ﰡ
وكان من المفروض لو طبقنا هذه القاعدة أن نقرأ " المر " فننطقها : " ألف " " لام " " ميم " " راء "، ولكن شاء الحق سبحانه هنا أن تأتي هذه الحروف في أول سورة الرعد مبنية على الوقف، فنقول : " ألف " " لام " " ميم " " راء ". وهكذا قرأها جبريل عليه السلام على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ؛ وهكذا نقرأها نحن، ويتابع سبحانه :
﴿ تلك آيات الكتاب.. " ١ " ﴾( سورة الرعد )أي : أن السورة القادمة إليك هي من آيات الكتاب الكريم القرآن وهي إضافة إلى ما سبق وأنزل إليك، فالكتاب كله يشمل من أول ﴿ بسم الله الرحمن الرحيم " ١ " ﴾( سورة الفاتحة ).
في أول القرآن، إلى نهاية سورة الناس.
ونعلم أن الإضافة تأتي على ثلاث معان ؛ فمرة تأتي الإضافة بمعنى " من " مثل قولنا " أردب قمح " والمقصود : أردب من القمح. ومرة تأتي الإضافة بمعنى " في " مثل قولنا : " مذاكرة المنزل " والمقصود : مذاكرة في المنزل. ومرة ثالثة تأتي الإضافة بمعنى " اللام " وهي تتخذ شكلين.
إما أن تكون تعبيراً عن ملكية، كقولنا " مال زيد لزيد ". والشكل الثاني أن تكون اللام للاختصاص كقولنا " لجام الفرس " أي : أن اللجام يخص الفرس ؛ فليس معقول أن يملك الفرس لجاماً. إذن : فقول الحق سبحانه هنا :﴿ تلك آيات الكتاب.. " ١ " ﴾( سورة الرعد )
يعني تلك آيات من القرآن ؛ لأن كلمة " الكتاب " إذا أطلقت ؛ فهي تنصرف إلى القرآن الكريم. والمثل هو القول " فلان الرجل " أي : أنه رجل حقاً ؛ وكأن سلوكه هو معيار الرجولة، وكأن خصال الرجولة في غيره ليست مكتملة كاكتمالها فيه، أو كقولك " فلان الشاعر " أي : أنه شاعر متميز للغاية.
وهكذا نعلم أن كلمة " الكتاب " إذا أطلقت ينصرف في العقائد إلى القرآن الكريم، وكلمة الكتاب إذا أطلقت في النحو انصرفت إلى كتاب سيبوية الذي يضم قواعد النحو. ويتابع سبحانه في وصف القرآن الكريم :﴿ والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " ١ " ﴾( سورة الرعد )ونعلم أن مراد الذي يخالف الحق هو أن يكسب شيئاً من رواء تلك المخالفة. وقد قال سبحانه في أواخر سورة يوسف :
﴿ وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " ١٠٣ " ﴾( سورة يوسف )
ثم وصف القرآن الكريم، فقال تعالى :
﴿ ما كان حديثاً يفتري ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيءٍ وهدىً ورحمة لقوم يؤمنون " ١١١ " ﴾( سورة يوسف ).
وهكذا نرى أن الحق سبحانه لا يريد الكسب منكم، لكنه شاء أن ينزل هذا الكتاب لتكسبوا أنتم :﴿ ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " ١ " ﴾( سورة الرعد )أي : أن أكثر من دعوتهم إلى الإيمان بهذا الكتاب الحق لا يؤمنون بأنه نزل إليك من ربك ؛ لأنهم لم يحسنوا تأمل ما جاء فيه ؛ واستسلموا للهوى. وأرادوا السلطة الزمنية، ولم يلتفتوا إلى أن ما جاء بهذا الكتاب هو الذي يعطيهم خير الدنيا والآخرة.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : " كل عمل لا يبدأ باسم الله هو أبتر "
لأن كل عمل لا يبدأ باسمه سبحانه ؛ لا تستحضر فيه أنه سبحانه قد سخر لك كل الأشياء، ولم تسخر أنت الأشياء بقدرتك. ولذلك، فالمؤمن هو من يدخل على أي عمل بحيثية " بسم الله الرحمن الرحيم " ؛ لأنه سبحانه هو الذي ذلل للإنسان كل شيء، ولو لم يذللها لما استجابت لك أيها الإنسان.
وقد أوضح الحق سبحانه ذلك في أمثلة بسيطة ؛ فنجد الطفل الصغير يمسك بحبل ويربطه في عنق الجمل، ويأمره بأن " ينخ " ويركع على أربع ؛ فيمتثل الجمل لذلك. ونجد البرغوث الصغير ؛ يجعل الإنسان ساهراً الليل كله عندما يتسلل إلى ملابسه ؛ ويبذل هذا الإنسان الجهد الجهيد ليمسك به ؛ وقد يستطيع ذلك ؛ وقد لا يستطيع.
وهكذا نعرف أن أحداً لم يسخر أي شيء بإرادته أو مشيئته، ولكن الحق سبحانه هو الذي يذلل كل الكائنات لخدمة الإنسان. والحق سبحانه هو القائل :
﴿ وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون " ٧٢ " ﴾( سورة يس )
وأنت حين تقبل على أي عمل يحتاج إلى قدرة فتقول : " باسم القادر الذي أعطاني بعض القدرة ". وإن أقبلت على عمل يحتاج مالاً ؛ تقول : " باسم الغني الذي وهبني بعضاً من مال أقضي به حاجتي ".
وفي كل عمل من الأعمال التي تقبل عليها تحتاج إلى قدرة ؛ وحكمة ؛ وغنى، وبسط ؛ وغير ذلك من صفات الحق التي يسخر بها سبحانه لك كل شيء ؛ فشاءت رحمته سبحانه أن سهل لنا أن نفتتح أي عمل باسمه الجامع لكل صفات الجمال والكمال " بسم الله الرحمن الرحيم ". ولذلك يسمونه " علم على واجب الوجود ". وبقية الأسماء الحسنى صفات لا توجد بكمالها المطلق إلا فيه ؛ فصارت كالاسم.
فالعزيز على إطلاقه هو الله. ولكنا نقول عن إنسان ما " عزيز قومه "، ونقول " الغني " على إطلاقه هو الله، ولكن نقول " فلان غني " و " فلان فقير ". وهكذا نرى أنها صفات أخذت مرتبة الأسماء ؛ وهي إذا أطلقت إنما تشير إليه سبحانه.
وعرفنا من قبل أن أسماء الله ؛ إما أن تكون أسماء ذات ؛ وإما أن تكون أسماء صفات ؛ فإن كان الاسم لا مقابل له فهو اسم ذات ؛ مثل : " العزيز ". أما إن كان الاسم صفة الصفة والفعل، مثل " المعز " فلابد أن له مقابلاً، وهو هنا " المذل ".
ولو كان يقدر أن يعز فقط ؛ ولا يقدر أن يذل لما صار إلهاً، ولو كان يضر فقط، ولا ينفع أحداً لما استطاع أن يكون إلهاً، ولو كان يقدر أن يبسط، ولا يقدر أن يقبض لما استطاع أن يكون إلهاً.
وكل هذه صفات لها مقابلها ؛ ويظهر فعلها في الغير ؛ فسبحانه على سبيل المثال عزيز في ذاته ؛ ومعز لغيره، ومذل لغيره. وكلمة " الله " هي الاسم الجامع لكل صفات الكمال، وهناك أسماء أخرى علمها الله لبعض من خلقه، وهناك أسماء ثالثة سنعرفها إن شاء الله حين نلقاه :
﴿ وجوه يومئذ ناضرة " ٢٢ " إلى ربها ناظرة " ٢٣ " ﴾( سورة القيامة )
ونلحظ أن الحق سبحانه بدأ هذه الآية بالحديث عن العالم العلوي أولاً ؛ ولم يتحدث عن الأرض ؛ فقال :﴿ الله الذي رفع السماوات.. " ٢ " ﴾( سورة الرعد )
وكلمة " رفع " إذا استعملتها استعمالاً بشرياً ؛ تدل أن شيئاً كان في وضع ثم رفعته عن موضعه إلى أعلى ؛ مثل قول الحق سبحانه :﴿ ورفع أبويه على العرش.. " ١٠٠ " ﴾( سورة يوسف )فقد كان أبوا يوسف في موضع أقل ؛ ثم رفعهما يوسف إلى موضع أعلى مما كانا فيه، فهل كانت السماء موضوعة في موضع أقل ؛ ثم رفعها الله ؟ لا، بل خلقها الله مرفوعة.
ورحم الله شيخنا عبد الجليل عيسى الذي قال : " لو قلت : سبحان الله الذي كبر الفيل ؛ فهل كان الفيل صغيراً ثم كبره الله ؛ أم خلقه كبيراً ؟ لقد خلقه الله كبيراً. وإن قلت : سبحان الله الذي صغر البعوضة ؛ فهل كانت كبيرة ثم صغرها الله ؟ لا بل خلقها الله صغيرة ". وحين يقول سبحانه :﴿ الله الذي رفع السماوات بغير عمدٍ.. " ٢ " ﴾( سورة الرعد )فهذا يعني أنه خلقها مرفوعة، وفي العرف البشري نعرف أن مقتضى رفع أي شيء أن توجد من تحته أعمدة ترفعه. ولكن خلق الله يختلف ؛ فنحن نرى السماء مرفوعة على امتداد الأفق ؛ ويظهر لنا أن السماء تنطبق على الأرض ؛ ولكنها لا تنطبق بالفعل.
ولم نجد إنساناً يسير في أي اتجاه ويصطدم بأعمدة أو بعمود واحد يظن أنه من أعمدة رفع السماء ؛ وهي مرئية هكذا ؛ فهل هناك أعمدة غير مرئية ؛ أم لا توجد أعمدة أصلاً ؟.
وقد يكون وراء هذا الرفع أمر آخر ؛ فقد قلنا : إن الشيء إذا رفع ؛ فذلك بسبب وجود ما يمسكه أو ما يحمله ؛ وسبحانه يقول في أمر رفع السماء :﴿ ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم " ٦٥ " ﴾( سورة الحج )فإذا كانت ممسوكة من أعلى ؛ فهي لا تحتاج إلى عمد، وقوله الحق :( يمسك )يعني أنه سبحانه قد وضع لها قوانينها الخاصة التي لم نعرفها بعد.
وقد قام العلماء المعاصرون بمسح الأرض والفضاء بواسطة الأقمار الصناعية وغيرها، ولم يجدوا عمداً ترفع السماوات أو تمسكها.
والمهندسون يتبارون في عصرنا ليرفعوا الأسقف بغير عمدٍ ؛ لكنهم حتى الآن ؛ مازالوا يعتمدون على الحوائط الحاملة.
وهكذا نعلم أنه سبحانه إما أنه حمل السماء على أعمدة أدق وألطف من أن تراها أعيننا ؛ ولذلك نراها بغير أعمدة، أو أنها مرفوعة بلا أعمدة على الإطلاق.
و " عمد " اسم جمع لا جمع ومفردها " عمود " أو " عماد " وقد جاءت هذه الآية بمثابة التفسير لما أجمل في قول الحق سبحانه في سورة يوسف :﴿ وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون " ١٠٥ " ﴾( سورة يوسف )
وجاء سبحانه هنا بالتفصيل ؛ فأوضح لنا أنه :﴿ رفع السماوات بغير عمدٍ ترونها.. " ٢ " ﴾
( سورة الرعد )أي : لا ترونها أنتم بحكم قانون إبصاركم. ولا تعجب من أن يوجد مخلوق لا تراه ؛ لأن العين وسيلة من وسائل الإدراك، ولها قانون خاص ؛ فهي ترى أشياء ولا ترى أشياء أخرى. هذا بدليل أنك إذا نظرت إلى إنسان طوله متران يتحرك مبتعداً عنك ؛ تجد يصغر تدريجياً إلى أن يتلاشى من مجال رؤيتك ؛ لكنه لا يتلاشى بالفعل.
وهذا معناه أن قانون إبصارك محكوم بقانون ؛ له مدى محدد. وهناك قوانين أخرى مثل : قانون السمع ؛ وقانون الجاذبية ؛ وقانون الكهرباء ؛ وكلها ظواهر نستفيد بآثارها، ولكنا لا نراها، فلا تعجب من أن يوجد شيء لا تدركه ؛ لأن قوى إدراكك لها قوانين خاصة.
ويشاء الحق سبحانه أن يدلل على صدق ذلك بأن يجعل ما يكتشفه العلماء في الكون من أشياء وقوى لم تكن معروفة من قبل ؛ ولكننا كنا نستفيد منها دون أن ندري ؛ مما يدل على أن إدراك الإنسان غير قادر على إدراك كل شيء.
وذلك يوضح لنا أن رؤيتنا للسماء مرفوعة بغير عمد نراها ؛ قد يعني وجود أعمدة مصنوعة بطريقة غير معروفة لنا ؛ أو هي مرفوعة بغير عمدٍ على الإطلاق. وقول الحق سبحانه :﴿ بغير عمدٍ ترونها.. " ٢ " ﴾( سورة الرعد )هو كلام خبري، والمثل من حياتنا حين تقول لابنك : " أنا خارج إلى العمل ؛ وذاكر أنت دروسك "، وبذلك تكون قد أوضحت له : " ذاكر دروسك " وهذا كلام خبري ؛ لكن المراد به إنشائي.
وإبراز الكلام الإنشائي في مقام الكلام الخبري له ملحظ، مثلما تقول : " فلان مات رحمه الله " وقولك " رحمه الله " كلام خبري ؛ فأنت تخبر أن الله قد رحمه.
على الرغم من أنك لا تدري : هل رحمه الله أم لا ؛ ولكنك قلت ذلك تفاؤلاً أن تكون الرحمة واقعة به، وكان من الممكن أن تقول : " مات فلان يا ربي ارحمه "، وأنت بذلك تطلب له الرحمة. كذلك قول الحق سبحانه :﴿ بغير عمدٍ ترونها.. " ٢ " ﴾( سورة الرعد )أي : دققوا وأمعنوا النظر إليها، وابحثوا فيما يعنيكم على ذلك إن استطعتم، وإذا لفتك المتكلم إلى شيء ليحرك فيك حواس إدراكك فمعنى ذلك أنه واثق من صنعته.
والمثل من حياتنا ولله المثل الأعلى، وسبحانه منزه عن أن يكون له مثل حين تدخل لتشتري صوفاً ؛ فيقدم لك البائع قماشاً ؛ فتسأله : هل هذا صوف مائة في المائة ؟ " فيقول لك البائع : " نعم إنه صوف مائة في المائة، وهات كبريتاً لنشعل فتلة منه لترى بنفسك ".
ويوضح الحق سبحانه هنا : أن السماوات مرفوعة بغير عمد، وانظروا أنتم ؛ بمد البصر، ولن تجدوا أعمدة متحقق لك ولغيرك على مدى أفق أي منكم.
ولكل إنسان أفقه الخاص على حسب قدرة بصره، فهناك من تنطبق السماء على الأرض أمام عيونه ؛ فنقول له : أنت تحتاج إلى نظارة طبية تعالج هذا الأمر.
فالآفاق تختلف من إنسان إلى آخر، وفي التعبير اليومي الشائع يقال : " فلان ضيق الأفق لا يرى إلا ما تحت قدميه ".
ولقائل أن يقول : إن هذا يحدث معي ومع من يعيشون الآن ولا أحد يرى أعمدة ترفع السماوات ؛ فهل سيحدث ذلك مع من سيأتون من بعدنا ؟
ونقول : لقد مسحت الأقمار الصناعية من الفضاء الخارجي كل مساحات الأرض ؛ ولم يجد أحد أية أعمدة ترفع السماء عن الأرض. وهذا دليل صدق القضية التي قالها الحق سبحانه في هذه الآية :﴿ الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها.. " ٢ " ﴾( سورة الرعد ) والسماوات جمع " سماء " وهي كل ما علاك فأظلك، والحق سبحانه يقول :﴿ وأنزل من السماء ماءً.. " ٢٢ " ﴾( سورة البقرة ).
ونعلم أن المطر إنما نزل من السحب التي تعلو الإنسان، وتبدو متعلقة في السماء، وإذا أطلقت السماء انصرفت إلى السماء العليا التي تظلل كل ما تحتها.
وحين أراد الناس معرفة كنه السماء، وهل لها جرم أم ليس لها جرم ؛ وهل هي امتداد أجواء وهواء ؟ لم يتفق العلماء على إجابة. وقد نثر الحق سبحانه أدلة وجوده، وأدلة قدرته، وأدلة حكمته وأدلة صنعته في الكون ؛ ثم أعطاك أيها الإنسان الأدلة في نفسك أيضاً ؛ وهو القائل سبحانه :﴿ وفي أنفسكم أفلا تبصرون " ٢١ " ﴾( سورة الذاريات )
وانظر إلى نفسك تجد العلماء وهم يكتشفون في كل يوم شيئاً جديداً وسراً عجيباً، سواء في التشريح أو علم وظائف الأعضاء. وسوف تعجب من أمر نفسك، وأنت ترى تلك الاكتشافات التي كانت العقول السابقة تعجز عن إدراكها، وقد يدرك بعضها الآن، ويدرك بعضها لاحقاً. وإدراك البعض للمجهول في الماضي يؤذن بأنك سوف تدرك في المستقبل أشياء جديدة. وإن نظرت خارج نفسك ستجد قول الحق سبحانه :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق.. " ٥٣ " ﴾( سورة فصلت )ومعنى :﴿ سنريهم.. " ٥٣ " ﴾( سورة فصلت )أن الرؤية لا تنتهي ؛ لأن " السين " تعني الاستقبال، ومن نزل فيهم القرآن قرءوها هكذا، ونحن نقرؤها هكذا، وستظل هناك آيات جديدة وعطاء جديد من الله سبحانه إلى أن تقوم الساعة.
وسبحانه القائل :﴿ لخلق السماوات والأرض اكبر من خلق الناس ولكن اكثر الناس لا يعلمون " ٥٧ " ﴾( سورة غافر ).
وأنت حين تفكر في خلق السماوات والأرض ستجده مسألة غاية في الضخامة ؛ ويكفيك أن تتحير في مسألة خلقك وتكوينك ؛ وأنت مجرد فرد محدود بحيز، ولك عمر محدود ببداية ونهاية، فما بالك بخلق السماوات والأرض التي وجدت من قبلك، وستستمر من بعدك إلى أن تنشق بأمر الله، وتتكسر لحظتها النجوم.
ولابد أن خلق السماوات والأرض اكبر من خلق الناس، فالسماوات وال
يعني أنها موجودة أمامك وممتدة، وبعض الناس يفهمون المد بمعنى البسط، ونقول : إن البسط تابع للمد. ولذلك وقف بعض العلماء وقالوا : ومن قال إن الأرض كروية ؟
إن الحق سبحانه قال : إنها مبسوطة، وهو سبحانه الذي قال : إنه قد مد الأرض.
وقلت لهؤلاء العلماء : فلنفهم كلمة المد أولاً، ولنفهم أيضاً كلمة " الأرض " وهي التي تقف عليها أنت وغيرك، وتعيش عليها الكائنات، وتمتد شمالاً إلى القطب الشمالي، وجنوباً إلى القطب الجنوبي، أياً ما كنت في أي موقع فهي ممدودة شرقاً وغرباً. ومعنى :﴿ مد الأرض.. " ٣ " ﴾( سورة الرعد )تعني أنك إن وقفت في مكان وتقدمت منه ؛ تجد الأرض ممدودة أمامك ؛ ولا توجد حافة تنتهي لها، ولو أنها كانت مبسوطة لكان لها نهاية، ولكانت على شكل مثلث أو مربع أو مستطيل ؛ ولكان لها حافة ؛ ولوجدنا من يسير إلى تلك الحافة، هو يقول : " لقد وصلت لحافة الأرض ؛ وأمامي الفراغ " ولم يحدث أن قال ذلك واحد من البشر.
وإذا ما سار إنسان على خط الاستواء مثلاً ؛ فسيظل ماشياً على اليابسة أو راكباً لمركب تقطع به البحر أو المحيط ليصل إلى نفس النقطة التي بدأ منها سيره.
وهكذا نجد الأرض ممدودة غير محدودة، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الأرض مكورة، بحيث إذا مشيت متتبعاً أي خط من خطوط العرض أو خطوط الطول لانتهت إلى النقطة التي بدأت منها سيرك.
وكان هذا هو الدليل الذي يقدمه العلماء على كروية الأرض ؛ قبل أن يخترعوا فكرة التصوير من خارج الغلاف الجوي. ونأخذ من قول الحق سبحانه :﴿ وهو الذي مد الأرض.. " ٣ " ﴾( سورة الرعد ).
معنى آخر هو ضرورة أن ينظر الإنسان في هذا الامتداد ؛ ومن تضيق به الحياة في مكان يمكنه أن يرحل إلى مكان آخر، فأرض الله واسعة، والحق سبحانه هو القائل :
﴿ ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها.. " ٩٧ " ﴾( سورة النساء )
ونعلم أن فساد العالم في زمننا إنما نشأ من فساد السياسات وزيادة الاضطرابات، وذلك واحد من نتائج تعوق مد الأرض فساعة يحاول إنسان أن يترك حدود موطنه ؛ يجد الحراسات والعوائق عند حدود البلاد المجاورة، وتناسى الجميع قول الحق سبحانه :
﴿ والأرض وضعها للأنام " ١٠ " ﴾( سورة الرحمن )فسبحانه قد سخر الأرض وأخضعها للأنام كل الأنام، وإذا لم يتحقق هذا المبدأ القرآني ؛ سيظل العالم في صراع ؛ وستظل بعض من البلاد في حاجة للبشر وبعض من البلاد في ضيق من الرزق ؛ لزيادة السكان عن إمكانات الأرض التي يعيشون عليها. وستظل هناك أرض بلا رجال ؛ ورجال بلا أرض، نتيجة للحواجز المصطنعة بين البلاد. وحتى تحل هذه القضية كما قلنا في الأمم المتحدة لابد من تطبيق المبدأ القرآني :﴿ والأرض وضعها للأنام " ١٠ " ﴾( سورة الرحمن ).
ومن تضيق به الأرض التي نشأ فيها فليسمح له بالهجرة. ويتابع سبحانه في نفس الآية :
﴿ وجعل فيها رواسي وأنهار.. " ٣ " ﴾( سورة الرعد )والرواسي هي جمع " راسٍ " وهو الشيء الثابت. وسبحانه يقول :﴿ والجبال أرسها " ٣٢ " ﴾( سورة النازعات )وهكذا جاء الحق بالحكم الذي شاء أن تكون عليه الجبال، وفي آية أخرى يأتينا الله بعلة كونها رواسي ؛ فيقول :
﴿ وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم.. " ٣١ " ﴾( سورة الأنبياء )أي : لا تضطرب بكم الأرض، ولو كانت الأرض مخلوقة على هيئة الثبات ؛ لما احتجنا إلى الجبال الرواسي كي تثبتها، ولكن الأرض مخلوقة متحركة، وهي عرضة للاضطراب، ولولا الجبال الرواسي لمادت الأرض. ولسائل أن يقول : ولكننا نقطع الآن الجبال، ونأخذ الجرانيت من جبل لنزين به أرضية بعض المناطق ؛ ونقطع الرخام من جبل آخر لنصنع منه حمامات وأحواضاً ودرجات السلالم، ونقتطع بعض أحجار أنواع معينة من الجبال ؛ لنستخلص اليورانيوم منها ؟.
ونقول : انظر إلى حكمة الحق تبارك وتعالى حين خلق ؛ وحكمته حين دبر، فهذه الأرض لها محيط ؛ ولها مركز ؛ ولها أقطار، وكلما اقتربت من مركز الأرض فالقطر يقل. ومثال هذا هو البطيخة ؛ فأنت إن استخلصت القشرة الخارجية لها يكون لديك كرة من القشرة الخضراء ؛ وكرة أخرى من مكونات البطيخة التي نأكلها، ولو استخلصت كرة أخرى من مكونات الألياف الحمراء التي تتكون منها البطيخة، لصار عندك كرة أخرى، ولصار قطر الكرة الجديدة أصغر بطبيعة الحال من الكرة الخضراء.
وكلما استخلصت كريات أخرى من مكونات البطيحة ؛ صغرت الأقطار ؛ لأنك تقترب من مركز الدائرة، والمحيط الأخضر الذي يحيط بالبطيخة وهو القشرة ؛ يشبه المحيط الذي يوجد على الكرة الأرضية ؛ وهذه القشرة التي توجد حول الكرة الأرضية صلبة ؛ أما ما بداخل الأرض وجوفها ؛ فهو مكون من أشياء ومواد متعددة، منها ما هو سائل ومنها ما هو صلب.
وكلما اقتربنا من مركز الأرض ؛ وجدنا ارتفاعاً في درجة لحرارة ؛ وتدلنا على ذلك كتل الحمم التي تخرج فوارة من فوهات البراكين ؛ وهي حمم ذات حرارة مرتفعة للغاية ؛ وهي حمم محرقة.
وقد شاء الحق سبحانه أن يجعل بطن الأرض سائلاً، رحمة بنا ؛ ذلك أننا حين نبني بيوتاً ؛ أو نقتطع أحجاراً من الجبال ؛ أو نستخدم مكونات الجبال في أي غرض ؛ إنما ننقل بعضاً من مكونات الأرض من موقع إلى آخر.
وحين ينتقل ثقل من مكان على سطح الأرض إلى مكان آخر ؛ فالسائل الذي في باطن الأرض ينتقل من المنطقة التي زاد عليها الثقل إلى المنطقة التي خف من فوقها الثقل ليتحقق التوازن، ولو لم يحدث ذلك لتساقطت العمارات الشاهقة التي نراها أثناء دوران الأرض.
والمثل الذي يوضح ذلك أنك لو وضعت قطعة من العجين على سطح بطيخة أو كرة، وجعلت البطيخة أو الكرة في حالة دوران لطردت الكرة أو البطيخة قطعة العجين من على سطحها.
وقد شرح العلماء في " علم الحركة " ذلك فقالوا : إن كل شيء مستدير يتحرك ؛ إنما تنشأ عن حركته عملية اسمها الطرد الذاتي ؛ لأن قطعة العجين أو أي شيء نضعه على شيء مستدير يتحرك تكون له كثافة وثقل على المنطقة التي يوجد فيها، ويصل هذا الثقل إلى المركز، ولكي تستمر الحركة الدائرية متوازنة لابد أن يطرد الشيء المستدير ما فوقه من ثقل زائد.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يجعل نصفي الكرة الأرضية من أي موقع تتخيله، متساوياً في الوزن مع النصف الآخر، ومهما أخذت من مواد ونقلتها من موقع إلى آخر، فالوزن يتعادل نتيجة لحركة السوائل التي في بطن الأرض. وهذا يدل على عظمة الخالق الذي خلق بتدبير دقيق، ويكفي أن ننظر إلى عظمة الحق الذي لم يجعل الجبال رواسي ليمنع الأرض من أن تميد بنا، بل جعل في الجبال والصحاري ما استنجدنا به حين ضاقت الأرض بنا ؛ فذهبنا إلى الجبال ؛ لنستخرج منها المواد الخام ؛ ونصدرها ؛ ثم نشتري بثمنها القمح. ونرى من حولنا الصحاري حيث كان المقيمون فيها يلهثون قديما من العطش، ولا يجدون شجرة يستظلون بها ؛ فيفجر فيها الحق آبار البترول.
وهكذا نرى أن كل قطاع من الأرض فيه خير مساو لأي قطاع آخر من الأرض، وجعل الله لكل أمر زمناً يمكن للبشر أن يستفيدوا من هذا الأمر في ذلك الزمن. ولذلك نجد الحق سبحانه يقول في الجبال :﴿ قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين " ٩ " وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين " ١٠ " ﴾( سورة فصلت )أي : أنه سبحانه بارك في الجبال، ، وهي جزء من الأرض، وشاء أن يقدر الأقوات في الجبال والأرض ؛ ويكفي أن نعلم أن المطر حين يتساقط من السماء على الجبال ؛ فيحمل المطر بعضاً من الطمي من على أسطح تلك الجبال، فتتجدد خصوبة الأرض.
ولو كانت الجبال هشة لذابت الجبال من عدد قليل من مرات سقوط المطر، ولذابت القشرة الخصبة التي تغذي النبات حين نزرعه في الأرض.
ولكنه سبحانه شاء أن تمر الظروف الجوية باختلافها وتنوعها في تتابع يوفر من الحرارة والرطوبة ما يجعل الأرض تتشقق ؛ فيصير سطح الجبال الصلبة هشاً لينزل مع المطر ؛ وليغذي الأرض بالخصوبة من أجل أن يستمر استبقاء الحياة بإنتاج ما نحتاجه من نباتات مزروعة.
ونلحظ قوله سبحانه في نفس الآية :﴿ وجعل فيها رواسي وأنهار.. " ٣ " ﴾( سورة الرعد )
وهنا يجمع الحق بين الرواسي وهي الثوابت، وبين الأنهار وهي التي تحمل الماء السائل، وهذا جمع بين الأضداد.
والنهر يطلق على ما يحمل المياه العذبة ؛ أما البحر فهو المكون من الماء المالح، وأنت إذا استعرضت أنهار الدنيا كلها ؛ ستجد أن مجاريها تصب في البحار، وهذا دليل على أن منسوب النهر أعلى دائماً من منسوب البحر، ولو كان الأمر بالعكس ؛ لطغى ماء البحر على مياه النهر، ولما استطعنا أن نشرب أو نزرع.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يجعل الماء العذب هو الأعلى ؛ لأن له مهمة يؤديها قبل أن يصب في البحر. أقول ذلك حتى نعلم الحكمة في قول الحق سبحانه :﴿ بينهما برزخ لا يبغيان " ٢٠ " ﴾( سورة الرحمن ). ومن العجيب أن البرزخ الذي يفصل بين النهر والبحر يكون انسيابياً، يتدرج نزول مياه النهر في مياه البحر بما يحقق سهولة في هذا الانتقال، ومن العجيب أيضاً أنك إن حفرت عند شاطئ البحر قد تعثر على الماء العذب.
ولذلك حين نزور العريش نجد شاطئاً باسم شاطئ النخيل ؛ ونحن نعلم أن النخيل يحتاج إلى الماء العذب، وكأن الحق سبحانه قد جعل في هذا النخيل خاصية استخلاص الماء العذب من هذا المكان الذي يوجد على البحر ؛ وقد تكون له جداول عذبة.
فسبحانه القائل :﴿ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فسلكه ينابيع في الأرض.. " ٢١ " ﴾
( سورة الزمر ).
ونحن في الريف نجد من يحفر بئراً ويكون ماؤه عذباً ؛ وآخر يحفر بئراً ويكون ماؤه مالحاً. وهذا دليل على أن الماء في بطن الأرض غير مختلط، بل لكل ماء مسارب تختلف باختلاف نوعية المياه.
ويرتب الحق سبحانه في نفس الآية مجيء الثمرات كنتيجة على وجود الثابت الجبال كمصدر للغرين وخصوبة الأرض، وعلى وجود الأنهار التي تحمل الماء اللازم للري، وهكذا يكون مجيء الثمرات أمراً طبيعياً. والثمرة كما نعلم هي الغاية من أي زرع. وفي نفس الآية يواصل الحق ذكر عطائه، فيقول سبحانه :﴿ ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين.. " ٣ " ﴾( سورة الرعد ).
ويستعمل البعض كلمة " زوج " ويراد به شيئان كقولنا " زوج أحذية " مع أن التعبير الدقيق يقتضي أن نقول " زوجان من الأحذية " كتوصيف لفردة حذاء يمنى وفردة حذاء يسرى ؛ لأن كلمة " زوج " مرد، وتستخدم في الشيء الذي له مثل ؛ ولذلك نجد العدد الفردي والعدد الزوجي ؛ والعدد الزوجي مفرد له مثيل ؛ وفي الإنسان هو الذكر والأنثى. وسبحانه القائل :
﴿ ومن كل شيءٍ خلقنا زوجين.. " ٤٩ " ﴾( سورة الذاريات )، ويخطئ الناس أيضاً في فهم كلمة التوأم، ويظنون أنها تعني الاثنين اللذين يولدان معاً، ولكن المعنى الدقيق للتوأم وهو الفرد الذي يولد مع آخر، ويقال لاثنين معاً " التوأمان ". وهنا يقول الحق سبحانه :
﴿ وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهار ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين.. " ٣ " ﴾( سورة الرعد ).
ولم يخلق الحق سبحانه أي شيء إلا وشاء له أن يتكاثر، مصداقاً لقول الحق سبحانه :
{ سبحان الذي خل
وتلك آية تنضم إلى قوله تعالى :﴿ رفع السماوات بغير عمدٍ ترونها.. " ٢ " ﴾( سورة الرعد )
وتنضم إلى :﴿ يدبر الأمر يفصل الآيات.. " ٢ " ﴾( سورة الرعد )
وتنضم إلى قوله سبحانه :
﴿ وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهار ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار.. " ٣ " ﴾( سورة الرعد )
وحين نتأمل قول الحق سبحانه :
﴿ وفي الأرض قطع متجاورات.. " ٤ " ﴾( سورة الرعد )
نجد أننا لا نستطيع أن نعرفها بأنها التي يعيش عليها أمثالنا ؛ تلك هي الأرض، ولو أردنا تعريفها لأبهمناها، فهي أوضح من أن تعرف. وكلمة " قطع " تدل أول ما تدل على " كل " ينقسم إلى أجزاء، وهذا الكل هو جنس جامع للكلية ؛ وفيه خصوصية تمييز قطع عن قطع. وأنت تسمع كلام العلماء عن وجود مناطق من الأرض تسمى حزام القمح، ومناطق أخرى تسمى حزام الموز ؛ ومناطق حارة ؛ وأخرى باردة. وقول الحق سبحانه :﴿ قطع متجاورات.. " ٤ " ﴾( سورة الرعد )هو قول يدل على الإعجاز ؛ فعلى الرغم من أنها متجاورات إلا أن كلاً منها تناسب الطقس الذي توجد فيه ؛ فزراعة الذرة تحتاج مناخاً معيناً ؛ وكذلك زراعة الموز. وهكذا تجد كل منطقة مناسبة لما تنتجه، فالأرض ليست عجينة واحدة استطراقية، لا بل هي تربة مناسبة للجو الذي توجد به.
ومن العجيب أن فيها الأسرار التي يحتاجها الإنسان ؛ هذا السيد الذي تخدمه كل الكائنات، فليست الأرض سائلة في التماثل ؛ بل تختلف بما يناسب الظروف، فهناك قطعة سبخة لا تنبت ؛ وأخرى خصبة تنبت.
بل وتختلف الخصوبة من موقع إلى آخر ؛ ومن قطعة إلى أخرى ؛ فثمرة الجوافة من شجرة معينة في منطقة معينة تختلف عن ثمرة الجوافة من شجرة في منطقة أخرى ؛ والقمح في منطقة معينة يختلف عن القمح في منطقة أخرى ؛ ويقال لك " إنه قمح فلان ". ويحدث ذلك رغم أن الأرض تسقى بماء واحد.
ويقول العلماء البعيدون عن منطق السماء : " إن السبب في الاختلاف هو عملية الاختيار والانتخاب ". وكأنهم لا يعرفون أن الاختيار يتطلب مختراً، وأن يكون له عقل يفكر به ليختار، وكذلك الانتخاب فهل البذيرات تملك عقلاً تفكر به وتختار ؟ طبعاً لا.
ويقولون : إن النبات يتغذى بالخاصية الشعرية، ونعلم أن الأنابيب الشعرية التي نراها في المعامل تكون من الزجاج الرفيع ؛ وإذا وضعناها في حوض ماء، فالماء يرتفع فيها على مستوى الإناء.
وإن صدقنا العلماء في ذلك، فكيف نصدقهم في أن شجرة ما تأخذ ماءً من الشجرة الأخرى ؛ وتنتج كل منهما نفس الثمار ؛ لكن ثمار شجرة تختلف عن الأخرى في الطعم ؟
ونقول : إن كل شجرة تأخذ من الأرض ما ينفعها ؛ ولذلك تختلف النباتات، ويحدث كل ذلك بقدرة الذي قدر فهدى. وهكذا نرى الأرض قطعاً متجاورات ؛ منها ما يصلح لزراعة تختلف عن زراعة الأرض الأخرى.
وقد يقول بعض من الملاحدة : إن هذا الاختلاف بسبب الطبيعة والبيئة. وهؤلاء يتجاهلون أن الطبيعة في مجموعها هي الشمس التي تعطي الضوء والحرارة والإشعاع، والقمر أيضاً يعكس بعضاً من الضوء، والنجوم تهدي من يسير في الفلاة، وتيارات الهواء تتناوب ولها مسارات ومواعيد.
ورغم كل ذلك فهناك أرض خصبة تنتج، وأرض سبخة لا تنتج، وأرض حمراء ؛ وأخرى سوداء، وثالثة رملية، وكلها متجاورة.
لابد إذن من وجود فاعل مختار يأمر هذه أمراً مختلفاً عن تلك. ويتابع الحق سبحانه في نفس الآية :﴿ وجنات من أعنابٍ وزرع ونخيل صنوان وغير صنوانٍ.. " ٤ " ﴾( سورة الرعد )
وجاء الحق سبحانه هنا بالمرفهات أولاً ؛ فتحدث عن الفاكهة ؛ ثم تحدث عن الزرع الذي منه القوت الأساسي، ونحن في حياتنا نفعل ذلك ؛ فحين تدخل على مائدة أحد الكبار ؛ تجد الفاكهة معدة على أطباق بجانب المائدة الرئيسية التي يقدم عليها الطعام.
