ﰡ
مكية، واختلف في قوله تعالى: ﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ﴾ [سبأ: ٦]، فقالت فرقة: هي مكية، والمراد: المؤمنون بالنبي - ﷺ -، وقالت فرقة: هي مدنية، والمراد: من أسلم بالمدينة من أهل الكتاب؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه (١) وأشباههم، آيها: أربع وخمسون آية، وحروفها: ثلاثة آلاف وخمس مئة واثنا عشر حرفًا، وكلمها: ثماني مئة وثلاث وثمانون كلمة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١)﴾.[١] ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾ أي: الثناء له، والألف واللام لاستغراق الجنس؛ أي: الحمدُ على تنوعه هو لله تعالى ﴿الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ ملكًا وخلقًا.
﴿وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ﴾ كما هو في الدنيا؛ لأن أهل الحمد يحمدونه في
﴿وَهُوَ الْحَكِيمُ﴾ المحكِم لأمور الدارين ﴿الْخَبِيرُ﴾ بالأشياء؛ لأن وجودها إنما هو به جلَّت قدرتُه.
﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (٢)﴾.
[٢] ﴿يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ﴾ أي: يدخل فيها من الأموات والكنوز والدفائن وغيرها ﴿وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا﴾ من النبات والأموات عند الحشر، وماء العيون وسائر المخرَجات.
﴿وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ﴾ من الوحي والرسل والكتب والأقدار والأمطار والصواعق والشهب.
﴿وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ أي: يصعد فيها (١) من الملائكة والأعمال.
﴿وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ﴾ للمفرِّطين في شكر نعمته.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٣)﴾.
[٣] ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ استهزاءً واستبطاء للبعث: {لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ
﴿عَالِمِ الْغَيْبِ﴾ قرأ نافع، وأبو جعفر، وابن عامر، ورويس عن يعقوب: (عَالِمُ) برفع الميم على الاستئناف؛ أي: هو عالم الغيب، وقرأ الباقون: بخفضها من نعت قوله تعالى: (وَرَبِّي)، وقرأ منهم حمزة، والكسائي: (عَلَّامِ) بتشديد اللام على وزن فَعّال وجر الميم على المبالغة (٢)، روي أن قائل هذه المقالة هو أبو سفيان بن حرب، قال: واللات والعزى ما ثَمَّ ساعة تأتي، ولا قيام ولا حشر، فأمر الله تعالى نبيه - ﷺ - أن يُقسم بربه مقابلة (٣) لقسم أبي سفيان؛ ردًّا وتكذيبًا وإيجابًا لما نفاه.
﴿لَا يَعْزُبُ﴾ قرأ الكسائي: بكسر الزاي، والباقون: بضمها؛ أي: لا يغيب.
﴿عَنْهُ مِثْقَالُ﴾ أي: وزن ﴿ذَرَّةٍ﴾ أي: نملة ﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ﴾ أي: المثقال ﴿وَلَا أَكْبَرُ﴾ ورفعُهما عطف على (مِثْقَالُ).
﴿إِلَّا﴾ وهو مثبت.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٧٩ - ١٨٠)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٩٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٤٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٤١ - ١٤٢).
(٣) "بربه مقابلة" زيادة من "ت".
﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)﴾.
[٤] ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ اللام في (لِيَجْزِيَ) متعلقة بقوله: (لاَ يَعْزُبُ) أي: لا يغيب عنه شيء ليجزي المحسنَ والمسيء.
﴿أُولَئِكَ﴾ أي: المؤمنون ﴿لَهُمْ مَغْفِرَةٌ﴾ وهي تغمد الذنوب.
﴿وَرِزْقٌ كَرِيمٌ﴾ هو الجنة.
﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (٥)﴾.
[٥] ﴿وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا﴾ في إبطال أدلتنا ﴿مُعَاجِزِينَ﴾ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: بتشديد الجيم من غير ألف؛ أي: مُثَبِّطين الناس عن الإيمان، والباقون: بالتخفيف وألف بعد العين (١)؛ أي: مسابقين، يحسبون أنهم يفوتوننا.
﴿أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ﴾ من سيئ العذاب.
﴿وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٦)﴾.
[٦] ﴿وَيَرَى﴾ أي: ويعلم ﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ﴾ هم الصحابة، أو من آمن من أهل الكتاب ﴿الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ﴾ يعني: القرآن ﴿هُوَ الْحَقَّ﴾ أي: يرون المنزل حقًّا.
﴿وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ يعني: الإسلام، وليس بمعطوف على ما تقدم؛ لأن الله تعالى لم يُحصِ أعمال الخلق ليهتدوا كلهم إلى صراط مستقيم، لكنه مستأنف على تقدير: وهو يهدي، وقيل: هو معطوف على (الحق) أي: يرون المنزل حقًّا وهاديًا.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (٧)﴾.
[٧] ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ سخرية بنبيهم.
﴿يُنَبِّئُكُمْ﴾ يخبركم، ويقول لكم: ﴿إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ قُطِّعتم كل تقطيع؛ أي: في القبور ﴿إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ أي: تنشؤون خلقًا جديدًا بعد تمزيق أجسادكم.
﴿أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (٨)﴾.
[٨] ﴿أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ﴾ الألف للاستفهام؛ أي: هو مفتر، أم به جنون؟ فرد الله تعالى ذلك بقوله:
﴿بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ﴾ أي: البعث.
