تفسير سورة ص

حدائق الروح والريحان
تفسير سورة سورة ص من كتاب حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن المعروف بـحدائق الروح والريحان .
لمؤلفه محمد الأمين الهرري . المتوفي سنة 1441 هـ

بالحق، وعدم اتباع الهوى، حتى لا يضل عن سبيل الله، ثم ذكر أن من ضل عن سبيله فله شديد العذاب، وسوء المنقلب، إذ قد نسي يوم الحساب والجزاء.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿ص وَالْقُرْآنِ...﴾ الآيات، سبب نزول هذه الآيات: ما أخرجه (١) ابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس قال: لما مرض أبو طالب، دخل عليه رهط من قريش، فيهم أبو جهل، فقال: إن ابن أخيك يشتم آلهتنا، ويفعل ويفعل، ويقول ويقول، فلو بعثت إليه فنهيته، فبعث إليه. فجاء النبي - ﷺ -، فدخل البيت، وبينهم وبين أبي طالب قدر مجلس رجل، فخشي أبو جهل أن يجلس إلى أبي طالب ويكون أرق عليه، فوثب، فجلس في ذلك المجلس، فلم يجد رسول الله - ﷺ - مجلسًا قرب عمه، فجلس عند الباب، فقال له أبو طالب: أي ابن أخي، ما بال قومك، يشكونك، يزعمون أنك تشتم آلهتهم، وتقول وتقول، قال: وأكثروا عليه من القول، وتكلم رسول الله - ﷺ -، فقال، يا عم، إني أريدهم على كلمة واحدة يقولونها، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية، ففزعوا لكلمته، ولقوله فقال القوم كلمة واحدة: نعم وأبيك لنعطينكها وعشرًا، قالوا: فما هي؟ قال: لا إله إلا الله، فقاموا فزعين، ينفضون ثيابهم، وهم يقولون: ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهًا واحِدًا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥)﴾. فنزل فيهم: ﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١)﴾ إلى قوله: ﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ﴾.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿ص﴾ تقدم (٢) الكلام في مثل هذا مرارًا، وقلنا: إن هذه حروف يراد بها
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
309
تنبيه المخاطب، للإصغاء إلى ما يراد بعده من الكلام لأهميته. نحو: ألا ويا. وينطق بأسمائها فيقال: صاد بالسكون.
وقال الشوكاني: وقد اختلف في معنى «صاد»، فقال الضحاك: معناه: صدق الله، وقال عطاء: صدق محمد - ﷺ -. وقال سعيد بن جبير: هو بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين. وقال محمد بن كعب: هو مفتاح اسم الله، صادق الوعد، صانع المصنوعات، صبور على ذنوب عباده، الصمد لحوائج عباده. وقال قتادة: هو اسم من أسماء الله تعالى، وروي عنه: أنه قال: هو اسم من أسماء القرآن. وقال مجاهد: هو فاتحة السورة، وقيل: هو مما استأثر الله بعلمه، وهذا هو الحق كما قدمنا في فاتحة سورة البقرة، قيل: وهو إما اسم للحروف مسرودا على نمط التعبد، أو اسم للسورة أو خبر مبتدأ محذوف، أو منصوب بإضمار اذكر أو اقرأ.
وقرأ الجمهور (١): ﴿صاد﴾ بسكون الدال، كسائر حروف التهجي في أوائل السور، فإنها ساكنة الأواخر على الوقف، وقرأ أبي بن كعب، والحسن، وابن أبي إسحاق، ونصر بن عاصم، وابن أبي عبلة، وأبو السمال «صاد» بكسر الدال من غير تنوين، والظاهر: أنه كسر لالتقاء الساكنين، وهو حرف من حروف المعجم، نحو: ق، ونون. وقال الحسن: هو أمر من صادى يصادي إذا عارض والمعنى: صاد القرآن بعملك؛ أي: عارضه بعملك، وقابله فاعمل به، ومنه: الصدى، وهو ما يعارض الصوت في الأماكن الصلبة، الخالية من الأجسام. وهذا حكاه النحاس عن الحسن البصري، وقال: إنه فسر قراءته هذه بهذا. وعنه: أن المعنى: أتله، وتعرض لقراءته، وعنه أيضًا: صاديت بمعنى: حادثت؛ أي: حادث. وهو قريب من القول الأول. وقرأ عيسى بن عمر، ومحبوب عن أبي عمر، وفرقة ﴿صاد﴾ بفتح الدال، والفتح لالتقاء الساكنين، طلبا للتخفيف، وكذا قرأ: ﴿قاف، ونون﴾ بفتح الفاء والنون، وقيل: انتصب على أنه مقسم به، حذف
(١) البحر المحيط والشوكاني.
310
منه حرف القسم، نحوه: قوله: الله لأفعلن، وهو اسم للسورة، وامتنع من الصرف للعلمية والتأنيث. وقيل: نصب على الإغراء. وقيل: معناه: صاد محمد - ﷺ - قلوب الخلق، واستمالها حتى آمنوا به. وروي عن ابن أبي إسحاق أيضًا. أنه قرأ ﴿صاد﴾، بالكسر والتنوين، تشبيهًا لهذا الحرف بما هو غير متمكن من الأصوات. وقرأ هارون الأعور، وابن السميقع: ﴿صاد﴾، بالضم من غير تنوين على البناء، نحو: منذ، وحيث، فجملة القراءات في ﴿ص﴾ خمس. والجمهور على السكون. قال ابن جرير الطبري: والصواب من القراءة في ذلك عندنا السكون؛ لأن ذلك القراءة التي جاء بها قرّاء الأمصار مستفيضة فيهم، وأنها حروف هجاء لأسماء المسميات، فيعربن إعراب الأسماء والأدوات الأصوات، فيسلك بهن مسالكهن، فتأويلها إذا كانت كذلك تأويل نظائرها التي تقدم بيانها فيما مضى، اهـ.
والواو في قوله: ﴿وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ﴾ هي واو القسم. والإقسام بالقرآن فيه تنبيه على شرف قدره، وعلو منزلته. وفي المراد (١) بالذكر ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الشرف؛ أي: والقرآن صاحب الشرف، والعظمة، والمنزلة كما في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾؛ أي: شرفكم؛ أي: أن من آمن به له شرف في الدارين، قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، والسدي.
والثاني: البيان؛ أي: والقرآن صاحب البيان؛ أي: الذي يبين ما يحتاج إليه في الدين من العقائد والأحكام، قاله قتادة.
والثالث: التذكير، والموعظة؛ أي: القرآن صاحب الموعظة والتذكير لمن اتعظ، قاله الضحاك، ورجح الطبري القول الثالث، وهو أنه بمعنى التذكير.
قال: لأن الله تعالى أتبع ذلك قوله: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢)﴾، فكان معلوما بذلك، أنه إنما أخبر عن القرآن، أنه أنزله ذكرًا لعباده ذكرهم به، وأن الكفار من الإيمان به في عزة وشقاق، اهـ. وقال ابن كثير: إن في هذا القرآن
(١) زاد المير.
311
لذكرى لمن يتذكر، وعبرة لمن يعتبر. وإنما لم ينتفع به الكافرون لأنهم ﴿فِي عِزَّةٍ﴾؛ أي: استكبار عنه وحمية، ﴿وَشِقاقٍ﴾؛ أي: ومخالفة له، ومعاندة، ومفارقة، اهـ.
وقولنا: والواو في قوله: ﴿وَالْقُرْآنِ﴾ للقسم إن جعل (١) ﴿ص﴾ اسمًا للحرف ومذكورًا للتحدي أو للرمز بكلام، مثل: صدق محمد - ﷺ -، أو اسمًا للسورة خبرًا لمحذوف؛ أي: هذه السورة ﴿ص﴾، وللعطف إن جعل مقسمًا به؛ أي: أقسمت بـ ﴿ص﴾ وبالقرآن ذي الذكر، والجواب محذوف دل عليه ما في ﴿ص﴾ من الدلالة على التحدي، والتقدير؛ أي: أقسمت بـ ﴿ص﴾ وبالقرآن ذي الذكر أنه لمعجز، أو الواجب العمل به، أو إن محمدًا - ﷺ - لصادق. «وفي الشوكاني»: واختلف في جواب هذا القسم ما هو؟. فقال الزجاج، والكسائي، والكوفيون، غير الفراء: إن الجواب قوله: ﴿إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ﴾. وقال الفراء: لا نجده مستقيمًا لتأخره جدًا عن قوله: ﴿وَالْقُرْآنِ﴾. ورجح هو، وثعلب: أن الجواب قوله: ﴿كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾. ومعناه: لكم أهلكنا، فلما طال الكلام حذفت اللام، ومثله قوله: «والشمس وضحاها قد أفلح». فإن المعنى: لقد أفلح، غير أنه لما اعترض بينهما كلام تبعه قوله: ﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾. وقال الأخفش: الجواب هو قوله: ﴿إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤)﴾. وقيل: الجواب هو صاد؛ لأن معناه: حق وثبت إرسالك أقسمت بالقرآن، أو حق واجب اتباعك أقسمت بالقرآن. أو المعنى: والقرآن ذي الذكر لقد صدق محمد - ﷺ - كقولك: وجب والله نزل والله، ذكره ابن الأنباري. وروي أيضًا عن ثعلب، والفراء. وهو مبني على أن جواب القسم، يجوز تقدمه، وهو ضعيف جدًا. وقيل: الجواب محذوف، تقديره: أقسمت بالقرآن ذي الذكر ما الأمر كما يزعم الكفار. ويدل على هذا المحذوف قوله: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢)﴾، ذكره جماعة من المفسرين، وإلى نحوه ذهب قتادة. وهو الذي رجحه الطبري في تفسيره. وقال ابن عطية: والقول بالحذف أولى. وقيل: إن قوله: ﴿ص﴾ مقسم به، وعلى هذا القول تكون
(١) البيضاوي.
.
312
الواو في ﴿وَالْقُرْآنِ﴾ للعطف عليه كما مر.
ومعنى الآية: أي أقسم (١) بالقرآن ذي الشرف والرفعة إنه لمعجز، وإن محمدًا - ﷺ - لصادق فيما يدعيه من النبوة، وإنه مرسل من ربه إلى الأسود والأحمر، وإن كتابه لمنزل من عنده تعالى.
٢ - ولما كان الإقسام بالقرآن دالًا على صدقه، وأنه حق، وأنه ليس بمحل للريب.. قال سبحانه مبينًا للسبب الحقيقي في كفرهم: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلخ إضراب، وانتقال من قضية إلى أخرى. بيّن به سبب قولهم بتعدد الآلهة؛ أي: ليس الحامل لهم عليه الدليل، بل مجرد الحمية، والخصام، والشقاق، اهـ شيخنا. وكأنه قال: لا ريب فيه قطعًا، ولم يكن عدم قبول المشركين له لريب فيه، بل هم ﴿فِي عِزَّةٍ﴾ عن قبول الحق؛ أي: في تكبر، وتجبر، وأنفة، وحمية جاهلية. وقرأ عمرو بن العاص، وأبو رزين، وابن يعمر، وعاصم الجحدري، ومحبوب عن أبي عمرو، وحماد بن الزبرقان، وسورة عن الكسائي، وميمون بن أبي جعفر ﴿في غرة﴾ بغين معجمة، وراء غير معجمة؛ أي: في غفلة عن قبول الحق ﴿وَشِقاقٍ﴾؛ أي: مخالفة للحق، ومعاندة له، وامتناع عن قبوله، وعداوة عظيمة لرسوله - ﷺ -.
والمعنى: أي إن الذين كفروا من أهل مكة، لم يكفروا بهذا القرآن، لعدم وجدانهم فيه، ما يصلح حالهم في دينهم ودنياهم، بل كذبوا به لاستكبارهم عن اتباع الحق، ومشاقتهم لرسوله - ﷺ - وحرصهم على مخالفته.
٣ - ثم حذرهم، وخوّفهم ما أهلك به الأمم قبلهم حين كذبوا رسلهم، فقال: ﴿كَمْ أَهْلَكْنا﴾ ﴿كَمْ﴾ هي الخبرية الدالة على عدد كثير، وهي في محل نصب بـ ﴿أَهْلَكْنا﴾ على أنها مفعول به. و ﴿مِنْ﴾ في قوله: ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ لابتداء الغاية. وقوله: ﴿مِنْ قَرْنٍ﴾ تمييز لكم الخبرية. والقرن: القوم المقترنون في زمن واحد.
والمعنى: أهلكنا كثيرًا من القرون الخالية، والأمم الماضية الذين كانوا
(١) المراغي.
313
أمنع من هؤلاء، وأشد قوة، وأكثر أموالًا بسبب تكذيبهم رسلهم واستكبارهم عن قبول الحق.
﴿فَنادَوْا﴾؛ أي: فدعوا، واستغاثوا بنا عند نزول بأسنا، وحلول نقمتنا، وعقوبتنا، أو تابوا، واستغفروا عند نزول العذاب بهم لينجوا من ذلك، ﴿وَ﴾ الحال أنه ﴿لاتَ﴾ الحين، والزمن ﴿حِينَ مَناصٍ﴾؛ أي: زمن فرار، وفوت من عذابنا. وجملة ﴿لاتَ﴾ حال من ضمير ﴿نادوا﴾؛ أي: نادوا واستغاثوا طلبًا للنجاة، والحال أنه ليس الحين، والوقت حين مناص؛ أي: وقت فرار، وفوت، ونجاة من عذابنا لكونه حالة اليأس. فقوله: ﴿لاتَ﴾ هي (١) لا المشبهة بليس، زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد، كما زيدت على رب وثم، وخصت (٢) بنفي الأحيان، ولم يبرزوا إلا أحد معموليها اسمها أو خبرها. والأكثر حذف اسمها. وفي بعض التفاسير: ﴿لاتَ﴾ بمعنى: ليس بلغة أهل اليمن، انتهى. والوقف عليها بالتاء عند الزجاج، وأبي علي، وعند الكسائي. نحو: قاعدة، وضاربة. وعند أبي عبيد على ﴿لا﴾، ثم يُبتدأ ﴿تحين مناص﴾، لأنه عنده أن هذه التاء تزاد مع حين، فيقال: كان هذا تحين كان ذاك كذا.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿وَلاتَ حِينَ مَناصٍ﴾ بفتح التاء، ونصب النون. وعلى قول سيبويه عملت عمل ليس، واسمها محذوف تقديره: ولات الحين حين فوات، ولا فرار. وعلى قول الأخفش يكون ﴿حِينَ﴾ اسم ﴿لاتَ﴾، عملت عمل إن، نصبت الاسم ورفعت الخبر، والخبر محذوف تقديره: ولات حين مناص لهم. وقرأ أبو السمال ﴿وَلاتَ حِينَ﴾ بضم التاء، ورفع النون. فعلى قول سيبويه ﴿حِينَ مَناصٍ﴾ اسم ﴿لاتَ﴾، والخبر محذوف. وعلى قول الأخفش مبتدأ، والخبر محذوف، وقرأ عيسى بن عمر ﴿وَلاتَ حِينَ﴾ بكسر التاء، وجر النون. والذي ظهر لي في تخريج هذه القراءة الشاذة في جر ما بعد ﴿لاتَ﴾ أن الجر هو على إضمار
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) البحر المحيط.