ويأتي الحق سبحانه بعد الأعناب والزرع الذي منه القوت الضروري بالنخيل، وهو الذي ينتج غذاء، وقد يكون التمر الذي ينتجه ترفاً يتناوله الإنسان بعد تناول الطعام الضروري.
وقول الحق سبحانه :﴿ صنوان وغير صنوانٍ.. " ٤ " ﴾( سورة الرعد )يتطلب منا أن نعرف ما الصنوان ؟.
ونجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " العم صنو أبيك " أي : أن الصنو هو المثل
وبهذا يكون معنى الصنوان هو المثلان. ونرى ذلك واضحاً في النخيل ؛ فنرى أحياناً أصلاً واحداً تخرج منه نخلتان ؛ أو ثلاث نخلات ؛ وأحياناً يخرج من الأصل الواحد أربع أو خمس نخلات.
ويطلق لقب " الصنوان " على الأصل الواحد الذي يتفرع إلى نخلتين أو اكثر ؛ فكلمة " صنوان " تصلح للمثنى وللجمع، ولكنها في حالة المثنى تعامل في الإعراب كالمثنى ؛ فيقال " أثمرت صنوان " و " رأيت صنوين " أما في حالة الجمع فيقال " رأيت صنواناً " و " مررت بصنوان ". والمفرد طبعاً هو " صنو ".
ويقول سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :﴿ وجنات من أعنابٍ وزرع ونخيل صنوان وغير صنوانٍ يسقى بماءٍ واحدٍ ونفضل بعضها على بعضٍ في الأكل.. " ٤ " ﴾( سورة الرعد ).
ومن العجيب أن كل شجرة تأخذ عبر جذورها كمية من الماء والغذاء اللازم لإنتاج ثمارٍ ذات شكل وطعم مختلف.
وهذا ما جعلنا نقول من قبل : إن افتراضات العلماء المتخصصين في علوم النبات عن أن النباتات تتغذى بخاصية الأنابيب الشعرية هو افتراض غير دقيق.
فلو كان الأمر كذلك لأخذت الأنابيب الشعرية الخاصية بنبات المواد التي أخذتها الأنابيب الشعرية الخاصة بنبات آخر. والأمر ليس كذلك، فكل نبات يأخذ من الأرض ما يخصه فقط، ويترك ما عدا ذلك.
ذلك أن الثمار لكل نبات تختلف ولا تتشابه ؛ بل إن الشجرة الواحدة تختلف ثمارها من واحدة إلى أخرى.
مثال هذا : هو شجرة المانجو أو النخلة المثمرة، ويمكنك أن تلاحظ نفسك، وسترى أنك تنتقي من ثمار المانجو القادمة من شجرة واحدة ما يعجبك، وترفض غيرها من الثمار، وسترى أنك تنتقي من ثمار البلح القادم من نخلة واحدة ما يروق لك ؛ وترفض بعضاً من ثمار نفس النخلة.
وحين تذهب لشراء الفاكهة ؛ فأنت تشتري حسب موقفك في الادخار ؛ فإن كنت تحب الادخار فسوف تشتري الفاكهة التي من الدرجة الثانية ؛ وإذا كنت تحب أن تستمتع بالطيب من تلك الفاكهة فسوف تشتري من الفاكهة المتميزة.
وأتحدى أن يقف واحد أمام قفص للفاكهة، وينتقي الثمار غير الجميلة الشكل والرونق، بل يحاول كل إنسان أن يأخذ الجميل والطيب من تلك الفاكهة، وحين يدفع ثمن ما اشترى سنجده يدفع النقود الورقية القديمة التي توجد في جيبه، وسيحتفظ لنفسه بالنقود الجديدة.
وهذا الموقف يغلب على مواقف أي إنسان، فهو مقبل دائماً على رفض أخذ السيئ ؛ وخائف دائماً من التفريط في الحسن. والحق سبحانه يقول :﴿ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق.. " ١٠٠ " ﴾( سورة الرعد ).
وأنت لا تجد في الثمار تشابهاً، بل اختلافاً في الطعم من نوع إلى نوع ؛ كذلك تجد اختلافاً في طريقة تناولها ؛ فلا أحد منا يأكل البلحة بكاملها، بل نأكل ثمرة البلحة بعد أن نخرج منها النواة ؛ ونأكل ثمرة التين بأكملها، ونخرج ما في قلب حبة المشمش من بذرة جامدة، ثم نأكل المشمشة من بعد ذلك.
فكل ثمرة لها نظام خاص ؛ وليست مسألة ميكانيكية في عطاء الله لثمار متشابهة ؛ بل هناك اختلاف، ويمتد هذا الاختلاف إلى أدق التفاصيل ؛ لدرجة أنك حين تتناول قطفاً من العنب تجد اختلافاً لبعض من حبات العنب عن غيرها.
ونحن لا نفضل بعضاً من الفاكهة على البعض الآخر في الأكل فقط بل نفضل في الصنف الواحد بعضاً من ثماره عن البعض الآخر.
وحين تقرأ :﴿ نفضل بعضها على بعض في الأكل.. " ٤ " ﴾( سورة الرعد ).
فأعلم أنه لا يوجد شيء أو أمر مفضل على إطلاقه، وأمر آخر مفضول على إطلاقه، فما دمنا نفضل بعضه على البعض الآخر ؛ فهذا يعني أن كلاً منهما مفضل في ناحية، ومفضول عليه في ناحية أخرى.
والمثل الواضح أمامنا جميعاً أننا حين نجلس إلى مائدة عليها ديك رومي قد تجد يدك تتجه إلى طبق " المخلل " قبل أن تمتد يدك إلى الديك الرومي ؛ لأن " نفسك " قد طلبته أولاً، فلا تقل : إن هناك شيئا مفضولاً عليه طوال الوقت، أو شيئاً مفضلاً كل الوقت.
وكذلك الناس ؛ إياك أن تظن أن هناك إنساناً فاضلاً على إطلاقه ؛ وآخر مفضولاً على إطلاقه ؛ بل هناك إنسان فاضل في ناحية ومفضول عليه في ناحية أخرى.
والمثل : هو صاحب السيارة الفارهة ؛ ثم ينفجر إطار سيارته ؛ فيتمنى أن يرزقه الله بمن يمر عليه ليقوم بتغيير إطار السيارة ؛ فيمر عليه هذا الإنسان صاحب الملابس غير النظيفة بما عليها من شحوم ؛ فيكون هذا الإنسان افضل منه في قدرته على فك الإطار المنفجر بالإطار السليم الاحتياطي.
وهكذا نشر الله الفضل على الناس ليحتاج بعضهم لبعض ؛ ولذلك أقول : حين تجد نفسك فاضلاً في ناحية إياك أن تقع في الغرور ؛ واسأل نفسك : ما الذي يفضل عليك فيه غيرك ؟ وتذكر قول الحق سبحانه :﴿ لا يسخر قوم من قومٍ عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساءٍ عسى أن يكن خيرً منهن.. " ١١ " ﴾( سورة الحجرات ).
وهكذا شاء الحق سبحانه أن يوزع الفضل بين الناس، ليحتاج كل منهم الآخر، وليتكامل المجتمع. وكذلك وزع سبحانه الفضل في الأطعمة والفواكه والثمار، وانظر إلى نفسك لحظة أن تقدم لك أصناف متعددة من الفاكهة ؛ فقد تأخذ ثمرة من الجميز قبل أن تأخذ ثمرة من التفاح ؛ فساعة طلبت نفسك ثمرة الجميز صارت في تقدير الموازين والتبادل هي الأفضل، وكل إنسان يمكن أن يجد ذلك فيما يخصه أو يحبه.
والحق سبحانه هو القائل :﴿ وكل شيءٍ عنده بمقدار " ٨ " ﴾( سورة الرعد ).
ولذلك نجد الإنسان وهو يلون ويتفنن في صناعة الطعام، ويختلف إقبال الأفراد على الأطعمة المنوعة، وقد تجد اثنين يقبلان على لحم الدجاج ؛ لكن أحدهما يفضل لحم الصدر ؛ والآخر يفضل لحم " الورك "، وتجد ثالثاً يفضل لحم الحمام ؛ وتجد رابعاً يفضل تناول السمك.
بل إنك تجد اختلافاً في طريقة تناول من يحبون السمك ؛ فمنهم من يحب أكل رأس السمكة، ومنهم من يحب لحم السمكة نفسها، ولا أحد يملك معرفة السبب في اختلاف الأمزجة في الانجذاب إلى الألوان المختلفة من الأطعمة. وحين تتأمل تلك المسألة قد يأتي إلى خاطرك قول الحق سبحانه :﴿ كيف تكفرون بالله.. " ٢٨ " ﴾( سورة البقرة ).
والسؤال هنا من الله للتعجب ؛ والتعجب عادة يكون من شيء خفي سببه، فهل يخفي سبب على الله ليتعجب ؟ طبعاً، فسبحانه منزه عن ذلك، وسبحانه يعلم سبب كفر الكافرين ؛ لكنه ينكر عليهم أسباب الكفر.
والمثل من حياتنا ولله المثل الأعلى فأنت تجد نفسك وأنت تنطق بكلمة " كيف تسب أباك ؟ " لإنسان يوجه كلمات جارحة لوالده ؛ فتتعجب لتنكر ما فعله هذا الإنسان.
وكذلك القول : كيف تكفرون بالله ؟ لأن الكفر شيء لا يتأتى من عاقل. وكان لنا شيخ هو فضيلة العالم احمد الطويل ؛ وكان يحدثنا عن شيخ له حين كان يقرأ قول الحق سبحانه :
﴿ كيف تكفرون بالله.. " ٢٨ " ﴾( سورة البقرة )كان يقول : إن الخطاب هنا عام لكل إنسان ؛ لأن الحق بعدها يأتي بالقضية العامة :{ وكنتم أمواتا
فمعنى هذا أنه سبحانه ينكر أن يكفر الإنسان مع قيام الأدلة على الإيمان ؛ لكن بعضاً من الناس رغم ذلك يكفر بالله. وقول الحق سبحانه :﴿ وإن تعجب.. " ٥ " ﴾( سورة الرعد )
هو خطاب موجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعجب من أنهم كانوا يسمونه قبل أن يبعثه الله رسولاً بالصادق الأمين ؛ وبعد ما جاءت الرسالة قالوا : إنه ساحر كذاب.
فكيف يكون صادقاً أميناً ببشريته وذاتيته ؛ ثم إذا أمده الحق سبحانه بالمدد الرسالي تتهمونه بالكذب ؟ ألم يكن من الأجدر أن تقولوا إنه صار أكثر صدقاً ؟ وهل من الممكن أن يكون صادقاً عندكم، ثم يكذب على الله ؟.
والتعجب أيضاً من أنهم أنكروا البعث من بعد الموت، رغم أنه سبحانه أوضح الأدلة على ذلك ؛ ولكن المؤمنين وحدهم هم الذين استقبلوا أمر البحث بالتصديق ؛ بمجرد أن أبلغهم به رسول الله مبلغاً عن ربه. ونجد الحق سبحانه وتعالى قد احترم فضول العقل البشري، فأوضح سبحانه ذلك ونصب الأدلة عليه ؛ وأبلغنا أنه لم يعجز عن الخلق الأول ؛ لذلك لن يعجز عن البعث.
فقد جاء بنا سبحانه من عدم، وفي البعث سيأتي بنا من موجود، ومن الغباء إذن أن يتشكك أحد في البعث، والمسرف على نفسه إنما ينكر البعث ؛ لأنه لا يقدر على ضبط النفس ؛ ويظن أنه بإنكار البعث لن يلقى المصير الأسود الذي سيلقاه في الآخرة.
ولذلك تجد المسرفين على أنفسهم يحاولون التشكيك في البعث ويأتي الحق سبحانه بتشكيكهم هذا في قول الحق سبحانه :﴿ وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر.. " ٢٤ " ﴾( سورة الجاثية )
ولو أن الواحد منهم وضع مسألة البعث في يقينه لانصرف عن شهواته، بينما هو يريد أن ينطلق بالشهوات ؛ ولذلك نجدهم يقولون :﴿ أئذا ضللنا في الأرض.. " ١٠ " ﴾( سورة السجدة )
وهم يقصدون بذلك أنهم بعد الموت سيصيرون تراباً، ويعودون إلى الأرض كعناصر وتراب تذروه الرياح، فكيف سيأتي بهم الله للبعث، وينشئهم من جديد ؟ ويقول سبحانه :
﴿ قال من يحيي العظام وهي رميم " ٧٨ " قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم " ٧٩ " ﴾( سورة يس ).
ومن الكافرين من قال : سنصير تراباً، ثم نختلط بالتربة، ويتم زراعة هذه التربة، فتمتزج عناصرنا بما تنبته الأرض من فواكه وخضر وأشجار ؛ ثم يأكل طفل من الثمرة التي تغذت بعناصرنا ؛ فيصير بعض منا في مكونات هذا الطفل ؛ والقياس يوضح أننا سوف نتناثر ؛ فكيف يأتي بنا الله ؟.
كل ذلك بطبيعة الحال من وسوسة الشيطان ووحيه :﴿ وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم.. " ١٢١ " ﴾( سورة الأنعام ).
وأقول : لنفترض أن إنساناً قد مرض ؛ وأصابه هزال، وفقد ثلاثين كيلوجراماً من وزنه، وما نزل من هذا الوزن لابد أنه قد ذهب إلى الأرض كعناصر اختلطت بها، ثم جاء طبيب قام بتشخيص الداء وكتب الدواء، وشاء الله لهذا المريض الشفاء واسترد وزنه، وعاد مرة أخرى لحالته الطبيعية ؛ فهل الثلاثين كيلو جراماً التي استردها هي هي نفس الكمية بنوعيتها وخصوصيتها التي سبق أن فقدها ؟ طبعاً لا.
وهكذا نفهم أن التكوين هو تكوين نسبي للعناصر، كذا من الحديث ؛ كذا من الصوديوم ؛ كذا من المغنسيوم ؛ وهكذا. إذن : فالجزاء في اليوم الآخر عملية عقلية لازمة، يقول الحق :
﴿ كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون " ٢٨ " ﴾
( سورة البقرة )مادام هناك أمر ؛ وهناك نهي ؛ وهناك نهي ؛ وهناك منهج واضح يبين كل شيء. وإن كنت تعجب يا محمد من الكفار وما يثيرونه من أقضية، فلك أن تعجب لأنها أمور تستحق العجب. والحق سبحانه حين يخاطب الخلق فهو يخاطبهم إما في أمر يشكون فيه، أو في أمر لا يشك فيه أحد.
والمثل من حياتنا ولله المثل الأعلى حين تخاطب أنت واحداً في أمر يشك هو فيه ؛ فأنت تحاول أن تؤكد هذا الأمر بكل الطرق، وهكذا وجدنا بعضاً من الناس ينكرون البعث والحساب ؛ ووجدنا الحق سبحانه وتعالى يذكرهم به عبر رسوله ويؤكده لهم.
وأيضاً خاطبهم الحق سبحانه فيما لم يشكوا فيه ؛ وهو الموت ؛ وقال :﴿ كل نفس ذائقة الموت.. " ١٨٥ " ﴾( سورة آل عمران ).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " ما رأيت يقيناً أشبه بالشك من يقين الناس بالموت "
فالموت يقين، ولكن لا أحد يحاول التفكير في أنه قادم، وسبحانه يقول :﴿ ثم إنكم بعد ذلك لميتون " ١٥ " ﴾( سورة المؤمنون ).
وهذا تأكيد لأمر يجمع الناس على أنه واقع، لكنهم لغفلتهم عنه بدوا كالمنكرين له، لذلك خاطبهم خطاب المنكرين، ثم قال بعد ذلك :﴿ ثم إنكم يوم القيامة تبعثون " ١٦ " ﴾( سورة المؤمنون ).
ولم يقل : " ولتبعثون " لأن البعث مسألة لا تحتاج إلى تأكيد، وعدم التأكيد هنا أكد من التأكيد، لأن أمر الموت واضح جداً رغم الغفلة عنه، أما البعث فهو واقع لا محالة بحيث لا يحتاج إلى تأكيد.
والمثل من حياتنا ولله المثل الأعلى يذهب الإنسان إلى الطبيب ؛ فيقول له الطبيب بعد الكشف عليه " اذهب فلن اكتب لك دواء ". وهذا القول يعني أن هذا الإنسان في تمام الصحة ؛ وكأن كتابة الدواء يحمل شبهة أن هناك مرضاً.
وكذلك الحق سبحانه يخاطب الخلق في الشيء الذي ينكرونه وعليه دليل واضح ؛ فيأتي خطابه لهم بلا تأكيد ؛ وهو يوضح بتلك الطريقة أنهم على غير حق في الإنكار، أما الشيء الذي يتأكدون منه وهم غافلون عنه ؛ فهو يؤكده لهم ؛ كي لا يغفلوا عنه. وكذلك في القسم ؛ فنجده سبحانه قد أقسم بالتين والزيتون ؛ وأقسم بالقرآن الحكيم ؛ وأقسم بغير ذلك، ونجده في مواقع أخرى يقول :﴿ لا أقسم بهذا البلد " ١ " وأنت حل بهذا البلد " ٢ " ووالد وما ولد " ٣ " ﴾( سورة البلد )
﴿ لقد خلقنا الإنسان في كبدٍ " ٤ " ﴾( سورة البلد )
﴿ لا أقسم.. " ١ " ﴾( سورة البلد )
ثم يأتي بجواب القسم ؟ وأقول : لقد جاء هنا بقوله :
﴿ لا أقسم.. " ١ " ﴾( سورة البلد )
وكأنه يوضح ألا حق لكم في الإنكار ؛ ولذلك ما كان يصح أن أقسم لكم، ولو كنت مقسماً ؛ لأقسمت بكذا وكذا. وسبحانه يقول في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :
﴿ وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا تراباً لفي خلقٍ جديدٍ.. " ٥ " ﴾( سورة الرعد )
وهو جل وعلا يذكرهم بما كان يجب ألا ينسوه ؛ فقد خلقهم من تراب ؛ وخلق التراب من عدم، وهو القائل :﴿ أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبسٍ من خلقٍ جديدٍ " ١٥ " ﴾( سورة ق )
إذن : فسبحانه يتعجب من أمر هؤلاء ؛ ويزيد من العجب أنهم كذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم بعد أن جربوا فيه الصدق، ولمسوا منه الأمانة ؛ وقالوا عنه ذلك من قبل أن يبعث ؛ وفوق ذلك أنكروا البعث مع قيام الدليل عليه. ويصفهم الحق سبحانه :
﴿ أولئك الذين كفروا بربهم.. " ٥ " ﴾( سورة الرعد )أي : أن هؤلاء المكذبين لك يا محمد والمنكرين للبعث لم يكفروا فقط بالله الذي أوجب التكليف العبادي ؛ بل هم يكفرون بالربوبية التي تعطي المؤمن والكافر ؛ والطائع والعاصي، وتأتمر بأمرها الأسباب لتستجيب لأي مجتهد يتبع قوانين الاجتهاد، فيأخذ من عطاءات الربوبية ؛ وهي عطاءات التشريف التي تضمن الرزق، بينما عطاءات الألوهية ؛ هي تكليفات بالطاعة للأوامر التعبدية ؛ الممثلة في " افعل " و " لا تفعل ".
وسبحانه لا يكلف الإنسان إلا بعد أن يبلغ الإنسان درجة النضج التي تؤهله ؛ لأن ينجب مثيلاً له ؛ وقد ترك الحق سبحانه كل إنسان يرتع في خير النعم التي أسبغها سبحانه على البشر، وكان على الإنسان أن يسعى إلى الإيمان فور أن تصله الدعوة من الرسول المبلغ عن الله ؛ هذا الرسول المشهود له بالصدق والأمانة. ولذلك نجد الحق سبحانه وهو يصف المنكرين للإيمان :﴿ أولئك الذين كفروا بربهم.. " ٥ " ﴾( سورة الرعد )
ويضيف :﴿ وأولئك الأغلال في أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون " ٥ " ﴾( سورة الرعد )والغل : هو طوق الحديد الذي له طرف في كل يد ليقيدها ؛ وطرف معلق في الرقبة ليقلل من مساحة حركة اليدين، ولمزيد من الإذلال. وهم أصحاب النار ؛ وكلمة " صاحب " تطلق على من تعرفه معرفة تروق كيانك وذاتك ؛ فهناك من تصاحبه ؛ وهناك من تصادقه ؛ وهناك من تؤاخيه ؛ وهناك من تعرفه معرفة سطحية، ولا تقيم علاقة عميقة معه.
إن المعرفة مراتب، والصحبة تآلف وتجاذب بين اثنين ؛ ومن يصاحب النار فهو من تعشقه النار، ويجب كل منهما ملازمة الآخر ألا تقول النار لربها يوم القيامة :﴿ هل من مزيد " ٣٠ " ﴾( سورة ق )أي : أن العذاب نفسه يكون مشوقاً أن يصل إلى العاصي.
وكل اختيار للتعجل أو الاستبطاء له مميزاته وعيوبه، فهل الاستعجال هنا لمصلحة أمر مطلوب ؟ إنهم هنا يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة، وهذا دليل على اختلال وخلف موازين تفكيرهم، وقد سبق لهم أن قالوا :﴿ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " ٩٠ " أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا " ٩١ " أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا.. " ٩٢ " ﴾( سورة الإسراء ).
وهكذا نجد هؤلاء الكافرين وهم يستعجلون بالسيئة قبل الحسنة، كما استعجلوا أن تنزل عليهم الحجارة، وهم لا يعرفون أن كل عذاب له مدة، وله ميعاد موقوت. ولم يفكروا في أن يقولوا : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه ". بل إنهم قالوا :﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " ٣٢ " ﴾( سورة الأنفال ).
وهكذا أوضح لنا الحق سبحانه ما وصلوا إليه من خلل في نفوسهم وفسادهم ؛ ذلك أن مقاييسهم انتهت إلى الكفر، وليس أدل على فساد المقاييس إلا استعجالهم للسيئة قبل الحسنة ؛ لأن العاقل حين يخير بين أمرين ؛ فهو يستعجل الحسنة ؛ لأنها تنفع، ويستبعد السيئة.
ومادامت نفوس هؤلاء الكافرين فاسدة ؛ ومادامت مقاييسهم مختلة، فلابد أن السبب في ذلك هو الكفر.
إذن : فاستعجال السيئة قبل الحسنة بالنسبة للشخص أو للجماعة ؛ دليل حمق الاختيار في البدائل ؛ فلو أنهم أرادوا الاستعجال الحقيقي للنافع لهم ؛ لاستعجلوا الحسنة ولم يستعجلوا السيئة. وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات.. " ٦ " ﴾ ( سورة الرعد ).
فلماذا يستعجلون العذاب ؟ ألم ينظروا ما الذي حاق بالذين كذبوا الرسل من قبلهم ؟ وحين يقول الرسول : احذروا أن يصيبكم عذاب، أو احذروا أن كذا وكذا ؛ فهل في ذلك كذب ؟ ولماذا لم ينظروا للعبر التي حدثت عبر التاريخ للأقوام التي كذبت الرسل من قبلهم ؟
و " المثلات " جمع " مثلة " ؛ وفي قول آخر " مثلة ". والحق سبحانه يقول لنا :﴿ وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به.. " ١٢٦ " ﴾( سورة النحل )
ويقول أيضاً :﴿ وجزاء سيئةٍ سيئة مثلها.. " ٤٠ " ﴾( سورة الشورى )
وهكذا تكون " مثلات " من المثل ؛ أي : أن تكون العقوبة مماثلة للفعل. وقول الحق سبحانه :﴿ وقد خلت من قبلهم المثلات.. " ٦ " ﴾( سورة الرعد )يعني : أنه سبحانه سبق وأنزل العذاب بالمثيل لهم من الأمم السابقة التي كذبت الرسل ؛ إما بالإبادة إن كان ميئوساً من إيمانهم، وإما بالقهر والنصر عليهم. ويتابع سبحانه في نفس الآية :﴿ وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم.. " ٦ " ﴾( سورة الرعد )أي : أنه سبحانه لا يعجل العذاب لمن يكفرون ؛ لعل رجلاً صالحاً يوجد فيهم، وقد صبر سبحانه على أبي جهل ؛ فخرج منه عكرمة بن أبي جهل ؛ وهو الصحابي الصالح ؛ وصبر على خالد بن الوليد فصار سيف الله المسلول، بعد أن كان أحد المقاتلين الأشداء في معسكر الكفر.
وتحمل لنا أخبار الصحابة كيف قاتل عكرمة بن أبي جهل ؛ إلى أن أصيب إصابة بالغة، فينظر إلى خالد بن الوليد قائلاً : أهذه ميتة ترضي عني رسول الله ؟.
وتحمل لنا أخبار الصحابة كيف حزن واحد من المقاتلين المسلمين لحظة أن أفلت من خالد بن الوليد أيام أن كان على الكفر ؛ وهو لا يعلم أن الحق سبحانه قد ادخر خالداً ليكون سيف الله المسلول من بعد إسلامه.
وهكذا شاء الحق أن يفلت بعض من صناديد قريش من القتل أيام أن كانوا على الكفر، كي يكونوا من خيرة أهل الإسلام بعد ذلك. ويتابع سبحانه :﴿ وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم.. " ٦ " ﴾( سورة الرعد ).
فمع أن الناس ظالمون ؛ فسبحانه يغفر لهم ؛ لأنه سبحانه أفرح بعبده التائب المؤمن من أحدكم، وقد وقع على بعيره، وقد أضله في فلاة. ولذلك أرى أن من يعير عبداً بذنب استغفر منه الله ؛ هو إنسان آثم ؛ ذلك أن العبد قد استغفر الله ؛ فلا يجب أن يحشر أحد أنفه في هذا الأمر. ونلحظ هنا قول الحق سبحانه :﴿ على ظلمهم.. " ٦ " ﴾( سورة الرعد )
وفي هذا القول يجد بعض العلماء أن الله قد استعمل حرفاً بدلاً من حرف آخر ؛ فجاءت " على " بدلاً من " مع ". ونلحظ أن " على " هي ثلاثة حروف ؛ و " مع " مكونة من حرفين ؛ فلماذا حذف الحق سبحانه الأخف وأتى ب " على " ؟ لابد أن وراء ذلك غاية. أقول : جاء الحق سبحانه ب " على " في قوله :
﴿ وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم.. " ٦ " ﴾( سورة الرعد )ليؤكد لنا أن ظلم الناس كان يقتضي العقوبة ؛ ولكن رحمته سبحانه تسيطر على العقوبة. وهكذا أدت كلمة " على " معنى " مع "، وأضافت لنا أن الحق سبحانه هو المسيطر على العقوبة ؛ وأن رحمة الله تطغى على ظلم العباد. ومثل ذلك قوله سبحانه :﴿ ويطعمون الطعام على حبه.. " ٨ " ﴾( سورة الإنسان )أي : أنهم يحبون الطعام حباً جماً ؛ لكن إرادة الحفاوة والكرم تطغى على حب الطعام. ولكن لا يجب أن يظن الناس أن رحمة الله تطغى على عقابه دائماً ؛ فلو ظن البعض من المجترئين هذا الظن ؛ وتوهموا أنها قضية عامة ؛ لفسد الكون ؛ ولذلك ينهي الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله :
﴿ وإن ربك لشديد العقاب " ٦ " ﴾( سورة الرعد )أي : أنه سبحانه قادر على العقاب العظيم، وهكذا جمعت الآية بين الرجاء والتخويف.
وظاهر كلام الكفار في هذه الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها أنهم يطلبون آية لتأييد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في البيان الذي يحمله من الحق لهم، وكأنهم بهذا القول ينكرون المعجزة التي جاء بها صلى الله عليه وسلم وهي القرآن الكريم، رغم أنهم أمة بلاغة وأدب وبيان، وأداء لغوي رائع ؛ وأقاموا أسواقاً للأدب، وخصصوا الجوائز للنبوغ الأدبي ؛ وعلقوا القصائد على جدران الكعبة، وتفاخرت القبائل بمن أنجبتهم من الشعراء ورجال الخطابة.
فلما نزل القرآن من جنس نبوغكم ؛ وتفوق على بلاغتكم ؛ ولم تستطيعوا أن تأتوا بآية مثل آياته ؛ كيف لم تعتبروه معجزة ؛ وتطالبون بمعجزة أخرى كمعجزة موسى عليه السلام ؛ أو كمعجزة عيسى عليه السلام ؟ لقد كان عليكم أن تفخروا بالمعجزة الكاملة التي تحمل المنهج إلى قيام الساعة.
ولكن الحمق جعلهم يطلبون معجزة غير القرآن، ولم يلتفتوا إلى المعجزات الأخرى التي صاحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يلتفتوا إلى أن الماء قد نبع من أصابع صلى الله عليه وسلم ؛ والطعام القليل أشبع القوم وفاض منه، والغمامة قد ظللته، وجذع النخلة قد أنُ بصوت مسموع عندما نقل رسول الله منبره ؛ بعد أن كان صلى الله عليه وسلم يخطب من فوق الجذع. وقد يكونون أصحاب عذر في ذلك ؛ لأنهم لم يروا تلك المعجزات الحسية ؛ بحكم أنهم كافرون ؛ واقتصرت رؤياهم على من آمنوا برسالته صلى الله عليه وسلم.
وهكذا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحرم من المعجزات الكونية ؛ تلك التي تحدث مرة واحدة وتنتهي ؛ وهي حجة على من يراها ؛ وقد جاءت لتثبت إيمان القلة المضطهدة ؛ فحين يرون الماء متفجراً بين أصابعه، وهم مزلزلون بالاضطهاد ؛ هنا يزداد تمسكهم بالرسول صلى الله عليه وسلم. ولكن الكافرين لم يروا تلك المعجزات.
وكان عليهم الاكتفاء بالمعجزة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم :( القرآن كافيني )، والقرآن معجزة من جنس ما نبغتم فيه أيها العرب، ومحمد رسول من أنفسكم، لم يأت من قبيلة غير قبيلتكم، ولسانه من لسانكم، وتعلمون أنه لم يجلس إلى معلم ؛ ولا علم عنه أنه خطب فيكم من قبل، ولم يقرض الشعر، ولم يعرف عنه أنه خطيب من خطباء العرب. ولذلك جاء الحق سبحانه بالقول على لسانه :
﴿ قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون " ١٦ " ﴾( سورة يونس )أي : أنني عشت بينكم ولم أتكلم بالبلاغة ؛ ولم أنافس في أسواق الشعر ؛ وكان يجب أن تؤمنوا أنه قول من لدن حكيم عليم. ولكن منهم من قال : " لقد كان يكتم موهبته وقام بتأجيلها ". وهؤلاء نقول لهم : هل يمكن أن يعيش طفل يتيم الأب وهو في بطن أمه ؛ ثم يتيم الأم وهو صغير، ويموت جده وهو أيضاً صغير، ورأى تساقط الكبار من حوله بلا نظام في التساقط ؛ فقد ماتوا دون مرض أو سبب ظاهر ؛ أكان مثل هذا الإنسان يأمن على نفسه أن يعيش إلى عمر الأربعين ليعلن عن موهبته ؟.
ثم من قال : إن العبقرية تنتظر إلى الأربعين لتظهر ؟ وكلنا يعلم أن العبقريات تظهر في أواخر العقد الثاني وأوائل العقد الثالث. ورغم عدم اعترافكم بمعجزة القرآن ؛ هاهو الحق سبحانه يجري على ألسنتكم ما أخفيتموه في قلوبكم ؛ ويظهره الناس في محكم كتابه :
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيمٍ " ٣١ { ( سورة الزخرف )
وهكذا اعترفتم بعظمة القرآن ؛ وحاولتم أن تغالطوا في قيمة المنزل عليه القرآن. ويقول سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :
﴿ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه.. " ٧ " ﴾( سورة الرعد )
فلماذا إذن قلتم واعترفتم أن له رباً ؟ أما كان يجب أن تعترفوا برسالته وتعلنون إيمانكم به وبالرسالة، وقد سبق أن قالوا : إن رب محمد قد قلاه. وهذا القول يعني أنهم اعترفوا بأن له رباً ؛ فلماذا اعترفوا به في الهجر وأنكروه في الوصل.
وإذا كانوا يطلبون منك معجزة غير القرآن فاعلم يا محمد أن ربك هو الذي يرسل المعجزات ؛ وهو الذي يحدد المعجزة بكل رسول حسب ما نبغ فيه القوم المرسل إليهم الرسول، وأنت يا محمد منذر فقط ؛ أي محذر :﴿ إنما أنت منذر ولكل قومٍ هادٍ " ٧ " ﴾( سورة الرعد )، فكل قوم لهم هادٍ، يهديهم بالآيات التي تناسب القوم ؛ فبنو إسرائيل كانوا متفوقين في السحر ؛ لذلك جاءت معجزة موسى من لون ما نبغوا فيه ؛ وقوم عيسى كانوا متفوقين في الطب ؛ لذلك كانت معجزة عيسى من نوع ما نبغوا فيه.
وهكذا نرى أن لكل قوم هادياً، ومعه معجزة تناسب قومه ؛ ولذلك رد الله عليهم الرد المفحم حين قالوا :﴿ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " ٩٠ " أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا " ٩١ " أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلا " ٩٢ " أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه.. " ٩٣ " ﴾( سورة الإسراء )
فيقول الحق سبحانه :﴿ قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا " ٩٣ " وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا " ٩٤ " قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا " ٩٥ " ﴾( سورة الإسراء )
ويأتي الرد من الحق سبحانه :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون.. " ٥٩ " ﴾( سورة الإسراء )أي : أن قوماً قبلكم طلبوا ما أرادوا من الآيات ؛ وأرسلها لهم الله ؛ ومع ذلك كفروا ؛ لأن الكفر يخلع ثوب العناد على الكافر ؛ لأن الكافر مصمم على الكفر.
لقد شاء الحق سبحانه أن يؤكد مسألة أن لكل قوم هادياً، وأن رسوله صلى الله عليه وسلم هو منذر، وأن طلبهم للآيات المعجزة هو ابن لرغبتهم في تعجيز الرسول صلى الله عليه وسلم. ولو جاء لهم الرسول بآية مما طلبوا لأصروا على الكفر، فهو سبحانه العالم بما سوف يفعلون، لأنه يعلم ما هو أخفى من ذلك ؛ يعلم على سبيل المثال ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد.
ونحن نعلم أن كل أنثى حين يشاء الله لها أن تحبل ؛ فهي تحمل الجنين في رحمها ؛ لأن الرحم هو مستقر الجنين في بطن الأم. وقوله تعالى :﴿ وما تغيض الأرحام وما تزداد.. " ٨ " ﴾( سورة الرعد )أي : ما تنقص وما تذهب من السقط في أي إجهاض، أو ما ينقص من المواليد بالموت ؛ فغاضت الأرحام، أي : نزلت المواليد قبل أن تكتمل خلقتها ؛ كأن ينقص المولود عيناً أو إصبعاً ؛ أو تحمل الخلقة زيادة تختلف عما نألفه من الخلق الطبيعي ؛ كأن يزيد إصبع أو أن يكون برأسين.
أو أن تكون الزيادة في العدد ؛ أي : أن تلد المرأة توأمان أن أكثر، أو أن تكون الزيادة متعلقة بزمن الحمل.
وهكذا نعلم أنه سبحانه يعلم ما تغيض الأرحام. أي : ما تنقصه في التكوين العادي أو تزيده، أو يكون النظر إلى الزمن ؛ كأن يحدث إجهاض للجنين وعمره يوم أو شهر أو شهران، ثم إلى ستة أشهر ؛ وعند ذلك لا يقال إجهاض ؛ بل يقال ولادة.
وهناك من يولد بعد ستة شهور من الحمل أو بعد سبعة شهور أو ثمانية شهور ؛ وقد يمتد الميلاد لسنتين عند أبي حنيفة ؛ وإلى أربع سنوات عند الشافعي ؛ أو لخمس سنين عند الإمام مالك، ذلك أن مدة الحمل قد تنقص أو تزيد.
ويقال : إن الضحاك ولد لسنتين في بطن أمه، وهرم بن حيان ولد لأربع سنين ؛ وظل أهل أمه يلاحظون كبر بطنها ؛ واختفاء الطمس الشهري طوال تلك المدة ؛ ثم ولدت صاحبنا ؛ ولذلك سموه " هرم " أي : شاب وهو في بطنها.
وهكذا نفهم معنى " تغيض " نقصاً أو زيادة ؛ سواء في الخلقة أو للمدة الزمنية. ويقول الحق سبحانه :﴿ وكل شيءٍ عنده بمقدار " ٨ " ﴾( سورة الرعد ).
والمقدار هو الكمية أو الكيف ؛ زماناً أو مكاناً، أو مواهب ومؤهلات. وقد عدد الحق سبحانه مفاتيح الغيب الخمس حين قال :﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام.. " ٣٤ " ﴾( سورة لقمان ).
