ﰡ
سورة بني إسرائيل، وتسمى سورة الإسراء، وسُبْحانَ مكية، غير قوله:
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ إلى قوله: سُلْطاناً نَصِيراً فهذه الآيات الثمانية مدنيات، مائة وإحدى عشر آية، ألف وخمسمائة وتسعة وخمسون كلمة، ستة آلاف وستمائة واثنان
وأربعون حرفا
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ أي تبرأ عن الشريك من سير عبده محمدا صلّى الله عليه وسلّم لَيْلًا أي في جزء قليل من الليل مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي من حرم مكة من بيت أم هانئ بنت أبي طالب إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى أي الأبعد من الأرض وأقرب إلى السماء وهو مسجد بيت المقدس وسمي أقصى، لأنه أبعد المساجد التي تزار ويطلب بها الأجر من المسجد الحرام.
وروي أن عبد الله بن سلام قال في حضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم عند قراءته هذه الآية لأنه وسط الدنيا لا يزيد شيئا ولا ينقص فقال صلّى الله عليه وسلّم: «صدقت» ثم قال: «ويقال له البيت المقدس والزيتون ولا يقال له الحرم»
اه. والحكمة في إسرائه صلّى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس ليحصل له العروج إلى السماء مستويا من غير تعريج لما روي عن كعب أن باب السماء الذي يقال له: مصعد الملائكة يقابل بيت المقدس قال: وهو أقرب من الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وقيل: الحكمة في ذلك أن الشام خيرة الله تعالى من أرضه كما في حديث صحيح فهي أفضل الأرض بعد الحرمين وأول إقليم ظهر فيه ملكه صلّى الله عليه وسلّم.
وروي أن صخرة بيت المقدس من جنة الفردوس. وقيل: الحكمة في ذلك لإظهار الحق على من عاند، لأنه لو عرج به من مكة إلى السماء لم يجد لمعانده سبيلا إلى الإيضاح فلما ذكر أنه أسرى به إلى بيت المقدس سألوه عن أشياء من بيت المقدس كانوا علموا أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يكن رآها قبل ذلك لما أخبرهم بها حصل التحقق بصدقه فيما ذكر من الإسراء به إلى بيت المقدس في ليلة وإذا صح خبره في ذلك لزم تصديقه في بقية ذلك من خبر المعراج إلى السموات. وقيل: الحكمة في ذلك ليجمع الله له صلّى الله عليه وسلّم بين القبلتين الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ أي المسجد الأقصى من أرض الشام بركة
روي عن ابن عباس أنه صلّى الله عليه وسلّم كان نائما في بيت أم هاني بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته، وقص القصة على أم هانئ وقال: «مثل لي النبيون فصليت بهم» فلما قام ليخرج إلى المسجد تشبثت هي بثوبه صلّى الله عليه وسلّم فقال مالك: قالت: أخشى أن يكذبك الناس وقومك إن أخبرتهم، قال: «وإن كذبوني». فلما خرج جلس إليه أبو جهل فأخبره بحديث الإسراء، فقال أبو جهل:
يا معشر كعب بن لؤي بن غالب، هلم فحدّثهم، فمن مصفّق، وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا، وارتد ناس ممن كان آمن به صلّى الله عليه وسلّم وذهب رجال إلى أبي بكر وقالوا له: إن صاحبك يقول كذا وكذا فقال أبو بكر: إن كان قد قال ذلك فهو صادق. قالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال: إني أصدقه على أبعد من ذلك أي كأنه قال: لما سلمت رسالته فقد صدقته فيما هو أعظم من هذا فكيف أكذبه في هذا؟ ثم جاء أبو بكر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر الرسول له تلك التفاصيل فكلما ذكر صلّى الله عليه وسلّم شيئا قال له أبو بكر: صدقت. فلما تمم الكلام قال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله حقا.
فقال له الرسول: «وأنا أشهد أنك الصدّيق حقا» ويقال: إن هذا العبد الذي اختصصناه بالإسراء هو خاصة السميع لكلامنا البصير لذاتنا فهو السميع أذنا وقلبا بالإجابة لنا والقبول لأوامرنا البصير بصرا وبصيرة، وتوسيط ضمير الفصل للإشعار باختصاصه صلّى الله عليه وسلّم وحده بهذه الكرامة، ولهذا عقب الله تعالى بقوله هذا:
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة أي لما ذكر الله تعالى تشريف محمد صلّى الله عليه وسلّم بالإسراء ذكر عقبه تشريف موسى عليه السلام بإنزال التوراة عليه مع ما فيه من دعوته عليه السلام
لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح، من دوني وكيلا فالناس كلهم ذرية نوح، لأنه كان معه في السفينة ثلاثة بنين سام وحام ويافث، فالناس كلهم من ذرية أولئك إِنَّهُ أي نوحا كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) أي كثير الشكر في جميع حالاته وفي هذا إعلام بأن إنجاء من معه كان ببركة شكره، وحث للذرية على الاقتداء به، وزجر لهم عن الشرك. والمعنى ولا تشركوا بي، لأن نوحا كان عبدا شكورا وأنتم من ذريته فاقتدوا به كما أن آباءكم اقتدوا به، وإنما يكون العبد شكورا إذا كان موحدا لا يرى حصول شيء من النعم إلا من فضل الله تعالى.
روي أن نوحا عليه السلام كان إذا أكل قال: الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني.
وإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو شاء أظمأني. وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو شاء أعراني. وإذا احتذى قال: الحمد لله الذي حذاني ولو شاء أحفاني. وإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني أذاه في عافية ولو شاء حبسه. وإذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به فإن وجده محتاجا آثره به. وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ أي أخبرناهم في التوراة بحصول الفساد مرتين لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ أي أرض الشام مَرَّتَيْنِ الأولى مخالفة حكم التوراة وحبس أرمياء عليه السلام حين أنذرهم سخط الله تعالى وقتل شعياء نبي الله في الشجرة، وذلك أنه لما مات صدقيا ملكهم تنافسوا في الملك وقتل بعضهم بعضا، وهم لا يسمعون من نبيهم فقال الله تعالى له: «قم في قومك» فلما فرغ مما أوحى الله إليه عدوا عليه ليقتلوه، فهرب، فانفلقت له شجرة، فدخل فيها، وأدركه الشيطان، فأخذ هدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها، فنشروها حتى قطعوها وقطعوه في وسطها والثاني قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى عليهم الصلاة والسلام. وَلَتَعْلُنَّ أي لتغلبن الناس بغير الحق عُلُوًّا كَبِيراً (٤) أي مجاوزا للحدود ويقال لكل متجبر: قد علا. فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أولى مرتي الفساد بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ أي قتال شَدِيدٍ
عن حذيفة قال: قلت: يا رسول الله لقد كان بيت المقدس عند الله عظيما جسيم الخطر عظيم القدر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هو من أجل
يا رسول الله كيف أخذت هذه الأشياء من بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن بني إسرائيل لما عصوا الله وقتلوا الأنبياء سلط الله عليهم بختنصر، وهو من المجوس، وكان ملكه سبعمائة سنة»
«١». وهو قوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ.
فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ أي فترددوا في أوساط الديار، ودخلوا بيت المقدس، وقتلوا الرجال، وسبوا النساء والأطفال وأخذوا الأموال وجميع ما كان في بيت المقدس من هذه الأصناف فاحتملوها على سبعين ألفا ومائة ألف عجلة حتى أودعوها أرض بابل فأقاموا يستخدمون بني إسرائيل ويستملكونهم بالخزي والعقاب والنكال مائة عام. وَكانَ أي ذلك البعث وَعْداً مَفْعُولًا (٥) أي منجزا ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ أي الدولة عَلَيْهِمْ أي على الذين فعلوا بكم ما فعلوا بعد مائة سنة حين تبتم عن ذنوبكم ورجعتم عن الإفساد بظهور كورش الهمذاني على بختنصر. وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ كثيرة بعد ما نهبت أموالكم وَبَنِينَ بعد ما سبيت أولادكم وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) أي رجالا وعددا، أي ثم إن الله عز وجل رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس وهو كورش الهمذاني أن تسير إلى المجوس في أرض بابل وأن تستنقذ من في أيديهم من بني إسرائيل، فسار إليهم ذلك الملك حتى دخل أرض بابل فاستنفذ من بقي من بني إسرائيل من أيدي المجوس، واستنقذ ذلك الحلي الذي كان من البيت المقدس ورده الله إليه كما كان أول مرة إِنْ أَحْسَنْتُمْ بفعل الطاعات أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فإنّ ببركة تلك الطاعات يفتح الله عليكم أبواب الخيرات، وَإِنْ أَسَأْتُمْ بفعل المحرمات فَلَها أي فقد أسأتم إلى أنفسكم فإن بشؤم تلك المعاصي يفتح الله عليكم أبواب العقوبات فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي وعد المرة الآخرة بعثنا تطوس بن إسبيانوس الرومي مع جنوده لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي ليجعلوا آثار الحزن ظاهرة في وجوهكم.
وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة «ليسوء» بالتوحيد أي ليحزن الله، أو الوعد أو البعث وجوهكم، وقرأ الكسائي «لنسوء» بنون العظمة وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ أي بيت المقدس كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي كما دخل الأعداء فيه في أول مرة وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا أي ليهلكوا البلاد التي علوا عليها تَتْبِيراً (٧) أي إهلاكا، أي فلما رجعت بنو إسرائيل إلى البيت المقدس عادوا إلى المعاصي فسلط الله عليهم ملك الروم قيصر، فغزاهم في البر والبحر فسباهم وقتلهم،
واعلم أن أكثر اليهود ينكرون الثواب والعقاب الجسمانيين وأن بعضهم قال: لن تمسنا النار إلا أياما معدودات، فهم بذلك صاروا كالمنكرين للآخرة
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ في الإلحاح، أي إن الإنسان قد يبالغ في الدعاء طلبا لشيء يعتقد أن خيره فيه مع أن ذلك الشيء يكون منبع ضرره وهو يبالغ في طلبه لجهله بحال ذلك الشيء، وإنما يقدم على مثل هذا العمل لكونه مغترا بظاهر الأمور غير متفحص عن حقائقها وأسرارها.
روي أن النضر بن الحرث قال: اللهم انصر خير الحزبين اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك إلى آخره فأجاب الله تعالى دعاءه، وضربت رقبته يوم بدر. وقيل: المراد أن الإنسان في وقت الضجر يلعن نفسه وأهله وولده وماله، ولو استجيب له في الشر كما يستجاب له في الخير لهلك. وَكانَ الْإِنْسانُ بحسب جبلته عَجُولًا (١١) أي ضجرا لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يطرأ عليه فإن كل أحد من الناس لا يخلو عن عجلة ولو تركها لكان تركها أصلح في الدنيا والدين.
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ أي علامتين دالتين على تمام علمنا وكمال قدرتنا، فلما بيّن الله تعالى أن هذا القرآن يدل على الطريق الأقوم ذكر الدلائل الدالة على وحدته تعالى. وهو عجائب العالم العلوي والسفلي فالقرآن نعم الدين ووجود الليل والنهار نعم الدنيا، فلولاهما لما حصل للخلق
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله ما أول ما يلقى الميت إذا أدخل قبره قال: «يا ابن مسعود ما سألني عنه أحد إلا أنت فأول ما يناديه ملك اسمه رومان يجوس خلال المقابر فيقول: يا عبد الله اكتب عملك، فيقول: ليس معي دواة ولا قرطاس ولا قلم، فيقول:
كفنك قرطاسك، ومدادك ريقك وقلمك إصبعك فيقطع له قطعة من كفنه، ثم يشرع العبد يكتب وإن كان غير كاتب في الدنيا فيذكر حينئذ حسناته وسيئاته كيوم واحد، ثم يطوي الملك القطعة ويعلقها في عنقه». ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ»
«١» أي عمله فيه وقيل: المراد بالطائر كتاب إجابته في القبر لمنكر ونكير وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً أي مكتوبا فيه عمله يَلْقاهُ أي يلقى الإنسان.
قال الحسن وقتادة يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئا. وقال بكر بن عبد الله: يؤتى بالمؤمن يوم القيامة بصحيفته وهو يقرؤها وحسناته في ظهرها يغبطه الناس عليها وسيئاته في جوف صحيفته وهو يقرؤها حتى إذا ظن أنها قد أوبقته قال الله تعالى: اذهب فقد غفرتها لك فيما بيني وبينك فيعظم سروره. كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) أي محاسبا. قال الحسن: ومن عدل الله في حقك جعلك حسيب نفسك.
وقال السدي: يقول الكافر يومئذ له تعالى: إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً. مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي من اهتدى بهداية القرآن وعمل بما في تضاعيفه من الأحكام وانتهى عما نهاه عنه فإنما تعود منفعة اهتدائه إلى نفسه لا تتخطاه إلى من لم يهتد فإن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي ومن ضل عن الطريقة التي يهديه إليها فإنما وبال ضلاله عليها لا على من لم يباشره وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل نفس حاملة للإثم إثم نفس أخرى بطيبة النفس حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن إثمها، ولكن يحمل عليها بالقصاص فلا تؤخذ نفس بذنب نفس أخرى فكل أحد مختص بذنب نفسه، وهذا قطع لأطماع الكفار حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالعقاب على أسلافهم الذين قلدوهم الدين الفاسد وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ قوما بالهلاك حَتَّى نَبْعَثَ إليهم رَسُولًا (١٥) يهديهم إلى الحق ويردعهم عن الضلال ويقيم الحجج، ويمهد الشرائع. وأهل الفترتين بين نوح وإدريس وبين عيسى ومحمد عليهم السلام ثلاثة عشر قسما ستة سعداء وأربعة أشقياء وثلاثة تحت المشيئة. فأما السعداء:
فقسم وحّد الله تعالى بنور وجده في قلبه كقس بن ساعدة فإنه كان إذا سئل هل لهذا العالم إله قال:
البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام يدل على المسير. وقسم وحّد الله تعالى بما تجلى لقلبه من النور الذي لا يقدر على دفعه. وقسم ألقي في نفسه، واطلع من كشفه على منزلة محمد صلّى الله عليه وسلّم فآمن به في عالم الغيب. وقسم اتبع ملة حق ممن تقدمه. وقسم طالع في كتب الأنبياء فعرف شرف محمد صلّى الله عليه وسلّم فآمن به وقسم آمن بنبيه الذي أرسل إليه وأدرك رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم وآمن به فله أجران.
وأما الأشقياء: فقسم عطل بلا نظر بل بتقليد. وقسم عطل بعد ما أثبت بلا استقصاء نظر. وقسم أشرك عن تقليد محض. وقسم علم الحق وعانده. وأما الذي تحت المشيئة: فقسم عطل فلم يقر بوجود الإله عن نظر ناقص لضعف في طبائعه. وقسم أشرك عن نظر أخطأ فيه. وقسم عطل بعد ما أثبت بغير نظر قوي. ونقل عن السيوطي أن أبوي النبي صلّى الله عليه وسلّم لم تبلغهما الدعوة والله تعالى يقول:
أي وإذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاك قرية بعذاب الاستئصال أمرنا على لسان الرسول المبعوث إلى أهلها رؤساءها بالأعمال الصالحات وهي الإيمان والطاعة.
وروي برواية غير مشهورة عن نافع وابن عباس «أمرنا مترفيها» بمد الهمزة أي كثرنا أغنياءها وفساقها. وعن أبي عمرو «أمرنا» بتشديد الميم أي جعلنا جبابرتها أمراء. فَفَسَقُوا فِيها
أي فخرجوا عما أمرهم الله وعملوا المعاصي فيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
أي فثبت عليها ما توعدناهم به على لسان رسولنا من الإهلاك فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
(١٦) أي فأهلكناها إهلاك الاستئصال وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ أي وكثيرا أهلكنا من الأمم الماضية من بعد قوم نوح فإن الطريق الذي ذكرناه هو عادتنا مع الذين يفسقون من القرون الذين كانوا بعد نوح وهم عاد وثمود وغيرهم وإنما قال تعالى: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ لأنه أول من كذبه قومه وخوّف تعالى بهذه الآية كفار مكة وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) فإنه تعالى عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات وثبت أنه قادر على كل الممكنات فكان قادرا على إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه فإنه منزه عن الظلم، وهذه بشارة عظيمة لأهل الطاعة وتخويف عظيم لأهل المعصية مَنْ كانَ يُرِيدُ بالذي يعمله الْعاجِلَةَ أي الدار العاجلة فقط عَجَّلْنا لَهُ فِيها أي في تلك الدار ما نَشاءُ تعجيله له من نعيمها لِمَنْ نُرِيدُ تعجيل ما نشاء له وهذا بدل من الضمير بإعادة الجار بدل بعض من كل فلا يجد كل واحد جميع ما يهواه فإن كثيرا من الكفار يعرضون عن الدين في طلب الدنيا، ثم يبقون محرومين عن الدنيا والدين ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ في الآخرة مكان ما عجلناه جَهَنَّمَ وما فيها من أنواع العذاب يَصْلاها أي يدخلها مَذْمُوماً أي مهانا بالذم مَدْحُوراً (١٨) أي مطرودا من رحمة الله تعالى.
قيل: نزلت هذه الآية في مرثد بن ثمامة وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ أي أراد بعمله ثواب الآخرة وَسَعى لَها أي للدار الآخرة سَعْيَها بأن يكون العمل من باب القرب والطاعات وَهُوَ مُؤْمِنٌ إيمانا صحيحا فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ أي عملهم مَشْكُوراً (١٩) أي مقبولا عند الله أحسن القبول. قيل: نزلت هذه الآية في بلال المؤذن كُلًّا أي كل واحد من الفريقين مريد الدنيا ومريد الآخرة نُمِدُّ أي نزيد بالعطاء هؤُلاءِ أي الذين يريدون الدنيا وَهَؤُلاءِ أي الذين يريدون الآخرة وهذان بدلان من كلا فإن الله يوسع عليهما في الرزق من الأموال والأولاد وغير ما من أسباب العز والزينة في الدنيا مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ أي من معطاه الواسع وهذا متعلق «بنمد» رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ أي معطاه في الدنيا مَحْظُوراً (٢٠) أي ممنوعا من أحد، مؤمنا كان أو
انْظُرْ أيها الإنسان بنظر الاعتبار كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ فيما أمددناهم به من العطايا في الدنيا فمن وضيع ورفيع، وضالع وضليع، ومالك ومملوك، وموسر وصعلوك وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ من درجات الدنيا فإن درجات الآخرة باقية غير متناهية ونعم الدنيا فانية متناهية وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (٢١) من تفضيل درجات الدنيا أي التفاوت في الآخرة أكبر، لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها والنار ودركاتها، ثم ذكر الله تعالى من أنواع التكاليف خمسة وعشرين نوعا بعضها أصلي وبعضها فرعي وهي: تفصيل لثلاثة شروط لأهل الثواب وهي إرادة الآخرة بالعمل، وأن يسعى سعيا موافقا لطلب الآخرة وأن يكون مؤمنا فقال: لا تَجْعَلْ أيها الإنسان مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ أي فتمكث في الناس أو فتعجز عن سعادة الآخرة أو فتصير مَذْمُوماً من الملائكة والمؤمنين مَخْذُولًا (٢٢) من الله تعالى وَقَضى رَبُّكَ أي أمر أمرا جزما.