314
﴿مِنْ﴾. كأنه قال: لات من حين مناص، كما جروا بها في قولهم: على كم جذع بيتك؛ أي: من جذع على أصح القولين، وكما قالوا: لا رجل جزاه الله خيرًا. وقرأ عيسى أيضًا ﴿وَلاتَ﴾ بكسر التاء، و ﴿حِينَ﴾ بنصب النون، وتقدم تخريج نصب ﴿حين ولات﴾، روي فيها فتح التاء وضمها وكسرها.
والمعنى (١): أي وكثير من الأمم قبلهم أهلكناهم، فاستغاثوا حين حل بهم العذاب، فلم يغن ذلك عنهم شيئًا، فقد فات الأوان، وحل البأس، فليس الوقت وقت فرار وهرب من العقاب، ونحو الآية قوله: ﴿فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ﴾، وقوله: ﴿حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (٦٤)﴾ وقوله: ﴿فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (١٣)﴾.
٤ - ﴿وَعَجِبُوا﴾؛ أي: عجب كفار أهل مكة، الذين وصفهم الله تعالى، بأنهم في عزة وشقاق ﴿من أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ﴾؛ أي: رسول ينذرهم، ويخوفهم من عذاب الله، إن استمروا على الكفر من جنسهم، بل أدون منهم في الرياسة الدنيوية، والمال على معنى: أنهم عدوا ذلك خارجًا عن احتمال الوقوع، وأنكروه أشد الإنكار، لا أنهم اعتقدوا وقوعه، وتعجبوا منه، قالوا: إن محمدًا مساو لنا في الخلقة الظاهرة، والأخلاق الباطنة، والنسب، والشكل، والصورة فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي، ولم يتعجبوا من أن تكون المنحوتات آلهة، وهذه مناقضة ظاهرة.
فلما تحيروا في شأن النبي - ﷺ -، نسبوه إلى السحر والكذب، كما قال حكايةً عنهم: ﴿وَقالَ الْكافِرُونَ﴾ فيه وضع الظاهر موضع المضمر غضبا عليهم، وإيذانًا بأنه لا يتجاسر على مثل ما يقولونه، إلا المتوغلون في الكفر والفسوق ﴿هَذَا﴾ الرجل الذي يدّعي النبوة والرسالة ﴿سَاحِرٌ﴾ فيما يظهره من الخوارق ﴿كَذَّابٌ﴾ فيما يسنده إلى الله من الإرسال، والإنزال. ولم يقل: كاذب لرعاية
(١) المراغي.
الفواصل، ولأن الكذب على الله ليس كالكذب على غيره، ولكثرة الكذب في زعمهم، فإنه يتعلق بكل آية من الآيات القرآنية، بخلاف إظهار الخوارق، فإنه قليل بالنسبة إليه. هكذا لاح لي هذا المقام.
٥ - ثم أنكروا ما جاء به - ﷺ - من التوحيد، وما نفاه من الشركاء لله. فقالوا: ﴿أَجَعَلَ﴾ محمد - ﷺ - ﴿الْآلِهَةَ﴾ وصيّرها ﴿إِلهًا واحِدًا﴾ وقصرها على الله سبحانه. والهمزة (١) فيه للإنكار، والاستبعاد. والآلهة: جمع إله، وحقه أن لا يجمع، إذ لا معبود في الحقيقة سواه تعالى، لكن العرب لاعتقادهم أن هاهنا معبودات جمعوه، فقالوا: آلهة. و ﴿إِلهًا واحِدًا﴾ مفعول ثان لجعل؛ لأنه بمعنى صيّر؛ أي: صيرهم إلهًا واحدًا في زعمه، وقوله: لا في فعله؛ لأن جعل الأمور المتعددة شيئًا واحدا بحسب الفعل محال؛ أي: أصيّر محمد - ﷺ - بزعمه الآلهة إلهًا واحدًا بأن نفى الألوهية عنهم، وقصرها على واحد؟ أيسعنا، ويكفينا إله واحد في حوائجنا كما يقول محمد - ﷺ -، ولم يعلموا أنهم جعلوا الإله الواحد آلهة. ﴿إِنَّ هذا﴾ القول الصادر من محمد - ﷺ -، وهو التوحيد ﴿لَشَيْءٌ عُجابٌ﴾؛ أي: لأمر بليغ في العجب، لأنه خلاف ما اتفق عليه آباؤنا إلى هذا الآن. والعجاب بمعنى العجيب، كما سيأتي وهو الأمر الذي يتعجب منه كالعجب، إلا أن العجيب أبلغ منه، والعجّاب بالتشديد أبلغ من العجاب بالتخفيف.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿عُجابٌ﴾ مخففًا، وهو صيغة مبالغة كرجل طوال وسراع في طويل وسريع. وقرأ علي، والسلمي، وعيسى بن عمر، وابن مقسم ﴿عجاب﴾ مشددًا، وقالوا: رجل عجّاب، وطعام طيّاب. وهو أبلغ من فعال المخفف.
وفي «فتح الرحمن»: قوله: ﴿وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ﴾ قاله هنا بالواو، وفي ﴿ق﴾ بالفاء حيث قال: ﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢)﴾؛ لأن ما هناك أشد اتصالًا منه هنا؛ لأن ما هنا متصل بما قبله اتصالًا معنويًا فقط، وهو أنهم عجبوا من مجيء المنذر، وقالوا: هذا ساحر
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
كذاب. وما في ﴿ق﴾ متصل بما قبله اتصالًا لفظيًا ومعنويًا، وهو أنهم عجبوا عقب الإخبار عنهم بأنهم عجبوا، فقالوا: هذا شيء عجيب. فناسب فيه ذكر الفاء دون ما هنا، انتهى.
وحاصل معنى قوله: ﴿وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ...﴾ إلى آخر الآيتين؛ أي: وما (١) كان أشد تعجبهم حين جاءهم بشر مثلهم يدّعي النبوة، ويدعو إلى الله، وليس له من الصفات الباطنة والظاهرة في زعمهم، ما يجعله يمتاز عنهم، ويختص بهذا المنصب، وتلك المنزلة الرفيعة. ومن ثم قالوا: ما هو إلا خدّاع كذّاب فيما ينسبه إلى الله من الأوامر والنواهي. ثم ذكر شبهتهم في إثبات كذبه من وجوه ثلاثة:
١ - ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهًا واحِدًا...﴾ إلخ؛ أي: أزعم أن المعبود إله واحد لا إله إلا هو. وقد أنكروا ذلك، وتعجبوا من ترك الشرك بالله، من أجل أنهم تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان، وأشربته قلوبهم، فلما دعاهم إلى محو ذلك من قلوبهم، وإفراد الإله بالوحدانية أعظموا ذلك، وتعجبوا منه، وقالوا: إن آباءهم على كثرتهم ورجاحة عقولهم، لا يعقل أن يكونوا جاهلين مبطلين، ويكون محمد - ﷺ - وحده محقًا صادقًا. ولا شك أن هذا استبعاد فحسب، ولا مستند له من عقل ولا نقل.
ونحو الآية قوله تعالى: ﴿أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢)﴾. وقد قدمنا في مبحث الأسباب، سبب نزول هذه الآية.
٦ - ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ﴾؛ أي: وذهب الأشراف من قريش، وهم خمسة وعشرون نفرا عن مجلس أبي طالب. بعدما أسكتهم رسول الله - ﷺ - بالجواب الحاضر، وشاهدوا تصلبه - ﷺ - في الدين، وعزيمته على أن يظهره على الدين كله، ويئسوا مما كانوا يرجونه، بتوسط أبي طالب من المصالحة، على الوجه المذكور
(١) المراغي.
317
فيما روي عن ابن عباس، كما سبق: أنه لما أسلم (١) عمر فرح به المسلمون فرحا شديدا، وشق ذلك على قريش، فاجتمع خمسة وعشرون نفرًا من صناديدهم، ومشوا إلى أبي طالب، وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، فجئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فاستحضر أبو طالب رسول الله - ﷺ -، وقال: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السؤال، فلا تمل كل الميل على قومك، فقال - ﷺ -: ماذا يسألونني؟ قالوا: ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا، وندعك وإلهك، فقال - ﷺ -: أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أتعطونني أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟. قالوا: نعم. فقال: قولوا: لا إله إلا الله فقاموا وقالوا: أجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟ كيف يكفينا إلها واحد في حوائجنا كما يقول محمد - ﷺ -؟. إن هذا لشيء عجاب. وانطلق الملأ، والرؤساء. منهم: عقبة بن أبي معيط، وأبو جهل، والعاص بن وائل، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث عن مجلس أبي طالب.
﴿أَنِ﴾ مفسرة للمقول المدلول عليه بالانطلاق؛ لأن الانطلاق عن مجلس التقاول لا يخلو عن القول؛ أي: وانطلق الملأ منهم، حالة كونهم يقول بعضهم لبعض على وجه النصيحة: ﴿امْشُوا﴾؛ أي: سيروا على طريقتكم، وامضوا. وليس المراد بالمشي: المتعارف، بل الاستمرار على الشيء، اه كرخي. فلا فائدة في مكالمة هذا الرجل. وحكى المهدوي: أن قائلها عقبة بن أبي معيط. وقال الزمخشري: ويجوز أنهم قالوا: امشوا؛ أي: اكثروا، واجتمعوا من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها، ومنه: الماشية للتفاؤل، انتهى.
قلت: وهذا بعيد من السياق. وقرأ ابن أبي عبلة بحذف ﴿أَنِ﴾ من قوله: ﴿أَنِ امْشُوا﴾؛ أي: قال بعضهم لبعض: اذهبوا. ﴿وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ﴾؛ أي: واثبتوا على عبادة آلهتكم، متحملين لما تسمعونه في حقها من القدح.
وفي «التأويلات النجمية»: يشير إلى أن الكفار إذا تراضوا فيما بينهم بالصبر
(١) المراح.
318
على آلهتهم فالمؤمنون أولى بالصبر على عبادة معبودهم، والاستقامة في دينهم، بل الطالب الصادق، والعاشق الوامق أولى بالصبر والثبات على قدم الصدق، في طلب المحبوب المعشوق.
وقوله: ﴿إِنَّ هذا﴾ تعليل للأمر بالصبر، ولوجوب الامتثال به؛ أي: إن هذا الذي شاهدناه من محمد - ﷺ - من أمر التوحيد، ونفي آلهتنا، وإبطال أمرنا ﴿لَشَيْءٌ يُرادُ﴾ من جهته - ﷺ - إمضاؤه، وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، لا قول يقال من طرف اللسان، أو أمر يرجى فيه المسامحة بشفاعة أو امتناع، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله عن رأيه، بواسطة أبي طالب، وشفاعته، وحسبكم أن لا تمنعوا من عبادة آلهتكم بالكلية، فاصبروا عليها، وتحملوا ما تسمعونه في حقها من القدح، وسوء المقالة، هذا ما ذهب إليه أبو السعود في «الإرشاد».
وقال في «تفسير الجلالين»: إن هذا لأمر يراد بنا، ومكر يمكر علينا، وقال سعدي المفتي: وسنح بالبال، أنه يجوز أن يكون المراد، أن دينكم لشيء يستحق أن يطلب، ويعض عليه بالنواجذ، فيكون ترغيبًا وتعليلًا للأمر السابق. وقال «صاحب الروح»: ويجوز أن يكون المعنى: إن الصبر والثبات على عبادة الآلهة التي هي الدين القديم يراد منكم، فإنه أقوى ما يدفع به أمر محمد - ﷺ -، كما قالوا: نتربص به ريب المنون، فيكون موافقا لقرينه في الإشارة إلى المذكور فيما قبله. أو إن شأن محمد - ﷺ -، لشيء يراد دفعه، وإطفاء نائرته بأي وجه كان، قبل أن يعلو ويشيع، كما دل عليه اجتماعهم على مكره - ﷺ - مرارًا، فأبى الله إلا أن يتم نوره.
ومعنى الآية (١): أي وانطلق أشراف قريش من مجلس أبي طالب، بعد ما بكّتهم رسول الله - ﷺ -، وشاهدوا تصلبه في الدين، ويئسوا مما كانوا يرجون منه بوساطة عمه، يتحاورون بما جرى، ويقلبون وجوه الرأي فيما يفعلون، ويقولون:
(١) المراغي.
319
اثبتوا على عبادتها متحملين القدح فيها والغض من شأنها والاستهزاء بأمرها، ثم عللوا الأمر بالصبر، بما شاهدوا من تصلبه - ﷺ -، فقالوا: ﴿إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ﴾؛ أي: إن هذا لأمر عظيم، يريد محمد - ﷺ - إمضاءه وتنفيذه لا محالة من غير صارف يلويه، ولا عاطف يثنيه، لا قول يقال من طرف اللسان، أو يرجى فيه المسامحة بشفاعة إنسان، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله إلى إرادتكم، واصبروا على عبادة آلهتكم.
٧ - ثم ذكروا أيضًا ما ظنوا أن فيه إبطالًا لدعواه، فقالوا:
٢ - ﴿ما سَمِعْنا بِهذا﴾ الذي يدعونا إليه محمد - ﷺ - من التوحيد ﴿فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ﴾ وهي ملة النصارى، فإنهم يقولون بالتثليث، ويزعمون أنه الدين الذي جاء به عيسى عليه السلام، وحاشاه وإنما خصوا النصرانية؛ لأنها آخر الأديان المعروفة لديهم من أديان أهل الكتاب، وقوله: ﴿فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ﴾ ظرف لغو لـ ﴿سَمِعْنا﴾.
