سورة الحج مدنية نزلت بعد سورة النور
وقيل : إن سورة الحج من السور المكية، وقد استثنى من ذهب إلى هذا الرأي الآيات من :( ١٩ – ٢٤ )i.
وكان الأولى أن يستثنى من قال إنها مكية آيات الإذن بالقتال من :( ٣٨ – ٤١ )، ومنها قوله تعالى : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ. ( الحج : ٣٩ ).
وعند التأمل في سورة الحج نجد أن أسلوبها وموضوعاتها وطريقتها أقرب إلى السور المكية.
فموضوعات التوحيد والتخويف من الساعة وإثبات البعث وإنكار الشرك ومشاهد القيامة وآيات الله المبثوثة في صفحات الكون.. بارزة في السورة.
ويمكن أن يقال إن هذه السورة مشتركة بين مكة والمدينة كما يبدو من دلالة آياتها وعلى الأخص آيات الإذن بالقتال وآيات العقاب بالمثل في قوله تعالى : ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. ( الحج : ٦٠ ).
فهذه الآيات مدنية لأن المسلمين لم يؤذن لهم في القتال والقصاص إلا بعد الهجرة وبعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة، أما قبل ذلك فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم – حين بايعه أهل يثرب وعرضوا عليه أن يميلوا على أهل منى من الكفار فيقتلوهم :( إني لم أومر بهذا ). حتى إذا صارت المدينة دار إسلام، شرع الله القتال لرد أذى المشركين عن المسلمين، والدفاع عن حرية العقيدة، وحرية العبادة للمؤمنين.
ومن الموضوعات المدنية في سورة الحج : حماية الشعائر، والوعد بنصر الله لمن يقع عليه البغي وهو يرد العدوان، والأمر بالجهاد في سبيل الله.
وفي السورة موضوعات أخرى عولجت بطريقة القرآن المكي وتغلب عليها السمات المكية وهذه السمات تجعل سورة الحج مما يشبه المكي وهو مدني.
سمات القوة :
تتضح في سورة الحج سمات القوة والعنف، وأساليب الرهبة والتحذير، واستجاشة مشاعر التقوى والوجل والخوف من بأس الله.
وتبدو هذه المعاني في المشاهد والأمثال :
فمشهد البعث مزلزل عنيف رهيب، تذهل فيه الأم عن وليدها وهو بين يديها، وكذلك مشهد العذاب :
فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رءوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ*كُلَّمَا أَرَادُواْ أَنْ يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ. ( الحج : ١٩ – ٢٢ ).
ومشهد القرى المدمرة بظلمها :
فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ. ( الحج : ٤٥ ).
تجتمع هذه المشاهد العنيفة المرهوبة إلى قوة الأوامر والتكاليف، وتبرير الدفع بالقوة، وتأكيد الوعد بالنصر والتمكين. إلى عرض الحديث عن قوة الله وضعف الشركاء المزعومين.
ووراء كل ذلك الدعوة إلى التقوى والوجل واستجاشة مشاهد الرهبة والامتثال لأمر الله، تبدأ بها السورة وتتناثر في ثناياها : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ. ( الحج : ١ ).
ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ. ( الحج : ٣٢ ).
فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ... ( الحج : ٣٤، ٣٥ ).
لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ. ( الحج : ٣٧ ).
ذلكلل إلى استعراض مشاهد الكون، ومشاهد القيامة، ومصارع الغابرين، والأمثلة والعبر، والصور والتأملات ؛ لاستجاشة مشاعر الإيمان والتقوى والإخبات والاستسلام، وهذه هي الروح السارية في جو السورة كلها والتي تطبعها وتميزها.
أقسام السورة وأفكارهاii
تشتمل سورة الحج على أربع مجموعات أو أقسام رئيسية يجري السياق فيها كالآتي :
القسم الأول :
يبدأ القسم الأول بالنداء العام : نداء الناس جميعا إلى تقوى الله، وتخويفهم من زلزلة الساعة ووصف الهول المصاحب لها وهو هول عنيف مرهوب. في ظل هذا الهول باستنكار الجدل في الله بغير علم، واتباع كل شيطان محتوم على من يتبعه الضلال، ثم يعرض دلائل البعث من أطوار الحياة في حياة الإنسان وحياة النبات، مسجلا تلك القربى بين أبناء الحياة، ويربط بين تلك الأطوار المطردة الثابتة، وبين أن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور. وكلها سنن مطردة، وحقائق ثابتة متصلة بناموس الوجود ثم يعود إلى استنكار الجدل في الله بغير علم، ولا هدى ولا كتاب منير.
بعد هذه الدلائل المستقرة في صلب الكون وفي نظام الوجود، وإلى استنكار بناء العقيدة على حساب الربح والخسارة، والانحراف عن الاتجاه إلى الله عند وقوع الضراء، والالتجاء إلى غير حماه، واليأس من نصرة الله وعقباه، وينتهي هذا الشوط بتقرير أن الهدى والضلال بيد الله، وأنه سيحكم بين أصحاب العقائد المختلفة يوم الحساب وهنا يعرض ذلك المشهد العنيف من مشاهد العذاب للكافرين، وإلى جواره مشهد النعيم للمؤمنين. ويستغرق هذا القسم من أول السورة إلى الآية ٢٤.
القسم الثاني :
يبدأ القسم الثاني بالحديث عن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام، ويستنكر هذا الصد عن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس جميعا. يستوي في ذلك المقيمون به والطارئون عليه، وبهذه المناسبة يذكر طرفا من قصة بناء البيت، وتكليف إبراهيم – عليه السلام – أن يقيمه على التوحيد، وأن يطهره من رجس الشرك، ويستطرد إلى بعض شعائر الحج وما وراءها من استجاشة مشاعر التقوى في القلوب وهو الهدف المقصود، وينتهي هذا القسم بالإذن للمؤمنين في القتال ؛ لحماية الشعائر والعبادات من العدوان الذي يقع على المؤمنين ولا جريرة لهم إلا أن يقولوا ربنا الله.
ويستغرق هذا القسم الآيات :( ٢٥ – ٤١ ).
القسم الثالث :
يبدأ القسم الثالث بعرض نماذج من تكذيب المكذبين من قبل، ومن مصارع المكذبين ومشاهد القرى المدمرة على الظالمين، وذلك لبيان سنة الله في الدعوات، وتسلية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عما يلقاه من صد وإعراض وتطمين المسلمين بالعاقبة التي لا بد أن تكون، كذلك يتضمن عرض طرف من كيد الشيطان للرسل والنبيين في دعوتهم، وتثبيت الله لدعوته، وإحكامه لآياته، حتى يستقين بها المؤمنون، ويفتن بها الضعاف والمستكبرون. ويستغرق هذا القسم الآيات :( ٤٢ – ٥٩ ).
القسم الرابع :
يتضمن القسم الرابع وعد الله بنصرة من وقع عليه البغي ؛ فقام يدفع عن نفسه العدوان، ويتبع هذا الوعد بعرض دلائل القدرة في صفحات الكون، وإلى جوارها يعرض صورة زرية لضعف الآلهة التي يركن إليها المشركون، وينتهي هذا القسم وتنتهي السورة معه بنداء الذين آمنوا ليعبدوا ربهم، ويجاهدوا في الله حق جهاده، ويعتصموا بالله وحده، وهم ينهضون بتكاليف عقيدتهم العريقة منذ أيام إبراهيم الخليل. ويستغرق هذا القسم الآيات :( ٦٠ – ٧٨ ).
ومن هذا العرض نجد تعاقب موضوعات السورة وتناسقها في حلقات متساوقة تسلم كل حلقة للتي تليها لتكون في مجموعها سورة كاملة هي سورة الحج.
حكمة التسمية :
سميت هذه السورة بسورة الحج لأنها اشتملت على الدعوة إلى الحج على لسان إبراهيم الخليل، وفي الحج منافع دينية وعلمية وتجارية وسياحية.
قال تعالى :
وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ. ( الحج : ٢٧، ٢٨ ).
في الحج يتجمع المسلمون من كل بلد، للتعارف والتآلف والتشاور والتعاون، وبذلك يصبحون يدا واحدة وقوة متآلفة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا.
في الحج يشاهد الإنسان الأماكن المقدسة، التي شهدت ميلاد الإسلام وولادة الرسول ورسالته وجهاده وهديه.
في الحج يتعرف المسلمون من كل قطر على إخوانهم، ويتدارسون شئونهم ويعرفون آلامهم وآمالهم. وربما تعاقدوا على شراء ما يلزمهم أو عمل ما ينفعهم.
في الحج سياحة في أرض الله وأداء لمناسك مقدسة في موطن إبراهيم الخليل وهاجر وإسماعيل، ورؤية الكعبة المقدسة وزمزم والصفا والمروة ومنى وعرفات، وبعد الحج زيارة للمسجد النبوي وصلاة بالروضة ووقوف أمام قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزيارته، وزيارة قبور الصحابة والشهداء، ورؤية أمجاد الإسلام ومواقع المعارك، وبذلك يستقر الإيمان في القلب والشعور ويصبح الحج عبادة ذات منافع متعددة، إذا فهم المسلمون حكمته ورسالته.
مقصود السورة إجمالاiii
إذا أردنا التعرف على الأفكار المنثورة في سورة الحج فسنجدها تدور حول الأمور الآتية :
الوصية بالتقوى والطاعة، وبيان هول الساعة وزلزلة القيامة، والدليل على إثبات الحشر والنشر، وجدال أهل الباطل مع أهل الحق. وذم أهل النفاق وعبادة الأوثان، ومدح المؤمنين، وبيان رعاية الله لرسوله، ونصره رغم أنف الكافرين، وسجود الكائنات لله. وقيام إبراهيم بالدعوة إلى الحج وبيان تعظيم الحرمات والشعائر، والمنة على العباد بدفع فساد أهل الفساد، وإهلاك القرى بسبب ظلم أهلها وذكر نسيان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسهوه حال تلاوة القرآن، وتثبيت المؤمنين، وشقاق الكافرين حتى تفاجئهم الساعة، وبيان قدرة الله سبحانه، وعجز الأصنام وعبادها، واصطفاء الرسل من الملائكة كجبريل، ومن الإنس كمحمد، وتكليف المؤمنين بأنواع من العبادة كالصلاة والجهاد والإحسان، وترغيبهم في الوحدة والجماعة والتمسك بحبل الله في قوله : وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ. ( الحج : ٧٨ ).
تقديم
هذه سورة اختلف العلماء بين كونها مكية أو مدنية، ومن رأى أنها مدنية، استشهد بآيات الدعوة إلى القتال والإذن به، ولم يؤذن بالقتال إلا في المدينة، ومن رأى أنها مكية استشهد بقوة آياتها وشدة أسلوبها.حتى قال العلماء : هي مما يشبه المكي وهو مدني.
وقال العزيزي :
وهي من أعاجيب السور، نزلت : ليلا ونهارا، سفرا وحضرا، مكيا ومدنيا، سلميا وحربيا، محكما ومتشابها، وآياتها ٧٨ آية.
وقال الشيخ أحمد المراغي في تفسير المراغي :
وهي بحسب موضوعاتها أقسام ثلاثة :
١ – البعث والدليل عليه وما يتبع ذلك.
٢ – الحج والمسجد الحرام.
٣ - أمور عامة كالقتال، وهلاك الظالمين، والاستدلال بنظام الدنيا على وجود الخالق، وضرب المثل بعجز الأصنام، وعدم استطاعتها خلق الذباب.
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ( ١ ) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ( ٢ ) ﴾.التفسير :
١ - يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ.
التقوى : مراقبة الله تعالى، والبعد عن كل ما يكسب الإثم من فعل أو ترك.
الزلزلة : الحركة الشديدة بحيث تزيل الأشياء من أماكنها.
افتتاح يدعو إلى التقوى ويحث عليها، وتقوى الله مراقبته وامتثال أمره، واجتناب نواهيه، وقد تكرر الأمر بالتقوى في القرآن الكريم، ففي أول سورة النساء : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ. ( النساء : ١ ).
وفي أوائل سورة البقرة : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. ( البقرة : ٢١ ).
وقال تعالى : يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. ( لقمان : ٣٣، ٣٤ ).
إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ.
أي : إن الزلزلة التي تكون حين قيام الساعة، قبل قيام الناس من قبورهم، أمر عظيم هائل كما قال تعالى : إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا. ( الزلزلة : ١، ٢ ).
وقال تعالى : فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * وَانشَقَّتِ السَّمَاء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ * وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ. ( الحاقة : ١٣ – ١٧ ).
وقال تعالى : إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا. ( الواقعة : ١، ٦ ).
وإذا كانت الزلزلة وحدها لا تحتمل، فما بالك بما يحدث في ذلك اليوم من الحشر والجزاء، والحساب على الأعمال، لدى من لا يغيب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء.
الذهول : الدهش الناشئ عن الهم والغم الكثير.
المرضعة : الأنثى حال الإرضاع، والمرضع : من من شأنها أن ترضع، ولو لم ترضع حال وصفها به.
تصف الآية أهوال القيامة التي تزلزل القلوب :
( أ ) ففي هذا اليوم تذهل كل مرضعة عن رضيعها، وقد وضعت ثديها في فمه، فتتحير وتأخذها الدهشة، وتنشغل بنفسها عن رضيعها.
( ب ) وفي هذا اليوم يشتد الهول، بحيث إن الحامل تضع حملها سقطا، من الهول والفزع.
( ت ) وفي ذلك اليوم ترى الناس سكارى من الذهول والهول الذي اعتراهم، وما هم بسكارى، أي : إنهم لم يشربوا خمرا، ولكن أذهلهم هول الموقف، وشدة الهول والعذاب.
وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ.
أي : إن الذي جعل الناس سكارى ذاهلين في سكر معنوي، بدون سبب حسي للسكر، هو شدة عذاب الله في هذا اليوم، فشدة العذاب هي التي أذهلت عقولهم، وأذهبت تمييزهم، وقد يكون المراد من ذهول المرضع، ووضع الحامل، ضرب المثل لشدة الأمر وبلوغه أقصى الغايات، كما يؤول به أيضا قوله تعالى : فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاء مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا * إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا. ( المزمل : ١٧ – ١٩ ).
ملحق بتفسير الآيتين :
- ذهب بعض المفسرين إلى أن هذه الزلزلة قبل قيام الناس من قبورهم، فهي مثل أشراط الساعة أو علاماتها.
قال تعالى : إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا. إلى آخر السورة
وقال تعالى : وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ. ( الحاقة : ١٤، ١٥ ).
قال ابن كثير :
فقال قائلون : هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا، وأول أحوال الساعة. عن علقمة في قوله : إن زلزلة الساعة شيء عظيم. قال : قبل الساعة. وقال عامر الشعبي : هذا في الدنيا قبل يوم القيامة.
وقال آخرون : بل ذلك هول وفزع وزلزال كائن يوم القيامة، في العرصات بعد القيام من القبور، واختار ذلك ابن جرير الطبري، واحتجوا بالأحاديث.
منها : ما ورد في الصحيحين عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إنكم تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلا، قالت عائشة : يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض، قال : إن الأمر أعظم من أن ينظر بعضهم إلى بعض )iv.
وفي مسند الإمام أحمد، عن عائشة قالت : قلت : يا رسول الله، هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة ؟
قال :( يا عائشة، أما عند ثلاث فلا : أما عند الميزان حتى يثقل أو يخف فلا، وأما عند تطاير الكتب، إما يعطى كتابه بيمينه وإما بشماله فلا، وأما عند المرور على الصراط حتى ينجو إلى الجنة أو يقع في النار فلا )v.
وعند التأمل نجد أنه يمكن الجمع بين الرأيين الأول والثاني، بأن أهوال القيامة تبدأ مع أشراط الساعة، وتستمر في الموقف والحساب والميزان والصراط وجميع مشاهد القيامة، نسأل الله السلامة ودخول الجنة، والنجاة من النار. اللهم آمين.
سبب النزول :
أخرج ابن أبي حاتم أن هذه الآيات نزلت في النضر بن الحارث، وكان جدلا يقول : الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، ولا يقدر الله على إحياء من بلى وصار ترابا.
التفسير :
٣ - وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ.
وبعض الناس يجادل في وجود الله، وفي قدرته على البعث والحشر والجزاء، ويجادل في صفات الله بغير بينة أو دليل، وإنما اتباعا للشيطان والهوى، والنزوة والكبرياء الباطلة، ورغم أن الآية نزلت في النضر بن الحارث، إلا أنها عامة في كل من يجادل في الله وصفاته، وما يجب له وما يجوز بغير علم.
وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ.
المريد : المتجرد للفساد، العاري عن الخير، فهو في جبروته وظلمه وعناده، تابع للشيطان، الذي يوسوس له بالشرك، ويزين له عبادة الأصنام، وشرب الخمر ولعب الميسر، ونحو ذلك.
أخرج ابن أبي حاتم أن هذه الآيات نزلت في النضر بن الحارث، وكان جدلا يقول : الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، ولا يقدر الله على إحياء من بلى وصار ترابا.
٤ - كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ.
فهو حتم مقدور أن يضل تابعه من الهدى إلى الضلال، ويخرجه من النور إلى الظلمات، ويرشده إلى الضلال، ويزين له الغواية والفجور، وسلوك سبيل المعاصي والآثام، التي توبقه في جهنم وبئس القرار.
وخلاصة ذلك :
أنه يضله في الدنيا، ويقوده في الآخرة إلى عذاب السعير، والأصل في الهدى أن يكون في الخير، بيد أن القرآن تهكم بهذا الكافر، وبقائده وهو الشيطان، فسمى قيادته هداية وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ. فيالها من هداية، إنها قيادة إلى الضلال المهلك المبيد.
تمهيد :
بينت الآيات مراحل نمو الجنين في بطن أمه، والمراحل التي يمر بها الطفل، من ولادته إلى أن يصبح فتى ثم ناشئا، ثم شابا، ثم رجلا، ثم كهلا ثم شيخا... وبعض الناس يموت قبل أن يدرك هذه المراحل، وبعضهم يصل إلى أرذل العمر، فتضعف الذاكرة، ويغلب النسيان، وما يحدث للإنسان، يحدث للأرض الهامدة، إذا نزل عليها الماء، فتجد فيها الحياة والبهجة، والزروع الناضرة البهيجة، فالله سبحانه وتعالى حق، وهو الخالق الرازق، المحيي المميت، والقيامة حق، والبعث حق، وكذلك الحساب والجزاء.
التفسير :
٥ - يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ...
الريب : الشك.
النطفة : أصل النطفة الماء العذب، ويراد بها هنا : ماء الرجل.
العلقة : القطعة الجامدة من الدم.
المضغة : القطعة من اللحم بقدر ما يمضغ.
الأجل المسمى : هو حين الوضع.
الطفل : يكون للواحد والجمع.
الأشد : القوة.
أرذل العمر : أدنؤه، وأردؤه.
هامدة : ميتة يابسة، من قولهم : همدت الأرض، إذا يبست ودرست، وهمد الثوب : بلى.
اهتزت : اهتز نباتها وتحرك.
ربت : ازدادت وانتفخت، لما يتداخلها من الماء والنبات.
زوج : صنف.
بهيج : حسن سار للناظرين.
تأتي هذه الآية، لترد على المشركين في إنكارهم للبعث، فتضرب أمامهم مثالين، هما حياة الإنسان وحياة الزرع، ووراء كل ذلك يد القدرة، ومعنى الآية : يا أيها الناس إن كنتم في شك من بعثنا لكم بعد الموت، ففي خلقنا لكم الدليل على قدرتنا على البعث، فلقد خلقنا أصلكم من تراب، وهو آدم عليه السلام، ثم جعلنا منه نطفة هي ماء الرجل، الذي ينطلق إلى الرحم، وبه ملايين الحيوانات المنوية، ثم يتم الإخصاب بين حيوان واحد من الرجل، وحيوان واحد من المرأة، حيث يتم تلقيح الخلية، فتصبح بعده قطعة جامدة، تعلق بجدار الرحم، وتسمى علقة، لشدة تعلقها وتشبثها بجدار الرحم، ثم تتحول العلقة إلى قطعة من اللحم، مصورة فيها معالم الإنسان، وكل صفاته من اللون بدرجاته، والطول أو القصر، والذكاء ونسبته، وسائر الأجهزة الهضمية، والعصبية، واللمفاوية، والحسية، والإدراكية، أو غير مصورة وهي السقط الذي لم تنفخ فيه الروح.
ويحتمل أن المعنى : ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ.
المخلقة : التامة الخلقة السالمة من العيوب.
غير المخلقة : الناقصة في العقل أو الذكاء أو الجوارح.
وقيل مخلقة : نفخت فيها الروح.
وغير مخلقة : لم تنفخ فيها الروح.
لنبين لكم. قدرتنا القادرة، وأن وراء خلق الإنسان، قدرة كاملة، حيث تجعل أصغر الحيوانات المنوية، يحمل خصائص كاملة من الوراثة.
أو لنبين لكم قدرتنا على الإبداع، والتدرج في التكوين.
وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا.
ونسقط من الأرحام ما نشاء، ونبقى فيها ما نشاء، حتى تكمل مدة الحمل، ثم نخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا، ثم نرعاكم لتبلغوا تمام العقل والقوة، ومنكم بعد ذلك من يتوفاه الله، ومنكم من يمد له عمره حتى يصير إلى الهرم والخرف، فيتوقف علمه وإدراكه للأشياء، ومن بدأ خلقكم بهذه الصورة البديعة المتكاملة، لا تعجزه إعادتكم.
وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ.
وأمر آخر يدلكم على قدرتنا، هو أنك ترى الأرض قاحلة يابسة، فإذا أنزلنا عليها الماء، دبت فيها الحياة، وتحركت وزادت، وارتفع سطحها بما تخلله من الماء والهواء، وأظهرت من أصناف النباتات ما يروق منظره، ويبهر حسنه، وتبتهج لمرآه، والآية تأخذ بأيدينا إلى إبداع القدرة الإلهية، في تكوين الجنين في بطن أمه، ومراحل حياته، ووجوده في هذه الدنيا، ونهايته وموته، وكذلك الأرض وخصوبتها، وحياتها بالمطر والنبات، فإن الذي أحيا الإنسان، وأحيا الأرض، قادر على البعث والحشر والجزاء والثواب والعقاب، قال تعالى : وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. ( الروم : ٢٧ ).
في أعقاب الآية :
أشارت الآية إلى سبع مراحل يمر بها الإنسان :
١. أصلنا من التراب، والمنى متولد من الماء والتراب والغذاء.
٢. النطفة وهي الحيوان المنوي من الذكر الذي يلقح البويضة، عند الأنثى، ثم يستقر بعد ذلك في الرحم.
٣. العلقة التي تعلق بجدار الرحم.
٤. المضغة المخلقة التامة الحواس، فتصير تامة الصورة لمعالم الجسم، أو ناقصة التصوير والمعالم.
جاء في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( يجمع خلق أحدكم في بطن أمه، أربعين يوما نطفة، ثم أربعين يوما علقة، ثم أربعين يوما مضغة، ثم يبعث الملك فينفخ فيه الروح )vi.
وقد اتفق العلماء على أن نفخ الروح الحركية في الجنين، يكون بعد مائة وعشرين يوما، أي بعد تمام أربعة أشهر.
قال ابن عباس :
وفي العشر بعد الأشهر الأربعة ينفخ فيه الروح، فذلك عدة المتوفى عنها زوجها، أربعة أشهر وعشرة أيام.
٥ - ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا. حيث ينزل الجنين طفلا مكتمل الحواس، صالحا للنمو شيئا فشيئا.
٦ - ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ. تتكامل القوة البدنية والعقلية، حتى يصل الإنسان إلى حد الكمال في عنفوان الشباب، مرورا بمرحلة الطفولة والناشئة والفتوة ثم الشباب.
٧- مرحلة الشيخوخة والوصول إلى أرذل العمر والضعف، ومن الناس من يموت قبل هذه المرحلة، أوقبل المراحل السابقة عليها.
قال تعالى : اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ. ( الروم : ٥٤ ).
فالله سبحانه القادر على تكوين الجنين، وتطوير خلقته في بطن أمه، وتطوير حياته من الضعف إلى القوة ثم الضعف، هو سبحانه القادر على إعادة خلقه وإحيائه بعد موته، كما يحي الأرض بعد موتها وهو على كل شيء قدير.