وقرأ علي وابن عباس وعبد الله «ووصى ربك»، أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ف «أن» إما مفسرة أو مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن و «لا» ناهية وَبِالْوالِدَيْنِ أي أحسنوا بهما إِحْساناً عظيما كاملا فإن إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة فوجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك ومع ذلك لا تحصل المكافأة، لأن إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداء وفي الأمثال المشهورة أن البادئ بالبر لا يكافأ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أي إن يبلغا إلى حالة الضعف وهما عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر فلا تتضجر لواحد منهما بما تستقذر منه ولا تستثقل من مؤنه، أي ولا تقل له كلاما رديئا إذا وجدت منه رائحة تؤذيك كما أنهما لا يتقذران منك حين كنت تخرأ أو تبول.
وقرأ حمزة والكسائي «يبلغان» فأحدهما بدل من ضمير التثنية. وقرأ ابن كثير وابن عامر «أف» بفتح الفاء من غير تنوين ونافع وحفص بكسر الفاء مع التنوين. والباقون بكسر الفاء من غير تنوين. وَلا تَنْهَرْهُما أي لا تغلظ لهما في الكلام. والمراد من قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ لمنع من إظهار الضجر بالقليل أو الكثير ومن قوله وَلا تَنْهَرْهُما المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليه وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً (٢٣) أي لينا حسنا بأن يخاطبه بالكلام المقرون بأمارات التعظيم وَاخْفِضْ لَهُما
جَناحَ الذُّلِ
أي لين لهما جانبك المذلول. والمراد افعل التواضع لهما مِنَ الرَّحْمَةِ أي من أجل فرط عطفك عليهما ورقتك لهما بسبب ضعفهما لا لأجل خوفك من العار. وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) أي ادع لهما بالرحمة ولو خمس مرات في اليوم والليلة بأن تقول: رب ارحمهما برحمتك الدنيوية والأخروية رحمة مثل تربيتهما
وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان بعد نزول هذه الآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل يقول: يرزقنا الله تعالى وإياكم من فضله اه. وقوله تعالى: ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها كناية عن الفقر، لأن فاقد المال يطلب رحمة الله فسمى الفقر بابتغاء رحمة الله من إطلاق اسم المسبب عن اسم السبب وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ أي لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك وَلا تَبْسُطْها في الإنفاق كُلَّ الْبَسْطِ أي في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات أي ولا تتوسع في الإنفاق توسعا مفرطا بحيث لا يبقى في يدك شيء فَتَقْعُدَ مَلُوماً أي فتصير ملوما عند الله وعند أصحابك فهم يلومونك على تضييع المال بالكلية، وإبقاء الأهل والولد في الضر وتبقى ملوما عند نفسك بسبب سوء تدبيرك وترك الحزم في مهمات معاشك مَحْسُوراً (٢٩) أي نادما أو منقطعا عنك الأحباب بسبب ذهاب الأسباب إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي إن الله يوسع الرزق على البعض ويضيقه على البعض الآخر وهو يربي المربوب ويدفع حاجاته على مقدار الصلاح فعلى العباد أن يقتصدوا في الإنفاق وأن يستنوا بسنته تعالى إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم ويعلم أن مصلحة كل إنسان في أن لا يعطيه إلا ذلك القدر فالتفاوت في أرزاق العباد لأجل رعاية الصلاح لا لأجل البخل
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ أي خشية وقوع فقر بكم فقتل الأولاد، إن كان لخوف الفقر فهو سوء ظن بالله وإن كان لأجل الغيرة على النبات فهو سعي في تخريب العالم. فالأول: ضد التعظيم لأمر الله تعالى. والثاني: ضد الشفقة على خلق الله.
وقرأ الجمهور بكسر الخاء وسكون الطاء. وقرأ ابن عامر بفتح الخاء والطاء مع القصر بمعنى ضد الصواب. وقرأ ابن كثير بفتح الخاء والطاء مع المد وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى بإتيان مقدماته إِنَّهُ أي الزنا كانَ فاحِشَةً أي ظاهرة القبح لاشتماله على فساد الأنساب وعلى التقاتل فإن الإنسان لا يعرف أن الولد الذي أتت به الزانية أهو منه أو من غيره فلا يقوم بتربيته وذلك يوجب ضياع الأولاد وانقطاع النسل وخراب العالم وَساءَ سَبِيلًا (٣٢) لأنه لا يبقى فرق بين الإنسان والبهائم في عدم اختصاص الذكران بالإناث فالله تعالى وصف الزنا في آية أخرى بصفات ثلاثة، فالذي لم يذكر هنا كونه مقتا فإن المرأة إذا تمرنت على الزنا يستقذرها كل طبع سليم وكل خاطر سليم وإذا اشتهرت بالزنا تنفر عن مقارنتها طباع أكثر الخلق فحينئذ لا تحصل لها الألفة ولا يتم الازدواج وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها بالإسلام والعهد إِلَّا بِالْحَقِّ أي بسبب الحق وهو عند القصاص فهو متعلق بلا تقتلوا وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً بغير حق يبيح القتل للقاتل فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ من الوارث أو السلطان عند عدم الوارث سُلْطاناً أي استيلاء على القاتل يؤاخذه بالقصاص أو بالدية فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ أي فلا يسرف الولي في أمر القتل بأن يزيد على القتل المثلة وقطع الأعضاء أو بأن يقتل غير القاتل من أقاربه، أو بأن يقتل الاثنين مكان الواحد أو بأن يقتل القاتل مع أخذ الدية. وقيل: المعنى ولا يسرف القاتل الظالم والإسراف هو إقدامه على القتل بالظلم. وقرأ حمزة والكسائي «فلا تسرف» بالتاء على الخطاب، أي لا تسرف في القتل أيها الولي، أي اكتف باستيفاء القصاص ولا تطلب الزيادة. أو لا تسرف أيها الإنسان أي لا تفعل القتل الذي هو ظلم محض، فإنك إن قتلت مظلوما استولى في القصاص منك. ويعضد هذا قراءة «ولا تسرفوا». إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣).
قال مجاهد: إن المقتول المظلوم كان منصورا في الدنيا بإيجاب القود على قاتله، وفي الآخرة بكثرة الثواب له وبكثرة العقاب لقاتله.
وقال قتادة: إن ولي المقتول كان منصورا على القاتل حيث أوجب الله له القصاص أو الدية وأمر الحكام بمعونته في استيفاء حقه فليكتف بهذا القدر ولا يطمع في الزيادة. وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وهي حفظه وإرباحه حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ أي حتى يبلغ إلى حيث يمكنه بسبب رشده القيام بمصالح ماله فحينئذ تزول ولاية غيره عنه فإن بلغ غير كامل العقل لم تزل الولاية عنه وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ سواء جرى بينكم وبين ربكم أو جرى بينكم وبين الناس إِنَّ الْعَهْدَ
(٣٤) أي مسؤولا عنه فيسأل الناكث ويعاتب عليه يوم القيامة وَأَوْفُوا الْكَيْلَ أي أتموه إِذا كِلْتُمْ لغيركم وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ أي بميزان العدل بحيث لا يميل إلى أحد الجانبين. ذلِكَ أي الوزن بالميزان المعتدل وإيفاء الكيل والعهد خَيْرٌ في الدنيا، فإنه يوجب الذكر الجميل بين الناس وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٣٥) أي عاقبة في الآخرة فإنه يخلص من العقاب الشديد وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي لا تكن أيها الإنسان في اتباع ما لا علم لك به من قول أو فعل كمن يتبع مسلكا لا يدري أنه يوصله إلى مقصده. والمراد بالعلم هو الظن المستفاد من سند إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي كل واحد من تلك الأعضاء كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (٣٦) أي كان كل واحد منها مسؤولا عن نفسه أي عما فعل به صاحبه ولا يبعد أن يخلق الله الحياة والعقل والنطق في هذه الأعضاء، ثم إنه تعالى يوجه السؤال عليها وفي هذا دليل على أن العبد مؤاخذ بعزمه على المعصية.
