهر هذا الوعد فسأل نجاته، فعاتبه الله تعالى على ما ليس له به علم من استثنائه من أهله في سابق علمه، لأنه كافر مصر على كفره، وبين له أنه ليس من أهله الذين وعده بنجاتهم، وأعلمه بأنه هالك لا محالة مع قومه الظالمين أنفسهم، ونهاه عن مخاطبته فيه، وفي كل ما لا يعلمه مما يوقعه الله تعالى في ملكه، فخاف عليه السلام من إقدامه على سؤاله ذلك الذي لم يؤذن له به، فلجأ إلى ربه وسأله المغفرة حالا عن هذا الذنب الذي ليس بذنب عند غير الأنبياء، لأن العبد كلما ازداد قربا من الله تضاعفت خشيته منه، وقد جاء عن سيدنا محمد ﷺ أنه قال أعلمكم بالله وأخشاكم له أنا. وذلك لقربه من ربه عز وجل، لأن في ازدياد قربه ازدياد معرفته بربه ووقوفه على بعض عظمته وكبريائه، فيزداد خوفه منه فيستعظم ما يقع منه مما يراه مخالفا للأدب، ولهذا المعنى قبل إن حسنات الأبرار سيئات
126
المقربين، وكما أن القرب من الله يكون سببا لكثرة أدبه معه فكذلك القريب من السلطان يكون أكثر من غيره أدبا وخوفا منه لما يرى من بطشه ولتأمين مقامه ومكانته عنده وعند الناس. هذا وليس في الآيات ما يقتضي صدور ذنب أو معصية من نوح عليه السلام سوى تأويله وإقدامه على سؤال ربه بنجاة ابنه، وهو مما لا يؤاخذ عليه ولا يستوجب العتبى إلا عتاب الأحباب، وقدمنا في الآية ١٢١ من سورة طه في ج ١ ما يتعلق بعصمة الأنبياء ومعنى ما يصدر منهم فراجعه.
قال تعالى «قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ» بسفينتك على المحل الذي استقرت عليه وانزل إلى الأرض المستوية المعتدلة مما حول جبل الجودي «بِسَلامٍ» وأمان من الغرق وتحية «مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ» من ذرية أهل السفينة، وهذه بشارة من الله تعالى إليهم بالنمو والخيرات وإلى قرون تجيء بعده، قال تعالى (وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) الآية ١٧ من سورة الصافات الآتية، أي إلى يوم القيامة، لأن الخليقة الموجودة الآن منسوبة إلى أولاده الثلاثة سام وحام ويافث، ولهذا يسمى أبا البشر الثاني بعد الأب الأول آدم عليه السلام، وبهذا يستدل القائل بأن الطوفان عم الأرض كلها، وأن دعوة نوح شملت كل من كان عليها، قال محمد بن كعب القرظي دخل في هذه البشارة كل مؤمن إلى يوم القيامة.
وإلى هنا للتمهت قصة نوح عليه السلام التي قصها علينا في كتابة. ثم ابتدأ فقال «وَأُمَمٌ» كافرة يحدثون بعدك وينشأون ممن معك «سَنُمَتِّعُهُمْ» في هذه الدنيا بالسعة بالرزق والخفض في العيش والرفعة في الجاه مدة آجالهم «ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا» يوم القيامة جزاء أعمالهم السيئة «عَذابٌ أَلِيمٌ ٤٨» وقال محمد المومى إليه دخل في هذا المتاع والعذاب كل كافر إلى يوم القيامة «تِلْكَ» القصّة التي قصصناها عليك يا محمد «مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ» في جملة الأخبار الغيبية «ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا» القرآن الذي جاءك به ذلك في جملة ما أنزلناه عليك منه، ولا يقال إن هذه القصة معلومة في في التوراة أو غيرها من الكتب فكيف صح قوله (ما كُنْتَ تَعْلَمُها) إلخ، لأنها كانت معروفة على الإجمال، ومنها ما هو بطريق الرمز والإشارة، أما على هذا
127
التفصيل فلم يوجد إلا في القرآن ولم يرد ذكرها على هذا الوضوح إلا به، ولأن حضرة الرسول أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يعلم ما في الكتب القديمة، وكذلك قومه جلّهم أمّيّون، ومنهم من لم يسمع بها أيضا، لأن الجهالة باختيار الأمم السابقة وكيفية إهلاكهم غالبة عليهم، فاندفع ما يقال وأخرس القائل. «فَاصْبِرْ» يا سيد الرسل أنت ومن معك من المؤمنين على أذى قومك وتحمل جفاهم حتى يأتي وعد الله، كما أن نوحا ومن بعده من الأنبياء صبروا حتى جاءهم وعد الله «إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ٤٩» ربهم الصابرين على ما يخبرهم به، فيكون لهم النصر والفوز، قال تعالى «وَإِلى عادٍ» أرسلنا «أَخاهُمْ هُوداً» في النسب، لانه منهم لا في الدين الذي نسبه أقرب ولا في الهوى الذي هو تبع لما جاء به حضرة الرسول القائل (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به) وأشار إليه ابن الفارض رحمه الله بقوله فيه:
كم نسب في الهوى بيننا أقرب من نسب من أبوي
وتقدم نسب سيدنا هود في الآية ٦٥ من سورة الأعراف في ج ١ «قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» يستحق العبادة «إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ٥٠» بعبادتكم غيره كاذبون بادعائكم أن الأصنام آلهة مختلقون ما تزعمون من الشريك له
«يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ» أي النصح الذي أسديه لكم وما أبلغه إليكم من رسالة ربي التي فيها هديكم وصلاحكم للخير وخلاصكم من الشر «أَجْراً» جعلا ولا أجرة آخذها منكم لقاءه، لتظنوا أن لي فيكم طمعا ما «إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي» خلقني فهو الذي يرزقني في الدنيا ويثيبني في الآخرة «أَفَلا تَعْقِلُونَ ٥١» وعظي وتأخذون بقولي الذي أبذله لكم مجانا، وهل شيء أنفى للتهمة من هذا فكيف لا تقبلون رشدي؟ واعلم أنه ما من رسول إلا واجه قومه بهذا القول لأن شأنهم الرشد والنصح، وأن مما يمحضها للقبول هو حسم الطمع. وما دام الرسول لا يريد ولا يتوقع شيئا من هداه المادة يجب أن يركن إليه ويجاب دعاؤه، وإذا كان الناصح يجنح إلى المادة أو يتوهم منه طلبها من المنصوح له لا ينجح بدعوته ولا تنفع هدايته «وَيا قَوْمِ
128
اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ»
مما أنتم عليه من الكفر وآمنوا به وحده «ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» من الشرك ودواعيه، واخضعوا لعظمته وأنيبوا إليه «يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً» تباعا المرة بعد المرة، أي ينزل عليكم ماءها، إذ تطلق عليه لأنه نازل منها بالنسبة لما نرى وقيل في هذا المعنى:
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
والضمير في رعيناه يعود للغيث المتسبب عن نزول المطر، لأنه هو الذي يرعى لا المطر نفسه، وإنما وعدهم بالغيث لأن بلادهم أجدبت ثلاث سنين متوالية وذهب عنها خصبها بسبب عكوفهم على الأوثان وجنوحهم عن الواحد الديان وردهم دعوة رسوله، فوعدهم إذا هم آمنوا أن يرحمهم الله وبعيد لهم أرضهم خصبة كما كانت قبل المحل «وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ» وذلك أن الله تعالى غضب عليهم فأعقم نساءهم كما أمحل أرضهم، فوعدهم نبيهم بأنهم إذا آمنوا يعيد أرحام نسائهم إلى النتاج كما كانت عليه قبل أيضا، فيزداد عددهم وتقوى شكيتهم فتزداد قوتهم في المال والولد والرزق «وَلا تَتَوَلَّوْا» عني وتعرضوا عن نصحي فتكونوا قوما «مُجْرِمِينَ ٥٢» متلبسين الإثم مصدر أجرم إذا أذنب وجنى ويأتي على فلة من جرم وعليه قوله:
طريد عشيرة ورهين ذنب بما جرمت يدي وجنى لساني
«قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ» واضحة وبرهان ناصع وحجة ظاهرة ودليل قاطع على صحة قولك «وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ» المجرد عن المعجزة وتقول العرب حتى الآن (جئتني بإثمك) أي بلا شيء معك غير الكلام المجرد، وإذا كنت كذلك فلا نتبعك «وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ٥٣» فيما تقول أو تأتي به «إِنْ نَقُولُ» أي ما نقول «إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ» بجنون لأنك تسبّها فخبلتك انتقاما لكراهتها ففسد عقلك «قالَ» ألكم آلهة تفعل شيئا معاذ الله «إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ» على ما أقوله لكم «وَاشْهَدُوا» أنتم علي بأني أحقر آلهتكم وأجهلكم بعبادتها و «أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ٥٤» شيئا «مِنْ دُونِهِ» أي الإله الواحد الذي لا شريك له «فَكِيدُونِي جَمِيعاً»
129
أنتم وشركاؤكم «ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ ٥٥» ولا تمهلوني لحظة واحدة إن صح قولكم إن لآلهتكم قدرة على إضرار من ينالها بسوء أو يصد عن عبادتها، وقد صارحتكم وأشهدتكم وتحديتكم فلا تتسامحوا معي مثقال ذرة، وهذا الحزم والعزم البالغان الغاية القصوى من معجزاته ﷺ لأنه كان وحيدا فيهم ولم يهبهم على ما هم عليه من الجبروت لما هو عليه من الثقة بالله، ثم كر عليهم بالتحدي فقال «إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ» بقصد التعريض بهم والتقريع بأوثانهم التي يزعمونها آلهة بأنها ليست برب لهم ولا يتوكل عليها وإن ربهم ورب شركائهم هو الله ربه ورب كل شيء «ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها» مالكها وقاهرها وميسرها لما خلقت له وفاقا لسابق علمه بها، لأن من أخذت بشعر مقدم رأسه فقد قهرته والناصية هي مقدم الرأس، وأطلق على الشعر النابت فيها للمجاورة، وإنما خصها بالذكر لأن العرب إذا وصفوا إنسانا بالذل قالوا ناصيته بيد فلان، وكانوا إذا أسروا أسيرا وأرادوا إطلاقه جزّوا ناصيته ليمنّوا عليه ويفخروا بذلك، فخاطبهم الله تعالى بما يعرفون، ثم أكد لهم ذلك بقوله عز قوله «إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ٥٦» يسير فيه خلقه كلا بما يناسبه بحسب فطرته التي فطر عليها أزلا كما هو مدون في لوحه، لا تبديل لخلق الله، وهو جل شأنه عدل لا يضيع عنده معتصم، ولا يفوته ظالم، مطلع على أمور عباده، مجاز لهم بمقتضى أعمالهم، كالواقف على الجادة ليحفظها ويدفع الضرر عن المارين بها بالنسبة لما تعرفون.
وهذا كقوله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) الآية ١٤ من سورة والفجر، قال تعالى «فَإِنْ تَوَلَّوْا» عنك وأعرضوا عن نصحك ولم يؤمنوا فقل لهم «فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ» من الله «إِلَيْكُمْ» وقمت بما أوجبه علي من تبشيركم وإنذاركم، فإن لم تسمعوا وتطيعوا فلا بد من إهلاككم «وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ» لإعمار أرضه وخلافته فيها «وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً» بتوليتكم عن طاعته وإنما تضرون أنفسكم «إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ٥٧» ومن جملة الأشياء أنا فإنه لا محالة حافظي من تعديكم بمقتضى وعده إياي بذلك وهو لا يخلف الميعاد وكل هذا لم ينجع بهم وبقوا مصرين على كفرهم فحق عليهم العذاب، قال تعالى «وَلَمَّا
130
جاءَ أَمْرُنا»
بإهلاكهم وحل أوانه المقدر لإنزاله بهم «نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» وهم على ما قيل أربعة آلاف «بِرَحْمَةٍ مِنَّا» ورأفة بهم، لأن البلاء إذا نزل بمدينة أو قوم عم الكافر والمؤمن، ولكن كرما منه تعالى وفضلا قد أنجى المؤمنين من عذاب الدنيا الذي أوقعه بقومهم عقوبة مقدمة ولعذاب الآخرة أشدّ وأخزى وأدوم «وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ ٥٨» في الآخرة كما أنجيناهم من عذاب الدنيا، ووصفه بالغلظة لأنه عظيم بالنسبة لعذاب الدنيا، وكان إهلاكهم بالريح الشديدة مدة سبع ليال وثمانية أيام حسوما نحسات كما ذكر الله، راجع قصتهم مفصّلة في الآية ٧٢ من سورة الأعراف في ج ١، وأشير إليها اجمالا في أكثر السور، وقد صادف ذكرها الآن خلال الأيام المذكورة المسماة عندنا بالعجوز والحسوم، إذ أن هذا اليوم من أوسطها يوم الخميس في ٢٧ شباط سنة ٩٢٨، وهذا من جملة الصدف التي وافقت تفسير بعض الآيات المشار إليها في هذا التفسير قال تعالى «وَتِلْكَ» القبيلة المهلكة هي «عادٌ» وسبب إهلاكهم هو أنهم «جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ» هودا فمن قبله «وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ٥٩» من رؤسائهم المتمردين على الله المترفعين عن قبول الحق عنادا «وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً» رديفا إلى لعنتهم في الآخرة الملمع إليها بقوله تعالى «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ» أتبعهم لعنة أيضا، وحذفت من الأخيرة لدلالة الأولى عليها راجع الآية ٣٠ من سورة آل عمران ج ٣، وبين سبب هاتين اللعنتين بقوله «أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ» ولم يشكروا نعمه «أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ ٦٠» عطف بيان على عاد لأن عادا قبيلتان قبيلة هود وقبيلة عاد إرم أي العماليق المار ذكرهم في الآية ٨ من سورة والفجر في ج ١، فقال تعالى هنا قوم هود ليزول الاشتباه أي أهلكوا هلاكا أي هلاك، فسحقا لهم وبعدا لا يدرى مداه، بدليل التكرار، لأن العنة معناها البعد أيضا فكررها بعبارتين مختلفتين دلالة على نهاية التأكيد، كما أن تكرار التنبيه بألا مع النداء المستتر بالدعاء عليهم يدل على التهويل وتفظيع حالهم، ويبعث على الاعتبار بهم والحذر من أفعالهم،
قال تعالى «وَإِلى ثَمُودَ» أرسلنا «أَخاهُمْ صالِحاً» بالنسب أيضا لأنه منهم
131
وقد مر نسبه أيضا في الآية ٧٣ من سورة الأعراف في ج ١، وهم سكان الحجر وثمود اسم للقبيلة والثمد الماء القليل «قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ» البتة «هُوَ» الذي «أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ» وحده لا شريك له «وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها» فأطال أعماركم وجعلكم سكانها وعمارها.