وقريب من هذا المعنى ما ورد في صدر سورة المؤمنون قال تعالى : وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ. ( المؤمنون : ١٢، ١٦ ).
بينت الآيات مراحل نمو الجنين في بطن أمه، والمراحل التي يمر بها الطفل، من ولادته إلى أن يصبح فتى ثم ناشئا، ثم شابا، ثم رجلا، ثم كهلا ثم شيخا... وبعض الناس يموت قبل أن يدرك هذه المراحل، وبعضهم يصل إلى أرذل العمر، فتضعف الذاكرة، ويغلب النسيان، وما يحدث للإنسان، يحدث للأرض الهامدة، إذا نزل عليها الماء، فتجد فيها الحياة والبهجة، والزروع الناضرة البهيجة، فالله سبحانه وتعالى حق، وهو الخالق الرازق، المحيي المميت، والقيامة حق، والبعث حق، وكذلك الحساب والجزاء.
٦ - ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
الحق : الثابت الذي يحق ثبوته.
وأنه يحيي الموتى : يقدر على إحيائها، كما أحيا النطفة والأرض الميتة.
وأنه على كل شيء قدير : لأن قدرته لذاتها، فمن قدر على إحياء بعض الأموات لزم اقتداره على إحياء كلها.
أي : ذلك المذكور الذي بينته لكم، من خلق الإنسان والحيوان، والنبات، وانتقال كل مخلوق من حال إلى حال، بسبب أن الله هو الحق الثابت، الذي لا شك فيه، وهو القادر على إحياء الموتى وبعثهم من قبورهم، كما أحيا الجنين في بطن أمه، وكما أحيا الأرض بعد موتها، وهو سبحانه على كل شيء قدير، فلا يعظم عليه شيء، لأنه الإله الحق، وما سواه كالأصنام لا ينفع ولا يضر ولا يسمع ولا يجيب، وتأتي هذه الآية، بمثابة الدليل والتأكيد، على قدرة الله على البعث والحشر، وعلى امتداد قدرته لتشمل كل شيء، حيث كان كفار مكة ينكرون البعث، ويستكثرون عودة الأجسام بعد موتها وتفتتها، وشمول البلى لها، فبين القرآن أن قدرة الله لا حدود لها، وأن الله الذي أوجد الإنسان من العدم، قادر على إعادة خلقه، قال تعالى :
وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. ( يس : ٧٨، ٧٩ ).
بينت الآيات مراحل نمو الجنين في بطن أمه، والمراحل التي يمر بها الطفل، من ولادته إلى أن يصبح فتى ثم ناشئا، ثم شابا، ثم رجلا، ثم كهلا ثم شيخا... وبعض الناس يموت قبل أن يدرك هذه المراحل، وبعضهم يصل إلى أرذل العمر، فتضعف الذاكرة، ويغلب النسيان، وما يحدث للإنسان، يحدث للأرض الهامدة، إذا نزل عليها الماء، فتجد فيها الحياة والبهجة، والزروع الناضرة البهيجة، فالله سبحانه وتعالى حق، وهو الخالق الرازق، المحيي المميت، والقيامة حق، والبعث حق، وكذلك الحساب والجزاء.
٧ - وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ.
لا ريب فيها : لا شك.
أي : ذلك الذي تقدم من خلق الإنسان، وإنبات الزرع، شاهد على قدرة الله تعالى، وعلى أن الساعة التي وعدكم بها آتية لا شك فيها، حيث يبعث الله الموتى ويخرجهم من قبورهم، أحياء إلى الموقف للحساب.
وخلاصة ذلك :
أن القادر على البدء قادر على الإعادة، فالإنسان يمر بمراحل متعددة في هذه الحياة، لكنها ليست دار جزاء، فلا بد من حياة أخرى يستكمل الإنسان بها رحلته، وتحقق التوازن والتكامل مع الحياة الدنيا، وتجعل هذا الخلق لحكمة عليا، هي الابتلاء والاختبار في الدنيا، ثم الحساب والجزاء في الآخرة، ولذلك فالساعة آتية لا شك في قدومها، والله سيبعث الموتى من قبورهم للحساب والجزاء، حتى تكتمل الحكمة الإلهية من هذا الخلق، فأفعاله تعالى مبنية على الحكم الباهرة، والغايات السامية.
قال تعالى : أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ. ( المؤنون : ١١٥، ١١٦ ).
التفسير :
٨ - وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ.
الهدى : الاستدلال والنظر الصحيح، الموصل إلى المعرفة.
الكتاب المنير : الوحي المظهر للحق.
تكلم في الآية الثالثة عن الأتباع والضعفاء المقلدين، وتكلم في هذه الآية عن القادة المتجبرين مثل أبي جهل، وقد أنذره الله بالذل والهوان فقتل يوم بدر، أو مثل النضر بن الحارث، الذي قتل أيضا يوم بدر، ومعظم المفسرين على هذا كالآية الثالثة.
ومعنى الآية :
وبعض الناس يجادل في الله تعالى وصفاته وتوحيده وأفعاله، بلا عقل صحيح ولا نقل صريح بل بمجرد الرأي والهوى، فهو لا يستند إلى المعلومات الصحيحة، ولا إلى هدايات السماء، ولا إلى كتب الوحي والرسالات التي تنير عقله وقلبه، وتوضح له سبيل الرشاد.
ثانى عطفه : لاويا جانبه متكبرا مختالا، ونحوه تصعير الخد، ولى الجيد.
الخزي : الهوان والذل.
عذاب الحريق : عذاب النار التي تحرق داخليها.
هذا نموذج للبطر والكبر والغطرسة، لقد تحدثت الآية الثامنة عن جهله بالعلوم، وبهدايات السماء، وبكتب الله.
ثَانِيَ عِطْفِهِ.
أي : أمال جانبه كبرا وتيها، كما قال تعالى في وصية لقمان لابنه : ولا تصعر خدك للناس...
( لقمان : ١٨ ).
أي : لا تتكبر عليهم تيها وعجبا.
لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ.
فهو جاهل مغرور متكبر يرشد الناس إلى الضلال، ولم يكتف بإضلال نفسه، بل يحاول إضلال الناس وصرفهم عن طريق الهدى والرشاد، وحملهم إلى طريق الكفر والفساد.
لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ.
إن عقاب هذا المتكبر هو خزي الدنيا وهوانها، فلا بد أن ينزل به ما يستحقه ولو بعد حين، وقد قتل أبو جهل يوم بدر، وكذلك النضر بن الحارث، وغيرهما من صناديد الشرك، أما في الآخرة فإنه يذوق عذاب الإحراق، ويصطلى بنار جهنم.
أي : تقول له الملائكة : إن هذا الخزي والعذاب، بسبب ما قدمت من الكبر والضلالة، فأنت تستحق العذاب والإحراق في نار جهنم، وهذا العذاب عقاب عادل مناسب لك، والله تعالى لا يظلم مثقال ذرة، فهو سبحانه عادل رحيم، يجازي على السيئات، ويضاعف الحسنات.
قال تعالى : إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا. ( النساء : ٤٠ ).
قال سبحانه في مثل هذا المعنى : خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ * ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ * إِنَّ هَذَا مَا كُنتُم بِهِ تَمْتَرُونَ. ( الدخان : ٤٧ – ٥٠ ).
وقال سبحانه : ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ( النجم : ٣١ ).
تمهيد :
تفيد هذه الآيات أن من الناس فريقا ألف النفاق والتظاهر، فهو يدخل في الإسلام من باب التجربة، والنظر إلى المكاسب التي تصيبه، فإذا كثرت زراعته وربح مالا، ورزق ولدا ذكرا، وأصاب رزقا واسعا، قال : هذا دين خير ؛ فاستمر فيه، وإن اختبره الله بالفقر أو المرض، أو موت ابن له أو حبيب، قال : هذا دين شر ؛ فارتد عنه.
التفسير :
١١ - وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.
على حرف : على طرف لا ثبات له فيه.
خير : سعة في المال وكثرة في الولد.
فتنة : بلاء ومحنة في نفسه أو أهله أو ماله، فعله : فتنه يفتنه فتنة : أي : اختبره وعذبه.
انقلب على وجهه : ارتد وكفر، وهو من الكنايات.
خسر الدنيا والآخرة : ضيعهما، إذ فاته فيهما ما يسره.
ومن الناس من يعبد الله متشككا متخوفا من الإسلام، فهو أشبه بالجندي الذي يكون في طرف الجيش، إذا أصابت الجيش هزيمة كان أول الفارين، وإذا أحرز الجيش نصرا، انضم إليه وأكد تمسكه بالاستمرار معه.
فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ.
روى القرطبي عن ابن عباس قال :
كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاما، وأنتجت خيله، قال : هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته، ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء. وقد أخرجه البخاري في صحيحه، وورد ذلك في مختصر تفسير ابن كثير.
فهو رجل نفعي كأنما العقيدة عنده سلعة، تعرض في حساب الربح والخسارة، فإذا استفاد مغنما من الدنيا، ثبت على إسلامه، وإذا امتحنه الله في ماله أو ولده أو نفسه : انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ. أي ارتد عن الدين وعاد إلى الكفر، وهي كناية تصور هذا الإنسان كالفار من الميدان، قد ولى وانتكس، وارتد بوجهه مدبرا وعاد من حيث جاء.
خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ.
فلم يربح غنيمة ولا نصرا، ولا تفوقا في قتال عدو، أو جهاد نفس، بل عاد من حيث أتى، فدخل في الإيمان قليلا ثم انهزم وارتد، فخسر موقعه في الدنيا، وخسر أيضا ثوابه في الآخرة، لأن الله يعطي الجزاء للمخلصين الصادقين، وهو فاسد العقيدة، يتظاهر بالإسلام، وقلبه غير راسخ في دين الله.
ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.
هذا هو الخسران الواضح الذي لا خسران مثله.
قال ابن كثير : هذه هي الخسارة العظيمة والصفقة الخاسرة.
تفيد هذه الآيات أن من الناس فريقا ألف النفاق والتظاهر، فهو يدخل في الإسلام من باب التجربة، والنظر إلى المكاسب التي تصيبه، فإذا كثرت زراعته وربح مالا، ورزق ولدا ذكرا، وأصاب رزقا واسعا، قال : هذا دين خير ؛ فاستمر فيه، وإن اختبره الله بالفقر أو المرض، أو موت ابن له أو حبيب، قال : هذا دين شر ؛ فارتد عنه.
١٢ - يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنفَعُهُ.
يدعو من دون الله : يعبد من دون الله.
أي : يعبد من دون الله آلهة أخرى كالأصنام والأوثان المخلوقين، الذين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، فضلا عن أن يملكوه لغيرهم.
ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ.
ذلك هو الضلال الموغل في الضلالة، البعيد جدا عن طريق الصواب، شبه حالهم بحال من أبعد في التيه ضالا عن الطريق.
تفيد هذه الآيات أن من الناس فريقا ألف النفاق والتظاهر، فهو يدخل في الإسلام من باب التجربة، والنظر إلى المكاسب التي تصيبه، فإذا كثرت زراعته وربح مالا، ورزق ولدا ذكرا، وأصاب رزقا واسعا، قال : هذا دين خير ؛ فاستمر فيه، وإن اختبره الله بالفقر أو المرض، أو موت ابن له أو حبيب، قال : هذا دين شر ؛ فارتد عنه.
١٣ - يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ.
المولى : الناصر.
العشير : الصاحب والمعاشر.
إن بعض الناس عبد الفراعنة، فقد تأله فرعون وقال : أنا ربكم الأعلى. ( النازعات : ٢٤ ).
وقال : ما علمت لكم من إله غيري :( القصص : ٣٨ ).
وهذا العابد غلب النفع المادي على النفع الأخروي، فعبد من له جاه أو مال أو مملكة، ليستفيد في الدنيا، مع أن هذا المعبود ضرره أكثر من نفعه، فنفعه في الدنيا قليل، ومهما أغدق من النعم على من عبده في الدنيا، فمتاع الدنيا قليل، بالنسبة إلى العذاب الأليم والضرر البليغ الذي ينتظر من آثر الدنيا على الآخرة، وفي يوم القيام يصيح العابد في وجه من عبده، ويقول له : بئس الولي أنت، وبئس الصاحب أنت، فقد خذلتني وتركتني ألقى مصيري.
وخلاصة ذلك : أي عشير هذا، وأنا ناصر ذاك، الذي لا ينفع ولا ينصر من يعاشره ؟ والله لبئس العشير، ولبئس النصير.
التفسير :
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ.
لما ذكر فيما سبق أهل الضلالة، ذكر في هذه الآية أهل السعادة، فالله تعالى يدخلهم جنات وبساتين تجري من تحتها أنهار اللبن والعسل والماء العذب النظيف، إن الله تعالى يفعل ما يشاء، فيكافئ الطائع بفضله، ويعاقب العاصي بعدله، وهو سبحانه : فعال لما يريد. ( البروج : ١٦ )، فلا راد لأمره، ولا معقب لإرادته، لأنه لا إله سواه.
التفسير :
١٥ - مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ.
بسبب : بحبل.
إلى السماء : إلى سقف بيته، وكل ما علاك سماء.
ثم ليقطع : ثم ليختنق، من قطع، بمعنى اختنق – كذا فسره ابن عباس – ولعلهم أطلقوا القطع عليه لما فيه من قطع النفس، وهذا كقولهم في المثل العامي :( اشرب البحر ) للدلالة على عدم الفائدة من الفعل.
فلينظر : فليقدر في نفسه النظر.
كيده : فعله.
ما يغيظ : أي غيظه، والمعنى : هل يذهبن كيده في عدم نصرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم غيظه، أي : فليختنق غيظا منها فلا بد منها.
أي : من كان يظن أن الله لن ينصر محمدا صلى الله عليه وآله وسلم في الدنيا والآخرة، أو لن ينصر دينه وكتابه ورسالته ورسوله، فليذهب فليقتل نفسه، إن كان ذلك غائظه فإن الله ناصره لا محالة.
والمقصود : إن الله ناصر دينه وكتابه ورسوله لا محالة، فليفعل أهل الغيظ ما شاءوا.
وفي معنى هذه الآية يقول الله تعالى : إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ. ( غافر : ٥١، ٥٢ ).
قال في التفسير الوسيط بإشراف الأزهر، ما خلاصته :
إن الله ناصر رسوله، ومن كان يغيظه هذا النصر فليبالغ في استفراغ الجهد، فغاية أمره خيبة مساعيه، وقد وضع مقام هذا الجزاء قوله تعالى : فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ. لغرض التحدي والتهكم.
ومعناه : فليمدد بحبل إلى سقف بيته ثم ليختنق بهذا الحبل، الذي وضعه غلا في عنقه، فلينظر وليتأمل : هل يشفيه من الغيظ قتله نفسه حسرة، على نصرة الله لرسوله ؟ ١ه.
فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ.
قال عطاء الخراساني : فلينظر هل يشفي ذلك، ما يجد في صدره من الغيظ.
وقال أبو جعفر النحاس :
من أحسن ما قيل في هذه الآية أن المعنى : من كان يظن أن الله لن ينصر محمدا، وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه، فليطلب حيلة يصل بها إلى السماء، ثم ليقطع النصر إن تهيأ له ذلك، ثم لينظر هل يذهبن كيده وحيلته ما يغيظه من نصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؟ والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا، لم يصل إلى قطع النصر. ١ه.
أي : ومثل ذلك الإنزال البليغ الواضح : أنزلنا القرآن آيات بينات الدلالة على معانيها الحكيمة، وتوجيهاتها السديدة.
وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ.
وإرادة الله قد قررت سبق الهدى والضلال، فمن طلب الهدى تحققت إرادة الله بهدايته، وفق سنته، وكذلك من طلب الضلال، إنما يفرد هنا حالة الهدى بالذكر، بمناسبة ما في الآيات من بيان يقتضي الهدى في القلب السليم.
التفسير :
١٧ - إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.
الذين هادوا : اليهود.
الصابئين : قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى القبلة، ويقرءون الزبور، وفي كتب الملل والنحل للشهرستاني : أن الصابئة كانوا على عهد إبراهيم عليه السلام، ويقال لمقابليهم الحنفاء، وعمدة مذهبهم تعظيم النجوم ثوابتها وسياراتها.
المجوس : قوم يعبدون الشمس والقمر والنار، ويقولون : إن هناك إلهين اثنين للخير والشر، وهما النور والظلمة.
والذين أشركوا : عبدة الأصنام والأوثان، فالأديان ستة : خمسة للشيطان، وواحد للرحمان.
يفصل بينهم : يقضي بإظهار المحق من المبطل.
شهيد : عالم بكل الأشياء ومراقب لها.
إن علم الله ومعرفته ورؤيته ومشاهدته شاملة لكل شيء، وهو بكل شيء عليم، وهو سبحانه مطلع وشاهد لأحوال هذه الفرق كلها، وسيجازي كل فرقة بما تستحق، فيكافئ الذين آمنوا بالله بدخول الجنة، ويعاقب الذين كفروا بالله، بدخول النار، فإنه تعالى شهيد على أعمالهم، حفيظ لأقوالهم وأفعالهم، عليم بسرائرهم، وما تكن ضمائرهم.
تمهيد :
تفيد الآية أن جميع العوالم خاضعة لقدرة الله، وسلطانه طوعا وكرها.
التفسير :
١٨ - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء.
ألم تر : ألم تعلم.
يسجد له : يخضع له بما يراد منه، وهو السجود بالتسخير والانقياد لإرادته تعالى، وهناك سجود بالاختيار وهو خاص بالإنسان، وبه يستحق الثواب، وسجود بالتسخير والانقياد لإرادته سبحانه، وهو دال على الذلة والافتقار إلى عظمته جلت قدرته.
من في السماوات : هم الملائكة.
ومن في الأرض : هم الإنس والجن.
وكثير من الناس : ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة، فهو فاعل فعل مضمر.
وكثير حق عليه العذاب : وكثير منهم ثبت له العذاب وهم الكافرون.
ومن يهن الله : يجعله شقيا.
فما له من مكرم : فما له أحد يكرمه ويسعده.
إن الله يفعل ما يشاء : من الإهانة والإكرام.
ألم تشاهد أيها العاقل أن هذا الكون بكل ما فيه، خاضع لله خضوع القهر والغلبة، فقد سخر الله هذا الكون وأبدع نظامه، وهو دال على وجود الخالق وعظمته، ويسجد لله من في السماوات : من الملائكة والأبراج والأفلاك وغيرها، ومن في الأرض : من الإنسان والجن وغيرهما، ويسجد له أيضا : الشمس في مسارها وحركتها، والقمر في سيره واختفائه، والنجوم في ظهورها واختفائها، والجبال تسجد خاضعة، والشجر يسجد لله، والحيوانات تسجد سجود تذلل وخضوع، وكثير من الناس المؤمنين يسجدون لله سجود عبادة، عن عقل وإرادة، وكثير من الناس كفار جحدوا عبادته والسجود له، فحق عليهم العذاب الدنيوي بالشقاء، والأخروي في جهنم وبئس المصير.
ومن يهن الله بإبعاده عن الهداية، والطمس عل قلبه، فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ. فلن يستطيع أحد إسعاده أو إكرامه.
إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء.
مما تقتضيه حكمته وعدله، فلا معقب لحكمه، ولا معارض لمشيئته.
ملحق بتفسير الآية :
- أفرد الشمس والقمر والنجوم والجبال و الشجر والدواب بالذكر، مع دخولها في عموم من يسجد لله تعالى، في السماوات والأرض، لأن الناس عبدوها مع الله، مع أنها مخلوقة له، وخاضعة لأحكامه.
قال تعالى : وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ. ( فصلت : ٣٧ ).
وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( أتدري أي تذهب هذه الشمس ؟ ) قلت : الله ورسوله أعلم. قال :( فإنها تذهب فتسجد تحت العرش، ثم تستأمر فيوشك أن يقال لها ارجعي من حيث جئت )vii.
وهذا الحديث يدل على خضوع الشمس لأمر الله، فإنها تستأذن عند الغروب أن تسجد لله فيؤذن لها، ثم تستأذن الله في الشروق فيؤذن لها، وعند قيام الساعة تستأذن في الشروق أو الغروب فلا يؤذن لها، فذاك قيام الساعة وطلوع الشمس من مغربها، وهو رمز لاختلال نظام الكون ونهاية الحياة الدنيا.
وقد أورد ابن كثير في تفسير هذه الآية طائفة من الأحاديث النبوية من بينها ما يأتي :
أخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إن الشمس والقمر خلقان من خلق الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله عز وجل إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له )viii.
والكسوف والخسوف ظاهرتان طبيعيتان، تدلان على أن كل شيء في هذا الكون له نظام محكم مرتب، سخره الله ويسره، وهذا رمز تجلى الله لهذه المخلوقات، أي تقديره لها وتسييره لها بالنظام الدقيق، وأما الجبال والشجر فسجودهما بفيء ظلالهما عن اليمين و الشمائل.
- روى الترمذي وابن ماجة وابن حبان، عن ابن عباس قال :
جاء رجل فقال : يا رسول الله إني رأيتني الليلة وأنا نائم كأني أصلي خلف شجرة، فسجدت، فسجدت الشجرة لسجودي، فسمعتها وهي تقول : اللهم اكتب لي بها عندك أجرا، وضع عني بها وزرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود. قال ابن عباس : فقرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سجدة ثم سجد، فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرةix.
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد لها ؛ اعتزل الشيطان يبكي يقول : يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار )x.
سبب النزول :
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن أبي ذر قال : نزلت هذه الآية : هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. في حمزة وعبيدة وعلي بن أبي طالب، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة، أي الفريقين اللذين قاما بالمبارزة، في بداية معركة بدرxi.
وأخرج الحاكم عن علي بن أبي طالب قال : فينا نزلت هذه الآية، وفي مبارزتنا يوم بدر.
وأخرج الحاكم من وجه آخر، عن علي قال : نزلت في الذين بارزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس : أنها نزلت في أهل الكتاب.
قالوا : للمؤمنين : نحن أولى بالله منكم، وأقدم كتابا، ونبينا قبل نبيكم، فقال المؤمنون : نحن أحق بالله منكم، آمنا بمحمد وبنبيكم، وبما أنزل الله من كتاب.
وقد اختار ابن جرير الطبري وابن كثير : أن المراد بهذه الآية : الجدال بين المؤمنين والكافرين، وهذا الرأي يشمل الأقوال كلها، وتنتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عز وجل، والكافرين يريدون إطفاء نور الإيمان، وخذلان الحق وظهور الباطلxii.
ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فحمل الآية على أنها جدال بين المؤمنين والكافرين أولى. لأنه يمكن أن يندرج فيه، النقاش بين المسلمين وأهل الكتاب، وأن تندرج تحته المبارزة بين المسلمين والكافرين يوم بدر، وكل ما يثار من جدال بين المؤمنين والكافرين إلى يوم الدين.
تمهيد :
تتحدث الآيات عن جزاء الكافرين في العذاب، وعن جزاء المؤمنين في النعيم.
التفسير :
١٩ - هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ.
خصمان : الخصم المخاصم، مذكرا أو مؤنثا، مفردا أو مثنى أو جمعا، وهو من له رأي غير رأيك في موضوع ما، وكل منهما يحاج صاحبه.
اختصموا في ربهم : وقع الجدال بينهم في شأن ربهم.
قطعت لهم : قدرت لهم.
الحميم : الماء الحار، الذي بلغت حرارته أقصى الغاية.
تنازع الكافرون والمؤمنون في الله وصفاته وآلائه، وما يجب له من الكمالات، وما يستحيل عليه من النقص. أما الكافرون فهم فرق متعددة، منهم من نسب لله ولدا، ومنهم من عبد النجوم أو الشمس أو النار أو الأصنام والأوثان، وهذا الفريق كله سيدخل جهنم، وتفصل لهم ثياب من النار، ويصب الماء الحار شديد الغليان فوق رءوسهم، فينفذ من الجمجمة إلى بطونهم، فيحرقهم من الباطن كما يحرقهم من الظاهر، وهذه ألوان من العذاب مرعبة مفزعة، والتعبير ب ثياب للإشارة إلى تراكم طبقات النار المحيطة بهم، وكون بعضها فوق بعض، وفي آية أخرى يقول القرآن الكريم : سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ * لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. ( إبراهيم : ٥٠، ٥١ ).