﴿فِي الْعَذَابِ﴾ ثم ﴿وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ﴾ عن الهدى.
﴿أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٩)﴾.
[٩] ثم أومأ تعالى إلى وحدانيته وعظيم قدرته بقوله: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ
﴿إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً﴾ تدل على قدرتنا على البعث.
﴿لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ تائب مقبل على ربه، راجع إليه بقلبه. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف: (يَشَأْ) (يَخْسِفْ) (أَوْ يُسْقِطْ) بالياء في الثلاثة خبر عن الله تعالى، وأدغم الكسائي الفاء بالباء، وقرأهن الباقون: بالنون إخبارًا عن الله تعالى تعظيمًا (١)، وقرأ حفص عن عاصم: (كِسَفًا) بفتح السين جمع كِسْفة؛ أي: قطعًا، وقرأ الباقون: بالإسكان على التوحيد (٢)؛ أي: قطعه، وجمعه (٣) أكساف وكسوف، واختلافهم في الهمزتين من (السَّمَاءِ إِنْ) كاختلافهم فيهما من (الْبِغَاءِ إِنْ) في سورة النور [الآية: ٣٣].
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (١٠)﴾.
[١٠] ثم ذكر تعالى نعمته على داود وسليمان؛ احتجاجًا على ما منح (١)
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٨٠)، و"الكشف" لمكي (٢/ ٥١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٤٥).
(٣) "وجمعه" زيادة من "ت".
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا﴾ أي: النبوة والملك، وقلنا:
﴿يَاجِبَالُ أَوِّبِي﴾ رَجِّعي ﴿مَعَهُ﴾ التسبيح، فكان داود إذا سبح، سمع تسبيح الجبال، ويعقل معناه؛ معجزة له؛ كما سمع الخطاب من الشجرة، وعقل معناه ﴿وَالطَّيْرَ﴾ أي: وسخرنا له الطير بأصواتها، فكان داود يقول للجبال: سبحي، وللطير: أجيبي، ثم يأخذ في تلاوة الزبور بصوته الحسن، فلا يُرى شيء أحسن من ذلك فمن سمع صدى الجبال. قراءة العامة: (وَالطَّيْرَ) بالنصب بإضمار فعل تقديره: وسخرنا الطير، وألنا له الحديد، وقرأ يعقوب: بالرفع ردًّا على (الجبال)؛ أي: أوبي أنت والطير، ووردت عن عاصم، وأبي عمرو (١).
﴿وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ﴾ أي: جعلناه له لينًا كالشمع، فلا يفتقر إلى نار ولا مطرقة.
﴿أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١)﴾.
[١١] ﴿أَنِ اعْمَلْ﴾ أمرناه أن اعمل، و (أن) مفسرة لا موضع لها من الإعراب ﴿سَابِغَاتٍ﴾ دروعًا تامة تعم البدن.
﴿وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ فأجازيكم عليه.
﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (١٢)﴾.
[١٢] ﴿وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ﴾ أي: وسخرنا له. قرأ أبو بكر عن عاصم: (الرِّيحُ) بالرفع؛ أي: له تسخرت الريح، والباقون: بالنصب، ومنهم
﴿غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ﴾ جريُها بالغداة مسيرة شهر، وبالعشي كذلك، فكانت تغدو بسليمان وجنوده على البساط من دمشق، فيقيل بإصطخر، وبينهما شهر للراكب المسرع، ويروح من إصطخر، فيبيت بكابل، وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع.
﴿وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ﴾ أذبنا له معدن النحاس، أساله الله حتى صار كالماء، فكان يسيل في الشهر ثلاثة أيام، وكان بأرض اليمن، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله لسليمان.
﴿وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ﴾ أي: بأمره، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "سخر الله الجن لسليمان، وأمرهم بطاعته فيما يأمرهم به" (٢).
﴿وَمَنْ يَزِغْ﴾ يعدل ﴿مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا﴾ الذي أمرنا به من طاعة سليمان.
﴿نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ في الآخرة، وقيل: في الدنيا، وذلك أن الله تعالى وكل بهم ملكًا بيده سوط من نار، فمن زاغ عن أمر سليمان، ضربه ضربة أحرقته.
(٢) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٥٩٧).