وقيل المعنى: ما سمعنا بهذا الذي يقوله محمد - ﷺ -، من التوحيد في الملة الآخرة؛ أي: في الملة التي أدركنا عليها آباءنا، وهي ملة قريش ودينهم الذي هم عليه. فإنها متأخرة عما تقدم عليها من الأديان والملل. وفيه إشارة إلى ركون الجهال إلى التقليد والعادة، وما وجدوا عليه أسلافهم من الضلال وأخطاء طريق العبادة. والملة كالدين اسم لما شرع الله تعالى لعباده، على لسان أنبيائه، ليتوصلوا به إلى ثواب الله. فإطلاق كل منهما على طريقة المشركين، مجاز مبني على التشبيه، كما سيأتي.
ثم أكدوا هذا الإنكار بقولهم: ﴿إِنْ﴾ نافية بمعنى: ما أي: ما ﴿هذا﴾ الذي يقوله محمد - ﷺ - من التوحيد ﴿إِلَّا اخْتِلاقٌ﴾؛ أي: كذب اختلقه من عند نفسه لا حقيقة له، وليس له مستند من دين سماوي، ولا من عقل فيما يزعمون.
٨ - ثم أخذوا ينكرون اختصاص محمد - ﷺ - بالوحي، وهو مثلهم، أو أدون منهم في الشرف والرياسة فيما يزعمون، فقالوا:
٣ - ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: على محمد - ﷺ - ﴿الذِّكْرُ﴾؛ أي: القرآن، والوحي ﴿مِنْ بَيْنِنا﴾؛ أي: دوننا، والاستفهام فيه للإنكار، والاستبعاد؛ أي: كيف يكون
320
ذلك ونحن رؤساء الناس، وأشرافهم، وأكبرهم سنًا، وأكثرهم أموالًا وأعوانًا، وأحقاء بكل منصب شريف؟. ومرادهم: إنكار كون القرآن ذكرًا، منزلًا من الله تعالى، وأمثال هذه المقالات الباطلة، دليل على أن مناط تكذيبهم ليس إلا الحسد، على اختصاصه - ﷺ - بشرف النبوة من بينهم، وحرمانهم منه، وقصر النظر على متاع الدنيا، وغلطوا في القصر، والقياس.
أما الأول: فلأن الشرف الحقيقي، إنما هو بالفضائل النفسانية دون الخارجية.
وأما الثاني: فلأن قياس نفسه - ﷺ - بأنفسهم فاسد. إذ هو روح الأرواح، وسيد الخليقة، فأنى يكون هو مثلهم؟. وأما الصورة الإنسانية فميراث عام من آدم عليه السلام، لا تفاوت فيما بين شخص وشخص، نعم، وجهه - ﷺ - كان يلوح منه أنوار الجمال، بحيث لم يوجد مثله فيما بين الرجال.
فإن قلت: لم قال هنا: ﴿أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ﴾ بلفظ ﴿أَأُنْزِلَ﴾؟ وقال: في سورة القمر: ﴿أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ﴾ بلفظ ﴿أُلْقِيَ﴾؟. فما الفرق بين الموضعين؟
قلت: فما هنا حكاية عن كفار قريش، فناسب التعبير بـ ﴿أُنْزِلَ﴾ لوقوعه إنكارًا لما قرأه النبي - ﷺ - عليهم، من قوله تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾. وما في القمر حكاية عن قوم صالح، وكانت الأنبياء تلقي إليهم صحفًا مكتوبة، فناسب التعبير - ﴿أُلْقِيَ﴾. وقدم الجار والمجرور على الذكر هنا، موافقة لما قرأه النبي - ﷺ - على المنكرين، وعكس في القمر جريا على الأصل، من تقديم المفعول بلا واسطة على المفعول بواسطة، اهـ من «فتح الرحمن».
والمعنى (١): أي إنه من البعيد أن يختص محمد - ﷺ -، من بيننا، بإنزال القرآن عليه، وفينا ذو الجاه والشرف والرياسة والكياسة. كما حكى الله عنهم أنهم قالوا: ﴿لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾. ثم نعى عليهم
(١) المراغي.
321
تعرضهم لهذا التفضيل، وإعطاء النبوة لمن يريدون فقال: ﴿أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ﴾. فهذا منهم دليل على الجهل، وقلة العظة.
ثم ذكر أن سبب الاستبعاد هو الشك في أمر القرآن، وميلهم إلى التقليد فقال: ﴿بَلْ هُمْ﴾؛ أي: كفار قريش ﴿فِي شَكٍّ﴾ وريب ﴿مِنْ ذِكْرِي﴾؛ أي: من القرآن الذي أنزلت على رسولي، أو من الوحي إليه يرتابون فيه لإعراضهم عن النظر الموجب لتصديقه، وإهمالهم للأدلة، الدالة على أنه حق منزل من عند الله تعالى. والإخبار بأنهم في شك، يقتضي كذبهم في قولهم: ﴿إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ﴾. وليس في عقيدتهم ما يجزمونه، فهم مذبذبون بين الأوهام، ينسبونه تارة إلى السحر، وأخرى إلى الاختلاق.
وفي الآية (١): إشارة إلى أن القرآن قديم؛ لأنه سماه الذكر ثم أضافه إلى نفسه، ولا خفاء بأن ذكره قديم؛ لأن الذكر المحدث يكون مسبوقًا بالنسيان، وهو تعالى منزه عنه.
أي: بل هم في شك، من تلك الدلائل التي لو تأملوا فيها، لزال هذا الشك عنهم، إذ هي دالة بأنفسها على صحة نبوته، ولكنهم حين تركوا النظر والاستدلال، لم يصلوا إلى الحق في أمره.
ثم ذكر: أن سبب هذا الشك، هو الحسد لمجيء النبوة إليه من بينهم، وسيزول حين مجيء العذاب، فقال: ﴿بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ﴾؛ أي: بل السبب في شكهم، أنهم لم يذوقوا عذابي، فاغتروا بطول المهلة، ولو ذاقوا عذابي على ما هم عليه من الشرك والشك.. لصدقوا ما جئت به من القرآن، ولم يشكوا فيه.
والخلاصة: أنهم لا يصدقون إلا أن يمسهم العذاب، فيضطروا حينئذ إلى التصديق بذكري. وفي ذكر ﴿لَمَّا﴾ (٢) دلالة على أن ذوقهم العذاب على شرف الوقوع؛ لأنها للتوقع؛ أي: بل لم يذوقوا بعد عذابي، فإذا ذاقوه تبين لهم حقيقة
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
322
الحال. وفيه تهديد لهم؛ أي: سيذوقون عذابي فيلجئهم إلى تصديق الذكر حين لا ينفع التصديق. وفيه إشارة إلى أنهم مستغرقون في بحر عذاب الطرد والبعد، ونار القطيعة، لكنهم عن ذوق العذاب بمعزل، لغلبة الحواس إلى أن يكون يوم تبلى السرائر. فتغلب السرائر على الصور، والبصائر على البصر، فيقال لهم: ذوقوا العذاب يعني: كنتم معذبين وما كنتم ذائقي العذاب. فالمعنى: لو ذاقوا عذابي، ووجدوا ألمه لما أقدموا على الجحود، دل على هذا قوله - ﷺ -: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا».
٩ - ثم أنكر عليهم استبعاد نبوة محمد - ﷺ -، وطلبهم نبوة غيره من صناديد قريش، فقال: ﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ ﴿أَمْ﴾ (١) منقطعة تقدر ببل وبهمزة الإنكار. والخزائن: جمع خزانة بالكسر بمعنى المخزن والمستودع؛ أي: بل أعندهم مفاتيح خزائن رحمة ربك يا محمد، ﴿الْعَزِيزِ﴾؛ أي: الغالب الذي لا يغالب ﴿الْوَهَّابِ﴾؛ أي: المعطي بغير حساب، أو الذي له أن يهب كل ما يشاء لمن يشاء، يتصرفون فيها حسبما يشاؤون، حتى يصيبوا بها من شاؤوا، ويصرفوها عمن شاؤوا، ويتحكموا فيها بمقتضى آرائهم، فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم. والمعنى: أن النبوة عطية من الله تعالى يتفضل بها على من يشاء من عباده، لا مانع له.
والمعنى: أي بل أيملكون خزائن رحمة الله، القهار لخلقه الكثير المواهب لهم، المصيب بها مواقعها، فيتصرفوا فيها بحسب ما يريدون، ويمنحوها من يشاؤون ويصرفوها عمن لا يحبون، ويتحكموا فيها بمقتضى آرائهم. فيتخيروا للنبوة بعض صناديدهم.
والخلاصة: أن أمر النبوة ليس بأيديهم، بل بيد العليم بكل شيء ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾. ونحو الآية قوله: ﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُورًا (١٠٠)﴾.
(١) روح البيان.
١٠ - ثم ارتقى إلى ما هو أشد في الإنكار، فأمرهم أمر تهكم بارتقاء الأسباب. فقال: ﴿أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما﴾؛ أي: بل ألهم ملك هذه الأشياء، حتى يعطوا من شاؤوا، ويمنعوا من شاؤوا، ويعترضوا على إعطاء الله سبحانه ما شاء لمن شاء. وقوله: ﴿فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ﴾ جواب شرط محذوف؛ أي: إن كان لهم ملك ذلك فليصعدوا في الأسباب، والطرق التي توصلهم إلى السماء، أو إلى العرش، حتى يحكموا بما يريدون من عطاء ومنع، ويدبروا أمر العوالم بما يشتهون، أو فليصعدوا ويمنعوا الملائكة من نزولهم بالوحي على محمد - ﷺ -، والأسباب: أبواب السموات التي تنزل الملائكة منها، قاله مجاهد، وقتادة. ومنه: قول زهير:
وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ وَلَوْ رَامَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بُسُلَّمِ
قال الربيع بن أنس: الأسباب: أدق من الشعر، وأشد من الحديد، ولكن لا ترى.
والمعنى: أي بل ألهم ملك هذه الأجرام العلوية، والأجرام السفلية حتى يتكلموا في الشؤون الغيبية، ويفكروا في التدابير الإلهية التي يستأثر بها رب العزة والكبرياء، فإن كان الأمر كما يزعمون، فليصعدوا في المعارج والمناهج، التي يتوصل بها إلى العرش، حتى يستووا عليه، ويدبروا أمر العالم، وينزلوا الوحي إلى من يختارون ويستصوبون، حتى يظن صدق دعواهم، إذ لا سبيل إلى التصرف فيه إلا بذلك. وفيه من التهكم بهم ما لا غاية وراءه.
والخلاصة (١): أنه ليس لهم شيء من ذلك، فلا سبيل لهم إلى توزيع رحمة الله تعالى، بحسب ما يريدون، وإعطاء النبوة لمن يشاؤون. فذلك من شؤونه تعالى، فهو الذي يفضل من يشاء من عباده على من يشاء.
١١ - ثم وعد سبحانه، نبيه بالنصر والغلبة عليهم، فقال: ﴿جُنْدٌ﴾ هو جمع معد للحرب ﴿ما﴾ مزيدة للتقليل والتحقير، نحو: أكلت شيئًا ما ﴿هُنالِكَ﴾ مركب من
(١) المراغي.
324
ثلاث كلمات (١):
إحداها: ﴿هنا﴾: وهو اسم إشارة للمكان القريب.
والثانية: اللام وهي للتأكيد.
والثالثة: الكاف وهي للخطاب. قالوا واللام فيها كاللام في ﴿ذلِكَ﴾ في الدلالة على بعد المشار إليه. فجند خبر مبتدأ محذوف، و ﴿ما﴾: زائدة أو صفة لـ ﴿جُنْدٌ﴾، و ﴿هُنالِكَ﴾: ظرف ﴿مَهْزُومٌ﴾؛ أي: مغلوب مكسور. وهو صفة ثانية لـ ﴿جُنْدٌ﴾. و ﴿مِنَ الْأَحْزابِ﴾ صفة ثالثة لـ ﴿جُنْدٌ﴾؛ أي: هم (٢) جند حقيرون ضعيفون من المتحزبين على رسول الله - ﷺ - سيصيرون منهزمين في الموضع الذي ذكروا فيه تلك الكلمات، وذلك الموضع هو مكة، وذلك الانهزام يوم فتح مكة، فكيف يكونون مالكي السموات والأرض وما بينهما؟. ومن أين لهم التصرف في الأمور الربانية.
والمعنى (٣): أي هؤلاء الذين يقولون هذه المقالة، ويوزعون رحمة ربك، بحسب أهوائهم هم جند كثير من الكفار المتحزبين على المؤمنين، مغلوبون في الوقائع التي ستكون بينك وبينهم، وستنتصر عليهم، كما حدث في بدر وغيرها. فأنى لهم تدبير الأمور الغيبية، والتصرف في الخزائن الربانية؟. وهذا خبر من الله تعالى لنبيه - ﷺ -، وهو بمكة، ولم يكن له يومئذ جند أنه سيهزم جند المشركين، فجاء تأويله يوم بدر وغيره من المواقع، وهذا من أعظم المعجزات، وأدل الدلائل على نبوة محمد - ﷺ -، وصدق كتابه، وأنه من عند الله تعالى لا من عند البشر، وهذا الكلام متصل بما تقدم وهو قوله: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢)﴾. هم جند من الأحزاب مهزومون، فلا تحزن لعزتهم وشقاقهم، فإني أسلب عزهم، وأهزم جمعهم، وقد وقع ذلك، ولله الحمد في يوم بدر، وفيما بعده من مواطن الله تعالى.