مطلب سبب طول العمر وبقاء الحكم كثيرا عند البعض:
قالوا كان أحدهم يعيش كثيرا وتتراوح أعمارهم ما بين ثلاثمائة وألف سنة، وكان قوم عاد كذلك، وسئل نبي من أنبياء زمانهم عن سبب طول أعمارهم، فقال لأنهم عمروا البلاد وعاش بها العباد. وقيل إن الله أوحى لنبي من أنبيائهم بهذا، وقال معاوية لرجل أحيا أرضا آخر عمره ما حملك على هذا؟ قال قول القائل:
ليس الفتى بفتى يستفاد به ولا يكون له في الأرض آثار
وسئل عن بقاء حكمهم، فقال لأنهم لا يولون إلا ذوي العقول، ولا يحكمون إلا ذوي الأصول، ولا يعاقبون إلا بقدر الذنب لا يقدر البغض، ولا يكافئون إلا بقدر العمل لا بقدر المحبة، وقيل إن هذين السؤالين وقعا على ملوك الفرس والله أعلم.
«فَاسْتَغْفِرُوهُ» عما سلف منكم من الذنوب «ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» توبة نصوحا لا عودة فيها وأطيعوه وآمنوا به «إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ» رحمته من عباده المؤمنين لا يحول بينه وبينهم حائل «مُجِيبٌ ٦١» لدعائهم قابل رجوعهم غافر لما كان منهم «قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا» بأن تسعدنا ونفخر بك، لأنك ذو حسب ونسب فينا، ولأنّك تعين الضعيف وتبر الفقير وتحترم الناس، وكنا نطمع بك تأييد ديننا أيضا مع السيادة علينا «قَبْلَ هذا» القول الذي صدر منك حيث أسأتنا به وخيّبت آمالنا فيك «أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا» من الآلهة وقد عاش أسلافنا عليها لا لا تفعل هذا، فإن أملنا بك غيره «وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ» من عبادة إلهك وحده دون آلهتنا «مُرِيبٍ ٦٢» يوقعنا في مرية من أمرك وما تدعونا إليه، والريبة قلق النفس وانتفاء الطمأنينة والوقوع في الشبهة والركون إلى التهمة «قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ
132
إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً»
لآتيها لكم وتشاركوني في منافعها، إذ أمرني أن أدعوكم إليها لإرشادكم إلى الهدى فإذا لم أفعل «فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ» الذي شرفني بالرسالة إليكم وأوجب علي إنذاركم بالكف عن الكفر «إِنْ عَصَيْتُهُ» بعد تبليغكم رسالته وتبشيركم بجنة دائمة النعيم إذا أجبتم دعوتي وآمنتم بربي «فَما تَزِيدُونَنِي» بما ذكرتم من تعجبكم عن نهيي إياكم من عبادة الأوثان «غَيْرَ تَخْسِيرٍ ٦٣» بنسبتكم إياي إلى الخسارة أو نسبتي إياكم إلى الخسران، أي لا تفيدوني غير العلم بخسارتكم مما أدعوكم إليه من الرشد وسلوك طريق الصواب، أما أنا فلست خسرانا شيئا إلا خسارتكم وحرمانكم من فضل الله تعالى الذي وعدة لكم إن اتبعتموني ورفضتم ما أنتم عليه، فقالوا له إن كنت صادقا فآتنا بآية تدل على صدقك، فقال لهم سلوا ما شئتم، قالوا أن تخرج لنا ناقة من هذه الصخرة لصخرة كانت عندهم، قال ربه، فأجابه فقال «وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً» عظيمة واضحة على صدقي كما طلبتم «فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ» من نباته كسائر أنعامه لتدرّ لكم اللين فتشربونه مجانا دون أن أكافئكم مؤنتها «وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ» بأن تضربوها أو تعقروها، لأنكم إذا فعلتم بها شيئا «فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ ٦٤» في الدنيا لأنها من آيات الله وهو يغتار لآياته إن أهينت، فخالفوا أمره رغم تحذيرهم مغبة مخالفته وتهديدهم بعقاب الله إن هم مسوها بسوء، فأقدموا عليها «فَعَقَرُوها فَقالَ» لهم نبيهم أما وقد فعلتم ذلك «تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ» وفي آخرها يحل بكم عذاب الله إذ أخبرني بأنكم لا تعيشون في الدنيا غيرها لمخالفتكم أمري والدار تطلق على البلد وعلى الساحة جمع دارة وسوح قال أمية بن الصلت:
له داع بمكة مشتعل... وآخر فوق دارته ينادي
وتطلق على الدنيا أيضا، والمشتعل الرجل الطويل الخفيف اللطيف، فقالوا له أمهلنا أكثر من ذلك على طريق الاستهزاء فقال لهم «ذلِكَ» الوعيد الذي أخبرتكم به «وَعْدٌ» صادق لا يبدل ولا يغير، لأنه صادر من الإله العظيم، فافعلوا ما شئتم فإنه «غَيْرُ مَكْذُوبٍ ٦٥» فيه أبدا وستجدون عاقبة سخريتكم
133
هذه، قال تعالى «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا» بإهلاكهم وانقضى أجلهم المقدر عليه أزلا أنزلناه بهم و «نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ» منه «بِرَحْمَةٍ» وفضل ولطف «مِنَّا وَ» نجيناهم (مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ» أي ذلّه وهوانه إذ لا أخزى ممن كان هلاكه بغضب الله وانتقامه وقرىء (يَوْمِئِذٍ) بفتح الميم لأنه أضيف إلى غير متمكن، وهكذا إذا أضيف إلى الفعل فيكون مبنيا على الفتح أيضا، وقد وقع عليهم العذاب بشدة «إِنَّ رَبَّكَ» يا أكرم الرسل الذي يخبرك بحوادث من قبلك «هُوَ الْقَوِيُّ» على هذا الإهلاك الفظيع لأعدائه، وإنجاء أوليائه وأحبابه، الذين يحتفظون بدينه وينصرون عباده ويحفظون فقراءه، وهو «الْعَزِيزُ ٦٦» الغالب الذي لا يضاهيه أحد ولا يفلت من عذابه أحد «وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ» من قبل ملائكة الله والظاهر انه إسرافيل لأنه الموكل بصيحة القيامة وهي صيحة عظيمة دونها كل صوت صاعقة وكل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم من هولها فهلكوا جميعا وسبب إهلاكهم بالصيحة، لأنهم لم يرقّوا لصياح نبيهم وصياح فصيل الناقة، ولم يرحموا ثعاءه، ولم تلن قلوبهم لصياح أمه حين عقروها، والجزاء من جنس العمل «فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ٦٧» على ركبهم قعودا خامدين صرعى هالكين لا حراك بهم «كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها» ولم يتوطنوا في الدنيا ولم يقيموا بها ولم يسكنوها أبدا، يقال غنى بالمكان إذا أتاه وأقام به ثم نبه تعالى على سبب إهلاكهم بقوله عز قوله «أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ» بعد إنعامه عليهم وإجابة طلبهم ألا بعدا لثمود ٦٨ تقدم مثله آنفا وذكرنا القصة مفصلة في الآية ٧٩ من الأعراف في ج ١، قال تعالى «وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى» بأن يأتيه ولد وحفيد والرسل هم الملائكة فلما دخلوا عليه «قالُوا سَلاماً» كأنه قيل له ما قالت الرسل لأن في مجيئهم مظنة لسؤال السامع بهم، لأنهم غالبا يأنون بالعذاب تنفيذا لأمر الله، فأجابهم إبراهيم بما ذكر الله «قالَ سَلامٌ» عليكم إذ ظنّهم ضيوفا، وكان عادته إقراء الضيف بدليل قوله تعالى «فَما لَبِثَ» تأخر وأبطا إلا «أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ٦٩» مشوي وكان عليه السلام اعتاد أن يلف العجل كله بالعجين ويشويه بالتنور وهو من أحسن أنواع الأكل لا يعدله
134
شيء من الأطعمة عند من يحسن عمله، وفي تقديم العجل كله إشارة إلى استحباب تقديم الأكل إلى الضيفان بزيادة عن كفايتهم، ومنه عليه السلام أخذت عادة تقديم الذبيحة كلها إلى الضيوف والإسراع بتقديم القري لاحتمال أنهم جياع، وذلك من آداب الضيافة لما فيها من الاعتناء بالضيف، وهذا من مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب، ومن دلائل الإيمان.
مطلب إقراء الضيف ومعنى الضحك وحقيقته:
روى البخاري ومسلم عن ابن شريح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. ورويا عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. وفي خبر آخر قال صلى الله عليه وسلم: من ذبح لضيفه كانت فداءه من النار.
ومن السنة تلقي الضيف بطلاقة وجه، لأن البشاشة خير من القري، وأن يبالغ في خدمته بنسبته، لأن زيادة التواضع تخاسس، والعرب لا شك لا تألو جهدا في هذا الشأن، حتى أن أحدهم ليستدين ويكرم ضيفه، إلا أن التكليف للضيف بغير المستطاع مكروه، قال صلّى الله عليه وسلم: أنا وأنقياء أمتي براء من التكلف، وقد جاء عن أنس وغيره من الأصحاب أنهم كانوا يقدمون الكسرة اليابة وحشف التمر ويقولون ما ندري أيها أعظم وزرا الذي يحتقر ما قدم إليه أو الذي يحتقر ما عنده أن يقدمه، وأن يخدمهم بنفسه، كما فعل إبراهيم عليه السلام، ويظهر لهم السرور ويأكل معهم، ويطيل الحديث على الأكل، ولا ينظر إلى أكلهم، ويكرم دوابهم وخدمهم إن كان ذلك ليزدادوا سرورا، ومن السنة أن يحدث أضيافه بما يسرهم، وأن يقدم الألوان دفعة واحدة، أو يخبرهم بها ليأكل مما يشتهيه، وأن يشيعهم إلى باب الدار إن كانوا من أهل البلد، وإلى آخره إن كانوا غرباء عنه، ولهذا البحث صلة في الآية ٤٤ من سورة الذاريات، والآية ٥ من سورة الحجر الآتيتين، قال تعالى «فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ» أي العجل المقدم إليهم،
135
وهذا يدل على أنه عليه السلام لا يعرفهم أنهم ملائكة وإلا لما قدم إليهم شيئا لأنه يعلم أن الملائكة لا يأكلون، وهذا كاف للرد على من قال إنه يعرفهم، ويؤيد عدم معرفته لهم قوله تعالى «نَكِرَهُمْ» خاف منهم، لأن الضيف إذا مس الطعام أمنه المضيف وإلا خاف منه وحذره، ولهذا قال تعالى «وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً» في قلبه لأن الوجس رعب القلب ولهذا فإن من خال أنه يعرفهم فقد أخطأ المرمى ويؤكد خطأه قوله تعالى حكاية عنهم «قالُوا لا تَخَفْ» يا إبراهيم إذ عرفوا خوفه من هيولاء فأمنوه وبينوا له أنفسهم ليسكن روعه، فقالوا نحن رسل ربك «إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى» إهلاك «قَوْمِ لُوطٍ ٧٠» لتجاوزهم عليه
«وَ» كان «امْرَأَتُهُ» سارة بنت عمه بتشديد الراء وتخفيفه كما ذكره صاحب الجمل على الجلالين «قائِمَةٌ» بالرفع على أن الواو من (وَامْرَأَتُهُ) للحال أي حاضرة في خدمتهم، لأن النساء إذ ذاك لا يحتجبن، ولا سيما العجائز، وما قيل إنها كانت وراء الستر وهو ما يسمونه الآن عرب البادية (خدرة) وهي بساط ثخين كبير يوضع فاصلا ما بين مقعد الرجال ومقر النساء في بيوت الشعر في البوادي والقرى. والحجاب من خصائص هذه الأمة، أما حرمة النظر فلا، إذ جاء في الإنجيل من نظر إلى أجنبية يشتهيها فهو يزني. قال تعالى حكاية عن سارة رضي الله عنها «فَضَحِكَتْ» سرورا بزوال الخوف الذي توقعته من عدم أكلهم، ومن فسره هنا بمعنى الحيض، فقد صرفه عن معناه الحقيقي، وإن كثيرا من العلماء أنكروا مجيء الضحك بمعنى الحيض، وما استدل به بعضهم من قوله:
تضحك الضبع لقتلي هذيل وترى الذئب بها يستهل
وقول الآخر:
تضحك الضبع من دماء سليم إذ رأتها على الحراب تمور
بأن الضحك فيها بمعنى الحيض خطأ بين، لأن الشاعر أراد أنها تكشر بأنيابها عند أكل اللحم، فمن زعم أن كثرها هذا ضحك أي حيض فقد سها ولم يفرق بين الريم والمها، ولو أراده تعالى لقال حاضت لأنه لفظ جاء ذكره مرارا في سورة البقرة والطلاق فلا يقال لم يذكره لأنه مستهجن، هذا وحقيقة الضحك انبساط
136