[١٣] ﴿يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ﴾ أي: مساجد ﴿وَتَمَاثِيلَ﴾ صور الملائكة والأنبياء والصالحين في المساجد؛ لينشطوا إلى العبادة والاقتداء بهم، وعملوا له في أسفل كرسيه أسدين، وفي أعلاه نسرين، فإذا صعد، بسط له الأسدان ذراعيهما فارتقى عليهما، فإذا جلس أظله النسران بجناحيهما، ولم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرمًا، وكان مما عملوا له بيت المقدس، ابتدأه داود، ورفعه قامة رجل، فأوحى الله إليه أني لم أقض ذلك على يدك، ولكن ابن لك أملكه بعدك اسمه سليمان أقضي إتمامه على يده، فلما توفاه الله تعالى، استخلف سليمان -عليه السلام-، وكان مولده بغزة، وملك بعد أبيه وله اثنتا عشرة سنة، ولما كان في السنة الرابعة من ملكه في شهر أيار سنة تسع وثلاثين وخمس مئة لوفاة موسى -عليه السلام-، ابتدأ سليمان في عمارة بيت المقدس حسبما تقدم به وصية أبيه إليه، وجمع حكماء الإنس والجن، وعفاريت الأرض، وعظماء الشياطين، وجعل منهم فريقًا يبنون، وفريقًا يقطعون الصخور والعمد من معادن الرخام، وفريقًا يغوصون في البحر فيخرجون منه الدر والمرجان، وكان في الدر ما هو مثل بيضة النعامة، وبيضة الدجاجة، وبنى مدينة بيت المقدس، وجعلها اثني عشر ربضًا، وأنزل كل رَبَض منها سِبْطًا من أسباط بني إسرائيل، وكانوا اثني عشر سبطًا، ثم بنى المسجد بالرخام الملون، وسقفه بألوان الجواهر الثمينة، وفصص سقوفه وحيطانه باللآلئ واليواقيت، وأنبت الله شجرتين عند باب الرحمة، إحداهما تنبت الذهب، والأخرى تنبت الفضة، فكان في
ولما فرغ من بناء المسجد (١)، سأل الله ثلاثًا: سأله حكمًا يوافق حكمه، وسأله ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وسأله ألَّا يأتي هذا المسجدَ أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
وروي عن النبي - ﷺ - أنه قال: "إنَّ سُليمانَ بنَ داود -عليهما السلام- سأل ربَّه ثلاثًا، فأعطاه اثنتين، ونحن نرجو أن يكون قد أعطاه الثالثةَ: سأله حُكمًا يصادف حُكمه فأعطاه، وسأله مُلْكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده فأعطاه، وسأله: أيُّما رجُلٍ يخرج من بيته لا يُريد إِلا الصلاةَ في هذا المسجد، أن يخرج من خطيئته كيومَ ولدته أمُّه، فنحن نرجو أن يكون قد أعطاه إيَّاه" (٢).
ولما رفع سليمان يده من البناء بعد الفراغ منه، جمع الناس وأخبرهم أنه
(٢) رواه النسائي في "سننه" (٦٩٣)، كتاب: المساجد، باب: فضل المسجد الأقصى والصلاة فيه، وابن ماجه (١٤٠٨)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في الصلاة في مسجد بيت المقدس، وأحمد في "المسند" (٢/ ١٧٦) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
واستمر بيت المقدس على ما بناه سليمان أربع مئة سنة وثلاثًا وخمسين سنة حتى غزاه بُخت نصَّر، فخرب المدينة، وهدمها، ونقض المسجد، وأخذ جميع ما كان فيه من الذهب والفضة والجواهر، فحمله إلى دار مملكته من أرض العراق، واستمر خرابًا (٢) بيت المقدس سبعين سنة كما تقدم ذكره في سورة البقرة [الآية: ٢٥٩] وسورة الإسراء [الآية: ٦] (٣).
وبنى الشياطين لسليمان باليمن حصونًا كثيرة عجيبة من الصخر ﴿وَجِفَانٍ﴾ قصاع كبار ﴿كَالْجَوَابِ﴾ جمع جابية، وهو الحوض الكبير.
قرأ أبو عمرو، وورش عن نافع: (كَالْجَوَابِي) بإثبات الياء وصلًا، وقرأ ابن كثير، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، وحذفها الباقون في الحالين (٤) ﴿وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ﴾ ثابتات لها قوائم لا يحركن عن أماكنهن؛ لعظمهن،
(٢) "خرابًا" زيادة من "ت".
(٣) وسلف نحو هذا الخبر عند تفسير الآية (٩٧) و (١١٤) من سورة البقرة.
(٤) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٢٧)، و"التيسير" للداني (ص: ١٨٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٥١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٤٧ - ١٤٨).
﴿اعْمَلُوا﴾ أي: وقلنا: اعملوا ﴿آلَ دَاوُودَ﴾ نصبه على النداء؛ أي: اعملوا يا آل داود بطاعة الله ﴿شُكْرًا﴾ له على نعمه.
﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ أي: العامل بطاعتي شكرًا لنعمتي. قرأ حمزة: (عِبَادِي الشَّكُورُ) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (١).
﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (١٤)﴾.
[١٤] روي أن سليمان -عليه السلام- كان يتحنث في بيت المقدس الشهر والشهرين، والسنة والسنتين، وأقل وأكثر، وينقطع عن الناس، ويدخل إليه طعامه وشرابه، وكانت الجن تخبر الإنس أنهم يعلمون من الغيب أشياء، ويعلمون ما في غد، فدخل بيت المقدس يومًا، وقال: اللهم عَمِّ موتي على الجن حتى تعلمَ الإنسُ أن الجنَّ لا تعلم الغيب، ثم قام يصلي متكئًا على عصاه، فمات قائمًا، وكان لمحرابه كوى بين يديه وخلفه (٢)، فكان الجن يعملون تلك الأعمال الشاقة التي كانوا يعملون في حياته، وينظرون إليه يحسبون أنه حي، ولا ينكرون احتباسه عن الخروج إلى الناس؛ لطول صلاته قبل ذلك، فمكثوا يدأبون له بعد موته حولًا
(٢) "وخلفه" زيادة من "ت".
﴿مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ﴾ هي الأرضة.