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
325
١٢ - ثم ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات الآتية: ستة أقوام من الذين كذبوا رسلهم، وما آل إليه أمرهم لتكون ذكرى لأولئك المكذبين من قومه، فيرعووا عن غيهم، ويثوبوا إلى رشدهم. فقال:
١ - ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ﴾؛ أي: قبل قومك يا محمد. وهم قريش ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾ وأنّث الفعل باعتبار المعنى. لأنهم بمعنى: أمة، وطائفة، وجماعة؛ أي: كذبوا نوحًا رسلهم وقد دعاهم إلى الله وتوحيده ألف سنة إلا خمسين عامًا. وقالوا: إنه مجنون، وهزؤوا به. وكلما ألحف في الدعوة، زادوا عتوًا وعنادًا. فدعا ربه، وقال: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا﴾. فأخذهم الطوفان وهم ظالمون. ونجى الله نوحًا، ومن آمن معه، كما قال: ﴿فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤)﴾.
٢ - ﴿وَ﴾ كذبت أيضًا قبلهم ﴿عادٌ﴾ وهم قوم هود رسولهم هودًا، فكذبوه، فأهلكهم الله بريح صرصر عاتية، كما قال في سورة الحاقة: ﴿وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (٦) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (٧)﴾ الآيات.
٣ - ﴿وَ﴾ كذب ﴿فِرْعَوْنُ﴾ وقومه رسولهم موسى بن عمران. وقد بعث الله إليهم موسى، وأيده بآياته التسع، فأصر على الجحود والعناد، وبغى، وتجبر، وقال: أنا ربكم الأعلى، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، ونجى موسى وقومه بني إسرائيل، كما قال في سورة يونس: ﴿وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ﴾ الآيات. وقوله: ﴿ذُو الْأَوْتادِ﴾؛ أي: صاحب الأوتاد صفة لـ ﴿فِرْعَوْنُ﴾، جمع وتد بفتح الواو وكسر التاء بزنة كتف، وهو ما غرز في الأرض أو الحائط من خشب، قال المفسرون: لقب بذلك؛ لأنه كانت له أوتاد يعذب بها الناس، وذلك أنه كان إذا غضب على أحد ينصب أربع خشب في الهواء، وكان يمد يدي المعذب ورجليه إلى تلك الخشب الأربع، ويضرب على كل واحد من هذه الأعضاء وتدا من حديد، ويتركه في الهواء حتى يموت، وقال مجاهد: كان يمد
المعذب مستلقيًا بين أربعة أوتاد في الأرض، ويشد رجليه ويديه ورأسه على الأرض بالأوتاد. وقال السدي: ويرسل عليه العقارب والحيات. وقال بعضهم: وهذا المعنى أنسب لما ذكروه في قصة آسية، امرأة فرعون، في سورة التحريم، من أنها لما آمنت بموسى عليه السلام، أوتد لها فرعون بأوتاد في يديها ورجليها، كما سيأتي هناك. وقيل: المراد بالأوتاد: الجموع، والجنود الكثير، سموا بذلك، لأنهم كانوا يقوون أمره، ويشدون سلطانه كما تقوى الأوتاد ما ضربت عليه، فالكلام خارج مخرج الاستعارة، على هذا القول قال ابن قتيبة: العرب تقول: هم في عز ثابت الأوتاد، وملك ثابت الأوتاد، يريدون ملكا دائما شديدا؛ لأنه استقام له الأمر أربع مئة سنة من غير منازع. ويكفي دليلًا على كثرة جموع فرعون: أنه قال في حق بني إسرائيل: إن هؤلاء لشرذمة قليلون، مع أنهم كانوا ينيفون على ست مئة ألف مقاتل سوى الصغير والشيخ، ووجه تخصيص هذه الاستعارة: أن أكثر بيوت العرب كانت خيامًا، وثباتها بالأوتاد.
٤ - ١٣ ﴿وَ﴾ كذبت قبلهم ﴿ثَمُودُ﴾ وهم قوم صالح رسولهم صالحًا عليه السلام، أرسل الله سبحانه إليهم صالحًا، وكانت الناقة له آيةً، فكذبوه، فعقروها. فأرسل عليهم صاعقة، فأهلكتهم، وجعلتهم كهشيم المحتظر، كما ذكر في سورة القمر قصتهم. ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَرًا مِنَّا واحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤)﴾ إلى أن قال: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١)﴾.
٥ - ﴿وَ﴾ كذبت قبلهم ﴿قَوْمُ لُوطٍ﴾ رسولهم لوطًا عليه السلام، فكذبوه، فأرسل الله عليهم حاصبًا، كا ذكره في سورة القمر: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤)﴾. قال مجاهد: كانوا أربع مئة ألف بيت، في كل بيت عشرة. وقال عطاء: ما من أحد من الأنبياء، إلا ويقوم معه يوم القيامة قوم من أمته، إلا لوطًا فإنه يقوم وحده. كما في «كشف الأسرار».
٦ - ﴿وَ﴾ كذبت قبلهم ﴿أَصْحابُ الْأَيْكَةِ﴾؛ أي: أصحاب الغيضة رسولهم شعيبًا، وهم قوم شعيب. أرسله الله إليهم فكذبوه، فأهلكهم كما ذكرهم في سورة الحجر: ﴿وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ﴾. والأيكة: الشجر
الملتف بعضه على بعضه لكثرته. قيل: نسبوا إلى الأيكة لأنهم كانوا يسكنونها. وقيل: هي اسم بلد لهم. وقوله: ﴿أُولئِكَ الْأَحْزابُ﴾ بدل (١) من الطوائف المذكورة؛ أي: كذب أولئك المذكورون المتحزبون؛ أي: المجتمعون على تكذيب أنبيائهم ورسلهم الذين أرسلوا إليهم، أو المعنى: أولئك المذكورون من الأمم هم الأحزاب، الذين تحزبوا على تكذيب أنبيائهم، كما تحزب على تكذيبك قومك. ولكن هؤلاء الذين قصهم الله علينا من الأمم السالفة، هم أكثر منهم عددًا، وأقوى أبدانًا، وأوسع أموالًا وأعمارًا. ويجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف؛ أي: هؤلاء الذين تحزبوا على الرسل، كالأحزاب الذين تحزبوا عليك.
١٤ - وقوله: ﴿إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾ كلام مستأنف جيء به تهديدًا لما يعقبه. و ﴿إِنْ﴾: نافية. والمعنى: ما كان حزب من أولئك الأحزاب، إلا كذب جميع الرسل؛ لأنه تكذيب الحزب لرسوله المرسل إليه، تكذيب لجميع الرسل. أو المعنى (٢): ما كل حزب وجماعة من أولئك الأحزاب، إلا كذب رسوله على نهج مقابلة الجمع بالجمع، لتدل على انقسام الآحاد على الآحاد، كما في قولك: ركب القوم دوابهم. والاستثناء مفرّغ من (٣) أعم الأحكام في حيز المبتدأ؛ أي: ما كل واحد منهم محكوم عليه بحكم، إلا محكومًا عليه بأنه كذب الرسل. أو من (٤) أعم الأحوال؛ أي: ما كل أحد من الأحزاب في جميع أحواله، إلا وقع منه تكذيب الرسل. ويجوز (٥) أن يكون قوله: ﴿أُولئِكَ الْأَحْزابُ﴾: مبتدأ، وقوله: ﴿إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾: خبره محذوف الرابط. والمعنى: أولئك الأحزاب ما كل واحد منهم إلا كذب الرسل. ﴿فَحَقَّ﴾؛ ثبت، ووقع، ووجب
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
(٤) الشوكاني.
(٥) روح البيان.
على كل منهم ﴿عِقابِـ﴾ ـي الذي كانت جناياتهم، توجبه من أصناف العقوبات المفصلة في مواقعها، فأهلك الله قوم نوح بالغرق والطوفان، وقوم هود بالريح، وفرعون وقومه بالغرق، وقوم صالح بالصيحة، وقوم لوط بالخسف، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة.
والمعنى: أي إن كل هذه الأمم الخالية، والقرون الماضية وقد كانوا أشد من قومك هؤلاء، أهل مكة، كذبوا أنبياءهم، فحل بهم العذاب، فكيف بهؤلاء الضعفاء، إذا نزل بهم ما لا قبل لهم به من عذابي؟. وفي الآية زجر وتخويف للسامعين. وقرأ يعقوب (١): ﴿عقابي﴾ بإثبات الياء، وحذفها الباقون مطابقة لرؤوس الآي.
وفي «فتح الرحمن» (٢): ختم أواخر آياته هنا، بما قبل آخره ألف، وآيات قوله في ﴿ق﴾: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ إلى قوله: ﴿فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ بما قبل آخره ياء، أو واو، موافقةً لبقية فواصل السورتين، انتهى.
١٥ - ثم بيّن عقاب كفار قريش إثر بيان عقاب أضرابهم، فقال: ﴿وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ﴾ الإشارة إلى كفار مكة بهؤلاء تحقير لشأنهم، وتهوين لأمرهم، أي: وما ينتظر هؤلاء الكفرة، من أهل مكة، الذين هم أمثال أولئك الطوائف المذكورة المهلكة في الكفر والتكذيب ﴿إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً﴾ هي النفخة الثانية؛ أي: ليس بينهم وبين حلول ما أعد لهم من العقاب الفظيع إلا هي، حيث أخرت عقوبتهم إلى الآخرة لما أن تعذيبهم بالاستئصال حسبما يستحقونه، والنبي - ﷺ - بين أظهرهم خارج عن السنة الإلهية: المبنية على الحكم الباهرة، كما نطق به قوله تعالى: ﴿وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ﴾.
ثم إن (٣) الانتظار يحتمل أن يكون حقيقةً أو استهزاءً، فهم وإن كانوا ليسوا بمنتظرين، لأن تأتيهم الصيحة إلا أنهم جعلوا منتظرين لها تنبيهًا على قربها منهم،
(١) الشوكاني.
(٢) فتح الرحمن.
(٣) روح البيان.
فإن الرجل إنما ينتظر الشيء، ويمد طرفه إليه مترقبًا في كل آن حضوره، إذا كان الشيء في غاية القرب منه.
وجملة قوله: ﴿ما لَها مِنْ فَواقٍ﴾ صفة ثانية لـ ﴿صَيْحَةً﴾. وقرأ حمزة والكسائي: ﴿مِنْ فَواقٍ﴾ بضم الفاء. وقرأ الباقون: بفتحها. وهما لغتان فيه؛ أي: ما للصيحة من توقف وتأخر مقدار فواق إذا جاءت. ففي الكلام حذف، والفواق بالضم كغراب، ويفتح كما في «القاموس»: ما بين حلبتي الحالب من الزمن؛ لأن الناقة تحلب أولًا. ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل، لإدرار اللبن، ثم تحلب ثانية. يعني: إذا جاء وقت الصيحة، لم تستأخر هذا القدر من الزمان، كقوله تعالى: ﴿فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً﴾. فالفواق: عبارة عن الزمان اليسير. وفي الحديث: «من اعتكف قدر فواق، فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل». وفي الحديث: «من قاتل في سبيل الله، فواق ناقة وجبت له الجنة».
١٦ - ﴿وَقالُوا﴾؛ أي: قال كفار مكة بطريق الاستهزاء والسخرية عند سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة. والقائل (١): النضر بن الحرث بن علقمة بن كندة الخزاعي، وأضرابه، وكان النضر من شياطينهم، ونزل في شأنه في القرآن بضع عشرة آية، وهو الذي قال: ﴿فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ﴾ ﴿رَبَّنا﴾ وتصدير دعائهم بالنداء للإمعان في الاستهزاء، كأنهم يدعون ذلك بكمال الرغبة والابتهال. ﴿عَجِّلْ لَنا﴾، أي: أسرع لنا ﴿قِطَّنا﴾؛ أي: نصيبنا، وحظنا من العذاب ﴿قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ﴾؛ أي: قبل يوم المحاسبة، وهو يوم القيامة على ما زعمه محمد - ﷺ -، والقط في الأصل: القطعة من الشيء، والمراد هنا: النصيب والحظ؛ لأنه قطعة من الشيء مفرزة، فالمعنى: عجّل لنا قسطنا، وحظنا، ونصيبنا من العذاب الذي توعدنا به محمد - ﷺ -، ولا تؤخره إلى يوم الحساب الذي مبدؤه الصيحة المذكورة، ويقال لصيحة الجائزة أيضًا: قط؛ لأنها قطعة من القرطاس. فالمعنى عليه: عجّل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها.
(١) روح البيان.
قال سهل بن عبد الله التستري رحمة الله عليه: لا يتمنى الموت إلا ثلاثة: رجل جاهل بما بعد الموت، أو رجل يفر من أقدار الله تعالى، أو مشتاق محب لقاء الله تعالى، انتهى. وقال إسماعيل بن أبي خالد (١): المعنى: عجل لنا أرزاقنا، وبه قال سعيد بن جبير. ومعنى الآية: سؤالهم لربهم أن يعجل لهم نصيبهم، وحظهم من العذاب. وهو مثل قوله: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ﴾، وقال السدي: سألوا ربهم أن يمثل لهم منازلهم من الجنة، ليعلموا حقيقة ما يوعدون به.
ومعنى الآية: أي وقالوا استهزاء وسخرية حين سماعهم بتأخير عقابهم إلى الآخرة: ربنا عجل لنا نصيبنا من العذاب الذي توعدتنا به، ولا تؤخره إلى يوم الحساب الذي مبدؤه الصيحة.
١٧ - ولما بلغ الكفار في السفاهة على رسول الله - ﷺ - الغاية، إذ قالوا: إنه ساحر كذاب، وقالوا: ربنا عجل لنا قطنا.. أمره الله سبحانه وتعالى بالصبر على سفاهتهم، فقال: ﴿اصْبِرْ﴾ يا محمد ﴿عَلى ما يَقُولُونَ﴾؛ أي: على ما يقوله كفار قومك لك مما تكره من مقالاتهم الباطلة، التي من جملتها، قولهم في تعجيل العذاب: ﴿رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا...﴾ إلخ. فإنا ممتحنوك بالمكاره، كما امتحنا سائر من أرسلنا من قبلك، ثم عاجلوا الظفر لك على من كذبك وشاقك سنتنا في الرسل، الذين أرسلناهم إلى عبادنا من قبلك، وهذه الآية منسوخة بآية السيف.
ثم شرع في ذكر قصص لجملة من الأنبياء: كداود، وسليمان، وأيوب، وغيرهم، والقصد به تسليته - ﷺ -؛ أي: اذكر ما حصل لهم من المشاق والمحن، فصبروا حتى فرّج الله عنهم، فصارت عاقبتهم أحسن عاقبة، فكذلك أنت تصبر، ويؤول أمرك إلى أحسن مآل، اهـ «نهر».