وقد حاول البعض أن يقيموا إشكالاً هنا، ونسبوه إلى الحضارة والتقدم العلمي، وهذا التقدم يتطرق إليه الاحتمال، وكل شيء يتطرق إليه الاحتمال يبطل به الاستدلال، وذلك بمعرفة نوعية الجنين قبل الميلاد، أهو ذكر أم أنثى ؟ وتناسوا أن العلم لم يعرف أهو طويل أم قصير ؟ ذكي أم غبي ؟ شقي أم سعيد ؟ وهذا ما أعجز الأطباء والباحثين إلى اليوم وما بعد اليوم. ثم إن سألت كيف عرف الطبيب ذلك ؟.
إنه يعرف هذا الأمر من بعد أن يحدث الحمل ؛ ويأخذ عينة من السائل المحيط بالجنين، ثم يقوم بتحليلها، لكن الله يعلم دون أخذ عينة، وهو سبحانه الذي قال لواحد من عباده :
﴿ يا زكريا إنا نبشرك بغلامٍ اسمه يحيى.. " ٧ " ﴾( سورة مريم )وهكذا نعلم أن علم الله لا ينتظر عينة أو تجربة، فعلمه سبحانه أزلي ؛ منزه عن القصور، وهو يعلم ما في الأرحام على أي شكل هو أو لون أو جنس أو ذكاء أو سعادة أو شقاء أو عدد.
وشاء سبحانه أن يجلي طلاقة قدرته في أن تحمل امرأة زكريا عليه السلام في يحيى عليه السلام، وهو الذي خلق آدم بلا أب أو أم ؛ ثم خلق حواء من أب دون أم ؛ وخلق عيسى من أم دون أب، وخلقنا كلنا من أب وأم، وحين تشاء طلاقة القدرة ؛ يقول سبحانه :﴿ كن فيكون " ٨٢ " ﴾( سورة يس )والمثل كما قلت هو في دخول زكريا المحراب على مريم عليها السلام ؛ فوجد عندها رزقاً ؛ فسألها :﴿ إني لك هذا.. " ٣٧ " ﴾( سورة آل عمران )
قالت :﴿ هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حسابٍ " ٣٧ " ﴾( سورة آل عمران )
وكان زكريا يعلم أن الله يرزق من يشاء بغير حساب ؛ ولكن هذا العلم كان في حاشية شعوره ؛ واستدعاه قول مريم إلى بؤرة الشعور، فزكريا يعلم علم اليقين أن الله هو وحده من يرزق بغير حساب.
وما أن يأتي هذا القول محركاً لتلك الحقيقة الإيمانية من حافة الشعور إلى بؤرة الشعور ؛ حتى يدعو زكريا ربه في نفس المكان ليرزقه بالولد ؛ فيبشره الحق بالولد.
ومن كل شيء عنده بمقدار ؛ لا يغيب عنه شيء أبداً، وما يحدث لأي إنسان في المستقبل بعد أن يولد هو غيب ؛ لكن المطلع عليه وحده هو الله. وكأن هناك " نموذجاً " مصغراً يعلمه الله أولاً ؛ وإن اطلع عليه الإنسان في أواخر العمر ؛ لوجده مطابقاً لما أراده وعلمه الله أولاً ؛ فلا شيء يتأبى عليه سبحانه ؛ فكل شيء عنده بمقدار.
وهو عالم الغيب والشهادة ؛ يعلم ما خفي من حجاب الماضي أو المستقبل، وكل ما غاب عن الإنسان، ويعلم من باب أولى المشهود من الإنسان، فلم يقتصر علمه على الغيب، وترك المشهود بغير علم منه ؛ لا بل هو يعلم الغيب ويعلم المشهود :
﴿ عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال " ٩ " ﴾( سورة الرعد )والكبير اسم من أسماء الله الحسنى ؛ وهناك من تساءل : ولماذا لا يوجد " الأكبر " ضمن أسماء الله الحسنى ؛ ويوجد فقط قولنا " الله اكبر " في شعائر الصلاة ؟.
وأقول : لأن مقابل الكبير الصغير، وكل شيء بالنسبة لموجده هو صغير. ونحن نقول في أذان الصلاة " الله اكبر " ؛ لأنه يخرجك من عملك الذي أوكله إليك، وهو عمارة الكون ؛ لتستعين به خلال عبادتك له وتطبيق منهجه، فيمدك بالقوة التي تمارس بها إنتاج ما تحتاجه في حياتك من مأكل، وملبس، وستر عورة.
إذن : فكل الأعمال مطلوبة حتى لإقامة العبادة، فإياك أن تقول : إن الله كبير والباقي صغير، لأن الباقي فيه من الأمور ما هو كبير من منظور أنها نعم من المنعم الأكبر ؛ ولكن الله اكبر منا ؛ ونقولها حين يطلب منا أن نخرج من أعمالنا لنستعين بعبادته سبحانه.
ونعلم أن العمل مطلوب لعمارة الكون، ومطلوب حتى لإقامة العبادة، ولن توجد لك قوة لتعبد ربك لو لم يقوك ربك على عبادته ؛ فهو الذي يستبقي لك قوتك بالطعام والشراب، ولن تطعم أو تشرب ؛ لو لم تحرث وتبذر وتصنع، وكل ذلك يتيح لك قوة لتصلي وتزكي وتحج ؛ وكل ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وسبق أن قلت : إن الحق سبحانه حينما نادانا لصلاة الجمعة قال :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون " ٩ " ﴾( سورة الجمعة )وهكذا يخرجنا الحق سبحانه من أعمالنا إلى الصلاة الموقوتة ؛ ثم يأتي قول الحق سبحانه :
﴿ فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون " ١٠ " ﴾( سورة الجمعة ).
وهكذا أخرجنا سبحانه من العمل، وهو أمر كبير إلى ما هو اكبر ؛ وهو أداء الصلاة. وقول الحق سبحانه في وصف نفسه ( المتعال )يعني أنه المنزه ذاتاً وصفاتاً وأفعالاً ؛ فلا ذات كذاته ؛ ولا صفة كصفاته، ولا فعل كفعله، وكل ما له سبحانه يليق به وحده، ولا يتشابه أبداً مع غيره.
﴿ الرحمن على العرش استوى " ٥ " له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى " ٦ " وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى " ٧ " ﴾( سورة طه ).
وهل السر هو ما ائتمنت عليه غيرك ؟ إذا كان السر هو ذلك ؛ فالأخفى هو ما بقى عندك، وإن كان السر بمعنى ما يوجد عندك ولم تقله لأحد ؛ فسبحانه يعلمه قبل أن يكون سراً.
ويتابع سبحانه :﴿ ومن هو مستخفٍ بالليل وسارب بالنهار " ١٠ " ﴾( سورة الرعد )، وهكذا جمع الحق سبحانه هنا كل أنواع العمل ؛ فالعمل كما نعلم هو شغل الجوارح بمتعلقاتها ؛ فعمل اللسان أن يقول وأن يذوق، وعمل الأيدي أن تفعل، وعمل الأذن أن تسمع، وعمل القلب هو النية، والعمل كما نعلم يكون مرة قولاً، ومرة يكون فعلاً.
وهكذا نجد " القول " وقد أخذ مساحة نصف " العمل "، لأن البلاغ عن الله قول، وعمل الجوارح خاضع لمقول القول من الحق سبحانه وتعالى.
ولذلك أوضح لنا الحق سبحانه أن العمل هو كل فعل متعلق بالجوارح ؛ وأخذ القول شقاً بمفرده ؛ وأخذت أفعال الجوارح الشق الآخر ؛ لأن عمل بقية الجوارح يدخل في إطار ما سمع من منهج الله. ولذلك تجمع الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها كل العمل من قول وفعل :﴿ سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخفٍ بالليل وسارب بالنهار " ١٠ " ﴾( سورة الرعد ).
ومن يستخفي بالليل لابد أنه يدبر أمراً ؛ كأن يريد أن يتسمع ما وراء كل حركة ؛ أو ينظر ما يمكن أن يشاهده، وكذلك من يبرز ويظهر في النهار فالله عالم به. وكان على الكفار أن ينتبهوا لأمر عجيب كانوا يسرونه في أنفسهم ؛ لحظة أن حكى الله ؛ فقال :﴿ ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول " ٨ " ﴾( سورة المجادلة )فكيف علم الله لولا أنه يعلم السر وأخفي ؟.
والمثل هو تلك الإحصاءات التي خرجت عن البشر الذين تلدغهم الثعابين، فقد ثبت أنها لا تلدغهم وهم نائمون ؛ بل في أثناء صحوتهم ؛ أي : ساعة يكونون في ستر النوم فهناك ما يحفظهم ؛ أما في اليقظة فقد يتصرف الإنسان بطيش وغفلة فتلدغه الأفعى.
ونحن نقول في أمثالنا الشعبية : " العين عليها حارس " ؛ ونلحظ كثيراً من الأحداث التي تبدو لنا غريبة كأن يسقط طفل من نافذة دور علوي ؛ فلا يصاب بسوء ؛ لأن الحق سبحانه شاء أن تحفظه الملائكة المعقبات من السوء ؛ لأن مهمة الحفظة أن يحفظوا الإنسان من كل سوء.
وهكذا نرى أن الحق سبحانه قد أعد للإنسان الكون قبل أن يخلقه ليستخلفه فيه ؛ أعد السماوات وأعد الأرض ؛ وسخر الشمس والقمر ؛ وأخرج الثمرات ؛ وجعل الليل يغشى النهار.
كل ذلك أعده سبحانه للخليفة قبل أن يوجد الخليفة ؛ وهو سبحانه قيوم على هذا الخليفة ؛ فيصونه أيضاً بعد الخلق، ولا يدعه لمقومات نفسه ليدافع عنها فيما لا يستطيع الدفاع عنها، ويكلف الله الملائكة المعقبات بذلك.
وقد ينصرف معنى المعقبات إلى الملائكة الذين يتعقبون أفعال الإنسان وكتابة حسناته وكتابة سيئاته، ويمكن أن يقوما بالعملين معاً ؛ حفظه وكتابة أعماله، فإن كتبوا له الحسنات فهذا لصالحه.
ولقائل أن يقول : ولكنهم سيكتبون السيئات ؛ وهذه على الإنسان وليست له. وأقول : لا ؛ ويحسن أن نفهم جيداً عن المشروع الأعلى ؛ ونعلم أن الإنسان إذا ما عرف أن السيئة ستحسب عليه وتحصى ؛ وتكتب ؛ يمسك كتابه ليقرأه ؛ فلسوف يبتعد عن فعل السيئات.
وهكذا يكون الأمر في مصلحته، مثله مثل الطالب الذي يرى المراقب في لجنة الامتحان، فلا يكرهه ؛ لأنه يحمي حقه في الحصول على التقدير الصحيح ؛ بدلاً من أن يغش غيره، فيأخذ فرصة اكبر منه في التقدير والنجاح ؛ فضلاً عن أن كل الطلبة يعلمون أن وجود المراقب اليقظ هو دافع لهم للمذاكرة.
ولذلك أقول دائماً : إياك أن تكره أن يكون لك أعداء ؛ لأن الذي يغر الإنسان في سلوكه هو نفاق أصحابه له، أما عدوك فهو يفتح عينيه عليك طوال الوقت ؛ ولذلك فأنت تحذر أن تقع في الخطأ. وفي هذا المعنى يقول الشاعر :
عداي لهم فضل علي وميزة فهم كالدواء والشفاء لمزمن هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها فتعدي لهم شكر على نفعهم ليا فلا أبعد الرحمان عني الأعاديا فأصبحت مما ذله العرب خاليا.
إذن : فكتابة الحسنات والسيئات هي مسألة لصالح الإنسان ؛ وحين يتعاقبون على الإنسان ؛ فكأنهم يصنعون دوريات لحماية الفرد ؛ ولذلك نجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ؛ فيصعد إليه الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بكم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهم يصلون " > وكأن الملائكة دوريات. ويقول الحق سبحانه :﴿ إن قرآن الفجر كان مشهوداً " ٧٨ " ﴾( سورة الإسراء )أي : أن ملائكة الليل يشهدون ؛ ومعهم ملائكة النهار. وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ملحوظ فيه الوقت الزمني للحركة الإنسانية ؛ فكل حركات الإنسان وعمله يكون من الصبح إلى العصر، ثم يرتاح الإنسان غالباً من بعد ذلك ؛ ثم ينام.
والمعقبات يكن من بين يدي الإنسان ومن خلفه ؛ و ( من بين يديه )من أجل الرصد، ولذلك وجدنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه أثناء الهجرة النبوية كان يسير بعض الوقت أمام النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وكان يسير البعض الآخر خلف النبي صلى الله عليه وسلم. كان أبو بكر رضي الله عنه يتقدم ليرقب : هل هناك من يرصد الرسول أم لا ؟ ثم يتراجع إلى الخلف ليمسح كل المكان بنظره ليرقب : أهناك من يتتبعهما ؟ وهكذا حرص أبو بكر على أن يحمي الرسول صلى الله عليه وسلم من الرصد أو التربص.
ويقول الحق سبحانه :﴿ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله.. " ١١ " ﴾( سورة الرعد ).
والسطحي يقول : إن تلك الملائكة يحفظون الإنسان من الأمر المراد به من الله.
ونقول : إن الله لم ينزل الملائكة ليعارضوا قدره ؛ وهذا الحفظ لا يكون من ذات الإنسان لنفسه، أو من الملائكة ضد قدر الله ؛ والمعنى هنا ينصرف إلى أن الملائكة إنما يحفظون الإنسان بأمر الله. ولذلك نجد في القرآن قول الحق سبحانه :﴿ مما خطيئاتهم أغرقوا.. " ٢٥ " ﴾( سورة نوح )أي : بسبب خطيئتهم أغرقوا، فإياك أن تظن أن الملائكة يحفظون الإنسان من قدر الله ؛ لأننا نعلم أن الحق سبحانه إذا أراد أمراً فلا راد له.
ويتابع سبحانه :﴿ إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم.. " ١١ " ﴾( سورة الرعد )وهو سبحانه الذي خلق الكون الواسع بكل أجناسه ؛ جماداً ونباتاً وحيواناً وأفلاكاً وأملاكاً ؛ وجعل كل ذلك مسخراً للإنسان ؛ ثم يحفظ الحق سبحانه الإنسان ويصونه بقيوميته. وقد يقول قائل : ولماذا إذن تحدث الابتلاءات لبعض من الناس ؛ رغم أنه سبحانه قد قال إنه يحفظهم ؟
ونقول : إن تلك الابتلاءات إنما تجري إذا ما غير البشر من منهج الله ؛ لأن الصيانة تقوم ما قام بالمنهج. واقرءوا قول الحق سبحانه :﴿ وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون " ١١٢ " ﴾( سورة النحل ).
وهكذا نعلم أن الصيانة للإنسان والحفظ له والإمداد له من قبل أن يولد ؛ كل ذلك لن يرجع عنه الله مادام الإنسان يمشي على صراط مستقيم ؛ لكن إذا ما حاد الإنسان عن الصراط المستقيم ؛ فيلفته الله ببعض من العبر والعظات ليعود إلى الصراط المستقيم.
والتغيير الذي يجريه الله على البشر حتى يغيروا ما بأنفسهم ؛ يشمل الإمدادات الفرعية ؛ أما الإمدادات الأصلية فلا يمنعها عنهم مثل الشمس والقمر والنجوم والهواء ؛ ولم يمنع الأرض أن تخرج لهم المياه.
ويصيبهم في الأشياء التي من الممكن أن يسير الكون في انتظامه رغم حدوثها ؛ كالمصيبة في المال أو المصيبة في النفس ؛ ويظل الكون على مسيرته المنتظمة. ولهذا نجد أحد الفلاسفة وقد قال : " إن الله لا يتغير من أجلكم ؛ ولكن يجب أن تتغيروا أنتم من أجل الله ".
وسبق أن قال الحق سبحانه :﴿ فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى " ١٢٣ " ﴾( سورة طه )
وهو القائل سبحانه :﴿ ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشةً ضنكاً.. " ١٢٤ " ﴾ ( سورة طه ). وأنت ترى في عالمنا المعاصر مجتمعات مترفة ؛ نستورد منهم أدوات الحضارة المعاصرة ؛ لكنهم يعيشون في الضنك النفسي البالغ ؛ وهذا ما يثبت أن الثراء المادي بالنقود أو أدوات الحضارة ؛ لا يحقق للإنسان التوازن النفسي أو السعادة ؛ وينطبق عليهم ما قاله أمير الشعراء احمد شوقي رحمه الله : ليس الحمل ما أطاق الظهر ما الحمل إلا ما وعاه الصدر فقد يكون الثراء المادي في ظن البعض هو الحلم ؛ فيجنح الإنسان إلى الطريق غير السوي بما فيه من عمولات ؛ وعدم أمانة ؛ ورغم النقود التي قد يكتنزها هذا الإنسان، إلا أن الأمراض النفسية أو الأمراض العضوية تفتك به. وهكذا نجد الحق سبحانه وهو يغير ولا يتغير ؛ فهو المغير لا المتغير. وقول الحق سبحانه :﴿ إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم.. " ١١ " ﴾( سورة الرعد ) يوضح لنا أن أعمال الجوارح ناشئة من نبع نفس تحرك الجوارح ؛ وحين تصلح النفس ؛ تصبح الجوارح مستقيمة ؛ وحين تفسد النفس تصير الجوارح غير مستقيمة.
فالحق سبحانه وتعالى أخضع كل الجوارح لمرادات النفس، فلو كانت النفس مخالفة لمنهج الله ؛ فاللسان خاضع لها ؛ ولا ينطق رغم إرادته بالتوحيد ؛ لأن النفس التي تديره مخالفة للإيمان.
والمثل : هم هؤلاء الذين نسبوا الرسل الذين اختارهم الله ؛ فادعوا أنهم أبناء الله ؛ وسبحانه منزه عن ذلك ؛ أما إذا كانت النفس مؤمنة فهي تأمر اللسان أن يقول كلمة التوحيد ؛ ويسعد هو بذلك ؛ لكنه في الحالتين لا يعصي النفس التي سخره لها الله.
وهكذا تكون الجوارح منفعلة لإرادة صاحبها، ولا تنحل الإرادة البشرية عن الجوارح إلا حين يشاء الله ذلك في اليوم الآخر، وفي الموقف الحق.
ولحظتها لن تستطيع أحد أن يسيطر على جوارحه ؛ لأن الملك يومئذ للواحد القهار ؛ وسقطت ولاية الفرد على جوارحه ؛ وتشهد هذه الجوارح على صاحبها بما فعلته وقت أن كانت مقهورة لإرادته.
وهكذا نعلم أن التغيير كل في النفس التي تدير الجوارح. وقول الحق سبحانه :﴿ إن الله لا يغير ما بقومٍ.. " ١١ " ﴾( سورة الرعد )يدلنا أنه سبحانه لا يتدخل إلا إذا عنت الأمور ؛ وفسد كل المجتمع ؛ واختفت النفس اللوامة من هذا المجتمع ؛ واختفى من يقدرون على الردع ولو بالكلمة من هذا المجتمع ؛ هنا يتدخل الحق سبحانه.
وحين يغير الناس ما بأنفسهم، ويصححون إطلاق الإرادة على الجوارح ؛ فتنصلح أعمالهم ؛ وإياكم أن تظنوا أن هناك شيئاً يتأبى على الله. ولذلك يتابع سبحانه في نفس الآية :﴿ وإذا أراد الله بقومٍ سوءاً فلا مرد له.. " ١١ " ﴾( سورة الرعد ).
وعليكم أن تأخذوا الأمرين معاً :﴿ إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم.. " ١١ " ﴾( سورة الرعد )و ﴿ وإذا أراد الله بقومٍ سوءاً فلا مرد له.. " ١١ " ﴾( سورة الرعد )
ثم يقول الحق سبحانه :﴿ وما لهم من دونه من والٍ " ١١ " ﴾( سورة الرعد )إياك أن تفهم أن هناك سلطة تحول دون أن يغير الله ما يريد تغييره ؛ ولن يجدوا صدراً حنوناً آخر يربت عليهم إذا ما أراد الله بهم السوء، فليس هناك وال آخر يأخذهم من الله ويتولى شئونهم وأمورهم من جلب الخير ودفع الشر ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ وما لهم من دونه من والٍ " ١١ " ﴾( سورة الرعد )
وكلنا يعرف البرق، ونحن نستقبله بالخوف مما يزعج وبالطمع فيما يحب ويرغبن فساعة يأتي البرق فنحن نخاف من الصواعق ؛ لأن الصواعق عادة تأتي بعد البرق ؛ أو تأتي السحابات الممطرة.
وهكذا يأتي الخوف والطمع من الظاهرة الواحدة. أو : أن يكون الخوف لقوم ؛ والرجاء والطمع لقوم آخرين.
والمثل الذي أضربه لذلك دائماً هو قول أحد المقاتلين العرب وصف سيفه بأنه " فتح لأحبابه، وحتف لأعدائه ".
والمثل الآخر الذي أضربه ما رواه لنا أمير بلدة اسمها " الشريعة " وهي تقع بين الطائف ومكة ؛ وقد حدثنا أمير الشريعة عام ١٩٥٣ عن امرأة صالحة تحفظ القرآن ؛ اسمها " آمنة ".
هذه المرأة كان لها بنتان ؛ تزوجتا ؛ وأخذ كل زوج زوجته إلى محل إقامته ؛ وكان أحد زوجي البنتين يعمل في الزراعة ؛ والآخر يعمل بصناعة " الشرك ". وقالت آمنة لزوجها : ألا تذهب لمعرفة أحوال البنتين ؟ فذهب الرجل لمعرفة أحوال البنتين، فكان أول من لقي في رحلته هي ابنته المتزوجة ممن يحرث ويبذر، فقال لها : كيف حالك وحال زوجك وحال الدنيا معك أنت وزوجك ؟.
قالت : يا أبت، أنا معه على خير، وهو معي على خير، وأما حال الدنيا ؛ فادع لنا الله أن ينزل المطر ؛ لأننا حرثنا الأرض وبذرنا البذور ؛ وفي انتظار ري السماء.
فرفع الأب يديه إلى السماء وقال : اللهم إني أسألك الغيث لها.
وذهب إلى الأخرى ؛ وقال لها : ما حالك ؟ وما حال زوجك ؟
فقالت : خير، وأرجوك يا أبي أن تدعو لنا الله أن يمنع المطر ؛ لأننا قد صنعنا الشراك من الطين ؛ ولو أمطرت لفسدت الشرك، فدعا لها.
وعاد إلى امرأته التي سألته عن حال البنتين ؛ فبدا عليه الضيق وقال : هي سنة سيئة على واحدة منهما، وروي لها حال البنتين ؛ وأضاف : ستكون سنة مرهقة لواحدة منهما.
فقالت له آمنة : لو صبرت ؛ لقلت لك : إن ما تقوله قد لا يتحقق ؛ وسبحانه قادر على ذلك.
قال لها : ونعم بالله، قولي لي كيف ؟ فقال آمنة : ألم تقرأ قول الله :
﴿ ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء.. " ٤٣ " ﴾( سورة النور )فسجد الرجل لله شكراً أن رزقه بزوج تعينه على أمر دينه، ودعا : اللهم اصرف عن صاحب الشراك المطر ؛ وأفض بالمطر على صاحب الحرث. وقد كان. وهذا المثل يوضح جيداً معنى الخوف والطمع عند رؤية الرعد :﴿ هو الذي يريكم البرق خوفاً وطمعاً.. " ١٢ " ﴾( سورة الرعد ).
إما من النفس الواحدة بأن يخاف الإنسان من الصواعق، ويطمع في نزول المطر، أو من متقابلين ؛ واحد ينفعه هذا ؛ وواحد يضره هذا. ويضيف الحق سبحانه :﴿ وينشئ السحاب الثقال " ١٢ " ﴾( سورة الرعد ).
ونحن نعلم أن السحاب هو الغيم المتراكم ؛ ويكون ثقيلاً حين يكون معبئاً ؛ وهو عكس السحاب الخفيف الذي يبدو كنتف القطن.
ويقال عند العرب : " لا تستبطئ الخيل ؛ لأن أبطأ الدلاء فيضاً أملؤها، وأثقل السحاب مشياً أحفلها ".
فحين تنزل الدلو في البئر ؛ وترفعه ؛ فالدلو الملآن هو الذي يرهقك حين تشده من البئر ؛ أما الدلو الفارغ فهو خفيف لحظة جذبه خارج البئر ؛ وكذلك السحاب الثقال تكون بطيئة لما تحمله من ماء.
وحين يسمع أحد العامة واحداً لا يعجبه كلامه ؛ يقول له " سمعت الرعد " ؛ أي : يطلب له أن يسمع الصوت المزعج الذي يتعب من يسمعه. ولنا أن ننتبه أن المزعجات في الكون إذا ما ذكرت مسبحة لربها فلا تنزعج منها أبداً، ولا تظن أنها نغمة نشاز في الكون، بل هي نغمة تمتزج ببقية أنغام الكون.
ونحن نفهم أن التسبيح للعاقل القادر على الكلام، ولكن هذا عند الإنسان ؛ لأن الذي خلق الكائنات كلها علمها كيف تتفاهم، مثلما علم الإنسان كيف يتفاهم مع بني جنسه ؛ وكذلك علم كل جنس لغته. وكلنا نقرأ في القرآن ماذا قالت النملة حين رأت جنود سليمان :
﴿ ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون " ١٨ " ﴾( سورة النمل )وقد سمعها سليمان عليه السلام ؛ لأن الله علمه منطق تلك اللغات، ونحن نعلم أن الحق سبحانه علم سليمان منطق الطير، قال تعالى :﴿ علمنا منطق الطير.. " ١٦ " ﴾( سورة النمل )ألم يتخاطب سليمان عليه السلام مع الهدهد وتكلم معه ؟ بعد أن فك سليمان بتعليم الله له شفرة حديث الهدهد ؛ وقال الهدهد لسليمان :﴿ أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين " ٢٢ " إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم " ٢٣ " ﴾( سورة النمل ).
إذن : فكل شيء له لغة يتفاهم بها لقضاء مصالحه، ومن يفيض الله عليه من أسرار خلقه يسمعه هذه اللغات، وقد فاض الحق سبحانه على سليمان بذلك، ففهم لغة الطير وتكلم بها مع الهدهد ؛ وقال له :﴿ اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون " ٢٨ " ﴾( سورة النمل )وهكذا عرفنا بقصة سليمان وبلقيس ؛ وكيف فهم سليمان منطق الطير وتكلم بها مع الهدهد ؟ وهكذا علمنا كيف يتعلم الإنسان لغات متعددة ؛ فحين يذهب إنسان إلى مجتمع آخر ويبقى به مدة ؛ فهو يتعلم لغة ذلك المجتمع، ويمكن للإنسان أن يتعلم أكثر من لغة.
وقد عرض الحق سبحانه مسألة وجود لغات للكائنات في قصة النملة وقصة الهدهد مع سليمان ؛ وهما من المرتبة التالية للبشر، ويعرض الحق سبحانه أيضاً قضية وجود لغة لكل كائن من مخلوقاته في قوله :﴿ وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين " ٧٩ " ﴾( سورة الأنبياء )وكأن الجبال تفهم تسبيح داود وتردده من خلفه. أيضاً يقول الحق سبحانه :﴿ إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشى والإشراق " ١٨ " والطير محشورة كل له أواب " ١٩ " ﴾( سورة ص ).
وكذلك يخاطب الله الأرض والسماء، فيقول :﴿ فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرها.. " ١١ " ﴾( سورة فصلت ).
فيمتثلان لأمره :﴿ قالتا أتينا طائعين " ١١ " ﴾( سورة فصلت )وهكذا نعلم أن لكل جنس لغة يتفاهم بها، ونحن نلحظ أن لكل نوع من الحيوانات صوتاً يختلف من نوع إلى آخر، ويدرس العلماء الآن لغة الأسماك، ويحاولون أن يضعوا لها معجماً. إذن : فساعة تسمع :
﴿ تسبح له السماوات والأرض ومن فيهن وإن من شيءٍ إلا يسبح بحمده.. " ٤٤ " ﴾( سورة الإسراء ).
فافهم أن ما من كائن إلا وله لغة، وهو يسبح بها الخالق الأكرم. ثم يقول تعالى :
﴿ ولكن لا تفقهون تسبيحهم.. " ٤٤ " ﴾( سورة الإسراء )مثلما لا يفقه جاهل بالإنجليزية لغة الإنجليز.
وقال البعض : إن المراد هنا هو تسبيح الدلالة على الخالق ؛ وقد حكم سبحانه بأننا لا نستطيع فهم تسبيح الدلالة.
ولكني أقول : إن العلم المعاصر قد توصل إلى دراسة لغات الكائنات وأثبتها ؛ وعلى ذلك يكون التسبيح من الكائنات بالنطق والتفاهم بين متكلم وسامع، بل ولتلك الكائنات عواطف أيضاً.
ونحن نرى العلماء في عصرنا يدرسون عواطف الشجر تجاه من يسقيه من البشر، وهنا تجربة تتحدث عن قياس العلماء لذبذبة النبات أثناء ريه بواسطة مزارع مسئول عنه ؛ ثم مات للرجل ؛ فقاسوا ذبذبة تلك النباتات ؛ فوجدوها ذبذبة مضطربة ؛ وكأن تلك النباتات قد حزنت على من كان يعتني بها ؛ وهكذا توصل العلماء إلى معرفة أن النباتات لها عواطف.
وقد بين لنا الحق سبحانه أن الجمادات لها أيضاً عواطف ؛ بدليل قوله عن قوم فرعون :
﴿ فما بكت عليهم السماء والأرض.. " ٢٩ " ﴾( سورة الدخان )فالسماء والأرض قد استراحتا لذهاب هؤلاء الأشرار عن الأرض، فالسماوات والأرض ملتزمتان مع الكون التزاماً لا تخرج به عن مرادات الله، وحين يأتي كافر ليصنع بكفره نشازاً مع الكون ؛ فهي تفرح عند اختفائه ولا تحزن عليه.
ومادامت السماء والأرض لا تبكيان على الكافر عند رحيله ؛ فلابد أنها تفرحان عند هذا الرحيل ؛ ولابد أنهما تبكيان عند رحيل المؤمن.
ولذلك نجد قول الإمام علي كرم الله وجهه : إذا مات ابن آدم بكى عليه موضعان ؛ موضع في السماء، وموضع في الأرض ؛ وأما موضعه في الأرض فموضع مصلاه ؛ وأما موضعه في السماء فمصعد عمله ". وهكذا نجد أن معنى قول الحق سبحانه :﴿ ويسبح الرعد بحمده.. " ١٣ " ﴾( سورة الرعد )أي : ينزه الرعد ويمجد اسم الحق تبارك وتعالى تسبيحاً مصحوباً بالحمد.
ونحن حين ننزه ذات الله عن أن تكون مثل بقية الذوات، وحين ننزه فعل الله عن أن يكون كأفعال غيره سبحانه، وحين ننزه صفات الله عن أن تكون كالصفات، فلابد أن يكون ذلك مصحوباً بالحمد له سبحانه ؛ لأنه منزه عن كل تلك الأغيار، وعلينا أن نسر من أنه منزه. ويقول تعالى :﴿ ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته.. " ١٣ " ﴾( سورة الرعد )ولقائل أن يتساءل : كيف تخاف الملائكة من الله ؟ وهم الذين قال فيهم الحق سبحانه :﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " ٦ " ﴾( سورة التحريم ).
وأقول : إن الملائكة يخافون الله خيفة المهابة، وخيفة الجلال. ونحن نرى في حياتنا من يحب رئيسه أو قائده ؛ فيكون خوفه مهابة ؛ فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى الذي تحبه ملائكته وتهاب جلاله وكماله، صحيح أن الملائكة مقهورون، لكنهم يخافون ربهم من فوقهم.
وساعة تسمع الملائكة الرعد فهم لا يخافون على أنفسهم ؛ ولكنهم يخافون على الناس ؛ لأنهم حفظة عليهم ؛ فالملائكة تعي مهمتها كحفظة على البشر ؛ وتخشى أن يربكهم أي أمر ؛ وهم يستغفرون لمن في الأرض.
إذن : فقوله :﴿ ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته.. " ١٣ " ﴾( سورة الرعد )يبين لنا أن الملائكة تخاف على البشر من الرعد ؛ فهم مكلفون بحمايتهم، مع خوفهم من الله مهابة وإجلالاً.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف : " ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما : الله أعط منفقاً خلفاً. ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً " وقد يظن ظان أن هذه دعوة ضد الممسك ؛ ولكني أقول : لماذا لا تأخذها على أنها دعوة خير ؟ فالمنفق قد أخذ ثواباً على ما أدى من حسنات ؛ أما الممسك فحين يبتليه الله بتلف بعضٍ من ماله ؛ ويصبر على ذلك ؛ فهو يأخذ جزاء الصبر. ويتابع سبحانه في نفس الآية :
﴿ ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال " ١٣ " ﴾
( سورة الرعد ).
ولابد من وجود حدث أليم في الكون لينتبه هؤلاء الناس من غفلتهم ؛ وهاهو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقد جاءه اثنان من المعاندين الكبار أربد بن ربيعة ؛ أخو لبيد بن ربيعة، وعامر بن الطفيل ؛ ليجادلاه بهدف التلكؤ والبحث عن هفوة فيما يقوله أو عجز في معرفته، والمثل ما قاله مجادلون مثلهم، وأورده القرآن الكريم :﴿ أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون " ٨٢ " ﴾ ( سورة المؤمنون )وكذلك استعجال بعض من المجادلين للعذاب.
وجاء هذان الاثنان وقالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل ربنا مصنوع من الحديد أم من النحاس ؟ وهما قد قالا ذلك لأنهما من عبدة الأصنام المصنوعة من الحجارة، والأقوى من الحجارة هو الحديد أو النحاس ؛ فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فنزلت صاعقة ؛ فأحرقتهما.
وإرسال الصواعق هنا آية قرآنية، ولابد وأن تأتي آية كونية تصدقها ؛ وقد حدثت تلك الآية الكونية. ويقول الحق سبحانه :﴿ وهم يجادلون في الله.. " ١٣ " ﴾( سورة الرعد )
والجدال في الله أنواع متعددة ؛ جدال في ذاته ؛ وجدال في صفاته، أو جدال في الحسنة والسيئة، وقد جادلوا أيضاً في إنزال آية مادية عليه ؛ لأنهم لم يكتفوا بالقرآن كآية ؛ على الرغم من أن القرآن آية معجزة ومن جنس ما برعوا فيه، وهو اللغة.
وقد جادلوا أيضاً في الرعد ؛ وقالوا : إن الرعد ليس له عقل ليسبح ؛ والملائكة لا تكليف لها ؛ فكيف تسبح ؟.
ولكن الحق سبحانه قال : إنه قادر على أن يرسل الصواعق ويصيب بها من يشاء ؛ فيأتي بالخير لمن يشاء ؛ ويصيب بالضر من يشاء. فهل هم يملكون كل الوقت لهذا الجدل ؛ بعد أن خلق كل هذا الكون ؟.
هل لديكم الوقت لكل تلك المماراة بقصد الجدل والعناد المذموم ؟ فالجدل في حد ذاته قد يحسن استخدامه وقد يساء استخدامه ؛ والحق سبحانه قال لنا :﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن.. " ٤٦ " ﴾( سورة العنكبوت ).
وقال أيضاً :
﴿ قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله.. " ١ " ﴾( سورة المجادلة )
وهذا جدل المراد منه الوصول إلى الحق. ويذيل الله آية سورة الرعد بقوله :﴿ وهو شديد المحال " ١٣ " ﴾( سورة الرعد ).
ويقال : " محل فلان بفلان " أي : كاد له كيداً خفياً ومكر به، والمحال هو الكيد والتدبير الخفي، ومن يلجأون إليه من البشر هم الضعاف الذين يعجزون عن مواجهة الخصم علانية، فيبيتون له بإخفاء وسائل الإيلام.
وهذا يحدث بين البشر وبعضهم البعض ؛ لأن البشر لا يعلمون الغيب ؛ لكن حين يكيد الله ؛ فلا أحد بقادر على كيده، وهو القائل سبحانه :﴿ إنهم يكيدون كيداً " ١٥ " وأكيد كيداً " ١٦ " فمهل الكافرين أمهلهم رويداً " ١٧ " ﴾( سورة الطارق )لأن كيد الله لا غالب له ؛ وهو كيد غير مفضوح لأحد، ولذلك قال تعالى :﴿ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " ٣٠ " ﴾( سورة الأنفال )هم أرادوا أن يبيتوا لرسوله صلى الله عليه وسلم ؛ وأرادوا قتله ؛ وجاءوا بشاب من كل قبيلة ليمسك سيفاً كي يتوزع دمه بين القبائل، وترصدوا له المرصاد ؛ ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تصاحبه العناية فخرج عليهم ملهماً قوله تعالى :﴿ فأغشيناهم فهم لا يبصرون " ٩ " ﴾( سورة يس )وبذلك أوضح لهم أنهم لن يستطيعوا دفع دعوة الإسلام ؛ لا مجابهة ومجاهرة ؛ ولا كيداً وتبييناً ؛ حتى ولو استعنتم بالجن ؛ فالإنسان قد يمكر ويواجه، وحين يفشل قد يحاول الاستعانة بقوة من جنس آخر له سلطان كسلطان الجن، وحتى ذلك لم يفلح معه صلى الله عليه وسلم ؛ فقد حاولوا بالسحر ؛ فكشف الله له بالرؤيا موقع وضع السحر.