الوجه من سرور النفس ويستعمل في السرور المجرد في التعجب وسميت مقدمات الأسنان ضواحك لبدوها عند الضحك، وما قاله بعض اللّغويين ان ضحكت بمعنى حاضت، واستدل ببعض أقوال العرب فجائز، إلا أنه فيما نحن بصدده هنا لا ينطق على المعنى المراد، والله أعلم. قالوا إن إبراهيم عليه السلام قال لضيفانه لماذا لا تأكلون؟ فقالوا له لا تأكل طعاما بلا ثمن، فقال ثمنه ذكر الله أوله، وحمده آخره، فقال جبريل لميكائيل حق لهذا أن يتخذه ربه خليلا. قالوا وضحكت سارة تعجبا لأنها وزوجها يخدمونهم بأنفسهما وهم لا يمدون أيديهم إلى الطعام الذي هو من أحسن الأطعمة إذ ذاك، وقد يكون الآن أيضا من أحسنها عند كثير من الناس، وقيل إنها ضحكت من غفلة قوم لوط وقرب العذاب منهم، والصحيح الأول، لأنها لا تعرف سبب مجيئهم أولا حتى تضحك تعجبا من ذلك، ومن قال إنها ضحكت بالبشارة من أن يكون لها ولد وحفيد على كبر سنها، فهو سابق لأوانه، لأن الملائكة لم تذكر هذه البشارة أولا. قال تعالى «فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ» ولد لإبراهيم منها «وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ» ٧١ حفيدا لها من ابنها اسحق، وفي هذه الآية بشارة أخرى بطول عمرهما حتى يريا ولدهما يكبر ويتزوج ويأتيه ولد، وإنما خصّت بالبشارة دون إبراهيم، مع أنها لهما جميعا لأن النساء أشدّ فرحا وأعظم سرورا بذلك من الرجل، ولأن إبراهيم له ولد من جاريتها هاجر، وهو إسماعيل عليه السلام جد نبينا محمد ﷺ وسائر الأنبياء من اسحق أي من إبراهيم، فما بعد، أما من تقدمه كهود وصالح وغيرهما ممن لم يقصه الله علينا، فإنهم من سيدنا نوح عليه السلام وهو ومن تقدمه كإدريس وشيث وغيرهما من آدم عليه السلام «قالَتْ يا وَيْلَتى» كلمة يستعملها الناس عند رؤية أو سماع ما يتعجب منه مثل يا عجباه نداء ندبة «وأصلها (ويلتي) فأبدل الألف من ياء المتكلم للمضاف «أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ» كيف يكون هذا زاعمة أنه من المحال بالنسبة لمثلها، لأنها كانت بنت تسعين سنة على ما قالوا «وَهذا بَعْلِي شَيْخاً» زوجي مسنا كبيرا قالوا كان ابن مئة وعشرين سنة، والبعل هو المستعلي على غيره، ولما كان الزوج مستعليا على المرأة قائما بأمرها سمي بعلا، قال تعالى (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى
137
النِّساءِ)
الآية ٣٤ من سورة النساء ج ٣، والشيخ لغة من بلغ سن الأربعين، واصطلاحا من بلغ رتبة أهل الفضل ولو صغيرا، وبعد أن استفهمت استفهام تعجب واستبعاد أكدته بقولها «إِنَّ هذا» الذي أخبرتموني به «لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ٧٢» مخالف للعادة، إذ لا يتصور أن مثلي يلد لمثله، ولا يتوهم ذلك أصلا، ولم يكن تعجبها هذا من قدرة الله تعالى، لانها تعلم أنه أقدر على أكثر من ذلك، كيف وقد نجى زوجها من النار ومن كيد النمرود وحفظها من الجبار الذي أراد أخذها من زوجها، وإنما تعجبت من حالها وحال زوجها بالنسبة للبشارة ليس إلا، «قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ» الذي يخرج الحي من الميت والميت من الحي ويحي الأرض بعد موتها كلا، لا تعجبي فإن الله أقدر على أن يجعل العجوز مثلك تلد من الشيخ الذي هو مثل زوجك، فقالت لا عجب من أمر الله، وإنما من أمري وأمر بعلي، فلما أعجبهم كلامها دعوا لهما بما ذكر الله، وهو «رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ» آل إبراهيم «إِنَّهُ حَمِيدٌ» على أفعاله كلها ومنها تعجيل النعم وتأجيل النّقم «مَجِيدٌ ٧٣» شريف منيع لا يرام كريم جواد واسع العطاء، وإن كلمة مجيد كررت في القرآن أربع مرات فقط هنا وفي أول ق وفي الآيتين ١٥/ ٢١ من سورة البروج المارتين في ج ١، قال تعالى «فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ» الخوف الذي نشأ من عدم إقدامهم على أكله «وَجاءَتْهُ الْبُشْرى» بالولد والحفيد، المتضمنة إطالة عمره بعد هرمه شرع «يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ ٧٤» لانه لما علم أنهم ملائكة الله وعلم
أن مجيئهم لإهلاك قوم لوط سبب مساوئهم الخبيثة وتعديهم على نبيهم، قال لهم أرأيتم لو كان في مدائن لوط خمسون مؤمنا أتهلكونها؟ قالوا له لا، ثم لم يزل بهم حتى قال مؤمن واحد قالوا لا، كما في بحث التكوين ص ١٨ من التوراة، قال لهم إن فيها لوطّا، قالوا نحن أعلم بمن فيها وإنا لننجينه بأمر الله وأهله إلا امرأته، ونظير هذا في الآية ٣٢ من سورة العنكبوت الآتية، ثم طلب تأخير العذاب عنهم علّهم يؤمنون، فبين الله تعالى أن الذي حمل إبراهم على هذه المجادلة مع الملائكة ما هو مجبول عليه من الشفقة على عباد الله، ومشرب فيه من الصفات
138
التي ذكرها الله بقوله «إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ» لا يحب تعجيل العقوبة على من يسيء إليه، كثير الاحتمال للأذى، صفوح عن زلة غيره، عفو على من اعتدى عليه «أَوَّاهٌ» كثير التأوه والتحسر خوفا من الله «مُنِيبٌ ٧٥» رجاع إلى الله رقيق القلب شديد الرأفة عظيم الإخبات إلى ربه كبير الرحمة بعباد الله، فهذه الصفات الجليلة حملته على الاستغفار لأبية كما أدت به إلى طلب تأخير العذاب عن قوم لوط، لأن الكامل لا يقصر خيره على الأقارب فقط بل يعم من عرف ومن لم يعرف، ولما كان الأمر بالإهلاك لا محيص عنه مقضيا مبرما بعلم الله جفّ القلم به في اللوح المحفوظ، خاطبه ربه عز وجل لأن الملائكة لا تقدر أن ترده لعلمهم بقربه من الله واتخاذه خليلا له، قال عز قوله «يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا» الأمر لا تطلب تأخير عذاب جفت به الصحف عن أمري واترك رسلنا وشأنهم في تنفيذه «إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ» الذي لا راد له «وَإِنَّهُمْ» قوم لوط البغاة الذين تجاوزوا حدود الله بشيء لم يسبقوا به، ولولا هم لم يعرف «آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ٧٦» بدعاء ولا جدال ولا بطريق من الطرق، فسكت إبراهيم وترك جدال الملائكة لما عرف أن الأمر مقطوع به من عند الله لا حول لأحد ولا طول بتأخيره عن وقته طرفة عين، فخرج الملائكة من عنده وتوجهوا إلى قرى لوط وكان بينهما أربعة فراسخ.
مطلب قصة لوط عليه السلام وعرض بناته على أشراف قومه لتخليص ضيوفه الكرام:
قال تعالى «وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ» عليه السلام وحزن لأنه رآهم بصفة رجال حسان مرد، وخاف عليهم من تعدي قومه «وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً» صدرا ولم تكرر هذه الكلمة في القرآن، والذرع الوسع تقول العرب ليس هذا في يدي أي في وسعي، والذراع من اليد مر ذكره في الآية ٣٩ المارة ويقولون ضاق فلان ذرعا إذا وقع في مكروه لا يطيق الخروج منه، لأن الذرع يوضع موضع الطاقة، والمعنى ضاق بمكانهم صدره عليه السلام لأنهم اعتادوا القبائح وعمل الفاحشة مع كل من قدروا عليه من المارين في قريتهم وغيرها، لا يراعون
139
حرمة أحد ولا يذعنون لنهيه، وإنما قلق باله عليه السلام لظنه أنهم من الإنس ولعلمه أنه لا يقدر على تخليصهم من مراودة قومه الخبثاء «وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ ٧٧» شديد، كأنه قد عصب وربط بالشر والبلاء، ولم تتكرر هذه الكلمة أيضا بالقرآن، روي أن الله تعالى قال للملائكة لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم أربع شهادات باستحقاقهم الإهلاك، فقام عليه السلام واستقبلهم على ما هو عليه من الكرب، ومشى معهم إلى منزله الخاص بالضيفان، وقال لهم أما بلغكم أمر هذه القرية، قالوا وما أمرهم؟ فقص عليهم حالتهم الخبيثة مع الناس وبعضهم وقال أشهد بالله أنهم لشر أهل قرية في الأرض، وكررها أربع مرات لشدة تأثره منهم، وكلما قالها مرة يقول جبريل لرفقائه اشهدوا، فدخلوا معه المنزل ولم يعلم بهم أحد من قومه، وقد عجب هو عليه السلام من أمرهم كيف دخلوا ولم يتعرضهم أحد، ولم يعلم أنهم ملائكة، والملائكة يوجدون بالمحل الذي يريدونه بمثل البرق فمن أين يتوصل إليهم الناس، فلما رأتهم امرأته التي هي من أهل القرية خرجت فأخبرت قومها بهم، فلما سمعوا قولها بادروا وتوافدوا على بيت لوط، قال تعالى «وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ» يسرعون المشي نحوه، والهرع مشى بين الخبب والهرولة والجمز فصاروا من كثرتهم كأنهم يدفعون دفعا «وَمِنْ قَبْلُ» مجيئهم هذا «كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ» الفعلات الخبيثات وهي إتيانهم الرجال، فتلقاهم لوط و «قالَ يا قَوْمِ» اتركوا ضيفاني لا تعتدوا عليهم وإن كنتم لا تراعون خاطري وتقصدون فضيحتي ولا بد لكم مما عزمتم عليه فدونكم «هؤُلاءِ بَناتِي» اللاتي كنتم تخطبونهن مني وكنت أمتنع من زواجهن لكم لأنكم على غير ديني، وهذا الخطاب لملأ قومه عليه السلام الذين كانوا خطبوهن منه قبل هذه الحادثة، وقد فداهنّ للمحافظة على ضيفانه، وقال لهم «هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ» مما أنتم قادمون عليه وقاصدون فعله فإني أفتدي أضيافي بهن وأوافق الآن على زواجهن لكم أيها الوجهاء، فادفعوا قومكم وانصروني واحموا أضيافي منهم، وكان في شريعته عليه السلام جواز زواج المسلمة من الكافر، وكان امتناعه من زواجهن لأشرافهم بقصد جلبهم للإيمان به، واستدامت هذه الشريعة لزمن محمد صلى الله عليه وسلم
140
إذ زوج بنته زينب لأبي العاص وهو كافر ورقية إلى عتبة وهو كافر حتى نزل الوحي بالمنع في المدينة المنورة، فحرم زواج المؤمنة بالكافر، ولا تزال الحرمة حتى الآن كما سيأتي بيانه في الآية ٢٣٠ من البقرة في ج ٣، وستدوم هذه الشريعة المطهرة إن شاء الله إلى يوم القيامة، وعلى هذا يظهر أن الامتناع من إعطائهن إلى أشراف قومه هو ما ذكرنا لأنه يرى عدم كفاءتهم لهن لما هم عليه من العمل القبيح، لا لأجل منع شرعي غيره، وإنما بادرهم بهذا الكلام ليكفوا عن أضيافه، وإن كان ليس من المروءة أن يعرض الرجل بنته على غيره ليتزوج بها لا سيما وهم كفار وهو نبي مكرم على الله، ولا يليق بمنصبه الشريف ذلك، ولكن للضرورة أحكام والضرورات تبيح المحظورات، وتفسير البنات بيناته نفسه عليه السلام جاء على الحقيقة وموافق لسياق التنزيل، أما من قال إن المراد ببناته نساؤهم لأن النبي كالوالد والأمة كالولد له ولهذا أضافهن لنفسه، لأن كل نبي أب لأمته، فهو قول وجيه إلا أن المراد حينئذ المجاز لا الحقيقة، ولا يصرف القول إلى المجاز إلا إذا تعذرت الحقيقة، وإن من رأي أن الأخذ بالمجاز هنا متعذر لعدم الصارف فسر بما فسرناه عملا بحقيقة اللفظ وظاهر القرآن، وإلا فلا، لأن المعتل معتل أبدا مهما علّلته، والضمير لا يرتاح إلى ما به علّة دون أن يقف على الصارف أو المانع، وقد مر في الآية ٤٧ ما يتعلق بمثل هذا
فراجعه، إلا أنه لما كان القوم كثيرين وبناته ثلاثا أو اثنتين وللفظ يؤيد الأول وليس يكفين كبار قومه رأي بعض المفسرين الأخذ بالمجاز أشبه من الحقيقة استنادا إلى هذا التعليل العليل، ويكون قوله لنسائهم بناتي مبالغة في التودد إليهم والتواضع هم وإظهارا لشدة امتعاضه مما أوردوه عليه طعما في أن يستحيوا منه ويرقوا له، فيتركوا ضيوفه عند سماع قوله هذا مع ظهور الأمر عنده واستقرار العلم عندهم، إذ لا مناكحة بينه وبينهم، فأقول هذا هو المناسب ويجوز القول به أنه هو الصحيح لولا قوله تعالى الآتي في الآية التالية لأنه صريح بأنهن بناته نفسه، وأنه إذا صاهرهم بهن فيكونون أصهاره وهم وجوه قومهم حماة له من تعدي الآخرين، وقد يوجد كبير واحد يحمي من ألف وأكثر إذ ليس شيء بألف مثله إلا الإنسان وهو بحاجة للنصرة لما ذكرنا أنه
141
غريب عنهم لا علاقة معهم إلا بمصاهرتهم، هذا ولا يقال إنه يفهم من قوله تعالى هن أطهر لكم أن إتيان الرجال طاهر لأنه جاء بأفعل التفضيل، وكلما كان كذلك يؤذن بوجود رائحة الأفضلية في المفضول أيضا كما تقول فلان أعلم من فلان فإنه يقتضي وجود علم ما بالمفضول لأن الكلام خرج مخرج المقابلة وله نظائر كثيرة منها قوله ﷺ لما قال المشركون يوم أحد (أعل هبل) ثم قالوا إن لنا العزى ولا عزى لكم، قال لأصحابه ردوا عليهم فقالوا ما نقول يا رسول الله؟ قال قولوا الله أعلى وأجل، وقولوا الله مولانا ولا مولى لكم. إذ لا مماثلة بين الله تعالى والصنم فضلا عن المفاضلة، ومنها قوله تعالى (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ) الآية ٢٦ من سورة الصافات الآتية، ومعلوم أن شجرة الزّقوم لا خير فيها البتة حتى يظن التفاضل بينها وبين المشار إليه وهو الفوز العظيم بنعيم الجنة، فأفعل فيها مجاز وهو عبارة عن كلام جار مجرى ما في الخبرين والآية، لأنه من المعلوم أن إتيان الرجال محرم نجس فمن أين تناله الطهارة ليتصور ما يزعم من مفهوم الآية، فتنبه أرشدك الله لعلو مكارم الأخلاق وارتفاع محاسن الآداب. قال تعالى «فَاتَّقُوا اللَّهَ» أيها الناس وآثروا الطاهر النقي على النجس الخبيث «وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي» تسوؤني فيه وتفضحوني بما تريدونه منهم فتهينوني وتذلوني أمامهم وجاء في الآية ٧١ من سورة الحجر الآتية (إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) أي ما آمركم به وأنهاكم عنه أو إن كنتم تريدون قضاء الشهوة فاقضوها فيما أحل لكم واتركوا الحرام الذي في عاقبته خذلانكم «أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ ٧٨» سديد العقل صحيح الرأي يفعل الجميل ويكف عن القبيح، وهذا الاستفهام للتعجب أي إنكم على كثرتكم وادعائكم العقل السليم ما فيكم واحد يسمع قولي ويزجر قومه عن ذلك «قالُوا» معرضين عن قبول النصح غير مبالين بكرامة نبيهم «لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ» في نكاحهن لأنك تزعم أننا لسنا بأكفاء لهن لإيمانهن بك وكفرنا ولما نحن عليه من الفعل الذي تكرهه، هذا على القول الأول الذي جرينا عليه وهو المقبول وعليه المعول، وعلى القول الثاني فإن صاحبه يفسر الحق في هذه الآية الصريحة بأنهن بناته نفسه بالشهوة، أي مالنا شهوة في وقاع