قصص داود عليه السلام
﴿وَاذْكُرْ﴾ يا محمد من الذكر القلبي؛ أي: تذكر بقلبك، أو من الذكر
(١) الشوكاني.
331
اللساني؛ أي: واذكر لقومك قصة داود؛ أي: وتذكر يا محمد ﴿عَبْدَنا﴾ المخصوص بعنايتنا القديمة ﴿داوُدَ﴾ بن ايشا، من سبط يهودا بن يعقوب عليه السلام، بينه وبين موسى عليه السلام، خمس مئة وتسع وستون سنة، وقام بشريعة موسى، وعاش مئة سنة. ﴿ذَا الْأَيْدِ﴾؛ أي: صاحب القوة في الدين القائم بمشاقه وتكاليفه. وفي «الكواشي»: ويجوز أن يراد القوة في الجسد والدين، انتهى.
والمعنى: اذكر قصته، فإنك تجد فيها ما تتسلى به؛ أي: تذكر قصته ومن نفسك عن أن تترك ما كلفت به من مصابرتهم، وتحمل أذاهم، لئلا يلقاك من المعاتبة مثل ما وقع لداود. اهـ «أبو السعود».
واعلم: أنه تعالى ذكر أولًا قوة داود في أمر الدين، ثم زلته بحسب القضاء الأزلي، ثم توبته بحسب العناية السابقة، وأمره - ﷺ - بتذكر حاله، وقوته في باب الطاعة، ليتقوى على الصبر، ولا يزل عن مقام استقامته، وتمكينه كما زل قدم داود، فظهرت المناسبة بين المسندين، واتضح وجه عطف و ﴿اذْكُرْ﴾ على ﴿اصْبِرْ﴾.
وجملة قوله: ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ تعليل لكونه ذا الأيد، من الأوب، وهو الرجوع؛ أي: وإنما وصفناه بالقوة في الدين؛ لأنه كان رجاعًا إلى الله ومرضاته سبحانه؛ أي: رجاعًا عن كل ما يكره الله إلى ما يحب الله سبحانه وتعالى، فهو تعليل لكونه ذا الأيد، ودليل على أن المراد به: القوة في أمر الدين، وما يتعلق بالعبادة لا قوة البدن؛ لأن كونه راجعًا إلى مرضاة الله تعالى، لا يستلزم كونه قويّ البدن. وقد روي: أنه لم يكن جسيمًا كسائر الأنبياء، بل قصير القامة، وأكثر القوى البدنية كان فيمن زاده الله بسطةً في جسمه.
وفي «التأويلات النجمية»: تشير الآية إلى كماليته في العبودية، بأنه لم يكن عبد الدنيا، ولا عبد الآخرة، وإنما كان عبدنا خالصًا مخلصًا، وله قوة في العبودية ظاهرًا وباطنًا، فأما قوته ظاهرًا، فبأنه قتل جالوت، وكثيرًا من جنوده بثلاثة أحجار رماها عليهم، وأما قوته في الباطن، فلأنه كان أوابا، وقد سرت أوابيته في الجبال والطير، فكانت تؤوب معه، انتهى. ومن قوة عبادته كان يصوم
332
يومًا، ويفطر يومًا، وكان ينام النصف الأول من الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسده.
ومعنى الآية: أي واذكر يا محمد لقومك، قصة عبدنا داود ذي القوة في الطاعة، والفقه في الدين، فقد كان يقوم ثلث الليل، ويصوم نصف الدهر.
وفي «الصحيحين» عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - ﷺ -: «أحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود، كان يصوم يوما، ويفطر يوما، وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه، ولا يفر إذا لاقى». وإنما كان هذا النوع أحب، لأن النفس إذا نامت الثلثين من الليل تكون أخف، وأنشط في العبادة، وقيل معناه: ذو القوة في الملك. وإنه كان رجاعًا إلى الله تعالى في جميع شؤونه، فكان كلما ذكر، ذنبه، أو خطر على باله، استغفر الله تعالى، قال النبي - ﷺ -: «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مئة مرة»، وأخرج البخاري في تاريخه عن أبي الدرداء، قال: كان النبي - ﷺ -، إذا ذكر داود، وحدّث عنه، قال: «كان أعبد البشر»، وأخرج الديلمي عن ابن عمر قال: قال رسول الله - ﷺ -: «لا ينبغي لأحد أن يقول: إني أعبد من داود».
١٨ - ثم عدد سبحانه نعمه عليه، فقال:
١ - ﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ﴾؛ أي: ذللناها مع داود، و ﴿مع﴾ متعلق بالتسخير، وإيثارها على اللام لكون تسخير الجبال له عليه السلام، لم يكن بطريق تفويض التصرف فيها إليه، كتسخير الريح وغيرها لسليمان عليه السلام، لكون سيرها معه، بطريق التبعية له، والاقتداء به، فتكون ﴿مع﴾ على حالها، ويجوز أن تكون ﴿مع﴾ متعلقة بما بعدها، وهو قوله: ﴿يُسَبِّحْنَ﴾. وجملة التسبيح، حال من الجبال؛ أي: حالة كون الجبال يقدسن الله سبحانه مع داود، وينزهنه عما لا يليق به من النقائص، وفي هذا، بيان ما أعطاه الله تعالى، من البرهان والمعجزة، وهو
(١) روح البيان.
تسبيح الجبال معه، ولم يقل: مسبحات، للدلالة على تجدد التسبيح حالًا بعد حال، قال في «كشف الأسرار»: كان داود يسمع، ويفهم تسبيح الجبال على وجه تخصيصه به، كرامة له، ومعجزة، انتهى. واختلفوا في كيفية التسبيح، فقيل: بصوت يتمثل له، وهو بعيد، وقيل: بلسان الحال، وهو أبعد. وقيل: بخلق الله في جسم الجبل، حياة وعقلًا وقدرة ونطقًا، فحينئذ يسبح الله معه، كما يسبح الأحياء العقلاء، وهذا قول أهل الظاهر. وقال مقاتل: كان داود، إذا ذكر الله، ذكرت الجبال معه. انتهى. والظاهر: أن تسبيح الجبال مع داود على حقيقته، لكن لما كان على كيفية مخصوصة، وسماعه على وجه مخصوص، خارج عن العقول.. كان من معجزات داود عليه السلام وكراماته، وقد سبق مرارًا تحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه.
وقوله: ﴿بِالْعَشِيِّ﴾؛ أي: في آخر النهار ﴿وَالْإِشْراقِ﴾؛ أي: في أول النهار. متعلق بـ ﴿يُسَبِّحْنَ﴾. ووقت الإشراق حين تشرق الشمس؛ أي: تضيء ويصفو شعاعها، وهو وقت الضحى، وأما شروقها فطلوعها، يقال: شرقت الشمس، ولما تشرق، فكان داود يسبح عقب صلاته، عند طلوع الشمس، وعند غروبها،
١٩ - وقوله: ﴿وَالطَّيْرَ﴾ معطوف على ﴿الْجِبالَ﴾. وقوله: ﴿مَحْشُورَةً﴾ حال من الطير، والعامل فيه ﴿سَخَّرْنَا﴾؛ أي: وسخرنا الطير معه، حال كونها محشورة، مجموعة إليه من كل جانب، وناحية، وكانت الملائكة تحشر إليه ما امتنع عليه منها، كما في «كشف الأسرار»: عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان داود، إذا سبح، جاوبته الجبال بالتسبيح، واجتمعت إليه الطير فسبحت، وذلك حشرها. وقيل: كانت تجمعها الريح إليه، وإنما لم يراع المطابقة بين الحالين، بأن يقال: والطير يحشرن؛ لأن الحشر جملةً أدل على القدرة منه، متدرجًا كما يفهم من لفظ المضارع، وليس مرادًا، لأنه لم يرد أنها تحشر شيئًا فشيئًا، إذ حاشرها، هو الله تعالى، فحشرها جملة واحدة، أدل على القدرة، ذكره أبو حيان.
﴿كُلٌّ﴾؛ أي: كل واحد من الجبال والطير ﴿لَهُ﴾؛ أي: لأجل داود؛ أي: لأجل تسبيحه. فهو على حذف المضاف. ﴿أَوَّابٌ﴾؛ أي: رجاع إلى التسبيح، إذا
334
سبح، سبحت الجبال، والطير معه، ووضع الأواب موضع المسبح؛ لأنها كانت ترجع التسبيح، والمرجع رجّاع؛ لأنه يرجع إلى فعله رجوعًا بعد رجوع، والفرق بينه وبين ما قبله وهو ﴿يُسَبِّحْنَ﴾: أن ﴿يُسَبِّحْنَ﴾ يدل على الموافقة في التسبيح، وهذا يدل على المداومة عليها، وقيل: الضمير في ﴿لَهُ﴾ لله؛ أي: كل من داود، والجبال، والطير، لله أواب، أي: مسبح لله، مرجع التسبيح له. وقرأ الجمهور (١): ﴿وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً﴾ بنصبهما كما مر بيان وجهه، وقرأ ابن أبي عبلة، والجحدري ﴿وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً﴾ برفعهما مبتدأ وخبرًا.
روي: أن الله تعالى لم يعط أحدًا من خلقه ما أعطى داود، من حسن الصوت، فلما وصل إلى الجبال ألحان داود، تحركت من لذة السماع، فوافقته في الذكر والتسبيح، ولما سمعت الطيور نغماته، صفرت بصفير التنزيه والتقديس، ولما أصغت الوحوش إلى صوته، دنت منه حتى كانت تؤخذ بأعناقها، فقبل الكل فيض المعرفة، والحالة بحسب الاستعداد، ألا ترى إلى الهدهد، والبلبل، والقمري، والحمامة، ونحوها، فالتأثر، والحركة، والبكاء، ونحوها، ليست من خواص الإنسان فقط، بل إذا نظرت بنظر الحقيقة، وجدتها في الحيوانات، بل في الجمادات أيضًا، لكونها أحياءً بالحياة الحقيقة.
قال بعضهم (٢): سبحت الجبال، وكذا الطير، لتسبيح داود، ليكون له عملها؛ لأن تسبيحها، لما كان لتسبيحه منتشأ منه، لا جرم، يكون ثوابه عائدًا إليه، لا إليها، لعدم استحقاقها لذلك، بخلاف الإنسان فإنه إذا وافقه إنسان آخر في ذكره وتسبيحه، أو عمل بقوله.. يكون له مثل ثواب ذكره وتسبيحه، لأحيائه وإيقاظه له، فهو صيده وأحق به، وتخصيص العشي والإشراق لما فيهما من زيادة ظهور أنوار قدرته، وآثار بركة عظمته، ولأن وقت الإشراق، وقت إقبال المخلوقات إلى طلب الأرزاق والمعاش، ووقت العشي، وقت إقبال المصلين إلى المناجاة، وعرض الحاجات على رب البريات.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
335
والمعنى (١): أي إنه تعالى، سخر الجبال تسبح معه حين إشراق الشمس، وآخر النهار، وتسبيحها معه، تقديسها لله سبحانه بحال، تليق بها، وتخصيص هذين الوقتين بالذكر، يدل على اختصاصهما بمزيد شرف العبادة فيهما، فإن لفضيلة الأزمنة والأمكنة أثرًا، في فضيلة ما يقع فيهما من العبادات، وسخرنا له الطير، حال كونها محبوسة في الهواء، تسبح بتسبيحه، فإذا مر به الطير وهو سابح في الهواء، وسمعه يترنم بقراءة الزبور.. يقف ويسبح معه.
وفي هذا إيماء إلى ما لداود من حسن الترتيل، والصوت المتقبل، الذي يعجب منه الحيوان الأعجم، فما بالك بالإنسان؟!. ثم أكد ما سلف من تسخيرها له فقال: ﴿كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ﴾؛ أي: كل من الجبال، والطير، مرجاع إلى أمره، يسبح تبعًا له.
٢ - ٢٠ ﴿وَشَدَدْنا مُلْكَهُ﴾؛ أي: قوينا ملكه بكثرة الجنود، وبسطة الثراء والهيبة، ونفوذ الكلمة، والنصر على الأعداء، قيل: كان أربعون ألفا لابسي درع يحرسونه، فإذا أصبح قيل: ارجعوا، فقد رضي عنكم نبي الله، وكان نبينا - ﷺ - يحرس أيضًا، إلى نزول قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾، ومن ذلك أخذ السلاطين الحرس في السفر والحضر، فلا يزالون يحرسونهم في الليالي، ولهم أجر في ذلك، وقرأ الجمهور: ﴿وَشَدَدْنا﴾ مخففًا. والحسن، وابن أبي عبلة بشد الدال، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه ادعى رجل على آخر بقرة، وعجز عن إقامة البينة، فأوحى الله تعالى، إلى داود عليه السلام: أن اقتل المدعي إليه. فأعلم الرجل فقال: صدقت يا نبي الله، إن الله لم يأخذني بهذا الذنب، ولكن إني قتلت أبا هذا الرجل غيلة، فقتله داود، فقال الناس: إن أذنب أحد ذنبًا أظهره الله عليه فقتله، فهابوه وعظمت هيبته في القلوب، والغيلة بالكسر: هو أن يخدع شخصا، فيذهب به إلى موضع، فإذا صار إليه قتله.
٣ - ﴿وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ﴾؛ أي: وأعطينا داود عليه السلام الحكمة؛ أي:
(١) المراغي.
336
العلم النافع، والإتقان للعمل. فهو لا يقدم على عمل، إلا إذا عرف موارده، ومصادره مباديه، وغاياته على نحو ما قال الشاعر:
قَدِّرْ لِرِجْلِكَ قَبْلَ الْخَطْوِ مَوْضِعَهَا فَمَنْ عَلَا زَلَقًا عَنْ غِرَّةٍ زَلَجَا
أو العلم للأشياء على ما هي عليه، والعمل بمقتضاه، إن كان متعلقًا بكيفية العمل، واعلم: أن الحكمة نوعان:
أحدهما: الحكمة المنطوق بها، وهي علم الشريعة.