وذهب بعض من صحابته ليستخرجوا السحر من الموقع الذي حدده رسول الله لهم. وهكذا أوضح لهم الحق سبحانه أن كل ما يفعلونه لن يحيق برسوله صلى الله عليه وسلم ؛ فسبحانه :﴿ غالب على أمره.. " ٢١ " ﴾( سورة يوسف ).
وهكذا كان الحق سبحانه ومازال وسيظل إلى أن يرث الأرض ومن عليها، وهو شديد المحال.
أو " له " أي : للإنسان الذي يدعو إلى الحق، وحين يدعو الإنسان فهذا يدل على أن أمراً قد خرج عن نطاق أسبابه ؛ لذلك يدعو من يعينه على هذا الأمر.
والدعاء لون من الطلب، إلا أن الطلب يختلف باختلاف الطالب والمطلوب منه ؛ فإن كان الطالب أدنى من المطلوب منه لا يقال له فعل أمر ؛ كقولك " اغفر لي يا رب " وهذا لا يقال له فعل أمر ؛ بل يقال له دعاء.
وهكذا نرى أنه إن كان فعل الأمر من الأدنى للأعلى ؛ لا نسميه فعل أمر بل نسميه دعاءً، والطالب الذكي هو من يلحظ أثناء الإعراب إن كان المطلوب هو من الأدنى إلى الأعلى ؛ فهو لا يقول " فعل أمر " بل يقول " فعل دعاء " مثل قول العبد لله : يا رب اغفر لي، وإن كان المطلوب من مساو ؛ فهو يقول " التماس ". وإن كان المطلوب قد صدر من الأعلى للأدنى فهو " فعل أمر ".
وحين يدعو الإنسان ربه ؛ فهذا يعني أن أسباب العبد قد نفدت ؛ وهو يلجأ إلى من يعلو الكون ويملك كل الأسباب، ولذلك فكل منا يدعو الله ؛ لأنه سبحانه القادر على إنفاذ مطلوب العباد ؛ ولا يعجزه شيء.
ولكن إن دعوت من لا يستطيع ؛ فهو دعوة لا تنفع العبد، وهم كانوا يدعون الأصنام ؛ والأصنام لا تضر ولا تنفع ؛ فالصنم من هؤلاء لا يقدر على نفسه أو لنفسه ؛ فقد كان من الحجر. وبطبيعة الحال فالدعاء لمثل تلك الأصنام لا تحقق شيئاً ؛ لأنها لا تقدر على أي شيء.
وهكذا يتأكد لنا أن دعوة الحق هي أن تدعو القادر ؛ أما الذين يدعون المعبودات الباطلة فإنها تخيب من يدعوها في مقصده، ولذلك يقول الحق سبحانه هنا :﴿ له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيءٍ.. " ١٤ " ﴾( سورة الرعد )لأنهم لا يملكون شيئاً فالصنم من هؤلاء لا يسمع فكيف يستجيب ؟ ثم يضرب الحق سبحانه المثل بشيء محس ؛ نفعله كلنا ؛ فيقول :﴿ لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه.. " ١٤ " ﴾( سورة الرعد ).
فالعطشان ما أن يرى ماءً حتى يمد يده إليه ليغترف منه ؛ لكن يده لا تصل إلى الماء ؛ هذا هو الحال من يدعو غير الله ؛ فقد سأل غير القادر على إنفاذ مطلبه، وهكذا يكون دعاء غير الله ؛ وهو دعاء في ضلال وفي غير متاهة.
والسجود هو الحركة التي تبرز كامل الخضوع لله ؛ فالسجود وضع لأعلى ما في الإنسان في مستوى الأدنى وهو قدم الإنسان ؛ ونجد العامة وهم يقولون : " لا ترفع رأسك علي " أي : لا تتعالى علي، لأن رفع الرأس معناه التعالي، وتخفيضها بالركوع أو السجود هو إظهار للخضوع، فإذا قال الله :﴿ ولله يسجد من في السماوات والأرض.. " ١٥ " ﴾( سورة الرعد )
عليك أن تفهم أن هذا ما يحدث فعلاً ؛ وإن لم يتسع ذهنك إلى فهم السجود كما يحدث منك ؛ فليتسع ظنك على أنه منتهى الخضوع والذلة لله الآمر.
وأنت تعلم أن الكون كله مسخر بأمر الله ولأمر الله، والكون خاضع له سبحانه ؛ فإن استجاب الإنسان لأمر الله بالإيمان به فهذا خير. وإن لم يستجب الإنسان مثلما يفعل الكافر فعليه سوء عمله.
ولو استقصيت المسألة بدقة الفهم ؛ لوجدت أن الكافر إنما يتمرد بإرادته المسيطرة على جوارحه ؛ لكن بقية أبعاضه مسخرة ؛ وكلها تؤدي عملها بتسخير الله لها، وكلها تنفذ الأوامر الصادرة من الله لها ؛ وهكذا يكون الكافر متمرداً ببعضه ومسخراً ببعضه الآخر، فحين يمرضه الله ؛ أيستطيع أن يعصي ؟.
طبعاً لا. وحين يشاء الله أن يوقف قلبه أيقدر أن يجعل قلبه يخالف مشيئة الله ؟ طبعاً لا.
إذن : فالذي يتعود على التمرد على الله في العبادة ؛ وله دربة على هذا التمرد ؛ عليه أن يجرب التمرد على مرادات الله فيما لا اختيار له فيه ؛ وسيقابل العجز عن ذلك.
وعليه أن يعرف أنه لم يتمرد بالكفر إلا بما أوسع الله له من اختيار ؛ بدليل أن تسعة وتسعين بالمائة من قدراته محكوم بالقهر ؛ وواحد بالمائة من قدراته متروك للاختيار، وهكذا يتأكد التسخير.
وخضوع الكافر في أغلب الأحيان ؛ وتمرده في البعض الآخر ؛ هو منتهى العظمة لله ؛ فهو لا يجرؤ على التمرد بما أراده الله مسخراً منه. ولقائل أن يقول : ولماذا قال الله هنا :
﴿ ولله يسجد من في السماوات والأرض.. " ١٥ " ﴾( سورة الرعد )ولم يقل : " ما في السماوات وما في الأرض " ؟.
وأقول : مادام في الأمر هنا سجود ؛ فهو دليل على قمة العقل ؛ وسبحانه قد جعل السجود هنا دليلاً على أن كافة الكائنات تعقل حقيقة الألوهية ؛ وتعبد الحق سبحانه. وهو هنا يقول :﴿ ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً.. " ١٥ " ﴾( سورة الرعد ).
وهنا يعلمنا الحق سبحانه أن كل الكائنات ترضخ لله سجوداً ؛ سواء المسخر ؛ أو حتى أبعاض الكافر التي يستخدمها بإرادته في الكفر بالله ؛ هذه الأبعاض تسجد لله. ويتابع الحق سبحانه :﴿ وظلالهم بالغدو والآصال " ١٥ " ﴾( سورة الرعد ).
ونحن في حياتنا اليومية نسمع من يقول : " فلان يتبع فلاناً كظله " ؛ أي : لا يتأبى عليه أبداً مطلقاً، ويلازمه كأنه الظل ؛ ونعلم أن ظل الإنسان تابع لحركته.
وهكذا نعلم أن الظلال نفسها خاضعة لله ؛ لأن أصحابها خاضعون لله ؛ فالظل يتبع حركته ؛ وإياك أن تظن أنه خاضع لك ؛ بل هو خاضع لله سبحانه.
وسبحانه هنا يحدد تلك المسألة بالغدو والآصال ؛ و " الغدو " جمع " غداة " وهو أول النهار، والآصال هو المسافة الزمنية بين العصر والمغرب.
وأنت حين تقيس ظلك في الصباح ستجد الظل طويلاً، وكلما اقتربت من الشمس طال الظل، وكلما اقترب الزوال يقصر الظل إلى أن يتلاشى ؛ وأبزر ما يتمايل الظل بتمايل صاحبه هو في الصبح وبعد العصر.
﴿ ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون " ٨٧ " ﴾( سورة الزخرف )ولقائل أن يسأل : لماذا جاء الحق سبحانه هنا بالإجابة ؛ ولم يتركها لتأتي منهم ؟
ونقول : إن مجيء الإجابة من الحق هنا عن الذي خلق السماوات والأرض أقوى مما لو جاءت الإجابة منهم.
والمثل من حياتنا ؛ ولله المثل الأعلى ؛ قد تقول لابنك الصغير المتشاحن مع أخيه الكبير ؛ من الذي جاء لك بالحلة الجديدة ؟ فيرتبك خجلاً ؛ لأنه يعلم أن من جاء بالحلة الجديدة هو أخوة الأكبر الذي تشاحن معه ؛ فتقول أنت : جاء لك بها أخوك الأكبر الذي تشاحنت معه.
وهنا لحظة أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ما أمره الله أن يقول :
﴿ قل من رب السماوات والأرض.. " ١٦ " ﴾( سورة الرعد )فسوف يرتكبون ؛ فيؤكد لهم بعد ذلك ما أمره الله أن يقول :﴿ قل الله.. " ١٦ " ﴾( سورة الرعد ).
ويتتابع أمر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فيقول له الحق سبحانه :﴿ قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً.. " ١٦ " ﴾( سورة الرعد )، وهكذا يكشف لهم الرسول ببلاغ الحق سبحانه مدى جهلهم ؛ وهم من سبق لهم الاعتراف بأن الله هو خالق السماوات والأرض ؛ ولم يجرؤ واحد منهم على أن ينسب خلق السماوات والأرض للأصنام.
وهنا يوضح لهم الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمر الحق سبحانه بإيضاحه : لقد خلق الله السماوات والأرض أفبعد ذلك تتخذون من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعاً ؛ ولا ضراً ؟ بدليل أن الصنم من هؤلاء لا يقدر لهم على شيء. ويتابع الحق سبحانه :
﴿ قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء " ١٦ " ﴾( سورة الرعد )
وبطبيعة الحال لا يمكن أن يستوي الأعمى بالمبصر. وساعة ترى " أم " اعلم أنها ضرب انتقالي، وهكذا يستنكر الحق ما فعلوه بالاستفهام عنه ؛ لأنه شيء منكر فعلاً :
﴿ أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم.. " ١٦ " ﴾( سورة الرعد )أي : لو كان هؤلاء الشركاء قد خلقوا شيئاً مثل خلق الله ؛ لكان لهم أن يعقدوا مقارنة بين خلق الله وخلق هؤلاء الشركاء ؛ ولكن هؤلاء الشركاء الذين جعلوا مشاركين لله في الألوهية لا يقدرون على خلق شيء ؛ فكيف يختارونهم شركاء لله ؟ ويأتي الأمر من الحق سبحانه :
﴿ قل الله خالق كل شيءٍ وهو الواحد القهار " ١٦ " ﴾( سورة الرعد )
وفي آية أخرى يقدم الحق سبحانه تفسيراً لتلك الآية :
﴿ إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له.. " ٧٣ " ﴾( سورة الحج )
فهؤلاء الشركاء لم يخلقوا شيئاً، ولن يستطيع أحد الإدعاء بأن هؤلاء الشركاء عندهم نية الخلق، ولكن مجيء " لن " هنا يؤكد أنهم حتى بتنبيههم لتلك المسألة ؛ فلسوف يعجزون عنها ؛ لأن نفي المستقبل يستدعي التحدي ؛ رغم أنهم آلهة متعددة ؛ ولو اجتمعوا فلن يخلقوا شيئاً. يستمر التحدي في قوله سبحانه :﴿ وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب " ٧٣ " ﴾( سورة الحج )أي : لو أخذ الذباب بساقه الرفيعة شيئاً مما يملكون لما استطاعوا أن يستخلصوه منه. وهكذا يتضح أن الحق سبحانه وحده هو الخالق لكل شيء ؛ وتلزم عبادته وحده لا شريك له ؛ وهو جل وعلا المتفرد بالربوبية والألوهية ؛ وهو القهار المتكبر ؛ والغالب على أمره أبداً، فكيف يكون من دونه مساوياً له ؟ لذلك لا شريك له أبداً.
والوادي هو المنخفض بين الجبلين ؛ وساعة ينزل المطر على الجبال فهو يسيل على الأودية ؛ وكل وادٍ يستوعب من المياه على اتساعه. ولنا أن نلحظ أن حكمة الله شاءت ذلك كيلا يتحول الماء إلى طوفان، فلو زاد الماء في تلك الأودية لغرقت نتيجة ذلك القرى، ولخربت الزراعات، وتهدمت البيوت.
والمثل على ذلك هو فيضان النيل حين كان يأتي مناسباً في الكمية لحجم المجري ؛ وكان مثل هذا القدر من الفيضان هو الذي يسعد أهل مصر ؛ أما إذا زاد فهو يمثل خطراً يدهم القرى ويخربها. وهكذا نجد أن من رحمة الحق سبحانه أن الماء يسيل من السماء مطراً على قدر اتساع الأودية ؛ اللهم إلا إذا شاء غير ذلك.
والحق سبحانه هنا يريد أن يضرب مثلاً على ما ينفع الناس ؛ لذلك جاء بجزئية نزول الماء على قدر اتساع الأودية. ومن رأى مشهد نزول المطر على هذا القدر يمكنه أن يلحظ أن نزول السيل إنما يكنس كل القش والقاذورات ؛ فتصنع تلك الزوائد رغوة على سطح الماء الذي يجري في النهر، ثم يندفع الماء إلى المجرى ؛ ليزيح تلك الرغاوى جانباً ؛ ليسير الماء من بعد ذلك صافياً رقراقاً.
﴿ أنزل من السماء ماءً فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبداً رابياً.. " ١٧ " ﴾( سورة الرعد )وهذا المثل يدركه أهل البادية ؛ لأنها صحراء وجبال ووديان ؛ فماذا عن مثل يناسب أهل الحضر ؟ ويأتي الحق سبحانه بهذا المثل المناسب لهم ؛ فيقول :﴿ ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حليةٍ أو متاعٍ زبد مثله.. " ١٧ " ﴾( سورة الرعد ).
وأنت حين تذهب إلى موقع عمل الحداد أو صائغ الذهب والفضة ؛ تجده يوقد النار ليتحول المعدن إلى سائل مصهور ؛ ويطفو فوق هذا السائل الزبد وهو الأشياء التي دخلت إلى المعدن، وليست منه في الأصل ؛ ويبقى المعدن صافياً من بعد ذلك.
والصانع يضع الذهب في النار ليخلصه من الشوائب ؛ ثم يضيف إليه من المواد ما يقوي صلابته ؛ أو ينقله من حالة النقاء إلى درجة أقل نقاءً، وحالة النقاء في الذهب هي ما نطلق عليه " عيار ٢٤ "، والأقل درجة هو الذهب من " عيار ٢١ "، والأقل من ذلك هو الذهب من " عيار ١٨ ". والذهب الخالص النقاء يكون ليناً ؛ لذلك يضيفون إليه ما يزيد من صلابته، ويصنع الصائغ من هذا الذهب الحلي.
وهذا هو المثل المناسب لأهل الحضر ؛ حين يصنعون الحلي، وهم أيضاً يصنعون أدوات أخرى يستعملونها ويستعملها مثلهم أهل البادية كالسيوف مثلاً، وهي لابد أن تكون من الحديد الصلب ؛ ذلك أن كل أداة تصنع منه لها ما يناسبها من الصلابة ؛ فإن أراد الحداد أن يصنع سيفاً فلابد أن يختار له من الحديد نوعية تتناسب مع وظائف السيف.
والزبد في الماء النازل من السماء إنما يأتي إليه نتيجة مرور المطر أثناء نزوله على سطح الجبال ؛ فضلاً عن غسيل مجرى النهر الذي ينزل فيه ؛ وعادة ما يتراكم هذا الزبد على الحواف ؛ ليبقى الماء صافياً من بعد ذلك.
وحين تنظر إلى النيل مثلاً فأنت تجد الشوائب، وقد ترسبت على جانبي النهر وحوافه، وكذلك حين تنظر إلى مياه البحر ؛ فأنت تجد ما تلقيه المركب، وهو طافٍ فوق الأمواج ؛ لتلقيه الأمواج على الشاطئ.
وهكذا ضرب الله المثل لأهل البدو ولأهل الحضر بما يفيدهم في حياتهم ؛ سواء حلية يلبسونها، أو أداة يقاتلون بها، أو أداة أخرى يستخدمونها في أوجه أعمالهم الحياتية ؛ وهم في كل ذلك يلجئون إلى تصفية المعادن التي يصنعون منها تلك الحلي أو الأدوات الحياتية ليستخلصوا المعادن من الخبث أو الزبد. وكذلك يفعل الحق سبحانه :﴿ كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.. " ١٧ " ﴾( سورة الرعد ).
وحين يضرب الله الحق بالباطل ؛ فهو يستخلص ما يفيد الناس ؛ ويذهب ما يضرهم، وقوله :﴿ فيذهب جفاءً.. " ١٧ " ﴾( سورة الرعد )أي : يبعده ؛ ف " جفاء " يعني " مطروداً " ؛ من الجفوة ؛ ويقال : " فلان جفا فلاناً " أي : أبعده عنه. ويذيل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله :﴿ كذلك يضرب الله الأمثال " ١٧ " ﴾( سورة الرعد ).
وشاء سبحانه أن يبين لنا بالأمور الحسية ؛ ما يساوي الأمور المعنوية ؛ كي يعلم الإنسان أن الظلم حين يستشري ويعلو ويطمس الحق، فهو إلى زوال ؛ مثله مثل الزبد.
وهؤلاء الذين يستجيبون لهم الحسنى ؛ فسبحانه جعل الدنيا مزرعة للآخرة، وأنت في الدنيا موكول لقدرتك على الأخذ بالأسباب ؛ ولكنك في الآخرة موكول إلى المسبب. ففي الدنيا أنت تبذر وتحرث وتروي وتحصد، وقد تختلف حياتك شظفاً وترفاً بقدرتك على الأسباب.
فإذا استجبت لله واتبعت منهجه ؛ فأنت تنتقل إلى حياة أخرى ؛ تحيا فيها مع المسبب ؛ لا الأسباب ؛ فإذا خطر ببالك الشيء تجده أمامك ؛ لأنك في الحياة الأخرى لا يكلك الله إلى الأسباب، بل أنت موكول لذات الله، والموكول إلى الذات باقٍ ببقاء الذات. ولذلك نجد الحق سبحانه يقول :﴿ فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمةٍ منه.. " ١٧٥ " ﴾( سورة النساء ).
وبعض المفسرين يقولون " إنها الجنة " وأقول : هذا تفسير مقبول ؛ لأن الجنة من رحمة الله ؛ ولكن الجنة باقية بإبقاء الله لها ؛ ولكن رحمة الله باقية ببقاء الله. وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ للذين استجابوا لربهم الحسنى.. " ١٨ " ﴾( سورة الرعد )
ويقول تعالى في آية أخرى :﴿ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة.. " ٢٦ " ﴾( سورة يونس )
والحسنى هي الأمر الأحسن ؛ وسبحانه خلق لك في الدنيا الأسباب التي تكدح فيها ؛ ولكنك في الآخرة تحيا بكل ما تتمنى دون كدح، وهذا هو الحسن.
وهب أن الدنيا ارتقت ؛ والذين يسافرون إلى الدول المتقدمة ؛ وينزلون في الفنادق الفاخرة ؛ يقال لهم اضغط على هذا الزر تنزل لك القهوة ؛ والزر الآخر ينزل لك الشاي.
وكل شيء يمكن أن تحصل عليه فور أن تطلبه من المطعم حيث يعده لك آخرون ؛ ولكن مهما ارتقت الدنيا فلن تصل إلى أن يأتي لك ما يمر على خاطرك فور أن تتمناه ؛ وهذا لن يحدث إلا في الآخرة.
وكلمة " الحسنى " مؤنثة وافعل تفضيل ؛ ويقال " حسنة وحسنى " ؛ وفي المذكر يقال " حسن واحسن ". والمقابل لمن لم يستجيبوا معروف. والحق سبحانه يقول هنا :
﴿ والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به.. " ١٨ " ﴾
( سورة الرعد )أي : يقول خذوا ما أملك كله واعتقوني، لكن لا يستجاب له. ويقول الحق سبحانه :﴿ أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد " ١٨ " ﴾( سورة الرعد )لأن الحساب يترتب عليه مرة خير ؛ ويترتب عليه مرة أخرى شر ؛ وجاء الحق سبحانه بكلمة :
﴿ وبئس المهاد " ١٨ " ﴾( سورة الرعد )هنا ؛ لأن الواحد من هؤلاء والعياذ بالله لن يستطيع أن يتصرف لحظة وضعه في النار، كما لا يستطيع الطفل الوليد أن يتصرف في مهاده ؛ ومن المؤكد أن النار بئس المهاد.
( سورة الرعد ).
وجاء هنا ب " علم " و " عمى " ؛ لأن الآيات الدالة على القدرة من المرئيات. ويقول الحق سبحانه :﴿ إنما يتذكر أولوا الألباب " ١٩ " ﴾ ( سورة الرعد ) أي : أصحاب العقول القادرة على التدبر والتفكر والتمييز.
ويتفرع من هذا العهد العقدي الأول كل عهد يقطع سواء بالنسبة لله، أو بالنسبة لخلق الله ؛ لأن الناشئ من عهد الله مثله مثل عهد الله ؛ فإذا كنت قد آمنت بالله ؛ فأنت تؤمن بالمنهج الذي أنزله على رسوله ؛ وإذا أوفيت بالمنهج ؛ تكون قد أوفيت بالعهد الأول. ولذلك نجد كل التكليفات المهمة البارزة القوية في حياة المؤمنين نجد الحق سبحانه يأتي بها في صيغة البناء ؛ فما يسمى " البناء للمجهول " ؛ مثل قوله :
﴿ كتب عليكم الصيام.. " ١٨٣ " ﴾( سورة البقرة )
وقوله :﴿ كتب عليكم القصاص في القتلى.. " ١٧٨ " ﴾( سورة البقرة )
وقوله :﴿ كتب عليكم القتال وهو كره لكم.. " ٢١٦ " ﴾( سورة البقرة )
وكل التكليفات تأتي مسبوقة بكلمة " كتب " والذي كتب هو الله ؛ وسبحانه لم يكلف إلا من آمن به ؛ فساعة إعلان إيمانك بالله ؛ هي ساعة تعاقدك مع الله على أن تنفذ ما يكلفك به. وأنت حر في أن تؤمن أو لا تؤمن ؛ لكنك لحظة إيمانك بالله تدخل إلى الالتزام بما يكلفك به، وتكون قد دخلت في كتابة التعاقد الإيماني بينك وبين الله.
ولذلك قال الحق سبحانه " كتب " ولم يقل : " كتبت " ؛ لأن العهد بينك وبين الله يقتضي أن تدخل أنت شريكاً فيه، وهو سبحانه لم يكلف إلا من آمن به. وسبحانه هنا يقول :﴿ الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق " ٢٠ " ﴾( سورة الرعد )أي : أن العهد الإيماني موثق بما أخذته على نفسك من التزام.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول في الحديث القدسي :
" أنا الرحمن ؛ خلقت الرحم، واشتققت لها اسماً من اسمي ؛ فمن وصلها وصلته ؛ ومن قطعها قطعته ".
وقد رويت من قبل قصة عن معاوية رضي الله عنه ؛ فقد جاء حاجبه ليعلن له أن رجلاً بالباب يقول : إنه أخوك يا أمير المؤمنين.
ولابد أن حاجب معاوية كان يعلم أن معاوية بن أبي سفيان لا إخوة له، لكنه لم يشأ أن يتدخل فيما يقوله الرجل ؛ وقال معاوية لحاجبه : ألا تعرف إخوتي ؟ فقال الحاجب : هكذا يقول الرجل. فأذن معاوية للرجل بالدخول ؛ وسأله : أي إخوتي أنت ؟ أجاب الرجل : أخوك في آدم. قال معاوية : رحم مقطوعة ؛ والله لأكون أول من يصلها.
والتقى الفضيل بن عياض بجماعة لهم عنده حاجة ؛ وقال لهم : من أين أنتم ؟ قالوا : من خراسان. قال : اتقوا الله، وكونوا من حيث شئتم.
وقد أمرنا سبحانه أن نصل الأهل أولاً ؛ ثم الأقارب ؛ ثم الدوائر الأبعد فالأبعد ؛ ثم الجار، وكل ذلك لأنه سبحانه يريد الالتحام بين الخلق ؛ ليستطرق النافع لغير النافع، والقادر لغير القادر، فهناك جارك وقريبك الفقير إن وصلته وصلك الله. ولذلك يأمر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم ومن خلاله يأمر كل مؤمن برسالته :﴿ قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى.. " ٢٣ " ﴾( سورة الشورى ).
وقال بعض من سمعوا هذه الآية : قرباك أنت في قرباك. وقال البعض الآخر : لا، القربى تكون في الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن القرآن قال في محمد صلى الله عليه وسلم :
﴿ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " ٦ " ﴾( سورة الأحزاب )وهكذا تكون قرابة الرسول أولى لكل مؤمن من قرابته الخاصة. يستمر قول الحق سبحانه في وصف أولي الألباب :﴿ ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب " ٢١ " ﴾( سورة الرعد ) والخشية تكون من الذي يمكن أن يصيب بمكروه ؛ ولذلك جعل الحق هنا الخشية منه سبحانه ؛ أي : أنهم يخافون الله مالكهم وخالقهم ومربيهم ؛ خوف إجلال وتعظيم. وجعل سبحانه المخاف من سوء العذاب ؛ وأنت تقول : خفت زيداً، وتقول : خفت المرض، ففيه شيء تخافه ؛ وشيء يوقع عليك ما تخافه.
وأولو الألباب يخافون سوء حساب الحق سبحانه لهم ؛ فيدعهم هذا الخوف على أن يصلوا ما أمر به سبحانه أن يوصل، وأن يبتعدوا عن أي شيء يغضبه. ونحن نعلم أن سوء الحساب يكون بالمناقشة واستيفاء العبد لكل حقوقه ؛ فسبحانه منزه عن ظلم أحد، ولكن من يناقش الحساب فهو من يلقي العذاب ؛ ونعوذ بالله من ذلك، فلا أحد بقادر على أن يتحمل عذاب الحق له.
ولذلك جعلها سبحانه صفقة أوضحها في قوله تعالى :
﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً.. " ١١١ " ﴾( سورة التوبة )
وهي صفقة إيجاب وقبول، والعهد إيجاب وقبول ؛ وهو ميثاق مؤكد بالأدلة الفطرية أولاً، والأدلة العقلية ثانياً.
وهم في هذه الآية من صبروا ابتغاء وجه ربهم، والصبر هو تحمل متاعب تطرأ على النفس الإنسانية لتخريجها عن وقار استقامتها ونعيمها وسعادتها، وكل ما يخرج النفس الإنسانية عن صياغة الانسجام في النفس يحتاج صبراً.
والصبر يحتاج صابراً هو الإنسان المؤمن، ويحتاج مصبوراً عليه ؛ والمصبور عليه في الأحداث قد يكون في ذات النفس ؛ كأن يصبر الإنسان على مشقة التكليف الذي يقول " افعل " و " لا تفعل ".
فالتكليف يأمرك بترك ما تحب، وأن تنفذ بعض ما يصعب عليك، وأن تمتثل بالابتعاد عما ينهاك عنه، وكل هذا يقتضي مجاهدة من النفس، والصبر الذاتي على مشاق التكليف. ولذلك يقول الحق سبحانه عن الصلاة مثلاً :﴿ إنما أنت منذر ولكل قومٍ هادٍ " ٤٥ " ﴾( سورة البقرة ) وهذا صبر الذات على الذات. ولكن هناك صبر آخر ؛ صبر منك على شيء يقع من غيرك ؛ ويخرجك هذا الشيء عن استقامة نفسك وسعادتها. وهو ينقسم إلى قسمين : قسم تجد فيه غريماً لك ؛ وقسم لا تجد فيه غريماً لك. فالمرض الذي يخرج الإنسان عن حيز الاستقامة الصحية ويسبب لك الألم ؛ ليس لك فيه غريم ؛ لكنك تجد الغريم حين يعتدي عليك إنسان بالضرب مثلاً ؛ ويكون هذا الذي يعتدي عليك هو الغريم لك.
وكل صبر له طاقة إيمانية تحتمله ؛ فالذي يقدر على شيء ليس فيه غريم ؛ يكون صبره معقولاً بعض الشيء ؛ لأنه لا يوجد له غريم يهيج مشاعره. أما صبر الإنسان على ألم أوقعه به من يراه أمامه ؛ فهذا يحتاج إلى قوة ضبط كبيرة ؛ كي لا يهيج الإنسان ويفكر في الانتقام. ولذلك تجد الحق يفصل بين الأمرين ؛ يفصل بين شيء أصابك ولا تجد لك غريماً فيه، وشيء أصابك ولك من مثلك غريم فيه. ويقول سبحانه عن الصبر ليس لك غريم فيه. ﴿ واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور " ١٧ " ﴾( سورة لقمان ) ويقول عن الصبر الذي لك فيه غريم، ويحتاج إلى كظم الغيظ، وضبط الغضب :﴿ ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور " ٤٣ " ﴾( سورة الشورى ).
وحينما يريد الحق سبحانه منك أن تصبر ؛ فهو لا يطلب ذلك منك وحدك ؛ ولكن يطلب من المقابلين لك جميعاً أن يصبروا على إيذائك لهم ؛ فكأنه طلب منك أن تصبر على الإيذاء الواقع من الغير عليك ؛ وأنت فرد واحد.
وطلب من الغير أيضاً أن يصبر على إيذائك، وهذا هو قمة التأمين الاجتماعي لحياة النفس الإنسانية، فإذا كان سبحانه قد طلب منك أن تصبر على من آذاك ؛ فقد طلب من الناس جميعاً أن يصبروا على آذاك لهم.
فإذا بدرت منك بادرة من الأغيار ؛ وتخطئ في حق إنسان آخر وتؤلمه ؛ فإن لك رصيداً من صبر الآخرين عليك ؛ لأن الحق سبحانه طلب من المقابل لك أن يصبر عليك وأن يعفو.
وإذا كان لك غريم ؛ فالصبر يحتاج منك إلى ثلاث مراحل : أن تصبر صبراً أولياً بأن تكظم في نفسك ؛ ولكن الغيظ يبقى، وإن منعت الحركة النزوعية من التعبير عن هذا الغيظ ؛ فلم تضرب ولم تصب ؛ ويسمى ذلك :
﴿ الكاظمين الغيظ.. " ١٣٤ " ﴾( سورة آل عمران ) والكظم مأخوذ من عملية ربط القربة التي نحمل فيها الماء ؛ فإن لم نحكم ربطها انسكب منها الماء ؛ ويقال " كظم القربة " أي : أحكم ربطها.
ثم يأتي الحق سبحانه بالمرحلة الثانية بعد كظم الغيظ فيقول :
﴿ والعافين عن الناس.. " ١٣٤ " ﴾( سورة آل عمران ).
وهنا تظهر المسألة الأرقى، وهي إخراج الغيظ من الصدر ؛ ثم التسامي في مرتبة الصديقين ؛ فلا ينظر إلى من كظم غيظه عنه أولاً ؛ بل يعفو عنه، ولا ينظر له بعداء، بل بنظرة إيمانية. والنظرة الإيمانية هي أن من آذاك إنما يعتدي على حق الله فيك ؛ وبذلك جعل الله في صفك وجانبك ؛ وهكذا تجد أن من ظلمك وأساء إليك قد جعلك في معية الله وحمايته ؛ وعليك أن تحسن له.
والصبر له دوافع ؛ فهناك من يصبر كي يقال عنه : إنه يملك الجلد والصبر ؛ وليبين أنه فوق الأحداث ؛ وهذا صبر ليس ابتغاء لوجه الله ؛ بل صبر كيلا يشمت فيه أعداؤه.
وصبر لأنه قد توصل بعقله أن جزعه لن ينفعه، ولو كان حصيفاً لصبر لوجه الله، لأن الصبر لوجه الله يخفف من قدر الله.
ومن يصبر لوجه الله إنما يعلم أن لله حكمة أعلى من الموضوع الذي صبر عليه ؛ ولو خير بين ما كان يجب أن يقع وبين ما وقع ؛ لاختار الذي وقع.
والذي يصبر لوجه الله إنما ينظر الحكمة في مورد القضاء الذي وقع عليه، ويقول : أحمدك ربي على كل قضائك وجميل قدرتك ؛ حمد الرضى بحكمك لليقين بحكمتك.
فمن يصبر على الفاقة ؛ ويقول لنفسك : " اصبري إلى أن يفرجها الله " ولا يسأل أحداً ؛ سيجد الفرج قد أتى له من الله. انظر إلى الشاعر وهو يقول :
إذا رمت أن تستخرج المال منفقاً | فسل نفسك الإنفاق من كنز صبرها |
والذي يلفت إلى الحدث وحده يتعب ؛ والذي يلتفت إلى الحدث مقروناً بواقعه من ربه ؛ ويقول : " لابد أن هناك حكمة من الله وراء ذلك "، فهو الذي يصبر ابتغاء وجهه الله. ويريد الله أن يخص من يصبر ابتغاء وجهه بمنزلة عالية ؛ لأنه يعلم أن الله له حكمة فيما يجريه من أقدار. ويتابع سبحانه وصف أولي الألباب :﴿ وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية.. " ٢٢ " ﴾( سورة الرعد ).
وسبق أن قلنا في الصلاة أقوالاً كثيرة ؛ وأن من يؤديها على مطلوبها ؛ فهو من يعلم أنها جلوة بين العبد وربه، ويكون العبد في ضيافة ربه.
وحين تعرض الصنعة على صانعها خمس مرات في اليوم فلابد أن تنال الصنعة رعاية وعناية من صممها وخلقها، وكما أن الله غيب عنك ؛ فكذلك أسباب شفائك من الكروب يكون غيباً عنك. وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك " فكان إذا حزبه أمر قام إلى الصلاة ".
ومن عظمة الإيمان أن الله هو الذي يدعوك إلى الصلاة ؛ وهو سبحانه لا يمنع عنك القرب في أي وقت تشاء ؛ وأنت الذي تحدد متى تقف بين يديه في أي وقت بعد أن تلبي دعوته بالفروض ؛ لتؤدي ما تحب من النوافل ؛ ولا ينهي سبحانه المقابلة معك كما يفعل عظماء الدنيا ؛ بل تنهي أنت اللقاء وقت أن تريد.
ولقد تأدب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدب ربه ؛ وتخلق بالخلق السامي ؛ فكان إذا وضع أحد يده في يد الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فهو لا ينزع يده من يد من يسلم عليه ؛ إلا أن يكون هو النازع. وقول الحق سبحانه :﴿ وأنفقوا مما رزقناهم.. " ٢٢ " ﴾( سورة الرعد ) يعني : أنك لا يجب أن تنظر إلى ما يؤخذ منك، ولكن انظر إلى أنك إن وصلت إلى أن تحتاج من الغير سيؤخذ لك، وهذا هو التأمين الفعال، ومن يخاف أن يترك عيالاً دون قدرة، ولو كان هذا الإنسان يحيا في مجتمع إيماني، لوجد قول الحق مطبقاً :﴿ وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً " ٩ " ﴾( سورة النساء ) وبذلك لا يشعر اليتيم باليتم ؛ ولا يخاف أحد على عياله، ولا يسخط أحد على قدر الله فيه. وسبحانه يضع الميزان الاقتصادي حين يطلب منا الإنفاق، والإنفاق يكون من مال زائد ؛ أو مال بلغ النصاب، ولذلك فعليك أن تتحرك حركة نافعة للحياة، ويستفيد منها الغير، كي يكون لك مال تنفق منه، وعلى حركتك أن تسعك وتسع غيرك.
وهناك من ينفق مما رزقه الله بأن يأخذ لنفسه ما يكفيها، وينفق الباقي لوجه الله ؛ لأنه يضمن أن له إلهاً قادراً على أن يرزقه، والمضمون عند الله أكثر مما في يده. وهاهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل أبا بكر فيما ناله من غنائم ويقول له : ماذا صنعت بها يا أبا بكر ؟ فيقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه : تصدقت بها كلها. فيقول الرسول : وماذا أبقيت ؟ يقول أبو بكر : أبقيت الله ورسوله.
وسأل رسول الله عمر بن الخطاب رضي الله عنه : وماذا فعلت يا عمر ؟ فيقول ابن الخطاب : تصدقت بنصفها ولله عندي نصفها. وكأنه يقول للرسول : " إن كان هناك مصرف تريدني أن أصرف فيه النصف الباقي لله عندي ؛ فلسوف افعل ".
وهكذا رأينا من يصرف مما رزقه الله ؛ بكل ما رزقه سبحانه، وهو أبو بكر الصديق ؛ ونجد من ينفق مما رزقه الله ومستعد لأن ينفق الباقي إن رأى رسول الله مصرفاً يتطلب الإنفاق. ونجد من توجيهات الإسلام أن من يراعى يتيماً ؛ فليستعفف فلا يأخذ شيئاً من مال اليتيم إن كان الولي على اليتيم له مال ؛ وإن كان الولي فقيراً فليأكل بالمعروف.