روي عن شكل بن حميد قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا نبي الله علمني تعويذا أتعوذ به فأخذ بيدي ثم قال: «قل أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر لساني وشر قلبي وشر منيي» «١» قال: فحفظتها
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي ذا شدة فرح أي لا تمش مشيا يدل على الكبرياء والعظمة إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ أي لن تنقبها بشدة وطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا (٣٧) أي لن يبلغ طولك الجبال. والمعنى تواضع ولا تتكبر فإنك خلق ضعيف من خلق الله فلا يليق بك التكبر كُلُّ ذلِكَ أي المذكور من الخصال الخمس والعشرين كانَ سَيِّئُهُ بضم الهمزة والهاء أي السيء منه وهي المنهيات الاثنا عشر عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) أي محرما مبغوضا فاعله معاقبا عليه.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «سيئة» بالتاء وبالنصب، وهو خبر كان وعند ربك صفة لسيئة ومكروها خبر ثان لكان. والمعنى كل ما تقدم من المنهيات وهي اثنتا عشرة خصلة كان سيئة أي ذنبا ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ أي ذلك التكاليف الأربعة والعشرون نوعا بعض ما أوحى إليك ربك مِنَ الْحِكْمَةِ التي هي معرفة الحق لذاته ومعرفة الخير لأجل العمل به وهذا خبر ثان وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً يلومك نفسك وغيرها مَدْحُوراً (٣٩) أي مبعدا من رحمة الله تعالى أَ
فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ
أي اختاركم ربكم فخصكم بالذكور وَاتَّخَذَ لنفسه مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً أي إن كفار مكة اعتقدوا أن أشرف الأولاد البنون: وأخسهم البنات، ثم إنهم أثبتوا البنين لأنفسهم مع علمهم بنهاية نقصهم، وأثبتوا البنات لله مع علمهم بأن الله هو الموصوف
وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي كررنا هذه الدلائل فِي هذَا الْقُرْآنِ أي في مواضع منه لِيَذَّكَّرُوا بفتح الذال والكاف وتشديدهما أي ليعرفوا بطلان ما يقولونه. وقرأ حمزة والكسائي «ليذكروا» ساكنة الذال مضمومة الكاف أي ليفهموا ما في القرآن أو ليذكروه بألسنتهم فإن الذكر باللسان قد يؤدي إلى تأثر القلب بمعناه. وَما يَزِيدُهُمْ أي والحال ما يزيدهم ذلك التكرير إِلَّا نُفُوراً (٤١) أي تباعدا عن الإيمان، وهذا دليل على أن الله ما أراد الإيمان من الكفار قُلْ في إظهار بطلان ذلك من جهة أخرى: لَوْ كانَ مَعَهُ تعالى آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ أي كونا موافقا لما يقولون: إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (٤٢) أي لطلبوا إلى من له الملك سبيلا بالمغالبة كما هو ديدن الملوك بعضهم مع بعض. وقيل: المعنى لو كانت هذه الأصنام تقربكم إلى الله زلفى كما تقولون لطلبت لأنفسها المراتب العالية فلما لم تقدر على ذلك فكيف يدرك في العقل أن تقربكم إلى الله منزلة سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) أي تنزه الله وارتفع بصفات الكمال عن الشركاء والنقائص ارتفاعا عظيما تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي تنزه الله تعالى السموات السبع والأرض عن كل نقص بدلالة أحوالها على توحيد الله تعالى وقدرته ولطيف حكمته فكأنها تنطق بذلك، ويصير لها بمنزلة التسبيح، وتسبح العقلاء بلسان المقال.
وقرأ ابن كثير «كما يقولون» و «عما يقولون» و «يسبح» بالياء في هذه الثلاثة. وقرأ حمزة والكسائي كلها بالتاء. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم في الأول بالتاء على الخطاب.
وفي الثاني والثالث بالياء. وقرأ حفص عن عاصم الأولين بالياء على الحكاية والأخير بالتاء.
وقرأ أبو عمرو الأول والأخير بالتاء والأوسط بالياء وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ أي ما من شيء من الأشياء حيوانا كان أو نباتا أو جمادا إلا ينزهه تعالى متلبسا بحمده بلسان الحال عما لا يليق بذاته تعالى من لوازم الإمكان فالأكوان بأسرها شاهدة بتلك النزاهة وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ أيها المشركون تَسْبِيحَهُمْ فإن الكفار وإن كانوا مقرين بألسنتهم بإثبات إله العالم لم يتفكروا في أنواع الدلائل ولم يعلموا كمال قدرته تعالى فاستبعدوا كونه تعالى قادرا على النشر والحشر فهم غافلون عن أكثر دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، لأنهم أثبتوا لله شركاء وزوجا وولدا.
وقرئ «لا يفقهون» على صيغة المبني للمفعول مع فتح الفاء وتشديد القاف. إِنَّهُ كانَ حَلِيماً ولذلك لم يعاجلكم بالعقوبة مع غفلتكم وسوء نظركم وجهلكم ولذا كان غَفُوراً (٤٤) لمن تاب منكم وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ بمكة جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي المنكرين للبعث حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥).
وقال أبو لهب: هو كاهن. وقال حويطب بن عبد العزى: هو شاعر. فنزلت هذه الآية، والله تعالى خلق حجابا في عيونهم يمنعهم عن رؤية النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن إدراك ما عليه من النبوة وعن فهم قدره الجليل وذلك الحجاب شيء لا يراه أحد فكان مستورا من هذا الوجه وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي موانع من أَنْ يَفْقَهُوهُ أي يفهموا القرآن حق الفهم وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي صمما مانعا من سماعه اللائق به أي كان بعضهم يحجب بصره عن رؤية النبي إذا أراده بمكروه وهو يقرأ القرآن وبعضهم يحجب قلبه عن إدراك القرآن ويحجب سمعه عن سماعه وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أي غير مقرون بآلهتهم في الألوهية، وهذا منصوب على الحال من ربك أو على الظرف وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) أي متباعدين عن قولك أي كان الكفار عند استماع القرآن على حالتين، فإذا سمعوا من القرآن ما ليس فيه ذكر الله بقوا متحيرين لا يفهمون منه شيئا، وإذا سمعوا آية فيها ذكر الله تعالى وذم الشرك بالله تركوا ذلك المجلس ولا يستطيعون سماع القرآن نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ إلى قراءة القرآن بِهِ أي بسببه من الهزء والتكذيب إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أي إلى قراءتك.
وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه رجلان وعن يساره رجلان وعن يساره رجلان من ولد قصي أو من بني عبد الدار فيصفقون ويصفرون، ويخلطون عليه بالأشعار. وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً (٤٧) أي ونحن أعلم بما يتناجون به فيما بينهم إذ هم ذوو نجوى، إذ يقول المشركون بعضهم لبعض: إنكم إن اتبعتم محمدا فقد اتبعتم رجلا زال عقله عن حدّ الاعتدال.
روي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر عليا أن يتخذ طعاما ويدعو إليه أشراف قريش من المشركين ففعل على ذلك ودخل عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التوحيد وقال:
«قولوا: لا إله إلا الله حتى تطيعكم العرب وتنقاد لكم العجم» فأبوا عليه ذلك وكانوا عند استماعهم من النبي صلّى الله عليه وسلّم القرآن والدعوة إلى الله تعالى يقولون بينهم متناجين: هو ساحر وهو مسحور وما أشبه ذلك من القول فأخبر الله تعالى بأنهم يقولون: ما تتبعون إن وجد منكم الأتباع إلا رجلا مخدوعا من قبل الشيطان فإنه يتخيل له فيظن أنه ملك ومن جهة الناس فإن محمدا يتعلم من بعض الناس هذه الكلمات وأولئك يخدعونه بهذه الحكايات
انْظُرْ يا أشرف الرسل كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فكل أحد شبهك بشيء آخر فقالوا: إنه كاهن وساحر وشاعر ومعلم ومجنون فَضَلُّوا في جميع ذلك القول عن طريق الحق فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (٤٨) إلى طعن يمكن أن
قُلْ لهم يا أكرم الرسل: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠)
أَوْ خَلْقاً آخر مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ. والمعنى لو تكونون حجارة مع أنها لا تقبل الحياة، بحال أو حديدا مع أنه أصلب من الحجارة أو خلقا غيرهما كائنا من الأشياء التي تعظم في اعتقادكم عن قبول الحياة، كالسماوات والأرض، فلا بد من إيجاد الحياة فيكم فإن قدرته تعالى لا تعجز عن إحيائكم لاشتراك الأجسام في قبول الأعراض فكيف إذا كنتم عظاما ممزقة وقد كانت طرية موصوفة بالحياة من قبل والشيء أقبل لما اعتيد فيه مما لم يعتد فَسَيَقُولُونَ تماديا في الاستهزاء مَنْ يُعِيدُنا أي من الذي يقدر على إعادة الحياة إلينا إذا صرنا كذلك قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أي قل إرشادا لهم إلى طريقة الاستدلال فالذي ابتدأ خلقكم أول مرة من غير مثال يعيدكم إلى الحياة بالقدرة التي ابتدأكم بها فكما لم تعجز تلك عن البداءة لا تعجز عن الإعادة فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي فسيحركونها جهتك تعجبا وتكذيبا لقولك وَيَقُولُونَ استهزاء مَتى هُوَ أي الذي وعدتنا من الإعادة قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ ذلك قَرِيباً (٥١) إذ كل آت قريب يَوْمَ يَدْعُوكُمْ على لسان إسرافيل بالنداء الذي يسمعكم من القبور وهو
النفخة الأخيرة، فإن إسرافيل ينادي: أيتها الأجسام البالية، والعظام النخرة، والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت بقدرة الله تعالى وبإذنه فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ. قال سعيد بن جبير: أي فيخرجون من قبورهم وينفضون التراب عن رؤوسهم، ويقولون: سبحانك اللهم وبحمدك.