والثاني: الحكمة المسكوت عنها، وهي أسرار الحقيقة التي لا يطلع عليها عوام العلماء، على ما ينبغي، فيضرهم أو يهلكهم، كما روي: أن رسول الله - ﷺ - كان يجتاز في بعض سكك المدينة مع أصحابه، فأقسمت عليه امرأة أن يدخلوا منزلها، فدخلوه فرأوا نارًا موقدة، وأولاد المرأة يلعبون حولها، فقالت: يا نبي الله، الله أرحم بعباده، أم أنا بأولادي؟ فقال النبي - ﷺ -: «بل الله أرحم، فإنه أرحم الراحمين». فقالت: يا رسول الله، أتراني أحب أن ألقي ولدي في النار؟ فقال: «لا» فقالت: فكيف يُلقي الله عبيده فيها، وهو أرحم الراحمين بهم؟. قال الراوي: فبكى رسول الله - ﷺ -، فقال: «هكذا أوحي إلي».
٤ - ﴿وَفَصْلَ الْخِطابِ﴾؛ أي: الخطاب الفاصل بين الحق والباطل، والكلام المبين للحق، أو الخطاب المفصول؛ أي: الكلام الملخص المبين الذي ينبه المخاطب على المرام من غير إلباس، فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف، والفصل إما بمعنى الفاعل أو المفعول أو الإفصاح، والبيان في الخطاب والكلام؛ أي: البيان بحقيقة الأمر، وقطع القضايا والأحكام باليقين من غير ارتياب، ولا شك، ولا توقف، فيكون بمعنى فصل الخصام بتبيين الحق وتمييزه من الباطل، والفصل على حقيقته، وأريد بالخطاب: المخاصمة لاشتمالها عليه.
والمعنى (١): أي وألهمناه حسن الفصل في الخصومات بما يستبين به وجه الحق بلا جنف، ولا ميل مع الهوى، وهذا يحتاج إلى فضل كبير في العلم،
(١) المراغي.
337
ومزيد في الحلم، وتفهم أحوال الخصوم، ورباطة الجأش، وعظيم الصبر، والذكن الذي لا يتوافر لكثير من الناس.
وقال الشعبي (١): ﴿فَصْلَ الْخِطابِ﴾ هو قوله: أما بعد. وهو أول من قال: أما بعد، فإن من تكلم في الأمر الذي له شأن.. يفتتح بذكر الله، وتحميده، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق له.. فصل بينه وبين ذكر الله بقوله: أما بعد.
قضية من قضاياه التي حكم فيها
٢١ - ولما مدح الله سبحانه وتعالى داود عليه السلام، بما تقدم ذكره.. أردف ذلك بذكر هذه القصة الآتية، لما فيها من الأخبار العجيبة، فقال: ﴿وَهَلْ أَتاكَ﴾ وجاءك، ووصلك يا محمد ﴿نَبَأُ الْخَصْمِ﴾؛ أي: خبر تحاكم الخصم، وترافعهم إلى داود عليه السلام، والاستفهام هنا معناه: التعجب، والتشويق، إلى استماع ما في حيزه، للإيذان بأنه من الأخبار البديعة، التي حقها أن لا تخفى على أحد. والنبأ: الخبر العظيم الشأن. والخصم بمعنى: المخاصم، وأصل المخاصمة: أن يتعلق كل واحد بخصم الآخر، بضم الخاء؛ أي: بجانبه، ولما كان الخصم في الأصل، مصدرًا متساويًا إفراده، وجمعه أطلق على الجمع في قوله تعالى: ﴿إِذْ تَسَوَّرُوا﴾؛ أي: إذ تسور الخصوم، وصعدوا أعلى سور الحصن، وحائطه، ونزلوا منه، ودخلوا ﴿الْمِحْرابَ﴾؛ أي: ودخلوا بعد نزولهم من فوق السور البيت، الذي كان داود يجلس فيه، ويشتغل بعبادة ربه، يقال: تسور المكان، إذا علا سوره، وسور المدينة: حائطها المحيط بها، وقد يطلق على حائط مرتفع، وهو المراد هنا. والمراد من المحراب: البيت الذي كان داود عليه السلام، يدخل فيه، ويشتغل بطاعة ربه، قيل: كان ذلك البيت غرفة، وسمي ذلك البيت محرابًا، لاشتماله على المحراب، على طريقة تسمية الشيء بأشرف أجزائه، و ﴿إِذْ﴾ متعلقة بمحذوف، وهو التحاكم الذي قدرنا أولًا؛ أي: هل أتاك نبأ تحاكم الخصم، إذ تسوروا المحراب؛ أي: تصعدوا سور الغرفة، ونزلوا إليه.
(١) النسفي.
والمراد بالخصم المتسورين: جبرائيل، وميكائيل بمن معهما من الملائكة على صورة المدعي، والمدعى عليه، والشهود، والمزكين من بني آدم.
٢٢ - ﴿إِذْ دَخَلُوا﴾؛ أي: الخصوم ﴿عَلَيْهِ﴾؛ أي: على داود. والظرف بدل من الظرف الأول. ﴿فَفَزِعَ﴾ داود، وخاف ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من المتسورين عليه، وإنما فزع منهم، لأنهم أتوه ليلًا في غير وقت دخول الخصوم، ودخلوا عليه بغير إذنه، ولم يدخلوا من الباب الذي يدخل منه الناس، لأنه كان مغلقا، ودخلوا عليه، وهو يتعبد في البيت بغتة من فوق؛ أي: من غير الباب على خلاف العادة. قال ابن الأعرابي: وكان محراب داود من الامتناع بالارتفاع، بحيث لا يرتقي إليه إدمي بحيلة.
وفيه (١) إشارة إلى كمال ضعف البشرية، مع أنه كان أقوى الأقوياء، إذ فزع منهم، ولعل فزع داود، كان لاطلاع روحه على أنه تنبيه له، وعتاب فيما سلف منه، كما سيأتي.
وجملة قوله: ﴿قالُوا لا تَخَفْ﴾ مستأنفة واقعة في جواب سؤال مقدر، كأنه قيل: فماذا قالوا لداود حين فزع منهم؟؛ أي: فلما رأوه فزعًا، قالوا إزالة لفزعه، وخوفه: لا تخف منا. قال في «التأويلات النجمية»: يشير إلى أنه لا تخف من صورة أحوالنا، فإنا جئنا لتحكم بيننا بالحق، ولكن خف من حقيقة أحوالنا. فإنها كشف أحوالك، التي جرت بينك وبين خصمك أوريا.
وارتفاع ﴿خَصْمانِ﴾ على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: نحن فريقان متخاصمان على تسمية مصاحب الخصم خصمًا تجوزًا.
والحاصل: أنه أطلق لفظ الخصم فيما سبق على الجمع بدليل ﴿تسورا﴾، وهنا بلفظ التثنية. لما ذكرنا أولًا من أن لفظ الخصم يحتمل المفرد، والمثنى، والمجموع، وهو جائز؛ أي: وثني هنا بتأويل الفريق، وهم وإن لم يكونوا فريقين بل شخصين اثنين، بدليل أن هذا أخي، الآية، لكن جعل مصاحب الخصم
(١) روح البيان.
خصمًا، فكانا بمن معهما فريقين من الخصوم، فحصل الانطباق بين صيغة التثنية في قوله: ﴿خَصْمانِ﴾، وبين ما مر من إرادة الجمع، وقرأ أبو يزيد الجراد عن الكسائي ﴿خصمان﴾ بكسر الخاء.
وقوله: ﴿بَغَى﴾ واعتدى ﴿بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ﴾ هو على سبيل الفرض والتقدير، وعلى سبيل التعريض لداود، لا على تحقيق البغي من أحدهما، فلا يلزم الكذب، إذ الملائكة منزهون عنه، فلا يحتاج إلى ما قيل: إن المتخاصمين كانا لصين دخلا عليه للسرقة، فلما رآهما اخترعا الدعوى، كما في «شرح المقاصد» ﴿فَاحْكُمْ﴾ يا داود ﴿بَيْنَنا بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بالعدل ﴿وَلا تُشْطِطْ﴾؛ أي: ولا تجر في الحكومة. وهو تأكيد للأمر بالحكم بالحق. والمقصود من الأمر والنهي الاستعطاف. ﴿وَاهْدِنا﴾؛ أي: وأرشدنا يا داود ﴿إِلى سَواءِ الصِّراطِ﴾؛ أي: إلى الصراط السوي، والطريق الحق، واحملنا عليه بزجر الباغي عما سلكه من طريق الجور، وإرشاده إلى منهاج العدل.
وقرأ الجمهور: ﴿وَلا تُشْطِطْ﴾ مفكوكًا من أشط الرباعي. وقرأ أبو رجاء، وابن أبي عبلة، وقتادة، والحسن، وأبو حيوة ﴿تُشْطِطْ﴾ من شط الثلاثي. وقرأ قتادة أيضًا: ﴿تشط﴾ مدغمًا من أشط الرباعي. وقرأ زيد: ﴿تشاطط﴾ بضم التاء، وبالألف، على وزن تفاعل مفكوكًا. وعن قتادة أيضًا: ﴿تشطط﴾ من شطط المضعف، ذكره أبو حيان في «البحر».
والمعنى (١): أي هل علمت ذلك النبأ العجيب، نبأ الجماعة الذين تسلقوا سور غرفة داود، ودخلوا عليه وهو مشتغل بعبادة ربه، في غير وقت جلوسه للحكم، وحين رآهم فزع منهم، ظنًا منه أنهم جاؤوا لاغتياله، إذ كان منفردًا في محرابه للعبادة، فقالوا له: لا تخف منا، نحن اثنان جار بعضنا على بعض، فاحكم بيننا حكمًا عادلًا، ولا تجر، واهدنا إلى الطريق السوي، ولا تشطط في الحكومة.
٢٣ - ثم فصلوا موضع الخصومة، فقال أحدهما: ﴿إِنَّ هَذَا﴾ الحاضر معي
(١) المراغي.
340
﴿أَخِي﴾ في الدين أو في الصحبة، والتعرض لذلك، تمهيد لبيان كمال قبح ما فعل به صاحبه، وقال أبو حيان (١): والأخوة هنا مستعارة، إذ هما ملكان، لكنهما لما ظهرا في سورة إنسانين تكلما بالأخوة، ومجازها أنها أخوة في الدين، والإيمان، أو على معنى الصحبة، والمرافقة، أو على معنى الشركة والخلطة، لقوله: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطاءِ﴾، وكل واحدة من هذه الأخوات تقتضي منع الاعتداء، ويندب إلى العدل، والقائل منهما هذا الكلام، هو المدعي منهما. و ﴿أَخِي﴾ عطف بيان عند ابن عطية، وبدل أو خبر ﴿لإن﴾ عند الزمخشري.
﴿لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ﴾ قرأ الجمهور: ﴿تِسْعٌ وَتِسْعُونَ﴾ بكسر التاء فيهما، وقرأ الحسن، وزيد بن علي: بفتحها. وقرأ الجمهور: ﴿نَعْجَةً﴾ بفتح النون، والحسن، وابن هرمز: بكسر النون، وهي لغة لبعض بني تميم، وهي لغة شاذة، والنعجة: هي الأنثى من الضأن، وقد يكنى بها عن المرأة. قال الواحدي: النعجة: البقرة الوحشية، والعرب تكني عن المرأة بها، وتشبه النساء بالنعاج، والكناية (٢) والتعريض أبلغ في المقصود، وهو التوبيخ، فإن حصول العلم بالمعرض به يحتاج إلى تأمل، فإذا تأمله، واتضح قبحه.. كان ذلك أوقع في نفسه، وأجلب لخجالته وحيائه.
وعني بهذا داود؛ لأنه كان له تسع وتسعون امرأة، وعنى بقوله: «ولي نعجة واحدة» أوريا زوج المرأة التي أراد أن يتزوجها داود، كما سيأتي بيان ذلك، وقرأ حفص عن عاصم: ﴿ولي﴾ بفتح الياء، والباقون بإسكانها على الأصل. ﴿فَقالَ﴾ الأخ لي: ﴿أَكْفِلْنِيها﴾؛ أي: أكفلني هذه النعجة الواحدة؛ أي: ضمها لي إلى ما عندي، وأنزل لي عنها حتى أكفلها، وأضمها إلى ما عندي، وأصير بعلًا لها، قال ابن كيسان: اجعلها كفلي ونصيبي بالتنازل عنها، وفي «الروح»: أي ملكنيها، وحقيقته؛ أي: اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي، والكافل؛ هو الذي يعولها وينفق عليها وعزني أي غلبني في الخطاب أي: في مخاطبته، ومحاورته إياي، محاجة بأن جاء بحجاج، لم أقدر على رده، وعن ابن عباس
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
341
- رضي الله عنهما -: كان أعز مني، وأقوى على مخاطبتي، لأنه كان الملك، فالمعنى: كان أقدر على الخطاب لعزة ملكه، كما في الوسيط، أو غلبني بعزه، وسلطانه، أو أراد (١) خطيب المرأة؛ أي: خطبها هو وخطبتها أنا، وعزني في الخطاب؛ أي: غلبني في خطبتها حيث زوجها دوني، وقرأ أبو حيوة، وطلحة -ayah text-primary">﴿وعزني﴾ بتخفيف الزاي. قال أبو الفتح: حذف الزاي الواحدة تخفيفًا. وقرأ (٢) ابن مسعود، وعبيد بن عمير، وأبو وائل، ومسروق، والضحاك، والحسن: -ayah text-primary">﴿وعازني في الخطاب﴾ بألف وتشديد الزاي؛ أي: غالبني من المعازة، وهي المغالبة.
والمعنى: أي إن أخي هذا يملك تسعًا وتسعين نعجة، ولي نعجة واحدة، فقال: ملكنيها، وغلبني في المحاجة، فجاء بحجج لم أطق لها ردًا، ولا دفعًا. قال أبو حيان: والظاهر، إبقاء لفظ النعجة على حقيقتها، من كونها أنثى الضأن، ولا يكنى بها عن المرأة، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك؛ لأن ذلك الإخبار، كان صادرًا من الملائكة على سبيل التصوير للمسألة، والفرض لها من غير تلبس بشيء منها، فمثلوا بقصة رجل له نعجة، ولخليطه تسع وتسعون، فأراد صاحبه تتمة المائة، فطمع في نعجة خليطه، وأراد انتزاعها منه، وحاجه في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده، ويدل على ذلك قوله: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطاءِ﴾، وهذا التصوير، والتمثيل أبلغ في المقصود، وأدل على المراد انتهى.