ولقائل أن يسأل : ولماذا نأتي بالفقير لتكون له ولاية على مال اليتيم ؟
وأقول : كي لا يحرم المجتمع من خبرة قادرة على الرعاية ؛ فيأتي الفقير صاحب الخبرة ؛ وليأكل بالمعروف. ونلحظ أن الحق سبحانه قال :﴿ وارزقوهم فيها.. " ٢٢ " ﴾( سورة الرعد )
ولم يقل " ارزقوهم منها " أي : خذوا الرزق من المطمور فيها يملكون بالحركة في هذا المال. وهكذا نفهم كيف ينفق الإنسان المؤمن مما رزقه الله ؛ فهناك من ينفق كل ما عنده ؛ لأنه واثق من رصيده عند ربه، وهناك من ينفق البعض مما رزقه الله ؛ وقد تأخذه الأريحية والكرم فيعطي كل من يسأله، وقد ينفق كل ما عنده ؛ مثل من يجلس في جرن القمح ويريد أن يزكي يوم الحصاد ؛ فيعطي كل من يسأله ؛ إلى أن يفرغ ما عنده.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول :﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " ١٤١ " ﴾( سورة الأنعام ).
وهنا نجد الحق سبحانه يصف هؤلاء المنفقين في سبيله :﴿ وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية.. " ٢٢ " ﴾( سورة الرعد ).
والسر هو الصدقة المندوبة، أما الإنفاق في العلانية ؛ فهي الصدقة الواضحة ؛ لأن الناس قد تراك غنياً أو يشاع عنك ذلك، ولا يرونك وأنت تخرج الزكاة، فتنالك ألسنتهم بالسوء ؛ وحين يرونك وأنت تنفق وتتصدق ؛ فهم يعرفون أنك تؤدي حق الله، وتشجعهم أنت بأن ينفقوا مما رزقهم الله.
وصدقة السر وصدقة العلن أمرها متروك لتقدير الإنسان ؛ فهناك من يعطي الصدقة للدولة لتتصرف فيها هي ؛ ويعطي من بعد ذلك للفقراء سراً ؛ وهذا إنفاق في العلن وفي السر ؛ وجاء الحق بالسر والعلانية ؛ لأنه لا يريد أن يحجب الخير عن أي أحد بأي سبب.
وقد يقول قائل : إن فلاناً يخرج الصدقة رياءً.
وأقول لمن يتفوه بمثل هذا القول : ألم يستفد الفقير من الصدقة ؟ إنه يستفيد، ولا أحد يدخل في النوايا. ويتابع سبحانه :﴿ ويدرءون بالحسنة السيئة.. " ٢٢ " ﴾( سورة الرعد )
والدرء : هو الدفع بشدة ؛ أي : يدفعون بالحسنة السيئة بشدة. وأول حسنة إيمانية هي أن تؤمن بالله ؛ وبذلك ت
والجنات معناها كما نفهم هي البساتين التي فيها أشجار وفيها ثمار ؛ وكل ما تشتهي الأنفس، مع ملاحظة أن هذه الجنات ليست هي المساكن ؛ بل في تلك الجنات مسكن بدليل قول الحق سبحانه :﴿ ومساكن طيبة في جنات عدنٍ.. " ٧٢ " ﴾( سورة التوبة ) فالجنات هي الحدائق ؛ وفيها مساكن، ونحن في حياتنا الدنيا نجد الفيلات في وسط الحدائق، فما بالنا بما يعد به الله من طيب المساكن وسط الجنات ؟.
لابد أن ينطبق عليه وصف الرسول صلى الله عليه وسلم للجنة في الحديث القدسي عن رب العزة سبحانه :
" أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ". وهكذا بين الله سبحانه عقبى الدار ؛ فهي :﴿ جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم.. " ٢٣ " ﴾( سورة الرعد ).
وآباء جمع " أب " أي : يدخلها مع أولي الألباب من كان صالحاً من الآباء متبعاً لمنهج الله. وإن سأل سائل : وأين الأمهات ؟.
أقول : نحن ساعة نثني المتماثلين نغلب الذكر دائماً، ولذلك فآباؤهم تعني الأب والأم، ألم يقل الحق سبحانه في سورة يوسف :﴿ ورفع أبويه على العرش.. " ١٠٠ " ﴾( سورة يوسف )
وهؤلاء هم الذين يدخلون الجنة من أولي الألباب الذين استوفوا الشروط التسعة التي تحدثنا عنها ؛ فهل استوفى الآباء والأزواج والأبناء الشروط التسعة ؟.
ونقول : إن الحق سبحانه وتعالى يعامل خلقه في الدنيا بمقتضى العواطف الموجودة في الذرية ؛ فالواحد منا يحب أولاده وأزواجه وآباءه ؛ ومادام يحبهم وقد صلحوا كل حسب طاقته ؛ فالحق سبحانه يلحقهم به. ولذلك تأتي آية أخرى يقول فيها الحق سبحانه :
﴿ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئٍ بما كسب رهين " ٢١ " ﴾( سورة الطور ).
وهنا يمسك القرآن القضية العقلية في الإلحاق بمعنى أن تلحق ناقصاً بكامل، فلو كان مساوياً له في العمل ما سمى إلحاقاً، فكل إنسان يأخذ حقه ؛ وقد اشترط الحق سبحانه شرطاً واحداً في إلحاق الذرية بالآباء، أو إلحاق الآباء بالذرية في الجنة، وهو الإيمان فقط.
وأوضح لنا هنا أن الآباء قد تميزوا بعمل إيماني بدليل قوله تعالى :﴿ وما ألتناهم من عملهم من شيءٍ.. " ٢١ " ﴾( سورة الطور ). فلم يأخذ سبحانه عمل الأب الذي عمل ؛ الابن الذي لم يعمل، ومزج الاثنين، ليأخذ المتوسط، لا، وذلك كي لا يظلم من عمل من الآباء أو الأبناء.
ثم إن ذلك لو حدث ؛ لما اعتبر تواجد الآباء مع الأبناء في الجنة إلحاقاً ؛ لأن الإلحاق يقتضي أن يبقى حق كل من عمل ؛ ثم يتكرم سبحانه من بعد ذلك بعملية الإلحاق ؛ بشرط واحد هو أن يكون الشخص الملحق مؤمناً. وهكذا نفهم قول الحق سبحانه :
﴿ والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان.. " ٢١ " ﴾( سورة الطور ).
أي : أن الذرية مؤمنة ؛ والأزواج مؤمنون ؛ والأهل مؤمنون ؛ والأبوين مؤمنان، ولكن الذي يلحق به هو من يكرمه الله بهذا الإلحاق كي يدخل الفرح على قلب المؤمن حين يرى أولاده معه في الجنة ماداموا مؤمنين ؛ وهذه قمة في العدالة، لماذا ؟.
والمثل الذي أضربه على ذلك : هب أن أباً قد حرص على أن يطعم أهله من حلال ؛ فقد يعيش أولاده في ضيق وشظف ؛ بينما نجد أبناء المنحرف يعيشون في بحبوحة من العيش ؛ وهكذا يتنعم أبناء المنحرف الذي يأكل ويطعم أولاده من حرام ؛ بينما يعاني أبناء الأمين الذي قد يعتبره البعض متزمتاً ؛ لأنه يرعى حق الله، ويرفض أكل الحرام.
ومادام أولاده الذين يأكلون من حلال قد يعانون معه من عدم التنعم ؛ فالحق سبحانه يلحقهم في الجنة بنعيم يعيشه الأب ؛ لا يفوتهم فيه شيء ؛ ولا يفوته شيء.
وبذلك تسعد الذرية ؛ لأنها جاءت من صلب رجل مؤمن قضى حياته على جادة الصواب ؛ رغم أن بعض الناس قد اتهمته في الدنيا بأنه متزمت. ولقائل أن يقول : ألا يوجد تناقض بين هذا الإلحاق وبين قول الحق سبحانه :﴿ لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئاً.. " ٣٣ " ﴾( سورة لقمان ).
وأقول : لا يوجد تناقض ؛ لأننا نصلي على الميت صلاة شرعها المشرع ؛ وفائدتها أن تصل الرحمة للميت المؤمن ؛ والإيمان من عمله.
ولذلك يضيف له الحق سبحانه فوق رصيد الإيمان ما يشاؤه هو سبحانه من الرحمة بصلاة الجنازة التي أقامها المسلمون عليه :﴿ جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل بابٍ " ٢٣ " ﴾( سورة الرعد )
وكلمة " زوج " تعني المرأة التي يتزوجها الرجل ؛ وتعني الرجل الذي تتزوجه المرأة، ونحن نخطئ خطأ شائعاً حين نقول " زوجة " ؛ بل الصحيح أن نقول " زوج " عن المرأة المنسوبة لرجل بعلاقة الزواج. وسبحانه يقول :﴿ وأزواجه أمهاتهم.. " ٦ " ﴾( سورة الأحزاب )
وهكذا نعلم أن جنات عدن هي مكان ينتظم كل شيء ؛ ولهذا المكان أبواب متعددة ؛ هي أبواب الطاعات التي أدت إلى خير الجزاءات ؛ فباب الصلاة يدخله الناس ؛ وباب الزكاة يدخله أناس ؛ وباب الصبر يدخله أناس ؛ وهكذا تتعدد الأبواب ؛ وهي إما أبواب الطاعات أو أبواب الجزاءات التي تدخل منها الطيبات :﴿ كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل.. " ٢٥ " ﴾( سورة البقرة ) فالباب يكون مفتوحاً ؛ تأتي منه الفاكهة والثمرات والخيرات على اختلاف ألوانها ؛ فمرة تأتي ثمار المانجو من باب ؛ وبعد ذلك تأتي ثمار التفاح.
وتلك الأبواب كما قلت هي إما للجزاءات ؛ أو هي أبواب الطاعات التي أدت إلى الجزاءات، وتدخل عليهم الملائكة من كل باب ؛ فماذا تقول الملائكة ؟.
وقال صلى الله عليه وسلم عن لحظات ما بعد الحساب : " الجنة أبداً، أو النار أبداً "
ولذلك يقول سبحانه عن خيرات الجنة :﴿ لا مقطوعة ولا ممنوعةٍ " ٣٣ " ﴾( سورة الواقعة )
والملائكة كما نعلم نوعان : الملائكة المهيمون الذين يشغلهم ذكر الله تعالى عن أي شيء ولا يدرون بنا ؛ ولا يعلمون قصة الخلق ؛ وليس لهم شأن بكل ما يجري ؛ فليس في بالهم إلا الله وهم الملائكة العالون ؛ الذين جاء ذكرهم في قصة السجود لآدم حين سأل الحق سبحانه الشيطان :
﴿ استكبرت أم كنت من العالين " ٧٥ " ﴾( سورة ص ) أي : أن العالين هنا هم من لم يشملهم أمر السجود، وليس لهم علاقة بالخلق، وكل مهمتهم ذكر الله فقط.
أما النوع الثاني فهم الملائكة المدبرات أمراً، ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى قد استدعى آدم إلى الوجود هو وذريته، وأعد له كل شيء في الوجود قبل أن يجئ ؛ الأرض مخلوقة والسماء مرفوعة ؛ والجبال الرواسي بما فيها من قوتٍ ؛ والشمس والقمر والنجوم والمياه والسحاب. والملائكة المدبرات هم من لهم علاقة بالإنسان الخليفة، وهم من قال لهم الحق سبحانه :﴿ اسجدوا لآدم.. " ٣٤ " ﴾( سورة البقرة ) وهم الذين يتولون أمر الإنسان تنفيذاً لأوامر الحق سبحانه لهم، ومنهم الحفظة الذين قال فيهم الحق سبحانه :﴿ له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظون من أمر الله.. " ١١ " ﴾( سورة الرعد ) أي : أن الأمر صادر من الله سبحانه، وهم بعد أن يفرغوا من مهمتهم كحفظة من رقيب وعتيد على كل إنسان، ولن يوجد ما يكتبونه من بعد الحساب وتقرير الجزاء ؛ وهنا سيدخل هؤلاء الملائكة على أهل الجنة ليحملوا ألطاف الله والهدايا ؛ فهم منوط بهم الإنسان الخليفة.
وسبحانه حين يورد كلمة في القرآن بموقعها البياني الإعرابي ؛ فهي تؤدي المعنى الذي أراده سبحانه. والمثل هو كلمة " سلام " ؛ فضيف إبراهيم من الملائكة :﴿ قالوا سلاماً قال سلام.. " ٦٩ " ﴾( سورة هود ).
وكان القياس يقتضي أن يقول هو " سلاماً "، ولكنها قضية إيمانية، لذلك قال :﴿ سلام.. " ٦٩ " ﴾( سورة هود ).
فالسلام هنا يأت منصوباً ؛ بل جاء مرفوعاً ؛ لأن السلام للملائكة أمر ثابت لهم ؛ وبذلك حياهم إبراهيم بتحية هي أحسن من التحية التي حيوه بها. فنحن نسلم سلاماً ؛ وهو يعني أن نتمنى حدوث الفعل، ولكن إبراهيم عليه السلام فطن إلى أن السلام أمر ثابت لهم.
وهكذا الحال هنا حين تدخل الملائكة على العباد المكرمين بدخول الجنة، فهم يقولون :
﴿ سلام.. " ٢٤ " ﴾( سورة الرعد ). وهي مرفوعة إعرابياً ؛ لأن السلام أمر ثابت مستقر في الجنة، وهم قالوا ذلك ؛ لأنهم يعلمون أن السلام أمر ثابت هناك ؛ لا يتغير بتغير الأغيار ؛ كما في أمر الدنيا.
والسلام في الجنة لهؤلاء بسبب صبرهم، كما قال الحق سبحانه على ألسنة الملائكة :
﴿ سلام عليكم بما صبرتم.. " ٢٤ " ﴾( سورة الرعد ).
وجاء الصبر في صيغة الماضي، وهي صيغة صادقة ؛ فهم قد صبروا في الدنيا ؛ وانتهى زمن الصبر بانتهاء التكليف.
وهم هنا في دار جزاء ؛ ولذلك يأتي التعبير بالماضي في موقعه ؛ لأنهم قد صبروا في دار التكليف على مشقات التكليف ؛ صبروا على الإيذاء ؛ وعلى الأقدار التي أجراها الحق سبحانه عليهم. وهكذا يكون قول الحق سبحانه :﴿ سلام عليكم بما صبرتم.. " ٢٤ " ﴾( سورة الرعد ).
في موقعه تماماً وكذلك قوله الحق عمن توفرت فيهم التسع صفات، وهم في الدنيا :
﴿ والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم.. " ٢٢ " ﴾( سورة الرعد ).
وجاء بالصبر هنا في الزمن الماضي ؛ رغم أنهم مازالوا في دار التكليف ؛ والذي جعل هذا المعنى متسعاً هو مجيء كل ما أمر به الله بصيغة المضارع ؛ مثل قوله تعالى :﴿ الذين يوفون بعهد الله.. " ٢٠ " ﴾( سورة الرعد ) وهذه مسألة تحتاج إلى تجديد دائم ؛ وقوله :
﴿ ولا ينقضون الميثاق " ٢٠ " ﴾( سورة الرعد ).
وقوله :﴿ والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل.. " ٢١ " ﴾( سورة الرعد )
و ( ويخشون )، ( ويخافون ) هكذا نرى كل تلك الأفعال تأتي في صيغة المضارع، ثم تختلف الصيغة إلى الماضي في قوله :﴿ والذين صبروا.. " ٢٢ " ﴾( سورة الرعد )
والمتأمل لكل ذلك يعلم أن كل تلك الأمور تقتضي الصبر ؛ وكأن الصبر يسبق كل هذه الأشياء، وهو القاسم المشترك في كل عهد من العهود السابقة. وقد عبر الحق سبحانه لأجل هذه اللفتة بالماضي حين جاء حديث الملائكة لهم وهم في الجنة.
وهكذا تقع كلمة الصبر في موقعها ؛ لأن الملائكة تخاطبهم بهذا القول وهم في دار البقاء ؛ ولأن المتكلم هو الله ؛ فهو يوضح لنا جمال ما يعيش فيه هؤلاء المؤمنون في الدار الآخرة. ويذيل الحق سبحانه الآية الكريمة بقوله :﴿ فنعم عقبى الدار " ٢٤ " ﴾( سورة الرعد )
وعلمنا أن " عقبى " تعني الأمر الذي يجيء في العقب، وحين يعرض سبحانه القضية الإيمانية وصفات المؤمنين المعايشين للقيم الإيمانية ؛ فذلك بهدف أن تستشرف النفس أن تكون منهم، ولابد أن تنفر النفس من الجانب المقابل لهم.
والمثل هو قول الحق سبحانه :﴿ إن الأبرار لفي نعيمٍ " ١٣ " ﴾( سورة الانفطار )
ويأتي بمقابلها بعدها :﴿ وإن الفجار لفي جحيمٍ " ١٤ " ﴾( سورة الانفطار )
وساعة تقارن بأنهم لو لم يكونوا أبراراً ؛ لكانوا في جحيم ؛ هنا نعرف قدر نعمة توجيه الحق لهم، ليكونوا من أهل الإيمان. وهكذا نجد أنفسنا أمام أمرين : سلب مضرة ؛ وجلب منفعة، ولذل يقول الحق سبحانه أيضاً عن النار :﴿ وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً " ٧١ " ﴾( سورة مريم )أي : كلنا سنرى النار. ويقول سبحانه :﴿ ثم لترونها عين اليقين " ٧ " ﴾( سورة التكاثر ) وذلك لكي يعرف كل مسلم ماذا صنعت به نعمة الإيمان ؛ قبل أن يدخل الجنة، وبذلك يعلم أن الله سلب منه مضرة ؛ وأنعم عليه بمنفعة، سلب منه ما يشقى ؛ وأعطاه ما يفيد. ولذلك يقول الحق سبحانه :﴿ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز.. " ١٨٥ " ﴾( سورة آل عمران ) وإذا كان الحق سبحانه قد وصف أولي الألباب بالأوصاف المذكورة من قبل ؛ فهو يبين لنا أيضاً خيبة المقابلين لهم.
يقول سبحانه :﴿ وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى.. " ١٧٢ " ﴾( سورة الأعراف ).
وهنا يوضح سبحانه أن من ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه وتأكيده بالآيات الكونية التي تدل على وجود الخالق الواحد :﴿ ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل.. " ٢٥ " ﴾( سورة الرعد )
والمقابل لهم هم أولو الألباب الذين كانوا يصلون ما أمر سبحانه أن يوصل وهؤلاء الكفرة نقضة العهد :﴿ ويفسدون في الأرض.. " ٢٥ " ﴾( سورة الرعد ) ولم يأت الحق سبحانه بالمقابل لكل عمل أداه أولو الألباب ؛ فلم يقل : " ولا يخشون ربهم " ؛ لأنهم لا يؤمنون بإله ؛ ولم يقل : " لا يخافون سوء الحساب " لأنهم لا يؤمنون بالبعث. وهكذا يتضح لنا أن كل شيء في القرآن جاء بقدرٍ، وفي تمام موقعه.
ونحن نعلم أن الإفساد في الأرض هو إخراج الصالح عن صلاحه، فأنت قد أقبلت على الكون، وهو معد لاستقبالك بكل مقومات الحياة من مأكل ومشرب وتنفس ؛ وغير ذلك من الرزق، واستبقاء النوع بأن أحل لنا سبحانه أن نتزاوج ذكراً وأنثى.
والفساد في الكون أن تأتي إلى صالح في ذاته فتفسده ؛ ونقول دائماً : إن كنت لا تعرف كيف تزيد الصالح صلاحاً ؛ فاتركه على حاله ؛ واسمع قول الحق سبحانه :﴿ ولا تقف ما ليس لك به علم.. " ٣٦ " ﴾( سورة الإسراء ).
فلا تنظر في أي أمر إلى الخير العاجل منه ؛ بل انظر إلى ما يؤول إليه الأمر من بعد ذلك ؛ أيضر أم ينفع ؟ لأن الضر الآجل قد يتلصص ويتسلل ببطء وأناة ؛ فلا تستطيع له دفعاً من بعد ذلك. ويقول الحق سبحانه في آخر الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :
﴿ أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار " ٢٥ " ﴾( سورة الرعد )
ونلحظ أن التعبير هنا جاء باللام مما يدل على أن اللعنة عشقتهم عشق المال للملوك :﴿ ولهم سوء الدار " ٢٥ " ﴾( سورة الرعد ) أي : عذابها، وهي النار والعياذ بالله.
فمن العلماء من قال : إن الرزق هو الحلال فقط ؛ ومنهم من قال : إن الرزق هو كل ما ينتفع به سواء أكان حلالاً أم حراماً ؛ لأنك إن قلت إن الرزق محصور في الحلال فقط ؛ إذن : فمن كفر بالله من أين يأكل ؟.
أم يخاطب الحق سبحانه المكابرين قائلاً :﴿ قل من يرزقكم من السماء والأرض.. " ٣١ " ﴾( سورة يونس )
وقال سبحانه :﴿ إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين " ٥٨ " ﴾( سورة الذاريات )
ويقول تعالى :﴿ وفي السماء رزقكم وما توعدون " ٢٢ " فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون " ٢٣ " ﴾( سورة الذاريات )
إذن : فالرزق هو من الله ؛ ومن بعد ذلك يأمر " افعل كذا " و " لا تفعل كذا ". وقول الحق سبحانه :﴿ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر.. " ٢٦ " ﴾( سورة الرعد ) أي : أنه سبحانه يمد الرزق لمن يشاء :﴿ ويقدر.. " ٢٦ " ﴾( سورة الرعد ) من القدر. أي : في حالة إقداره على المقدر عليه ؛ وهو من يعطيه سبحانه على قدر احتياجه ؛ لأن القدر هو قطع شيء على مساحة شيء، كأن يعطي الفقير ويبسط له الرزق على قدر احتياجه.
والحق سبحانه أمرنا أن نعطي الزكاة للفقير ؛ ويظل الفقير عائشاً على فقره ؛ لأنه يعيش على الكفاف.
أو : يقدر بمعنى يضيق ؛ وساعة يحدث ذلك إياك أن تظن أن التضييق على الفقير ليس لصالحه، فقد يكون رزقه بالمال الوفير دافعاً للمعصية ؛ ومن العفة ألا يجد.
أو : يقدر بمعنى يضيق على إطلاقها، يقول سبحانه :﴿ لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا " ٧ " ﴾( سورة الطلاق )ولأن الله قد آتاه فهذا يعني أنه بسط له بقدره. ويتابع سبحانه :﴿ وفرحوا بالحياة الدنيا.. " ٢٦ " ﴾( سورة الرعد )وطبعاً سيفرح بها من كان رزقه واسعاً ؛ والمؤمن هو من ينظر إلى الرزق ويقول : هو زينة الحياة الدنيا ؛ ولكن ما عند الله خير وأبقى. أما أهل الكفر فقد قالوا :
﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيمٍ " ٣١ " ﴾( سورة الزخرف )
ويرد الحق سبحانه عليهم :﴿ أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات.. " ٣٢ " ﴾( سورة الزخرف ).
وساعة تبحث في تحديد هذا البعض المبسوط له الرزق ؛ والبعض المقدر عليه في الرزق ؛ لن تجد ثباتاً في هذا الأمر ؛ لأن الأغيار قد تأخذ من الغني فتجعله فقيراً ؛ وقد تنتقل الثروة من الغني إلى الفقير.
وسبحانه قد ضمن أسباباً عليا في الرزق ؛ لكل من المؤمن والكافر ؛ والطائع والعاصي ؛ وكلنا قد دخل الحياة ليأخذ بيده من عطاء الربوبية ؛ فإن قصر واحد ؛ فليس لهذا المرء من سبب سوى أنه لم يأخذ بأسباب الربوبية وينتفع بها.
وقد يأخذ بها الكافر وينتفع بها. والحق سبحانه هو القائل :﴿ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيبٍ " ٢٠ " ﴾( سورة الشورى ).
إذن : فليس هناك تضييق إلا في الحدود التي يشاؤها الله، مثل أن يزرع الإنسان الأرض، ويتعب في الري والحرث ؛ ثم تأتي صاعقة أو برد مصحوب بصقيع فيأكل الزرع ويميته. وفي هذا لفت للإنسان ؛ بأنه سبحانه قد أخذ هذا الإنسان من رزقه ؛ وهو العطاء منه ؛ كي لا يفتن الإنسان بالأسباب، وقد يأتي رزقه من بعد ذلك من منطقة أخرى، وبسبب آخر.
﴿ الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا.. " ٢٦ " ﴾( سورة الرعد )
والفرح في حد ذاته ليس ممنوعاً ولا محرماً، ولكن الممنوع هو فرح البطر كفرح قارون :
﴿ إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة إذ قال له قومه لا تفرح.. " ٧٦ " ﴾( سورة القصص ).
والحق سبحانه قد قال :﴿ إن الله لا يحب الفرحين " ٧٦ " ﴾( سورة القصص )
وهذا هو فرح البطر الذي لا يحبه الله ؛ لأنه سبحانه قال في موقع آخر :
﴿ قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون " ٥٨ " ﴾( سورة يونس )
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يأتي بفرحهم ؛ وبسبب هذا الفرح وهو الحياة الدنيا ؛ أي : أنه سبب تافه للفرح، لأنها قد تؤخذ منهم وقد يؤخذون منها، ولكن الفرح بالآخرة مختلف، وهو الفرح الحق. ولذلك يقول فيه الحق سبحانه :﴿ فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون " ٥٨ " ﴾( سورة يونس ) ويقيس الحق سبحانه أمامنا فرح الحياة الدنيا بالآخرة، فيقول :﴿ وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع " ٢٦ " ﴾( سورة الرعد ).
ومتاع الرجل هو ما يعده إعداداً ينفقه في سفر قصير، كالحقيبة الصغيرة التي تضع فيها بعضاً من الملابس والأدوات التي تخصك لسفر قصير.
والعاقل هو من ينظر إلى أقصى ما يمكن أن يفعله الإنسان في الحياة ؛ فقد يتعلم إلى أن يصل إلى أرقى درجات العلم ؛ ويسعى في الأرض ما وسعه السعي ؛ ثم أخيراً يموت.
والمؤمن هو من يصل عمل دنياه بالآخرة ؛ ليصل إلى النعيم الحقيقي، والمؤمن هو من يبذل الجهد ليصل نفسه برحمة الله ؛ لأنها باقية ببقاء الله، ولأن المؤمن الحق يعلم أن كل غاية لها بعد ؛ لا تعتبر غاية.
ولذلك فالدنيا في حد ذاتها لا تصلح غاية للمؤمن، ولكن الغاية الحقة هي : إما الجنة أبداً، أو النار أبداً.
﴿ لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون " ١٣ " ﴾( سورة النور ) والجملة التي دخلت عليها " لولا " في هذه الآية هي جملة فعلية، وكأن الحق سبحانه يحضنا هنا على أن نلتفت إلى الآية الكبرى التي نزلت عليه صلى الله عليه وسلم، وهي القرآن.
وقد تساءل الكافرون كذباً عن مجيء آية ؛ وكان تساؤلهم بعد مجيء القرآن، وهذا كذب واقع ؛ يناقضون به أنفسهم ؛ فقد قالوا :﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيمٍ " ٣١ " ﴾( سورة الزخرف ) وهم بذلك قد اعترفوا أن القرآن بلغ حد الإعجاز وتمنوا لو أنه نزل على واحد من عظماء القريتين مكة أو الطائف. وهم من قالوا أيضاً :﴿ وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون " ٦ " ﴾( سورة الحجر ).
ثم يعودون هنا لينكروا الاعتراف بالقرآن كمعجزة، على الرغم من أنه قد جاء من جنس ما نبغوا فيه، فهم يتذوقون الأدب، ويتذوقون البيان، ويتذوقون الفصاحة ؛ ويقيمون الأسواق ليعرضوا إنتاجهم في البلاغة والقصائد، فهم أمة تطرب فيها الأذن لما ينطقه اللسان.
ولكنهم هنا يطلبون آية كونية كالتي نزلت على الرسل السابقين عليهم السلام، ونسوا أن الآية الكونية عمرها مقصور على وقت حدوثها ؛ ومن رآها هو من يصدقها، أو يصدقها من يخبره بها مصدر موثوق به.
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبعوث لتنظيم حركة الحياة في دنيا الناس إلى أن تقوم الساعة ؛ ولو أنه قد جاء بآية كونية ؛ لأخذت زمانها فقط.
ولذلك شاء الحق سبحانه أن يأتي بآية معجزة باقية إلى أن تقوم الساعة، فضلاً عن أنه صلى الله عليه وسلم قد جاءت له معجزات حسية ؛ كتفجر الماء من بين أصابعه ؛ وحفنة الطعام التي أشبعت جيشاً ؛ وأظلته السحابة ؛ وحن جذع الشجرة حنيناً إليه ليقف من فوقه خطيباً وجاءه الضب مسلماً.
كل تلك آيات كونية هي حجة على من رآها، وكذلك معجزات الرسل السابقين، ولولا أن رواها لنا القرآن لما آمنا بها، وكانت الآيات الكونية التي جاءت مع الرسل هي مجرد إثبات لمن عاشوا في أزمان الرسل السابقين على أن هؤلاء الرسل مبلغون عن الله.
وقد شرح الحق سبحانه هذا الأمر بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون " ٥٩ " ﴾( سورة الإسراء ) أي : أن الرسل السابقين الذين نزلوا في أقوامهم وصحبتهم الآيات الكونية قابلوا أيضاً المكذبين بتلك الآيات، وقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا أيضاً :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا " ٩٠ " أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا " ٩١ " أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً " ٩٢ " ﴾( سورة الإسراء ).
ويقول الحق سبحانه في موقع آخر :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون " ١١١ " ﴾
( سورة الأنعام ) وهكذا يبين لنا الحق سبحانه أنهم غارقون في العناد ولن يؤمنوا، وأن أقوالهم تلك هي مجرد حجج يتلكئون بها. وهم هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقولون :﴿ لولا أنزل عليه آية من ربه.. " ٢٧ " ﴾( سورة الرعد )
وهكذا نجد أنهم يعترفون أن له رباً ؛ على الرغم من أنهم قد اتهموه من قبل أنه ساحر، وأنه والعياذ بالله كاذب، وحين فتر عنه الوحي قالوا : " إن رب محمد قد قلاه ". وأنزل الحق سبحانه الوحي :﴿ والضحى " ١ " والليل إذا سجى " ٢ " ما ودعك ربك وما قلى " ٣ " وللآخرة خير لك من الأولى " ٤ " ولسوف يعطيك ربك فترضى " ٥ " ﴾( سورة الضحى، أي : أن الوحي سوف يستمر، وهكذا فضح الله كذبهم على مر سنوات الرسالة المحمدية. وهم هنا يتعنتون في طلب الآية الحسية الكونية ؛ وكلمة آية كما عرفنا من قبل هي : إما آية كونية تلفت إلى وجود الخالق. أو : آية من القرآن فيها تفصيل للأحكام ؛ وليست تلك هي الآية التي كانوا يطلبونها. أو : آية معجزة تدل على صدق الرسالة.
وكأن طلب الآيات إنما جاء لأنهم لم يقتنعوا بآية القرآن ؛ وهذا دليل غبائهم في استقبال أدلة اليقين بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن القرآن جاء معجزة، وجاء منهجاً.
والمعجزة كما أوضحنا إنما تأتي من جنس ما نبغ فيه القوم، ولا يأتي سبحانه بمعجزة لقوم لم يحسنوا شيئاً مثلها ولم ينبغوا فيه.
فالذين كانوا يمارسون السحر جاءت المعجزة مع الرسول المرسل إليهم من نفس النوع، والذين كانوا يعرفون الطب، جاء لهم رسول، ومعه معجزة مما نبغوا فيه. وقد جاءت معجزة رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنس ما نبغوا فيه ؛ فضلاً عن أن القرآن معجزة ومنهج في آنٍ واحد، بخلاف معجزة التوقيت والتقيد في زمن.
ومع ذلك، فإن كفار مكة تعنتوا، ولم يكتفوا بالقرآن معجزة وآيات تدلهم إلى سواء السبيل ؛ بل اقترحوا هم الآية حسب أهوائهم ؛ ولذلك نجدهم قد ضلوا. ونجد الحق سبحانه يقول بعد ذلك :﴿ قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب " ٢٧ " ﴾( سورة الرعد )
وهنا نقف وقفة ؛ لأن البعض يحاول أن يسقط عن الإنسان مسئولية التكليف ؛ ويدعي أن الله هو الذي يمنع هداية هؤلاء الكافرين. ونقول : إننا إن استقرأنا آيات القرآن ؛ سنجد قول الحق سبحانه :﴿ والله لا يهدي القوم الكافرين " ٢٦٤ " ﴾( سورة البقرة )
ونجد قول الحق سبحانه :﴿ إن الله لا يهدي القوم الظالمين " ٥١ " ﴾( سورة المائدة )
ويقول سبحانه أيضاً :﴿ والله لا يهدي القوم الفاسقين " ١٠٨ " ﴾( سورة المائدة )
ومن كل ذلك نفهم أن العمل السابق منهم هو الذي يجعله سبحانه لا يهديهم، لأن الإنسان مادام قد جاء له حكم أعلى، ويؤمن بمصدر الحكم ؛ فمن أنزل هذا الحكم يعطي للإنسان معونة، لكن من يكذب بمصدر الحكم الأعلى فسبحانه يتركه بلا معونة.
أما من يرجع إلى الله ؛ فسبحانه يهديه ويدله ويعينه بكل المدد. ويواصل الحق ما يمنحه سبحانه من اطمئنان لمن ينيب إليه.
ونعلم أن الإنسان له حواس إدراكية يستقبل بها المحسات ؛ وله عقل يأخذ هذه الأشياء ويهضمها ؛ بعد إدراكها ؛ ويفحصها جيداً، ويتلمس مدى صدقها أو كذبها ؛ ويستخرج من كل ذلك قضية واضحة يبقيها في قلبه لتصبح عقيدة، لأنها وصلت إلى مرحلة الوجدان المحب لاختيار المحبوب.
وهكذا تمر العقيدة بعدة مراحل ؛ فهي أولاً إدراك حسي ؛ ثم مرحلة التفكر العقلي ؛ ثم مرحلة الاستجلاء للحقيقة ؛ ثم الاستقرار في القلب لتصبح عقيدة. ولذلك يقول سبحانه :
﴿ وتطمئن قلوبهم.. " ٢٨ " ﴾( سورة الرعد ) فاطمئنان القلب هو النتيجة للإيمان بالعقيدة ؛ وقد يمر القلب بعض من الأغيار التي تزلزل الإيمان، ونقول لمن تمر به تلك الهواجس من الأغيار : أنت لم تعط الربوبية حقها ؛ لأنك أنت الملوم في أي شيء ينالك.
فلو أحسنت استقبال القدر فيما يمر بك من أحداث، لعلمت تقصيرك فيما لك فيه دخل بأي حادث وقع عليك نتيجة لعملك، أما ما وقع عليك ولا دخل لك فيه ؛ فهذا من أمر القدر الذي أراده الحق لك لحكمة قد لا تعلمها، وهي خير لك.
إذن : استقبال القدر إن كان من خارج النفس فهو لك، وإن كان من داخل النفس فهو عليك.
ولو قمت بإحصاء ما ينفعك من وقوع القدر عليك لوجدته أكثر بكثير مما سلبه منك. والمثل هو الشاب الذي استذكر دروسه واستعد للامتحان ؛ لكن مرضاً داهمه قبل الامتحان ومنعه من أدائه.
هذا الشاب فعل ما عليه ؛ وشاء الله أن ينزل عليه هذا القدر لحكمة ما ؛ كأن يمنع عنه حسد جيرانه ؛ أو حسد من يكرهون أمه أو أباه، أو يحميه من الغرور والفتنة في أنه معتمد على الأسباب لا على المسبب. أو تأخير مرادك أمام مطلوب الله يكون خيراً.
وهكذا فعلي الإنسان المؤمن أن يكون موصولاً بالمسبب الأعلى، وأن يتوكل عليه سبحانه وحده، وأن يعلم أن التوكل على الله يعني أن تعمل الجوارح، وان تتوكل القلوب ؛ لأن التوكل عمل قلبي، وليس عمل القوالب. ولينتبه كل منا إلى أن الله قد يغيب الأسباب كي لا نغتر بها، وبذلك يعتدل إيمانك به ؛ ويعتدل إيمان غيرك.
وقد ترى شاباً ذكياً قادراً على الاستيعاب، ولكنه لا ينال المجموع المناسب للكلية التي كان يرغبها ؛ فيسجد لله شكراً ؛ متقبلاً قضاء الله وقدره ؛ فيوفقه الله إلى كلية أخرى وينبغ فيها ؛ ليكون أحد البارزين في المجال الجديد. ولهذا يقول الحق سبحانه :﴿ وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون " ٢١٦ " ﴾( سورة البقرة ) وهكذا نجد أن من يقبل قدر الله فيه، ويذكر أن له رباً فوق كل الأسباب ؛ فالاطمئنان يغمر قلبه أمام أي حدث مهما كان. وهكذا يطمئن القلب بذكر الله ؛ وتهون كل الأسباب ؛ لأن الأسباب إن عجزت ؛ فلن يعجز المسبب.