فالعذاب متنوع، والذل ظاهر، والهوان ملازم لأهل النار جزاء كفرهم وجحودهم.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن أبي ذر قال : نزلت هذه الآية : هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. في حمزة وعبيدة وعلي بن أبي طالب، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة، أي الفريقين اللذين قاما بالمبارزة، في بداية معركة بدرxi.
وأخرج الحاكم عن علي بن أبي طالب قال : فينا نزلت هذه الآية، وفي مبارزتنا يوم بدر.
وأخرج الحاكم من وجه آخر، عن علي قال : نزلت في الذين بارزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس : أنها نزلت في أهل الكتاب.
قالوا : للمؤمنين : نحن أولى بالله منكم، وأقدم كتابا، ونبينا قبل نبيكم، فقال المؤمنون : نحن أحق بالله منكم، آمنا بمحمد وبنبيكم، وبما أنزل الله من كتاب.
وقد اختار ابن جرير الطبري وابن كثير : أن المراد بهذه الآية : الجدال بين المؤمنين والكافرين، وهذا الرأي يشمل الأقوال كلها، وتنتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عز وجل، والكافرين يريدون إطفاء نور الإيمان، وخذلان الحق وظهور الباطلxii.
ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فحمل الآية على أنها جدال بين المؤمنين والكافرين أولى. لأنه يمكن أن يندرج فيه، النقاش بين المسلمين وأهل الكتاب، وأن تندرج تحته المبارزة بين المسلمين والكافرين يوم بدر، وكل ما يثار من جدال بين المؤمنين والكافرين إلى يوم الدين.
تمهيد :
تتحدث الآيات عن جزاء الكافرين في العذاب، وعن جزاء المؤمنين في النعيم.
٢٠ - يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ.
يصهر به : يذاب به.
أي : إن الحميم يصب فوق رءوسهم ؛ فينزل إلى باطنهم فيحرقهم من الباطن كما يحرق جلودهم من الظاهر.
قال الإمام الفخر الرازي :
والغرض أن الحميم إذا صب على رءوسهم كان تأثيره في الباطن مثل تأثيره في الظاهر، فيذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم.
قال تعالى : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم. ( محمد : ١٥ ).
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن أبي ذر قال : نزلت هذه الآية : هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. في حمزة وعبيدة وعلي بن أبي طالب، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة، أي الفريقين اللذين قاما بالمبارزة، في بداية معركة بدرxi.
وأخرج الحاكم عن علي بن أبي طالب قال : فينا نزلت هذه الآية، وفي مبارزتنا يوم بدر.
وأخرج الحاكم من وجه آخر، عن علي قال : نزلت في الذين بارزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس : أنها نزلت في أهل الكتاب.
قالوا : للمؤمنين : نحن أولى بالله منكم، وأقدم كتابا، ونبينا قبل نبيكم، فقال المؤمنون : نحن أحق بالله منكم، آمنا بمحمد وبنبيكم، وبما أنزل الله من كتاب.
وقد اختار ابن جرير الطبري وابن كثير : أن المراد بهذه الآية : الجدال بين المؤمنين والكافرين، وهذا الرأي يشمل الأقوال كلها، وتنتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عز وجل، والكافرين يريدون إطفاء نور الإيمان، وخذلان الحق وظهور الباطلxii.
ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فحمل الآية على أنها جدال بين المؤمنين والكافرين أولى. لأنه يمكن أن يندرج فيه، النقاش بين المسلمين وأهل الكتاب، وأن تندرج تحته المبارزة بين المسلمين والكافرين يوم بدر، وكل ما يثار من جدال بين المؤمنين والكافرين إلى يوم الدين.
تمهيد :
تتحدث الآيات عن جزاء الكافرين في العذاب، وعن جزاء المؤمنين في النعيم.
٢١ - وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ.
مقامع : جمع مقمعة كمكنسة، وهي الأعمدة من الحديد يضرب بها.
ولهم أعمدة من الحديد يضربون بها من خزنة جهنم، على سبيل التعذيب والإهانة والإذلال.
روى الإمام أحمد، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها )xiii.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن أبي ذر قال : نزلت هذه الآية : هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. في حمزة وعبيدة وعلي بن أبي طالب، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة، أي الفريقين اللذين قاما بالمبارزة، في بداية معركة بدرxi.
وأخرج الحاكم عن علي بن أبي طالب قال : فينا نزلت هذه الآية، وفي مبارزتنا يوم بدر.
وأخرج الحاكم من وجه آخر، عن علي قال : نزلت في الذين بارزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس : أنها نزلت في أهل الكتاب.
قالوا : للمؤمنين : نحن أولى بالله منكم، وأقدم كتابا، ونبينا قبل نبيكم، فقال المؤمنون : نحن أحق بالله منكم، آمنا بمحمد وبنبيكم، وبما أنزل الله من كتاب.
وقد اختار ابن جرير الطبري وابن كثير : أن المراد بهذه الآية : الجدال بين المؤمنين والكافرين، وهذا الرأي يشمل الأقوال كلها، وتنتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عز وجل، والكافرين يريدون إطفاء نور الإيمان، وخذلان الحق وظهور الباطلxii.
ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فحمل الآية على أنها جدال بين المؤمنين والكافرين أولى. لأنه يمكن أن يندرج فيه، النقاش بين المسلمين وأهل الكتاب، وأن تندرج تحته المبارزة بين المسلمين والكافرين يوم بدر، وكل ما يثار من جدال بين المؤمنين والكافرين إلى يوم الدين.
تمهيد :
تتحدث الآيات عن جزاء الكافرين في العذاب، وعن جزاء المؤمنين في النعيم.
٢٢ - كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ.
عذاب الحريق : عذاب الاحتراق، ويكون بالغليظ من النار.
إن العذاب في جهنم شديد أليم ؛ فتهوى بهم جهنم وترفع.
قال الحسن :
إن النار تضربهم بلهبها فترفعهم، حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاxiv.
إن العذاب له ألوان متعددة منها الحسي ومنها المعنوي، ومن هذا العذاب المعنوي شدة الغم والحزن، وكلما أراد أهل النار الخروج منها من شدة غمها ردوا إلى أماكنهم فيها ؛ ويقال لهم من خزنة جهنم : وذوقوا عذاب الحريق. أي : ذوقوا عذاب جهنم المحرق الذي كنتم به تكذبون.
هذه ألوان العذاب الحسي والمعنوي : فالثياب من نار، والحميم الذي اشتد غليانه يصب فوق رءوسهم، فيذيب أمعاءهم وجلودهم، والسياط الحديدية تقمعهم وتذلهم، والهوان والغم يحيط بهم، فإذا حاولوا الخروج من النار أعيدوا فيها، وقيل لهم توبيخا وإذلالا : ذوقوا عذاب الإحراق في جهنم، عقوبة على كفركم وعنادكم.
ومن شأن القرآن أن يقرن بين عذاب الكافرين ونعيم المؤمنين، تسرية للنفوس ومقابلة بين الأضداد، وبضدها تتميز الأشياء.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن أبي ذر قال : نزلت هذه الآية : هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. في حمزة وعبيدة وعلي بن أبي طالب، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة، أي الفريقين اللذين قاما بالمبارزة، في بداية معركة بدرxi.
وأخرج الحاكم عن علي بن أبي طالب قال : فينا نزلت هذه الآية، وفي مبارزتنا يوم بدر.
وأخرج الحاكم من وجه آخر، عن علي قال : نزلت في الذين بارزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس : أنها نزلت في أهل الكتاب.
قالوا : للمؤمنين : نحن أولى بالله منكم، وأقدم كتابا، ونبينا قبل نبيكم، فقال المؤمنون : نحن أحق بالله منكم، آمنا بمحمد وبنبيكم، وبما أنزل الله من كتاب.
وقد اختار ابن جرير الطبري وابن كثير : أن المراد بهذه الآية : الجدال بين المؤمنين والكافرين، وهذا الرأي يشمل الأقوال كلها، وتنتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عز وجل، والكافرين يريدون إطفاء نور الإيمان، وخذلان الحق وظهور الباطلxii.
ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فحمل الآية على أنها جدال بين المؤمنين والكافرين أولى. لأنه يمكن أن يندرج فيه، النقاش بين المسلمين وأهل الكتاب، وأن تندرج تحته المبارزة بين المسلمين والكافرين يوم بدر، وكل ما يثار من جدال بين المؤمنين والكافرين إلى يوم الدين.
تمهيد :
تتحدث الآيات عن جزاء الكافرين في العذاب، وعن جزاء المؤمنين في النعيم.
٢٣ - إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ.
من أساور : جمع أسورة، وهي جمع سوار، فالأساور جمع الجمع، وهي حلية تلبسها النساء في معاصمها.
ولؤلؤا : هو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف.
الحرير : هو المحرم لبسه على الرجال في الدنيا.
تصف الآية نعيم الجنة، ومن أعلى ألوان هذا النعيم، أنه من عند الله ؛ فالدخول في الجنة بفضل الله ورحمته ومنته ونعمائه.
وهذا معنى : إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ... ( الحج : ١٤ ).
فهم قد آمنوا وعملوا الأعمال الصالحة، والله سبحانه تفضل عليهم فأدخلهم الجنان والبساتين ؛ التي تجري الأنهار من تحتها، وتلبسهم الملائكة أساور من ذهب وأساور من لؤلؤ ؛ للتزين والتجمل ؛ كما يلبسون الحرير في الجنة، لأن الله حرمه على الرجال في الدنيا ؛ وأحله للنساء، فيلبس المؤمنون حريرا ناعما حسن اللون والصنف، أغلى وأعلى كثيرا من حرير الدنيا.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن أبي ذر قال : نزلت هذه الآية : هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ. في حمزة وعبيدة وعلي بن أبي طالب، وعتبة وشيبة والوليد بن عتبة، أي الفريقين اللذين قاما بالمبارزة، في بداية معركة بدرxi.
وأخرج الحاكم عن علي بن أبي طالب قال : فينا نزلت هذه الآية، وفي مبارزتنا يوم بدر.
وأخرج الحاكم من وجه آخر، عن علي قال : نزلت في الذين بارزوا يوم بدر : حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث، وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس : أنها نزلت في أهل الكتاب.
قالوا : للمؤمنين : نحن أولى بالله منكم، وأقدم كتابا، ونبينا قبل نبيكم، فقال المؤمنون : نحن أحق بالله منكم، آمنا بمحمد وبنبيكم، وبما أنزل الله من كتاب.
وقد اختار ابن جرير الطبري وابن كثير : أن المراد بهذه الآية : الجدال بين المؤمنين والكافرين، وهذا الرأي يشمل الأقوال كلها، وتنتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عز وجل، والكافرين يريدون إطفاء نور الإيمان، وخذلان الحق وظهور الباطلxii.
ولأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فحمل الآية على أنها جدال بين المؤمنين والكافرين أولى. لأنه يمكن أن يندرج فيه، النقاش بين المسلمين وأهل الكتاب، وأن تندرج تحته المبارزة بين المسلمين والكافرين يوم بدر، وكل ما يثار من جدال بين المؤمنين والكافرين إلى يوم الدين.
تمهيد :
تتحدث الآيات عن جزاء الكافرين في العذاب، وعن جزاء المؤمنين في النعيم.
٢٤ - وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ.
الطيب من القول : ما يقع في محاورة أهل الجنة بعضهم بعضا.
صراط الحميد : الصراط المحمود في آداب المعاشرة والاجتماع.
لقد وفق الله أهل الجنة إلى الكلام الحسن، والرد الجميل، وذكر الله وشكره، وحمد آلائه، كما هداهم إلى الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى الجنة.
وهناك رأيان في تفسير هذه الآية :
الأول : أن ذلك في الدنيا ؛ أي : هداهم الله إلى كلمة التوحيد في الدنيا ؛ وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وذكر الله وطاعته، والكلام اللين الحسن ؛ كما هداهم إلى الإسلام والإيمان والطريق المحمود.
الثاني : أن ذلك في الآخرة ؛ وهذا هو الرأي الأرجح، لأن السياق في الحديث عن أهل الجنة، فهم يشكرون الله على ذهاب الحزن عنهم، وعلى دخولهم الجنة، وهم يذكرون الله حيث يلهمهم الله ذكره كما يلهمهم التنفس، قال تعالى : وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ. ( فاطر : ٣٤، ٣٥ ).
قال الشوكاني في تفسير فتح القدير :
وهدوا إلى الطيب من القول.
أي : أرشدوا إليه، قيل : هو لا إله إلا الله، وقيل : القرآن، وقيل : هو ما يأتيهم من الله من بشارات، وقد ورد في القرآن ما يدل على هذا القول المجمل هنا، وهو قوله سبحانه : وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ * وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ. ( الزمر : ٧٣، ٧٤ ).
وقال سبحانه وتعالى :
وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ. ( الأعراف : ٤٢ – ٤٤ ).
وهذه الآيات تؤيد رأي من يرى أن أهل الجنة لهم عمل هو : الذكر، والحمد لله، والشكر لله، ومناقشة أصحاب النار، وهي أعمال كلها تناسب نعيم الجنة، في استمرار الترقي والعبادة والشكر والذكر ؛ وهذه العبادة تصدر منهم كما يصدر التنفس أي : بدون تكلف أو إجهاد.
سبب النزول :
قال ابن عباس :
نزلت هذه الآية في أبي سفيان بن حرب وأصحابه ؛ حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه عام الحديبية عن المسجد الحرام، وقد كره عليه الصلاة والسلام أن يقاتلهم، وكان محرما بعمرة، ثم صالحوه على أن يعود في العام المقبل.
التفسير :
٢٥ - إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.
المسجد الحرام : المراد به : مكة، وعبر بالمسجد الحرام عن مكة، لأنه المقصود المهم منها.
العاكف : المقيم.
البادي : الطارئ القادم عليها.
الإلحاد : العدول عن الاستقامة.
بظلم : بغير حق بأن ارتكب منهيا عنه.
نذقه من عذاب أليم : يتلقى بعض العذاب المؤلم، وهو جواب الشرط ل من يرد، ويفهم خبر إن من قوله : نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.
تعرض الآية النزاع بين المسلمين والكفار ؛ وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد رأى في منامه أنه دخل المسجد الحرام معتمرا، فأخبر أصحابه بذلك، وساق الهدى، فلما اقترب من مكة منعته قريش من دخول مكة معتمرا، ثم تم الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل مكة ؛ على أن يرجع هذا العام، ثم يأتي في العام القادم معتمرا ؛ كما اتفقا على وضع الحرب بين الفريقين عشر سنين، ثم فتحت مكة في العام الثامن من الهجرة.
وتصور الآية عنت المشركين فتقول : إن الذين كفروا بالله ورسوله، ويمنعون الناس عن الدخول في الإسلام، كما يمنعون المسلمين من أداء العمرة حول المسجد الحرام، مع أن هذا المسجد منطقة أمان، والناس جميعا يعظمونه ويحجون إليه ويعتمرون، سواء أكانوا عاكفين أي : مقيمين من أهل مكة، أو قادمين من البادية ؛ كل هؤلاء يحق لهم أداء المناسك، وتعظيم هذا البيت.
ومن تعظيم البيت الحرام، أن الله ضاعف الثواب والأجر للمقيم حول البيت، كما ضاعف العذاب والعقاب لمن ارتكب إثما حول البيت. أو عزم على ارتكاب الإثم، وإن لم يقرن ذلك بالتنفيذ.
والأصل في ذلك ما ورد في الحديث الصحيح :( أن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك : فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، وإن هم بها فعملها كتبت له عشر حسنات، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء، وإن هم بسيئة فعملها كتبت عليه سيئة واحدة )xv.
وهذا في الحياة العامة، لكن عندما يكون الإنسان في المسجد الحرام ؛ يعاقب على الهم أو العزم بعمل سيئة، وإن لم يقرن ذلك بالتنفيذ ؛ فيعاقب على مجرد العزم على الشر بالمسجد الحرام.
من محاسن الإسلام
أقام الإسلام منطقة أمان وسلام بالمسجد الحرام والحرم المحيط به، هذه المنطقة يحرم فيها القتال والعدوان، حتى لو وجد الإنسان قاتل أبيه بالمسجد الحرام ؛ لا يمد يده إليه بسوء.
قال تعالى : وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاء الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ.
أي : جعلناه للناس على العموم، يصلون فيه، ويطوفون به ويحترمونه، ويستوي تحت سقفه من كان مقيما في جواره، وملازما للتردد عليه، ومن كان زائر له، وطارئا عليه من أهل البوادي، أو من أهل البلاد الأخرى سوى مكة ؛ فهذا المسجد الحرام يتساوى فيه عباد الله، فلا يملكه أحد منهم، ولا يمتاز فيه أحد منهم، بل الكل فوق أرضه وتحت سقفه سواء.
وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.
قال مجاهد : بظلم. يعمل فيه عملا سيئا.
وقال ابن أبي حاتم :
وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي في الشر إذا كان عازما عليه وإن لم يوقعه، والفقرة عامة تشمل جميع أنواع المعاصي والظلم.
قال ابن جرير الطبري :
وأولى الأقوال بالصواب : قول من قال : إن المراد بالظلم في هذا الموضع كل معصية لله، وذلك لأن الله عم بقوله : وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ. ولم يخصص به ظلما دون ظلم ؛ في خبر ولا عقل، فهو على عمومه، وتأويل الكلام : ومن يرد في المسجد الحرام بأن يميل بظلم فيعصى الله فيه نذقه يوم القيامة من عذاب موجع له. ١ه.
والخلاصة :
أن الآية عامة تشمل كل أنواع المعصية، ويختص الحرم بعقوبة من هم فيه بسيئة وإن لم يعملها، كما أن الله تعالى جعل الحرم مفتوحا ومنسكا لكل الناس ؛ أي : الذين يقع عليهم اسم الناس، من غير فارق بين حاضر وباد، ومقيم وطارئ، ومكي وآفاقي.
من تفسير ابن كثير :
اختلف الفقهاء في أرض مكة : هل تملك وتباع وتوهب وتورث وتؤجر، أم لا ؟
فذهب أبو حنيفة وإسحاق بن راهويه ؛ إلى أنه لا يجوز بيع دور مكة ولا إجارتها، مستدلين بهذه الآية، وبما رواه ابن ماجة والدارقطني عن علقمة بن نضلة ؛ قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر وعمر ؛ وما ترعى رباع مكة إلا السوائب ؛ من احتاج سكن، ومن استغنى أسكن فكأنها محمية آمنة يلجأ إليها أهل الحواضر والبوادي ؛ فسيكونون ويأمنون.
قال عبد الله بن عمرو : لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها.
وقال : من أكل من أجر بيوت مكة شيئا فإنما يأكل نارا.
وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر، واستشهد بأن عمر بن الخطاب، اشترى من صفوان بن أمية دارا بمكة ؛ فجعلها سجنا بأربعة آلاف درهم.
وتوسط الإمام أحمد فقال : دور مكة تملك وتورث ؛ ولا تؤجر ؛ جمعا بين الأدلة
تمهيد :
تفيد الآيات منزلة البيت العتيق، فقد هدى الله إبراهيم الخليل، إلى مكان البيت، وأمره أن يدعو الناس إلى الحج مشاة وركبانا، ويمكن للحاج أن يؤدي المناسك فيحظى بالثواب والرضوان، ويمكنه أن يمارس التجارة في أيام الحج، وأن يتعرف إلى إخوانه المسلمين من قارات الدنيا ؛ وبذلك يجمع بين المنافع الدينية والدنيوية.
التفسير :
٢٦ - وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ.
وإذا بوأنا : واذكر إذ عيناه وبيناه.
مكان البيت : الكعبة ليبنيه، وكان قد رفع من زمن الطوفان في عهد نوح.
وطهر بيتي : من الأوثان والأقذار لمن يطوف به ويصلى فيه.
والقائمين : المقيمين به.
والركع السجود : المصلين. جمع راكع وساجد.
واذكر حين أرشدنا إبراهيم وألهمناه، مكان البيت ليبنيه للعبادة، وأنزلناه فيه.
وقال الزجاج : المعنى بينا له مكان البيت ليبنيه، ويكون مباءة له ولعقبه، يرجعون إليه ويحجونه.
ويقال : إنه كان مبنيا قبل أن يؤمر إبراهيم ببنائه، ولكنه كان قد درس وفنى من عوادي الزمن، فكشف الله لإبراهيم عن أساسه بما أرسله يومئذ من ريح عاتية أزالت عنه ما كان يطمس معالمه، ويخفى حدوده، ويستر رسومه.
وسياق الآية يفيد أن قواعد البيت كانت مبنية قبل إبراهيم – عليه السلام – وأنه تعالى هداه إليها، وقد روى ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه.
وقال الألوسي في تفسيره :
بنته قريش في الجاهلية وحضر بناءه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكان شابا، ثم بناه عبد الله بن الزبير، ثم الحجاج بن يوسف الثقفي وهو البناء الموجود اليوم.
أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا.
أي : قائلين له، لا تشرك بالله شيئا في العبادة أنت وأبناؤك، كأنه قيل : وحدني في هذا البيت، واجعل العبادة فيه خالصة لوجهي. قال ابن كثير : ابنه على اسمي وحدي.
وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ.
أي : طهر بيتي من الأصنام والأوثان ؛ واجعله خالصا لعبادة الله وحده، من المتوجهين إليه سبحانه ؛ بالعبادة بالطواف والصلاة.
وأهم أركان الصلاة : القيام، والركوع، والسجود. فاكتفى هنا بذكر أهم أركان الصلاة للإشارة إليها، وقد دلت الآية على أن الطواف لا يشرع إلا حول البيت، وأن الاتجاه في الصلاة لا يكون إلا إليه، ما لم يمنع من ذلك مانع.
وفي الآية طعن على من أشرك من قطان البيت، أي : هذا كان الشرط على أبيكم فمن بعده، وأنتم جعلتم فيه الأصنام فدنستموه بها.
تفيد الآيات منزلة البيت العتيق، فقد هدى الله إبراهيم الخليل، إلى مكان البيت، وأمره أن يدعو الناس إلى الحج مشاة وركبانا، ويمكن للحاج أن يؤدي المناسك فيحظى بالثواب والرضوان، ويمكنه أن يمارس التجارة في أيام الحج، وأن يتعرف إلى إخوانه المسلمين من قارات الدنيا ؛ وبذلك يجمع بين المنافع الدينية والدنيوية.
٢٧ - وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ.
أذن : ناد بالحج أي : بالدعوة إليه.
رجالا : مشاة راجلين على الأقدام، جمع راجل، كتاجر وتجار، وقائم وقيام.
الضامر : البعير المهزول الذي أتعبته كثرة الأسفار ويطلق على الذكر والأنثى.
فج عميق : طريق بعيد.
أي : ادع الناس إلى حج بيت الله الحرام ؛ فسوف يلبي دعوتك المشاة والركبان، الذين يركبون الإبل المهزولة من كثرة السفر وبعد الطريق، تأتي هذه الإبل من كل طريق بعيد في أقطار الدنيا.
قال ابن عباس :
لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له : أذن في الناس بالحج، قال : يا رب، وما يبلغ صوتي ؟ قال : أذن وعلي الإبلاغ، فصعد إبراهيم على جبل أبي قبيس وصاح : يا أيها الناس إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة، ويجيركم من عذاب النار فحجوا، فأجابه من كان في أصلاب الرجال، وأرحام النساء : لبيك اللهم لبيكxvi.
قال القرطبي :
ورد الضمير إلى الإبل يأتين تكرمة لها لقصدها الحج مع أربابها، كما قال : والعاديات ضبحا. ( العاديات : ١ ) في خيل الجهاد ؛ تكرمة لها حين سعت في سبيل الله.
تفيد الآيات منزلة البيت العتيق، فقد هدى الله إبراهيم الخليل، إلى مكان البيت، وأمره أن يدعو الناس إلى الحج مشاة وركبانا، ويمكن للحاج أن يؤدي المناسك فيحظى بالثواب والرضوان، ويمكنه أن يمارس التجارة في أيام الحج، وأن يتعرف إلى إخوانه المسلمين من قارات الدنيا ؛ وبذلك يجمع بين المنافع الدينية والدنيوية.
٢٨ - لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ.
ليشهدوا : ليحضروا.
منافع لهم : منافع دينية في الآخرة، ودنيوية بالتجارة.
أيام معلومات : قيل : عشرة ذي الحجة، أو يوم عرفة. أو يوم عيد النحر ويومان بعده وهي أيام التشريق،
بهيمة الأنعام : الإبل والبقر والضأن، التي تنحر في يوم العيد وما بعده من الهدايا والضحايا.