٢٤ - ثم ذكر سبحانه حكم داود في الواقعة بقوله: ﴿قَالَ﴾ داود بعد اعتراف المدعى عليه، أو على تقدير صدق المدعي، وإلا فالمسارعة إلى تصديق أحد الخصمين، قبل سماع كلام الآخر لا وجه له، وفي الحديث: «إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض لأحدهما، حتى تسمع من الآخر»، وقيل (٣): الكلام على تقدير أي: لئن كان ما تقول، لقد ظلمك. وقيل: ثم حذف؛ أي: فأقر المدعى عليه، فقال: لقد ظلمك، ولكنه لم يحك في القرآن اعتراف المدعى عليه، لأنه
(١) البحر المحيط.
(٢) الشوكاني.
(٣) البحر المحيط.
342
معلوم من الشرائع كلها، إذ لا يحكم الحاكم إلا بعد إجابة المدعى عليه؛ أي: قال داود للمدعي: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ﴾ أخوك. جواب قسم محذوف، قصد به - عليه السلام - المبالغة في إنكار فعل صاحبه، وتهجن طمعه، في نعجة من ليس له غيرها، مع أن له قطيعًا منها؛ أي: والله لقد ظلمك أخوك ﴿بِسُؤالِ﴾ إضافة ﴿نَعْجَتِكَ﴾ الواحدة ﴿إِلى نِعاجِهِ﴾ التسع والتسعين. والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله، وتعديته إلى مفعول آخر بـ ﴿إِلى﴾ لتضمنه معنى الإضافة والضم، كأنه قيل: بضم نعجتك إلى نعاجه على وجه السؤال والطلب. قال النحاس: ويقال: إن خطيئة داود هي قوله: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ﴾؛ لأنه قال ذلك قبل أن يتثبّت، وفي هذا إشارة، إلى أن الظلم في الحقيقة من شيم النفوس، فإن وجدت ذا عفة، فالعلة كما قال يوسف: ﴿وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي﴾ الآية، فالنفوس جُبلت على الظلم، والبغي، وسائر الصفات الذميمة، ولو كانت نفوس الأنبياء عليهم السلام، كذا في «التأويلات النجمية»، يقول الفقير: هذا بالنسبة إلى أصل النفوس وحقيقتها، وإلا فنفوس الأنبياء مطمئنة، لا أمارة، كما مر بسط الكلام على ذلك، في سورة يوسف.
﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطاءِ﴾؛ أي: الشركاء الذين خلطوا أموالهم، جمع خليط كظريف وظرفاء، والخلطة: الشركة، وقد غلبت في الماشية ﴿لَيَبْغِي﴾؛ أي: ليتعدى ﴿بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ﴾ ويظلمه غير مراع لحق الصحبة والشركة، وهذا من كلام داود، يدل على أن زمانه كان فيه الظلم والاعتداء كثيرًا، وقرىء ﴿ليبغي﴾ بفتح الياء، على تقدير حذف النون الخفيفة، وأصله: ليبغين كقوله: إضرب عنك الهموم طارقها. يريد اضربن. ويكون على هذا القراءة، على تقدير قسم محذوف، ذلك القسم وجوابه خبر لـ ﴿إِنَّ﴾. وعلى قراءة الجمهور يكون: ﴿لَيَبْغِي﴾ خبرًا لـ ﴿إِنَّ﴾. وقرىء ﴿ليبغ﴾ بحذف الياء كقوله: محمد تفد نفسك كل نفس؛ أي: تفدى على أحد القولين. ﴿إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ منهم. فإنهم يجتنبون عن البغي، والعدوان ﴿وَقَلِيلٌ ما هُمْ﴾؛ أي: وهم قليل، فهم مبتدأ، و ﴿قَلِيلٌ﴾ خبره قدم عليه للاهتمام به، وإنما أفرد تشبيها بفعيل، بمعنى مفعول. و ﴿ما﴾ مزيدة لتأكيد القلة، أو للإبهام أو التعجب من قلة الموصوفين بالإيمان، وصالح العمل. {وَظَنَ
343
داوُدُ}؛ أي: علم وأيقن داود ﴿أَنَّما فَتَنَّاهُ﴾ و ﴿ما﴾ كافة زائدة؛ أي: علم داود أنا فتناه، واختبرناه بهذه الواقعة؛ لأنها جارية مجرى الامتحان. والظن هنا مستعار للعلم الاستدلالي لما بينهما من المشابهة، يعني: أن الظن الغالب لما كان يقارب العلم استعير له، فالظن يقين، لكنه ليس بيقين عيان، فلا يقال فيه: إلا العلم.
والمعنى (١): وعلم داود بما جرى في مجلس الحكومة، إنما فعلنا به الفتنة والامتحان لا غير، بتوجيه الحصر إلى نفس الفعل بالقياس إلى ما يغايره من الأفعال، فتنبه لذلك ﴿فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ﴾ لذنبه إثر ما علم أن ما صدر منه ذنب، كما استغفر آدم عليه السلام بقوله: ﴿رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا﴾ إلخ، وموسى عليه السلام بقوله: ﴿تُبْتُ إِلَيْكَ﴾، وغيرهما من الأنبياء الكرام، على ما بيّن في موضعه.
والمعنى: أنه عند ما تخاصما إليه، وقال ما قال، علم عند ذلك أنه المراد، وأن مقصودهما التعريض به، وبصاحبه الذي أراد أن ينزل له عن امرأته، قال الواحدي: قال المفسرون: فلما قضى داود بينهما، نظر أحدهما إلى صاحبه، فضحك، فعند ذلك علم داود بما أراداه. ورأى أنهما تحولا إلى صورتهما، وذهبا، وعرجا نحو السماء بمرأى منه، وهما يقولان: قضى الرجل على نفسه، فعلم داود أنه إنما عُني به.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿فَتَنَّاهُ﴾ بتخفيف التاء، وتشديد النون. وقرأ عمر بن الخطاب، وأبو رجاء، والحسن: بخلاف عنه، بتشديد التاء والنون جميعًا مبالغة، وقرأ الضحاك ﴿أفتناه﴾ كقوله: لئن فتنتني لهي بالأمس أفتنت. وقرأ قتادة، وأبو عمرو في رواية، وعبيد بن عمير، وابن السميقع: ﴿افتناه﴾ بتخفيفهما، والألف ضمير الخصمين.
وقد اختلف المفسرون في ذنب داود، الذي استغفر له، وتاب منه على أقوال:
(١) روح البيان.
(٢) البحر المحيط.
344
منها: ما روي (١): أن جماعة من الأعداء، طمعوا في أن يقتلوا نبي الله، داود عليه السلام، وكان له يوم يخلو فيه بنفسه، ويشغل بطاعة ربه، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم، وتسوروا المحراب، فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواما يمنعونه منهم، فخافوا فوضعوا كذبا، فقالوا: ﴿خَصْمانِ﴾؛ أي: نحن فريقان إلى آخر القصة. فعلم عليه السلام غرضهم، فهمّ أن ينتقم منهم، فاستغفر ربه مما هم به من الانتقام منهم. وقيل: إن دخولهم على داود كان فتنة له، إلا أنه عليه السلام، استغفر لذلك الداخل، العازم على قتله.
ومنها: أن أوريا بن حنانا، كان قد خطب امرأة، اسمها نشابع بنت شايع، فأجابوه، ثم خطبها داود، في حال غيبة أوريا في غزواته، فزوجت نفسها منه عليه السلام لجلالته، فعُوتب على ذلك، وعلى هذا القول فمعنى ﴿وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ﴾؛ أي: غلبني في خطبة امرأة.
ومنها: ما قيل: كان أهل زمان داود عليه السلام، يسأل بعضهم بعضًا أن يطلق له امرأته، حتى يتزوجها إذا أعجبته، وكان داود عليه السلام، ما زاد على قوله لأوريا: انزل لي عن امرأتك. وذلك أنه وقع بصره على تلك المرأة من غير قصد، فأحبها، ومال قلبه إليها، فسأل زوجها النزول عنها، فاستحيا أن يرده، ففعل فتزوجها، وهي أم سليمان عليه السلام، وكانت من أجمل النساء، وكان ذلك جائزًا في شريعته، معتادًا فيما بين الناس غير مخل بالمروءة، وعلى هذا فمعنى ﴿أَكْفِلْنِيها﴾: انزل لي عن تلك النعجة الواحدة، وأعطنيها، فعوتب داود بشيئين:
أحدهما: خطبته على خطبة أخيه المؤمن.
والثاني: إظهار الحرص على التزوج مع كثرة نسائه، وهذا وإن كان جائزًا في شريعته، إلا أنه لا يليق بجنابه عليه السلام. فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين.
(١) المراح.
345
ومنها: ما قيل: إن ذنب داود الذي استغفر منه، ليس بسبب أوريا وامرأته، وإنما هو بسبب قوله لأحد الخصمين: ﴿لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ﴾. فلما كان هذا الحكم مخالفًا للصواب، اشتغل بالاستغفار والتوبة، فثبت بهذه الوجوه نزاهة داود عليه السلام، مما نسب إليه من الكبائر، وإنما يلزم في حقه ترك الأفضل والأولى، والله أعلم.
وقال البيضاوي: وما قيل: إنه أرسل أوريا إلى الجهاد مرارًا، وأمر أن يتقدم حتى قتل، فتزوجها يعني: امرأته، هراء وافتراء، اهـ. وقال الخازن في «تفسيره»: اعلم: أن من خصه الله بنبوته، وأكرمه برسالته، وشرّفه على كثير من خلقه، وائتمنه على وحيه، وجعله واسطة بينه وبين خلقه.. لا يليق أن ينسب إليه، ما لو نسب إلى آحاد الناس، لاستنكف أن يحدث عنه، فكيف يجوز أن ينسب إلى بعض أعلام الأنبياء، والصفوة الأمناء ذلك؟! اهـ. قال الخازن: وقال الإمام فخر الدين الرازي:
حاصل القصة: يرجع إلى أمرين: إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق، وإلى الطمع في زوجته. قال: وكلاهما منكر عظيم، فلا يليق بعاقل، أن يظن بداود عليه السلام هذا، اهـ.
وحاصل معنى قوله: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ...﴾ إلخ؛ أي: وإن كثيرًا ممن يتعاملون معًا، يجور بعضهم على بعض حين التعامل كما قال المتنبي:
والظُّلْمُ مِنْ شِيَمِ النُّفُوْسِ فَإِنْ تَجِدْ ذَا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لَا يَظْلِمُ
إلا من يخافون ربهم، ويؤمنون به، ويعملون صالح الأعمال. فإن نفوسهم تعزف عن الظلم، وترعوي خشيةً من خالقها، وما أقل هؤلاء عددًا، وأندرهم وجودًا، كما قال: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾.
ثم ذكر أن داود، كان قد ظن أنهما قد جاءا للاغتيال، ثم تبين له غير ما كان قد ظن. فقال: ﴿وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ﴾؛ أي: وظن أن دخولهما
346
عليه في ذلك الوقت، ومن تلك الجهة ابتلاء من الله تعالى، لأجل أن يغتالوه، فلم يقع ما كان قد ظنه، فاستغفر ربه من ذلك الظن، إذ لم يقع ما كان قد ظنه. ﴿وَخَرَّ﴾؛ أي: سقط داود حال كونه ﴿راكِعًا﴾؛ أي: ساجدًا على تسمية السجود ركوعًا؛ لأنه مبدؤه، لأنه لا يكون ساجدًا حتى يركع، وفي كل من الركوع والسجود التحني والخضوع، وبه (١) استشهد أبو حنيفة، وأصحابه في سجدة التلاوة، على أن الركوع يقوم مقام السجود، أو المعنى: خر للسجود راكعًا؛ أي: مصليًا إطلاقًا للجزء وإرادة للكل، كأنه أحرم بركعتي الاستغفار. والدليل على الأول؛ أي: على أن الركوع هاهنا بمعنى السجود، ما رواه ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - ﷺ -، كان يقول في سجدة ص وسجدة الشكر: «اللهم اكتب لي عندك بها أجرًا، واجعلها لي عندك ذخرًا، وضع عني بها وزرًا، واقبلها مني كما قبلت من عبدك داود سجدته» وقيل (٢): بل كان ركوعهم سجودًا. وقيل: بل كان سجودهم ركوعًا.
﴿وَأَنابَ﴾؛ أي: ورجع داود إلى ربه؛ أي: رجوع بالتوبة من جميع المخالفات، التي هي الزلات، وما كان من قبيل ترك الأولى والأفضل. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - ﷺ - سجد في ص، وقال: «سجدها داود توبة، ونسجدها شكرًا».
وهذه السجدة (٣) من عزائم السجود عند أبي حنيفة، ومالك - رحمهما الله تعالى - وكل منهما على أصله. فأبو حنيفة يقول: هي واجبة، ومالك يقول: هي فضيلة، وعند الشافعي، وأحمد سجدة شكر، تستحب في غير الصلاة، فلو سجد بها في الصلاة بطلت عندهما، كما في «فتح الرحمن».
٢٥ - ثم أخبر سبحانه، أنه قبل استغفاره، وتوبته بقوله: ﴿فَغَفَرْنا لَهُ﴾؛ أي: لداود ﴿ذلِكَ﴾ الذنب الذي استغفر منه، وكان ذلك في شهر ذي الحجة، كما في «بحر العلوم». وروي: أنه عليه السلام، بقي في سجوده أربعين يومًا وليلة، لا يرفع
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) روح البيان.
رأسه إلا لصلاة مكتوبة، أو لما لا بد منه، ولا يرقأ دمعه، حتى نبت منه العشب حول رأسه، ولا يشرب ماء إلا ثلثاه دمع، وجهد نفسه راغبًا إلى الله في العفو عنه، حتى كاد يهلك، واشتغل بذلك عن الملك، حتى وثبت ابن له، يقال له: إيشا على ملكه، فاجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل. فلما نزلت توبته بعد الأربعين، وغفر له حاربه، فهزمه، وقد قال نبينا - ﷺ -: «إذا بويع لخليفتين»؛ أي: لأحدهما أولًا، وللآخر بعده «فاقتلوا الآخر منهما». لأنه كالباغي. هذا إذا لم يندفع إلا بقتله.