وقد جاء الحق سبحانه بهذه الآية في معرض حديثه عن التشكيك الذي يثيره الكافرون، وحين يسمع المسلمون هذا التشكيك ؛ فقد توجد بعض الخواطر والتساؤلات : لماذا لم يأت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعجزة حسية مثل الرسل السابقين لتنفض هذه المشكلة، وينتهي هذا العناد ؟ ولكن تلك الخواطر لا تنزع من المؤمنين إيمانهم ؛ ولذلك ينزل الحق سبحانه قوله الذي يطمئن :﴿ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله.. " ٢٨ " ﴾
( سورة الرعد ) والذكر في اللغة جاء لمعانٍ شتى ؛ فمرة يطلق الذكر، ويراد به الكتاب أي : القرآن :﴿ إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " ٩ " ﴾
( سورة الحجر ) ويأتي الذكر مرة، ويراد به الصيت والشهرة والنباهة، يقول تعالى :﴿ وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون " ٤٤ " ﴾
( سورة الزخرف ) أي : أنه شرف عظيم لك في التاريخ، وكذلك لقومك أن تأتي المعجزة القرآنية من جنس لغتهم التي يتكلمون بها. وقد يطلق الذكر على الاعتبار ؛ والحق سبحانه يقول :﴿ ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوماً بوراً " ١٨ " ﴾( سورة الفرقان )
أي : نسوا العبر التي وقعت للأمم التي عاشت من قبلهم ؛ فنصر الله الدين رغم عناد هؤلاء. وقد يطلق الذكر على كل ما يبعثه الحق سبحانه على لسان أي رسول :﴿ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " ٤٣ " ﴾( سورة النحل ) وقد يطلق الذكر على العطاء الخير من الله. ويطلق الذكر على تذكر الله دائماً ؛ وهو سبحانه القائل :﴿ فاذكروني أذكركم.. " ١٥٢ " ﴾( سورة البقرة ) أي : اذكروني بالطاعة أذكركم بالخير والتجليات، فإذا كان الذكر بهذه المعاني ؛ فنحن نجد الاطمئنان في أي منها، فالذكر بمعنى القرآن يورث الاطمئنان. ويقول الحق سبحانه :﴿ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا " ٤١ " وسبحوه بكرة وأصيلا " ٤٢ " هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً " ٤٣ " ﴾( سورة الأحزاب ) فكل آية تأتي من القرآن كانت تطمئن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه صادق البلاغ عن الله ؛ فقد كان المسلمون قلة مضطهدة، ولا يقدرون على حماية أنفسهم، ولا على حماية ذويهم. ويقول الحق سبحانه في هذا الظرف :
﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر " ٤٥ " ﴾( سورة القمر ).
ويتساءل عمر رضي الله عنه : أي جمع هذا، ونحن لا نستطيع الدفاع عن أنفسنا ؛ وقد هاجر بعضنا إلى الحبشة خوفاً من الاضطهاد ؟.
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير إلى بدر، ويحدد أماكن مصارع كبار رموز الكفر من صناديد قريش ؛ ويقول : " هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان " ؛ بل ويأتي بالكيفية التي يقع بها القتل على صناديد قريش ؛ ويتلو قول الحق سبحانه :﴿ سنسمه على الخرطوم " ١٦ " ﴾( سورة القلم ) وبعد ذلك يأتون برأس الرجل الذي قال عنه رسول الله ذلك ؛ فيجدون الضربة قد جاءت على أنفه. فمن ذا الذي يتحكم في مواقع الموت ؟
إن ذلك لا يتأتى إلا من إله هو الله ؛ وهو الذي أخبر محمداً صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر " ٤٥ " ﴾( سورة القمر ).
وقد طمأن هذا القول القوم الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا يعلم الغيب، ولا يعلم الكيفية التي يموت عليها أي كافر وأي جبار ؛ وهو صلى الله عليه وسلم يخبرهم بها وهم في منتهى الضعف. وهذا الإخبار دليل على أن رصيده قوي عند علام الغيوب.
إذن : فقول الحق سبحانه :﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب " ٢٨ " ﴾( سورة الرعد ) يعني : أن القلوب تطمئن بالقرآن وما فيه من أخبار صادقة تمام الصدق، لتؤكد أن محمداً صلى الله عليه وسلم مبلغ عن ربه ؛ وأن القرآن ليس من عند محمد صلى الله عليه وسلم بل هو من عند الله.
وهكذا استقبل المؤمنون محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوا ما جاء به ؛ فهاهي خديجة رضي الله عنها وأرضاها لم تكن قد سمعت القرآن ؛ وما أن أخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بمخاوفه من أن ما يأتيه قد يكون جناً، فقالت :
" إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، والله ما يخزيك الله أبداً ".
وهاهو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه يصدق أن محمداً رسول من الله، فور أن يخبره بذلك.
وهكذا نجده صلى الله عليه وسلم قد امتلك سماتاً ؛ وقد صاغ الله لرسوله أخلاقاً تجعل من حوله يصدقون كل ما يقول فور أن ينطق.
ونلحظ أن الذين آمنوا برسالته صلى الله عليه وسلم ؛ لم يؤمنوا لأن القرآن أخذهم ؛ ولكنهم آمنوا لأن محمداً صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكذبهم القول، وسيرته قبل البعثة معجزة في حد ذاتها، وهي التي أدت إلى تصديق الأولين لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الكفار فقد أخذهم القرآن ؛ واستمال قلوبهم، وتمنوا لو نزل على واحد آخر غير محمد صلى الله عليه وسلم.
وحين يرى المؤمنون أن القرآن يخبرهم بالمواقف التي يعيشونها، ولا يعرفون لها تفسيراً ؛ ويخبرهم أيضاً بالأحداث التي سوف تقع، ثم يجدون المستقبل وقد جاء بها وفقاً لما جاء بالقرآن، هنا يتأكد لهم أن القرآن ليس من عند محمد، بل هو من عند رب محمد صلى الله عليه وسلم.
ولذلك فحين يثير الكفار خزعبلاتهم للتشكيك في محمد صلى الله عليه وسلم يأتي القرآن مطمئناً للمؤمنين ؛ فلا تؤثر فيهم خزعبلات الكفار.
والمؤمن يذكر الله بالخيرات ؛ ويعتبر من كل ما يمر به، وبكل ما جاء بكتاب الله ؛ وحين يقرأ القرآن فقلبه يطمئن بذكر الله ؛ لأنه قد آمن إيمان صدق.
وقد لمس المؤمنون أن أخبار النبي التي يقولها لهم قد تعدت محيطهم البيئي المحدود إلى العالم الواسع بجناحيه الشرقي في فارس، والغربي في الروم.
وقد أعلن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل المثال خبر انتصار الروم على الفرس، حين أنزل الحق سبحانه قوله :﴿ الم " ١ " غلبت الروم " ٢ " في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون " ٣ " في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون " ٤ " ﴾
( سورة الروم ).
فأروني أي عبقرية في العالم تستطيع أن تتحكم في نتيجة معركة بين قوتين تصطرعان وتقتتلان ؛ وبعد ذلك يحدد من الذي سينتصر، ومن الذي سيهزم بعد فترة من الزمن تتراوح من خمس إلى تسع سنوات ؟.
وأيضاً تأتي الأحداث العالمية التي لا يعلم عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، وتوافق ما جاء بالقرآن.
وكل ذلك يجعل المؤمنين بالقرآن في حالة اطمئنان إلى أن هذا القرآن صادق، وأنه من عند الله، ويصدق هذا قول الحق سبحانه :﴿ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب " ٢٨ " ﴾( سورة الرعد ).
ونعلم أن الكون قد استقبل الإنسان الأول وهو آدم عليه السلام استقبالاً، وقد هيئ له فيه كل شيء من مقومات الحياة ؛ وصار الإنسان يعيش في أسباب الله، تلك الأسباب الممدودة من يد الله ؛ فنأخذ بها وتترقى حياتنا بقدر ما نبذل من جهد.
وما أن نموت حتى نصل إلى أرقى حياة ؛ إن كان عملنا صالحاً وحسن إيماننا بالله ؛ فبعد أن كنا نعيش في الدنيا بأسباب الله الممدودة ؛ فنحن نعيش في الآخرة بالمسبب في جنته التي أعدها للمتقين.
وقول الحق سبحانه :﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب " ٢٨ " ﴾( سورة الرعد ).
يعني : أن الاطمئنان مستوعب لكل القلوب ؛ فكل إنسان له زاوية يضطرب فيها قلبه ؛ وما أن يذكر الله حتى يجد الاطمئنان ويتثبت قلبه. وقد حاول المستشرقون أن يقيموا ضجة حول قوله تعالى :﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب " ٢٨ " ﴾( سورة الرعد ).
وتساءلوا : كيف يقول القرآن هنا أن الذكر يطمئن القلب ؛ ويقول في آية أخرى :
﴿ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم.. " ٢ " ﴾ ( سورة الأنفال ).
فأي المعنيين هو المراد ؟ ولو أن المستشرقين قد استقبلوا القرآن بالملكة العربية الصحيحة لعلموا الفارق بين :﴿ ألا بذكر الله تطمئن القلوب " ٢٨ " ﴾( سورة الرعد )
وبين قول الحق سبحانه :﴿ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم.. " ٢ " ﴾( سورة الأنفال ) فكأنه إذا ذكر الله أمام الناس ؛ وكان الإنسان في غفلة عن الله ؛ هنا ينتبه الإنسان بوجلٍ.
أو : أن الحق سبحانه يخاطب الخلق جميعاً بما فيهم من غرائز وعواطف ومواجيد ؛ فلا يوجد إنسان كامل ؛ ولكل إنسان هفوة إلا من عصم الله. وحين يتذكر الإنسان إسرافه من جهة سيئة ؛ فهو يوجل ؛ وحين يتذكر عفو الله وتوبته ومغفرته يطمئن.
وقد أرسل الحق سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم ومعه المعجزة التي تناسب قومه ؛ فهم قد نبغوا في البلاغة والبيان وصناعة الكلام، وقول القصائد الطويلة وأشهرها المعلقات السبع ؛ ولهم أسواق أدبية مثل : سوق عكاظ، وسوق ذي المجاز. ولذلك جاءت معجزته صلى الله عليه وسلم من جنس ما نبغوا فيه ؛ كي تأتيهم الحجة والتعجيز. ولو كانت المعجزة في مجال لم ينبغوا فيه ؛ لقالوا : " لم نعالج أمراً مثل هذا من قبل ؛ ولو كنا قد عالجناه لنبغنا فيه ".
وهكذا يتضح لنا أن إرسال الرسول بمعجزة في مجال نبغ فيه قومه هو نوع من إثبات التحدي وإظهار تفوق المعجزة التي جاء بها الرسول. وهكذا نرى أن إرسال محمد صلى الله عليه وسلم بالقرآن وإن لم يقنع الكفار إنما كان مطابقاً لمنطق الوحي من السماء للرسالات كلها.
وقول الحق :﴿ كذلك ﴾( سورة الرعد )يعني : كهذا الإرسال السابق للرسل جاء بعثك إلى أمتك، كتلك الأمم السابقة. ويأتي الحق سبحانه هنا بالاسم الذي كان يجب أن يقدروه حق قدره وهو " الرحمن " فلم يقل : وهم يكفرون بالله بل قال :﴿ وهم يكفرون بالرحمن.. " ٣٠ " ﴾( سورة الرعد ).
فهم يعيشون رغم كفرهم في رزق من الله الرحمان، وكل ما حولهم وما يقيتهم وما يستمتعون به من نعم عطاءات من الله.
وهم لا يقومون بأداء أي من تكاليف الله ؛ فكان من اللياقة أن يذكروا فضل الله عليهم ؛ وأن يؤمنوا به ؛ لأن مطلوب الألوهية هو القيام بالعبادة.
وهو سبحانه هنا يأتي باسمه " الرحمن " ؛ والذي يفيد التطوع بالخير ؛ وكان من الواجب أن يقدروا هذا الخير الذي قدمه لهم سبحانه، دون أن يكون لهم حول أو قوة. وكان يجب أن يعتبروا ويعلنوا أنهم يتجهون إليه سبحانه بالعبادة ؛ وأن ينفذوا التكليف العبادي.
وفي صلح الحديبية دارت المفاوضات بين المسلمين وكفار قريش الذين منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخول مكة، ولكنهم قبلوا التعاهد معه، فكان ذلك اعترافاً منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وصحبه الذين صاروا قوة تعاهد ؛ تأخذ وتعطي.
ولذلك نجد سيدنا أبا بكر رضي الله عنه يقول : " ما كان في الإسلام نصر أعظم من نصر الحديبية ".
فقد بدأت قريش في الحديبية الاعتراف برسول الله وأمة الإسلام ؛ وأخذوا هدنة طويلة تمكن خلالها محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته من أن يغزوا القبائل التي تعيش حول قريش ؛ حيث كانت تذهب سرية ومعها مبشر بدين الله ؛ فتسلم القبائل قبيلة من بعد قبيلة.
وهكذا كانت الحديبية هي أعظم نصر في الإسلام ؛ فقد سكنت قريش ؛ وتفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه لدعوة القبائل المحيطة بها للإسلام. ولكن الناس لم يتسع ظنهم لما بين محمد وربه. والعباد دائماً يعجلون، والله لا يعجل بعجلة العباد حتى تبلغ الأمور ما أراد.
وحين جاءت لحظة التعاقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش في الحديبية، وبدأ علي بن أبي طالب في كتابة صيغة المعاهدة، كتب " هذا ما صالح عليه محمد رسول الله " فاعترض سهيل بن عمرو وقال : لو شهدت أنك رسول الله لم أقاتلك، ولكن اكتب : " هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله وسهيل بن عمرو ".
وأصر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن تكتب صفة محمد كرسول، لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " والله إني لرسول الله وإن كذبتموني. اكتب محمد بن عبد الله ". ولكن علياً كرم الله وجهه يصر على أن يكتب صفة محمد كرسول من الله ؛ فينطق الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم ليقول لعلي : " ستسام مثلها فتقبل ".
ولما تولى علي كرم الله وجهه بعد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم أجمعين، وقامت المعركة بين علي ومعاوية ؛ ثم اتفق الطرفان على عقدة معاهدة ؛ وكتب الكاتب " هذا ما قاضى عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب " فقال عمرو بن العاص مندوب معاوية : " اكتب اسمه واسم أبيه، هو أميركم وليس أميرنا ".
وهنا تذكر علي كرم الله وجهه ما قاله سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ستسام مثلها فتقبل " وقبلها فقال : " امح أمير المؤمنين، واكتب هذا ما قاضى عليه علي بن أبي طالب ".
وتحققت مقولة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومن الوقائع التي تثبت الإيمان ؛ نجد قصة عمار بن ياسر، وكان ضمن صفوف علي كرم الله وجهه وأرضاه في المواجهة مع معاوية ؛ وقتله جنود معاوية ؛ فصرخ المسلمون وقالوا : " ويح عمار، تقتله الفئة الباغية ". وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال.
وبذلك فهم المسلمون أن الفئة الباغية هي فئة معاوية، وانتقل كثير من المسلمين الذين كانوا في صف معاوية إلى صف علي بن أبي طالب ؛ فذهب عمرو بن العاص إلى معاوية وقال : تفشت في الجيش فاشية، إن استمرت لن يبقى معنا أحد ؛ فقد قتلنا عمار بن ياسر ؛ وذكر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله : " ويح عمار، تقتله الفئة الباغية "، وقد فهم المقاتلون معنا أن الفئة الباغية هي فئتنا.
وكان معاوية من الدهاء بمنزلة ؛ فقال : اسع في الجيش وقل : " إنما قتله من أخرجه " ويعني علياً. ولما وصل هذا القول لعلي قال : ومن قتل حمزة بن عبد المطلب، وقد أخرجه للقتال محمد صلى الله عليه وسلم ؟.
﴿ كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم.. " ٣٠ " ﴾( سورة الرعد )
إنما يعني أن الحق قد أرسلك يا محمد بمعجزة تناسب ما نبغ فيه قومك، وطلب غير ذلك هو جهل بواقع الرسالات وتعنت يقصد منه مزيد من ابتعادهم عن الإيمان. وقول الحق سبحانه :﴿ وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي.. " ٣٠ " ﴾( سورة الرعد ) أي : أنهم حين يعلنون الكفر فأنت تصادمهم بإعلان الإيمان، وتقول :﴿ هو ربي لا إله إلا هو.. " ٣٠ " ﴾( سورة الرعد ).
وكلمة " ربي " تنسجم مع كلمة " الرحمن " الذي ينعم بالنعم كلها ؛ وهو المتولي تربيتي ؛ ولو لم يفعل سوى خلقي وتربيتي ومدى بالحياة ومقوماتها ؛ لكان يكفي ذلك لأعبده وحده ولا أشرك به أحداً.
ولو أن الإنسان قد أشرك بالله ؛ لالتفت مرة لذلك الإله ؛ ومرة أخرى للإله الآخر ؛ ومرة ثالثة للإله الثالث وهكذا، وشاء الله سبحانه أن يريح الإنسان من هذا التشتت بعقيدة التوحيد. ويأتي القرآن ليطمئن القلوب أيضاً وليذكر :﴿ ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون " ٢٩ " ﴾
( سورة الزمر ).
وهكذا يعرض لنا القرآن صورتين :
الصورة الأولى : لرجل يملكه أكثر من سيد، يعارضون بعضهم البعض.
والصورة الثانية : لرجل آخر، يملكه سيد واحد.
ولابد للعقل أن يعلم أن السيد الواحد افضل من الأسياد المتعددين ؛ لأن تعدد الأسياد فساد وإفساد، يقول الحق سبحانه :﴿ لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون " ٢٢ " ﴾( سورة الأنبياء ) والعاقل هو من لا يسلم نفسه إلا لسيد واحد يثق أنه أمين عليه، ونحن في حياتنا نقول : ما يحكم به فلان أنا أرضى به ؛ وقد وكلته في كذا. ولا أحد منا يسلم نفسه إلا لمن يرى أنه أمين على هذا الإسلام، ولابد أن يكون أمينا وقوياً، ويقدر على تنفيذ مطلوبه.
والرسول صلى الله عليه وسلم في المعركة العنيفة مع صناديد قريش قال : " إني متوكل على الله ".
وهذه شهادة منه على أنه توكل على القوي الأمين الحكيم ؛ والرسول لم يقل توكلت عليه ؛ ولكنه قال :﴿ عليه توكلت.. " ٣٠ " ﴾( سورة الرعد )والفارق بين القولين كبير، فحين تقول " عليه توكلت " فأنت تقصر التوكل عليه وحده ؛ ولكن إن قلت : " توكلت عليه ". فأنت تستطيع أن تضيف وتعطف عدداً آخر ممن يمكنك التوكل عليهم. ولذلك نقول :﴿ إياك نعبد.. " ٥ " ﴾( سورة الفاتحة ).
ونحصر العبادة فيه وله وحده سبحانه ؛ فلا تتعداه إلى غيره ؛ ولو أنها أخرت لجاز أن يعطف عليه. ويقال في ذلك " اسم قصر " أي : أن العبادة مقصورة عليه ؛ وكذلك التوكل.
﴿ قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت.. " ٣٠ " ﴾( سورة الرعد ) أي : أنني لا آخذ أوامري من أحد غيره ومرجعي إليه.
﴿ لو أنزلنا عليك كتاباً في قرطاسٍ فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين " ٧ " ﴾( سورة الأنعام ).
وكذلك قول الحق سبحانه :﴿ ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيءٍ قبلاً ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون " ١١١ " ﴾( سورة الأنعام )
إذن : من كل نظائر تلك الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها نأخذ جواب الشرط المناسب لها من تلك الآيات ؛ فيكون المعنى : لو أن قرآناً سيرت به الجبال، أو قطعت به الأرض، أو كلم به الموتى لما آمنوا.
ويروي أن بعضاً من مشركي قريش مثل : أبي جهل وعبد الله ابن أبي أمية جلسا خلف الكعبة وأرسلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وقال له عبد الله : إن سرك أن نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن، فأذهبها عنا حتى تنفسح، فإنها أرض ضيقة، واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً، حتى نغرس ونزرع، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حين سخر له الجبال تسير معه، وسخر لنا الريح فنركبها إلى الشام نقضي عليها ميرتنا وحوائجنا، ثم نرجع من يومنا، فقد سخرت الريح لسليمان بن داود، ولست بأهون على ربك من سليمان، وأحيى لنا قصب جدك، أو من شئت أنت من موتانا نسأله، أحق ما تقول أنت أم باطل ؟ فإن عيسى كان يحيي الموتى، ولست بأهون على الله منه، فأنزل الحق سبحانه هذه الآية وما قبلها للرد عليهم.
وكانت تلك كلها مسائل يتلككون بها ليبتعدوا عن الإيمان ؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم قد جاء بمعجزة من جنس ما نبغوا فيه ؛ وجاء القرآن يحمل منهج السماء إلى أن تقول الساعة.
وقد طلبوا أن تبتعد جبال مكة ليكون الوادي فسيحاً ؛ ليزرعوا ويحصدوا ؛ وطلبوا تقطيع الأرض، أي : فصل بقعة عن بقعة ؛ وكان هذا يحدث بحفر جداول من المياه، وقد قال الكافرون :﴿ لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً " ٩٠ " ﴾( سورة الإسراء )
والمراد من تقطيع الأرض حسب مطلوبهم أن تقصر المسافة بين مكان وآخر، بحيث يستطيع السائر أن يستريح كل فترة ؛ فالمسافر يترك في كل خطوة من خطواته أرضاً ؛ ويصل إلى أرض أخرى، وكل يقطع الأرض على حسب قدرته ووسيلة المواصلات التي يستخدمها.
فالمترف يريد أن يكون المسافة كبيرة بين قطعة الأرض والأخرى ؛ لأنه يملك الجياد التي يمكن أن يقطع بها المسافة بسهولة، أما من ليس لديه مطية ؛ فهو يحب أن تكون المسافات قريبة ليستطيع أن يستريح.
ونلحظ أن ذلك في زماننا المعاصر، فحين زاد الترف صارت السارات تقطع المسافة من القاهرة إلى الإسكندرية دون توقف ؛ عكس ما كان يحدث قديماً حين كانت السيارات تحتاج إلى راحة ومعها المسافرون بها، فيتوقفون في منتصف الطريق.
ومثل ذلك قد حدث في مملكة سبأ، يقول الحق سبحانه :
﴿ فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم.. " ١٩ " ﴾( سورة سبأ )أي : اجعل المسافة بين مكان وآخر بعيدة، كي يتمتع المسافر القادر بالمناظر الطيبة. ولاحظنا أيضاً تمادي المشركين من قريش في طلب المعجزات الخارقة ؛ بأن طلبوا إحياء الموتى في قول الحق سبحانه :﴿ أو كلم به الموتى.. " ٣١ " ﴾( سورة الرعد )
وبعضهم طلب إحياء قصي بن كلاب الجد الأكبر لرسول الله ولقريش ؛ ليسألوه : أحق ما جاء به محمد ؟ ولكن القرآن لم يأت لمثل تلك الأمور ؛ وحتى لو كان قد جاء بها لما آمنوا. ومهمة القرآن تتركز في أنه منهج خاتم صالح لكل عصر ؛ وتلك معجزته.
ويقول سبحانه :﴿ بل لله الأمر جميعاً.. " ٣١ " ﴾( سورة الرعد )
وكلمة " أمر " تدل على أنه شيء واحد، وكلمة " جميعاً " تدل على متعدد، وهكذا نجد أن تعدد الرسالات والمعجزات إنما يدل على أن كل من أمر تلك الرسالات إنما صدر عن الحق سبحانه ؛ وهو الذي اختار كل معجزة لتناسب القوم الذين ينزل فيهم الرسول.
ويتابع سبحانه :﴿ أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً.. " ٣١ " ﴾
( سورة الرعد ).
وكلمة " ييأس " يقال إنها هنا بمعنى " يعلم " ؛ فهي لغة بلهجة قريش، أي : ألم يعلم الذين آمنوا أن هؤلاء الكفار لم يهتدوا ؛ لأن الله لم يشأ هدايتهم. وكان المؤمنون يودون أن يؤمن صناديد قريش كي يخف الجهد عن الفئة المسلمة ؛ فلا يضطهدونهم، ولا يضايقونهم في أرزاقهم ولا في عيالهم.
ويوضح الحق سبحانه هنا أن تلك المسألة ليست مرتبطة برغبة المؤمن من هؤلاء ؛ بل الإيمان مسألة تتطلب أن يخرج الإنسان ما في قلبه من عقيدة، وينظر إلى القضايا بتجرد، وما يقتنع به يدخله في قلبه.
وبذلك يمتلئ الوعاء العقدي بما يفيد ؛ كي لا تدخل في قلبك عقيدة، ولا تأتي عقيدة أخرى تطرد العقيدة، أو تزيغ قلبك عما تعتقده، يقول تعالى :﴿ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.. " ٤ " ﴾( سورة الأحزاب )فالوعاء القلبي كالوعاء المادي تماماً ؛ لا يقبل أن يتداخل فيه جرمان أبداً، فإن دخل جرم على جرم ؛ إن كان أقوى فهو يطرد من القلب الأدنى منه.
والمثل على ذلك : لنفترض أن عندنا إناءً ممتلئاً عن آخره ؛ ويحاول واحد منا أن يضع فيه كرة صغيرة من الحديد ؛ هنا سيجد أن الماء يفيض من حواف الإناء بما يوازي حجم كرة الحديد، وهذا ما يحدث في الإناء المادي، وكذلك الحال في الإناء العقدي.
ولذلك يقول الحق سبحانه في الحديث القدسي :
" لا يجتمع حبي وحب الدنيا في قلب ".
وهكذا نرى أن هناك حيزاً للمعاني أيضاً مثلما يوجد حيز للمادة، فإذا كنت تريد حقيقة أن تدخل المعاني العقدية الصحيحة في قلبك ؛ فلابد لك من أن تطرد أولاً المعاني المناقضة من حيز القلب، ثم ابحث بالأدلة عن مدى صلاحية أي من المعنيين ؛ وما تجده قوي الدليل ؛ صحيح المنطق ؛ موفور القوة والحجة ؛ فأدخله في قلبك.
ولم يفعل الكفار هكذا ؛ بل تمادوا في الغي إصراراً على ما يعتقدون من عقيدة فاسدة ؛ أما من أسلم منهم فقد أخرج من قلبه العقيدة القديمة ؛ ولم يصر على المعتنق القديم ؛ بل درس وقارن ؛ فأسرع إلى الإسلام.
أما من كان قلبه مشغولاً بالعقيدة السابقة ؛ ويريد أن يدخل العقيدة الإسلامية في قلبه ؛ فهو لم ينجح في ذلك ؛ لأن قلبه مشغول بالعقيدة القديمة.
وإذا كنت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم تريد من هؤلاء أن يؤمنوا ؛ فلابد أن يعتمد ذلك على إرادتهم، وأن يخرجوا من قلوبهم العقيدة الفاسدة ؛ وأن يبحثوا عن الأصح والأفضل بين العقيدتين. ولذلك يعلمنا الحق سبحانه كيف نصل إلى الحقائق بسهولة، فيقول لرسوله صلى الله عليه وسلم :
﴿ قل إنما أعظكم بواحدةٍ أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنةٍ.. " ٤٦ " ﴾( سورة سبأ )أي : قل يا محمد لمن كفر بك : إني أعظكم عظة، وأنت لا تعظ إلا من تحب أن يكون على الحق ؛ وهذا يفسر قول الحق سبحانه :
﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم " ١٢٨ " ﴾( سورة التوبة ).
ولهذا يريد صلى الله عليه وسلم أن تكونوا مؤمنين ؛ لذلك يدعوكم أن تقوموا لله ؛ لا لجاه أحد غيره ؛ لأن جاه أي كائن سيزول مهما كان هذا الواحد، ولا تقولن لنفسك : إن العبيد سيتساوون معك. بل قم لله إما مثنى أي أن تكون قائماً ومعك آخر ؛ أو يقوم غيرك اثنين اثنين ليناقش كل منكم مع من يجلس معه ؛ ولا يتحيز أحد منكم لفكر مسبق بل يوجه فكره كله متجرداً لله.
وليتساءل كل واحد : محمد هذا، صفته كذا وكذا، وقد فعل كذا، والقرآن الذي جاء به يقول كذا، وسيجد الواحد منكم نفسه وقد اهتدى للحق بينه وبين نفسه، وبينه وبين من جلس معه ليناقشه فيستعرضان معه تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به.
وحين يتناقش اثنان لن يخاف أي منهما أن يهزمه الآخر، لكن لو انضم إليهما ثالث ؛ فكل واحد يريد أن يعتز برأيه ؛ ويرفض أن يقبل رأي إنسان غيره، ويخشى أن يعتبر مهزوماً في المناقشة ؛ ويرفض لنفسه احتمال أن يستصغره أحد. ولذلك قال الحق سبحانه :
﴿ مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنةٍ.. " ٤٦ " ﴾( سورة سبأ )و " الجنة " هي اختلال العقل ؛ أي : أن من به جنة إنما يتصرف ويسلك بأعمال لا يرتضيها العقل. ويقرن الحق سبحانه بين العقل وبين الخلق، فيقول :﴿ وإنك لعلى خلقٍ عظيمٍ " ٤ " ﴾( سورة القلم )
ويقال : فلان على خلق. أي : يملك من الصفات ما يجعله على الجادة من الفضائل ؛ مثل الصدق والأمانة ؛ وهذه صفات ما يجعله على الجادة من الفضائل ؛ مثل الصدق والأمانة ؛ وهذه صفات ينظمها مواقفها الفكر العقلي ؛ وهو الذي يميز لنا أي المواقف تحتاج إلى شدة ؛ أو لين ؛ أو حكمة، وكل هذه أمور يرتبها العقل.
والخلق الرفيع لا يصدر عن مجنون ؛ لأنه لا يعرف كيف يختار بين البدائل ؛ لذلك لا نحاسبه نحن ؛ ولا يحاسبه الله أيضاً.
وحين يأمرهم الحق سبحانه أن يبحثوا : هل محمد يعاني من جنة ؟ فالحق سبحانه يعلم مقدماً أن رسول الله صلى الله عيه وسلم بشهادتهم يتمتع بكمال الخلق ؛ بدليل أن أهم ما كانوا يملكونه كانوا يستأمنون عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبدليل أنه صلى الله عليه وسلم حينما دخل عليهم وكانوا مختلفين في أمر بناء الكعبة ؛ ارتضوه حكماً. ولذلك يقول سبحانه :﴿ ن والقلم وما يسطرون " ١ " ما أنت بنعمة ربك بمجنون " ٢ " ﴾( سورة القلم ).
وهكذا رأينا أن هؤلاء الكفار ما كانوا ليؤمنوا ؛ ولم يكن الله ليهديهم ؛ لأنهم كانوا لا يملكون أدنى استعداد للهداية ؛ وكأنهم أدمنوا الكفر والعياذ بالله ؛ وقد طبع الله على قلوبهم فزادهم كفراً ؛ فما في تلك القلوب من كفر لا يخرج منها ؛ وما بخارجها لا يدخل فيها.
وقد ظن بعض من المسلمين أن كفر هؤلاء قد يشقي المؤمنين بزيادة العنت من الكافرين ضدهم ؛ لذلك يوضح الحق سبحانه لأهل الإيمان أن نصره قريب، فيقول سبحانه :
﴿ ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد " ٣١ " ﴾( سورة الرعد )أي : اطمئنوا يا أهل الإيمان ؛ فلن يظل حال أهل الكفر على ما هو عليه ؛ بل ستصيبهم الكوارث وهم في أماكنهم، وسيشاهدون بأعينهم كيف ينتشر الإيمان في المواقع التي يسودونها ؛ وتتسع رقعة أرض الإيمان، وتضيق رقعة أهل الكفر ؛ ثم يأتي نصر الله وقد جاء نصر الله ولم يبق في الجزيرة العربية إلا من يقول : " لا إله إلا الله، محمد رسول الله ".
وهكذا تنبأت الآية بمجيء الأمل بعد اليأس، كي لا يظل اليأس مسيطراً على حركة المسلمين وعلى نفوسهم، واستجاب الحق سبحانه لدعوته صلى الله عليه وسلم حين دعاه قائلاً : " اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف ". وقتل صناديدهم واحداً وراء الآخر ؛ ولكن عنادهم استمر ؛ وبلغ العناد حد أن ابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم كانتا متزوجتين من ابني أبي لهب ؛ فلما أعلن النبي صلى الله عليه وسلم رسالته ؛ قال أبو لهب وزوجته : لابد أن يطلق أبناؤنا بنات محمد ؛ فلما طلق أولهما بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائل
ولم يكن الناس معتادين على تلك المشية الخاشعة ؛ فقد كانوا يسيرون بغرور مستعرضين مناكبهم.
وحين قلد الحكم رسول الله رآه صلى الله عليه وسلم بنور البصيرة، فقال له صلى الله عليه وسلم : " كن على هذا "، فصارت مشيته عاهة، بينما كانت مشية رسول الله تطامناً إلى ربه، وتواضعاً منه صلى الله عليه وسلم.
ونفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم إلى الطائف ؛ وراح يراعي الغنم هناك، ولم يعف النبي صلى الله عليه وسلم عنه ؛ وكذلك أبو بكر في خلافته ؛ ولا عمر بن الخطاب ؛ ولكن الذي عفا عنه هو عثمان بن عفان، وكان قريباً له.
وشهد عثمان بن عفان وقال : " والله لقد استأذنت رسول الله فيه فقال لي : إن استطعت أن تعفو عنه فاعف، وحين وليت أمر المسلمين عفوت عنه ".
وحدث من بعد ذلك أن تولى عبد الملك بن مروان أمر المسلمين ؛ وكان لابنه الوليد خيل تتنافس مع خيل أولاد يزيد بن معاوية ؛ واحتال أولاد يزيد بالغش، ووضعوا ما يعرقل خيل الوليد.
وحدث خلاف بين الفريقين فشتم الوليد أبناء يزيد ؛ فذهب أولاد يزيد إلى عبد الملك يشكون له ولده ؛ وكان الذي يشكو لا يتقن نطق العربية دون أي خطأ ؛ فقال له عبد الملك : ما لك لا تقيم لسانك من اللحن ؟ فرد الذي يشكو ساخراً : " والله لقد أعجبتني فصاحة الوليد ". ويعني : أن حال لسان ابن عبد الملك لا يختلف عن حال لسان من يشكو ؛ فكلاهما لا ينطق بسلاسة، ويكثر اللحن في النطق بالعربية.
فقال عبد الملك : أتعيرني بعبد الله ابني الذي لا يتقن العربية دون لحن ؟ إن أخاه خالداً لا يلحن. وتبع ذلك بقوله : اسكت يا هذا، فلست في العير ولا في النفير.
وهذا مثل نقوله حالياً، وقد جاء إلينا عبر قريش ؛ حيث كانت السلطة فيها ذات مصدرين ؛ مصدر العير ؛ أي : التجارة التي تأتي من القوافل عبر الشام وقائدها أبو سفيان ؛ والنفير ؛ وهم القوم الذين نفروا لنجدة أبي سفيان في موقعة بدر ؛ وكان يقودهم عتبة. فقال ابن يزيد : ومن أولى بالعير والنفير مني ؟ ويعني أنه حفيد أبي سفيان من ناحية الأب ؛ وحفيد عتبة من ناحية الأم.
وأضاف : لكن لو قلت شويهات وغنيمات وذكرت الطائف لكنت على حق ؛ ورحم الله عثمان الذي عفا عن جدك، وأرجعه من المنفي. ونعلم أن الحق سبحانه وتعالى قال لرسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ إنا كفيناك المستهزئين " ٩٥ " ﴾( سورة الرعد ) وكان أي إنسان يسخر من رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى عقاباً إلهياً. وهنا يقول الحق سبحانه :
﴿ ولقد استهزئ برسلٍ من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب " ٣٢ " ﴾
( سورة الرعد ) فأنت يا رسول الله لست بدعاً في الرسالة، ولك أسوة في الرسالة، والحق سبحانه يعدك هنا في محكم كتابه :﴿ فأمليت للذين كفروا.. " ٣٢ " ﴾( سورة الرعد ) أي : أمهلت الذين كفروا، والإملاء بمعنى الإمهال ليس معناه ترك العقوبة على الذنب، وإنما تأخير العقوبة لذنب قادم، والمثل هو أن تترك مخطئاً ارتكب هفوة ؛ إلى أن يرتكب هفوة ثانية ؛ ثم ثالثة، ثم تنزل به العقاب من حيث لا يتوقع.
وإذا كان هذا ما يحدث في عالم البشر ؛ فما بالنا بقوة الحق سبحانه اللامتناهية، وهو القائل :﴿ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون " ١٨٢ " ﴾
( سورة الأعراف )
ويقول تعالى :﴿ ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين " ١٧٨ " ﴾( سورة آل عمران ) تماماً مثلما نجد من يصنع فخاً لعدوه. وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ ولقد استهزئ برسلٍ من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب " ٣٢ " ﴾( سورة الرعد )
وكلمة :﴿ فكيف كان عقاب " ٣٢ " ﴾( سورة الرعد )
توضح أنه كان عقاباً صارماً ؛ ولذلك يقول الحق سبحانه في موقع آخر :
﴿ إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون " ٢٩ " وإذا مروا بهم يتغامزون " ٣٠ " وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين " ٣١ " وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون " ٣٢ " وما أرسلوا عليهم حافظين " ٣٣ " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون " ٣٤ " على الأرائك ينظرون " ٣٥ " هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون " ٣٦ " ﴾( سورة المطففين ).