142
النساء، أي نسائنا الذين تزعم أنهن بناتك وما لنا حاجة بهن، وهو لعمري بعيد والأخذ به غير سديد، لأن هذه الآية كانت فصل الخطاب لا تقبل التأويل ويبطل معها كل دليل «وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ ٧٩» وهو إتيان الذكور دون النساء فلما رأى إصرارهم ورأى نفسه ضعيفا تجاههم «قالَ» عليه السلام متأثرا متحسرا آسفا «لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً» على مقاومتكم لدفعتكم بنفسي عن أضيافي وأهلكتكم دون أن أمكنكم منهم «أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ ٨٠» من قبيلة أو عشيرة يمنعوني منكم إذا أوقعت فيكم مكروها لفعلت وفعلت ومنعتكم من الوصول إلى داري. تمنى هذا عليه السلام لا نشغال فكره بأضيافه وقومه، وإلا فهو يأوي إلى ركن أشد من كل ركن، روى البخلوي ومسلم عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله ﷺ يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته. وقال أبو هريرة ما بعث الله نبيّا بعده إلا في منعة من عشيرته. ومعنى الركن في الحديث هو الله تعالى، فلا ركن يضاهي عظمة ركنه، ولا بأس يعادل شدة بأسه، ولا قوة تقابل كبير قوته، ومن كان اعتماده على الله لم يبال بشيء، ومن اعتمد على الخلق ذل، وقيل:
إذا كان غير الله للمرء عدة أتته الرزايا من وجوه الفوائد
ومعناه في الأصل الناصية من البيت أو الجبل، ومن قال إن أو هنا بمعنى بل أي قال سيدنا لوط بل آوي إلى ركن شديد، ينافيه الحال، واستغراب سيد الرجال قوله وعده منه بادرة، فقال الحديث السالف الذكر، ولو كان يعلم أن ذلك قصد لوط لما ذكر هذا الحديث، وإن مما يدحض هذا القول الآية التالية ومجيء أو بمعنى بل في بعض المواقع لا يفيد أنها هنا بمعناها، ثم أغلق لوط بابه وصار يدافع قومه ويناظرهم ويناشدهم الله من ورائه، وهم لا يلتفتون إليه، ويعالجون فتح الباب ليدخلوا عليه ويتسلطوا على أضيافه، وهو عليه السلام أقوى منهم على الانفراد، ولكن الكثرة تغلب الشجعان، فلما رأت الملائكة ما يقاسيه لوط من الكرب بسببهم وهم ينتظرون الساعة المقدرة لإهلاكهم
«قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ» أرسلنا لإهلاكهم، فتنح عن الباب واتركنا وإياهم، وإنك
143
تلجأ إلى ركن شديد، فإنهم «لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ» لأن الله حافظك منهم، ولن يستطيعوا علينا، فإن الله سلطنا عليهم، فبعد صراحة هذه الآية يطرح قول كل من يقول إن أو بمعنى بل، ويكذبه، إذ لو كانت أو بمعنى بل فلا حاجة للإتيان بها، ولا محل لقول الملائكة إنا رسل ربك، أي ناصروك عليهم، قالوا فترك الباب لما عرفهم أنهم ملائكة، فدخلوا يتسابقون إلى الملائكة، ولما أرادوا مد أيديهم إليهم تحوّلوا إلى صورتهم الحقيقة، واستأذن جبريل ربّه رب العزة في عقوبتهم، إذ جاء أجلها، لأنهم لا يقدرون أن ينفذوا شيئا أرسلوا إلى تنفيذه إلا بعد الاستئذان، لأنه قد يعفو عن العقوبة وهو الذي لا يسأل عما يفعل، فأذن لهم، فضربهم ضربة واحدة بجناحه، فطمس أعينهم، فانطلقوا عميا يركب بعضهم بعضا ويقولون النجاة النجاة، فإن في بيت لوط سحرة! وجاء في رواية أخرى أنهم كسروا الباب ودخلوا فلطمهم جبريل فطمس أعينهم، فقالوا وهم هاربون يا لوط جئتنا بسحرة، وتوعدوه، فأوجس في نفسه خيفة منهم إذ قال سيذهب هؤلاء ويذرونني لا ناصر لي، لأني غريب عنهم، فعندها قال جبريل لا تخف والتفت هو وجماعته إلى لوط وقالوا «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ» قرىء أسر بالقطع والوصل من الإسراء وهما بمعنى واحد، وقيل إن أسرى سار أول الليل وسرى آخره، ولا يقال في النهار إلا سار كما بيناه أول سورة الإسراء المارة في ج ١، «بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ» آخره أو شدة ظلمته، قال مالك بن كنانة:
وقائمة تقوم بقطع ليل على رحل أهانته شعوب
يؤيد هذا التفسير قوله تعالى (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ) الآية ٣٤ من من سورة القمر المارة في ج ١، والسحر آخر الليل وأشده ظلمة، وأصل القطع القطعة من الشيء، لذلك قال ابن عباس طائفة من الليل، وقال قتادة بعد صدر منه «وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ» وراءه وضمير منكم يعود على أهله، وقوله لا يلتفت من تسمية النوع وهو من بديع النكات، إذ أن المتأخرين من أهل البديع زعموا أنهم اخترعوا نوعا من البديع لم يكن قبل وسمّوه تسمية النوع، وهو أن يؤتى بشيء من البديع ويذكر اسمه على سبيل التورية كقوله في البديعية في الاستخدام:
144
واستخدموا العين مني فهي جارية وكم سمعت بها في يوم بينهم
ويتبجحوا في ذلك ولم يعلموا وجوده في كتاب الله الذي لم يغفل شيئا في مثل هذه الآية، وإن علومهم وعلوم من تقدمهم مستقاة من هذا القرآن العظيم الذي يقول الله تعالى فيه (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) الآية ٣٨ من الأنعام الآتية فلم يترك شيئا من أفعال وأعمال الأولين والآخرين، قال الأبوصيري رحمه الله:
لم تقترن بزمان وهي تخبرنا عن المعاد وعن عاد وعن ارم
فلا تعد ولا تحصى عجائبها ولا تسام على الإكثار بالسأم
ثم استثنى من أهله عليه السلام فقال «إِلَّا امْرَأَتَكَ» بالنصب على الاستثناء المتصل من أهلك، وبالرفع على البدلية من أحد، أي اتركها لا تأخذها معك «إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ» من العذاب فهي هالكة معهم لرضائها بفعلهم، فلم تمنعهم ولم تزجرهم وكانت تخبرهم بمن يأتي عنده، حتى إنها أخبرتهم بحضور الملائكة ظنا منها أنهم بشر، ولم يروهم حين مجيئهم، وذلك لأنهم لا يمشون مشي البشر، إذ يصلون إلى المحل الذي يريدونه بلحظة، فلا يحس إلا وهم أمام من يقصدونه، قال لوط متى ينزل فيهم العذاب قالوا له «إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ» قال لهم أريد أسرع من ذلك قالوا له إن الوقت المقدر لإهلاكهم هو الصبح «أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ٨١» ولم يكن بيننا وبينه إلا هذا الليل المضل، وقرئ الصبح بضم الباء، وعي لغة جائزة لأنها ليست بحركة إعراب، أما حركة الإعراب كحركة الميم في أنلزمكموها وأضرابها فلا يجوز فيها الإسكان بداعي الخفة إلا ضرورة كقوله:
فاليوم أشرب غير مستحقب إنما من الله ولا واغل
بإسكان الباء من أشرب للخفة ضرورة، وقول الآخر:
وناع يخبرنا بمهلك سيد تقطع من وجد عليه الأنامل
بإسكان باء يخبرنا، أما الإسكان لتوالي الحركات فقد أجازه بعضهم بلا ضرورة مثل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها) الآية ٥٨ من سورة النساء ج ٣، وأمثال كثير، وكان سيبويه يخفف الحركة ويختلها، قالوا وهو الحق، ولما دخل الليل تهيأ لوط وهيأ أهله، ثم أخذهم وترك زوجته، وأوصاهم بعدم
145
الالتفات وراءهم، امتثالا للأمر قال تعالى «فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا» حان وقته بعذابهم «جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها» إذ أدخل جبريل عليه السلام جناحه تحت قراهم الخمس، ورفعها حتى بلغ بها عنان السماء، وهم نائمون لم ينتبه أحد منهم ولم يكفأ لهم إناء وقلبها بهم، فسمعت امرأته وهي لا حقة بلوط وأهله راكضة خلفهم (هوة العذاب) الهوة صوت انهدام الجدار هنا صوت انقلاب القرى، فالتفتت ورافعا فهلكت، وهذه الحكمة من منعهم من الالتفات إلى الوراء، إذ قدر الله إهلاك من يلتفت منهم وراءه، قال تعالى «وَأَمْطَرْنا عَلَيْها» أي القرى المقوبة «حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ» حتى لا يبقى منهم أحد ممن كان سارجا عن القرى وآتيا إليها، فمن شذ عنها فلم يهلك بالخسف هلك بالحجارة مثل امرأة لوط المار ذكرها، ومعنى سجيل الطين لقوله تعالى في الآية ٣٣ من الذاريات (حِجارَةً مِنْ طِينٍ) والقرآن يفسر بعضه وفي الفارسية أصلها سنك، راجع الآية ٨٢ من الشعراء المارة في ج ١، وهذه كالسندس والإستبرق وغيرها. فإنها كلمات عربية استعملها الغير، لأن العرب نطقت بها قبل القرآن «مَنْضُودٍ ٨٢» متتابع نعت لسجيل مأخوذ من النضد وهو وضع الشيء بعضه على بعض فعلا، أو كون بعضه فوق بعض خلقة، مثله في قوله تعالى (وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ) الآية ٢٩ في الواقعة المارة في ج ١ «مُسَوَّمَةً» نعت ثان أي معلمة بعلامة العذاب لا تشبه حجارة الدنيا، قالوا كان مكتوبا على كل واحدة منها اسم من تهلكه، ولا عجب لأنها «عِنْدَ رَبِّكَ» القادر على كل شيء وهي من جملة ما في خزائنه التي لا يطلع على ما فيها ولا يملكها غيره، أو أنها ساقطة من لدنه من مكان لا يعلمه غيره، وضمير الخطاب هذا يعود إلى سيد المخاطبين على طريق الالتفات وتقدمت القصة مفصلة في الآية ٨٤ من الأعراف المارة في ج ١، ولهذا قال تعالى «وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ٨٣» أي من قومك يا محمد المتغالين في الظلم، بل هي قريبة منهم إذا أصروا على ظلمهم ولا شك أنا نوقع بهم ما أوقعناه بغيرهم من العذاب، وفي الآية تهديد لكل ظالم لأن الذي أهلك الله به شذاذ قوم لوط من الحجارة لا يبعد أن يرمي العرب أهل الظلم كافة، قال تعالى «وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً» تقدم نسبه بالأعراف
146
«قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ» في سعة من الرزق موسرين غير محتاجين لأكل أموال الناس باطلا بالخلسة «وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ ٨٤» بكم وباله لا يترك منكم أحدا، ويبدل الله خصبكم قحطا، وسعتكم ضيقا، ورخصكم غلاء، فيسلب نعمكم كلها ويحل بكم نقمه إن لم تتوبوا من عملكم هذا، وذكرنا في الآية ٨٥ من الأعراف أن مدين أحد أولاد إبراهيم عليه السلام، وأنه بنى المدينة هذه فسمّاها باسمه، والمراد أهلها، ثم أكد عليهم بما يزيد في زجرهم بقوله «وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ» العدل، بتقويم لسان الميزان ومكانه وتسوية المكيال من كل أطرافه، وفائدة التصريح بالأمر بالإيفاء مع أن النهي الوارد في الآية السابقة يستلزمه، لأن النهي عن الشيء عين الأمر بضده أو مستلزم له تضمنا أو التزاما، لأن الخلاف بمقتضى اللفظ، لا أن التحريم والوجوب ينفك عن مقابلة الضدّ. النعي بما كانوا عليه من القبح وهو النقص مبالغته بالكسف، ثم الأمر بالضد مبالغته في الترغيب وإشعارا بأنه مطلوب أصالة وتبعا مع الإشعار بتبعية الكفر عكسا، وتقييده بالقسط يفيد أن الفضل الزائد يكون محرمّا أيضا كالنقص، لأن النقص سرفة من المشتري والزيادة سرفة من البائع، وهذا ما هو واقع ببعض بلادنا، ولا مانع ولا وازع، لأن من الكيالين والملتزمين للباحات التي يباع بها الحبوب وغيرها يفعلون ذلك على علم ومرأى من الحكومة، فنسأل الله أن يبصّر المؤمنين بعيوبهم ويرشدهم للسداد والصواب في كل أمورهم «وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ» أي لا تنقصوا أموالهم، وفيه معنى التكرار لما سبق أيضا تحذيرا من عاقبة الأمر
ومبالغة بالتأكيد، لأن التكرار مرتين يفيد شدّة الاهتمام والعناية بالمنهي عنه أو المأمور به، فكيف إذا كان ثلاثا «وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ٨٥» وهذا تذييل وتتميم لما تقدم من الأمر والنهي.