فكلوا منها : من لحومها، وهذا في المتطوع به، المستحب دون الواجب.
البائس الفقير : أي : الذي أصابه بؤس أي : شدة، والفقير المحتاج، والأمر فيه للوجوب.
جعل الله الحج لشهود منافع متعددة، تعود على الحجيج في شئون دينهم ودنياهم : فهم يشاهدون البيت العتيق، وزمزم، والمقام، والصفا والمروة، وجبل عرفات وجبل الرحمة، ومنى ومزدلفة، وغيرها من الأماكن والمشاهد، التي نزل وحي السماء بجوارها.
ويدعون الله تعالى، ويؤدون مناسك الحج والعمرة، وهناك ترق القلوب وتسكب العبرات، وتستجاب الدعوات.
وفي الحج منافع كثيرة أخرى، منها : تبادل التجارة، والوقوف على أحوال المسلمين في أقطار الدنيا، وتبادل الخبرة والمعرفة، وانتقال العلوم والفنون والآداب بالتزاور والتجاور، والحج وسيلة من وسائل ترابط المسلمين ؛ وتكاتفهم لتحرير بلادهم ورقيها، وتخليص بلاد المسلمين من براثن الاستعمار والتجسس.
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ.
أي : ويذكروا اسم الله تعالى في أيام الحج، عند ذبح الهدى من الإبل والبقر والغنم والماعز. والأيام المعلومات هي أيام عشر ذي الحجة، وأيام العيد الثلاثة أو الأربعة، أي : يوم العيد ويومان بعده، أو يوم العيد وثلاثة أيام بعده.
عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ.
على ما أعطاهم وملكهم من بهيمة الأنعام ؛ فيذكرون الله عند ذبحها ويقولون باسم الله والله أكبر.
قال فخر الدين الرازي :
وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي ذكر اسمه تعالى عند الذبح، وأن نخالف المشركين في ذلك، فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان.
فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ.
فيسن الأكل من الهدي والأضحية، مشاركة للآكلين، وإقناعهم بسلامتها، والأكل هنا للإباحة أو الندب أو الوجوب، ففيه عدة آراء، أما إطعام الفقراء والبائسين فهو للوجوب.
قال ابن عباس :
البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير الذي لا يكون كذلك، ثيابه نقية، ووجهه وجه غني.
تفيد الآيات منزلة البيت العتيق، فقد هدى الله إبراهيم الخليل، إلى مكان البيت، وأمره أن يدعو الناس إلى الحج مشاة وركبانا، ويمكن للحاج أن يؤدي المناسك فيحظى بالثواب والرضوان، ويمكنه أن يمارس التجارة في أيام الحج، وأن يتعرف إلى إخوانه المسلمين من قارات الدنيا ؛ وبذلك يجمع بين المنافع الدينية والدنيوية.
٢٩ - ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ.
ليقضوا : ليزيلوا.
تفثهم : أوساخهم، وشعثهم، والمراد هنا : قص الشعور وتقليم الأظافر.
النذور : ما ينذر من أعمال البر في الحج.
العتيق : القديم لأنه أول بيت وضع للناس.
تأتي هذه الآية في أعقاب مناسك الحج، والمحرم بالحج لا يستطيع أن يقص شعره ولا يقلم ظفره ؛ بل هو في منطقة سلام وأمان وعبادة، فإذا أتم المناسك يوم عيد الأضحى، وفيه أربعة أعمال :
رمي جمرة العقبة، ذبح الهدي، الحلق أو التقصير، الطواف بالبيت العتيق – فإن الله يبيح له التحلل من الإحرام بأن يقص شعره ويقلم أظافره، وينتف إبطه، ويهتم بنظافة نفسه، امتثالا لأمر الله.
جاء في تفسير ابن كثير عن ابن عباس :
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ. قال : هو وضع الإحرام من حلق الرأس، ولبس الثياب وقص الأظافر، ونحو ذلك.
وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ.
وليوفوا بما ينذرونه من أعمال البر في حجهم، والوفاء بالنذر واجب مطلقا، وليس مختصا بالحج، ولكن الوفاء به في الحج أحق وآكد.
وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ.
أي : طواف الإفاضة ويسمى طواف الزيارة، وهو واجب أو ركن من أركان الحج، فللحج ركنان أساسيان :
١ – الوقوف بعرفة.
٢ – طواف الإفاضة.
قال العلماء : الحج وقفة بعرفة، وطواف بالبيت ؛ وقيل المراد به : طواف الوداع.
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس : أن آخر المناسك الطواف بالبيت العتيق وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه لما رجع إلى منى يوم النحر، بدأ برمي جمرة العقبة فرماها بسبع حصيات، ثم نحر هديه، وحلق رأسه، ثم أفاض فطاف البيت.
وفي الصحيحين : عن ابن عباس أنه قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض.
والبيت العتيق : أي : القديم لأنه أول بيت وضع للناس، أو لأن الله أعتقه فلم يظهر عليه جبار قط، ولم يرده أحد بسوء إلا هلك، أو لأن الله أعفاه من البلى والدثور، فلا يزال معمورا منذ إبراهيم – عليه السلام – ولن يزال.
تلك قصة بناء البيت الحرام، وذلك أساسه الذي قام عليه.
بيت أمر الله خليله – عليه السلام – بإقامته على التوحيد، وتطهيره من الشرك، وأمره أن يؤذن في الناس بالحج إليه، ليشهدوا منافع متعددة ؛ في رؤية أماكن سعى فيها إبراهيم الخليل حين بنى البيت، وحين أمر بذبح إسماعيل، وحين ترك هاجر تسير مسرعة بين الصفا والمروة.
وهناك ذكريات عن ميلاد محمد خاتم النبيين، ومشاركته في بناء البيت في الجاهلية، ودعوته إلى الله، ثم فتح مكة، وتحطيم الأصنام من حول البيت الحرام، وأداء مناسك الحج، وفي الحج ذكر اسم الله تعالى – لا أسماء الآلهة المدعاة – عند ذبح بهيمة الأنعام.
والحجاج يأكلون من الهدي ويطعمون الفقراء والبؤساء، فالبيت الحرام، حرمات الله فيه مصونة، وأولاها عقيدة التوحيد، وفتح أبوابه للطائفين والقائمين والركع السجود، إلى جانب حرمة الدماء، وحرمة العهود والمواثيق، وحرمة الهدنة والسلام.
تمهيد :
الكلام هنا مرتبط بما قبله، فقد ذكر فيما سبق تكليف إبراهيم بدعوة الناس إلى الحج لشهود المنافع المتعددة.
وهنا أبان ثواب تعظيم حرمات الله وثواب أداء مناسك الحج، وبين أن ذبح الأنعام وأكلها حلال إلا ما حرم عليكم، وأنه يجب اجتناب عبادة الأوثان وترك شهادة الزور، وأن من يشرك بالله فقد هلك، ثم أوضح كون تعظيم الشعائر من علائم التقوى ودعائمها، وأن محل نحرها هو الحرم المكي.
التفسير :
٣٠ - ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ.
ذلك : الأمر هكذا، ويقع للفصل بين كلامين أو بين وجهي كلام واحد، كقوله تعالى : هذا وإن للطاغين لشر مئاب.
حرمات الله : الحرمات : التكاليف الدينية من مناسك الحج وغيرها.
تعظيمها : العلم بوجودها والعمل على موجب ذلك.
فاجتنبوا الرجس من الأوثان : الرجس : كل شيء يستقذر، ويراد به الأوثان، وهي أصنام من حجر أو خشب أو غيرهما.
الزور : الكذب.
أي : ذلك التشريع الذي سبق بيانه، يجب تعظيمه، ومن يعظم تكاليف الله وشرائعه، بعلمه بقداستها، وعلمه بمقتضى هذا العلم، فهذا التعظيم خير له عند ربه حيث يثيبه عليه ثوابا عظيما في أخراه، ولا يحرمه من فضله في دنياه.
وخص بعضهم ذلك بمناسك الحج، وقال آخرون : هي عامة في تعظيم جميع الحرمات، واتباع المأمورات، واجتناب المنهيات.
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ.
أي : أحل الله لكم لحوم الأنعام بعد ذبحها ؛ وهي الإبل والبقر والغنم والماعز.
إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ. أي : إلا ما حرمه الله عليكم في الكتاب المجيد : كالميتة، والمنخنقة، والموقوذة، وقد ورد ذلك في الآية الثالثة من سورة المائدة حيث قال سبحانه : حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ...
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ.
أي : فابتعدوا عن عبادة الأوثان ؛ وهي الأصنام التي كانت العرب تتخذها من الأحجار أو الأخشاب أو الذهب أو الفضة ونحوها، ويعبدونها إشراكا وكفرا ؛ وقد جعل الله هذه العبادة رجسا أي : شركا وكفرا ؛ ونجاسة وقذارة معنوية ؛ حيث يعبد الإنسان العاقل حجرا أو صنما.
وكلمة الرجس تذكر في القرآن لكل عمل شائن بغيض ؛ قال تعالى : إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. ( المائدة : ٩٠ ).
أي : ذنب وإثم ونجاسة وقذارة معنوية.
قال ابن كثير :
فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ.
أي : اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان، كما تجتنب الأنجاس.
وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ.
واجتنبوا شهادة الزور، وقد قرن القرآن النهي عن قول الزور بالنهي عن الشرك وعبادة الأوثان ؛ لما لقول الزور من أسوأ الأثر في إثارة العداوات، وغرس الأحقاد، وتفتيت الجماعات.
وفي الصحيحين عن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ قلنا : بلى يا رسول الله ؛ قال : الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس فقال : ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت )xvii.
وأخرج الإمام أحمد في المسند، عن خريم بن فاتك الأسدي قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الصبح فلما انصرف قام قائما، فقال :( عدلت شهادة الزور الإشراك بالله عز وجل ) ثم تلا هذه الآية : فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِxviii.
الكلام هنا مرتبط بما قبله، فقد ذكر فيما سبق تكليف إبراهيم بدعوة الناس إلى الحج لشهود المنافع المتعددة.
وهنا أبان ثواب تعظيم حرمات الله وثواب أداء مناسك الحج، وبين أن ذبح الأنعام وأكلها حلال إلا ما حرم عليكم، وأنه يجب اجتناب عبادة الأوثان وترك شهادة الزور، وأن من يشرك بالله فقد هلك، ثم أوضح كون تعظيم الشعائر من علائم التقوى ودعائمها، وأن محل نحرها هو الحرم المكي.
٣١ - حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ.
حنفاء : واحدهم حنيف، وهو المائل عن كل دين زائغ إلى الدين الحق.
خر : سقط.
الخطف : الاختلاس بسرعة.
تهوى : تسقط.
سحيق : بعيد.
أي : فاجتنبوا في إسلامكم ما نهيتم عنه من عبادة الأوثان، وقول الزور، في حال كونكم مائلين عن كل دين زائغ، وغير مشركين به سبحانه شيئا من الأشياء، فكل ما سواه فهو مخلوق له فلا يصح أن يعبد معه.
وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء.
هذا مثل ضربه الله للمشرك يبين ضلاله وضياعه وهلاكه، وبعده عن الهدى ؛ فالمشرك بمنزلة من سقط من السماء فتمزق إربا إربا ؛ وتناثرت أشلاؤه ؛ وتناولت الطير أجزاءه ؛ فلم تبق له أثرا.
أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ.
أو تشبه حال من عصفت به الريح في مكان بعيد، فكان من الهالكين، وفي كلا التشبيهين تيئيس للكافر من النجاة ؛ حيث لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الهلاك، الذي ينزله الله به في الآخرة.
الكلام هنا مرتبط بما قبله، فقد ذكر فيما سبق تكليف إبراهيم بدعوة الناس إلى الحج لشهود المنافع المتعددة.
وهنا أبان ثواب تعظيم حرمات الله وثواب أداء مناسك الحج، وبين أن ذبح الأنعام وأكلها حلال إلا ما حرم عليكم، وأنه يجب اجتناب عبادة الأوثان وترك شهادة الزور، وأن من يشرك بالله فقد هلك، ثم أوضح كون تعظيم الشعائر من علائم التقوى ودعائمها، وأن محل نحرها هو الحرم المكي.
٣٢ - ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ.
الشعائر : واحدها شعيرة، وهي العلامة، والمراد بها : البدن الهدايا، وتعظيمها أن تختار حسانا سمانا غالية الأثمان.
ذَلِكَ. أي : ذلك ما أوضحه الله لكم من الأحكام والأمثال.
وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ. وهي المواشي التي تذبح هدية للحرم ؛ بأن يختارها جسيمة سمينة غالية الثمن، وشعائر الله تطلق على أحكام الدين، وأوامره ونواهيه، كما تطلق على مناسك الحج، وكذلك تطلق على الأضاحي والهدايا.
فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ. أي : فإن تعظيمها من أفعال المتقين لله.
قال القرطبي :
أضاف التقوى إلى القلوب ؛ لأن حقيقة التقوى في القلب، وفي الحديث :( التقوى ها هنا )xix وأشار صلى الله عليه وآله وسلم إلى صدره.
قال ابن العربي : فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ. الضمير يعود إلى البدن.
من الآثار
روى أنه صلى الله عليه وآله وسلم أهدى مائة بدنة، فيها جمل لأبي جهل في أنفه حلقة من ذهب.
وروى الإمام أحمد وأبو داود : عن عبد الله بن عمر قال : أهدى عمر نجيبا، فأعطى بها ثلاث مائة دينار ؛ فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا رسول الله : إني أهديت نجيا، فأعطيت بها ثلاث مائة دينار، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنا ؟ قال :( لا، انحرها إياها )xx.
وكان ابن عمر يسوق البدن مجللة بالقباطي – ثياب مصرية غالية الثمن – فيتصدق بلحومها وجلالها.
الكلام هنا مرتبط بما قبله، فقد ذكر فيما سبق تكليف إبراهيم بدعوة الناس إلى الحج لشهود المنافع المتعددة.
وهنا أبان ثواب تعظيم حرمات الله وثواب أداء مناسك الحج، وبين أن ذبح الأنعام وأكلها حلال إلا ما حرم عليكم، وأنه يجب اجتناب عبادة الأوثان وترك شهادة الزور، وأن من يشرك بالله فقد هلك، ثم أوضح كون تعظيم الشعائر من علائم التقوى ودعائمها، وأن محل نحرها هو الحرم المكي.
٣٣ - لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمَّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ.
الأجل المسمى : وهو أن تنحر وتذبح.
محلها : مكان نحرها.
إلى البيت العتيق : عنده والمراد : ما يليه ويقرب منه وهو الحرم جميعه.
لكم في هذه الإبل والبقر والغنم وسائر الهدايا، منافع دنيوية من لبنها وصوفها وأوبارها وأشعارها وركوبها.
إِلَى أَجَلٍ مُّسَمَّى.
إلى أن تنحر ويتصدق بلحومها ويؤكل منها.
ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ.
أي : ثم مكان حل نحرها عند البيت الحرام، أي : الحرام جميعه ؛ إذ الحرم كله في حكم البيت الحرام.
أخرج البخاري في تاريخه، والترمذي وحسنه، والحاكم وصححه، وابن جرير الطبري وغيرهم، عن ابن الزبير قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنما سماه الله البيت العتيق، لأنه أعتقه من الجبابرة فلم يظهر عليه جبار قط )xxi.
وإلى هذا ذهب قتادة، وقد قصده تبع ليهدمه فأصابه الفالج، فأشير عليه أن يكف عنه، وقيل : إن له ربا يمنعه فتركه، وهو أول من كساه، وقصده أبرهة فأصابه ما أصابه.
تمهيد :
تفيد الآيتان أن لكل أمة مناسك وذبائح، تذكر بالله حين ذبحها، والشكر له على توفيقه لإقامة هذه الشعائر، فالإله واحد، والتكاليف تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والمصالح، وبعدئذ أمر رسوله أن يبشر المتواضعين الخاشعين لله، الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقناهم، بجنات من تحتها الأنهار.
التفسير :
٣٤ - وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ.
الأمة : الجماعة على مذهب واحد.
المنسك : بكسر السين وفتحها، والنسك في الأصل العبادة مطلقا، وشاع استعماله في أعمال الحج، والمراد به هنا : الذبح وإراقة الدماء على وجه التقرب إليه تعالى.
أسلموا : انقادوا له.
المخبتين : المطيعين الخاشعين المتواضعين.
أي : لكل أمة من الأمم من عهد إبراهيم إلى الآن ؛ ولكل دين من الأديان السابقة، جعلنا لأهله ذبحا يذبحونه تقربا إلى الله تعالى، وذلك ليس خاصا بأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؛ وإنما هو في كل الملل. والصحيح كما قال ابن العربي : أن المنسك ما يرجع إلى العبادة والتقرب، أي : جعلنا لأهل كل ذي دين منسكا وسبيلا وطريقا في العبادة والتقرب إلى الله تعالى.
لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ.
أي : شرعنا لهم سنة ذبح الأنعام ؛ لكي يذكروا اسم الله حين الشروع في ذبحها ؛ ويشكروه على نعمه التي أنعم بها عليهم، وينبغي أن يكون الذبح خالصا لوجهه تعالى.
قال ابن كثير :
يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعا في جميع الملل.
روى الإمام أحمد وابن ماجة، عن زيد بن أرقم قال : قلت : يا رسول الله، ما هذه الأضاحي ؟ قال :( سنة أبيكم إبراهيم، قالوا : ما لنا منها ؟ قال : بكل شعرة حسنة )xxii.
وفي الصحيحين عن أنس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكبشين أملحين أقرنين، فسمى وكبر ووضع رجله على صفاحهماxxiii.
فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ.
فربكم أيها الناس ومعبودكم إله واحد في ذاته، وفي ألوهيته، فأخلصوا له العبادة واستسلموا لحكمه، وانقادوا له في جميع ما كلفكم به.
وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ.
أي : بشر المتواضعين المطيعين بجنات النعيم.
تفيد الآيتان أن لكل أمة مناسك وذبائح، تذكر بالله حين ذبحها، والشكر له على توفيقه لإقامة هذه الشعائر، فالإله واحد، والتكاليف تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والمصالح، وبعدئذ أمر رسوله أن يبشر المتواضعين الخاشعين لله، الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقناهم، بجنات من تحتها الأنهار.
٣٥ - الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ.
وجلت : خافت.
ما أصابهم : من البلايا.
والمقيمين الصلاة : في أوقاتها.
ينفقون : يتصدقون.
تصف الآية المخبتين بأربع صفات وهي :
١. وجل قلوبهم وخوفها وخشيتها عند ذكر الله.
٢. الصبر على المصائب وعدم الهلع أو الجزع.
٣. إقامة الصلاة وأداؤها تامة الأركان في أوقاتها مستكملة الخشوع والخضوع.
٤. أداء الزكاة و العطف على الفقراء و المساكين.
تمهيد :
بعد أن حث سبحانه على التقرب بالأنعام كلها، خص من بينها الإبل ؛ لأنها أعظمها خلقا، وأكثرها نفعا، وأنفسها قيمة.
التفسير :
٣٦ - وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ... الآية
البدن : جمع بدنة ( بالتحريك ) وأصل الجمع ( بدن ) بضم الباء والدال، ثم خفف بتسكين وسطه، وهي الإبل، وكذا البقر كما قيل، وتطلق على الذكر والأنثى.
شعائر الله : جمع شعيرة، أي : علامة، فالبدن من علامات دين الله في الحج.
صواف : أي : قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن استعدادا لنحرها.
وجت جنوبها : سقطت على الأرض، ويراد بذلك : زهقت أرواحها وفقدت الحركة.
القانع : الراضي بما عنده وبما يعطي من غير مسألة، وفعله من باب فرح يفرح، ومصدره القناعة.
والمعتر : المتعرض للسؤال.
سخرناها لكم : ذللناها ومكناكم منها.
يمتن الله سبحانه وتعالى على عباده بتسخير الجمال والنياق لهم ؛ فهي مع بدانتها وقوتها، قد ذللها الله لنا وسخرها لنا ؛ فنركبها ونأكل لحمها، ونشرب لبناها، ونذبحها فلا تفر ولا تمتنع ؛ مع أن بعض الوحوش أقل منها حجما وقوة، ولم يذلل للإنسان، وإذا جمح البعير وند استعصى على الآدمي، وهي حين تساق إلى البيت الحرام، لتذبح في الحرم من شعائر الله، ومعالم الدين والنسك ؛ حيث تساق قربانا لله تعالى، وتذبح عند البيت الحرام في منى ومكة ؛ وفي الحديث الشريف :( فجاج مكة كلها منحر ).
لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ.
جملة من المنافع الدينية والدنيوية : فأنتم تركبون عليها، وتحملون عليها أمتعتكم، وتشربون ألبانها، وتأكلون لحومها، وتقدمونها للهدي أو الأضحية أو التقرب إلى الله تعالى، فلكم فيها طائفة من المنافع الدنيوية والدينية.
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ.
أي : عند إرادة الذبح يقول الذابح : باسم الله، الله أكبر ؛ وبهذا يجمع بين التسمية والتكبير، ويكون النحر للإبل وهي قائمة، قد صففن أيديهن وأرجلهن، وتعقل إحدى يديها ؛ ليسهل وقوعها على الأرض بعد ذبحها.
وقرئ : صوافن. أي : قائمات على ثلاث وتعقل إحدى يديها، وعقل إحدى يديها سنة ؛ فقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما، عن ابن عباس : أنه رأى رجلا قد أناخ بدنته وهو ينحرها ؛ فقال : ابعثها قياما مقيدة، سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلمxxiv.
فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ.
فإذا سقطت على الأرض، وزهقت أرواحها ؛ فأتموا سلخها وتقطيعها، ويباح لكم الأكل منها وإطعام الفقراء القانعين، الذين يمكثون في بيوتهم بدون سؤال، والمتعرضين لكم بالسؤال ؛ سواء طلبوا بألسنتهم، أو بالمرور عليكم صامتين لتطعموهم من لحمها.
والأكل من الهدايا مباح أو مندوب، أما إطعام الفقراء فواجب عند الشافعي ؛ حيث أوجب إطعام الفقراء من الهدي ؛ وذهب أبو حنيفة إلى أن الإطعام مندوب ؛ لأنها دماء نسك، فتحقق القربة منها بإراقة الدم، أما إطعام الفقراء فهو باق على حكمه العام وهو الندب.
كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
هكذا سخرناها لكم وذللناها لكم ؛ لتستفيدوا منها بالركوب والحلب والأكل، والهدي والتقرب بها إلى الله تعالى ؛ لتشكروا إنعامنا عليكم، بالتقرب والإخلاص في أعمالكم.
بعد أن حث سبحانه على التقرب بالأنعام كلها، خص من بينها الإبل ؛ لأنها أعظمها خلقا، وأكثرها نفعا، وأنفسها قيمة.
٣٧ - لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ... الآية
المحسنين : المخلصين.
أي : إنما شرع الله لكم نحر هذه الهدايا والضحايا ؛ لتذكروه عند ذبحها، ولن يصل إليه شيء من لحومها ولا من دمائها، ولكن يصله التقوى والإخلاص، وترفع إليه الأعمال الصالحة.
قال ابن عباس :
كان أهل الجاهلية يضرجون البيت بدماء البدن، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك ؛ فنزلت الآية : لن ينال الله لحومها...
أي : إنه تعالى ليس له حاجة إلى لحومها ودمائها ؛ حتى تضرجوا بها بيته ؛ ولكن يناله التقوى منكم في كل أعمالكم، ومنها إطعام المساكين من لحومها وقد حث النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الإخلاص في الأعمال والقربات، كما جاء في حديث مسلم :( إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم )xxv.
كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ.
أي : مثل هذا التسخير العجيب سخرها لك، وجعلها منقادة خاضعة، فلا تستعصى عليكم مع ضخامتها.
لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ.
لكي تكبروا الله وتعظموه وتقدسوه ؛ بسبب هدايتكم للإيمان.
وقيل : لتكبروا الله عند الذبح، وقد أمروا بالتسمية في قوله تعالى : فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ.
وكان ابن عمر يجمع بينهما إذا نحر هديه فيقول : باسم الله والله أكبر.
وفي الحديث الصحيح، عن أنس قال : ضحى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكبشين أملحينxxvi أقرنين، ورأيته يذبحهما بيديه، ورأيته واضعا قدمه على صفاحهماxxvii وسمى وكبر.
وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ.
المخلصين في أعمالهم بالقيام بها كما شرع الله تعالى من غير من ولا أذى، وعن ابن عباس : هم الموحدون.
قال صاحب الظلال :
وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ.
الذين يحسنون التصور، و يحسنون الشعور، ويحسنون العبادة، ويحسنون الصلة بالله في كل نشاط الحياة، وهكذا لا يخطوا المسلم خطوة، ولا يتحرك حركة، إلا وهو ينظر فيها إلى الله ويجيش قلبه فيها بتقواه، ويتطلع إلى وجهه ورضاه ؛ فإذا الحياة كلها عبادة، تتحقق بها إرادة الله، من خلق العباد، وتصلح بها الحياة في الأرض، وهي موصولة السبب بالسماء.
ملحق بتفسير الآيتين ٣٦، ٣٧ الحج :
البدنة مفرد البدن :
والبدن : تطلق في رأي أبي حنيفة وآخرين من الصحابة والتابعين على الإبل والبقر، روى مسلم، عن جابر رضي الله عنه أنه قال : كنا ننحر البدنة عن سبعة، فقيل : والبقرة ؟ قال : وهل هي إلا من البدن. وقال ابن عمر رضي الله عنهما : لا نعلم البدن إلا من الإبل والبقر.
ومذهب الشافعية : أنه لا تطلق البدن في الحقيقة إلا على الإبل، وإطلاقها على البقر مجاز، فلو نذر بدنة لا تجزئه بقرة. وبدليل قوله تعالى :( صوآف ) و ( وجبت جنوبها ). فنحر الحيوان قائما لم يعهد إلا في الإبل خاصة. ويؤيده ما رواه أبو داود وغيره، عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة )xxviii.
فإن العطف يقتضي المغايرة، وأما قولا جابر وابن عمر المتقدمان ؛ فيحملان على أنهما أرادا اتحاد الحكم فيهما، وهذا هو الظاهر والأصح لغة.
وجاء في تفسير القرطبي ما خلاصته :
تطلق البدنة على الإبل والبقر، وفق ما قاله جمهور العلماء من أن البدنة تجزئ عن سبعة، والبقرة تجزئ عن سبعة ؛ لذلك جعلا في الشريعة جنسا واحدا ؛ لتساويهما في الإجزاء عن عدد متحد ؛ فضلا عن تساويهما تقريبا في البدانة.
وقيل : إن البدن خاص بالإبل، بدليل الحديث الصحيح في يوم الجمعة :( من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة ؛ ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة... )xxix الحديث.
فتفريقه عليه الصلاة والسلام، بين البدنة والبقرة ؛ يدل على أن البقرة لا يقال عنها بدنة ؛ وإن كانت تكفي مثلها عن سبعة، وأيضا قوله تعالى : فإذا وجبت جنوبها. يدل على ذلك ؛ فإن هذا الوصف خاص بالإبل ؛ أما البقر فتضجع وتذبح كالغنم.
سبب النزول :
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ...
روى أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة، وآذاهم الكفار، وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار، ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية.
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ...
أخرج أحمد، والترمذي وحسنه، والنسائي، والحاكم وصححه، وابن سعد، عن ابن عباس قال : خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة، فقال أبو بكر : أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون ! ليهلكن، فأنزل الله : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.
تمهيد :
في آيات سابقة تحدث القرآن عن الحج، فهو نسك من أيام إبراهيم الخليل، بيد أن قريشا عذبت المسلمين واضطرتهم للهجرة إلى الحبشة مرتين، وإلى المدينة، ومنعتهم من أداء عمرة الحديبية، فنزلت هذه اّلآيات تندد بالمشركين، وتأذن للمسلمين في الدفاع عن أنفسهم، وهو حق كفلته الأعراف الدولية، والقوانين الدولية، وتعتبر الآيات قاعدة عامة لمشروعية القتال الدفاعي، وإن نزلت بسبب خاص.
التفسير :
٣٨ – إنَّ الله يدافع عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ.
خوان كفور : الخوان : الكثير الخيانة، والكفور : الشديد الكفر.
تكفل الله بحماية المؤمنين ورعايتهم، فهو سبحانه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه، وأطاعوا أمره، وأنابوا إليه – شر الأشرار وكيد الفجار، ويكلؤهم وينصرهم على أعدائهم، ويكتب لهم الفلاح والنصر.
قال تعالى : إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ. ( غافر : ٥١ ).
وقال تعالى : ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا. ( الطلاق : ٣ ).
إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ.
لقد تأذن الله بالدفاع عن المؤمنين، بسبب خيانة كفار مكة للأمانة، وكفرهم بالله، وصدهم المسلمين عن المسجد عند المسجد الحرام في عمرة الحديبية، مع أن هذا بيت الله، وقد دعا إبراهيم الناس إلى الحج، فلما جاء المسلمون محرمين بالعمرة، صدهم المشركون ظلما وعدوانا، فأعلن الله غضبه على الكافرين، وحبه ودفاعه عن المؤمنين.
والظاهر أن الآية وعد وبشارة للمؤمنين بنصر الله لهم، وتمكينهم من عدوهم، وتهديد للمشركين بقهرهم وخذلانهم، وفيها تمهيد وتوطئة لمشروعية الجهاد.
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ...
روى أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة، وآذاهم الكفار، وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار، ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية.
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ...
أخرج أحمد، والترمذي وحسنه، والنسائي، والحاكم وصححه، وابن سعد، عن ابن عباس قال : خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة، فقال أبو بكر : أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون ! ليهلكن، فأنزل الله : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.
تمهيد :
في آيات سابقة تحدث القرآن عن الحج، فهو نسك من أيام إبراهيم الخليل، بيد أن قريشا عذبت المسلمين واضطرتهم للهجرة إلى الحبشة مرتين، وإلى المدينة، ومنعتهم من أداء عمرة الحديبية، فنزلت هذه اّلآيات تندد بالمشركين، وتأذن للمسلمين في الدفاع عن أنفسهم، وهو حق كفلته الأعراف الدولية، والقوانين الدولية، وتعتبر الآيات قاعدة عامة لمشروعية القتال الدفاعي، وإن نزلت بسبب خاص.
٣٩ - أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.
أذن : رخص.
بأنهم ظلموا : بسبب كونهم مظلومين، بظلم الكافرين إياهم. ذكر الجمل في حاشيته أن هذه أول آية نزلت في الجهاد، بعدما نهي عنه في نيف وسبعين آية.
رخص الله للمؤمنين المعتدى عليهم، بالقتال دفاعا عن أنفسهم، ومحاربة للظالمين، وانتصارا للحق، وتحملا للمكاره في سبيل الله، وفي رأي كثير من المفسرين أن هذه أول آية في القرآن نزلت تأذن بالجهاد، بعدما نهى الله عن القتال في نيف وسبعين آية، والقتال في الإسلام لم يكن للبغي، ولا للعدوان، ولم يكن من أجل مطامع الدنيا، بل كان لعدة أسباب منها :
١ – إزالة طواغيت الكفر من وجه الدعوة، حتى يكون الناس أحرارا، في اعتناق ما يشاءون.
٢ – الدفاع عن النفس، ورد العدوان، وحماية المستضعفين. قال تعالى : وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ. ( الشورى : ٤١، ٤٢ ).
وقال عز شأنه : وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا. ( النساء : ٧٥ ).
لقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤذون في مكة أذى شديدا، ويأتون إليه بين مضروب ومشجوج في رأسه، ويتظلمون إليه فيقول لهم : صبرا صبرا، فإني لم أوذن بالقتال، حتى هاجر إلى المدينة وأنزل الله هذه الآية، وفيها إذن بالجهاد، ووعد بالنصر.
وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.
أي : إن الله قادر على نصر المؤمنين، وهزيمة الكافرين، وقد أنجز الله وعده، فكان النصر حليف المؤمنين في معظم غزواتهم، واستمر الجهاد يحقق البطولات، ويؤيد الحق، ويدحض الظلم، ودخل المسلمون مع نبيهم في ٥٢ غزوة وسرية، أدت إلى انتصار الإسلام في شبه جزيرة العرب، وتتابع الجهاد في حروب الردة، وفي فتوحات العراق والشام ومصر وغيرها من البلاد، وقد حقق الله وعده، ونصر جنده.
وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. ( آل عمران : ١٢٦ ).
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ...
روى أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة، وآذاهم الكفار، وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار، ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية.
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ...
أخرج أحمد، والترمذي وحسنه، والنسائي، والحاكم وصححه، وابن سعد، عن ابن عباس قال : خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة، فقال أبو بكر : أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون ! ليهلكن، فأنزل الله : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.
تمهيد :
في آيات سابقة تحدث القرآن عن الحج، فهو نسك من أيام إبراهيم الخليل، بيد أن قريشا عذبت المسلمين واضطرتهم للهجرة إلى الحبشة مرتين، وإلى المدينة، ومنعتهم من أداء عمرة الحديبية، فنزلت هذه اّلآيات تندد بالمشركين، وتأذن للمسلمين في الدفاع عن أنفسهم، وهو حق كفلته الأعراف الدولية، والقوانين الدولية، وتعتبر الآيات قاعدة عامة لمشروعية القتال الدفاعي، وإن نزلت بسبب خاص.
٤٠ - الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ.
الذين أخرجوا من ديارهم : يعني مكة.
بغير حق : بغير موجب في الإخراج.
إلا أن يقولوا : أي بقولهم.
ربنا الله : وحده. وهذا القول حق، فالإخراج به إخراج بغير حق.
الصوامع : جمع صومعة، وهي معبد خاص برهبان النصارى في الصحراء.
الدير والبيع : جمع بيعة بزنة حرفة، وهي متعبد النصارى عامة.
وصلوات : جمع صلاة، وهي كنيسة اليهود، وأطلق عليها صلاة، لأنهم يصلون فيها، وصلوتا بالعبرية : معبد اليهود.
مساجد : واحدها نسجد وهو معبد المسلمين.
قال ابن عباس :
الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ. أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق، يعني : محمدا وأصحابه.
إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ.
قال ابن كثير :
ما كان لهم إساءة ولا ذنب، إلا أنهم وحدوا الله وعبدوه لا شريك له، كما قال تعالى : يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ. ( الممتحنة : ١ ).
وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود : وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد. ( البروج : ٨ ).
وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا.
خلق الله الإنسان بيده ونفخ فيه من روحه، وأسجد له الملائكة وزوجه حواء، وأودع في الإنسان الصفات والإمكانيات، والاختيار والإرادة، ما يجعله سيد قراره، فهو يختار الهدى بإرادته، أو يختار الضلال بإرادته، وشاء الله أن تكون لهذه الحياة الدنيا نواميس وسنن كونية، ومن هذه النواميس صراع قوى الخير مع قوى الشر، وقد يتغلب الشر حينا، لكن العاقبة للمتقين، من أجل ذلك أنزل الله الكتب، وأرسل الرسل، وشرع الجهاد والنضال، لإيقاف البغي والعدوان، وكأن القرآن يحث المؤمنين على الجهاد والنضال، فقد جرت العادة أنه لا يدفع الشر إلا بمثله، والبادئ أظلم، يقول شوقي :
والشر إن تلقه بالخير ضقت به | ذرعا وإن تلقه بالشر ينسجم |
ولا خير في حلم إذا لم تكن له | بوادر تحمي صفوه أن يكدرا |
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا | مضر كوضع السيف في موضع الندى |
الصوامع : جمع صومعة، وكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى، وعباد الصابئة، والمراد بها هنا : متعبد الرهبان.
البيع : جمع بيعة بوزن كسرة، وهي مصلى النصارى جميعا.
الصلوات : جمع صلاة، وهي كنيسة اليهود.
المساجد : جمع مسجد، وأكثر ما يطلق على مصلى المسلمين.
وقيل : المعنى لولا هذا الدفع لهدمت في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد صلى الله عليه وآله وسلم المساجد.
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا.
قيل : الضمير راجع إلى المساجد لأنها أقرب المذكورات.
وقال الضحاك : الجميع يذكر فيها الله كثيرا.
وقال الطبري :
الصواب لهدمت صوامع الرهبان، وبيع النصارى، وصلوات اليهود – وهي كنائسهم – ومساجد المسلمين، التي يذكر فيها اسم الله كثيرا ؛ لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب.
وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.
إن الله تعالى تكفل بالنصر لمن نصر دينه وشريعته.
قال تعالى : إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ. ( محمد : ٧ ).
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.
فبقوته خلق كل شيء فقدره تقديرا، وبعزته لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب، بل كل شيء ذليل لديه فقير إليه، ومن كان القوي العزيز ناصره فهو المنصور، وعدوه هو المقهور.
قال الله تعالى : وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ. ( الصافات : ١٧١ – ١٧٣ ).
جاء في تفسير المراغي :
وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ
أي : وليعينن من يقاتل في سبيله، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، ولقد أنجز الله وعده ونصر المسلمين على صناديد قريش، وأكاسرة العجم، وقياصرة الروم، وأورثهم أرضهم وديارهم.
ونحو الآية قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ. ( محمد : ٧، ٨ ).
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ...
روى أنها نزلت بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة، وآذاهم الكفار، وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار، ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية.
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ...
أخرج أحمد، والترمذي وحسنه، والنسائي، والحاكم وصححه، وابن سعد، عن ابن عباس قال : خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مكة، فقال أبو بكر : أخرجوا نبيهم، إنا لله وإنا إليه راجعون ! ليهلكن، فأنزل الله : أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ.
تمهيد :
في آيات سابقة تحدث القرآن عن الحج، فهو نسك من أيام إبراهيم الخليل، بيد أن قريشا عذبت المسلمين واضطرتهم للهجرة إلى الحبشة مرتين، وإلى المدينة، ومنعتهم من أداء عمرة الحديبية، فنزلت هذه اّلآيات تندد بالمشركين، وتأذن للمسلمين في الدفاع عن أنفسهم، وهو حق كفلته الأعراف الدولية، والقوانين الدولية، وتعتبر الآيات قاعدة عامة لمشروعية القتال الدفاعي، وإن نزلت بسبب خاص.
٤١ - الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.
ولله عاقبة الأمور : أي : له تعالى مرجعها تدبيرا وحكما.
تفيد الآيات ٣٨ – ٤١ مشروعية الجهاد، والإذن به من الله تعالى للدفاع عن الحرمات، وإزالة طواغيت الكفر، والحفاظ على الإيمان وأهله، فإن من سنن الله أن يدفع ظلم الظالمين، بجهاد المؤمنين، ولولا ذلك لاشتد طغيان الكافرين وهدموا دور العبادة ومعابدها، وقد تكفل الله بنصر المؤمنين، وإكرام المجاهدين.
ثم تعدد الآية ٤١ من سورة الحج صفات هؤلاء المؤمنين الذين يستحقون نصر الله تعالى، وهي :
١ – إقام الصلاة والمحافظة عليها بخشوعها وأركانها في أوقاتها.
٢ – إيتاء الزكاة، ومساعدة المحتاجين وتحقيق التكافل والتراحم.
٣ – الأمر بالمعروف، والحث على الخير والصلاح وطاعة الله تعالى.
٤ – النهي عن المنكر، والتحذير من الشر والفساد والمنكرات ومعصية الله.
وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.
أي : له سبحانه ما تئول إليه أمور الناس من عز وذل، وفقر وغنى، وعلو وانحطاط، قال تعالى : قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء وتذل مت تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير. ( آل عمران : ٢٦ ).
من تفسير مقاتل بن سليمان :
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض.
يقول : لولا أن يدفع الله المشركين بالمسلمين لغلب المشركون فقتلوا المسلمين.
لهدمت. يقول : لخربت صوامع. الرهبان، وبيع. النصارى، وصلوات. اليهود، ومساجد. المسلمين.
يذكر فيها اسم الله كثيرا : كل هؤلاء الملل يذكرون الله كثيرا في مساجدهم، فدفع الله عز وجل بالمسلمين عن هذه الملل، ولينصرن الله على عدوه من ينصره. من يوحده، إن الله لقوي في نصر أوليائه عزيز. يعني : منيع في ملكه وسلطانه، نظيرها في الحديد : وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره... ( الحديد : ٢٥ ). يعني من يوحده. ونظيرها في الأحزابxxx، وهودxxxi.
الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ.
يعني : أرض المدينة، وهم المؤمنون بعد القهر بمكة، ثم أخبر عنهم فقال تعالى :
أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ.
يعني : التوحيد الذي يعرف، ونهوا عن المنكر. الذي لا يعرف وهو الشرك.
وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ.
يعني : عاقبة أمر العباد إليه في الآخرةxxxii.
من تفسير القرطبي :
ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض.
أي : لولا ما شرعه الله تعالى، للأنبياء والمؤمنين من قتال الأعداء، لاستولى أهل الشرك، وعطلوا ما بناه أهل الديانات، من مواضع العبادات، ولكنه دفع بأن أوجب الجهاد، ليفرغ أهل الدين للعبادة، فالجهاد أمر متقدم في الأمم، وبه صلحت الشرائع، واجتمعت المتعبدات، فكأنه قال : أذن في القتال، فليقاتل المؤمنون، ثم قوى هذا الأمر في القتال بقوله :
ولولا دفع الله الناس...
أي : لولا الجهاد والقتال، لتغلب أهل الباطل على أهل الحق في كل أمة.
خلاصة المعنى :
في ختام الآيات نرى أن الجهاد في الإسلام شرع للدفاع عن النفس، وتمكين أصحاب الديانات جميعها من عبادة الله، وتكليف المؤمنين بجهاد الكافرين، لإحقاق الحق وإزهاق الباطل، وتمكين الله للمؤمنين في الأرض، حتى يقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، ثم هم ينصرون المعروف، وينهون عن المنكر، ويحقون الحق ويبطلون الباطل.
تمهيد :
في آيات سابقة أذن الله للمسلمين بالدفاع عن أنفسهم، وفي هذه الآيات تسلية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتوضيح بأنه ليس بأوحدى في تكذيب قومه له، فقد كذبت قبلهم أمم كثيرة، فاستحقوا العذاب والدمار. ومن الواجب أن يعتبروا بهم، ويتعظوا بما أصابهم.
التفسير :
٤٢ - وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ.
إذا كذبك أهل مكة فلا تحزن عليهم، ولا تبخع نفسك حرضا على تكذيبهم، فلست وحدك في هذا المجال، فكثير من الأمم السابقة كذبت أنبياءها، بيد أن الله أمهلهم قليلا، ثم أنزل بهم العذاب الشديد، وفي الحديث الصحيح :( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذهم لم يفلته ) ثم قرأ النبي صلى الله عليه وآله وسلم : وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. xxxiii ( هود : ١٠٢ ).
قال صاحب الظلال :
فهي سنة مطردة في الرسالات كلها، أن يجيء الرسل بالآيات فيكذب بها المكذبون، فليس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بدعا من الرسل حين يكذبه المشركون، والعاقبة معروفة والسنة مطردة. ١ ه.
وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ.
قال مقاتل بن سليمان : يعزي نبيه محمدا صلى الله عليه وآله وسلم، ليصبر على تكذيبهم إياه.
فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ. يعني : قبل أهل مكة.
قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ. كل هؤلاء كذبوا رسلهم.
في آيات سابقة أذن الله للمسلمين بالدفاع عن أنفسهم، وفي هذه الآيات تسلية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتوضيح بأنه ليس بأوحدى في تكذيب قومه له، فقد كذبت قبلهم أمم كثيرة، فاستحقوا العذاب والدمار. ومن الواجب أن يعتبروا بهم، ويتعظوا بما أصابهم.
٤٣ - وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ.
كذبوا رسلهم أيضا.
في آيات سابقة أذن الله للمسلمين بالدفاع عن أنفسهم، وفي هذه الآيات تسلية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتوضيح بأنه ليس بأوحدى في تكذيب قومه له، فقد كذبت قبلهم أمم كثيرة، فاستحقوا العذاب والدمار. ومن الواجب أن يعتبروا بهم، ويتعظوا بما أصابهم.
٤٤ - وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ.
وأصحاب مدين : أهلها، وهم قوم شعيب.
فأمليت : أمهلت.
أخذتهم : أهلكتهم.
فكيف كان نكير : فكيف كان إنكاري عليهم، وعقابي لهم ؟ والاستفهام بكيف للتعجب، مما عاقبهم الله به من الهلاك المدمر.
يعني قوم شعيب عليه السلام كذبوا نبيهم.
وَكُذِّبَ مُوسَى. من فرعون وقومه، فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ. أمهلتهم فلم أعجل عليهم بالعقوبة، لعلهم يرعوون ويثوبون إلى رشدهم.
ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ.
ثم أحللت بهم عقابي، وأهلكتهم بعد انتهاء مدة إمهالهم وإملائهم، عقابا لهم، وإنكارا عليهم، فكيف كان إنكاري عليهم ؟ لقد حولت عمارهم خرابا، وأهلكتهم عن آخرهم، فكذلك أفعل بالمكذبين من أهل مكة، ونحو الآية قوله تعالى : وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. ( هود : ١٠٢ ).
في آيات سابقة أذن الله للمسلمين بالدفاع عن أنفسهم، وفي هذه الآيات تسلية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتوضيح بأنه ليس بأوحدى في تكذيب قومه له، فقد كذبت قبلهم أمم كثيرة، فاستحقوا العذاب والدمار. ومن الواجب أن يعتبروا بهم، ويتعظوا بما أصابهم.
٤٥ - فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ.
فكأين من قرية أهلكناها : فكثير من القرى أهلكنا أهلها، وإيقاع الإهلاك على القرى على سبيل المجاز.
خاوية : ساقطة. من خوى النجم : إذا سقط، أو خالية مع بقاء عروشها وسلامة بنيانها بعدما هلك أهلها، من خوت الدار، تخوى، خواء : إذا خلت من أهلها، وخوى البطن من الطعام.
على عروشها : على سقوفها.
معطلة : عطلت من منافعها لا يستقي منها لهلاك أهلها.
وقصر مشيد : مرفوع البنيان، أو مبني بالشيد، وهو الجص ( الجير ).
كأين. اسم يراد به التكثير، مثل ( كم ) الخبرية، وخاوية : بمعنى ساقطة أو خالية.
ومعنى الآية :
كثير من القرى أهلكناها حين ظلم أهلها، فخلت منهم الديار، وصارت خاوية خالية بلا جليس ولا أنيس. وكم من بئر معطلة لا تجد من يستقي منها لهلاك أهلها، وكم من قصر مرفوع البنيان، أو مبني بالشيد – وهو الجص – أهلكنا أهله فصار خاويا لا يجد من يعمره.
في آيات سابقة أذن الله للمسلمين بالدفاع عن أنفسهم، وفي هذه الآيات تسلية للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتوضيح بأنه ليس بأوحدى في تكذيب قومه له، فقد كذبت قبلهم أمم كثيرة، فاستحقوا العذاب والدمار. ومن الواجب أن يعتبروا بهم، ويتعظوا بما أصابهم.
٤٦ - أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.
أفلم يسافر أهل مكة في البلاد، ليشاهدوا مصارع الكفار، فيعتبروا بما حل بهم من النكال والدمار، وقد كانت قبيلة عاد بالأحقاف في جنوب الجزيرة، وكانت قبيلة ثمود في شمال الجزيرة بين الحجاز والشام، وكانوا يمرون على هذه القرى في رحلة الشتاء، ورحلة الصيف، لكنه مرور الغافلين، وهنا يفتح عيونهم ويرشدهم إلى التعقل والتدبر، أي : هلا تدبرت قلوبهم وعقولهم ما أصاب هذه الأمم، وهلا وعت أسماعهم أحاديث هلاكهم، إن القلب الواعي يعتبر، أما القلب الذي أصابه العمى، فلم يبصر الحقائق، ولم يتدبر ولم يتعظ بغيره، فلا أمل فيه.
فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.
ليس العمى على الحقيقة عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة، فمن كان أعمى القلب، فلا يعتبر ولا يتدبر مهما كان بصره سليما.
قال الشاعر :
وإذا كان القلب أعمى عن الرشد | فماذا تفيده العينان ؟ |
تمهيد :
كان أهل مكة يستعجلون وقوع العذاب بهم، استهزاء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الله لا يعجل لعجلتهم، فهناك ميعاد من الله لا يخلف، وكم من القرى الظالمة أمهلها الله علها تتوب أو ترجع، حتى إذا بلغوا الحد الأكبر من الكفر، أخذهم الله أخذا وبيلا، ليكون ذلك عبرة للمعتبرين.