إذن : فلسوف يلقي الذين استهزءوا بالرسل العقاب الشديد.
﴿ أفمن هو قائم على كل نفس " ٣٣ " ﴾ ( سورة الرعد ) أن يأتي بالمقابل، ويقول : كمن ليس قائماً على كل نفس بما كسبت ؟.
ولمثل هذا السائل نقول : إنها عظمة القرآن الذي يترك للعقل ما يمكن أن يستنبطه ؛ فيأتي بأشياء تتطلب التفكير والاستنباط، كي يتنبه الإنسان أنه يستقبل كلام رب حكيم ؛ وعليه أن يبحث فيه.
ولذلك يقول سيدنا عبد الله بن مسعود : " ثوروا القرآن " أي : أثيروه، كي تكتشفوا ما فيه من كنوز.
ونحن نعلم أن كلمة " قائم على الأمر " تعني أنه هو الذي يديره ويدبره، ولا تخفى عليه خافية. وجاء الحق سبحانه هنا بصيغة القيام ؛ كي نعلم أن الحق سبحانه لا يدير الأمر من حالة قعود ؛ بل يديره وهو قائم عليه، فكل أمر هو واضح عنده غير خفي.
وهو سبحانه قائم على كل نفس بما كسبت إن خيراً فخير ؛ وإن شراً فشر، ولكنكم أيها الكافرون المشركون لا تملكون لأنفسكم ضراً ولا نفعاً ؛ فهل يمكن لعاقل أن يساوي بين الذي يقوم على أمر كل نفس، بغيره ممن ليس كذلك ؟
ولكن هناك من قال فيهم الحق سبحانه في نفس الآية :
﴿ وجعلوا لله شركاء.. " ٣٣ " ﴾( سورة الرعد )أي : جعلوا للقائم على أمر كل نفس شركاء لا يقدر الواحد فيهم على أمر نفسه ؛ وبالتالي لا يقدر على أمر غيره ؛ بل قد يصاب الصنم من هؤلاء بشرخ ؛ فيأتي من يعبدونه ليقوموا على أمره صارخين بأن إلههم قد انشرخ ؛ ويحتاج إلى مسمارين لتثبيته، فكيف يسوون ذلك الصنم بالله الذي لا يحده شيء ولا يحد قدرته شيء ؟ وقول الحق سبحانه :
﴿ وجعلوا لله شركاء.. " ٣٣ " ﴾( سورة الرعد )
دليل على النص المحذوف : " كمن هو غير قائم على كل نفس "، فسبحانه ليس كهذه الأصنام العاجزة ؛ لأنه سبحانه قائم على كل نفس ؛ نفسك ونفس غيرك ونفس كل إنسان عاش أو سيعيش.
ولذلك يقول سبحانه بعدها :﴿ قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهرٍ من القول.. " ٣٣ " ﴾( سورة الرعد ).
وهنا يأمر الحق سبحانه رسوله أن يقول للكافرين بالله : قولوا أسماء من تعبدونهم من غير الله ؛ وهي أحجار، والأحجار لا أسماء لها ؛ وهم قد سموا الأصنام بأسماء كاللاّت والعزي وهبل ؛ وهي أسماء لم تضف لتلك الأصنام شيئاً، فهي لا تقدر على شيء ؛ ولو سموها لنسبت لعمرو بن لحي، الذي أوجدهم ؛ وهم سموها.
والإله الحق لا يسميه أحد، بل يسمى هو نفسه، ولكن بما أن المسألة كذب في كذب، لذلك يسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أسماء تلك الآلهة. ويقول لهم : هل تنبئون أنتم الله خالق كل الكون بما لا يعلم في كونه الذي أوجده من عدم ؟.
سبحانه يعلم كل ما خلق ؛ وأنتم لا تعبدون إلا أصناماً ينطبق عليها أنها من ظاهر القول ؛ أي : قول لا معنى له ؛ لأنهم أطلقوا أسماء على أشياء لا باطن لها ولا قدرة تستطيعها، وهم اكتفوا بالظاهر والمسمى غير موجود.
ويقول الحق سبحانه :﴿ بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل.. " ٣٣ " ﴾( سورة الرعد )أي : أنهم ظنوا أنهم يمكرون على الله، ويقولون إن تلك الأصنام آلهة، وهي ليست كذلك. ثم يقول سبحانه :﴿ ومن يضلل الله فما له من هادٍ " ٣٣ " ﴾( سورة الرعد )أي : أن العذاب الذي يلقونه في الحياة الدنيا هو لصيانة حركة المجتمع من الفساد، ولابد أن يقع لهم عذاب في الحياة الدنيا ؛ ولأن من يؤجل عذابه للآخرة ؛ لابد أن يرى في نفسه آية العذاب قبل أن يلقي عذابه في الآخرة.
إذن : فعذاب الدنيا هو لحماية حركة الحياة ؛ ولذلك نجد القوانين وهي تسن لتطبق على المنحرف ؛ ومن يرتكب الجرم يخاف أن تقع عليه العين ؛ وإن رآه أحد فهو يبلغ عنه ليلقى عقابه ؛ وبذلك تستقيم حركة الحياة.
ولذلك نجد الحق سبحانه يقول في سورة الكهف :﴿ ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا " ٨٣ " إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا " ٨٤ " فأتبع سببا " ٨٥ " حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة ووجد عندها قوما قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا " ٨٦ " قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا " ٨٧ " ﴾( سورة الكهف )أي : أنه قد أخذ تفويضاً بأن يقيم الأمر في هؤلاء الناس، فأقامه على أساس من الثواب والعقاب ؛ فمن احسن فله الجزاء الحسن ؛ ومن أساء يلقى العقاب، وهكذا نجد عذاب الدنيا ضرورياً لسلامة حركة الحياة من بطش من لا يؤمنون بالله.
وهكذا تكون التوفية قد آلت إلى الله ؛ وآلت إلى ملك الموت، وقد أخذ ملك الموت مسئولية التوفية من إسناد الحق له تلك المهمة ؛ ويكون نسبتها لملك الموت هو نوع من إيضاح الطرف الذي يوكل له الحق سبحانه تنفيذ المهمة. ومرة يأتي الحق سبحانه بالمصدر الأصلي الذي يصدر الأمر لملك الموت بمباشرة مهمته. وهنا في الآية الكريمة نجد قول الحق سبحانه :﴿ وعد المتقون.. " ٣٥ " ﴾( سورة الرعد ).
وهي مبنية لما لم يسم فاعله ؛ فالوعد منه سبحانه. ونعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعد أيضاً، فهانحن قد جاء إلينا خبر بيعة العقبة ؛ حين أخذ البيعة من الأنصار، وقالوا له : خذ لنفسك، فأخذ لنفسه ما أراد، ثم قالوا له : وماذا نأخذ نحن إن أدينا هذا ؟ فقال لهم : " لكم الجنة ".
وقال صلى الله عليه وسلم ذلك ؛ لأن العمل الذي فعلوه ؛ لا يكفيه أجراً إلا الجنة، ومن المعقول أن أي واحد من الذين حضروا العقبة قد يتعرض للموت من بعد معاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو أنه وعدهم بما في الدنيا من متاع قد يأخذه البعض فيما بعد ؛ فالذي يموت قبل هذا لابد أن يدرك شيئاً مما وعد الرسول من عاهدوه ؛ ولذلك أعطاهم ما لا ينفذ، وهو الوعد بالجنة.
والحق سبحانه هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها يقول :﴿ مثل الجنة.. " ٣٥ " ﴾( سورة الرعد ) أي : أنه يضرب لنا المثل فقط ؛ لأن الألفاظ التي نتخاطب بها نحن قد وضعت لمعان نعرفها ؛ وإذا كانت في الجنة أشياء لم ترها عين ولم تسمعها أذن، ولم تخطر على بال بشر ؛ فمن الممكن أن نقول إنه لا توجد ألفاظ عندنا تؤدي معنى ما هناك، فيضرب الله الأمثال لنا بما نراه من الملذات ؛ ولكن يأخذ منها المكدرات والمعكرات.
وهكذا نعرف أن هناك فارقاً بين " مثل الجنة " وبين " الجنة "، فالمثل يعطيني صورة أسمعها عن واقع لا أعلمه ؛ لأن معنى التمثيل أن تلحق مجهولاً بمعلوم لتأخذ منه الحكم. مثلما تقول لصديق : أتعرف فلاناً ؛ فيقول لك : " لا ". فتقول له : " إنه يشبه فلاناً الذي تعرفه ".
وأنت تفعل ذلك كي تشبه مجهولاً بمعلوم ؛ لتأتي الصورة في ذهن سامعك. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم شرحاً لما أجمله القرآن :﴿ وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.. " ٧١ " ﴾( سورة الزخرف ).
ويضيف صلى الله عليه وسلم : " فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشرٍ "
وحين تدقق في هذا القول النبوي الكريم تجد الترقي كاملاً ؛ فقوله : " ما لا أذن سمعت " جاء لأنه يعلم أن مدركات العين محدودة بالنسبة لما تعلم الأذن ؛ لأن الأذن تسمع ما لا تدركه العين ؛ فهي تسمع ما يراه غيرك بالإضافة إلى ما تراه أنت.
فالأذن تسمع القريب وتسمع البعيد وتنقل صوته وتستحضره ثم تميزه، بخلاف العين فهي محدودة المسافة حسب قوة الإبصار، ومع كل فنعيم الجنة فوق كل هذا الفوق. ثم يأتي الترقي الأكبر في قوله : " ولا خطر على قلب بشر ". والخواطر أوسع من قدرة الأذن وقدرة العين ؛ فالخواطر تتخيل أشياء قد تكون غير موجودة.
وهكذا نرى عجز اللغة عن أن توجد بها ألفاظ تعبر عن معنى ما هو موجود بالجنة، ولا أحد فينا يعلم ما هي الأشياء الموجودة بالجنة، ومادام أحد منا لم ير الجنة ؛.
ومادام الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر "
فلابد أن نعلم قدر عجز اللغة عن التعبير عما في الجنة، فإذا أراد الله أن يعبر عما فيها ؛ فهو يوضح لنا بالمثل ؛ لا بالوصف، لأنه يعلم أن لغتنا تضع الألفاظ لما هو موجود في حياتنا ؛ ولا توجد ألفاظ في لغتنا تؤدي معاني ما في الجنة. ولذلك قال لنا الحق سبحانه :
﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى.. " ١٥ " ﴾( سورة محمد ).
ومع أن الحق سبحانه يضرب مثلاً، إلا أنه خلص المثل من شوائبه التي نعرفها في الدنيا، فالمياه عندما تجري ؛ تكون حلوة ورائقة وصافية ؛ وإن ركدت فهي تأسن وتكون عطنة. ولذلك يوضح لنا الحق سبحانه أن المياه في الجنة غير آسنة ؛ وأنها تكون أنهاراً منزوعاً من مياهها ما يكدرها.
وكذلك المثل بأنهار من لبن لم يتغير طعمه. واللبن كما نعرف هو غذاء البدو ؛ فهم يحلبون الماشية، ويحتفظون بألبانها في قرب لمدة طويلة ؛ فيتغير طعم اللبن ؛ ولذلك يضرب لهم المثل بوجود أنهار من لبن لم يتغير طعمه.
وأيضاً يضرب المثل بوجود أنهار من عسل مصفى، والعسل كما نعرف كان في الأصل يأتي من النحل الذي كان يسكن الجبال قبل استئناسه ؛ ووضعه في مناحل في الحدائق. والحق سبحانه وتعالى هو القائل :﴿ وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون " ٦٨ " ﴾( سورة النحل ).
وحين بحث علماء الحشرات عن تاريخ النحل، وجدوا أن أقدم عسل في العالم هو الذي كان موجوداً في الكهوف الجبلية ؛ ثم يليه في العمر العسل الذي جاء من خلايا النحل ؛ تلك الخلايا التي أقامها النحل بعد اسئناسه ؛ ومن بعد ذلك يأتي العسل الذي أقمنا نحن له المناحل.
وقد ميزوا العسل القديم عن المتوسط عن الجديد، بأن أحرقوا بعضاً من كل نوع من أنواع العسل، فنتج من الاحتراق عنصر الكربون ؛ ومن هذا العنصر اكتشفوا عمر كل نوع من الثلاثة.
ويوضح الحق سبحانه أن بالجنة أنهاراً من عسل مصفى، وبذلك يقدم لنا خير ما كنا نحبه من عسل الدنيا، ولكن بدون ما يكدره.
ويوضح سبحانه أيضاً أن في الجنة أنهاراً من خمر، ولكنها خمر تختلف عن خمر الدنيا ؛ فهي لا تؤثر على التكوين العضوي للعقل، كما أن خمر الدنيا ليس فيها لذة للشاربين ؛ لأنها من كحول يكوي الفم ويلسعه ؛ ولذلك تجد من يشربها وهو يسكبها في فمه لتمر بسرعة فلا يشعر بلسعها في فمه، فتذهب إلى معدته مباشرة فتلهبها.
ويختلف الحال لو كان المشروب هو شراب عصير المانجو أو البرتقال أو القصب ؛ حيث تستطيب النفس مذاق تلك الفواكه ؛ فنجد من يشربها يتمهل ليستبقى أثرها في فمه. ويقول الحق سبحانه عن خمر أنهار الجنة :﴿ لا فيها غول.. " ٤٧ " ﴾( سورة الصافات ) أي : أنه سبحانه ينفي عن خمر أنهار الجنة كل المكدرات التي توجد في خمر الدنيا.
إذن : فساعة تسمع مثلاً عن الجنة ؛ فاعلم أنه مثل تقريبي ؛ لأنه لا يمكن أن تأتي الحقيقة، حيث لا يوجد لفظ يعبر عنها ؛ وهي لم توجد عندنا ؛ وسبحانه لا يخاطبنا إلا بما نعلم من اللغة ؛ لذلك يأتي لنا بالمثل المضروب لنأخذ منه صورة تقريبية.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها، يقول الحق سبحانه :
﴿ مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار.. " ٣٥ " ﴾( سورة الرعد )
ونعلم أن عصب حياة العرب أيام نزول القرآن كان هو الماء ؛ ألم يطلبوا من الرسول أن يفجر لهم الأنهار تفجيراً ؟ نجد الحق سبحانه قد جاء بالتعبير القرآني عن أنهار الجنة بصورتين مختلفتين :
أولهما :﴿ تجري من تحتها الأنهار.. " ٣٥ " ﴾( سورة الرعد )
مثلما قال في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها. ومرة يقول سبحانه :
﴿ تجري تحتها الأنهار.. " ١٠٠ " ﴾( سورة التوبة )
والفارق بين العبارتين هو استيعاب الكمالية في النص، بمعنى أن :
﴿ تجري من تحتها الأنهار.. " ٣٥ " ﴾( سورة الرعد )
توضح أن منابع تلك الأنهار تأتي من تحت تلك الجنة مباشرة ؛ فلا يقل الماء في تلك الأنهار أبداً.
ويقال : إن الفارق بين أنهار الدنيا وأنهار الجنة أن أنهار الدنيا عبارة عن شقوق في الأرض لها شواطئ تحتضنها ؛ أما أنهار الآخرة فهي تسير على الأرض دون شواطئ تحجزها. ونجد أنهار الخمر تسير أيضاً في الأرض، ولا تتداخل مع أنهار الماء، وكذلك أنهار اللبن، وكل ذلك من صنعة رب حكيم قادر. أما قوله :
﴿ تجري تحتها الأنهار.. " ١٠٠ " ﴾( سورة التوبة ) أي : أن منابعها ليست من تحتها مباشرة ؛ ولكنها تأتي دون نقص من جهة أنت لا تعلمها ؛ وهو سبحانه قادر على كل شيء. ويتابع سبحانه، فيقول عن تلك الجنة :﴿ أكلها دائم.. " ٣٥ " ﴾( سورة الرعد ) والأكل هو ما يؤكل، وسبحانه القائل :﴿ تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.. " ٢٥ " ﴾( سورة إبراهيم )
وقوله :﴿ أكلها دائم.. " ٣٥ " ﴾( سورة الرعد ) أي : لا ينقطع، ونعلم أن الإنسان حين يأكل ؛ فهو يفعل ذلك بهدف إشباع جوعه ؛ وبعد أن يشبع جوعه ؛ قد يطلب أن يرفع الطعام من أمامه، إلى أن يجوع، فيطلب الطعام من جديد.
ومن يحبون الطعام في حياتنا الدنيا نرى الواحد منهم وهو يقول : " أشعر ببعض الضيق لأني شبعت "، فهو في عراك بين نفس تشتهي وبين بطن لا تشبع، وكأنه كان يريد أن يستمر في تناول الطعام طوال الوقت.
وقول الحق سبحانه :﴿ أكلها دائم.. " ٣٥ " ﴾( سورة الرعد )
شغل هذا القول الرومان الذين كانوا أصحاب إمبراطورية عظمى زلزلها الإسلام بحضارته الوليدة، وأرسل إمبراطورهم من يطلب من أحد الخلفاء إرسال رجل قادر على شرح قول الحق :﴿ أكلها دائم.. " ٣٥ " ﴾( سورة الرعد ) فأرسل لهم أحد العلماء ؛ وسألوه : يقول قرآنكم إن أكل الجنة دائم ؛ ونحن وأنتم تعلمون أن كل شيء يؤخذ منه لابد له أن ينقص ؛ فكيف يكون أكل الجنة دائماً ؟.
قال العالم لهم : هاتوا مصباحاً. فأحضروا له المصباح وأشعله أمامهم. وقال لكل منهم : فليأت كل منكم بمصباحه. فأحضر كل منهم مصباحه. وقال لهم : فليشعل كل منكم مصباحه. وهنا سألهم : ما الذي أنقصه إشعال مصابيحكم من هذا المصباح ؟ قالوا : لا شيء. فقال لهم : هكذا ضرب الله لنا المثل بأكل الجنة.
وبطبيعة الحال كان يجب أن يلتفتوا إلى أن المصباح يعتمد في اشتعاله على الزيت المخزون فيه، ويأتيه منه المدد، أما الجنة فمددها من الله.
وهناك من قال : هل نتغوط في الجنة ؟ فرد عليه واحد من العارفين : لا. فتساءل : وأين تذهب بقايا ما نأكل من طعام الجنة ؟.
فقال العارف بالله : مثلما تذهب بقايا ما يتغذى عليه الطفل في بطن أمه ؛ حيث يحترق هذا الفائض في مشيمة الطفل ؛ والطفل في بطن أمه إنما ينمو بشكل مستمر، معتمداً على غذاء يأتيه من أمه عبر الحبل السري.
وكل تلك الأمور تقريبية تجعلنا نعبر الفجوة بين ما نشهده في حياتنا اليومية، وبين ما أعده الله للمتقين، وهو القيوم على كل أمر. وقد قال الحق سبحانه :﴿ أكلها دائم وظلها.. " ٣٥ " ﴾( سورة الرعد ).
يعني : أن الطعام موجود ولا ينتهي وكذلك الظل. والظل حجب المضيء من مكان ؛ أو حجب مكان عن المضيء، ولا أحد يعلم أنه ستوجد هناك شمس أم لا ؛ والعقل البشري قاصر عن تخيل ذلك ؛ فهو من فعل الله، وهو سبحانه قادر على كل شيء.
وهو القائل سبحانه :﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها أزواج مطهرة وندخلهم ظلا ظليلا " ٥٧ " ﴾( سورة النساء )
وهو القائل سبح
وكان على من نزل عليهم التوراة والإنجيل أن يواصلوا الإيمان بمدد السماء، والخير القادم منها إلى الأرض، وقد سبق أن أخذ الله من أنبيائهم الميثاق على ذلك، وقال تعالى :
﴿ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين " ٨١ " ﴾ ( سورة آل عمران )
وهكذا نعلم أن الحق سبحانه قد شاء أن يستقبل كل دين سابق الدين الذي يليه بالإيمان به ؛ وفي كل دين سابق لآخر كانت النصوص تؤكد ضرورة الإيمان بالرسول القادر، كي لا يحدث اقتراع بين الأديان الناسخة والأديان المنسوخة.
فمن صميم مواد أي دين سابق أن ينتظر الدين الذي يليه، وإذا ما جاء الدين الجديد فهو يستقبله فرعاً وتكملة، ولا يستقبله كدين يضاد الدين السابق.
وإذا كان الإسلام هو الدين الذي تختم به مواكب الرسل ؛ فلابد أن الأديان السابقة عليه قد بشرت به، وكل مؤمن بالأديان السابقة موصى بضرورة الإيمان به. ويقول الحق سبحانه :﴿ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه " ١٣ " ﴾( سورة الشورى ).
ويقول الحق سبحانه :﴿ والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك.. " ٣٦ " ﴾( سورة الرعد ) أي : أن أهل التوراة والإنجيل يفرحون بما جاء يا محمد من القرآن، والإنسان لا يفرح بشيء إلا إذا حقق له غاية تسعده، ولابد أن تكون هذه الغاية منشورة ومعروفة. وهم قد فرحوا بما نزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه حقق لهم ما جاء في كتبهم من نبوءة به.
ومعنى ذلك أن كتبهم قد صدقت، ومن جاء بالرسالة الخاتم صادق، وكان عليهم أن يكونوا أول المبادرين إلى الإيمان به. ذلك أن الفرحة هي العملية التعبيرية أو النزوعية من مواجيد الحب، والإنسان إنما يفرح بتحقيق أمر طيب كان ينتظره. ولذلك كان يجب أن يهرولوا للإيمان بالدين الجديد، وأن يعلنوا الإيمان به مثلما فعل كعب الأحبار، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي الذي جاب أغلب البلاد باحثاً عن الدين الحق.
وهؤلاء هم مجرد أمثلة لمن أرادوا أن يعبروا بالفرحة واستقبال مدد السماء عبر مجيء النبي الخاتم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وأعلنوا البيعة للرسول الجديد كما بشرت به الكتب السماوية السابقة على بعثته، ثم وقفوا موقف العداء من الذين لم يفرحوا بمقدم الرسول، ثم غيروا ما جاء في كتبهم السماوية طمعاً في السلطة الزمنية.
وعرف من آمنوا برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذين أنكروا نبوة محمد بن عبد الله قد دلسوا على أنفسهم وعلى غيرهم، وأتوا بأشياء لم تكن موجودة في كتبهم المنزلة على رسلهم كادعائهم أن لله أبناء، وسبحانه منزه عن ذلك :
﴿ والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب " ٣٦ " ﴾( سورة الرعد ).
تلك عدالة من القرآن ؛ لأن القرآن لم ينكر الكتب السماوية السابقة بأصولها، لكنه أنكر التحريف في العقائد، وأنكر مواقف من حرفوا وادعوا كذباً أن هناك بنوة لله.
هذا التحريف لم ينل من القرآن إنكاراً لكل ما جاء بالكتب السابقة على القرآن ؛ ولكنه أنكر التحريف فقط.
وقد أثبت القرآن ما لله وما للرسول، وأنكر التحريف الذي أرادوا به السلطة الزمنية ؛ وادعاء القداسة، والتجارة بصكوك الغفران وبيع الجنة، وتلقي الاعترافات، وغير ذلك مما لم ينزل به كتاب سماوي.
وحين جاء الإسلام ليحرم ذلك دافعوا عن سلطتهم التي يتاجرون بها في أمور الدين، وهي ليست من الدين.
وانظر إلى قول الحق سبحانه :﴿ قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به.. " ٣٦ " ﴾( سورة الرعد ) وهذا القول دليل على أن هؤلاء المغيرين في الكتب السماوية أو الذين أنكروا وحدانية الله ؛ هؤلاء جاء لهم بالقول المفصل :﴿ إنما أمرت أن أعبد الله.. " ٣٦ " ﴾( سورة الرعد )أي : أنه يقر بأن هناك ديناً قد اختير له من قبل مرب ؛ ولم يختر محمد شيئاً أعجبه ليعبده، ولكنه كرسول من الله يشرف بالانتماء لما جاءه الأمر به من السماء، وهو لا يشرك به أحد. ونجد الرسول صلى الله عليه وسلم يتعصب لما يتعلق بربه ؛ وقد يتهاون بما يتعلق بشخصه.
ولذلك وجدنا بعض الملاحدة وقد قالوا له : نحن نؤمن بالله وبالسماء والوحي وبكل شيء، لكنا لا نؤمن بك أنت، ولم يغضب رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولو كان يدخل ذاته أو أنانيته في الأمر لغضب، ولكنه لم يغضب.
والدليل على هذا هو أن مواجيده صلى الله عليه وسلم كانت مع الروم المؤمنين بكتاب سماوي ضد المشركين الذين لا يؤمنون بدين سماوي وهم الفرس ؛ وحزن صلى الله عليه وسلم حين غلبت الروم، فنزل إليه القول الحق بنبأ النصر القادم في بضع سنين ؛ تسلية له صلى الله عليه وسلم :
﴿ الم " ١ " غلبت الروم " ٢ " في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون " ٣ " في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون " ٤ " بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم " ٥ " ﴾( سورة الروم ).
وهؤلاء في قلب رسول الله كانوا أقرب من غيرهم ؛ لأنهم يتبعون ديناً سماوياً ؛ وساعة يرى رائحة صاحب خير يرجحه على صاحب الشر ؛ فهو يطلب لهم النصر ويبشره الله بخير نصرهم في بضع سنين، وهم يحملون رائحة الخير، رغم أنهم لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. ومعنى :﴿ قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به.. " ٣٦ " ﴾( سورة الرعد ) أي : أنني سأعبد الله وحده، ولن أعطف على عبادته شيئاً ؛ ويدعو لعبادته وحده ؛ لأنه يعلم أنه سيؤوب إليه، كما سيؤوب إليه كل إنسان ؛ فلا أحد ينفلت من ربه وخالقه، ولابد لكل إنسان أن يعد عدته لهذا المآب.
ساعة نسمعه نرى أن هناك مكانة علية ينزل منها شيئاً لمكانة أدنى، ومثل ذلك أمر معروف في الحسيات، وهو معروف أيضاً في المعنويات.
بل وقد يكون هذا الشيء لم يصل إلى السماء ؛ ولكنه في الأرض، ومع ذلك يقول فيه الحق سبحانه :
﴿ وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس.. " ٢٥ " ﴾( سورة الحديد ) وهو إنزال، لأنه أمر من تدبير السماء، حتى وإن كان في الأرض :
﴿ وكذلك أنزلناه حكماً عربياً.. " ٣٧ " ﴾( سورة الرعد )
والحكم هو المعنى، والمقصود بالإنزال هنا هو القرآن، وهو كتاب ؛ والكتاب مبنى ومعنى، وشاء الحق سبحانه هنا أن يأتي بوصف المبالغة ليأتي الوصف وكأنه الذات، أي : أنه أنزل القرآن حكماً ؛ وهذا يعني أن القرآن في حد ذاته حكم.
وأنت حين تصف قاضياً يحكم تمام العدل ؛ لا تقول " قاض عادل " بل تقول " قاض عدل " أي : كأن العدل قد تجسم في القاضي ؛ وكأن كل تكوينه عدل. والحق سبحانه هنا يوضح أن القرآن هو الحكم العدل، ويصفه بأنه :﴿ حكماً عربياً.. " ٣٧ " ( سورة الرعد )لأن اللسان الذي يخاطب به الرسول القوم الذين يستقبلون بآذانهم ما يقوله لهم لابد أن يكون عربياً. ولذلك يقول في آية أخرى. { وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون " ٤٤ " ﴾( سورة الزخرف )أي : أنه شرف كبير لك ولقومك، أن نزل القرآن بلغة العرب.
وقد حفظ القرآن لنا اللغة العربية سليمة صافية ؛ بينما نجد كل لغات العالم قد تشعبت إلى لهجات أولاً، ثم استقلت كل لهجة فصارت لغة، مثل اللغة اللاتينية التي خرجت منها أغلب لغات أوربا المعاصر من : إنجليزية وفرنسية وإيطالية، ووجدنا تلك اللغات تتفرق إلى لغات استقلالية، وصار لكل منها قواعد مختلفة.
بل إن اللغة الإنجليزية على سبيل المثال صارت " إنجليزية إنجليزية " يتكلم بها أهل بريطانيا ؛ و " إنجليزية أمريكية " يتكلم بها أهل الولايات المتحدة.
ولو تركنا نحن لغة التخاطب بيننا كمسلمين وعرب إلى لغة التخاطب الدارجة في مختلف بلادنا ؛ فلن يفهم بعضنا البعض، ومرجع تفاهمنا مع بعضنا البعض حين نتكلم هو اللغة الفصحى. ودليلنا ما رأينا في مغربنا العربي، فنجد إنساناً تربى على اللغة الفرنسية، أو تكون لغة جمعاً بين لهجات متعددة من البربرية والفرنسية وبقايا لغة عربية، فإذا حدثته باللغة العامية لا يفهم منك شيئاً، وإن تحدثت معه باللغة العربية استجاب وأجاب ؛ لأن فطرته تستقبل الفصحى فهماً وإدراكاً.
وهكذا رأينا كيف صان القرآن الكريم اللغة العربية واللسان العربي. ومن ضمن معاني قول الحق سبحانه :﴿ حكماً عربياً.. " ٣٧ " ﴾( سورة الرعد )أي : أن الذي يصون ويعصم هذا اللسان العربي هو القرآن الكريم. ويتابع سبحانه بقوله :
﴿ ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واقٍ " ٣٧ " ﴾( سورة الرعد )، وهذا خطاب موجه منه سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم يكشف فيه الحق سبحانه أمام رسوله صلى الله عليه وسلم مضار وخطورة اتباع الهوى ؛ وهو خطاب يدل على أن الدين الذي نزل على موسى ثم عيسى، وهما السابقان لرسول الله ؛ لم يعد كما كان على عهد الرسولين السابقين ؛ بل تدخل فيه الهوى ؛ ولم يعد الدين متماسكاً كما نزل من السماء. ولذلك يقول سبحانه في آية أخرى :
﴿ لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض.. " ٧١ " ﴾( سورة المؤمنون )
ذلك أنه سبحانه لو اتبع أهواءهم لضاع نظام الكون ؛ ألم يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً.. " ٩٢ " ﴾( سورة الإسراء )
ولو استجاب الحق مثلاً لهذه الدعوة، ألم تكن السماء لتفسد ؟.
إذن : فبعد أن نزل القرآن من السماء حكماً وعلماً ومنهجاً يسهل عليهم فهمه، لأنه بلغتهم، وهم يحمل كامل المنهج إلى أن تقوم الساعة، وفيه دليل السعادة في الدنيا والآخرة.
لذلك فليس لأحد أن يتبع هواه ؛ فالهوى كما نعلم يختلف من إنسان لآخر، والخطاب الموجه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يتضمن في طياته الخطاب لأمته صلى الله عليه وسلم.
ومن يفعل ذلك فليس له من دون الله ولي يؤازره أو ينصره، أو يقيه عذاب الحق : شقاءً في الدنيا، وإلقاءً في الجحيم في الآخرة.
ومنهم من قال : ما لهذا الرسول يتزوج النساء ؟ ألم يكن من اللائق أن يتفرغ لدعوته ؟ وهؤلاء الذين قالوا ذلك لم يستقرئوا الموكب الرسالي، لأنهم لو فعلوا لوجدا أن أغلب الرسل قد تزوجوا وأنجبوا.
وحين تكون حياة الرسول قريبة كمثال واضح من حياة الناس الذين أرسل إليهم ؛ ليكون أسوة لهم ؛ فالأسوة تتأتى بالجنس القابل للمقارنة ؛ وحين تكون حياة الرسول كحياة غيره من البشر في إطارها العام ؛ كأب وزوج، فالأسوة تكون واضحة للناس. ونعلم أن هناك من جاء إلى رسول الله ؛ ليطلب الإذن بالتفرغ التام للعبادة من : صوم وصلاة وزهد عن النساء، فنهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال في حديث شريف : " إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني "
ويتابع الحق سبحانه :﴿ وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب " ٣٨ " ﴾
( سورة الرعد ) أي : ما كان لأحد أن يقترح على الله الآية التي تأتي مع أي رسول من الرسل، ولم يكن لأي رسول حق في اختيار الآية المصاحبة له.
وبهذا القول حسم الحق سبحانه قضية طلب المشركين لآيات الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن كل رسول جاء لزمنه ولقومه ؛ وكل معجزة كانت من اختيار الله، وكل رسول يؤدي ما يكلفه به الله ؛ وليس للرسول أن يقترح على الله آية ما ؛ لأن الخالق الأعلى هو الأعلم بما يصلح في هذه البيئة على لسان هذا الرسول. ونأخذ من قوله الحق :
﴿ لكل أجل كتاب " ٣٨ " ﴾( سورة الرعد ) أن لكل رسالة رسولها، ولكل رسالة مكانها، ولكل رسالة معجزتها، فإذا كان الأمر كذلك فدعوا محمد صلى الله عليه وسلم وما اختاره الله له ؛ في المكان الذي شاءه سبحانه، وفي الزمان ؛ وفي المعجزة المصاحبة له صلى الله عليه وسلم.
ولكن، أهناك تغيير بعد أن يقول الحق سبحانه :﴿ لكل أجل كتاب " ٣٨ " ﴾( سورة الرعد ).
ونقول : لا، لم يحدث ذلك، ولكن كانت هناك أحكام مرحلية ؛ ولها مدة محددة ؛ ولذلك جاء قول الحق سبحانه :﴿ وعنده أم الكتاب " ٣٩ " ﴾
( سورة الرعد ) أي : عنده اللوح المحفوظ الذي تحددت فيه الأحكام التي لها مدة محددة ؛ وما أن تنتهي إلا وينزل حكم آخر مكانها، وعلى هذا المعنى يمكن أن نقول : إنه لم يوجد نسخ للأحكام، لأن معنى يمكن أن نقول : إنه لم يوجد نسخ للأحكام يتزحزح عن زمانه ؛ لأن كل حكم موقوت بوقت محدود ؛ وما أن ينتهي الوقت حتى يبدأ حكم جديد.
أقول ذلك كي أنبه العلماء إلى ضرورة أن يجلسوا معاً لدراسة ذلك، حتى لا يختلف العلماء : أهناك نسخ أم لا، وأقول : فلنحدد النسخ أولاً، لأن البعض يظن أن هناك حكماً كان يجب أن ينسحب على كل الأزمنة، ثم جاء حكم آخر ليحل محله لحكمة تقتضيها مصلحة البشرية والمراد لله منها.
ولا يوجد حكم أنهى حكماً وطرأ عليه ساعة الإنهاء ؛ بل كل الأحكام كانت مقدرة أزلاً ؛ وعلى ذلك فلا يوجد نسخ لأي حكم، ولكن هناك أحكام ينتهي وقتها الذي قدره الله لها ؛ ويأتي حكم سبق تقديره أزلاً ليواصل الناس الأخذ به ؛ ومادام الأمر كذلك فلا يوجد نسخ. ولننظر إلى قول الحق سبحانه :﴿ ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها.. " ١٠٦ " ﴾( سورة البقرة ).
ويتضح من منطوق الآية ومفهومها أن عند نسخ حكم يأتي الله بمثله أو خير منه. إذن : ليس هناك نسخ وإنما هناك أحكام تؤدي مهمتها في زمن ثم يأتي زمن يحتاج إلى حكم خير منه أو مثله في الحكم، ولكنه يوافق المصالح المرسلة مع مراد الله.
ولقائل أن يقول : مادام سيأتي بخير من الآية المنسوخة أو المنسأة فذلك افضل، ولكن لماذا يأتي بالمثل ؟.
وأقول : لأنك إن جاءك ما هو خير منها قد تستسيغه، ولكن حين ننتقل إلى مثل ما جاءت به الآية ؛ فهذا محك الإيمان.
والمثل هو التوجه في الصلاة إلى بيت المقدس في أول الدعوة ؛ ثم مجيء الأمر بتحويل القبلة إلى الكعبة ؛ فلا مشقة في ذلك.
ولكن هنا يتم اختبار الالتزام الإيماني بالتكليف، وهنا الانصياع للحكم الذي ينزله الله، وهو حكم مقدر أزلاً ؛ وفي هذا اختبار لليقين الإيماني في إدارة توجيه المدبر لهذا السير.
وكذلك في الحج يأتي الرسول صلى الله عليه وسلم ليقبل الحجر الأسود ؛ ثم يرجم الحجر الذي يرمز لإبليس، ونحن نفعل ذلك أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلاهما حجر، ولكننا نمتثل لأمره صلى الله عليه وسلم. فتقبيل الحجر الأسود ورجم الحجر الذي يشير إلى رمزية إبليس، كل هذا استجابة لأمر الآمر.
وحين يقول الحق سبحانه :﴿ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " ٣٩ " ﴾( سورة الرعد ) فهو يعني أنه سبحانه ينهي زمن الحكم السابق الذي ينتهي زمنه في أم الكتاب أي اللوح المحفوظ ؛ ثم يأتي الحكم الجديد.
والمثال : هو حكم الخمر ؛ وقد عالجها الحق سبحانه أولاً بما يتفق مع قدرة المجتمع ؛ وكان المطلوب الأول هو تثبيت العقيدة ؛ ثم تجيء الأحكام من بعد ذلك.