واعلم أن العثي يعم تنقيص الحقوق كلها، لأن معناه مطلق الفساد، وإنما أكّده بلفظ من معناه إعلاما بأن فعلهم هذا قبيح بذاته، مشين لهم، فيه مفسدة لمصالح دينهم وأمر آخرتهم، ولهذا يقول «بَقِيَّتُ اللَّهِ» التي أبقاها لكم من الحلال في
147
الدنيا وانتظار الثواب على ترككم الحرام بالآخرة «خَيْرٌ لَكُمْ» مما تسرقونه بالتطفيف إذا بعتم والزيادة إذا اشتريتم «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ٨٦» بالله المنتقم منكم بالدنيا وإن أمهلكم فإنه سينتقم منكم بالآخرة، وإني أتقدم لكم بالنصيحة ابتغاء بقاء نعمكم وخوفا من سلبها إذا أصررتم على ما أنتم عليه (وكلمة بقية) لم تكرر في القرآن «وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ٨٧» لأموالكم وأنفسكم ولا أقدر أن أنمّيها لكم مع ما أنتم عليه من نقص الكيل والوزن، لأن الله نهانا عن ذلك، ولست بحفيظ أيضا على أعمالكم كي أجازيكم عليها، لأن ذلك كله بيد الله وحده وإنما أنا ناصح ومنذر لكم بأن تحفظوا نعمكم بأداء شكرها وإعطاء حقها «قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ» بما ليس في وسعك وعهدتك من أفاعيل غيرك. هذا وإن قصدهم بهذا الاستفهام الإنكاري التهكم والتعريض بركاكة رأيه وحاشاه من ذلك، كيف وهو خطيب الأنبياء، وإنما خصوا الصلاة دون بقية أحكام الإيمان لأنه عليه السلام كان أكثر صلاة ممن تقدم من الأنبياء، وكان قومه ينتقدونه بذلك ويقولون له ما تفيدك هذه الصلاة؟ فيقول هم إنها تنهى عن القبائح كلها وتأمر بمحاسن الأخلاق، ومن هنا قوله صلى الله عليه وسلم: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا. لأن الله تعالى يقول (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) الآية ٢٥ من العنكبوت الآتية، أي أن صلاتك هذه تأمرك «أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا» من الأوثان «أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا» من النقص والزيادة «إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ٨٨» في زعمك وزعم أصحابك فلماذا ابتدعت هذا علينا فلو كنت كذلك لما كان يجوز لك أن تشق عصا قومك، ولا يجدر بك أن تخالفهم وتسفه عاداتهم. هذا إذا كان وصفهم له بتلك الصفتين على الحقيقة، وإذا كانوا يريدون الاستهزاء فيكون المراد ضدهما أي السفيه الضال الغاوي، لأن العرب تصف الشيء بضده فتقول للديغ سليم، وللأعمى بصير، وللفلاة المهلكة مفازة، وهكذا «قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي» تقدم مثلها «وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً» حلالا بفضله ورحمته من غير نجس وتطفيف، وكان عليه السلام كثير النعم كثير الخير، وفي هذه الجملة
148
معنى الاستفهام، أي إذا كنت كذلك فهل يمكن أن أخالف أمره وأوافق هواكم وأكتم عليكم ما أمرني به ربي أن أبلغه إليكم كلا لا أقصد ذلك «وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ» فاسبقكم لفعله وأستبد به دونكم مع اعترافكم بكمال عقلي وحسن سجيّتي وإني أختار لكم ما أختاره لنفسي وأنهاكم عما أنزه نفسي عن اقترافه ولا أفعل شيئا قط وأنا أنهى عنه إذ لا يليق بالرجل ذلك، وعليه قوله:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
«إِنْ أُرِيدُ» لا أريد قط فيما آمركم به وأنهاكم عنه شيئا «إِلَّا الْإِصْلاحَ» لكم بنصحي وموعظني فيما بيني وبينكم وبين ربي وربكم «مَا اسْتَطَعْتُ» من جهدي وما دمت متمكنّا من الإصلاح فإني لا آلو فيه جهدا، وسأبدل قصارى وسعي برشدكم وهدايتكم من غير إبصار ولا إكراه. هذا واعلم أن شأن هذه الأجوبة الثلاثة المبينة على مراعاة حقوق ثلاثة مطلوبة لكل من يأمر وينهى، فالأول حق الله تعالى، والثاني حق النفس، والثالث حق الناس، تدبر قوله البالغ ذروة المعنى والبلاغة وقمة الفقه والفصاحة «وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ» لا أفعل شيئا أو أتركه إلا بمعونة الله وتأييده، لأنه هو الموفق لطرق الخير والطاعة واجتناب سبل الشر والعصيان، والتوفيق تسهيل الله تعالى على عبده ما يعسر عليه وتيسير ما يصعب «عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ» في أموري كلها «وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ٨٩» أرجع خاضعا خاشعا إليه فيما ينزل بي من الخير فأحمده عليه، ومن الشر فألجا إليه في دفعه، وقد طلب عليه السلام التوفيق من ربه لإصابة الحق فيما يأتي ويذر والاستعانة به على مجامع أمره، مظهرا بهذا عدم مبالاته بكفار قومه مهما قالوا أو فعلوا، ثم كر على قومه فقال «وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ» لا يوقعنكم في الجزم ويكسبنكم إياه «شِقاقِي» خلافي معكم وتحملكم عداوتي لأجل خيركم «أَنْ يُصِيبَكُمْ» بسببه عذاب عاجل في هذه الدنيا جزاء كفركم وفعلكم السيء فيحل بكم «مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ» من الإهلاك غرقا «أَوْ قَوْمَ هُودٍ» من التدمير بالريح العاصف «أَوْ قَوْمَ صالِحٍ» من الموت بالصيحة «وَما قَوْمُ لُوطٍ»
149
الذين أهلكوا بالخسف والرجم بالحجارة «مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ٩٠» لقرب عهد إهلاكهم منكم وهم جيرانكم بالسكن، وقد حل بهم ما لم يحل بغيرهم، كما أن جرمهم لم يقترفه غيرهم، فاتعظوابهم «وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ» تقدم مثله «إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ» بعباده إذا تابوا وأنابوا «وَدُودٌ ٩٠» بهم كثير الرأفة والمحبة لإيمانهم به ليكونوا قريبين منه
«قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ» لأن الله أصمهم وأعمى أبصارهم عن سماع الحق ورؤيته، وإلا فهل يوجد أنصح كلاما مما خاطبهم به وأبلغ معنى في النفس، وهو أحسن الخلق مراجعة إلى قومه، ولكن قولهم هذا والعياذ بالله من الطبع على القلب والختم على الفؤاد، ومن يضلل الله فما له من هاد، وانظر لسخافة قولهم «وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً» يتعذر عليك منعنا مما نحن عليه لكبر سنك وضعف بصرك، وإذا أردنا أن نوقع فيك مكروها فلا تقدر على صدنا منه ولكنّا نحترمك لأجل عشيرتك ولم يقولوا لله الذي أرسلك، قاتلهم الله، لأنهم ينظرون إلى ظاهر الدنيا، وهو عليه السلام كان قويا في عشيرته ولهذا قالوا «وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ» بالحجارة حتى تموت «وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ ٩٢» بعد أن أهنتنا وأهنت ديننا فلا نحترمك ولا نكرمك، وقتلك علينا هين، وما قيل إن المراد بعزيز كونه أعمى لا يصح في المعنى، ونحن ذكرنا في قصته في الآية ٨٥ من سورة الأعراف المارة في ج ١ أن القول بعماه لا صحة له، لأن الله لم يبعث نبيا أعمى ولا من به زمانة، ولهذا البحث صلة في الآية ٨٤ من سورة يوسف الآتية «قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي» جماعتي وعشيرتي «أَعَزُّ عَلَيْكُمْ» أهيب وأمنع «مِنَ اللَّهِ» فتكرموني لعزّتهم ولا تكرموني لأجل الله الذي خلقكم ورزقكم «وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا» كالشيء الملقى إلى الوراء مثل قدح الراكب، لا تلتفتوا إليه إلا عند الحاجة «إِنَّ رَبِّي» الذي نبذتموه خلفكم ونسيتموه «بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ٩٣» لا يخفى عليه شيء من أعمالكم الظاهرة والباطنة، وفي هذه الجملة تهديد عظيم، لأنهم راعوا جانب الرهط ولم يراعوا جناب الله، ولم يعلموا أنه سيعاقبهم على ذلك، ثم أكّد التهديد بوعيد أشدّ منه فقال «وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ»
150
وقدرتكم مما تنوونه لي من الشر من كل ما تتمكنون عليه «إِنِّي عامِلٌ» ما أتمكن عليه بقدر ما يؤيدني به الله من النصر ويمكنني من القدرة، فابذلوا أنتم غاية جهدكم في شقاقي وأقصى طاقتكم في عدواني وإني لا أزال أثابر على عمل الخير لكم وترغيبكم لطاعته لعلكم تتنبهون فترجعون إليه، وإن أصررتم فمصيركم إليه يوم القيامة وهناك «سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ» أنا أم أنتم «وَارْتَقِبُوا» نزول العذاب بكم فقد قرب أوانه «إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ ٩٤» لنزوله منتظر عاقبة أمركم وما يحل بكم من الذلة والإهانة مترقب نتيجة وعيدي لكم ونصرتي عليكم، قال تعالى «وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا» المحتوم المقدر لنزول العذاب فيهم وانتهى أمد إمهالهم للإيمان «نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا» وفضل، لأن عادتنا إنجاء المؤمنين ونصرتهم «وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ» من أحد ملائكة الله العظام جبريل أو غيره كإسرافيل وميكائيل لأن هؤلاء هم الموكلون بتنفيذ مهام الأمور وعظائمها بأمر الله تعالى «فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ٩٥» على ركبهم من هول سماعها، فماتوا جميعا حالة كونهم لا طين في الأرض ملازمين لها في أمكنتهم التي كانوا عليها حين الصيحة، لأنها أماتتهم حالّا بحيث لم يتحرك أحد من مكانه لهول الصيحة «كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها» في قرية مدين ولم يسكنوها ولم يعمروها وصاروا نسيا منسيا.
فتنبهوا أيها الكفرة وسارعوا بالتوبة إلى ربكم قبل أن يحل بكم ما حلّ بهم «أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ» قوم شعيب وسحقا لهم «كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ ٩٦» قوم صالح لأنهم أهلكوا بالصيحة أيضا مثلهم ولم تعذب أمتان بعذاب واحد غيرهما إلا أن قوم صالح أخذتهم الصيحة من تحتهم وقوم شعيب من فوقهم، وما قيل إن الصيحة نوع من العذاب، لأن العرب تقول صاح بهم الزمان إذا هلكوا، مستدلين بقول امرئ القيس:
فدع نهبا صيح في حجرته ولكن حديث ما حديث الرواحل
ليس بسديد لما فيه من صرف الكلام عن ظاهره دون مبرر ولمنافاته لما جاء في سورة الأعراف بلفظ الرجفة الحاصلة لهم من خوف الصيحة راجع الآية ٩١ منها
151
ج ١، وبعدت قرئت بضم العين كما في الآية، وقرئت بالكسر، وعليه قوله:
يقولون لا تبعد وهم يدفنوني وأين مكان البعد إلا مكانيا
من بعد يبعد بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع ومعناها على كلا القراءتين الهلاك، والقصة مفصلة في الآية ٩٣ من الأعراف المارة في ج، قال تعالى «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ ٩٧» سميت الحجج والبراهين سلطانا لأن صاحبها يقهر من لا شىء له منها، كالسلطان بالنسبة لرعيته «إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ» لإرشادهم وهدايتهم باتباعه، ولكنهم لم يلتفتوا إليه «فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ» الطاغية وكيف يتبعونه وينقادون لأمره «وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ ٩٨» لأنه ضال وكافر وأمره ضلال وكفر غير محمود العاقبة لأنه لا يدعو إلى هدى وسترونه «يَقْدُمُ قَوْمَهُ» إلى النار «يَوْمَ الْقِيامَةِ» وهم وراءه «فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ» أدخلهم فيها لأنه كما كان أمامهم في الضلال في الدنيا حتى أغرقهم في البحر يكون أمامهم في الآخرة حتى يدخلهم جهنم «وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ٩٩» النار لأن القصد من الورد تسكين ألم العطش والنار ضده فاستعمل في ورود النار على سبيل الفظاعة، لأنه شبه فرعون بالفارط الذي يتقدم الواردين إلى الماء وأتباعه بالواردين والماء بالنار والعياذ بالله، «وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدنيا لَعْنَةً» طردا وبعدا من الرحمة «وَيَوْمَ الْقِيامَةِ» لعنة أخرى أفظع من لعنة الدنيا وسيقال لهم «بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ١٠٠» العون المعان بترادف اللغتين لأن كل شيء جعلته عونا لآخر وأسندت به شيئا فقد ردفته، ولهذا اخترنا تأويل الرفد بالعون على تفسيره بالبطاء الذي هو من معناه أيضا لملاءمة المقام، إذ لكل مقام مقال «ذلِكَ» الذي قصصناه عليك يا سيد الرسل من أخبار نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وموسى عليهم السلام مع أقوامهم، وكيفية إهلاكهم لما أصروا على كفرهم ولم يطيعوهم كله «مِنْ أَنْباءِ الْقُرى» السابقة «نَقُصُّهُ عَلَيْكَ» لتخبر به قومك فينتبهوا من غفلتهم ويتعظوا بما حل بهم علهم يرجعوا عن غبهم، ولتسلي نفسك وتتأسى بما تأسى به إخوانك الأنبياء قبلك، لئلا يضيق صدرك مما يجابهونك به، ولتعلمهم أنهم إذا لم يؤمنوا ويرجعوا إلى الله فيصيبهم ما أصابهم من
152
العذاب، وما عليك إلا أن تحذرهم سوء العاقبة وتذكر لهم أحوال أسلافهم وآثارهم «مِنْها» أي القرى المهلك أهلها أثرها «قائِمٌ» لم يزل إذ أن قسما من بنائها باق وجدران أكثرها قائمة واقفة على حالها «وَحَصِيدٌ ١٠١» ومنها خراب مندثر محي أثرها بالكلية لطول الزمن على تركها بلا سكن، كالأرض المحصود زرعها التي كأنها لم تزرع قبل، وأطلقت العرب لفظ الحصيد على الفناء كما قيل:
والناس في قسم المنية بينهم كالزرع منه قائم وحصيد
قال تعالى «وَما ظَلَمْناهُمْ» بما أوقعنا فيهم من العذاب المهلك «وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» بإصرارهم على الكفر ورفض نصح الرسل حتى ماتوا مشركين بالله كفّارا منكري الآخرة «فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ» أوثانهم «الَّتِي يَدْعُونَ» يعبدونها ويستغيثون بها عند المحن ويرجون نصرتها «مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ» ولم ترد بأسه عنهم في الدنيا «لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ» بإهلاكهم «وَما زادُوهُمْ» في الآخرة عند استشفاعهم بهم «غَيْرَ تَتْبِيبٍ ١٠٢» تدمير وتخسير وتب بمعنى خسر وتبّه غيره أوقعه في الخسران، أي أن عبادتهم للأصنام فضلا عن أنهم لم تفدهم شيئا فقد أهلكتهم فوق إهلاكهم حتى دمّروا تدميرا، قال بشر ابن أبي حاتم:
هم جدعوا الألوف فأذهبوه وهم تركوا بني سعد تبابا
«وَكَذلِكَ» مثل ذلك الأحد العظيم: «أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ» حالة كون أهلها كافرين عتاة «إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ١٠٣» كما علمت من كيبة أخذ الأمم لكذبة لرسلها، روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته:
ثم قرأ هذه لآية. وحكم هذه الآية عام في كل ظالم إلى يوم القيامة، ألا فليحذر الظالمون هذه العاقبة السيئة ويتداركوا أنفسهم بالتوبة وإرجاع المظالم إلى أهلها، كي لا يعرضوا أنفسهم لغضب الله فيدخلوا في هذا الوعيد الشديد المؤلم «إِنَّ فِي ذلِكَ» الأخذ والإهلاك «لَآيَةً» عظيمة وعبرة كبيرة «لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ» لأنه إذا علم ما وقع في الدنيا على المجرمين اتعظ وعمل لما يقي نفسه من مثله،
153
ومن العذاب الأخروي المعد لهم الذي لا يقاس بعذاب الدنيا، لأنه بالنسبة لعذاب الآخرة قليل من كثير «ذلِكَ» اليوم الذي يكون فيه عذاب الآخرة «يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ» لأجل الحساب أولهم وآخرهم برهم وفاجرهم «وَذلِكَ» اليوم العظيم «يَوْمٌ مَشْهُودٌ ١٠٤ فيه أنواع العذاب مما لا تطيقه الصنم الرّواسي ومن أنواع النعيم ما تبتهج به النفوس وكل منهما مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، والمعنى كثر شاهدو ذلك اليوم فحذف الجار وصار المجرور مفصولا على التوسع في الجار والمجرور ووصل الفعل إلى الضمير إجراء له مجرى المفعول به لأن الضمير لا يجوز نصبة على الظرفية والجار لا يعمل بعد حذفه فيكون من باب الحذف ولإبصال وهو كثير في كلام العرب ويكون في الاسم كمشترك وفي الفعل كقوله:
ويوم شهدناه سليما وعامرا قليل سوى طعن الدراك نوافله
وفي رواية النهال بدل الدراك أي مشترك فيه وشهدنا فيه، والمعنى أن الخلائق كلهم يشاهدون ذلك الموقف المهول ليس أهل الأرضين فقط بل أهل السموات جميعهم أيضا «وَما نُؤَخِّرُهُ»
أي ذلك اليوم الذي يجمع فيه الخلق كلهم «إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ ١٠٥ سنبينه وشهوره وأيامه ولحظاته كما هو في علمنا لا يطلع عليه أحد «يَوْمَ يَأْتِ» أجل ذلك اليوم بانتهاء الأمد المضروب له عند الله الذي لا يتخطاه.