قال المفسرون: حمدوا حين لا ينفعهم الحمد. وقال الزمخشري: بحمده حال منهم أي حامدين وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث وَتَظُنُّونَ عند ما ترون الأهوال الهائلة إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما مكثتم في القبور أو في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا (٥٢) كالذي مر على قرية وَقُلْ لِعِبادِي أي المؤمنين إذا أردتم إتيان الحجة على المخالفين فاذكروها غير مخلوطة بالشتم والسب فيقابلونهم بمثله ولا يخاشنوهم بل يَقُولُوا لهم الكلمة الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ كأن يقولوا: يهديكم الله. وقيل: نزلت هذه الآية في عمر بن الخطاب شتمه بعض الكفار فأمره الله تعالى بالعفو إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي يهيج الشر بين الناس ويغري بعضهم على بعض لتقع بينهم المخاصمة إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ في قديم الزمان لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) أي ظاهر العداوة رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ أي بعاقبة أمركم إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بأن يوفقكم للإيمان والمعرفة إلى أن تموتوا فينجيكم من العذاب أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بأن يميتكم على الكفر فيعذبكم إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فاجتهدوا أنتم في طلب الدين الحق، ولا تصروا على الباطل لئلا تصيروا محرومين عن السعادات الأبدية. ويقال: هذه تفسير للتي هي أحسن أي قولوا لهم: هذه الكلمة ولا تقولوا أيها المؤمنون للمشركين: إنكم من أهل
ويقال: إن يشأ ينجكم منهم، وإن يشأ يسلطهم عليكم. وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (٥٤) أي موكولا إليك أمرهم فتقسرهم على الإيمان، وإنما أرسلناك بشيرا ونذيرا فدارهم ومر أصحابك بالمداراة عليهم، فإن اللين عند الدعوة يؤثر في القلب، ويفيد حصول المقصود. وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي بأحوالهم فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء ممن يستحق ذلك وهو رد عليهم إذ قالوا: بعيد أن يكون يتيم أبي طالب نبيا ولا يجوز إطلاق يتيم على النبي صلّى الله عليه وسلّم لإشعاره بالتحقير حتى أفتى بعض المالكية بقتل قائله كما في الشفاء وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ بالفضائل النفسانية لا بكثرة الأموال والأتباع وهذا إشارة إلى تفضيل رسول الله سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥) فيه ذكر فضل سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وكونه خاتم النبيين وأمته خير الأمم، وكون الأرض يرثها عباد الله الصالحون وهم محمد وأمته وهذا بيان أن تفضيل داود بإيتاء الزبور لا بإيتاء الملك والسلطنة ورد لقول اليهود لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة أي فإذا أعطى الله تعالى التوراة فلم يبعد أن يعطي داود زبورا وعيسى الإنجيل، ومحمدا القرآن، ولم يبعد أن يفضل محمدا على جميع الخلق فكيف تنكر اليهود ذلك وكفار قريش فضل محمد وإعطاءه القرآن؟! قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ أي قل يا أشرف الخلق للكفار: ادعوا عند الشدة الذين عبدتم من دون الله كعيسى ومريم وعزير، وطائفة من الملائكة، وطائفة من الجن فَلا يَمْلِكُونَ أي لا يستطيعون كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ أي رفع الشدة عنكم وَلا تَحْوِيلًا (٥٦) للضر إلى غيركم أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي الذين يتألهونهم يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ أي يحرص من هو أقرب إلى ربهم القربة بالطاعة إليه فأولئك مبتدأ وخبره يبتغون والذين عطف بيان والوسيلة مفعول ليبتغون وإلى ربهم متعلق بالوسيلة وأي موصولة بدل من فاعل يبتغون. وقيل: إن اسم الموصول خبر لاسم الإشارة ويبتغون حال من فاعل يدعون، والمعنى أولئك المعبودون لهم يعبدون ربهم يطلبون بتلك العبادة القربة إلى ربهم والفضيلة عنده وهم أقرب إليه وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ بها وَيَخافُونَ عَذابَهُ بتركها كدأب سائر العباد فأين هم من كشف الضر! فكيف يكونون آلهة؟ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) أي يجب الحذر عنه وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً أي وما من قرية طائعة أهلها أو عاصية إلا وتهلك إما بالموت، وإما بالعذاب. فالصالحة: يكون إهلاكها بالموت. والطالحة: يكون إهلاكها بالعذاب بنحو السيف. أو المعنى ما من قرية من قرى الكفار إلا وتخرب إما بالاستئصال بالكلية أو تعذب بعذاب شديد دون ذلك كقتل كبرائهم وتسليط المسلمين عليهم بالسبي واغتنام الأموال، وأخذ الجزية وبفنون العقوبات الأخروية كانَ ذلِكَ أي الإهلاك والتعذيب فِي الْكِتابِ أي اللوح المحفوظ مَسْطُوراً (٥٨) أي مكتوبا وقد بين فيه أسباب ذلك ووقته.
وعن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «آخر قرية من قرى الإسلام خرابا»
«١» المدينة. وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ أي ما منعنا من إرسال المعجزات التي طلبتها قريش من إحياء الموتى وقلب الصفا ذهبا، وإزالة الجبال عن مكة ليزرعوا مكانها إلا تكذيب الأولين بالمعجزات حين جاءتهم باقتراحهم فيستحقوا عذاب الاستئصال، أي لو أظهر الله تلك المعجزات المقترحة لقريش، ثم لم يؤمنوا بها صاروا مستحقين لعذاب الاستئصال لكن إنزاله على هذه الأمة غير جائز، لأن الله تعالى علم أن فيهم من سيؤمن أو يؤمن أولادهم فلهذه المصلحة ما أجابهم الله تعالى إلى مطلوبهم وَآتَيْنا ثَمُودَ باقتراحهم النَّاقَةَ مُبْصِرَةً بكسر الصاد أي مبنية لنبوة صالح فَظَلَمُوا بِها أي ظلموا أنفسهم بتكذيبهم بها وأقبلوا أنفسهم للهلاك بعقرها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ المقترحة إِلَّا تَخْوِيفاً (٥٩) من نزول العذاب المستأصل على المقترحين فإن لم يخافوا ذلك نزل أو ما نرسل بعير مقترحة كالمعجزات وآيات القرآن إلا تخويفا بعذاب الآخرة، فإن أمر المكذبين بها مؤخر إلى يوم القيامة وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي واذكر يا أشرف الخلق إذ بشرناك بأن الله يغلب أهل مكة ويقهرهم ويظهر دولتك عليهم، وهذه بشارة بوقعة بدر وعبر الله بالماضي، لأن كل ما أخبر الله بوقوعه فهو واجب الوقوع فكان كالواقع وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ ليلة المعراج وهي ما رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم على اليقظة بعيني رأسه من عجائب الأرض والسماء إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ أي إلا امتحانا لأهل مكة لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما ذكر لهم قصة الإسراء فمنهم من كذبه ومنهم من كفر بعد إسلامه ومنهم من نافق ومنهم من توقف في حاله ومنهم من تردد في قلبه ومنهم من صدق كلامه صلّى الله عليه وسلّم وازداد المخلصون إيمانا وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ أي المذمومة فِي الْقُرْآنِ وهي الزقوم أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس حيث قالوا: إن محمدا يزعم أن نار جهنم تحرق الحجارة، ثم يقول: ينبت فيها الشجر فكيف تنبت في النار شجرة رطبة وهي تحرق الشجر، فينسبون لله العجز عن خلق شجرة في النار غافلين عن قدرته تعالى على كل شيء، فإن النعامة تبتلع الجمر والحديد المحمّى بالنار ولا يحرقها، وأن السمندل وهي دويبة في بلاد الترك يتخذ من وبره مناديل فإذا اتسخت طرحت في النار فيذهب وسخها وتبقى هي سالمة لا تعمل فيها النار وَنُخَوِّفُهُمْ بشجرة الزقوم وبعذاب الدنيا والآخرة فَما يَزِيدُهُمْ ذلك التخويف إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً (٦٠) أي إلا تماديا في المعصية وتجاوزا عن الحد فلو أنا أرسلنا بما اقترحوه من الآيات لازدادوا تماديا في العناد فأهلكوا بعذاب الاستئصال كعادة من قبلهم وقد حكمنا بتأخير
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ الذين كانوا في الأرض اسْجُدُوا لِآدَمَ بوضع الجبهة عليه، إما هو المسجود له أو هو قبلة للسجود والمسجود له هو الله تعالى فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ وكان داخلا تحت الأمر بالسجود لأنه مندرج تحت زمرتهم قالَ عند ما وبخه الله تعالى: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) أي من طين. قالَ أي إبليس بعد الاستنظار: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أي أخبرني عن هذا الذي فضلته علي بأمرك لي بالسجود له لم فضلته علي وأنا خير منه من حيث أنا مخلوق من العنصر العالي لَئِنْ أَخَّرْتَنِ حيا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أي لأستأصلنهم بالإغواء أو لأقودنهم إلى المعاصي كما تقاد الدابة بحبلها إِلَّا قَلِيلًا (٦٢) لا أقدر أن أقاوم شكيمتهم. قرأ ابن كثير «أخرتن» بإثبات
ياء المتكلم في الوصل والوقف. وقرأ عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بالحذف. وقرأ نافع وأبو عمرو بإثباته في الوصل دون الوقف. قالَ تعالى له: اذْهَبْ أي امض لشأنك الذي اخترته. واعلم فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أي من ذرية آدم في دينك فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أي جزاؤك ومن تبعك جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) أي مكملا فكل معصية توجد يحصل لإبليس مثل وزر ذلك العامل لأنه هو الأصل فيها فلذلك يخاطب بالوعيد. وَاسْتَفْزِزْ أي استزل مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ استزلاله بِصَوْتِكَ أي بدعائك إلى معصية الله تعالى وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي واجمع عليهم مصحوبا بجنودك الركاب والمشاة، فروى أبو الضحى عن ابن عباس أنه قال: كل راكب أو ماش في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليس وجنوده.