ثم أردف القرآن ذلك ببيان وظيفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهي الإنذار والتخويف، وقد وعد الله المؤمنين بالمغفرة من الذنوب ودخول دار النعيم، وأوعد المكابرين بنار الجحيم.
التفسير :
٤٧ - وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ.
يتعجب القرآن من جرأة هؤلاء الكافرين، فقد خوفهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن يصيبهم من العذاب مثل ما أصاب الأمم السابقة، فظنوا أن العذاب لن ينزل بهم، وقالوا في سخرية واستهزاء : متى ينزل هذا العذاب ؟
وقد جاء هذا المعنى في سورة الأنفال، في قوله تعالى : وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. ( الأنفال : ٣٢ ).
لقد وعد الله المكذبين بالعذاب، ووعد الله لا يتخلف، وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ. لكن الله لا يعجل لعجلة هؤلاء الكافرين، وسيلقون هذا العذاب في الدنيا والآخرة.
وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ.
قال ابن عباس ومجاهد : يعني : من الأيام التي خلق فيها السماوات والأرض.
وقال عكرمة : يعني : من أيام الآخرة، أعلمهم الله إذا استعجلوه بالعذاب في أيام قصيرة، أنه يأتيهم في أيام طويلة.
وقال الفراء : هذا وعيد لهم بامتداد عذابهم في الآخرة.
وقيل : المعنى : وإن يوما في الخوف والشدة في الآخرة، كألف سنة من سني الدنيا فيها خوف وشدة، وقد توسع القرطبي في نقل الآراء في تفسير هذه الآية.
والخلاصة :
إن سنة الله لا بد من نفاذها، ولا بد من إهلاك الظالمين ولو بعد حين، أمما وأفرادا في الدنيا والآخرة، أو عذابهم في الآخرة فقط، وإذا تأخر عذاب الآخرة، أمدا طويلا، فلا يكون في ذلك إخلاف للوعد، فعشرون يوما عند ربك كعشرين ألف سنة عندكم.
كان أهل مكة يستعجلون وقوع العذاب بهم، استهزاء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الله لا يعجل لعجلتهم، فهناك ميعاد من الله لا يخلف، وكم من القرى الظالمة أمهلها الله علها تتوب أو ترجع، حتى إذا بلغوا الحد الأكبر من الكفر، أخذهم الله أخذا وبيلا، ليكون ذلك عبرة للمعتبرين.
ثم أردف القرآن ذلك ببيان وظيفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهي الإنذار والتخويف، وقد وعد الله المؤمنين بالمغفرة من الذنوب ودخول دار النعيم، وأوعد المكابرين بنار الجحيم.
٤٨ - وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ.
تأتي هذه الآية مؤكدة لما جاء في الآية التي قبلها، فالله سبحانه وتعالى، يمهل الظالمين، ويملي لهم ولا يمهلهم، وكثير من القرى أمهلهم الله أمدا طويلا، علهم يثوبون إلى رشدهم، أو تتفتح بصائرهم، حتى إذا أمنوا مكر الله، واستخفوا بعذابه أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وإلى الله تعالى وحده مرجع جميع الناس، وإليه مصيرهم، وحكمه نافذ فيهم حين ينادي يوم القيامة : لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. ( غافر : ١٦ ).
كان أهل مكة يستعجلون وقوع العذاب بهم، استهزاء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الله لا يعجل لعجلتهم، فهناك ميعاد من الله لا يخلف، وكم من القرى الظالمة أمهلها الله علها تتوب أو ترجع، حتى إذا بلغوا الحد الأكبر من الكفر، أخذهم الله أخذا وبيلا، ليكون ذلك عبرة للمعتبرين.
ثم أردف القرآن ذلك ببيان وظيفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهي الإنذار والتخويف، وقد وعد الله المؤمنين بالمغفرة من الذنوب ودخول دار النعيم، وأوعد المكابرين بنار الجحيم.
٤٩ - قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ.
الإنذار : التخويف.
أخبر أيها الرسول قومك أن مهمتك هي تبليغ الرسالة إليهم، وتحذيرهم من عقاب ربهم، وليس من مهمة الرسول تحديد العذاب، الذي يصيب المكذبين، فذلك إلى الله وحده.
ومهمة الرسول تقتصر على البلاغ، ويتفرع عن ذلك تبشير المؤمنين بالجنة، وتحذير الكافرين من النار.
كان أهل مكة يستعجلون وقوع العذاب بهم، استهزاء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الله لا يعجل لعجلتهم، فهناك ميعاد من الله لا يخلف، وكم من القرى الظالمة أمهلها الله علها تتوب أو ترجع، حتى إذا بلغوا الحد الأكبر من الكفر، أخذهم الله أخذا وبيلا، ليكون ذلك عبرة للمعتبرين.
ثم أردف القرآن ذلك ببيان وظيفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهي الإنذار والتخويف، وقد وعد الله المؤمنين بالمغفرة من الذنوب ودخول دار النعيم، وأوعد المكابرين بنار الجحيم.
٥٠ - فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ.
فالذين آمنوا إيمانا صادقا بقلوبهم، ثم أثمر الإيمان فقدموا الأعمال الصالحة في دنياهم، هؤلاء يشملهم الله بستره ومغفرته في الدنيا، ولهم في الآخرة رزق كريم. في جنات النعيم.
قال تعالى : وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ. ( الزخرف : ٧١ ).
وروى الشيخان وأحمد والترمذي وابن ماجة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر )xxxv.
كان أهل مكة يستعجلون وقوع العذاب بهم، استهزاء بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الله لا يعجل لعجلتهم، فهناك ميعاد من الله لا يخلف، وكم من القرى الظالمة أمهلها الله علها تتوب أو ترجع، حتى إذا بلغوا الحد الأكبر من الكفر، أخذهم الله أخذا وبيلا، ليكون ذلك عبرة للمعتبرين.
ثم أردف القرآن ذلك ببيان وظيفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهي الإنذار والتخويف، وقد وعد الله المؤمنين بالمغفرة من الذنوب ودخول دار النعيم، وأوعد المكابرين بنار الجحيم.
٥١ - وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ.
سعوا : أصل السعي : الإسراع في المشي، ثم استعمل في الإصلاح والإفساد، يقال : سعى في أمر فلان، إذا أصلحه أو أفسده بسعيه فيه.
معاجزين : مسابقين المؤمنين ومعارضين لهم، فكلما طلبوا إظهار الحق، طلب هؤلاء إبطاله، وأصله من قولهم : عاجزه فأعجزه، إذا سابقه فسبقه.
والذين سعوا في إبطال آياتنا، فسموها مرة سحرا ومرة شعرا ومرة كهانة، حال كونهم مسابقين المؤمنين، يريدون أن يصدوا الناس عن دعوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ظنا منهم أنهم يعجزوننا، ويتفلتون من أمرنا وبعثنا لهم، وأننا لا نقدر عليهم، فهم أهل النار الحارة الموجعة الشديد عذابها ونكالها، المقيمون فيها على الدوام كأنهم أصحابها كما قال تعالى : الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ. ( النحل : ٨٨ ).
تمهيد :
تأتي هذه الآيات مواساة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من ضلال قومه، وبعدهم عن الحق، واتباعهم للشيطان، وخلاصة معناها ما يأتي :
لا تحزن أيها النبي من محاولات هؤلاء الكفار، فقد جرت الحوادث من قبلك مع كل رسول من رسلنا، ونبي من أنبيائنا، أنه كلما قرأ عليهم شيئا يدعوهم به إلى الحق، تصدى له شياطين الإنس المتمردون، لإبطال دعوته، وتشكيك الناس فيما يتلوه عليهم، لكي يحولوا بين النبي وبين أمنيته في إجابة دعوته، فيزيل الله ما يدبرون، ثم تكون الغلبة في النهاية للحق، حيث يثبت الله شريعته، وينصر رسوله، وهو عليم بأحوال الناس ومكائدهم، حكيم في أفعاله، وإنما مكن الله المتمردين على الحق من إلقاء الشبه والعراقيل، في سبيل الدعوة، ليكون في ذلك امتحان واختبار للناس، فالكفار الذين تحجرت قلوبهم، والمنافقون ومرضى القلوب، يزدادون ضلالا، بترويج هذه الشبه ومناصرتها، وليزداد الذين أوتوا علم الشرع والإيمان به، إيمانا وعلما بأن ما يقوله الرسل والأنبياء إنما هو الحق المنزل عند الله تعالى.
التفسير :
٥٢ - وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
الرسول : من جاء بشرع جديد أنزله الله عليه، وأيده بمعجزة تؤيد رسالته.
النبي : صاحب معجزة تؤيد نبوته، وقد أمره الله أن يدعو الناس إلى شريعة من قبله، ولم ينزل الله عليه كتابا بشرع جديد، فالرسول صاحب شرع، والنبي حافظ شرع.
تمنى : لها عدة معان، منها : أراد، وقرأ.
ينسخ : يزيل ويبطل.
يحكم : يحفظها من التأثر بوساوس الشيطان، ويجعلها محكمة مثبتة لا تقبل الرد بحال.
كان عليه الصلاة والسلام حريصا على هداية قومه، حزينا من إعراضهم عن الرسالة والدعوة، وكان إذا قرأ القرآن الكريم، تصدى المنافقون، وشياطين الإنس يؤولونه تأويلا بعيدا، ويلصقون التهم بالقرآن، فيقولون إنه سحر وشعر وكهانة، وأساطير الأولين، والرسول بشر يتمنى لو اتسع نطاق الدعوة، وكثر المؤمنون، وربما دخل عليه الشيطان من هذا الباب.
روى البخاري عن ابن عباس في ذلك : إذا حدث – أي : النبي – ألقى الشيطان في حديثه، فيبطل الله ما يلقي الشيطان.
والمعنى : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا حدث نفسه، ألقى الشيطان في حديثه على جهة الحيلة، فيقول : لو سألت الله عز وجل أن يغنمك ليتسع المسلمون. ويعلم الله عز وجل أن الصلاح في غير ذلك، فيبطل ما يلقي الشيطان، أي : أن المراد حديث النفس.
قال النحاس : وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجله.
رأيان في تفسير الآية
الأول :
تأويل تمني بمعنى : قرأ، وأمنيته : بمعنى قراءته، ويدل على استعمال التمني بمعنى القراءة، قول حسان بن ثابت في عثمان بن عفان بعد قتله :
تمنى كتاب أول ليلة *** وآخرها لاقى حمام المقادر
أي : قرأ كتاب الله في أول الليلة، وفي آخرها قتله الثائرون عليه.
ويكون معنى الآية :
وما أرسلنا قبلك يا محمد – رسولا ولا نبيا – إلا إذا قرأ وتلا كلام الله، ألقى الشيطان في قراءته وتلاوته، بعض الأقاويل والأباطيل، والشبه والتخيلات على أوليائه، ليجادلوه بالباطل ويردوا ما جاء به، تعجيزا لمسيرة دعوته، قال تعالى : وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم. ( الأنعام : ١٢١ ).
فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ.
فيزيل الله ما وسوس به الشيطان، من الكلمات والخرافات والأباطيل، التي تعلق بها بعض الكفار، ثم يجعل آياته محكمة محصنة مثبتة، لا تقبل التشويه والتزييف، أو الزيادة والنقصان.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
وهو عليم بكل شيء، له الحكمة التامة والحجة البالغة، فيجازي المفتري بافترائه، ويظهر الحق للمؤمنين.
ومن حكمة الله تمكين الشيطان من إلقاء الشبهات، ليحاج أولياؤه بها، فيتمكن المؤمنون من ردها، ودحض المفتريات التي يتشدقون بها، ويرجع الحق إلى نصابه، فتظهر الحقيقة ناصعة بيضاء من بين تلك الظلماتxxxvi.
الرأي الثاني :
تفسير التمني بمعنى الرغبة والإرادة.
ويكون معنى الآية :
وما أرسلنا قبلك يا محمد من رسول ولا نبي، إلا إذا تمنى، وأراد هداية قومه إلى الحق، ألقى الشيطان فيما تمناه، الشبه في نفوس قومه، ليصدهم عن سبيله، ثم يبطل الله ما يلقيه الشيطان من الشبه، في نفوس الناس، ثم يحكم الله آياته، ويحميها ويمنعها من أباطيل المبطلين.
وخلاصة المعنى :
إن الصراع بين الحق والباطل أمر قديم، عرف الأنبياء والمرسلون قبلك يا محمد، وإن الأمر ينتهي بنصر الحق على الباطل، بتدبير الله وحكمته، فلا تجزع يا محمد مما يأتي به شياطين قومك من السعي بالباطل، في آيات الله معاجزين، بتسويل الشيطان الرجيم، أولئك أصحاب الجحيم وأباطيلهم إلى زوالxxxvii.
من تفسير المراغي
قال الشيخ أحمد مصطفى المراغي في تفسير المراغي :
هذا وقد دس بعض الزنادقة في تفسير هذه الآية أحاديث مكذوبة لم ترد في كتاب من كتب السنة الصحيحة، وأصول الدين تكذبها، والعقل السليم يرشد إلى بطلانها، وأنها ليست من الحق في شيء. ١ ه.
وخلاصة هذه الآراء المفتراة :
أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما قرأ سورة النجم وفيها هذه الآيات : أفرأيتم اللات والعزى * ومنواة الثالثة الأخرى *ألكم الذكر وله الأنثى. ( النجم : ١٩ – ٢١ ).
ألقى الشيطان عندها كلمات، فقال : وإنهن لهن الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لهي التي ترجى. وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته، فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة، وانطلقت بها ألسنتهم، واستبشروا بها، ثم نسخ الله ما ألقى الشيطان، وأحكم الله آياته، وحفظ القرآن من الفرية.
وقال : وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
وقد تصدى المفسرون والعلماء لبيان بطلان قصة الغرانيق، واستدلوا على بطلانها بالقرآن والسنة والمعقول.
فالقرآن حافل بالتنديد بعبادة الأصنام، وبيان أنها لا تنفع ولا تضر ولا تسمع ولا تجيب، وليس لها شفاعة، بل هي حصب جهنم، وعبادتها احتقار للعقل، وتقليد أحمق للآباء والأجداد.
وقد تكفل الله بحفظ كتابه من كل تحريف أو باطل، قال تعالى : لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. ( فصلت : ٤٢ ).
وقال سبحانه : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. ( الحجر : ٩ ).
من تفسير الفخر الرازي
نقل فخر الدين الرازي كلاما طويلا، يفيد أن قصة الغرانيق باطلة عند أهل التحقيق، فحديث الغرانيق واهي الأصل، لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه بسند سليم متصل ثقة.
وقال أبو بكر البزار :
هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإسناد متصل يجوز ذكره، وهو من ناحية موضوعه يصادم أصلا من أصول العقيدة، وهو عصمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أن يدس عليه الشيطان شيئا في تبليغ رسالتهxxxviii.
وقد قال الله تعالى : وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى. ( النجم : ٣، ٤ ).
وقال سبحانه : قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ... ( يونس : ١٥ ).
وقد روى البخاري في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ سورة النجم، فلما بلغ آية السجدة سجد معه المسلمون والمشركون والإنس والجن، وليس فيه حديث الغرانيق.
وروي حديث البخاري من طرق كثيرة، وليس فيها البتة حديث الغرانيق.
وقد كان أعظم سعي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نفي الأوثان، وضلال عبادتها.
ولو جوزنا زيارة شيء على القرآن لارتفع الأمان عن الشرع، فإنه لا فرق في العقل بين النقصان من الوحي وبين الزيادةxxxix.
وقال سبحانه : وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ. ( الحاقة : ٤٤ – ٤٧ ).
وقد أولع المستشرقون والطاعنون في الإسلام بقصة الغرانيق، والأمر لا يثبت للمناقشة، فالنص القرآني يقرر أن هذه قاعدة عامة، في الرسالات كلها مع الرسل كلهم، من حيث تعرضها للجحود والكنود، والإغراء والوعد والوعيد، قال تعالى : وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
ومن تأمل سيرة الرسل الكرام، وسيرة الرسول الأمين محمد صلى الله عليه وآله وسلم وجد التفسير واضحا، فالعقبات في وجه الدعوة كثيرة، والرسول بشر، فربما حاول أن يذلل العقبات من طريق الدعوة.
وربما فكر في عمل مجلس للفقراء، ومجلس لللأغنياء تلبية لرغبات المشركين فتنزل آيات القرآن توجب أن تكون الجلسة عامة، وأن تفتح الأبواب للناس جميعا على السواء.
قال تعالى : وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا * وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ... ( الكهف : ٢٧ – ٢٩ ).
وكذلك في قصة عبد الله ابن أم مكتوم حين أعرض عنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وانشغل بأغنياء مكة رجاء أن يؤمنوا، وأن يؤمن بعدهم الأتباع والأعوان، فنزلت سورة عبس وتولى. توضح توجيه الله العلي الكبير، في عرض الهدى على الناس أجمعين، فليس على الرسول إلا البلاغ، أما الإيمان فأمره موكول إلى الله تعالى.
قال تعالى : عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ. ( عبس : ١ – ١٦ ).
تأتي هذه الآيات مواساة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من ضلال قومه، وبعدهم عن الحق، واتباعهم للشيطان، وخلاصة معناها ما يأتي :
لا تحزن أيها النبي من محاولات هؤلاء الكفار، فقد جرت الحوادث من قبلك مع كل رسول من رسلنا، ونبي من أنبيائنا، أنه كلما قرأ عليهم شيئا يدعوهم به إلى الحق، تصدى له شياطين الإنس المتمردون، لإبطال دعوته، وتشكيك الناس فيما يتلوه عليهم، لكي يحولوا بين النبي وبين أمنيته في إجابة دعوته، فيزيل الله ما يدبرون، ثم تكون الغلبة في النهاية للحق، حيث يثبت الله شريعته، وينصر رسوله، وهو عليم بأحوال الناس ومكائدهم، حكيم في أفعاله، وإنما مكن الله المتمردين على الحق من إلقاء الشبه والعراقيل، في سبيل الدعوة، ليكون في ذلك امتحان واختبار للناس، فالكفار الذين تحجرت قلوبهم، والمنافقون ومرضى القلوب، يزدادون ضلالا، بترويج هذه الشبه ومناصرتها، وليزداد الذين أوتوا علم الشرع والإيمان به، إيمانا وعلما بأن ما يقوله الرسل والأنبياء إنما هو الحق المنزل عند الله تعالى.
٥٣ - لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ.
فتنة : اختبارا وامتحانا.
مرض : نفاق أو شك أو قلق.
القاسية قلوبهم : الكفار المجاهرون بالكفر.
شقاق بعيد : عداوة شديدة.
لقد أراد الله بحكمته البالغة، أن يخلق الإنسان وأن ينفخ فيه من روحه، وأن يعطيه العقل والاختيار والإرادة، وأن يرسل له الرسل، وأن ينزل له الكتب، وأن يحقق له أسباب الهداية والإيمان، كما أوجد بحكمته وساوس الشياطين وإغراءهم، ووجودهم في طريق دعوات الرسل والأنبياء، حتى ينسخ الله كيد الشياطين، ويحكم آياته، وتظهر الحقيقة واضحة جلية أمام الأعين، ويكون دس الشيطان وكيده فتنة وامتحانا، واختبارا وبلاء للمنافقين الذين في قلوبهم مرض، وللكافرين الجاحدة قلوبهم والقاسية الغليظة المتكبرة، مثل قلوب عتاة المشركين كأبي جهل، أو عتاة اليهود.
وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ.
وإن المنافقين والمشركين لفي عداوة بالغة، وبعد عن الرشاد والسداد، وعداء شديد للحق، فلا تجزع لما يحدث من قومك يا محمد، فشأنهم معك كشأن سائر الأمم مع الأنبياء والمرسلين قبلك، والعاقبة للمجاهدين الصابرين.
تأتي هذه الآيات مواساة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من ضلال قومه، وبعدهم عن الحق، واتباعهم للشيطان، وخلاصة معناها ما يأتي :
لا تحزن أيها النبي من محاولات هؤلاء الكفار، فقد جرت الحوادث من قبلك مع كل رسول من رسلنا، ونبي من أنبيائنا، أنه كلما قرأ عليهم شيئا يدعوهم به إلى الحق، تصدى له شياطين الإنس المتمردون، لإبطال دعوته، وتشكيك الناس فيما يتلوه عليهم، لكي يحولوا بين النبي وبين أمنيته في إجابة دعوته، فيزيل الله ما يدبرون، ثم تكون الغلبة في النهاية للحق، حيث يثبت الله شريعته، وينصر رسوله، وهو عليم بأحوال الناس ومكائدهم، حكيم في أفعاله، وإنما مكن الله المتمردين على الحق من إلقاء الشبه والعراقيل، في سبيل الدعوة، ليكون في ذلك امتحان واختبار للناس، فالكفار الذين تحجرت قلوبهم، والمنافقون ومرضى القلوب، يزدادون ضلالا، بترويج هذه الشبه ومناصرتها، وليزداد الذين أوتوا علم الشرع والإيمان به، إيمانا وعلما بأن ما يقوله الرسل والأنبياء إنما هو الحق المنزل عند الله تعالى.
٥٤ - وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ.
فتخبت : تذل وتخضع.
وليعلم المؤمنون الذين أعطاهم الله العلم النافع، الذي يميزون به بين الحق والباطل، أن القرآن هو الحق النازل من عند الله، فيزداد إيمانهم ويقينهم به، فتخشع قلوبهم، وتمتلئ بالخشية والإيمان، والله تعالى يرشد المؤمنين إلى الحق والصواب في الدنيا، ويرشدهم إلى الصراط المستقيم الموصل إلى الجنة في الآخرة.
تأتي هذه الآيات مواساة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من ضلال قومه، وبعدهم عن الحق، واتباعهم للشيطان، وخلاصة معناها ما يأتي :
لا تحزن أيها النبي من محاولات هؤلاء الكفار، فقد جرت الحوادث من قبلك مع كل رسول من رسلنا، ونبي من أنبيائنا، أنه كلما قرأ عليهم شيئا يدعوهم به إلى الحق، تصدى له شياطين الإنس المتمردون، لإبطال دعوته، وتشكيك الناس فيما يتلوه عليهم، لكي يحولوا بين النبي وبين أمنيته في إجابة دعوته، فيزيل الله ما يدبرون، ثم تكون الغلبة في النهاية للحق، حيث يثبت الله شريعته، وينصر رسوله، وهو عليم بأحوال الناس ومكائدهم، حكيم في أفعاله، وإنما مكن الله المتمردين على الحق من إلقاء الشبه والعراقيل، في سبيل الدعوة، ليكون في ذلك امتحان واختبار للناس، فالكفار الذين تحجرت قلوبهم، والمنافقون ومرضى القلوب، يزدادون ضلالا، بترويج هذه الشبه ومناصرتها، وليزداد الذين أوتوا علم الشرع والإيمان به، إيمانا وعلما بأن ما يقوله الرسل والأنبياء إنما هو الحق المنزل عند الله تعالى.
٥٥ - وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ.
مرية : شك.
بغتة : فجأة.
الساعة : الموت.
يوم عقيم : منفرد عن سائر الأيام، لا مثيل له في شدته، والمراد به : الحرب الضروس.
أي : لا يزال كفار مكة في شك وريبة من هذا القرآن، حتى يأتيهم الموت فجأة دون أن يشعروا، أو يأتيهم عذاب يوم القيامة، وقيل : عذاب يوم بدر، حيث قتل منهم سبعون وأسر سبعون وفر الباقون.
وقد رجح العلماء أن المراد بعذاب يوم عقيم : عذاب يوم القيامة، لأن سياق الآية بعدها يرجح أن المراد به : عذاب يوم القيامة.
قال أبو السعود :
وسمي بعذاب يوم عقيم، لأنه لا يوم بعده، كأن كل يوم يلد ما بعده من الأيام، فما لا يوم بعده يكون عقيما، والمراد به الساعة أيضا، كأنه قيل : أو يأتيهم عذابها، ووضع ذلك موضع الضمير لمزيد التهويل.