﴿تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ﴾ عصاه؛ لأنها ينسأ بها؛ أي: يؤخر. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (مِنْسَاتَهُ) بألف ساكنة بعد السين من غير همز، وهذه الألف بدل من الهمزة لغة مسموعة صحيحة، قال أبو عمرو بن العلاء: هو لغة قريش، وأصلها الهمز؛ من نسأت الغنم: سقتها بها، وقرأ ابن ذكوان: بإسكان الهمزة، لغة غريبة صحيحة ورد به القرآن، وقرأ الباقون: بفتح الهمزة على الأصل، وحمزة إذا وقف جعلها بين بين على أصله (٢).
﴿فَلَمَّا خَرَّ﴾ سقط على وجهه ﴿تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ﴾ قرأ يعقوب (تُبُيّنَتِ) بضم التاء والباء وكسر الياء؛ أي: أعلمت الإنس الجن، ذكر بلفظ ما لم يسم فاعله، وقرأ الباقون: بفتح التاء والباء والياء (٣)؛ أي: علمت الجن وأيقنت ﴿أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ﴾ أي: في التعب والشقاء المُذِلَّ مسخَّرين لسليمان وهو ميت يظنون حياته، أراد الله بذلك أن يعلم
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٨٠)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٥٩٩)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٥٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٤٩ - ١٥٠).
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (٣/ ٦٠٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٥٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٥٠).
وتوفي سليمان وله اثنتان وخمسون سنة، فكان مدة ملكه أربعين سنة، فتكون وفاته في أواخر سنة خمس وسبعين وخمس مئة لوفاة موسى -عليه السلام-، وذلك بعد فراغ بناء بيت المقدس بتسع وعشرين سنة، وبين وفاته والهجرة الشريفة النبوية المحمدية ألف وسبع مئة وثلاث وسبعون سنة، والله أعلم.
﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥)﴾.
[١٥] فلما فرغ التمثيل لمحمد - ﷺ - بسليمان -عليه السلام-، رجع التمثيل للكفار بسبأ، وما كان من إهلاكهم بالكفر والعتو، فقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ﴾ اسم أرض باليمن، أو رجل. قرأ أبو عمرو، والبزي: بفتح الهمزة من غير تنوين، وروى قنبل: بإسكان الهمزة، وقرأ الباقون: بالخفض والتنوين (١)، فمن قرأ منونًا مصروفًا، جعله اسم رجل، ومن قرأ غير مصروف، جعله اسم البلد ﴿فِي مَسْكَنِهِمْ﴾ قرأ حمزة، وحفص:
﴿آيَةٌ﴾ اسم كان؛ أي: علامة دالة على قدرة الله تعالى ﴿جَنَّتَانِ﴾ بدل من آية؛ أي: بستانان ﴿عَنْ يَمِينٍ﴾ من بلدهم ﴿وَشِمَالٍ﴾ منه، والمراد: جماعتان من البساتين بها أشجار كثيرة، وثمار طيبة، فقيل لهم:
﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ﴾ الذي رزقكم ﴿وَاشْكُرُوا لَهُ﴾ على ما رزقكم من النعمة؛ أي: اعملوا بطاعته.
﴿بَلْدَةٌ﴾ استئناف للدلالة على موجب الشكر؛ أي: هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة ﴿طَيِّبَةٌ﴾ وطيبتها أنها لم يكن بها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية، وكان يمر بها الغريب فيموت قمله؛ لطيب الهواء.
﴿وَرَبٌّ﴾ أي: وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم ربٌّ ﴿غَفُورٌ﴾ للذنوب مع الإيمان به، وهذا من قول الأنبياء لهم. وقرأ رويس عن يعقوب: (بَلْدَةً طَيِّبَة وَرَبًّا غَفُورًا) بالنصب في الكل على المدح (٢).
(٢) انظر: "القراءات الشاذة" لابن خالويه (ص: ١٢١)، و"إملاء ما كان به الرحمن" للعكبري (٢/ ١٠٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٥٢).
[١٦] وبعث إليهم ثلاثة عشر نبيًّا، فذكروهم نعم الله، وخوفوهم عقابه ﴿فَأَعْرَضُوا﴾ وقالوا: ما نعرف لله علينا نعمة، فقولوا لربكم أن يحبس عنا هذه النعمة إن استطاع.
﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ﴾ أي: على سدهم، وهو سد بنته بلقيس بين الجبلين، فحقنت به الشجر، وتركت فيه ثقبًا على مقدار ما يحتاجون إليه من الماء ﴿سَيْلَ الْعَرِمِ﴾ وهو السيل الذي لا يُطاق، وأصله من العرامة، وهي الشدة والقوة، فخرب السد، وملأ ما بين الجبلين، وحمل الجنات وكثيرًا من الناس ممن لم يمكنه الفرار، وأغرق أموالهم، فتفرقوا في البلاد، فصاروا مثلًا، وكان ذلك بين عيسى ومحمد عليهما السلام.