مطلب في ضمير يأت والجمع بين الآيات المتعارضة ومعنى الاستثناء في أهل الجنة والنار:
وقد أعدنا ضمير يأت إلى الأجل خلافا لبعض المفسرين، وقد منع بعضهم عوده إلى اليوم محتجا بأن تعرف اليوم بالإتيان يأبى تعرف الإتيان به، لأن إتيان اليوم لا ينفك عن يوم الإتيان، وأعاده للجزاء الذي يقع فيه وبعضهم أعاده لله تعالى. وليعلم أن منع عوده لليوم ممنوع لأن كل زمان له شأن يعتبر تجدده كالعيد وعاشوراء والنيروز والساعة مثال يجري مجرى الزمان وإن كان في نفسه زمانا فباعتبار تغير الجهتين صحت الإضافة والإسناد كما يصح أن يقال يوم تقوم الساعة ويوم يأتي العيد والعيد في يوم كذا فالأولى زمان وضميره أعني فاعل الفعل
154
زماني وعود الضمير للجزاء لا وجه له لعدم ذكره سابقا وعود الضمير على ما لم يكن موجودا إذا لم يكن معلوما أو لم يسبق له ذكر لا يجوز، وعوده لله تعالى غير سديد لأنه جل شأنه هو المتكلم والضمير لا يعود لنفس المتكلم في مثله وكذلك الحال على قراءة يؤخره بالياء لا يتجه عود الضمير إليه تعالى بل ضمير يؤخره يعود إليه تعالى، وحذف ياء يأت وصلا ووقفا جائز للتخفيف كما في لا أدر ولا أبال وأثبتها النحويان ونافع بالوصل وابن كثير بالوصل والوقف وباقي السبعة بالحذف في الحالتين لأن الإجذاء بالكسرة عن الياء كثير لا سيما في لغة بل «لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ» مطلقا أو بما يتعلق بالشفاعة بدليل قوله عز قوله «إِلَّا بِإِذْنِهِ» أدبا واحتراما من جهة ولشدة الخوف وطول زمنه من جهة أخرى، وهذه الآية وإن كانت ظاهرا تتعارض مع قوله تعالى (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) الآية ١١١ من سورة النحل، وقوله تعالى (ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) الآية ٢٤ من سورة الأنعام الآتيتين وغيرهما من الآيات الدالة على وجود التكلم والخصام يوم الموقف، إلا أنه لا معارضة في الحقيقة لأن يوم القيامة يوم طويل تختلف فيه أحوال أهله فتارة يسكتون ومرة يجادلون وطورا يتعاتبون وأخرى يجحدون ويحجمون عن الكلام لما تأخذهم الدهشة من هيبة الموقف فكأنهم ألجموا بألجمة محكمة لا يستطيعون معها التكلم وبعضا يؤذن لهم بالكلام وإبداء للعذر وقد ينسح لهم بالكلام فينكرون ما عزي إليهم كما أوضحناه في الآيتين ٣٥ ٢٦ من سورة الأعراف وما قبلها والآية ١٠٩ من سورة طه والآية ٢٧ من سورة فاطر المارات في ج ١، وللبحث صلة في الآية ١٩ فما بعدها من سورة فصلت والآية ٢١ من سورة إبراهيم الآتيتين، لهذا جاز التوفيق بين الآيات المتعارضات لصرف كل منها لما يناسبها وهذا هو وجه الجمع بينها فلا تعارض من حيث المعنى ولا تنافي من جهة الحكم ولا تباين من حيث اللفظ هذا على أن منع التكلم مطلقا، أما إذا كان منع التكلم مما يتعلق بالشفاعة فلا معارضة لا من حيث الظاهر ولا من جهة الحقيقة، لأن الشفاعة لا تكون لأحد إلا بإذن الله ومن تكلم بإذنه كان مأمورا بالتكلم ولا يقال لمئله أنه تكلم من تلقاء نفسه «فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ» بسوء عمله «وَسَعِيدٌ ١٠٦» بحسنه أي ينقسمون إلى قسمين
155
لا ثالث لهما وقدمنا في الآية ٤١ فما بعدها من سورة الأعراف فيما يتعلق بها فراجعه ثم بين ما لكل منها فقال «فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا» بحكم الله الأزلي لما هم عليه من الكفر «فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ» مد النفس وإخراجه من الصدر وترديده فيه حتى تنتفخ منه الضلوع «وَشَهِيقٌ ١٠٧» رد النفس وإرجاعه إلى الصدر وهما معروفان عند العرب قال الشماخ في حمار وحشي:
بعيد مدى التطريب أول صوته زفير ويتلوه شهيق محشرج
«خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ» في الآخرة لأنهما في الدنيا زائلتان قال تعالى (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ) الآية ٤٩ من سورة إبراهيم الآتية، وكل ما علاك فأظلت فهو سماء وكل ما استقرت عليه قدماك فهو أرض، وهذا كلام يؤذن بالتأبيد وبعلم بدوام الشر. جريا على عادة العرب، فإنهم يقولون لا آتيك ما دامت السموات والأرض، وما دام الملوان، وتعاقب النيران، وتخالف الجديدان، يكنون بذلك التأبيد، وهذا الخلود المحتم في النار للكافرين ينفي صرف الدوام للسموات والأرض الموجودة الآن «إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» لبعض عصاة المؤمنين الذين يدخلهم النار جزاء اقترافهم عظائم الذنوب ثم يخرجهم منها إن شاء فيكون الاستثناء منقطعا، لأنه من غير جنس المستثنى منه، لأن الذين أخرجوا من النار بعد تعذيبهم فيها موقتا سعداء في الحقيقة، وقد استثناهم الله تعالى من الأشقياء، يدل على هذا ما أخرجه البخاري ومسلم عن جابر قال: قال رسول الله ﷺ إن الله سبحانه وتعالى يخرج قوما من النار بالشفاعة فيدخلهم الجنة.
وفي رواية يخرج ناسا من النار فيدخلهم الجنة. وروى البخاري عن عمران بن حصين أن النبي ﷺ قال يخرج قوم من النار بالشفاعة فيدخلون الجنة يسمون الجهنميين «إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ ١٠٨» لا معارض له ولا راد لإرادته «وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ» لهم فيها بهجة وسرور، وقرىء سقوا بالبناء للفاعل، وسعدوا للمفعول، وقرىء بالمفعول والفاعل «خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ» وهم قوم من العارفين المخلصين وينقلهم ربهم إلى مأوى أكبر وأجل منها وهو المقام الذي يرون به ربهم
156
عز وجل، فيحل رضوانه عليهم ويتجلى لهم فيه، وعليه يكون الاستثناء متصلا، لأنهم من السعداء ولو تفاوتت درجاتهم، ويكون الاستثناء منقطعا إذ أرجع إلى مدة لبث المستثنين من النار قبل دخولهم الجنة، فلا يكون خلودهم فيها كامل، بالنسبة لأمثالهم، لأنهم لم يدخلوها ابتداء «عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ١٠٩» غير مقطوع بل هو مستمر أبدا دائم سرمدا هذا ما شاءه الله لأهل الجنة أللهم اجعلنا من أهلها ولم يخبرنا بما شاءه لاهل النار، روى ابن مسعود عن أبي هريرة وعمرو بن العاص قال: ليأتين على جهنم زمان ليس فيها أحد، فإذا صح هذا يحمل على إخلاء أماكن المؤمنين الذين استحقوا النار من النار بعد إخراجهم منها، أو على إخراج الكفار من النار إلى الزمهرير، إذ ثبت بالدليل الصحيح القاطع وإجماع أهل السنة والجماعة خلود المؤمنين بالجنة والكافرين بالنار وإخراج جميع الموحّدين من النار وإدخالهم الجنة. وقال بعضهم إن العصاة لا يخرجون، ويرد قولهم ما نقلناه في الأحاديث الصحيحة، ولا حجة لهم إلا الطعن بصحتها ولن يتيسر لهم فعلا.
هذا، وقد أخرج ابن المنذر عن الحسن قال: قال عمر رضي الله عنه لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج لكان لهم يوم يخرجون فيه وأخرج ابن المنذر وأبو الشيخ عن إبراهيم قال: ما في القرآن آية أرجى لأهل النار من هذه الآية يريد الاستثناء الوارد فيها. وليعلم أن السعادة هي معاونة الأمور الإلهية للإنسان ومساعدته على فعل الخير والصلاح وتيسيره لها، وهذه السعادة الدنيوية تؤول إلى السعادة الأخروية التي نهايتها الجنة، والشقاوة علي خذلان العبد وانهماكه فيما حرم الله عليه وتماديه في موارد البغي والطغيان، وهذه الشقاوة الدنيوية توصله إلى الشقاوة الأخروية التي غايتها النار وفاقا لما هو في علم الله الأزلي. روى البخاري ومسلم عن علي كرم الله وجهه قال: كنا في جنارة في بقيع الفرقد (مقبرة أهل المدينة) فاتانا رسول الله ﷺ فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة فنكس وجعل ينكث (يضرب الأرض) بمخصرته (وهي عصاة كالسوط رأسها يشبه القوس للزناد) ثم قال ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار، فقالوا يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال اعملوا فكل ميسّر لما خلق له، أما من كان من
157
أهل السعادة فسيصير لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة فسيصير لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) الآية ٥ فما بعدها من سورة والليل المارة في ج ١، وقد ذكرنا ما يتعلق في هذا في سورة والعصر المارة في ج ١ فراجعه. هذا وهناك أقوال أخر في الاستثناء الآنف الذكر في حق الفريقين أعرضنا عن ذكرها لمضاربة بعضها لبعض فضلا عن كثرتها، وفائدة دفع توهم كون الخلود أمرا واجبا عليه تعالى لا يمكن له نقضه، وهو جل شأنه ما عليه واجب وغاية ما فيه إرشاد العباد إلى تفويض الأمور إليه تعالى وإعلامهم بأنها منوطة بمشيئته يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، لا حق لأحد عليه ولا يجب شيء عليه (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) الجملة من الآية المارة، فإذا شاء تعذيب أهل الجنة فعل وإذا شاء تنعيم أهل النار فعل، لا منازع له، له الخلق والأمر، ولا يبعد أن يكون هذا الاستثناء على نمط الاستثناء الذي ندب إليه الشرع في كل كلام على نحو قوله تعالى (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) الآية ٢٨ من سورة الفتح في ج ٣ استثناء في واجب وهو في حكم الشرط كأنه قيل إن شاء ربك فليس يحتاج أن يوصف بمتصل أو منقطع، وذكرنا في الآية ١٩ من الفرقان والآية ٧٢ من مريم المارتين في ج ١، دحض قول من يقول إن مرتكب الكبيرة يخلد في النار فراجعه، وقد أخرج الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
لما نزلت (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) قلت يا رسول الله فعلام نعمل على شيء قد فرغ منه أو على شيء لم يفرغ منه؟ قال بل على شيء قد فرغ منه وجرت به الأقلام يا عمر ولكن كل ميسر لما خلق له. وأخرج الترمذي والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خرج علينا رسول الله ﷺ وفي يده كتابان فقال أتدرون ما هذان الكتابان قلنا لا يا رسول الله أما تخبرنا؟ فقال الذي بيده اليمنى هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزداد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، ثم قال الذي بشماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزداد فيهم ولا ينقص منهم أبدا، ثم قال للذي بشماله هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وآبائهم وقبائلهم ثم أجملهم على آخرهم فلا يزداد فيهم
158
ولا ينقص منهم أبدا، فقال أصحابه ففيم العمل يا رسول الله إن كان أمر قد فرغ منه فقال سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ثم قال ﷺ بيده هكذا فنبذهما وقال فرغ ربكم من العباد فريق في الجنة وفريق في السعير، وجاء في حديث آخر الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه وحمل معناه على ظهور الأمر للملك الموكل بالنطفة وإلا فالأمر قبل ذلك. واعلم أن في هذه الآية من أنواع البديع صفة الجمع مع التفريق والتقسيم، أما الجمع ففي قوله تعالى (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ) فإن النفس كما تقدر عامة لكونها نكرة في سياق النفي وكل نكرة جاءت في سياق النفي تعم. وأما التفريق ففي قوله تعالى (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) وأما التقسيم ففي قوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ) إلخ الآية (وَأَمَّا الَّذِينَ) إلخ، وعليه جاء قول الشريف القيرواني:
لمختلفي الحاجات جمع ببابه فهذا له فنّ وهذا له فنّ
فللخامل العليا وللمعدم الغنى وللمذنب العتبى وللخائف الأمن
وأمثاله كثير، هذا وقد جاءت الأفعال في الآية بالماضي مع أنها في الواقع مستقبلة إشارة إلى تحقيق وقوعها كما ذكرنا في مثلها غير مرة، قال تعالى «فَلا تَكُ» يا سيد الرسل «فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ» الكفرة من الأصنام «ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ» من الأوثان قبلهم وهو مستندهم في عبادتها لا غير لأن غاية ما يحتجون به هو أنهم رأوا آباءهم تعبدها فعبدوها فلا تنعب نفسك فيهم أو تشك في أمرهم «وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ» من العذاب تاما كاملا كما أوفيناه لأسلافهم «غَيْرَ مَنْقُوصٍ ١١٠» إذا أصروا على ما هم عليه على أنا سنوفيهم رزقهم الدنيوي كاملا أيضا ليستوفوا تمام أجلهم فيها وفي هذه الآية إشارة إلى مزيد فضل الله على عصاته إذ لم يقطع شيئا من رزقهم مع ما هم عليه من الكفر على أن معنى النصيب يدل على أن المقصود به رزق الدنيا لأنه مما يطلب ويراد والعذاب بمعزل عن ذلك ويؤكد هذا قوله تعالى (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) الآية ٧٦ من القصص المارة في ج ١، وقال بعض المفسرين: المراد بنصيبهم عذابهم في الدنيا
159
والآخرة، قال تعالى «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ» إذ صدق به بعض قومه وكذبه آخرون كما فعل قومك معك فلا تضجر من تكذيبهم فلك أسوة بمن قبلك «وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ» بتأخير العذاب عن منكري حقك لأجل معلوم عندنا محدود لا يبدل ولا يغير «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» حال تكذيبهم وكذلك الأمم السابقة فقد أمهلوا لانقضاء آجالهم المعينة عندنا «وَإِنَّهُمْ» لا يزالون «لَفِي شَكٍّ مِنْهُ» بأنه أي القرآن بدليل سبق كتاب موسى عليه السلام بأنه من عند الله منزل عليك أو أنهم في شك «مُرِيبٍ ١١١» من نزول العذاب بهم وقد أوقعهم هذا الشك في الرية بنزوله وتوهموا عدم صحته
«وَإِنَّ كُلًّا» من الفريقين المختلفين المصدق منهم والمكذب (والتنوين في كلا يسمى تنوين العوض لأنه عوض عن المضاف) «لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ» أي والله ليوفينهم جزاء أعمالهم فاللام فيه للقسم فيثبب المصدق الجنة والمكذب النار، ولما هنا بمعنى إلا مثلها في قوله تعالى في الآية ٤ من سورة الطارق المارة في ج ١ وهي (كل نفس لما عليها حافظ) وقرىء لما بالتنوين بمعنى جميع مثلها في قوله تعالى (أكلا لمّا) الآية ١٩ من سورة الفجر المارة في ج ١ أيضا، وقد تكون ظرفا بمعنى حين وعليه يكون المعنى وإن كلا حين يبعثوا ليوفينهم جزاء أعمالهم دون حاجة إلى الإثبات «إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ١١٢» لا يخفى عليه شيء من عملهم، وفي هذه الآية وعد وبشارة للمصدقين ووعيد وتهديد للمكذبين.