وقرأ حفص عن عاصم «ورجلك» بكسر الجيم. وقرأ غيره بالضم أو بالسكون.
وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ أي في كل تصرف قبيح فيها وَالْأَوْلادِ أي في الأفعال القبيحة والحرف الذميمة والأديان الزائغة والأسماء المنكرة وَعِدْهُمْ أي بالأماني الباطلة وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً (٦٤) أي ما يعدهم من الأماني الكاذبة إلا لأجل الغرور. وهذه الجملة اعتراض واقع بين الجمل التي خاطب الله بها الشيطان. إِنَّ عِبادِي المخلصين لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي غلبة وقدرة على إغوائهم وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (٦٥) أي حفيظا. فإن الشيطان وإن كان قادرا على الوسوسة فإن الله أرحم بعباده فهو يدفع عنهم كيد الشيطان رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ أي الذي يسوق لمنافعكم السفن على وجه البحر لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي رزقه تعالى بالتجارة وغيرها إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) حيث سهل عليكم ما يعسر من أسباب ما تحتاجون إليه وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ أي خوف الغرق فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ أي ذهب عن خواطركم ما كنتم تعبدون من دون الله إِلَّا إِيَّاهُ تعالى فتسألون من الله تعالى النجاة لأنكم تعلمون أنه لا ينجيكم سواه. فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من الغرق وأخرجكم من البحر إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن الشكر والتوحيد ورجعتم إلى الإشراك، وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أي منكرا لنعم الله. أَفَأَمِنْتُمْ
أي أنجوتم من هول البحر فأمنتم أن نغور البر بكم. جانِبَ الْبَرِّ الذي أنتم فيه ونصيركم تحت الثرى كما خسف بقارون. أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ من فوقكم حاصِباً أي ريحا ترمي حجارة كما أرسل على قوم لوط ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (٦٨) أي حافظا يحفظكم من ذلك أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ أي في البحر تارَةً أُخْرى بأسباب تلجئكم إلى أن تركبوه وإن كرهتم فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً أي كاسرا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بعد كسر فلككم في البحر بِما كَفَرْتُمْ أي بسبب إشراككم وكفرانكم لنعمة الإنجاء ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) أي ثائرا يطالبنا بما فعلنا بكم.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو هذه الخمسة «أن نخسف»، «أو نرسل»، «أن نعيدكم»، «فنرسل»، «فنغرقكم» بنون العظمة على سبيل الالتفات. والباقون بياء الغيبة. وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ بالصورة والقامة المعتدلة والتسلط على ما في الأرض والتمتع به والتمكن من الصناعات والعلم والنطق وتناول الطعام باليد وغير ذلك وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ على الدواب وغيرها وَالْبَحْرِ على السفن وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي من أنواع المستلذات الحيوانية كاللحم والسمن واللبن والنباتية، كالثمار والحبوب وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا (٧٠) أي فضلناهم على غير الملائكة تفضيلا عظيما بالعقل والقوى المدركة التي يتميز بها الحق من الباطل والحسن من القبيح فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ويستعملوا قواهم في تحصيل العقائد الحقة
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ أي بمن اقتدوا به.
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنه ينادى يوم القيامة: يا أمة إبراهيم، يا أمة موسى، يا أمة عيسى، يا أمة محمد، فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بأيمانهم، ثم ينادي يا أتباع فرعون، يا أتباع نمروذ، يا أتباع ثمود»
. وقال الضحاك وابن زيد: أي بكتابهم الذي أنزل عليهم فينادي في القيامة يا أهل القرآن يا أهل التوراة يا أهل الإنجيل. وقال الربيع وأبو العالية والحسن: أي بكتاب أعمالهم كأن يقال: يا أصحاب كتاب الخير يا أصحاب كتاب الشر. وقيل:
بمذاهبهم فيقال: يا حنفي، يا شافعي، يا معتزلي، يا قدري، ونحو ذلك. وقرئ «يدعي كل أناس» على البناء للمفعول. فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وهم أولو البصائر في الدنيا فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ الذي أعطوه تبجحا بما سطر فيه من الحسنات وَلا يُظْلَمُونَ أي لا ينقصون من أجور أعمالهم المكتوبة في كتبهم فَتِيلًا (٧١) أي قدر فتيل، وهو القشرة التي في شق النواة وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى أي من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرة الله في خلق السموات والأرض والبحار، والجبال، والناس، والدواب، وعن الشكر عن النعم المذكورة في الآيات المتقدمة فهو في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة ويستولي الخوف والدهشة على قلبه فيثقل لسانه عن قراءة كتابه. وَأَضَلُّ سَبِيلًا (٧٢) من الأعمى لتعطل الآلات
قال ابن عباس في رواية عطاء: قدم وفد ثقيف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألوه شططا وقالوا:
متعنا باللات سنة وحرم وادينا كما حرمت مكة شجرها وطيرها ووحشها، فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك ولم يجبهم، فكرروا ذلك الالتماس وقالوا: إنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم فإن كرهت ما نقول وخشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل: الله أمرني بذلك فأمسك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم وداخلهم الطمع، فصاح عليهم عمر وقال: أما ترون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمسك عن الكلام كراهية لما تذكرونه فأنزل الله تعالى هذه الآية وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا (٧٤) أي لولا تثبيتنا إياك على الحق بعصمتنا إياك لقاربت أن تميل إليهم شيئا يسيرا فيما طلبوك إِذاً لو قاربت الميل من قلبك لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي لصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة، ثُمَّ إذا أذقناك العذاب المضاعف لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) أي أحدا يخلصك من عذابنا وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ أي ليستزلونك مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (٧٦) أي وإذا لو أخرجوك لا يلبثون بعد إخراجك إلا زمانا قليلا حتى نهلكهم.
قال ابن عباس: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما هاجر إلى المدينة حسدته اليهود وكرهوا قربه منهم فقالوا: يا أبا القاسم إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام وهي بلاد مقدسة وكانت مسكن إبراهيم، فلو خرجت إلى الشام آمنا بك واتبعناك وقد علمنا أنه لا يمنعك من الخروج إلا خوف الروم، فإن كنت رسول الله فالله مانعك منهم فعسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أميال من المدينة حتى يجتمع إليه أصحابه ويراه الناس عازما على الخروج إلى الشام لحرصه على دخول الناس في دين الله، فنزلت هذه الآية، فرجع، ثم قتل منهم بني قريظة وأجلي بني النضير بعذر من قليل وعلى هذا فالآية مدنية. والمراد بالأرض: أرض المدينة، وهذا قول الكلبي:
وقال قتادة ومجاهد: همّ المشركون أن يخرجوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكة فكفهم الله تعالى عنه حتى أمره بالهجرة، فخرج بنفسه، فأهلكوا ببدر بعد هجرته صلّى الله عليه وسلّم. وعلى هذا فالآية مكية والمراد بالأرض: أرض مكة. وهذا اختيار الزجاج.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وشعبة «خلفك» بفتح الخاء وسكون اللام. والباقون «خلافك» بكسر الخاء وفتح اللام مع المد سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا أي سننا سنته فيمن قد أرسلنا قبلك أي إن عادة الله أن يهلك كل قوم أخرجوا نبيهم من بينهم وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا (٧٧) أي تغييرا أي إن ما
أقم صلاة الفجر إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) تحضره الملائكة الكاتبون والحفظة، فإنهم يتعاقبون على ابن آدم في صلاة الصبح وصلاة العصر وتشهده شواهد القدرة من تبدل الظلمة بالضياء، وتبدل النوم بالانتباه، فتشهد العقول بأنه لا يقدر على تقليب كلية هذا العالم إلا الخالق المدبر بالحكمة البالغة، وتشهده الجماعة الكثيرة وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ أي وقم بعض الليل فاترك النوم في ذلك الوقت للصلاة.