تأتي هذه الآيات مواساة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من ضلال قومه، وبعدهم عن الحق، واتباعهم للشيطان، وخلاصة معناها ما يأتي :
لا تحزن أيها النبي من محاولات هؤلاء الكفار، فقد جرت الحوادث من قبلك مع كل رسول من رسلنا، ونبي من أنبيائنا، أنه كلما قرأ عليهم شيئا يدعوهم به إلى الحق، تصدى له شياطين الإنس المتمردون، لإبطال دعوته، وتشكيك الناس فيما يتلوه عليهم، لكي يحولوا بين النبي وبين أمنيته في إجابة دعوته، فيزيل الله ما يدبرون، ثم تكون الغلبة في النهاية للحق، حيث يثبت الله شريعته، وينصر رسوله، وهو عليم بأحوال الناس ومكائدهم، حكيم في أفعاله، وإنما مكن الله المتمردين على الحق من إلقاء الشبه والعراقيل، في سبيل الدعوة، ليكون في ذلك امتحان واختبار للناس، فالكفار الذين تحجرت قلوبهم، والمنافقون ومرضى القلوب، يزدادون ضلالا، بترويج هذه الشبه ومناصرتها، وليزداد الذين أوتوا علم الشرع والإيمان به، إيمانا وعلما بأن ما يقوله الرسل والأنبياء إنما هو الحق المنزل عند الله تعالى.
٥٦ - الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
الملك : التصرف والسلطان.
يحكم بينهم : يقضي بين فريقي المؤمنين والكافرين.
الملك في يوم القيامة لله وحده، وهو الحكم العدل بين الخلائق في ذلك اليوم، فهو سحانه :
مالك يوم الدين.
وهو الذي ينادي يوم القيامة : لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. ( غافر : ١٦ ).
في ذلك اليوم يجازى المؤمنون الذين عملوا الصالحات بدخول الجنة، والتمتع بنعيمها، وبكل ما فيها من نعم وخيرات.
تأتي هذه الآيات مواساة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من ضلال قومه، وبعدهم عن الحق، واتباعهم للشيطان، وخلاصة معناها ما يأتي :
لا تحزن أيها النبي من محاولات هؤلاء الكفار، فقد جرت الحوادث من قبلك مع كل رسول من رسلنا، ونبي من أنبيائنا، أنه كلما قرأ عليهم شيئا يدعوهم به إلى الحق، تصدى له شياطين الإنس المتمردون، لإبطال دعوته، وتشكيك الناس فيما يتلوه عليهم، لكي يحولوا بين النبي وبين أمنيته في إجابة دعوته، فيزيل الله ما يدبرون، ثم تكون الغلبة في النهاية للحق، حيث يثبت الله شريعته، وينصر رسوله، وهو عليم بأحوال الناس ومكائدهم، حكيم في أفعاله، وإنما مكن الله المتمردين على الحق من إلقاء الشبه والعراقيل، في سبيل الدعوة، ليكون في ذلك امتحان واختبار للناس، فالكفار الذين تحجرت قلوبهم، والمنافقون ومرضى القلوب، يزدادون ضلالا، بترويج هذه الشبه ومناصرتها، وليزداد الذين أوتوا علم الشرع والإيمان به، إيمانا وعلما بأن ما يقوله الرسل والأنبياء إنما هو الحق المنزل عند الله تعالى.
٥٧ - وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ.
مهين : مذل جزاء استكبارهم عن الحق.
والذين كفروا بالله وكذبوا رسله، وأنبياءه ووحيه، وعارضوا الحق والرسالة، والدعوة إلى الإيمان، هؤلاء لهم عذاب مذل، حيث يدخلون جهنم صاغرين أذلاء، جزاء كفرهم وعنادهم وقد تكرر هذا المعنى في قوله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ. ( غافر : ٦٠ ).
تمهيد :
تتحدث الآيات عن جزاء المهاجرين والمقاتلين والشهداء، وتوضح أن هذا الجزاء جزاء عظيم، فلهم جزاء العمل المستمر، كأنهم أحياء يعملون في مرضاة الله، ولهم في الآخرة جنات النعيم، ومن انتصر لنفسه ودينه، ورد العدوان بمثله، ثم بغى عليه المعتدون، فقد تكفل الله بنصره، ثم تذكر أدلة القدرة الإلهية في إدخال الليل في النهار والنهار في الليل، بمعنى زيادة الليل في الشتاء، ونقصانه في الصيف.
التفسير :
٥٨ - وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
الذين هاجروا وتركوا الأهل والوطن، إخلاصا لله وجهادا في سبيله، ثم قتلوا شهداء أو ماتوا على فرشهم، فإن الله يجري عليهم جزاء أعمالهم، ويحميهم من الفتن، ويرزقهم دخول الجنة، والتمتع بنعيمها، والله أفضل الرازقين، وأنعم به وأكرم، حيث يعطيهم ما يفوق الخيال، ولا يخطر لهم على بال، ويمنحهم بغير حساب، فهو الذي لا تفنى خزائنه، ولا تنضب موارد نعمه، ولا غاية لفضله وكرمه.
تتحدث الآيات عن جزاء المهاجرين والمقاتلين والشهداء، وتوضح أن هذا الجزاء جزاء عظيم، فلهم جزاء العمل المستمر، كأنهم أحياء يعملون في مرضاة الله، ولهم في الآخرة جنات النعيم، ومن انتصر لنفسه ودينه، ورد العدوان بمثله، ثم بغى عليه المعتدون، فقد تكفل الله بنصره، ثم تذكر أدلة القدرة الإلهية في إدخال الليل في النهار والنهار في الليل، بمعنى زيادة الليل في الشتاء، ونقصانه في الصيف.
٥٩ - لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ.
أي : إن الله تعالى يدخل المقتول في سبيل الله، والميت على فراشه، إذا خرجا مجاهدين في سبيل الله، يدخلهما الله جنات النعيم، ويمتعهما فيها بالجزاء الحسن الذي يرضيهما، ويكرمان في الجنة بالنعيم الدائم، ويتمتعان فيها بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
والله سبحانه عليم بنية المهاجرين والمجاهدين، فيجازيهم بحسب نيتهم، فمن خرج مهاجرا فله الجزاء الأوفى، سواء قتل شهيدا، أو مات على فراشه، ما دام راغبا في الشهادة، فمن طلب الشهادة بحق، أعطاه الله أجر الشهداء وإن مات على فراشه، ( فالأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى ).
أخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، عن سلمان الفارسي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :( من مات مرابطا أجري عليه الرزق، وأمن من الفتانين، واقرءوا إن شئتم : وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ.
وروي عن أنس أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( المقتول في سبيل الله، والمتوفى في سبيل الله بغير قتل، هما في الأجر شريكان ).
وروى النسائي حديثا في معناه عن العرباض بن سارية.
وقد نزلت الآيتان ٥٨، ٥٩ من سورة الحج في عثمان بن مظعون وأبي سلمة بن عبد الأسد، ماتا بالمدينة مهاجرين، ولم يقتلا في سبيل الله، فقال بعض المؤمنين : من قتل في سبيل الله أفضل ممن مات حتف أنفه، فنزلت هاتان الآيتان، تسويان بينهما، لأن كليهما عاهد الله على الموت في سبيله، بهجرته لنصرة دينهxl.
تتحدث الآيات عن جزاء المهاجرين والمقاتلين والشهداء، وتوضح أن هذا الجزاء جزاء عظيم، فلهم جزاء العمل المستمر، كأنهم أحياء يعملون في مرضاة الله، ولهم في الآخرة جنات النعيم، ومن انتصر لنفسه ودينه، ورد العدوان بمثله، ثم بغى عليه المعتدون، فقد تكفل الله بنصره، ثم تذكر أدلة القدرة الإلهية في إدخال الليل في النهار والنهار في الليل، بمعنى زيادة الليل في الشتاء، ونقصانه في الصيف.
٦٠ - ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ.
أي : الأمر ذلك الذي تقدم بيانه، من حسن جزاء المهاجرين، الذين قتلوا في سبيل الله أو ماتوا.
ثم استأنف القرآن فبين حق المسلمين في رد العدوان، والانتصاف من الظالمين.
فقال ما معناه :
إن من قوتل ظلما، فدافع عن نفسه، وعاقب الظالم بمثل عقوبته، وجازى من اعتدى عليه، ثم بغى عليه بإلجائه إلى الهجرة، ومفارقة الوطن، وابتدائه بالقتال، لينصرنه الله نصرا مؤزرا.
إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ.
لمن أخذ بحقه، وانتقم من ظالمه، وإن كان العفو أقرب إلى التقوى، قال تعالى : وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ.... ( الشورى : ٤٠ ).
سبب النزول :
جاء في تفسير مقاتل بن سليمان ما يأتي :
إن مشركي مكة لقوا المسلمين ( لليلة بقيت من المحرم ) فقال بعضهم لبعض : إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون ألا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبى المشركون إلا القتال، فبغوا على المسلمين فقاتلوهم وحملوا عليهم، وثبت المسلمون، فنصر الله المسلمين عليهم، فوقع في أنفس المسلمين شيء من القتال في الشهر الحرام، فأنزل الله عز وجل : ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ.
إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ. يعفو عنهم لقتالهم في الشهر الحرامxli.
تتحدث الآيات عن جزاء المهاجرين والمقاتلين والشهداء، وتوضح أن هذا الجزاء جزاء عظيم، فلهم جزاء العمل المستمر، كأنهم أحياء يعملون في مرضاة الله، ولهم في الآخرة جنات النعيم، ومن انتصر لنفسه ودينه، ورد العدوان بمثله، ثم بغى عليه المعتدون، فقد تكفل الله بنصره، ثم تذكر أدلة القدرة الإلهية في إدخال الليل في النهار والنهار في الليل، بمعنى زيادة الليل في الشتاء، ونقصانه في الصيف.
٦١ - ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ.
أي : إن سنة الله في نصر من يقع عليه البغي، وهو يدفع عن نفسه العدوان سنة مطردة، مثل سننه تعالى الكونية التي تشي بالدقة والنظام في هذا الكون، ومن ذلك طول الليل في الشتاء حتى يصل إلى ١٤ ساعة، وقصره في الصيف حتى يصل إلى عشر ساعات، هذه السنة الكونية تتكرر كل عام، ويراها الناس أمام أعينهم، في دقة عجيبة لا تختل، وفي اطراد عجيب لا يتخلف، وهي تشي بأن وراء هذا الكون البديع، ونظامه الدقيق، يدا حانية تمسك بنظامه، وتحفظ توازنه، وهذه القدرة العالية، تنصر المظلوم الذي يدافع عن حقه، وينتصف من ظالمه، ويدفع البغي والعدوان، كما أنها تمد الليل في الشتاء حتى يدخل في النهار، ويقتطع جزءا منه عند الشروق والغروب، وتمد النهار في الصيف حتى يأخذ جزءا من الليل، عند الشروق والغروب.
وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ.
أي : إن الله سميع لكل قول، بصير بكل حال، ولذلك ينصر عباده المؤمنين، ويعلم نظام الكون وسنته المطردة، في طول الليل حينا وطول النهار حينا آخر.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ. ( آل عمران :( ٢٦، ٢٧ ).
تتحدث الآيات عن جزاء المهاجرين والمقاتلين والشهداء، وتوضح أن هذا الجزاء جزاء عظيم، فلهم جزاء العمل المستمر، كأنهم أحياء يعملون في مرضاة الله، ولهم في الآخرة جنات النعيم، ومن انتصر لنفسه ودينه، ورد العدوان بمثله، ثم بغى عليه المعتدون، فقد تكفل الله بنصره، ثم تذكر أدلة القدرة الإلهية في إدخال الليل في النهار والنهار في الليل، بمعنى زيادة الليل في الشتاء، ونقصانه في الصيف.
٦٢ - ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.
أي : ذلك الاتصاف بكمال القدرة وكمال العلم، بسبب أن الله هو الإله الذي لا إله معه، وهو لذلك المعبود بحق، وأن ما يعبده المشركون من دون الله من الأصنام والأوثان، وكل ما عبد من غير الله هو باطل لا يقدر على صنع شيء، ولا يملك ضرا ولا نفعا، لأنه عاجز ضعيف، ومصنوع مخلوق لربه القادر.
وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ.
أي : ولأن الله هو العظيم الذي لا أعظم منه، العلي الذي لا شيء أعلى منه شأنا، الكبير الذي لا أكبر منه ولا أعز ولا أكبر منه سلطانا، كمال قال تعالى : الكبير المتعال. ( الرعد : ٩ ).
تمهيد :
تتحدث الآيات عن دلائل القدرة الإلهية، في إنزال المطر الذي يبعث الحياة والخضرة في الأرض، وله سبحانه ملك السماوات والأرض، وقد سخر الفلك لتجري في البحر بأمره، وحفظ نظام الكون كله، وهو سبحانه يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وهو الذي أحيانا ثم يميتنا عند انتهاء آجالنا، ثم يحيينا يوم البعث، فما أعظم قدرة الله، وما أشد كفر الإنسان.
التفسير :
٦٣ - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ.
ألم تعلم أيها السامع أن الله جلت قدرته، يسوق السحاب، وينزل المطر، الذي يقع على الأرض القاحلة، فتنبت النبات، وتكتسي لونا سندسيا أخضر، وتتزين الأرض بكل لون بهيج، والله لطيف بأرزاق عباده، خبير بما في قلوبهم من القنوط، والغرض من الآية سوق الدليل على قدرة الله، فإن الذي يحيي الأرض بعد موتها، قادر على إحياء الموتى كما قال سبحانه : إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. ( فصلت : ٣٩ ).
تتحدث الآيات عن دلائل القدرة الإلهية، في إنزال المطر الذي يبعث الحياة والخضرة في الأرض، وله سبحانه ملك السماوات والأرض، وقد سخر الفلك لتجري في البحر بأمره، وحفظ نظام الكون كله، وهو سبحانه يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وهو الذي أحيانا ثم يميتنا عند انتهاء آجالنا، ثم يحيينا يوم البعث، فما أعظم قدرة الله، وما أشد كفر الإنسان.
٦٤ - لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
له سبحانه ما في الكون كله، وما في السماوات وما في الأرض خلقا وملكا وتصرفا، والكل محتاج إلى تدبيره وإتقانه، وهو سبحانه غني عن الأشياء كلها، لا يحتاج لأحد وهو المحمود على كل حال.
تتحدث الآيات عن دلائل القدرة الإلهية، في إنزال المطر الذي يبعث الحياة والخضرة في الأرض، وله سبحانه ملك السماوات والأرض، وقد سخر الفلك لتجري في البحر بأمره، وحفظ نظام الكون كله، وهو سبحانه يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وهو الذي أحيانا ثم يميتنا عند انتهاء آجالنا، ثم يحيينا يوم البعث، فما أعظم قدرة الله، وما أشد كفر الإنسان.
٦٥ - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ.
ومن نعم الله العديدة، أن يسر الله لكم الانتفاع بما في الأرض، من معادن وأشجار، وحيوان ونبات، وكنوز من البترول والذهب والحديد، وسخر لكم الأرض وما عليها، وذلل لكم الاستفادة بها وبما فيها، وكان عليه الصلاة والسلام إذا ركب دابة يقول : سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ. ( الزخرف : ١٣ ).
وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ.
وسخر لكم السفن تسير في البحر، فتنقل الأشخاص والسلع التجارية، من بلد إلى بلد ومن إقليم إلى إقليم، طبقا لسنته في الأجسام الطافية، حيث أجراها بالرياح الجارية، أو بالمحركات الدائرة التي ألهمكم صنعها.
وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
ومن رحمته سبحانه بخلقه، أنه خلق الأجرام والكواكب، ودفع كلا منها في مداره المرسوم، وربطها برباط الجاذبية طبقا لسنته الكونية، وهذه الجاذبية، من شأنها أن تجعل الأرض تجذب إليها بعض كواكب السماء القريبة منها، لتسقط عليها، ولكنه سبحانه جعل في مقابل الجاذبية ما يسميه علماء الفلك بقوة الطرد المركزية، وهي مساوية لقوة الجاذبية، فيقع الجرم الفلكي بين قوتين متعادلتين، مما يتيح له البقاء متوازيا في فلكه المرسوم، ولكن حينما يأذن الله بنهاية الخلق، تضعف إحدى القوتين عن نظيرتها، فيصطدم بعض الكواكب ببعضها الآخر، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى : إذا السماء انفطرت * وإذا الكواكب انتثرت. ( الانفطار : ١، ٢ ).
إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ.
حيث هيأ لهم العيش المناسب، فوق سطح الأرض وتحت كوكب السماء، وهم آمنون مطمئنون.
تتحدث الآيات عن دلائل القدرة الإلهية، في إنزال المطر الذي يبعث الحياة والخضرة في الأرض، وله سبحانه ملك السماوات والأرض، وقد سخر الفلك لتجري في البحر بأمره، وحفظ نظام الكون كله، وهو سبحانه يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، وهو الذي أحيانا ثم يميتنا عند انتهاء آجالنا، ثم يحيينا يوم البعث، فما أعظم قدرة الله، وما أشد كفر الإنسان.
٦٦ – وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
أي : خلقكم الله بعد أن لم تكونوا شيئا يذكر، ثم يميتكم عند انتهاء آجالكم، والموت نعمة قال تعالى : ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ. ( عبس : ٢١، ٢٢ ).
ثم يحييكم. يوم القيامة للبعث والحشر والجزاء والحساب، فهو سبحانه الخلاق العليم بيده الخلق والأمر ؛ قال تعالى : كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ. ( البقرة : ٢٨ ).
أي : كنتم في عالم العدم، ثم أحياكم الله عند تلقيح الذكر للأنثى، ونفخ الروح في الجنين بقدرة الله، وولادته إلى الدنيا ؛ ثم يموت الإنسان عند انتهاء أجله، ثم يبعث يوم القيامة بقدرة الله. وقريب من ذلك قوله تعالى :
قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ. ( غافر : ١١ ).
الموتة الأولى وجودهم في عالم العدم، ثم الحياة الأولى بالولادة إلى الدنيا، والموتة الثانية عند خروج الروح، والحياة الثانية عند البعث، وإحياء الموتى وإخراجهم من قبورهم، بعد جمع ما تفرق من أجزائهم الأصلية.
إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ.
أي : جحود لربه ؛ حيث خلقه وصوره، وأحياه ثم أماته، ثم أحياه بالبعث، وهو يجحد قدرة الله، وينكر البعث، ويقول : لن يحييني الله بعد موتي.
قال تعالى : وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ. ( غافر : ٧٨، ٧٩ ).
وذهب بعض المفسرين إلى أن الحياة الأولى كانت والإنسان في عالم الذر حين أخذ الله العهد على ذرية آدم وهم في أصلاب آبائهم أن يعبدوه وألا يشركوا به شيئا، كما قال سبحانه : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا... ( الأعراف : ١٧٢ ).
وذهب آخرون إلى أن هناك حياة في القبر حين ترد الروح إلى الميت ويسأل : من ربك، وما دينك، ومن نبيك، فيجيب، ثم تسحب منه الروح ويعود إلى الموت.
بيد أن ابن كثير في تفسيره ذهب إلى ضعف هذين الرأيين إذ يترتب على كل واحد منهما أن تكون هناك ثلاث إحياءات، ورجح ابن كثير رأى جمهور المفسرين وهو : أن الموتة الأولى وجود الإنسان في عالم العدم، ثم ولادته في هذه الدنيا، ثم موته عند خروج روحه، ثم حياته عند البعث يوم القيامة. والله أعلم.
التفسير :
٦٧ - لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ...
منسكا : شريعة ومنهاجا ومتعبدا.
ناسكوه : عاملون به.
فلا ينازعنك : أي : لا ينبغي لهم أن ينازعوك، في أمر الدين، وهو نهي يراد به النفي، أي : فلا يجوز لهم أن يخاصموك في أمر الإسلام أو يجادلوك في أوامره وتكاليفه ؛ لأن أمر دينك أظهر من أن يقبل النزاع.
قيل : نزلت هذه الآية بسبب جدال الكفار في أمر الذبائح، وهم كفار خزاعة، قالوا للمسلمين : تأكلون ما ذبحتم، ولا تأكلون ما ذبح الله من الميتة ؟ أو، ما لكم تأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله ؟ فكان ما قتل الله أحق أن تأكلوه، مما قتلتم أنتم بسكاكينكم، فنزلت الآية بسبب هذه المنازعةxlii.
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ.
لكل أمة من الأمم جعلنا شريعة ومنهاجا يتعبدون بهذه الشريعة ؛ ويلتزمون بأحكامها ويتنسكون بتعاليمها ؛ مع تناسب هذه التعاليم مع مقتضيات الزمان والمكان، فقد أنزل الله التوراة على موسى بنحو من الشدة، لعلاج التمسك بالمادة، ثم أنزل الإنجيل متمما لحكم التوراة، مع علاج الروح وإشاعة المحبة، والعناية بجوهر الدين، لا بمجرد المظاهر والشكليات والطقوس، ثم أنزل القرآن حينما نضج العقل البشري ؛ لإرساء معالم دستور الحق، والجمع بين العناية بالمادة والروح، والتركيز على معايير العلم، واستخدام العقل، فكان أول دين يضع أسس الحضارة الإنسانية الشاملة، وكان تشريعه وسطا بين الشرائع ؛ وكانت هذه الأديان صالحة للزمان الذي جاءت فيه.
فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ.
أي : إذا كان هذا هو شأن التدرج في الشرائع ؛ فلا ينبغي لمعاصريك يا محمد أن ينازعوك في أمر الدين، فلكل أمة شريعة خاصة ؛ تناسب الزمان الذي جاءت فيه، ثم جاء القرآن ناسخا لتلك الشرائع ؛ ومهيمنا عليها، يقر الصحيح، وينبه إلى الزيف، ويحذر من الباطل، فلا ينبغي لهم منازعتك في أمور دينك، والمراد : تهييج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتثبيته على الحق، وعدم الالتفات إلى ما يثيره الآخرون، من شبهات وتشكيك.
وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ.
أي : استمر في دعوتك إلى منهج الله، وهو الإسلام، فإن دينك هو الدين الحق، وهو الهداية النافعة الناجحة الوسط، والإسلام هو الصراط المستقيم، والقرآن هو الركن الركين، وتلك الدعوة الإسلامية هي الدعوة التي تناسب الزمان والمكان، وهي دعوة وسط ؛ تناسب حال الناس إلى يوم القيامة، فقد علم الله أنها خاتمة الرسالات ؛ فضمنها مقومات صلاحها وخلودها، فهي شريعة خالدة ؛ فيها اليسر ومراعاة المصلحة العامة، ورفع الحرج عن الناس، وإعمال العقل، والدعوة إلى الاجتهاد والاستنباط، والتفقه في أحكام الدين، حتى يستنبط العلماء من روح هذا الدين ونظامه، ما يناسب مستجدات الأمة إلى يوم القيامة.
آراء في الآية :
ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالآية : طريقة الذبح، وأداء المناسك في موسم الحج، والمكان الذي يذبحون فيه ذبائحهم.
قال الطبري :
واختلف أهل التأويل في معنى المنسك هنا، فقيل : عيدا، وقيل : إراقة الدم... والصواب من القول في ذلك أن يقال : عنى بذلك إراقة الدم أيام النحر بمنى، لأن المناسك التي كان المشركون جادلوا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت إراقة الدم في هذه الأيام، ولذلك قلنا : عنى بالمناسك في هذا الموضع الذبح. ١ ه.
وعند التأمل، تجد أن الآية تتحدث عن نظام ومنهج، لكل أمة من الأمم، كما أن للإسلام نظامه ومنهجه، فلا ينبغي لليهود أو النصارى أو المشركين، مجادلتك أو منازعتك، وعليك يا محمد، أن تسير في طريقك، وأن تجتهد في الدعوة إلى دين الله وهو الإسلام، فإنه خاتمة الرسالات، وهو الدين الوسط والصراط المستقيم.
جادلوك : ناقشوك وخاصموك.
إذا بلغت رسالتك ودعوتك، فلا تهتم بجدال المجادلين، ومماراة أهل الباطل، واقتصد في جدالهم، وقل لهم : قد بلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم.
اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ.
أي : هو العليم بما تعملون وبما أعمل، وهو مجاز كل واحد بعمله، فهو الشهيد علي وعليكم، وهو المحاسب والمجازي كل إنسان بما عمله.
قال تعالى : وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ. ( يونس : ٤١ ).
وقال تعالى : هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بني وبينكم... ( الأحقاف : ٨ ).
لأنه ليس بعد إيضاح الأدلة إلا هذا اللون من الوعيد والتحذير.