مطلب في الاستقامة والتقوى والورع وما يتفرع عنهما:
قال تعالى يا سيد الرسل «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» من الاستقامة التي أمرناك بها لا تعدل عنها قيد شعرة فهي طريق توفيقك لما وعدناك به من النصر والظفر وهذا أمر تأكيدي بطلب المثابرة والدوام على الحالة الأولى كقولك للقائم قم حتى آتيك، أي دم على ما أنت عليه «وَمَنْ تابَ مَعَكَ» وآمن بك وبما أنزل عليك، فعليهم أيضا أن يلازموا الاستقامة ويداوموا عليها. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الاستقامة أن تستقيم على الأمر والنهي ولا تروغ روغان الثعلب.
160
وروى مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم. فالاستقامة كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعلم والعمل وسائر الأخلاق، كالتقوى فإنها كلمة جامعة لكل خير، وكالورع فإنها كلمة جامعة لكل بر، فالاستقامة تشمل العقائد والأعمال المشتركة بينه ﷺ وبين سائر المؤمنين، بل وبين الخلق أجمع، وتشمل الأمور الخاصة به عليه السلام من تبليغ الأحكام والقيام بوظائف النبوة وتحمل أعباء الرسالة وغير ذلك، وقالوا إن التوسط بين الإفراط والتفريط بحيث لا يكون ميل لأحد الجانبين قيد عرض شعرة مما لا يحصل إلا بالافتقار إلى الله تعالى، ونفي الحول والقوة بالكلية، ومثلوا الأمر المتوسط بين ذينك الطرفين بالشيء الموجود غير المدرك الذي يكون بين ضوء الشمس والظل، فإنه ليس بشمس ولا ظل، بل هو أمر فاصل بينهما، ولعمري إن ذلك لدقيق، راجع الآية ٢٥ من سورة الفرقان في ج ١ ولذلك قالوا لا يطيق الاستقامة إلا من أيد بالمشاهدات القوية والأنوار السنية، ثم عصم بالتثبت بالحق. قال تعالى (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا) الآية ٧٥ من الإسراء في ج ١، وجعل بعض العارفين الصراط الذي هو أرق من الشعرة واحد من السيف إشارة إلى هذا النهج المتوسط، ومما يدل على شدة هذا الأمر ما أخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الحسن قال: لما نزلت هذه الآية قال ﷺ شمروا شمروا، وما رئي بعدها ضاحكا. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما نزلت على رسول الله ﷺ آية أشد من هذه الآية ولا أشق.
واستدل بعض المفسرين على عسر الاستقامة بما شاع من قوله ﷺ شيبتني هود.
كما أخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمد عن أبيه أن رسول الله ﷺ قال شيبتني هود وأخواتها وما فعل بالأمم قبل. وذلك لأن مبنى هذه السورة على إرشاده تعالى شأنه نبيه ﷺ إلى كيفية الدعوة من مبدئها إلى آخرها، وإلى ما يعزى لمن تصدى لهذه المرتبة العظيمة من الشدائد، واحتماله لما يترتب عليه من الفوائد، وهي أي هذه السورة الجليلة جامعة لإرشاده ﷺ من مفتتح أمره إلى مختتمه، وهذه الآية كالفذلكة لها فحينما نزلت هذه السورة هاله ما فيها من الشدائد، وخاف من عدم
161
القيام بأعبائها، حتى إذا لقي الله تعالى في يوم الجزاء ربما مسّه نصيب من السؤال عنها، فذكر القيامة في تلك السور أي هود وإخوتها كآل حميم وغيرها، يخوفه هولها لاحتمال تفريطه فيما أرشده الله تعالى له فيها، وقد كررت الجملة الأولى من هذه الآية في الآية ١٤ من سورة الشورى الآتية، وهذا لا ينافي عصمته عليه السلام وقربه من ربه، لكونه الأعلم بالله والأخوف منه، فالخوف منها يذكره بما تضمنته هذه السورة، فكأنها هي المشيبة له من بينها، ولذا بدأ بها في جميع الروايات، ولما كانت تلك الآية فذلكة لها كانت هي المشيبة في الحقيقة والله أعلم. وسنأتي على تتمة هذا البحث في الآية الآتية إن شاء الله ثم خاطب جل خطابه الخلق أجمع بقوله «وَلا تَطْغَوْا» أيها الناس فتخرجوا عن حدود الله، ولا تعلوا في الدين أيها المؤمنون فتتجاوزوا عما أمرتم به ونهيتم عنه فتغلبوا ولا تخالفوا أيها الناس أوامر الله فتعصوه في شيء ما، ولا تنحرفوا بإفراط ولا تفريط، فكلاهما ذميم، وسماء الله طغيانا تغليظا أو تغليبا لحال سائر المؤمنين على حاله ﷺ «إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ١١٣» قال ابن عباس ما نزلت آية على رسول الله أشد عليه من هذه الآية، ولذلك قال شيبتني هود وأخواتها الحافة والواقعة والنبأ والغاشية والمرسلات وكورت وآل حم، لكثرة ما فيها من ذكر القيامة والبعث والحساب والجنة والنار. واعلم أن هذه الآية الكريمة تؤذن بوجوب اتباع المنصوص عليه من الأحكام الشرعية دون انحراف، وان أعمال العقل الصرفة بما يخالف المشروع طغيان وضلال، أما العمل بمقتضى الاجتهاد التابع لعلل النصوص الشرعية فهو من باب الاستقامة بمقتضى النصوص الآمرة بالاجتهاد.
مطلب الزجر عن مخالطة الظالم وأن الدين بين لامين والآية المدنية والصلوات الخمس:
قال تعالى «وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا» أنفسهم بمخالطتهم، أي لا تميلوا أيها المؤمنون إلى الظالمين، ولا تحبوهم، ولا ترضوا بأعمالهم المؤدية إلى غضب الله ولا تطيعوهم فيما يخالف دينكم، فإنكم إن فعلتم شيئا من هذا «فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» وتذيب أعضاءكم بحرها، لأن الركون إليهم رضا بأعمالهم التي قد تؤدي إلى الكفر،
162
ولا شك أن الرضا بالكفر كفر، والمحبة للشيء إلحاق به. قال تعالى (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) الآية ٣٥ من التوبة في ج ٣، قال الحسن: جعل الله الدّين بين لامين (ولا تطغوا ولا تركنوا). وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك، لأنهم يداهنونهم ويسكنون عن مظالمهم. وقال الأوزاعي ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملا. وقال صلى الله عليه وسلم: من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه. وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء، فقال لا، فقيل له إنه يموت، فقال دعه يموت. أي إن كان انقضاء أجله معلق على عدم إعطائه هذه الشربة فدعه يموت وإلا فلا يموت وله شيء في الدنيا حتى نسمة الهواء إلا يستوفيها، فقد جعله رحمه الله أدنى حالا من أدنى حيوان، إذ النصوص الشرعية تقضي على من عنده ماء واحتاج للوضوء به وعنده كلب ظمآن بأن يسقي ما عنده من الماء ذلك الكلب ويتيمم بالتراب، إذ في كل كبد حراء أجر، وذلك اجتهاد من سفيان رضي الله عنه، وهو أن بقاء الحيوان لا ضرر فيه على أحد، وأن بقاء الظالم فيه ضرر، ولهذا رجح الحيوان عليه.
وروي عن الموفق أبي أحمد بن طلحة العباسي، أنه صلى خلف الإمام فلما قرأ هذه الآية غشي عليه، فلما أفاق قيل له ما بالك؟ فقال هذا فيمن ركن إلى من ظلم فكيف بالظالم نفسه! لذلك ينبغي هجرهم وعدم التزيي بزيهم، وعدم زيارتهم، لما فيها من تعظيم، وهو حرام، وينبغي لمن لا يخاف من شرهم أن يهبنهم ولا يجالسهم إلا لمعذرة شرعية، ولقضاء مصلحة من لا ناصر له. هذا، واعلم أن خطاب الله تعالى حضرة رسوله بهذين النهيين بعد الأمر بالاستقامة للتثبت عليها والتأكيد على ملازمتها لأنه من مقتضاها. والحث على الدوام والثبات عليها من واجبات المسلمين لبعضهم وعلى بعضهم، وانه يجب على كل فرد أن يتحلى بها في بيعه وشرائه، وأكله وشربه، ولبسه ومحبته، ومع أصحابه، وسائر معاملاته مع ربه وأهله والناس أجمعين، فإن الدين المعاملة أي حسنها وسلامتها من الشوائب، لأن المراد من جملتها عماد الدين حسن المعاملة، كما أن الدين النصيحة لله ولرسوله والناس أجمعين، لأن المعاملة والنصيحة جزء عظيم من أمور الدين لا معظمه، مثل الحج عرفة،
163
لأن الوقوف بعرفات معظم الحج، وبغيره لا يسقط الفرض، بل هذا من قبيل الناس تميم، والمال الإبل، والطعام اللحم، إلى غير ذلك، فإذا تحلّى العاقل بالصفات المارة في معنى الاستقامة دخل في قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ) الآية ٣٠ من فصلت الآتية، فمثل هؤلاء يموتون ميتة سعيدة هنيئة، ويخاطبون ربهم دلالا، فيقولون له يا ربنا ما حال أولادنا بعدنا؟ فيقال لهم «نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا»
عليهم نتولاهم بذاتنا بعدكم «وَفِي الْآخِرَةِ»
نتولاكم وإياهم في جنتنا» (وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ)
من جميع الملاذ (وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ)
من كل ما تريدونه وتقر أعينكم به، قال تعالى «وَما لَكُمْ» إذا لم تستقيموا على الطاعة والعمل الصالح وتجتنبوا الطغيان والركون إلى الظلمة «مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ» يمنعونكم من عذابه إذا حل بكم في الدنيا والآخرة «ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ١١٤» أبدا ولا تظفرون بمطلوبكم ولا تفوزون بنجاح مهماتكم، ولا شك أن هذا الخطاب مقصود به المؤمنون كما ذكر آنفا، وأنه تغليظ أو تغليب لحال المؤمنين عليه ﷺ وإلا فهو معصوم من الطغيان ومن الركون إلى الظلمة والظلم كليته وجزئه.
وهذه الآية المدنية الأخيرة من هذه السورة قال تعالى «وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ» غدوة وعشية، فدخل فيها الصبح والظهر والعصر «وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ» أقرب ساعاته وزلف بمعنى قرب فيدخل فيه المغرب والعشاء «إِنَّ الْحَسَناتِ» التي أعظمها الصلوات الخمس «يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» على اختلاف أنواعها بمنه وكرمه إذا شاء وأراد «ذلِكَ» إشارة إلى قوله استقم فما بعده «ذِكْرى» عظيمة لمن يتذكر وعظة كبيرة لمن يتعظ في مغزى الأمرين والنّهيين المارين وفيها نفع جليل «لِلذَّاكِرِينَ ١١٥» الله تعالى في جميع أحوالهم، لأن ذكر الله يمنع من مخالفته.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة، وفي رواية أصاب منها كل شيء إلا الجماع، فأتى النبي ﷺ فذكر له ذلك فنزلت هذه الآية، وكانت هذه الحادثة في المدينة، فقال الرجل هو هو أبو اليسر الأنصاري يا رسول الله الي هذه الآية؟ قال لمن عمل بها من أمتي. وفي رواية قال رجل
164
من القوم يا نبي الله هذه له خاصة؟ قال بل للناس كافة. وهذا مما يؤيد أن الأسباب لا تقيد الآيات فإنها وإن نزلت بمعين فمعناها يبقى عاما شاملا غيره.
هذا وما ذكرناه قبلا بمناسبة الآيات المدنيات بأنها كالعترضة قبلها وبين ما بعدها لا يمنع أن تشير إلى ما قبلها من الآيات كهذه، لأنها لم تأت إلا لمناسبة، وكذلك الآيات المكيات في السور المدنيات، وكذلك بين السور. وروى مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن.