﴿وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ﴾ المذكورتين ﴿جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ﴾ ثمر ﴿خَمْطٍ﴾ وهو شجر الأراك وثمره، وقيل: هو كل شجر مر الثمر. قرأ يعقوب: (بِجَنَّتَيهُم) بضم الهاء، وابن كثير وأبو جعفر: يضمان الميم ويصلانها بواو في اللفظ وصلًا، واختلف عن قالون، وقرأ أبو عمرو ويعقوب (أُكْلِ) بالإضافة من غير تنوين، وقرأ الباقون: بالتنوين، ومنهم نافع وابن كثير يسكنان الكاف، والباقون: يضمونها (١) ﴿وَأَثْلٍ﴾ هو الطرفاء، ولا ثمر له، أو شجر يشبه الطرفاء، عطف على (أُكُلٍ).
﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (١٧)﴾.
[١٧] ﴿ذَلِكَ﴾ الجزاء ﴿جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا﴾ النعمة ﴿وَهَلْ نُجَازِي﴾ يعاقَب؛ أي: وهل يجازى مثلَ هذا الجزاء ﴿إِلَّا الْكَفُورَ﴾ البليغ في الكفران. قرأ حمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب، وحفص عن عاصم: (نُجَازِي) بالنون مع كسر الزاي (الْكَفُورَ) بالنصب مفعولًا إخبارًا منه تعالى عن نفسه؛ لقوله: (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ) والكسائي على أصله في إدغام اللام من (هل) في النون، وقرأ الباقون: (يُجَازِى) بضم الياء وفتح الزاي، ورفع (الْكَفُورُ) (١).
﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (١٨)﴾.
[١٨] ولما هلك مالهم (٢)، قالوا: نحن نتوب، ويرد علينا خيرنا،
(٢) "مالهم" زيادة من "ت".
﴿وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ﴾ للمبيت والمقيل، فكان سيرهم في الغدو والرواح على قدر نصف يوم، فإذا ساروا نصف يوم، وصلوا إلى قرية ذات مياه وأشجار، وقلنا لهم: ﴿سِيرُوا فِيهَا﴾ لمصالحكم ﴿لَيَالِيَ وَأَيَّامًا﴾ أي: ليلًا ونهارًا ﴿آمِنِينَ﴾ من العدو والجوع والعطش.
﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩)﴾.
[١٩] فبطروا النعمة، وسئموا الراحة، ﴿فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾ فاجعل بيننا وبين الشام فلواتٍ ومفاوزَ؛ ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل، وتزود الأزواد، فعجل الله لهم الإجابة بتخريب القرى المتوسطة. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وهشام: (بَعِّدْ) بنصب الباء وكسر العين مشددة من غير ألف مع إسكان الدال، وقرأ الباقون سوى يعقوب كذلك، إلا أنهم بالألف بعد الباء وتخفيف العين (١)، وكلٌّ على وجه الدعاء
﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾ لمن بعدهم يتحدثون بأخبارهم.
﴿وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ فرقناهم في البلاد كل التفريق.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ﴾ على الوحدانية والقدرة.
﴿لِكُلِّ صَبَّارٍ﴾ عن معاصي الله ﴿شَكُورٍ﴾ لأنعمه.
﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ﴾ قرأ الكوفيون: (صَدَّقَ) بتشديد الدال؛ أي: إبليسُ صدق ظنه الذي ظنَّ فيهم، وهو كفرُهم حيث قال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢)﴾ [ص: ٨٢] ﴿وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: ١٧]، فصدق ظنه، وحققه بفعله ذلك بهم، واتباعهم إياه، وقرأ الباقون: بتخفيف الدال (٢)؛ أي: صدق عليهم في ظنه بهم، واختلف القراء في إدغام الدال من (قَدْ) وإظهارها عند الصاد من (صَدَّقَ)، فأدغمها أبو عمرو، وحمزة،
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٢٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٨١)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٦٠٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٥٧).
﴿فَاتَّبَعُوهُ﴾ الكفار ﴿إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ يعني: إلا فريقًا هم المؤمنون لم يتبعوه.
﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١)﴾.
[٢١] ﴿وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ﴾ أي: ما كان تسليطنا إياه عليهم.
﴿إِلَّا لِنَعْلَمَ﴾ أي: ليظهر ﴿مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ﴾ فيتميز المؤمن من الكافر.
﴿وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾ رقيب.
﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿قُلِ﴾ يا محمد لكفار مكة: ﴿ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾ أنهم آلهة ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ قرأ عاصم، وحمزة، ويعقوب: (قُلِ ادْعُوا) بكسر اللام في الوصل، والباقون: بالضم (٢)، وفي الآية حذف؛ أي: ادعوهم لينعموا
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٥٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٥٨).
﴿لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ في خير أو شر.
﴿فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ في أمر ما.
﴿وَمَا لَهُمْ﴾ لآلهتهم ﴿فِيهِمَا﴾ في السموات والأرض.
﴿مِنْ شِرْكٍ﴾ أي: شركة مع الله.
﴿وَمَا لَهُ﴾ تعالى ﴿مِنْهُمْ﴾ أي: الآلهة.
﴿مِنْ ظَهِيرٍ﴾ معين، فهو تعالى غني عن خلقه، وآلهتهم عجزة عن كل شيء.
﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ﴾ تعالى ﴿إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ في الشفاعة لغيره. قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف: (أُذِنَ) بضم الهمزة مجهولًا أقيم (لَهُ) مقام الفاعل، وقرأ الباقون: بفتحها معلومًا (١)، الفاعلُ اللهُ تعالى.
﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا﴾ أزيل عنها الفزع. قرأ ابن عامر، ويعقوب:
﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾ ذو العلو والكبرياء.
﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٢٤)﴾.
[٢٤] ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ فالرزق من السموات المطر، ومن الأرض النبات ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ يعني: إن لم يقولوا: رازقنا الله، فقل أنت: إن رازقكم الله.
﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ أي: ما نحن وأنتم على أمر واحد، بل أحد الفريقين مهتد، والآخر ضال، المعنى: إنا على الهداية يقينًا؛ لأنا موحدون، وأنتم على الضلالة يقينًا؛ لأنكم مشركون، ولم
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٨١)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٦٠٥)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٥١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٥٨ - ١٥٩).
﴿قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥)﴾.
[٢٥] ثم أوضح ذلك فقال: ﴿قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا﴾ اكتسبنا من الذنب.
﴿وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ بل كل مطالب بعمله.
﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦)﴾.
[٢٦] ﴿قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا﴾ يوم القيامة ﴿ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا﴾ أى: يقضي.
﴿بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ﴾ الحاكم في القضايا المنغلقة.
﴿الْعَلِيمُ﴾ بما ينبغي أن يقضى به.
﴿قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ﴾ أي: أشركتموهم مع الله تعالى في العبادة، المراد بذلك: إظهار خطأ الكفار بعبادة العاجز، ثم ردهم عن اعتقادهم، فقال: ﴿كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ﴾ وحده ﴿الْعَزِيزُ﴾ الغالب على أمره.
﴿الْحَكِيمُ﴾ في تدبيره، فأنى يكون له شريك في ملكه؟!
[٢٨] ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً﴾ نصب على الحال ﴿لِلنَّاسِ﴾ أي: عامة لهم ﴿بَشِيرًا﴾ بالجنة ﴿وَنَذِيرًا﴾ بالنار، حالان.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ فيحملهم الجهل على مخالفتك، قال - ﷺ -: "كان النبي يُبعث إلى قومِه خاصةً، وبُعثت إلى الناس عامةً" (١)، وقيل: (كَافَّةً)؛ أي: لتكف الناس عن المعاصي، والهاء للمبالغة.
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٢٩)﴾.
[٢٩] ﴿وَيَقُولُونَ﴾ أي: الكافرون استهزاءً: ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ الذي تعدوننا به.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ يخاطبون به رسول الله - ﷺ - والمؤمنين.
﴿قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ﴾ هو يوم البعث.
﴿لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ﴾ إذا فاجأكم، وهو جواب تهديد.
[٣١] ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ﴾ ولا بما دل عليه من البعث وغيره ﴿وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ من التوراة والإنجيل.
﴿وَلَوْ تَرَى﴾ يا محمد ﴿إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ﴾ محبوسون.
﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ﴾ أي: يرد ﴿بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ﴾ في الجدال.
﴿يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ استُحقروا، وهم الأتباع.
﴿لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ وهم القادة والأشراف:
﴿لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ﴾ لأنكم منعتمونا عن الإيمان.
﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا﴾ إنكارًا عليهم.
﴿أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ﴾ مشركين باختياركم.
[٣٣] ﴿وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا﴾ إبطالًا لإضرابهم بإضرابهم عن مجادلتهم: ﴿بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ أي: مكركم بنا دائمًا ليلًا ونهارًا، فأجرى الظرف مجرى المفعول به، وأضيف المكر إليهما اتساعًا، تلخيصه: إنما أشركنا بسببكم.
﴿إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا﴾ والند: المثيل والشبيه.
﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ﴾ اعتقدوها في نفوسهم؛ أي: كل من المستكبرين والمستضعفين ﴿لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في النار من الأتباع والمتبوعين، وقيل استهزاءً بهم وإيجابًا لعذابهم:
﴿هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من الكفر والمعاصي في الدنيا؟!
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا﴾ أغنياؤها.
﴿إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ﴾ هذه الآية تسلية للنبي - ﷺ -؛ أي: يا محمد! هذه سيرة الأمم، فلا يهمك أمر قومك.
[٣٥] ﴿وَقَالُوا﴾ أي: الكفار المترفون للفقراء المؤمنين؛ فخرًا بزخارف الدنيا.
﴿نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾ لأنه أحسن إلينا في الدنيا بالمال والولد، فلا يعذبنا.
﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٣٦)﴾.
[٣٦] ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ امتحانًا ﴿وَيَقْدِرُ﴾ يضيق ابتلاء، وليس في شيء من ذلك دليل على رضا الله تعالى والقرب منه؛ لأنه قد يعطي ذلك (١) إملاء واستدراجًا.
﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ ذلك؛ كأنتم أيها الكفرة.
﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (٣٧)﴾.
[٣٧] ﴿وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ﴾ أي: جماعة أموالكم وجماعة أولادكم ﴿بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى﴾ أي: تقريبًا، نصب مصدر، كـ ﴿وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (١٧)﴾ [نوح: ١٧].
﴿فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ﴾ أن تضاعف حسناتهم الواحدة بعشر إلى سبع مئة ﴿بِمَا عَمِلُوا﴾ قرأ رويس عن يعقوب: (جَزَاءً) بالنصب على الحال مع التنوين وكسره وصلًا، ورفع (الضِّعْفُ) بالابتداء؛ كقولك: في الدار زيدٌ قائمًا، تقديره: فأولئك لهم الضعف جزاءً، وقرأ الباقون: (جَزَاءُ) بالرفع من غير تنوين، وخفض (الضَّعْفِ) بالإضافة (١).