وهناك فرق بين العقيدة وهي الأصل وبين الأحكام، وهي تحمل أسلوب الالتزام العقدي، وكان الحكم في أمر العقيدة ملزماً ومستمراً.
أما الأحكام مثل حكم الخمر فقد تدرج في تحريمها بما يتناسب مع إلف الناس ؛ واعتيادهم ؛ فقلل الحق سبحانه زمن صحبة الخمر ؛ ثم جاء التحريم والأمر بالاجتناب، وعدم القرب منها. والمثل في حياتنا ؛ حيث نجد من يريد أن يمتنع عن التدخين وهو يوسع من الفجوة الزمنية بين سيجارة وأخرى، إلى أن يقلع عنها بلطف، وينفيها من حياته تماماً.
ونجد القرآن يقول في الخمر :﴿ ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً.. " ٦٧ " ﴾( سورة النحل ).
وهنا يمتن الله عليهم بما رزقهم به ؛ ولكن أهل الذوق يلتفتون إلى أنه لم يصف الخمر بأنها من الرزق الحسن ؛ ووصف البلح والعنب بأنه رزق حسن ؛ لأن الإنسان يتناوله دون أن يفسده. وهكذا يلتفت أهل الذوق إلى أن الخمر قد يأتي لها حكم من بعد ذلك، ثم ينزل الحق سبحانه عظة تقول :
﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما اكبر من نفعهما.. " ٢١٩ " ﴾( سورة البقرة ).
وهكذا أوضح الحق سبحانه ميل الخمر والميسر إلى الإثم أكثر من ميلهما إلى النفع، ثم جاء من بعد ذلك قوله بحكم مبدئي :﴿ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون.. " ٤٣ " ﴾( سورة النساء ).
ومعنى ذلك أن تتباعد الفترات بين تناول الخمر، فلا يحتسي أحد الخمر طوال النهار وجزء من الليل، وفي ذلك تدريب على الابتعاد عن الخمر. ثم يأتي التحريم الكامل للخمر في قوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون " ٩٠ " ﴾( سورة المائدة ).
وهكذا أخذ الحكم بتحريم الخمر تدرجه المناسب لعادات الناس، وتم تحريم الخمر بهوادة وعلى مراحل.
وهكذا نفهم النسخ على أنه انتهاء الحكم السابق زمناً وبداية الحكم الجديد، وهذا يعني أن الحكم الأول لم يكن منسحباً على كل الزمن ثم أزلناه وجئنا بحكم آخر ؛ ولكن توقيت الحكم الأول أزلاً قد انتهى ؛ وبدأ الحكم الجديد.
وهكذا لا يوجد مجال للاختلاف على معنى النسخ، ذلك أن الحق سبحانه أرجع المحو والإثبات إلى أم الكتاب ؛ ففيها يتحدد ميعاد كل حكم وتوقيته ؛ وميعاد مجيء الحكم التالي له.
ومادام كل أمر مرسوم أزلاً ؛ فعلى من يقولون أن البداء محرم على الله أن ينتبهوا إلى أن هذا المحو والإثبات ليس بداءً ؛ لأن البداء يعني أن تفعل شيئاً، ثم يبدو لك فساده فتغيره. والحق سبحانه لم يظهر له فساد ما أنزل من أحكام أو آيات ؛ بل هو قدر كل شيء أزلاً في أم الكتاب، وجعل لكل حكم ميقاتاً وميلاداً ونهاية. ويصح أن يتسع معنى قول الحق سبحانه :﴿ يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب " ٣٩ " ﴾( سورة الرعد )ليشمل نسخ رسالة برسالة أخرى ؛ فيكون قد محا شيئاً وأثبت شيئاً آخر، وكل شيء فيه تغيير إلى الخير ويصح فيه المحو والإثبات، وهو من عند الرقيب العتيد :﴿ ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد " ١٨ " ﴾( سورة ق ) أي : أنه القادر على أن يأمر الرقيب العتيد بأن يثبتا الواجبات والمحرمات، وأن يتركا الأمور المباحة، وهو القادر على أن يمحو ما يشاء من الذنوب، ويثبت ما يشاء من التوبة.
﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم " ١٢٨ " ﴾( سورة التوبة ) جعله هذا القول متعلقاً بهداية قومه جميعاً، وكان يرجو أن يكون الكل مهتدياً ؛ ولذلك يقول الحق سبحانه لرسوله في موقع آخر :
﴿ فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا " ٦ " ﴾( سورة الكهف ) أي : أنك لست مسئولاً عن إيمانهم، وعليك ألا تحزن إن لم ينضموا إلى الموكب الإيماني، وكل ما عليك أن تدعوهم وتبلغهم ضرورة الإيمان ؛ والحق سبحانه هو الذي سوف يحاسبهم إما في الدنيا بالمحو والإهاب، أو في الآخرة بأن يلقوا عذاب النار.
وحين يقول الحق سبحانه :﴿ وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب " ٤٠ " ﴾( سورة الرعد ).
فنحن نعلم أن كل دعوة من دعوات الخير تكبر يوماً بعد يوم ؛ ودعوات الشر تبهت يوماً بعد يوم، ومن يدعو إلى الخير يحب ويتشوق أن يرى ثمار دعوته وقد أينعت، ولكن الأمر في بعض دعوات الخير قد يحتاج وقتاً يفوق عمر الداعي.
ولذلك يقول الحق سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم :
﴿ وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك.. " ٤٠ " ﴾( سورة الرعد ) أي : اغرس الدعوة، ودع من يقطف الثمرة إلى ما بعد ذلك، وأنت حين تتفرغ للغرس فقط ؛ ستجد الخير والثمار تأتي حين يشاء الله ؛ سواء شاء ذلك إبان حياتك أو من بعد موتك.
وأنت إذا نظرت إلى الدعوات التي تستقبلها الحياة تجد أن لكل دعوة أنصاراً أو مؤيدين، وأن القائمين على تلك الدعوات قد تعجلوا الثمرة ؛ مع أنهم لو تمهلوا ليقطفها من يأتي بعدهم لنجحت تلك الدعوات.
ونحن في الريف نرى الفلاح يغرس ؛ ومن خلال غرسه نعرف مراداته، هل يعمل لنفسه، أو يعمل من أجل من يأتي بعده ؟.
فمن يغرس قمحاً يحصد بسرعة تفوق سرعة من يغرس نخلة أو شجرة من المانجو، حيث لا تثمر النخلة أو شجرة المانجو إلا بعد سنين طويلة، تبلغ سبع سنوات في بعض الأحيان، وهذا يزرع ليؤدي لمن يجئ ما أداه له من ذهب.
ونحن نأكل من تمر زرعه لنا غيرنا ممن ذهبوا، ولكنهم فكروا فيمن سيأتي من بعدهم، ومن يفعل ذلك لابد وأن يكون عنده سعة في الأرض التي يزرعها ؛ لأن من لا يملك سعة من الأرض فهو يفكر فقط فيمن يعول وفي نفسه فقط ؛ لذلك يزرع على قدر ما يمكن أن تعطيه الأرض الآن.
أما من يملك سعة من الأرض وسعة في النفس ؛ فهو من وضع في قلبه مسئولية الاهتمام بمن سيأتون بعده. وأن يرد الجميل الذي أسداه له من سبقوه، بأن يزرع لغيره ممن سيأتون من بعده.
ودعوة محمد عليه الصلاة والسلام شهدت له بأنه لم يبحث لنفسه عن ثمرة عاجلة ؛ بل نجد الدعوة وهي تقابل الصعاب تلو الصعاب، ويلقي صلى الله عليه وسلم ما تلقى من العنت والإرهاق والجهد ؛ بعد أن جهر بالدعوة في عشيرته الأقربين.
ثم ظلت الدعوة تتسع في بعض العشائر والبطون إلى أن دالت عاصمة الكفر ؛ وصارت مكة بيت الله الحرام كما شاء الله، وأسلمت الجزيرة كلها لمنهج الله، وأرسل صلى الله عليه وسلم الكتب إلى الملوك والقياصرة، .
وكلها تتضمن قوله صلى الله عليه وسلم " أسلم تسلم "
ودلت هذه الكتب على أن الدعوة الإسلامية هي دعوة ممتدة لكل الناس ؛ تطبيقاً لما قاله الحق لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه : " رسول للناس كافة ".
قال تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً.. " ٢٨ " ﴾( سورة سبأ ) وفهم الناس الفارق بين رسالته صلى الله عليه وسلم وبين كافة الرسالات السابقة، فإلى قوم عاد أرسل هوداً عليه السلام. يقول الحق سبحانه :﴿ وإلى عادٍ أخاهم هوداً.. " ٦٥ " ﴾( سورة الأعراف )
وقال عن أهل مدين :﴿ وإلى مدين أخاهم شعيباً.. " ٨٥ " ﴾( سورة الأعراف )
وقال عن بعثة موسى :﴿ ورسولاً إلى بني إسرائيل.. " ٤٩ " ﴾( سورة آل عمران ).
وهكذا حدد الحق سبحانه زمان ومكان القوم في أي رسالة سبقت رسالة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
لكن الأمر يختلف حين أرسل سبحانه محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً وجعله للناس كافة، فقد علم سبحانه أزلاً أن هذا هو الدين الخاتم ؛ لذلك أرسل رسول الله إلى حكام العالم المعاصرين له دعوة لدخول الدين الخاتم.
وقد ترك الرسول صلى الله عليه وسلم تلك المهمة لمن يخلفونه، ودعا صلى الله عليه وسلم الجزيرة العربية تحت لواء " لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله " بعد أن كانت قبائل متعددة.
كل قبيلة كانت لا تلزم نفسها بعبادة إله القبيلة الأخرى ؛ وكل قبيلة لا تلزم نفسها بتقنين القبيلة الأخرى، ولم يجمعهم أبداً شمل، ولا استيطان لهم إلا في بعض القرى، ذلك أن أغلبهم من البدو الرحل ؛ كل واحد منهم يحمل بيته الخيمة على ظهر بعيره، ويمشي بحثاً عن الكلأ والماء لأغنامه وماشيته.
فلم يكن عندهم انتماء وطني ؛ فضلاً عن القبائل التي كانت تتقاتل فيما بينها في تارات عنيفة، وامتدت الحرب فيما بين بعض القبائل إلى أربعين عاماً في بعض الأحيان.
استطاع صلى الله عليه وسلم أن يوظف ما كانوا عليه من تدريب وعتاد وعدة لنصرة دين الله ؛ فحين إعداده للغزوات أو اختياره للسرايا كان يجد المقاتلين في كامل لياقتهم. وحين استدعاهم إلى الحرب لم يجر لهم تدريبات ؛ فقد كان الكل مدرباً على القتال.
وهكذا صارت القبائل أمة واحدة بعد أن جمعهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في وحدة التكامل العقدي تحت راية الإسلام، وهذه الأمة الأمية، قال فيها الحق سبحانه :
﴿ هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم.. " ٢ " ﴾( سورة الجمعة )
وكانت هذه الأمية شرفاً لهم كيلا يقال : إنهم أصحاب قفزة حضارية من أمة متمدينة. وكانت هذه الأمية ملفتة، لأن ما جاء في تلك الأمة من تشريعات وقفت أمامه الأمم الأخرى إلى زماننا هذا باندهاش وتقدير.
وشاء الحق سبحانه لهذه الأمة أن تحمل رسالة السماء لكل الأرض، وبعد أن نزل قول الحق سبحانه :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً.. " ٣ " ﴾( سورة المائدة ).
فهم بعض الناس أن الرسول صلى الله عليه وسلم ينعي نفسه لأمته. ومن بعد رحيله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى انساح صحابته بالدين الخاتم في الدنيا كلها، وخلال نصف قرن من الزمان صار للإسلام جناحان ؛ جناح في الشرق، وجناح في الغرب. وهزم اكبر إمبراطوريتين متعاصرتين له ؛ هما إمبراطورية فارس بحضارتها وإمبراطورية الروم.
وكانت البلاد تتخطف الإسلام كمنهج حياة، حدث ذلك بعد أن حارب الإسلام الإمبراطوريتين في آن واحد، وأقبل الناس على الإسلام ليتحققوا من معجزته التي لمسوها في خلق من سمعوا القرآن وحملوا رسالته ؛ ثم في اكتشافهم لعدالة القرآن في إدارة حركة الحياة.
وهكذا اكتشفوا أن معجزة الإسلام عقلية ؛ وأن رسوله صلى الله عليه وسلم هو الرسول الخاتم الذي لم يأت لهم بمعجزة حسية، وإذا كان القرآن معجزة في اللغة للقوم الذين نزل فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فالقرآن لمن لم يعرفوا لغة القرآن كان معجزة في العدالة والقيم النابعة منه.
وكان الناس يندفعون إلى الإسلام بقوة دفع من المؤمنين به، وبقوة جذب من غير المؤمنين ؛ حين يرون ألا فرق بين الأمير وأصغر فرد تحت رايته، وحين يلمسون عدالته ومساواته بين البشر. ولم يكن الإسلام معجزة لقومه فقط ؛ بل لكل الدنيا، ويتحقق دائماً قول الحق سبحانه :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق " ٥٣ " ﴾( سورة فصلت ).
ونجد مفكراً كبيراً من الغرب المعاصر يعلن إسلامه، رغم أنه لم يقرأ القرآن ؛ بل نظر فقط في المبادئ التي قننها الإسلام، وكيف تحمل حلولاً لما عجزت عنه الحضارات المتعاقبة وأهل القوانين في كل بلاد الأرض.
ويعرف أن تلك القوانين قد جاءت لرسول ينتمي لأمة لم تبرع إلا في البلاغة والأدب، وتضع تلك القوانين حلولاً لمشاكل تعاني منها الدنيا كلها.
ورأينا كيف بحث رجل عن أعظم مائة في تاريخ البشرية، وكيف جعل محمداً صلى الله عليه وسلم أولهم، وهذا الباحث لم يقرأ القرآن ؛ ولكنه درس آثار تطبيق القرآن، وبعد أن يجب بالمنهج القرآني نجد يعجب بالنص القرآني.
والمثل : هو دراسة الألمان لعملية إدراكات الحس ؛ وكيف يشعر الإنسان بالألم ؟ وكيف يلمس الإنسان ببشرته بملمس ناعم فيسر منه، ثم يلمس شيئاً خشناً فيتأذى منه.
واستمر الألمان يدرسون ذلك لسنوات ؛ كي يعرفوا مناط الإحساس وموقعه في الإنسان، هل هو في المخ أم أين ؛ إلى أن انتهوا إلى مناط الإحساس في كل إنسان هو في الجلد، وأنها خلايا منبسطة تحت الجلد مباشرة ؛ بدليل أن الإبرة حين نغرزها في جسم الإنسان ؛ فهو يتألم فقط في منطقة دخولها ؛ وليس أكثر. ولفت ذلك نظر أحد العلماء ؛ فقال : لقد تحدث القرآن عن ذلك حين قال :﴿ كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزاً حكيماً " ٥٦ " ﴾( سورة النساء ).
ومن الأمثلة المعاصرة في العلوم الجنائية قصة شاب مسلم من سوهاج سافر إلى ألمانيا ليعد رسالة الدكتوراه في القانون، ووجدهم يقفون عند قضية التعسف في استعمال الحق، ويعتبرونها من أهم الإنجازات القانونية في القرآن العشرين، فأوضح لهم هذا الشاب أن الإسلام قد سبقهم في تقدير هذه المسألة ووضع الحكم المناسب فيها من أربعة عشر قرناً من الزمان.
وروي لهم أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً : إن لفلان عندي في ساحة بيتي نخلة، وهو يدخل بيتي كل ساعة بحجة رعاية تلك النخلة ؛ مرة بدعوى تأبيرها ؛ وأخرى جني ثمارها، وثالثة بدعوى الاطمئنان عليها حتى جعل النخلة شغله الشاغل، وشكا الرجل للرسول صلى الله عليه وسلم أنه يتأذى هو وأهل بيته من اقتحام الرجل للحياة الخاصة له، فأرسل صلى الله عليه وسلم إلى صاحب النخلة وقال له : " أنت بالخيار بين ثلاثة مواقف : إما أن تهبه النخلة وتلك منتهى الأريحية، وإما أن تبيعها له، وإما قطعناها "
وهكذا وضع صلى الله عليه وسلم قواعد للتعامل فيما يسمى " التعسف في استعمال الحق ". وفي إنجلترا وجدوا أن القانون التجاري مليء بالثغرات، ومثال هذا أن التعامل في السوق قد يتطلب بعضاً من المرونة بين التجار ؛ فهذا يرسل لذلك طالباً من الآخر ألفاً من الجنيهات وفلان يرد ما أخذه أو يقايضه.
واصطدم الواقع بأن بعض التجار لا يعترفون ببعض الديون التجارية التي عليهم، وقديماً كان إذا أراد تاجر أن يقترض من زميل له ؛ فهو يكتب الدين في كمبيالة أو إيصال أمانة ؛ وذلك لتوثيق الدين.
ولكن الأمر اليومي في السوق قد يختلف ؛ فهذا يحتاج نقوداً لأمر عاجل، وزميله يثق في قدرته على الرد والتسديد ؛ لأنه قد يحتاج هو الآخر لنقود عاجلة، ويثق أن من يقرضه الآن، سيقرضه فيما بعد ؛ ولذلك أنشأوا ما يسمى بالدين التجاري، فيفتحون " دفتراً " يسجلون في الديون التجارية ؛ لتحكم الدفاتر فيما يعجز عن تذكره الأشخاص.
وذهب شاب مسلم لبعثة دراسية هناك ؛ وأوضح لهم أن قضية الدين أخذت اهتمام الإسلام ؛ لدرجة أن أطول آية في القرآن هي ا
وإذا جاء قول الحق سبحانه ليخبرنا بأمر حدث في الماضي أو سيحدث في المستقبل ؛ ووجدنا فيه فعل الرؤية ؛ فهذا يعني أننا يجب أن نؤمن به إيمان مشهدٍ، لأن قوله سبحانه أوثق من الرؤية، وعلمه أوثق من عينيك. وسبق أن قال الحق سبحانه لرسوله :﴿ ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل " ١ " ﴾( سورة الفيل ).
ونعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ولد في عام الفيل، ولا يمكن أن يكون قد رأى ما حدث لأصحاب الفيل، ولكنه صدق ما جاء به القول الحق وكأنه رؤيا مشهدية. وقال الحق سبحانه :﴿ ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكناً.. " ٤٥ " ﴾( سورة الفرقان )
وحين يعبر القرآن عن أمر غيبي يأتي بفعل " يرى " مثل قوله الحق :﴿ ولو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم.. " ١٢ " ﴾( سورة السجدة ).
وحين يتكلم القرآن عن أمر معاصر يقول :﴿ أفلا يرون.. " ٤٤ " ﴾( سورة الأنبياء )
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها.. " ٤١ " ﴾
( سورة الرعد ) وهذا قول للحاضر المعاصر لهم.
وتعريف الأرض هنا يجعلها مجهولة، لأننا حين نرغب في أن نعرف الأرض ؛ قد يتجه الفكر إلى الأرض التي نقف عليها ؛ وبالمعنى الأوسع يتجه الفكر إلى الكرة الأرضية التي يعيش عليها كل البشر.
وقد تنسب الأرض إلى بقعة خاصة وقع فيها حدث ما ؛ مثل قول الحق سبحانه عن قارون :﴿ فخسفنا به وبداره الأرض.. " ٨١ " ﴾( سورة القصص.
ويقول الحق سبحانه عن الأرض كلها :﴿ وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض.. " ٥٥ " ﴾( سورة النور ).
وبطبيعة الحال هم لن يأخذوا كل الأرض، ولكن ستكون لهم السيطرة عليها. وسبحانه يقول أيضاً :﴿ فذروها تأكل في أرض الله.. " ٧٣ " ﴾
( سورة الأعراف ).
وهكذا نفهم أن كلمة " الأرض " تطلق على بقعة لها حدث خاص، أما إذا أطلقت ؛ فهي تعني كل الأرض، مثل قول الحق سبحانه :﴿ والأرض وضعها للأنام " ١٠ " ﴾( سورة الرحمن )
ومثل قوله تعالى لبني إسرائيل :﴿ وقلنا من بعده لبني إسرائيل اسكنوا الأرض.. " ١٠٤ " ﴾
( سورة الإسراء ).
مع أنه قد قال لهم في آية أخرى :﴿ ادخلوا الأرض المقدسة.. " ٢١ " ﴾ ( سورة المائدة )
ولذلك قال الحق سبحانه في موقع آخر :﴿ وقطعناهم في الأرض أمماً.. " ١٦٨ " ﴾( سورة الأعراف ) أي : جعلنا كل قطعة بما تحويه من تماسك متفرقة عن القطعة الأخرى، وهذا هو حال اليهود في العالم ؛ حيث يوجدون في أحياء خاصة بكل بلد من بلاد العالم ؛ فلم يذوبوا في مجتمع ما. وقوله الحق هنا :
﴿ أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها.. " ٤١ " ﴾( سورة الرعد )
موجه إلى قريش، فقد كانت لهم السيادة ومركزها مكة، ثم من بعد ذلك وجدوا أن الموقف يتغير في كل يوم عن اليوم الآخر ؛ ففي كل يوم تذهب قبيلة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة لتعلن إسلامها وتبايعه. وهكذا تنقص أمام عيونهم دائرة الكفر، إلى أن أعلنوا هم أنفسهم دخولهم في الإسلام.
وهكذا شاء الحق سبحانه أن نقصت أرض الكفر، وازدادت أرض الإيمان، ورأوا ذلك بأنفسهم ولم يأخذوا عبرة بما رأوه أمام أعينهم من أن الدعوة ممتدة، ولن تتراجع أبداً، حيث لا تزداد أرض إلا بمكين فيها.
والمكين حين ينقص بموقعه من معسكر الكفر فهو يزيد رقعة الإيمان ؛ إلى أن جاء ما قال فيه الحق سبحانه :﴿ إذا جاء نصر الله والفتح " ١ " ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا " ٢ " فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا " ٣ " ﴾( سورة النصر )
وهناك أناس مخلصون لدين الله، ويحاولون إثبات أن دين الله فيه أشياء تدل على المعاني التي لم تكتشف بعد، فقالوا على سبيل المثال فور صعود الإنسان إلى القمر : لقد أوضح الحق ذلك حين قال :
﴿ يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان.. " ٣٣ " ﴾( سورة الرحمن )
وقالوا : إنه سلطان العلم. ولكن ماذا يقولون في قوله بعدها :
﴿ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران " ٣٥ " ﴾( سورة الرحمن )
فهل يعني ذلك أنه أباح الصعود بسلطان العلم كما تقولون ؟.
ولهؤلاء نقول : نحن نشكر لكم محاولة ربطكم للظواهر العلمية بما جاء بالقرآن، ولكن أين القمر بالنسبة لأقطار السماوات والأرض ؟ إنه يبدو كمكان صغير للغاية بالنسبة لهذا الكون المتسع، فأين هو من النجم المسمى بالشعري، أو بسلسلة الأجرام المسماة بالمرأة المسلسلة ؟ بل أين هو من المجرات التي تملأ الفضاء ؟.
وحين تنظر أنت إلى النجوم التي تعلوك تجد أن بينك وبينها مائة سنة ضوئية، ولو كنت تقصد أن تربط بين سلطان العلم وبين القرآن، فعليك أن تأخذ الاحتياط، لأنك لو كنت تنفذ بسلطان العلم لما قال الحق سبحانه بعدها :
﴿ يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس.. " ٣٥ " ﴾ ( سورة الرحمن ).
وإن سألت : وما فائدة الآية التي تحكي عن هذا السلطان ؛ فهي قد جاءت لأن الرسول قد أخبر القوم أنه صعد إلى السماء وعرج به، أي : أنه صعد وعرج به بسلطان الله. وهنا يقول الحق سبحانه :
﴿ أو لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها.. " ٤١ " ﴾( سورة الرعد ).
وكلمة " أطراف " تدلنا على أن لكل شيء طولاً وعرضاً تتحدد به مساحته ؛ وكذلك له ارتفاع ليتحدد حجمه. ونحن نعرف أن أي طول له طرفان، وإن كان الشيء على شكل مساحي تكون أطرافه بعدد الأضلاع. ومادام الحق سبحانه يقول هنا :
﴿ من أطرافها.. " ٤١ " ﴾( سورة الرعد ) أي : من كل نقطة من دائرة المحيط تعتبر طرفاً. ومعنى ذلك أنه سبحانه قد شاء أن تضيق أرض الكفار، وأن يوسع أرض المؤمنين من كل جهة تحيط بمعسكر الكفر، وهذا القول يدل على أنه عملية محدثة، ولم تكن كذلك من قبل.
ويتابع سبحانه من بعد ذلك :﴿ والله يحكم ولا معقب لحكمه.. " ٤١ " ﴾ ( سورة الرعد )أي : أن الموضوع قد بت فيه وانتهى أمره.. ونحن في حياتنا اليومية نقول : " هذا الموضوع قد انتهى ؛ لأن الرئيس الكبير قد عقب على الحكم فيه ".
ونحن في القضاء نجد الحكم يصدر من محكمة الدرجة الابتدائية، ثم يأتي الاستئناف ليؤيد الحكم أو يرفضه، ولا يقال : إن الاستئناف قد عقب على الحكم الابتدائي ؛ بل يقال : إنه حكم بكذا إما تأييداً أو رفضاً ؛ فما بالنا بحكم من لا يغفل ولا تخفى عنه خافية، ولا يمكن أن يعقب أحد عليه ؟ والمثل في ذلك ما يقوله الحق سبحانه عن سليمان وداود عليهما السلام :
﴿ وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين " ٧٨ " ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلماً.. " ٧٩ " ﴾( سورة الأنبياء ).
وأصل الحكاية أن خلافاً قد حدث بسبب أغنام يملكها إنسان ؛ واقتحمت الأغنام زراعة إنسان آخر ؛ فتحاكموا إلى داود عليه السلام ؛ فقال داود : إن على صاحب الأغنام أن يتنازل عنها لصاحب الأرض.
وكان سيدنا سليمان عليه السلام جالساً يسمع أطراف الحديث فقال : لا، بل على صاحب الأغنام أن يتنازل عن أغنامه لصاحب الأرض لفترة من الزمن يأخذ من لبنها ويستثمرها، وينتفع بها إلى أن يزرع له صاحب الغنم مثل ما أكلت الأغنام من أرضه.
وقال الحق سبحانه :﴿ ففهمناها سليمان.. " ٧٩ " ﴾( سورة الأنبياء ).
وهذا هو الاستئناف، ولا يعني الاستئناف طعن قاضٍ في القاضي الأول ؛ لكنه بحث عن جوهر العدل ؛ ولعل القضية إن أعيدت لنفس القاضي الأول لحكم نفس الحكم الذي حكم به الاستئناف بعد أن يستكشف كل الظروف التي أحاطت بها.
وهنا يقول الحق سبحانه :﴿ والله يحكم.. " ٤١ " ﴾( سورة الرعد ).
ولحظة أن يصدر الله حكماً ؛ فلن يأتي له استئناف، وهذا معنى قوله الحق :
﴿ لا معقب لحكمه.. " ٤١ " ﴾( سورة الرعد ).
وكان هذا القول الحكيم يحمل التنبؤ بما أشار به القضاء بإنشاء الاستئناف ؛ ولا أحد يعقب على حكم الله ؛ لأن المعقب يفترض فيه أن يكون أيقظ من المعقب عليه ؛ وعنده قدرة التفاف إلى ما لم يلتفت إليه القاضي الأول، ولا يوجد قيوم إلا الله، ولا أحد بقادر على أن يعلم كل شيء إلا هو سبحانه، وآفة كل حكم هو تنفيذه ؛ ففي واقعنا اليومي نجد من استصدر حكماً يعاني من المتاعب كي ينفذه ؛ لأن الذي يصدر الحكم يختلف عمن ينفذه، فهذا يتبع جهة، وذاك يتبع جهة أخرى، ولكن الحكم الصادر من الله ؛ إنما ينفذ بقوته سبحانه، ولا يوجد قوى على الإطلاق سواه، ولذلك يأتي قول الحق :
﴿ وهو سريع الحساب " ٤١ " ﴾( سورة الرعد ) فكأن الله ينبهنا بهذا القول إلى أن الحكم بالعدل يحتاج إلى سرعة تنفيذ، ونحن نرى في حياتنا اليومية : كيف يرهق من له حكم بحق عادل ؛ ولو أننا نسرع بتنفيذ الأحكام لسادت الطمأنينة قلوب أفراد المجتمع.
ونحن نجد استشراء العصبيات في الأخذ بالثأر إنما يحدث بسبب الإبطاء في نظر القضايا ؛ حيث يستغرق نظر القضية والحكم فيها سنوات ؛ مما يجعل الحقد يزداد، لكن لو تم تنفيذ الحكم فور معرفة القاتل، وفي ظل الانفعال بشراسة الجريمة ؛ لما ازدادت عمليات الثأر ولهدأت النفوس.
فسبحانه القائل :﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي.. " ٢١ " ﴾( سورة المجادلة )
وهو القائل :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين " ١٧١ " إنهم لهم المنصورون " ١٧٢ " وإن جندنا لهم الغالبون " ١٧٣ " ﴾( سورة الصافات ).
والحق سبحانه حين يورد حكماً في القرآن ؛ وهو الذي حفظ هذا القرآن ؛ فلن تأتي أي قضية كونية لتنسخ الحكم القرآني.
وأنت إذا استقرأت مواكب الرسل كلها تجد هذه القضية واضحة تماماً ؛ كما أثبتها الحق سبحانه في القرآن المحفوظ ؛ وما حفظه سبحانه إلا لوثوقه بأن الكونيات لا يمكن أن تتجاوزه.
وبالفعل فقد مكرت كل أمة برسولها ؛ ولكن الحق سبحانه له المكر جميعاً ؛ ومكر الله خير للبشرية من مكر كل تلك الأمم ؛ ومكره سبحانه هو الغالب، وإذا كان ذلك قد حدث مع الرسل السابقين عليك يا رسول الله ؛ فالأمر معك لابد أن يختلف لأنك مرسل إلى الناس جميعاً، ولا تعقيب يأتي من بعدك.
وكل تلك الأمور كانت تطمئنه صلى الله عليه وسلم ؛ فلابد من انتصاره وانتصار دعوته ؛ فسبحانه محيط بأي مكر يمكره أي كائن ؛ وهو جل وعلا قادر على أن يحبط كل ذلك.
ويتابع سبحانه في نفس الآية :﴿ يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار " ٤٢ " ﴾( سورة الرعد )
والحق سبحانه يعلم ما يخفي عن الأعين في أعماق الكائنات ؛ خير هو أو شر، ويحمي من شاء من عباده من مكر الماكرين، وينزل العقاب على أصحاب المكر السيء بالرسل والمؤمنين.
ولسوف يعلم الكافرون أن مصيرهم جهنم، وبئس الدار التي يدخلونها في اليوم الآخر ؛ فضلاً عن نصرة رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا وخزيهم فيها. وهكذا يكونوا قد أخذوا الخزي كجزاء لهم في الدنيا ؛ ويزدادون علماً بواقع العذاب الذي سيلقونه في الدار الآخرة.
﴿ لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيمٍ " ٣١ " ﴾( سورة الزخرف )
ومن بعد ذلك قالوا :
﴿ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليمٍ " ٣٢ " ﴾( سورة الأنفال ) أي : أن فكرة الإرسال لرسول مقبولة عندهم، وغير المقبول عندهم هو شخص الرسول صلى الله عليه وسلم. ولذلك يأمر الحق سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم :﴿ قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب " ٤٣ " ﴾( سورة الرعد )
والشهيد كما نعلم هو الذي يرجح حكم الحق، فإذا ما ظهر أمر من الأمور في حياتنا الدنيا الذي نحتاج إلى حكم فيها ؛ فنحن نرفع الأمر الذي فيه خلاف إلى القاضي، فيقول : " هاتوا الشهود ".
ويستجوب القاضي الشهود ليحكم على ضوء الشهادة ؛ فما بالنا والشاهد هنا هو الحق سبحانه ؟ ولكن، هل الله سيشهد، ولمن سيقول شهادته ؛ وهم غير مصدقين لكلام الله الذي نزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ؟.
ونقول : لقد أرسله الحق سبحانه بالمعجزة الدالة على صدق رسالته في البلاغ عن الله، والمعجزة خرق لنواميس الكون. وقد جعلها الحق سبحانه رسالة بين يدي رسوله وعلى لسانه ؛ فهذا يعني أنه سبحانه قد شهد له بأنه صادق.
والمعجزة أمر خارق للعادة يظهرها الله على من بلغ أنه مرسل منه سبحانه، وتقوم مقام القول " صدق عبدي فيما بلغ عني ".
وإرادة المعجزة ليست في المعنى الجزئي ؛ بل في المعنى الكلي لها. والمثل في المعجزات البارزة واضح ؛ فهاهي النار التي ألقوا فيها إبراهيم عليه السلام، ولو كان القصد هو نجاته من النار ؛ لكانت هناك ألف طريقة ووسيلة لذلك ؛ كأن تمطر الدنيا ؛ أو لا يستطيعون إلقاء القبض عليه. ولكن الحق سبحانه يوضح لهم من بعد أن أمسكوا به، ومن بعد أن كبلوه بالقيود، ومن بعد أن ألقوه في النار ؛ ويأتي أمره بأن تكون النار برداً وسلاماً عليه فلا تحرقه :﴿ قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم " ٦٩ " ﴾( سورة الأنبياء ).
وهكذا غير الحق سبحانه الناموس وخرقه ؛ وذلك كي يتضح لهم صدق إبراهيم فيما يبلغ عن الله ؛ فقد خرق له الحق سبحانه النواميس دليل صحة بلاغه. وإذا كان الحق سبحانه قد قال هنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها :
﴿ ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم " ٤٣ " ﴾( سورة الرعد ).
وشهادة الحق سبحانه لرسوله بصدق البلاغ عنه ؛ تتمثل في أنه صلى الله عليه وسلم قد نشأ بينهم، وأمضى أربعين عاماً قبل أن ينطق حرفاً يحمل بلاغه أو خطبة أو قصيدة، ولا يمكن أن تتأخر عبقريات النبوغ إلى الأربعين.
وشاء الحق سبحانه أن يجري القرآن على لسان رسوله في هذا العمر ليبلغ محمد صلى الله عليه وسلم الناس جميعاً به، وهذا في حد ذاته شهادة من الله. ويضيف سبحانه هنا :
﴿ ومن عنده علم الكتاب " ٤٣ " ﴾( سورة الرعد ).
والمقصود بالكتاب هنا القرآن ؛ ومن يقرأ القرآن بإمعان يستطيع أن يرى الإعجاز فيه ؛ ومن يتدبر ما فيه من معانٍ ويتفحص أسلوبه ؛ يجده شهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. أو يكون المقصود بقوله الحق :﴿ ومن عنده علم الكتاب " ٤٣ " ﴾( سورة الرعد )أي : هؤلاء الذين يعلمون خبر مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوراة والإنجيل ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته مذكورة في تلك الكتب السابقة على القرآن ؛ لدرجة أن عبد الله بن سلام، وقد كان من أحبار اليهود قال : " لقد عرفت محمداً حين رأيته كمعرفتي لابني ومعرفتي لمحمد أشد ".
ولذلك ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له : يا رسول الله إن نفسي مالت إلى الإسلام، ولكن اليهود قوم بهت، فإذا أعلنت إسلامي ؛ سيسبونني، ويلعنوني، ويلصقون بي أوصافاً ليست في، وأريد أن تسألهم عني أولاً. فأرسل لهم رسول الله يدعو صناديدهم وكبار القوم فيهم ؛ وتوهموا أن محمداً قد يلين ويعدل عن دعوته ؛ فجاءوا وقال لهم صلى الله عليه وسلم : " ما تقولون في ابن سلام ؟ " فأخذوا يكيلون له المديح ؛ وقالوا فيه أحسن الكلام.
وهنا قال ابن سلام : " الآن أمامكم، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله "، فأخذوا يسبون ابن سلام ؛ فقال ابن سلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم أقل إن يهود قوم بهت ؟ ونعلم أن الذين كانوا يفرحون من أهل الكتاب بما ينزله الحق سبحانه على رسول الله صلى الله عليه وسلم من وحي هم أربعون شخصاً من نصارى نجران ؛ واثنان وثلاثون من الحبشة ؛ وثمانية من اليمن.
ونعلم أن الذين أنكروا دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا ينهون بعضهم البعض عن سماع القرآن ؛ وينقل القرآن عنهم ذلك حين قالوا :﴿ لا تسمعوا لهذا القرآن والغو فيه لعلكم تغلبون " ٢٦ " ﴾( سورة فصلت ) وهذا يعني أنهم كانوا متأكدين من أن سماع القرآن يؤثر في النفس بيقظة الفطرة التي تهفو إلى الإيمان به، أما من عندهم علم بالكتب السابقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم يعلمون خبر بعثته وأوصافه من كتبهم.
يقول الحق سبحانه :﴿ الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.. " ١٤٦ " ﴾
( سورة البقرة ).
ويقول أيضاً :﴿ فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين " ٨٩ " ﴾( سورة البقرة ).