زاد في رواية: ما لم يغش الكبائر. وزاد في أخرى: ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر. وروى البخاري عن جابر قال: قال صلّى الله عليه وسلم مثل الصلوات الخمس كمثل نهر جار على باب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات.
قال الحسن وما يبقى من الدرن. وروى الترمذي عن أبي ذر جندب بن جنادة وأبي عبد الرحمن معاذ بن جبل رضي الله عنهما عن رسول الله ﷺ أنه قال:
اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن.
وقال العلماء الصلوات والأعمال الصالحة تكفر الذنوب الصغائر، استنباطا من هذه الأحاديث. أما الآية فهي عامة للصنفين، إلا أن جمهور العلماء خصّوها بالصغائر، وقالوا أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة النصوح. وسنأتي على ذكرها في سورة التحريم في ج ٣ إن شاء الله تعالى القائل «وَاصْبِرْ» يا أكرم الرسل على أذى قومك وما تلاقيه منهم وعلى القيام بما أمرت به من الاستقامة وأداء ما افترضته عليك، وأحسن لمن أساء إليك «فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ١١٦» لأنفسهم ولربهم بالإحسان إلى عباده والناس أجمعين، بل يجازيهم عليه جزاء حسنا وافيا. وانظر رعاك الله إلى بلاغة هذه الآيات الجليلة (وكل آياته جليلة، إلا أن بعضها أبلغ من بعض، كما أن منها الحسن والأحسن) راجع الآية ٥ من سورة يوسف والآية ٥٥ من الزمر الآتيتين، كيف أفرد بخطابه جل خطابه أوامر أفعال الخير لحضرة الرسول، وإن كانت في المعنى عامة له ولأمته، وجمع أوامر النهي لصرفها لامته تعظيما لشأنه وإجلالا لقدره، وكل منها يفيد المعنى المطلوب. قال تعالى «فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ» الذين أهلكناهم «مِنْ قَبْلِكُمْ» يا أمة
165
محمد، وكلمة لولا للتحضيض وكذلك أخواتها لوما ولو وأما ولما وإذا وكلما، وكل منها يقيد الشرط ويحتاج للجواب، لكنها لا تجزم، وكلمات التحضيض كهذه تختص بالمضارع، وكذلك أحرف العرض كألا وأما، أما إذا كانت للتوبيخ والتذميم فتختص بالماضي كقوله تعالى (لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ) وقوله (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ) الآيتين ١٢/ ١٦ من سورة النور في ج ٣، وغيرها كثير في القرآن أما كلما ولما فلا تدخلان إلا على الماضي هذا واسم كان المارة «أُولُوا بَقِيَّةٍ» من فضل وخير وتقى ورأي سديد وعقل رشيد، وأطلقت البقية على هذه الألفاظ لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فيصطفيه لنفسه ويدخره، ومن هنا يقال فلان من بقية القوم أي خيارهم، وعليه فسّر بيت الحماسة:
إن تذنبوا ثم يأتيني بقيتكم فما على مذنب عندكم فوت
ويقال في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا، وقرىء بقية على وزن صورة مصدر بقي يبقى كرضي يرضى بمعنى راقب وانتظر، وعليه يكون المعنى فهلا كان لهم ذو ابقاء لنفسهم وصيانة لها عما يوجب سخط الله وعقابه «يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ» ويقيمون العدل فيها لما أهلكناهم ولكن لم يكن فيهم جماعة من أولى النهى والدين ينهى عن الفساد، وفي هذه الآية تعجب من الله لرسوله وأمته بأن الأمم السالفة لم يكن فيهم من يزجر عن المعاصي ويحذر من عاقبة السوء، ومثل هؤلاء في عداد من قال الله تعالى فيهم (كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ) الآية ٧٨ من سورة المائدة ج ٣، ولو كان لرفعوا عن قومهم العذاب وإنما أهلكوا لعدم وجود من يأمر بمعروف وينهى عن منكر، وإيذان بأن أمة محمد ﷺ فيهم من يقوم بذلك، كيف لا وقد قال صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله أي بقيام الساعة. ولهذا لم يهلكهم إهلاك الأمم المكذبة استئصالا «إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا» استثناء منقطع، أي لكن قليلا منهم وهم الذين آمنوا بالرسل أنجيناهم مع رسلهم، لأنهم كانوا عونا لهم في النهي عن الفساد وسائرهم تاركون له، ومن في قوله ممن للبيان لا للتبعيض، لأن النجاة للناهين وحدهم بدليل قوله (أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ
166
ظَلَمُوا)
الآية ١٦٥ من الأعراف في ج ١ «وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ» من النعم وترفهوا فيه من الشهوات وحب الرياسة، ورفضوا الأمر بالمعروف ونبذوا النهي عن المنكر، وأعرضوا عن حق الله فجعلوه ظهريا. والترف التوسع في النعمة، وقد يتعدى به إلى ما لا يحل، قال تعالى (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها)
الآية ١٦ من الإسراء في ج ١ «وَكانُوا مُجْرِمِينَ ١١٧» بعملهم ذلك فحكم الله عليهم بالعذاب لارتكابهم الجرائم وأعظمهم الكفر. قال تعالى «وَما كانَ رَبُّكَ» يا سيد الرسل «لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ» منه والتنوين للتفخيم والإيذان بأن إهلاك المصلحين ظلم عظيم ويراد منه تنزيه الله تعالى عن ذلك على أبلغ وجه، وإلا فلا ظلم منه أصلا فيما يفعله بعباده، كائنا ما كان لما علم مما مر من قاعدة أهل السنة والجماعة الملمع إليها في الآية ٩٢ من سورة يونس المارة وفي مواضع كثيرة في الجزء الأول.
مطلب لا يجوز نسبة الظلم إلى الله وأن الأمر غير الإرادة:
واعلم أنه لا يجوز نسبة الظلم إلى الله تعالى بوجه من الوجوه، لأن ذلك محال، قال صاحب الزبد:
وله أن يؤلم الأطفالا ووصفه بالظالم استحالا
لأن الكل ملكه ولا يعد المتصرف بملكه ظالما كيفما كان تصرفه «وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ ١١٨» في أعمالهم ولكن يهلكهم لكفرهم وركوبهم المعاصي والإفساد فيها، وقال بعضهم إن الظلم هنا يراد به الشرك، وعليه يكون المعنى أنه لا يهلك أهل القرى بسبب الشرك الذي هو أعظم مناوأة للوحدانية إذا كانوا مصلحين في معاملتهم أنفسهم، وغيرهم، ويجرون الحقوق لأهلها، ويتحاشون مضرة أنفسهم ومضرة الناس، والواو في صدر الجملة للحال. واعلم أن المراد بالإهلاك على الوجهين عذاب الاستئصال في الدنيا، أما عذاب الآخرة فلا مناص منه، ومن هنا قال بعض الفقهاء إن حقوق الله مبنيّة على المسامحة إذ قد يشملها عفوه الضافي وكرمه الوافي، وحقوق العباد مبنية على المشاححة أي التضييق والتشديد. وعليه جاء المثل:
167
الملك يبقى مع الكفر والمعاصي، ولا يبقى مع الظلم والجور. وهذان أي قول الفقهاء والمثل مأخوذان مما رواه الطبراني وابن مردويه وأبو الشيخ والديلمي عن جرير قال سمعت رسول الله ﷺ يسأل عن تفسير هذه الآية (وَما كانَ رَبُّكَ) إلخ، فقال: وأهلها ينصف بعضهم بعضا. وأخرج هذا الحديث ابن أبي حاتم والخرائطي في مساوئ الأخلاق عن جرير موقوفا، ولم أقف على صحته. قال تعالى «وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ» يا أكرم الرسل «لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً» على دين واحد وشريعة واحدة، لكنه جل أمره لم يشأ، كما أنه تعالى قال (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) الآية ١٣ من سورة السجدة الآتية، ولكنه لم يشأ أيضا، إذ لا يفعل أحد الطاعة إلا بمشيئته ورضاه، ولا يقدر على فعل المعصية إلا بمشيئته وقضاه، ولهذا قال «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ» باعتقادهم أديانا شتى وشرائع مختلفة وعبادات متباينة «إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ» منهم، فإنهم يتفقون على دين واحد وعبادة واحدة وشريعة واحدة، كما يأمرهم نبيهم وكتابهم المنزل إليه من ربهم «وَلِذلِكَ» لأجل بقائهم مختلفين «خَلَقَهُمْ» ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير كما هو في علمه الأزلي، لأن الخلق من توابع الإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم في نفسه، والتعذيب والإثابة ليس إلا لأمر أفيض على المعذب والمثاب بحسب الاستعداد الأصلي، وربما يرجع هذا في الآخرة إلى أن التعذيب والإثابة اللذين هما من توابع ذلك الاستعداد الذي عليه المعذب والمثاب في نفسه، ومن هنا قالوا إن المعصية والطاعة أمّارتان على الشقاوة والسعادة لا مقتضيان لها، فيندفع قول القائل بأنه إذا كان خلقهم لذلك فلم يعذبهم، واستدل في هذه الآية على أن الأمر غير الإرادة، وأنه تعالى لم يرد الإيمان به من كل، وأن ما أراده سبحانه بحسب وقوعه، وقدمنا في الآية ١٢ من سورة يونس المارة ما يتعلق في هذا البحث فراجعه. وذكر بعض العارفين أن منشأ تشبيب سورة هود له ﷺ اشتمالها على أمره بالاستقامة على الدعوة مع إخباره بأنه سبحانه إنما خلق الناس للاختلاف، وأنه لا يشاء اجتماعهم على دين واحد، وقد حقت «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ» على ذلك الوجه، ونفذ قضاؤه بالوعد للسعداء بالجنة، والوعيد للأشقياء
168
بالنار، طبقا لما هو مدون في كتابه، وحق أمره بذلك، وهو قوله للملائكة أزلا وعزتي وجلالي «لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ» الهاء فيها للمبالغة، وهي والجن بمعنى واحد، أما من قال إن الجن يقع على الواحد فتكون الجنة جمعا له ويكون من الجموع التي يفرق بين مفردها وجمعها بالهاء مثل كمأة فليس بشيء، لأن الحق أنه اسم جمع لا واحد له من لفظه والكمأة جمعها أكمؤ قال.
ولقد جنيتكم أكموء عساقلا ولقد نهيتكم عن نبات الأوبر
«وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» ١١٩ من عصاتهم كما سبقت كلمته بملء الجنة من تقاتهم لما علم شرعا أن العذاب والوعيد مخصوصان بالكافرين والمصرين على المعاصي بدليل قوله تعالى في الآية ١٨ من الأعراف المارة في ج ١ (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ). والنعيم والوعد مخصوصان بالمؤمنين لقوله تعالى (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جنات تجري) إلخ الآية ١٠ من سورة المائدة في ج ٣ وهي مكررة كثيرا في القرآن باللفظ والمعنى، والقرآن يفسر بعضه بعضا فما قيل إن ظاهر الآية يقضي بدخول الفريقين جهنم، قول واه يخالف آيات الله وأخبار رسوله التي لا تقبل التأويل والتفسير، وليس للرأي فيها مدخل، ولهذا البحث صلة في الآية ١٤ من سورة السجدة الآتية فراجعه. قال تعالى «وَكُلًّا» مفعول مقدم والتنوين للعوض عن المضاف إليه أي وكل نبأ «نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ» السالفين قبلك، وهو بيان لكلا ويبدل منها قوله تعالى «ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ» نقوي به قلبك لتصبر على أذى قومك وتتأسي بأخبارهم معهم ليسهل عليك تحمل أذاهم «وَجاءَكَ» يا حبيبي «فِي هذِهِ» السورة العظيمة كما جاءك في غيرها من القصص «الْحَقُّ» الواضح الصريح الذي لا يغير ولا يبدل وكل ما جاء في القرآن فهو حق ثابت، وخصصت هذه السّورة العظيمة كما جاءك في غيرها من القصص «الْحَقُّ» الواضح الصريح الذي لا يغير ولا يبدل وكل ما جاء في القرآن فهو حق ثابت، وخصصت هذه السّورة به تشريفا وتكريما «وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ» ١٢٠ جاء فيها أيضا، فإذا تذكر قومك أحوال الأمم السالفة وكيفة إهلاكهم وأسبابه واتعظوا وتذكروا وأخبتوا إلى ربهم
«وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» من قومك وغيرهم، لأنك مرسل لجميع الخلق بمقتضى الآية ١٥٨ من سورة الأعراف المارة في ج ١ وما ترشدك إليه من الآيات على سبيل التهديد
169
«اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ» حالتكم وما تتمكنون أن تعملوه، وهذا الوعيد تهكم بسوء عاقبتهم إذا بقوا مصرين على ما هم عليه على حد قوله تعالى (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) الآية ٤٧ من سورة فصلت الآتية «إِنَّا عامِلُونَ ١٢١» دائبون على ما أمرنا به «وَانْتَظِرُوا» بنا ما تتصورونه أن يقع بكم من الدوائر «إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ١٢٢» ما يحل بكم من العذاب وينتقم منكم كما انتقم ممن قبلكم أمثالكم المكذّبين «وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» من كل ما يقع فيها وفوقها وتحتها، ومن كان كذلك فلا يخفى عليه شيء من أعمال من هو بينهما وأعلاهما وأسفلهما «وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ» فيما يتعلق فيكم وفي غيركم، وعليه فلا بدّ من مصيركم إليه فينتقم من الكافر، وينعم المؤمن، ثم التفت إلى صفيّه محمد ﷺ فقال عزّ قوله وأنت يا أكمل الرسل «فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ» فهو كافيك وكافلك، وقد جاء في الحديث الشريف من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى. ولا شك أنه ﷺ متوكل على ربه حق التوكل، وإنما يراد منه الدوام والاستمرار، أي فداوم على ما أنت عليه يا سيد الرسل ولا تبال بالذين لا يؤمنون بك، ولا يضيق صدرك من تكذيبهم «وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ١٢٣» أنت ومن آمن بك وأمتك كلهم مؤمنهم وكافرهم، لأن أعمالكم جميعا يحصيها عليكم ويجازيكم عليها السيء بمثله والحسن بأمثاله. وفي هذه الآية إشارة إلى أن العبد غير الموفق غافل عن عمله لا يدري ما يفعل به، حتى إذا وقع أمر الله به انتبه فندم من حيث لا ينفعه الندم. أجارنا الله من ذلك. هذا والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
تفسير سورة يوسف عدد ٣- ٥٣ و ١٢
نزلت بمكة بعد سورة هود عدا الآيات ٢ و ٣ و ٧ فإنهن نزلن بالمدينة، وهي مئة واحدي عشرة آية، ومثلها في عدد الآي سورة الإسراء فقط، وألف وستمئة كلمة، وستة آلاف وستون حرفا، لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
170
Icon