﴿وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ﴾ المنازل الرفيعة ﴿آمِنُونَ﴾ من المكاره. قرأ حمزة: (في الْغُرْفَةِ) بإسكان الراء من غير ألف على التوحيد على اسم الجنس، والمراد به: الجمع، وقرأ الباقون: بضم الراء مع الألف على الجمع (٢)؛ لقوله: ﴿لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا (٥٨)﴾ [العنكبوت: ٥٨].
﴿وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ﴾ تقدم تفسيره واختلاف القراء فيه.
﴿أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾ من الإحضار.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٣٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٨١)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٦٠٩)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٦٤).
[٣٩] ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ﴾ كرر القول بذلك تأكيدًا وتبيينًا، وقصد به هنا رزق المؤمنين، وليس عليه (١) سوقه على المعنى الأول الذي قيل للكافرين، بل هذا هاهنا على جهة الوعظ والتزهيد في الدنيا، والحض على النفقة في الطاعات، ثم وعد بالخلف في ذلك بقوله:
﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ﴾ أي: فالله يعوضه هنا بالمال، أو بالقناعة التي هي كنز لا يفنى، وفي الآخرة بالثواب.
﴿وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ خير مَنْ يعطي ويرزق، وقوله: ﴿خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ من حيث يقال في الإنسان إنه يرزق عياله، والأمير جنده، ولكن ذلك من مال يملك عليهم، والله تعالى من خزائن لا تفنى.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي - ﷺ - قال: "قال الله في: أَنفِق أُنْفِق عليك" (٢).
وفي "البخاري": "إن الملك ينادي كل يوم: اللهمَّ أعطِ منفقًا (٣) خَلَفًا، ويقول مَلَكٌ آخَرُ: اللهم أعطِ ممسِكًا تلَفًا" (٤).
(٢) رواه البخاري (٤٤٠٧) كتاب: التفسير، باب: قوله تعالى: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ [هود: ٧]، ومسلم (٩٩٣)، كتاب: الزكاة، باب: الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف.
(٣) في "ت": "كل منفق".
(٤) رواه البخاري (١٣٧٤)، كتاب: الزكاة، باب قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى﴾، =
[٤٠] ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا﴾ يعني: المستكبرين والمستضعَفين.
﴿ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ﴾ إثباتًا للحجة على الكفار: ﴿أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ في الدنيا؟ وهو استفهام تقرير؛ كقوله لعيسى -عليه السلام-: ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ [المائدة: ١١٦]. قرأ يعقوب، وحفص عن عاصم: (يَحْشُرُهُمْ) (ثُمَّ يَقُولُ) بالياء فيهما، والباقون: بالنون (١)، واختلافهم في الهمزتين من (هَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ) كاختلافهم فيهما من (الْبِغَاءِ إِنْ) في سورة النور [الآية: ٣٣].
﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١)﴾.
[٤١] فتتبرأ منهم الملائكة ﴿قَالُوا سُبْحَانَكَ﴾ تنزيهًا لك ﴿أَنْتَ وَلِيُّنَا﴾ الذي نتولاه، ونلتجئ إليه من دونهم، لا موالاة بيننا وبينهم.
﴿بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ﴾ يطيعون ﴿الْجِنَّ﴾ أي: الشياطين؛ لأنهم زينوا لهم عبادة الملائكة، فكانوا يطيعونهم.
(١) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٠٧)، و "تفسير البغوي" (٣/ ٦١٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٢٥٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٦٥).
﴿فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (٤٢)﴾.
[٤٢] ثم يقول الله تعالى: ﴿فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا﴾ بالشفاعة.
﴿وَلَا ضَرًّا﴾ بالعذاب؛ لأن الأمر كله لله.
﴿وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ﴾ قال هنا: (الَّتِي) أراد: النار، وفي السجدة: (الَّذِي) أراد: العذاب.
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (٤٣)﴾
[٤٣] ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا﴾ يعنون محمدًا - ﷺ -.
﴿إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ﴾ فيستتبعكم بما يستبدعه.
﴿وَقَالُوا مَا هَذَا﴾ أي: القرآن ﴿إِلَّا إِفْكٌ﴾ لعدم مطابقة ما فيه الواقع.
﴿مُفْتَرًى﴾ بإضافته إلى الله سبحانه وتعالى.
﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ﴾ والمراد: محمد، والقرآن:
﴿إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ ظاهر سحريته.
[٤٤] ﴿وَمَا آتَيْنَاهُمْ﴾ يعني: العرب ﴿مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا﴾ يقرؤونها، فيعلمون ذلك.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَا﴾ إلى العرب الذين بعثت ﴿إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ﴾ وليس المراد: من تقدمه من العرب؛ لأن إسماعيل كان مبعوثًا قبله إلى العرب.
﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (٤٥)﴾.
[٤٥] ﴿وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ من الأمم رسلَنا، وهم عاد، وثمود، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وغيرهم.
﴿وَمَا بَلَغُوا﴾ كفارُ مكة ﴿مِعْشَارَ﴾ أي عشرَ؛ كالمرباع الربع.