وقيل: المعنى تهجد بالقرآن بعض الليل أي صل في ذلك بالقرآن نافِلَةً لَكَ أي زيادة لك في كثرة الثواب وارتفاع الدرجات مختصة بك فإن كل طاعة يأتي بها النبي صلّى الله عليه وسلّم سوى المكتوبة لا يكون تأثيرها في كفارة الذنوب ألبتة، لأن الله تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بل يكون تأثيرها في زيادة الدرجات وكثرة الثواب، فلهذا سميت نافلة بخلاف الأمة فإن لهم ذنوبا محتاجة إلى الكفارات فهذه الطاعات لهم لتكفير الذنوب فلهذا السبب قال تعالى: نافلة لك أي إن الطاعات هذه زوائد في حقك لا في غيرك كما نقل عن مجاهد والسدي، ومن قال: إن صلاة الليل كانت واجبة على النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا: معنى نافلة لك أن صلاة الليل فريضة عليك زائدة على الصلوات الخمس خاصة بك دون أمتك عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) أي إن يقيمك ربك مقاما محمودا عندك وعند جميع الناس.
وروى أبو هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي»
. وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ أي في المدينة وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ أي من مكة إليها وذلك حين أمر النبي بالهجرة كما قاله ابن عباس والحسن. أو المعنى وأخرجني من المدينة إلى مكة غالبا عليها بفتحها. وقيل: الأكمل مما سبق أن يقال: رب أدخلني في الصلاة وأخرجني منها مع الصدق والإخلاص وحضور قلبي بذكرك، ومع القيام بلوازم شكرك. والأكمل من ذلك أن يقال: رب أدخلني في القيام بمهمات أداء شريعتك، وأخرجني بعد الفراغ منها إخراجا لا يبقى علي منها تبعة والأعلى مما سبق أن يقال: رب أدخلني في بحار دلائل توحيدك وتنزيهك، ثم أخرجني من الاشتغال بالدليل إلى ضياء معرفة المدلول ومن التأمل في آثار حدوث المحدثات إلى الاستغراق في معرفة الفرد المنزه عن التغيرات. وقيل: رب أدخلني القبر إدخالا مرضيا وأخرجني منه عند البعث إخراجا مرضيا ملقى بالكرامة. وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠)
وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ أي ظهر الإسلام وَزَهَقَ الْباطِلُ أي هلك الشرك وتسويلات الشيطان إِنَّ الْباطِلَ أي أيّ باطل كان كانَ بجبلته زَهُوقاً (٨١) زائلا على أسرع الوجوه وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ من جميع الأمراض الظاهرة والباطنة وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لأن القرآن يعلم كيفية اكتساب العلوم العالية والأخلاق الفاضلة التي يصل بها الإنسان إلى قرب رب العالمين وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (٨٢) أي لا يزيد القرآن المشركين إلا هلاكا بتكذيبهم وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ بأن وصل إلى مطلوبه أَعْرَضَ أي اغتر وصار غافلا عن طاعة الله وَنَأى بِجانِبِهِ أي تباعد من أهل الحق ولم يقتد بهم تعظما لنفسه كديدن المستكبرين وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي أصابه بلاء كانَ يَؤُساً (٨٣) أي قنوطا من رحمة الله حزينا ولم يتفرغ لذكر الله تعالى قُلْ كُلٌّ أي كل أحد يَعْمَلُ عمله عَلى شاكِلَتِهِ أي طريقته التي توافق حاله في الهدى والضلالة فإن كانت نفسه طاهرة صدرت عنه أفعال جميلة، وإن كانت نفسه خبيثة صدرت عنه أفعال رديئة فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا (٨٤) أي أصوب طريقا وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الذي هو سبب حياة البدن بنفخه فيه قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي من فعل ربي أو من علم ربي فإنه مما اختص الله تعالى بعلمه.
روي أن اليهود قالوا لقريش: سلوا محمدا عن أصحاب الكهف. وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أجاب عنها جميعا أو سكت فليس بنبي وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي فبين صلّى الله عليه وسلّم لهم القصتين وأبهم شأن الروح وهو مبهم في التوراة وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (٨٥) فإن عقول الخلق عاجزة عن معرفة حقيقة الروح، وقال بعضهم جاء في الخبر في بعض الروايات أن الله تعالى خلق ثلاثمائة وستين ألف عالم ولكنه جعلها محصورة في عالمين وهما الخلق والأمر كما قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ [الأعراف: ٥٤] فعبر عن عالم الدنيا وهو ما يدرك بالحواس الخمس الظاهرة السمع والبصر، والشم والذوق، واللمس بالخلق. وعبر عن عالم الآخرة وهو ما يدرك بالحواس الخمس الباطنة العقل والقلب والسر والروح والخفي بالأمر فعالم الأمر هو الأوليات التي خلقها الله تعالى للبقاء بمحض الأمر التكويني من غير تحصيل من أصل وهي الروح والعقل والقلم واللوح والعرش والكرسي، والجنة والنار وسمي عالم الأمر أمرا، لأن الله أوجده بلا واسطة شيء بل بأمر كن من لا شيء. ولما كان أمره تعالى قديما فما يكون بالأمر القديم كان باقيا، وإن كان حادثا. وسمي عالم الخلق خلقا، لأنه تعالى أوجده بوسائط شيء مخلوق خلقه للفناء، فمعنى الروح من أمر ربي أنه من عالم الأمر والبقاء لا من عالم الخلق والفناء اهـ. فلا يمكن تعريف الروح بمباديه ولا يحيط بكنهه دائرة إدراك البشر وإنّما الممكن هذا القدر الإجمالي ولذا قال تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي وما
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أي لئن اتفق الإنس والجن والملائكة على أن يأتوا بمثل هذا القرآن في البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى لا يقدرون على إتيان مثله، وتخصيص الثقلين بالذكر، لأن المنكر في كونه من عند الله تعالى منهما لا من غيرهما، لا لأن غيرهما قادر على المعارضة. وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) أي معينا بضم أقوى ما فيه إلى أقوى ما في صاحبه وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي كررنا بوجوه مختلفة توجب زيادة بيان لِلنَّاسِ أي لأهل مكة فِي هذَا الْقُرْآنِ المنعوت بالنعوت الفاضلة مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي من كل معنى بديع يشبه المثل في الغرابة ليتلقوه بالقبول فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ أي فلم يرض أكثر أهل مكة إِلَّا كُفُوراً (٨٩) أي جحودا للحق وَقالُوا عند ظهور عجزهم بالقرآن وغيره من المعجزات الباهرة: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ أي أرض مكة يَنْبُوعاً (٩٠) أي عينا لا ينضب ماؤها
أَوْ تَكُونَ لَكَ وحدك جَنَّةٌ أي بستان تستر أشجاره ما تحتها من العرصة مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ أي وأشجار عنب وعبر بالثمرة لأن الانتفاع بغيرها من الكرم قليل فَتُفَجِّرَ أي أنت الْأَنْهارَ خِلالَها أي وسطها تَفْجِيراً (٩١) والمراد إجراء الأنهار في وسط البستان عند سقيها أو إدامة إجرائها و «تفجر» الأولى تكون بفتح التاء وسكون الفاء وضم الجيم عند عاصم وحمزة والكسائي، وبضم التاء وفتح الفاء وكسر الجيم المشددة عن الباقين. ولم تختلف السبعة في «تفجر» الثانية أنها مشددة. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ بقولك: إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السماء عَلَيْنا كِسَفاً أي قطعا بالعذاب أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا (٩٢) أي مقابلين ومرئيين لنا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أي ذهب وفضة كامل الحسن أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أي تصعد إليها وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي لصعودك إلى السماء أصلا حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً من الله نَقْرَؤُهُ فيه أنك رسول الله إلينا أي لما ظهر لهم كون القرآن معجزا التمسوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ستة أنواع من المعجزات كما حكي
عن ابن عباس أن رؤساء أهل مكة أرسلوا إلى رسول الله وهو جلوس عند الكعبة فأتاهم فقالوا: يا محمد إن أرض مكة ضيقة فسيّر جبالها لننتفع بها وفجر لنا فيها عيونا نزرع فيها فقال: «لا أقدر عليه» فقال قائل منهم: أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا؟! فقال: «لا أقدر عليه». فقيل: أو يكون لك بيت
فقال: «لا أستطيع». قالوا: فإذا كنت لا تستطيع الخير فاستطع الشر فأسقط السماء كما زعمت علينا كسفا. فقال: عبد الله بن أمية المخزومي وهو ابن عاتكة عمته صلّى الله عليه وسلّم: لا أومن بك أبدا حتى تشد سلما إلى السماء فتصعد فيه ونحن ننظر إليك فتأتي بنسخة منشورة معك بأربعة من الملائكة يشهدون لك بالرسالة، ثم بعد ذلك لا أدري أنؤمن بك أم لا؟ فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهله حزينا فأنزل الله تعالى هذه الآية
قُلْ.