إن الآخرة هي دار الجزاء، والثواب والعقاب، وفي يوم القيامة يكون الحق سبحانه هو الحكم العدل، فيكافئ الأخيار، ويعاقب الأشرار، وفي يوم القيامة يتبين من هو على الحق، ومن هو على الباطل، وسيجازي سبحانه وتعالى، كل فريق بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
الاقتصاد في الجدال
والآيات كما ترى دعوة للمؤمنين، أي ينشروا دعوة الله، وأن يدعوا الناس إليها، فإذا لمحوا راغبا في المراء والجدال، جادلوه بالتي هي أحسن، واقتصدوا في الرد عليه.
قال القرطبي :
في هذه الآية أدب حسن، علمه الله عباده في الرد على من جادل تعنتا، ومراء، ألا يجاب ولا يناظر، ويدفع بهذا القول الذي علمه الله لنبيه صلى الله عليه وآله وسلمxliii.
تمهيد :
تبين الآيات إحاطة علم الله بما في هذا الكون، لقد أوضح الله دلائل قدرته وألوهيته ووحدانيته، ومع وضوح هذه الدلائل فقد عبد المشركون آلهة مدعاة، ولا تستند عبادتهم لها على دليل نقلي أو عقلي، وإذا تليت على المشركين آيات القرآن الكريم، ظهر الغضب والإنكار في وجوه الكافرين، ومن شدة غضبهم، يكادون يبطشون بمن يذكرهم آلاء الله، ألا وإن عذاب النار في الآخرة وآلامها أشد وأكثر غيظا وألما، من الغم والغيظ حين تلاوة آيات القرآن الكريم.
٧٠ - أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.
يسير : سهل.
هذا استفهام تقرير، وقد قيل : إنه استفهام تقرير للغيرxliv.
فعلم الله تعالى شامل للسماء وما فيها، من أفلاك وأبراج وشموس وكواكب وملائكة وغير ذلك، وعلم الله شامل للأرض بكل ما فيها من إنس وجن، وبحار وأنهار، ونبات وسائر المخلوقات، فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض.
إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ.
أي : كل ما يجري في العالم فهو مكتوب عند الله في أم الكتاب، وهو اللوح المحفوظ.
إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ.
هذه الإحاطة الشاملة بما كان وما يكون، والرقابة الإلهية على هذا الحشد من الأشياء والأشخاص، والأعمال والنيات، والخواطر والحركات، في عالم المنظور وعالم الضمير، كل ذلك بالنسبة إلى قدرة الله وعلمه أمر يسير، وقيل : الفصل بين المختلفين على الله يسير.
جاء في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( إن الله قدر مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء )xlv.
وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :( أول ما خلق الله القلم، قال له : اكتب، قال : وما اكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن. فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامةxlvi.
وكتابة القلم تأكيد لمعنى الإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره حلوه ومره، وعلم الله واطلاعه، وإحاطته بكل كبيرة وصغيرة في هذا الكون، ثم مجازاته سبحانه على مثقال الذرة من الحسنات والسيئات، وإحاطته سبحانه إحاطة شاملة لكل ما في الكون، وهذه الإحاطة شيء يسير على الله، فهي جزء من علمه الشامل. إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. ( الأنفال : ٧٥ ).
قال تعالى : يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ. ( لقمان : ١٦ ).
وقال تعالى : مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ. ( ٢٢، ٢٣ ).
وقال أبو مسلم الأصفهاني : إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ. المراد بالكتاب في مثل هذا : الحفظ والضبط الشديد بحيث لا يغيب عنه مثقال ذرة.
تبين الآيات إحاطة علم الله بما في هذا الكون، لقد أوضح الله دلائل قدرته وألوهيته ووحدانيته، ومع وضوح هذه الدلائل فقد عبد المشركون آلهة مدعاة، ولا تستند عبادتهم لها على دليل نقلي أو عقلي، وإذا تليت على المشركين آيات القرآن الكريم، ظهر الغضب والإنكار في وجوه الكافرين، ومن شدة غضبهم، يكادون يبطشون بمن يذكرهم آلاء الله، ألا وإن عذاب النار في الآخرة وآلامها أشد وأكثر غيظا وألما، من الغم والغيظ حين تلاوة آيات القرآن الكريم.
٧١ - وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ.
سلطانا : حجة وبرهانا.
نصير : ناصر ومعين.
يعبد المشركون أوثانا وأصناما من حجارة، لم ينزل من الله دليل أو بيان يفيد أنها آلهة، فليس لديهم حجة أو دليل نقلي من عند الله على ألوهية الأصنام، وليس لديهم دليل عقلي يذكرونه يدل على صواب عبادتهم.
قال مقاتل بن سليمان في تفسيره :
وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ من الآلهة. مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا. يعني : ما لم ينزل به كتابا من السماء لهم فيه حجة بأنها آلهة.
وجاء في حاشية الجمل :
وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ. أي : دليل عقلي. ١ ه.
وإذا لم يكن هناك دليل نقلي من عند الله، ولا دليل عقلي يحترم العلم والعقل والفكر والمنطق، فاتباع الأصنام وعبادتها يكون عن تقليد للآباء والأسلاف، أو عن جهل وشبهة وكل ذلك باطل.
وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ.
أي : ليس للكفار الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، وظلموا المسلمين بالعناد، وظلموا الرسل بالتكذيب، ليس لهؤلاء من ناصر ينصرهم من الله فيما يحل بهم من العقاب.
ونظير هذه الآية قوله تعالى : وَمَن يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ. ( المؤمنون : ١١٧ ).
وفي الآية دليل على أن الكافر قد يكون كافرا وإن لم يعلم كونه كافرا، وفي الآية دليل أيضا على فساد التقليد القائم على الجهل.
تبين الآيات إحاطة علم الله بما في هذا الكون، لقد أوضح الله دلائل قدرته وألوهيته ووحدانيته، ومع وضوح هذه الدلائل فقد عبد المشركون آلهة مدعاة، ولا تستند عبادتهم لها على دليل نقلي أو عقلي، وإذا تليت على المشركين آيات القرآن الكريم، ظهر الغضب والإنكار في وجوه الكافرين، ومن شدة غضبهم، يكادون يبطشون بمن يذكرهم آلاء الله، ألا وإن عذاب النار في الآخرة وآلامها أشد وأكثر غيظا وألما، من الغم والغيظ حين تلاوة آيات القرآن الكريم.
٧٢ - وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
يسطون : يبطشون بهم من فرط الغيظ.
وإذا قرأ النبي المرسل القرآن واضحا بينا، يخاطب العقل والفطرة السليمة، فإنهم ينكرون كتاب الله، ويكرهون سماعه، وتلحظ ذلك الإنكار على وجوههم، وفي أقوالهم، وتمتد أيديهم للبطش والإيذاء للمسلمين.
يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا.
أي : يكادون يبطشون بمن يقرأ القرآن، ويقعون محمد صلى الله عليه وآله وسلم من شدة كراهيتهم للقرآن، ويقولون : ما شأن محمد وأصحابه، أهم أحق بهذا الأمر منا، والله إنهم لأشر خلق الله.
فأنزل الله تعالى : قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
أي : هل أخبركم بما هو أشر من محمد وأتباعه، هو النار وبئس المصير في عذابها، وقد وعدها الله الذين كفروا جزاء كفرهم وعنادهم.
قال تعالى : إنها ساءت مستقرا ومقاما. ( الفرقان : ٦٦ ).
وجاء في تفسير المراغي :
قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ.
أي : قل لهم : أتسمعون فأخبركم بشر من ذلكم، الذي فيكم من الغيظ من التالين للآيات، حتى قاربتم أن تسطوا بهم، وتمدوا إليهم أيديكم وألسنتكم بالسوء ؟
ثم أجاب عن هذا الاستفهام فقال : النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
أي : النار وعذابها أشق وأعظم مما تخوفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا، ومما تنالون منهم، إن نلتم بإرادتكم واختياركم.
التفسير :
٧٣ - يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ.
ضرب : جعل وبين لكم حال مستغربة.
المثل والمثل : الشبه.
لا يستنقذوه : لا يقدروا على استنقاذه.
يا كل الناس، سأحكي لكم قصة عجيبة، فاستمعوا لها، بتدبر وتعقل، والمثل قول سائر يشبه مضربه – وهو الذي ضرب فيه – بمورده – وهو الذي ورد فيه أولا – وما ذكر في الآية ليس مثلا لكنه قصة عجيبة تشبه المثل في غرابتها واستحسانهاxlvii.
إن المعبودات الباطلة التي تعبدونها أيها المشركون لن تستطيع أن تخلق ذبابة واحدة، حتى لو اشتركت جميعها في محاولة خلق هذه الذبابة.
روى الشيخان وأحمد، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( قال الله عز وجل : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ؟ فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة )xlviii.
وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ.
أي : فضلا عن عجز الأصنام مجتمعة عن خلق ذبابة، فإن الذباب لو اختطف منها شيئا من الأشياء، لا تستطيع الأصنام استرداده لعجزها عن ذلك.
عن ابن عباس : أنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران، ورءوسها بالعسل، فإذا سلبه الذباب عجزت الأصنام عن أخذهxlix.
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ.
أي : ضعف الصنم، فهو عاجز تماما عن الحركة، أو استرداد ما أخذ منه، وضعف المطلوب وهو الذباب.
قال القرطبي :
وخص الذباب لأربعة أمور تخصه : لمهانته، وضعفه، ولاستقذاره، وكثرته، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره، لا يقدر من عبدوه من دون الله على خلق مثله، ودفع أذيته، فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين، وأربابا مطاعين، وهذا من أقوى حجة وأوضح برهان.
وقال السدي :
ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ.
الطالب العابد الذي يطلب الخير من الصنم، والمطلوب الذي هو الصنم، فكل منهما حقير ضعيف.
فالله سبحانه هو القوي المتين، وهو يمد بالقوة والنصر من أطاعه والتزم منهجه، أما من عصاه فهو هين ضعيف مهين، وكذلك الصنم الذي يعبد من دون الله.
ما قدروا الله : ما عظموه، أو ما تبينوا عظمته وقدرته وسلطانه.
قوى : قاهر لا يغلب.
عزيز : منيع لا يضام.
لم يعظموا الله حق عظمته، حين يرون آثار قدرته وعظمته، في ملكوت السماوات والأرض، وإحاطته بغيب السماوات والأرض، وضعف الأصنام وعجزها، ثم يعبدون هذه الأصنام ويسجدون لها، ويجعلونها آلهة تعبد من دون الله.
إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ.
إنه سبحانه لقوي قادر عظيم القدرة والسلطان. وهو سبحانه عزيز غالب على أمره، وما سواه مهين ضعيف ذليل مغلوب.
يصطفي : يختار.
ومن آثار قدرته وحكمته وعظمته، اختيار أمناء الوحي من الملائكة، ليحملوا أمانة الوحي من السماء إلى الأرض، ويختار للرسالة من البشر من هو أجدر وأولى وأحق بذلك قال تعالى : الله أعلم حيث يجعل رسالته، ... ( الأنعام : ١٢٤ ).
وقال تعالى : وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ. ( الدخان : ٣٢ ).
يقال : إن الوليد بن المغيرة استكثر الرسالة على محمد صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أأنزل عليه الذكر من بيننا...
( ص : ٨ ).
فنزل قوله تعالى : اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ.
فأمر اختيار الرسل من الملائكة ومن الناس، مفوض إليه سبحانه لا إلى أحد سواه.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ.
فهو سبحانه عظيم السمع، يسمع ويرى كل صوت ومشهد، وقد أحاط بكل شيء علما، وقريب من هذه الآية قوله سبحانه وتعالى : وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ. ( الزخرف : ٣١، ٣٢ ).
ما بين أيديهم : ما يستقبلونه.
وما خلفهم : وما يستدبرونه.
يعلم علما تاما بأحوال الملائكة والرسل والمكلفين، وما يستقبلونه من أحداث، ويعلم ما يخلفونه من آثار، فلا يخفى عليه شيء من أمورهم.
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ.
وإليه سبحانه الملك والقدرة والأمر والنهي، والحساب والجزاء يوم القيامة.
قال تعالى : لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ. ( غافر : ١٦ ).
تمهيد :
تختم السورة بهذه الآيات الحكيمة، التي تستحث المسلمين على الصلاة والعبادة وأفعال الخير والبر، رجاء الفلاح والسيادة في الدنيا والنجاة في الآخرة، ثم تدعو المسلمين إلى الجهاد في سبيل الله حق الجهاد، فالمسلمون أمة وسط، في شريعتها يسر وسهولة، وفي دينها تعقل وحكمة، وفي عبادتها ومعاملاتها رعاية لمصالح الناس، وعقيدة الألوهية الإسلامية، تتفق مع الرسالات السابقة، ومع المنقول والمعقول، من أجل ذلك فالمسلمون مؤهلون لقيادة البشرية، نحو عقيدة سليمة، وملة معتدلة، وعبادات حقة، ومعاملات نظيفة، بشرط أن يلتزم المسلمون بدينهم في إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، واتباع أوامر الله والتمسك بهديه، وحين اتبع المسلمون هدى الله آتاهم الله سعادة الدنيا والآخرة، ثم تتابعت قرون سوداء، ابتعد المسلمون فيها عن تعاليم القرآن، فسلب الله منهم المنزلة السامية، وإذا عاد المسلمون إلى هدى القرآن، وتمسكوا بحبل الله نصرهم الله، وهو نعم المولى ونعم النصير.
التفسير :
٧٧ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
تحث الآية على إقامة الصلاة، وذكرت الركوع والسجود، لأنهما سمة الخشوع والخضوع والالتزام بأمر الله، ثم أمرتهم بعبادة الله والتزام أمره، واجتناب نهيه وتوخى رضاه، ثم أمرتهم بفعل الخير، وهي جملة عامة تشمل كل أنواع الخير، من صلاة وزكاة وصيام وحج، وصلة الرحم وإكرام الجار ورعاية اليتيم، ومساعدة المحتاج وبر الوالدين، وزيارة المريض، والسعي في تكافل المسلمين وتراحمهم وتعاطفهم، وإصلاح ذات البين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدفاع عن الإسلام، والعمل على تبليغ الدعوة الإسلامية على وجهها السليم، ناصعة مشرقة جديرة بتحريك دواعي القبول، وفعل الخير سبيل الفلاح والسعادة في الدنيا والآخرة.
تختم السورة بهذه الآيات الحكيمة، التي تستحث المسلمين على الصلاة والعبادة وأفعال الخير والبر، رجاء الفلاح والسيادة في الدنيا والنجاة في الآخرة، ثم تدعو المسلمين إلى الجهاد في سبيل الله حق الجهاد، فالمسلمون أمة وسط، في شريعتها يسر وسهولة، وفي دينها تعقل وحكمة، وفي عبادتها ومعاملاتها رعاية لمصالح الناس، وعقيدة الألوهية الإسلامية، تتفق مع الرسالات السابقة، ومع المنقول والمعقول، من أجل ذلك فالمسلمون مؤهلون لقيادة البشرية، نحو عقيدة سليمة، وملة معتدلة، وعبادات حقة، ومعاملات نظيفة، بشرط أن يلتزم المسلمون بدينهم في إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، واتباع أوامر الله والتمسك بهديه، وحين اتبع المسلمون هدى الله آتاهم الله سعادة الدنيا والآخرة، ثم تتابعت قرون سوداء، ابتعد المسلمون فيها عن تعاليم القرآن، فسلب الله منهم المنزلة السامية، وإذا عاد المسلمون إلى هدى القرآن، وتمسكوا بحبل الله نصرهم الله، وهو نعم المولى ونعم النصير.
٧٨ - وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ...
في الله : في سبيله.
جاهدوا : الجهاد استفراغ الوسع في مجاهدة العدو، وهو ثلاثة أضرب :
١ – مجاهدة العدو الظاهر كالكفار.
٢ – مجاهدة الشيطان.
٣ – مجاهدة النفس والهوى وهذه أعظمها.
اجتباكم : اختاركم.
حرج : ضيق أو شدة.
ملة : شريعة.
اعتصموا بالله : استعينوا به وتوكلوا عليه.
مولاكم : ربكم ومالك أمركم ومدبر شئونكم.
النصير : المعين.
تدعو الآية إلى الجهاد في سبيل الله، والقرآن الكريم حافل بالدعوة إلى الجهاد، والحث على الشهادة، في سبيل الإسلام ونصر الدين ومقاومة الكافرين، وأعداء الدين، ومن أنواع الجهاد، جهاد الشيطان، وسد منافذه وإفساد خططه وحيله.
قال تعالى : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا... ( فاطر : ٦ ).
وقال عز شأنه : يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ... ( الأعراف : ٢٧ ).
وقال تعالى : إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ. ( النحل : ٩٩، ١٠٠ ).
ومن أنواع الجهاد جهاد النفس والهوى وذلك بالمشارطة، والمراقبة، والمعاتبة، والمعاقبة، والمحاسبة، والإخلاص في الدعاء، فيشترط على نفسه الاستقامة، والبعد عن المعاصي، ويراقب نفسه في تصرفاتها، ويلومها على الأخطاء، فإذا تكررت الأخطاء، عاقب نفسه بالصيام، أو تلاوة القرآن، أو غير ذلك.
وعلى المسلم أن يجلس وقتا ما في نهاية كل يوم لتصفية الحساب مع نفسه، فإن وجد خيرا فليحمد الله، وإن وجد معصية، ندم واستغفر، وجدد التوبة والالتجاء إلى الله تعالى، طالبا منه قبول التوبة والهداية والمعونة.
وأفضل الجهاد، مقاومة الظلم، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر )l.
أخرجه ابن ماجة، والخطيب، وأحمد، والطبراني، والبيهقي.
هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
هو سبحانه اختاركم واصطفاكم لحمل خاتم الأديان، وأرسل إليكم خاتم الرسل، وأنزل إليكم أكرم الكتب السماوية، وأتم الله عليكم نعمته بالتأييد والنصر.
وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.
ولم يجعل في الدين الذي تعبدكم ضيقا لا مخرج منه، ولم يكلفكم ما يشق عليكم، بل جعل التكاليف في حدود الوسع والطاقة لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا... ( البقرة : ٢٨٦ ).
يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ. ( البقرة : ١٨٥ ).
ومن ذلك التيسير أنه أباح للمسافر قصر الصلاة، والإفطار في رمضان، وأباح لنا التيمم عند فقد الماء، أو تعذر استعماله، وأباح في الصلاة القيام والقعود والنوم على الجنب، حسب الحالة الصحية للمصلي، وأباح الفطر في رمضان للحامل والمرضع والمشتغل في الأعمال الشاقة، ولم يوجب علينا الجمعة في المساجد حين السفر أو المطر، أو الخوف من عدو أو سبع، إلى نحو أولئك، كما فتح الله لنا باب التوبة، وشرع لنا الكفارات في حقوقه، ودفع الدية بدل القصاص إذا رضى الولي.
وقريب من هذا المعنى قوله تعالى : مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ. ( المائدة : ٦ ).
وقوله عز شأنه : رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ. ( البقرة : ٢٨٦ ).
مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ.
أي : وملتكم هي ملة إبراهيم الحنيفية السمحة، وإبراهيم هو الذي بنى البيت الحرام، ودعا الناس إلى حجه والصلاة فيه، بتكليف من الله تعالى، ونحو الآية قوله تعالى : قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين. ( الأنعام : ١٦١ ).
قال ابن جرير : وهو منصوب على تقدير : الزموا ملة أبيكم إبراهيم.
والمعنى :
إن دينكم الذي لا حرج فيه هو دين إبراهيم، فالزموه لأنه الدين القيم، ووصف سبحانه إبراهيم عليه السلام بالأبوة لهذه الأمة، لأن إبراهيم أب لشجرة الأنبياء، فهو أبو الملة الإبراهيمية الحنيفية السمحة، المائلة عن الباطل إلى الحق، ومن نسل إبراهيم إسماعيل، وكان من ذريته نبي واحد هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن نسل إبراهيم إسحاق ومن نسله يعقوب الملقب بإسرائيل ومن نسله الأسباط وهم الأحفاد، أحفاد إبراهيم، وكان من نسلهم آلاف الأنبياء لبني إسرائيل. كما يتضح ذلك من الآتي :
إبراهيم
إسماعيل إسحاق
محمد صلى الله عليه وآله وسلم يعقوب ( إسرائيل )
يوسف. بنيامين.. ( الأسباط )
آلاف الأنبياء من بني إسرائيل
ومنهم داود وسليمان وأيوب
وموسى وزكريا ويحيى
وعيسى...
هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا.
أي : الله سماكم بهذا الاسم الأكرم من قبل في الكتب المقدسة وفي هذا. يعني : القرآن.
وقال بعض المفسرين : الضمير يعود إلى إبراهيم وذلك لقوله : رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ... ( البقرة : ١٢٨ ).
ورجح ابن كثير الرأي الأول فإن الله تعالى هو الذي اختار هذه الأمة وجعلها خير أمة أخرجت للناس، وسماها أمة المسلمين بدليل ما جاء بعد هذه الفقرة، من امتياز هذه الأمة بالشهادة على الناس، فمعها الدين الحق والشريعة السمحاء.
لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ.
أي : إنما جعلكم هكذا أمة وسطا عدولا، مشهودا بعدالتكم بين الأمم، ليكون محمد صلى الله عليه وآله وسلم شهيدا عليكم يوم القيامة، بأنه قد بلغكم ما أرسل به إليكم، وتكونوا شهداء على الناس بأن الرسل قد بلغوهم ما أرسلوا به إليهم، وإنما قبلت شهادة الأمة الإسلامية على الناس لسائر الأنبياء، لأنهم لم يفرقوا بين أحد منهم، وعلموا أخبارهم من كتابهم على لسان نبيهم.
روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :( يدعى نوح – عليه السلام – يوم القيامة فيقول : لبيك وسعديك يا رب، فيقال له : هل بلغت ما أرسلت به ؟ فيقول : محمد وأمته. فيشهدون بأنه قد بلغ )li.
وقريب من هذا المعنى قوله تعالى : وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا... ( البقرة : ١٤٣ ).
فالأمة الإسلامية أمة وسط.
حيث إن مكة فيها البيت الحرام وهو في منطقة وسط، أشبه بمنتصف الدائرة حيث يتجه المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها وشمالها وجنوبها في الصلاة إلى البيت الحرام، والإسلام رسالة كاملة، أساسها القرآن الكريم والسنة المطهرة، والاجتهاد الذي يعتمد على فهم النصوص وروح التشريع والقياس والاستحسان وأعمال الصحابة وسد الذرائع والمصالح المرسلة وغير ذلك من القواعد، التي تكسب الفقه الإسلامي مرونة، وصلاحية للتطبيق في كل زمان ومكان. وكان اليهود قد بالغوا في المادية، فنزلت التوراة مشتملة على تشريعات فيها بعض العقوبات وتحريم بعض الطيبات.
قال تعالى : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم... ( النساء : ١٦٠ ).
ثم جاءت المسيحية تهتم بالنواحي الروحية ؛ ويعتبر العهد الجديد – أي : الأناجيل – متمما للعهد القديم أي : للتوراة والتلمود. ( والتلمود ) كتاب صعب وهو مقدس عند اليهود كتقديس التوراة ويقول المسيح عليه السلام :( ما جئت لأنقض الناموس بل لأتممه )، ثم جاء الإسلام، جامعا بين المادة والروح، والعناية بالإلهيات والنبوات والعبادات والمعاملات، مع العناية بالتقوى ويقظة الضمير ونظافة القلب، وحسن العلاقة مع الله، أي أن الإسلام اشتمل على محاسن المبادئ والدعوات، وتخلص من مساوئها.
فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ.
أي : قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها، فأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض، وترك ما حرم، ومن أهم ذلك : إقام الصلاة كاملة في أوقاتها بخشوعها، وإيتاء الزكاة التي كلفكم الله بها إلى مستحقيها.
وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ.
استعينوا بالله وتمسكوا بحبله وتوكلوا عليه وتأيدوا به، هو حافظكم وناصركم على أعدائكم.
فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ.
نعم المولى ونعم المعين، فمن تولاه كفاه كل ما أهمه، وإذا نصر أحدا أعلاه على كل من خاصمه، إذ لا ناصر في الحقيقة سواه، ولا ولي غيره، فله الحمد وهو رب العالمين.