﴿مَا آتَيْنَاهُمْ﴾ أي: الأمم الخالية من القوة والنعمة وطول العمر.
﴿فَكَذَّبُوا رُسُلِي﴾ عنادًا.
﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ أي: إنكاري عليهم، يحذرهم عذاب من تقدم.
قرأ ورش عن نافع: (نَكِيرِي) بإثبات الياء وصلًا، ويعقوب: بإثباتها وصلًا ووقفًا، والباقون بحذفها في الحالين (١).
[٤٦] ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ﴾ أي: بخصلة واحدة، وهي:
﴿أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ﴾ أي: لأجله تعالى، وليس المراد: حقيقة القيام، بل الاهتمام بالمطلوب.
﴿مَثْنَى﴾ اثنين اثنين ﴿وَفُرَادَى﴾ واحدًا واحدًا في تجريد العناية في البحث عن شأن محمد - ﷺ - حتى يظهر لكم شأنه.
﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ جميعًا في حاله، فتعلموا.
﴿مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ أي: جنون. قرأ رويس عن يعقوب: (ثُمَّ تَفَكَّرُوا) بتاء واحدة مشددة حيث وصل، ومع الابتداء يظهر التاءين كبقية القراء (١).
﴿إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ﴾ قدامه (٢)؛ لأنه - ﷺ - جاء في الزمن من قبل العذاب الشديد الذي توعدوا به، وفائدة التقييد بالاثنين والفرادى: أن الاثنين إذا التجأا إلى الله تعالى، وبحثا طلبًا للحق مع الإنصاف، هدوا إليه، وكذلك الواحد إذا فكر في نفسه مجردًا عن الهوى؛ لأن كثرة الجمع مما يقل فيه الإنصاف غالبًا، ويكثر فيها الخلاف.
(٢) "قدامه" زيادة من "ت".
[٤٧] ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ﴾ أي: جُعْلٍ على إنذاري وتبليغي الرسالة.
﴿فَهُوَ لَكُمْ﴾ لا أسألكم شيئًا، نحو: ما لي في هذا، فهو لك؛ أي: ليس لي فيه شيء.
﴿إِنْ أَجْرِيَ﴾ ما ثوابي ﴿إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ مُطَّلع. قرأ ابن كثير، وحمزة، والكسائي، وخلف، ويعقوب، وأبو بكر عن عاصم: (أَجْرِي) بإسكان الياء، والباقون: بفتحها (١).
﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ﴾ يلقيه على الباطل، فيزهقه، والمراد: الوحي، وآيات القرآن، واستعار له القذف من حيث كان الكفار يرمون بآياته وحكمه ﴿عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ رفع بخبر (إِنَّ)؛ أي: وهو علام الغيوب. قرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: (الْغِيُوبِ) بكسر الغين، والباقون: بضمها (٢).
(٢) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٣٦٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٦٧).
[٤٩] ﴿قُلْ جَاءَ الْحَقُّ﴾ الإسلام وما فيه من الأحكام.
﴿وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ﴾ أي: ذهب فلم يبق منه بقية تُبدئ شيئًا أو تعيد.
﴿قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (٥٠)﴾.
[٥٠] ولما قال كفار مكة له - ﷺ -: إنك قد ضللت حين تركت دين آبائك، فقال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي﴾ (١) أي: إثمُ ضلالي على نفسي.
﴿وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي﴾ من القرآن، وهدايتي بفضله، فلا منة عليَّ لغيره.
﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ لا يفوته شيء. قرأ نافع، وأبو جعفر، وأبو عمرو: (رَبِّيَ) بفتح الياء، والباقون: بإسكانها (٢).
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ١٨٢)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٥١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٦٨).
[٥١] ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا﴾ حين البعث، وجواب (وَلَوْ) محذوف؛ أي: لرأيت أمرًا عظيمًا.
﴿فَلَا فَوْتَ﴾ لهم من العذاب ﴿وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ﴾ من الموقف إلى النار.
﴿وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿وَقَالُوا﴾ عند معاينة العذاب: ﴿آمَنَّا بِهِ﴾ أي: بمحمد - ﷺ -.
﴿وَأَنَّى لَهُمُ﴾ أي: ومن أين لهم ﴿التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ﴾ قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر عن عاصم: (التَّنَاؤُشُ) بالمد والهمز، معناه: الطلب؛ أي: وأنى لهم (١) طلب مرادهم وقَد بَعُد؟ وقرأ الباقون: بضم الواو دون همز (٢)، معناه: التناول؛ أي: كيف لهم تناول ما بَعُدَ عنهم، وهو الإيمان والتوبة؟
﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٥٣)﴾.
[٥٣] ﴿وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ﴾ أي: بالقرآن، وبمحمد - ﷺ - ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ في الدنيا.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٥٣٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٨١)، و"تفسير البغوي" (٣/ ٦١٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٥/ ١٦٩).
﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ﴾ من نفع الإيمان حينئذ. قرأ ابن عامر، والكسائي، ورويس عن يعقوب: (وَحِيلَ) بإشمام الحاء الضمَّ (١) ﴿كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ﴾ أي: بأشباههم ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ من كَفَرة الأمم الماضية.
﴿إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ﴾ مُوقِعٍ لهم في الريبة والتهمة، وهو أقوى ما يكون من الشك، وأشد إطلاقًا، والله أعلم.