وقرأ ابن كثير وابن عامر «قال» بصيغة الماضي: سُبْحانَ رَبِّي أي أنزه ربي عن أن يكون له إتيان وذهاب وأتعجب من اقتراحاتهم هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا (٩٣) أي مأمورا من قبل ربي بتبليغ الرسالة كسائر الرسل لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات وَما مَنَعَ النَّاسَ أي أهل مكة أَنْ يُؤْمِنُوا بنبوتك إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي القرآن إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا (٩٤) إلينا أي وما منع الناس من الإيمان وقت مجيء الوحي إلا اعتقادهم أن الله تعالى لو أرسل رسولا إلى الخلق لوجب أن يكون من الملائكة وإنكارهم أن يكون من جنس البشر قُلْ لهم من جهتنا جوابا لقولهم: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ عليها مُطْمَئِنِّينَ أي قارين فيها من غير أن يعرجوا في السماء لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا (٩٥) أي لو كان أهل الأرض ملائكة لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة أما لو كان أهل الأرض من البشر لوجب أن يكون رسولهم من البشر لتمكنهم من الاجتماع والفهم منه لمماثلتهم له في الجنس قُلْ لهم: كَفى بِاللَّهِ وحده شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بأني رسوله إليكم إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) أي محيطا ببواطن أحوالهم وظواهرها، أي فإنكم إنما أنكرتم هذا لمحض الحسد والاستنكاف من الانقياد للحق وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ بحذف الياء من الرسم هنا، وفي الكهف. وأما في النطق فقرأ نافع وأبو عمرو بإثبات الياء وصلا وحذفها وقفا. وحذفها الباقون في الحالين. وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ أي أنصارا مِنْ دُونِهِ تعالى يهدونهم إلى طريق الحق أي فمن سبق لهم حكم الله بالإيمان وجب أن يصيروا مؤمنين ومن سبق لهم حكم الله بالضلال استحال أن ينقلبوا عن ذلك الضلال وأن يوجد من يصرفهم عنه وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ فقد
روي أنه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: كيف يمشون على وجوههم؟ قال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم»
«١». عُمْياً لا يبصرون ما يسر
٣٥٤).
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي واضحات الدلالة على نبوته وهي اليد والعصا، والجراد والقمل، والضفادع والدم، والطوفان والسنون، ونقص الثمرات فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي فاسأل يا أشرف الرسل بني إسرائيل الذين كانوا في زمانك عن موسى فيما جرى بينه وبين فرعون وقومه، ليظهر صدق ما ذكرته عند المشركين، فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد. وهذه الجملة اعتراضية بين العامل والمعمول إِذْ جاءَهُمْ أي حين جاء موسى بني إسرائيل الذين كانوا في زمانه عليه السلام وهذا الظرف متعلق بآتينا فأظهر ما آتيناه من الآيات عند فرعون وبلغه ما أرسل به فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) أي مغلوب العقل قالَ لفرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ.
قرأ الكسائي بضم التاء. والباقون بفتحها، فالضم قراءة على والفتح قراءة ابن عباس ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات عليّ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ أي أدلة ظاهرة يستدل بها على صدقي ولكنك تنكرها للحسد وحب الدنيا وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ أي لأعلمك يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) أي ملعونا ممنوعا من الخير فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أي أراد فرعون أن يخرج موسى وقومه مِنَ الْأَرْضِ بالقتل فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) في البحر وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد إغراقه لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ أي أرض الشام ومصر فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي البعث بعد الموت جِئْنا بِكُمْ من قبوركم إلى المحشر لَفِيفاً (١٠٤) أي مختلطين أنتم وهم فيختلط جميع الخلق المسلم والكافر والبر والفاجر، ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أي ما أردنا بإنزال القرآن إلا إثبات الحق وكما أردنا هذا المعنى فكذلك حصل هذا المعنى ووصل إليهم بعد إنزاله عليك ليس فيه تبديل أو يقال: وما أنزلنا القرآن إلا ملتبسا بالحكمة
وقرأ العامة بتخفيف الراء، أي بينا حلاله وحرامه أو فرقنا فيه بين الحق والباطل، وقرأ علي وجماعة من الصحابة وغيرهم بالتشديد أي فرقنا آياته بين أمر ونهي وحكم وأحكام، ومواعظ وأمثال، وقصص وأخبار ماضية ومستقبلة. أو نزلناه مفرقا في ثلاثة وعشرين سنة، أو في عشرين سنة على الخلاف في تقارن النبوة والرسالة وتعاقبهما لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ بضم الميم وفتحها أي على تأن لتكون الإحاطة على دقائقه وحقائقه أسهل وَنَزَّلْناهُ من عندنا تَنْزِيلًا (١٠٦) متفرقا آية وآيتين وثلاثا وهكذا بحسب ما تقتضيه الحكمة وما يحصل من الواقعات قُلْ للذين اقترحوا تلك المعجزات: آمِنُوا بِهِ أي القرآن أَوْ لا تُؤْمِنُوا فإن إيمانكم به لا يزيده كمالا وامتناعكم عن الإيمان به لا يورثه نقصا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزول القرآن منهم زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي إِذا يُتْلى أي القرآن عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ أي يسقطون على وجوههم بغاية الخوف سُجَّداً (١٠٧) لله شكرا على إنجاز وعده في تلك الكتب من بعثتك ونزول القرآن وَيَقُولُونَ في سجودهم سُبْحانَ رَبِّنا أي تنزيها له عن خلف وعده إِنْ أي إن الشأن كانَ وَعْدُ رَبِّنا بإنزال القرآن وبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم لَمَفْعُولًا (١٠٨) أي منجزا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ للسجود لما أثر فيهم من مواعظ القرآن يَبْكُونَ من خشية الله وَيَزِيدُهُمْ أي القرآن أو البكاء أو السجود أو المتلو خُشُوعاً (١٠٩) أي تواضعا لله كما يزيدهم يقينا بالله تعالى قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أي سموا المعبود بحق بهذا الاسم.
قال ابن عباس: سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فجعل يقول في سجوده: «يا الله يا رحمن». فقال أبو جهل: إن محمدا ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية
أي إن شئتم قولوا: يا الله، وإن شئتم قولوا: يا رحمن أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي أيّ هذين الاسمين سميتم فهو حسن، لأن للمسمى بذلك الأسماء الحسنى.
ومعنى حسن أسماء الله كونها مفيدة لمعاني التحميد والتقديس والتمجيد والتعظيم وعلى صفات الجلال والكمال وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءة صلاتك وَلا تُخافِتْ بِها أي بقراءتها.
روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يرفع صوته بالقراءة فإذا سمعه المشركون سبوه وسبوا من جاء به فأوحى الله تعالى إليه ولا تجهر بصلاتك فيسمع المشركون
روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم طاف بالليل على دور الصحابة وكان أبو بكر يخفي صوته بالقراءة في صلاته، وكان عمر يرفع صوته فلما حاء النهار وجاء أبو بكر وعمر فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر:
«لم تخفي صوتك؟» فقال: أناجي ربي وقد علم حاجتي وقال لعمر: «لم ترفع صوتك؟» فقال:
أزجر الشيطان وأوقظ الوسنان. فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر أن يرفع صوته قليلا، وعمر أن يخفض صوته قليلا.
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كما يزعم اليهود والنصارى وبنو مليح حيث قالوا:
عزير ابن الله والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله فكل من له ولد وهو محدث محتاج فلا يقدر على كمال الأنعام فلا يستحق كمال الحمد وكل من له ولد يمسك جميع النعم لولده، فإذا لم يكن له ولد أفاض تلك النعم على عبيده، فلو كان له تعالى ولد لكان منقضيا فلا يقدر على كمال الأنعام في كل الأوقات فلا يستحق الحمد على الإطلاق وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ أي في الألوهية كما يقوله الثنوية القائلون بتعدد الآلهة، لأنه لو كان معه إله آخر لتصرف في الموجودات فلا يعرف حينئذ أن هذه النعم حصلت منه أو من شريكه فلا يعرف كونه مستحقا للحمد والشكر. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ أي ناصر منه لأنه لو جاز عليه ناصر من أجل المذلة لم يجب شكره لجواز أن يكون غيره تعالى حمله على الأنعام أو منعه منه وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١) فالتحميد يجب أن يكون مقرونا بالتكبير والتكبير يكون في ذاته تعالى بأن يعتقد أنه واجب الوجود لذاته، وأنه غني عن كل ما سواه وفي صفاته بأن يعتقد أن كل صفة له فهو من صفات الجلال والكمال، والعز والعظمة، وكل واحد من تلك الصفات لا نهاية له وإن كل صفة له قديمة سرمدية منزّهة عن التغير وفي أفعاله كأن يقول: إنا نحمد الله ونكبره عن أن يجري في سلطانه شيء لا على وفق حكمه وإرادته، فالكل واقع بقضاء الله وقدرته وإرادته وفي أحكامه بأن يعتقد أنه ملك مطاع فلا اعتراض لأحد عليه في شيء من أحكامه يعز من يشاء ويذل من يشاء، وفي أسمائه بأن لا يذكر إلا بأسمائه الحسنى ولا يوصف إلا بصفاته المنزهة، ثم ينبغي للعبد بعد أن يبالغ في التكبير والتنزيه والتحميد والطاعة مقدار عقله وفهمه أن يعترف أن عقله وفهمه لا يفي بمعرفة جلال الله، ولسانه لا يفي بشكره وأعضاءه لا تفي بخدمته فكبر الله عن أن يكون تكبيره وافيا بكنه مجده وعزته.
وروي أن قول العبد الله أكبر خير من الدنيا وما فيها، وعن عمرو بن شعيب كان رسول صلّى الله عليه وسلّم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الآية واسأل الله الرحمة قبل الموت، وعند الموت، وبعد الموت إنه تعالى ناشر العظام بعد الموت وسامع الصوت.
حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم آمين.