قال ابن الأنباري: الوقف على قوله: ﴿فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ﴾ تام، ثم يبتدىء الكلام بقوله: ﴿وَإِنَّ لَهُ﴾؛ أي: لداود ﴿عِنْدَنا لَزُلْفى﴾؛ أي: لقربة وكرامة بعد المغفرة، كما وقع لآدم عليه السلام. ﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾؛ أي: ومآبًا حسنًا؛ أي: مرجعًا طيبًا. هو الجنة. وفي «كشف الأسرار»: يعني الجنة هي مآب الأنبياء، والأولياء.
٢٦ - ولما تمم الله سبحانه، قصة داود، أردفها ببيان تفويض أمر خلافة الأرض إليه. والجملة مقولة لقول مقدر معطوف على ﴿غفرنا﴾؛ أي: فغفرنا له ذلك، وقلنا له: ﴿يا داوُدُ إِنَّا﴾ استخلفناك على الأرض أو ﴿جَعَلْناكَ خَلِيفَةً﴾ لمن قبلك من الأنبياء لتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر. والخلافة (١): النيابة عن الغير إما لغيبة المنوب عنه، وإما لموته، وإما لعجزه، وإما لتشريف المستخلف. وعلى هذا الوجه الأخير، استخلف الله أولياءه في الأرض، إذ الوجوه الأول محال في حق الله تعالى، فالخليفة عبارة عن الملك النافذ الحكم، وهو من كان طريقته وحكومته على طريقة النبي وحكومته، والسلطان أعم، والخلافة في خصوص مرتبة الإمامة أيضًا أعم.
والمعنى: استخلفناك على الملك في الأرض، والحكم فيما بين أهلها؛ أي: جعلناك أهل تصرف نافذ الحكم في الأرض، كمن يستخلفه بعض السلاطين
(١) روح البيان.
348
على بعض البلاد، ويُملكه عليها، وكانت النبوة قبل داود في سبطه، والمُلك في سبط آخر، فأعطاهما الله تعالى داود عليه السلام، فكان يدبر أمر العباد بأمره تعالى، وفيه دليل بيّن على أن حاله عليه السلام، بعد التوبة، كما كان قبلها لم يتغير قط، بل زادت اصطفائيته كما قال في حق آدم عليه السلام: «ثم اجتباه ربه، فتاب عليه وهدى».
والمعنى (١): أي يا داود إنا استخلفناك في الأرض، وجعلناك نافذ الحكم بين الرعية، لك الملك والسلطان، وعليهم السمع والطاعة، لا يخالفون لك أمرًا، ولا يقيمون في وجهك عصا.
ثم ذكر ما يستتبع ذلك، فقال: ﴿فَاحْكُمْ﴾؛ أي: فافصل الخصومة الواقعة ﴿بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾؛ أي: بالحكم العدل المنزل من عندي، والذي شرعته لعبادي لما فيه من المصلحة لهم في الدنيا والآخرة، وبه يكون الحاكم عادلًا لا جائرًا؛ لأن الأحكام (٢) إذا كانت مطابقة للشريعة الحقّية الإلهية، انتظمت مصالح العالم، واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه، أما إذا كانت أحكام السلطان القاهر على وفق هواه، ولطلب مصالح دنياه عظم ضرره على الخلق، فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه، وذلك يفضي إلى تخريب العالم، ووقوع الهرج والمرج في الخلق، وذلك يُفضي إلى هلاك الملك.
ثم أكد ما سلف بالنهي عن ضده، فقال: ﴿وَلا تَتَّبِعِ﴾ يا داود ﴿الْهَوى﴾؛ أي: ما تهواه النفس، وتشتهيه في الحكومات وغيرها من أمور الدين والدنيا، قال بعضهم: وهذا يؤيد ما قيل: إن ذنب داود الهم الذي هم به حين نظر إلى امرأة أوريا، وهو أن يجعلها تحت نكاحه، أو ما قيل: إن ذنبه المبادرة إلى تصديق المدعي، وتظليم الآخر قبل مسألته. وفي هذا إرشاد لما يقتضيه منصب النبوة، وتنبيه لمن هو دونه لسلوك هذا الطريق القويم.
ثم بين سوء عاقبة ذلك، فقال: ﴿فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ بالنصب على أنه
(١) المراغي.
(٢) المراح.
349
جواب النهي؛ أي: فيكون الهوى أو اتباعك للهوى سببًا لضلالك عن دلائله، التي نصبها على الحق تكوينًا وتشريعًا. قال بعضهم: ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى﴾؛ أي: ما يخطر لك في حكمك من غير وحي مني ﴿فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: عن الطريق الذي أوحي بها إلى رسل الله تعالى، انتهى.
فإن قلت (١): كيف يكون اتباع الهوى سببًا للضلال؟.
قلت: لأن الهوى يدعو إلى الاستغراق في اللذات الجسمانية، فيشغل عن طلب السعادات الروحانية، التي هي الباقيات الصالحات، فمن ضل عن سبيل الله، الذي هو اتباع الدلائل المنصوبة على الحق، أو اتباع الحق في الأمور، وقع في سبيل الشيطان، بل في حفرة النيران والحرمان.
ويجوز (٢) أن يكون الفعل في ﴿فَيُضِلَّكَ﴾ مجزومًا بالعطف على النهي، وإنما حرّك لالتقاء الساكنين، فعلى الوجه الأول أعني: النصب يكون المنهي عنه الجمع بينهما. وعلى الوجه الثاني، يكون النهي عن كل واحد منهما على حدة.
والمعنى (٣): أي فيكون اتباعك للهوى سببًا في الضلال عن الدلائل التي نُصبت، والأعلام التي وضعت للإرشاد، إلى سبل السلام بإصلاح حال المجتمع في دينه ودنياه. وتهذيبه حتى يسلك طريق الحق بينه وبين ربه، وبينه وبين الناس.
ثم بيّن غائلة الضلال، ووخامة عاقبته. فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ تعليل للنهي عن اتباع الهوى، والوقوع في الضلال ببيان غائلته، وإظهار ﴿فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ في موضع الإضمار للإيذان بكمال شناعة الضلال عنه، كما سيأتي في مبحث البلاغة. ﴿لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ﴾؛ أي: أليم والباء في ﴿بِما نَسُوا﴾ للسببية أو تعليلية. ومعنى النسيان: الترك. ﴿يَوْمَ الْحِسابِ﴾ مفعول لنسوا؛ أي: لهم عذاب أليم، بسبب نسيانهم يوم الحساب والمجازاة، وترك العمل له، قال الزجاج؛ أي: بتركهم العمل لذلك اليوم، صاروا بمنزلة الناسين، وإن كانوا ينذرون ويذكرون. وقال عكرمة، والسدي: في الآية تقديم، وتأخير، والتقدير:
(١) روح البيان.
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
350
ولهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا؛ أي: تركوا القضاء بالعدل، والأول أولى، ولما كان (١) الضلال عن سبيل الله مستلزما لنسيان يوم الحساب، كان كل منهما سببا، وعلة لثبوت العذاب الشديد. وتأدب سبحانه وتعالى مع داود؛ أي: وقَّره وعظَّمه حيث لم يُسند الضلال إليه بأن يقول: فلئن ضللت عن سبيلي، فلك عذاب شديد، لما هو مقتضى الظاهر، بل أسنده إلى الجماعة الغائبين، الذين داود عليه السلام، واحد منهم.
والمعنى: أي إن الذين يتركون الحق، ويضلون عن سبيل معالمه لهم، من الله العذاب الشديد يوم الحساب، لنسيانهم ما في ذلك اليوم من الأهوال، وأن الله سيحاسب كل نفس بما كسبت، فمن دسَّى نفسه، وسلك بها سبيل المعاصي.. فقد حق عليه العذاب، الذي كتبه على العاصين، جزاءً وفاقًا على أعمالهم التي كسبوها بأيديهم، فإن تذكر يوم الحساب يقتضي ملازمة الحق، ومخالفة الهوى.
الإعراب
﴿ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهًا واحِدًا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (٥)﴾.
﴿ص﴾ إن قلنا: إنه علم للسورة، ففيه سبعة أوجه من الإعراب، كما هو معلوم في أسماء التراجم. والأول منها: أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه سورة ﴿ص﴾. والجملة الاسمية مستأنفة استئنافًا نحويًا. وإن قلنا: إنه من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه.. فليس موصوفًا بإعراب، ولا بناء؛ لأن الإعراب والبناء فرع عن إدراك المعنى، ومعناه غير معلوم لنا. ﴿وَالْقُرْآنِ﴾: ﴿الواو﴾: حرف جر وقسم. ﴿الْقُرْآنِ﴾: مقسم به، مجرور بواو القسم. {ذِي
(١) روح البيان.
351
الذِّكْرِ}: صفة لـ ﴿الْقُرْآنِ﴾ مجرور بالياء المحذوفة لالتقاء الساكنين، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم، محذوف وجوبًا، تقديره: أقسم بالقرآن. وجوابه محذوف، قدّره الحوفيّ: لقد جاءكم الحق. وقال ابن عطية: تقديره: ما الأمر كما تزعمون يا أهل مكة، وقال الزمخشري: تقديره: إن هذا القرآن لمعجز. وجملة القسم مستأنفة. ﴿بَلِ﴾: حرف عطف وإضراب انتقالي، ﴿الَّذِينَ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلته. ﴿فِي عِزَّةٍ﴾: خبر المبتدأ. ﴿وَشِقاقٍ﴾: معطوف على ﴿عِزَّةٍ﴾. والجملة الاسمية معطوفة على جملة القسم. ﴿كَمْ﴾: خبرية، بمعنى عدد كثير، في محل النصب مفعول مقدم لـ ﴿أَهْلَكْنا﴾، ﴿أَهْلَكْنا﴾: فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿أَهْلَكْنا﴾ ﴿مِنْ قَرْنٍ﴾: تمييز ﴿كَمْ﴾ الخبرية، ﴿فَنادَوْا﴾: الفاء: عاطفة، ﴿نادوا﴾: فعل، وفاعل، والجملة معطوفة على ﴿أَهْلَكْنا﴾. ﴿وَلاتَ﴾: الواو حالية، ﴿لاتَ﴾: حرف نفي تعمل عمل ليس، ترفع الاسم وتنصب الخبر، واسمها محذوف، تقديره: ولات الحين ﴿حِينَ مَناصٍ﴾ خبرها منصوب. والجملة في محل النصب حال من فاعل ﴿نادوا﴾: والرابط مقدر تقديره: فنادوا بالفرار، والحال أنه ليس الحين حين فرار لهم. ﴿وَعَجِبُوا﴾: فعل، وفاعل، معطوف على نادوا، ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿جاءَهُمْ﴾: فعل ماض في محل النصب بأن المصدرية، والهاء ضمير الغائبين في محل النصب مفعول به، ﴿مُنْذِرٌ﴾: فاعل جاء، ﴿مِنْهُمْ﴾ صفة ﴿مُنْذِرٌ﴾. وجملة ﴿جاءَهُمْ﴾: مع أن المصدرية في تأويل مصدر، مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: عجبوا من مجيء منذر منهم، والجار المحذوف متعلق بـ ﴿عَجِبُوا﴾. ﴿وَقالَ الْكافِرُونَ﴾: فعل، وفاعل، معطوف على ما قبله، ﴿هذا ساحِرٌ﴾: مبتدأ وخبر. ﴿كَذَّابٌ﴾: خبر ثان أو نعت لـ ﴿ساحِرٌ﴾. والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ﴾: الهمزة للاستفهام التعجبي؛ أي: تعجبوا من هذا الحصر؛ لأنهم قاسوا الغائب على الشاهد جهلًا منهم، وارتطامًا منهم بسوء الغفلة. ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -. ﴿الْآلِهَةَ﴾ مفعول أول، ﴿إِلهًا﴾ مفعول ثان، ﴿واحِدًا﴾ صفة لـ ﴿إِلهًا﴾. والجملة الفعلية جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿إِنَّ هذا﴾: ناصب واسمه.
352
﴿لَشَيْءٌ﴾: اللام حرف ابتداء. ﴿شيء﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾، ﴿عُجابٌ﴾: صفة ﴿شيء﴾. وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل التعجب المفهوم مما قبلها.
﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (٦) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ (٧) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨)﴾.
﴿وَانْطَلَقَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿انْطَلَقَ الْمَلَأُ﴾: فعل، وفاعل، ﴿مِنْهُمْ﴾: حال من الملأ، والجملة الفعلية مستأنفة، مسوقة لتقرير تآمرهم بعد انصرافهم، من مجلس اجتماعهم عند أبي طالب. ﴿أَنِ﴾: مصدرية؛ أي: بأن امشوا، وعند إضمار القول تسقط ﴿أَنِ﴾. أو مفسرة لانطلقوا؛ لأنه متضمن معنى القول. ﴿امْشُوا﴾: فعل أمر، وفاعل في محل النصب بأن المصدرية، وأن المصدرية مع مدخولها منصوبة بنزع الخافض، المتعلق بقول محذوف؛ أي: وانطلق الملأ منهم قائلين: بأن امشوا، أو انطلق الملأ منهم قائلين: ﴿امْشُوا﴾. ﴿وَاصْبِرُوا﴾: فعل، وفاعل، معطوف على ﴿امْشُوا﴾، ﴿عَلى آلِهَتِكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿اصْبِرُوا﴾، ﴿إِنَّ هذا﴾: ناصب واسمه ﴿لَشَيْءٌ﴾: خبره، واللام: حرف ابتداء، وجملة ﴿أَنِ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل الأمر بالصبر، وجملة ﴿يُرادُ﴾: صفة ﴿لَشَيْءٌ﴾، ﴿ما﴾: نافية، ﴿سَمِعْنا﴾: فعل، وفاعل، ﴿بِهذا﴾: متعلق بـ ﴿سَمِعْنا﴾، والإشارة إلى التوحيد الذي يدعو إليه محمد - ﷺ -. ﴿فِي الْمِلَّةِ﴾: جار ومجرور، حال من اسم الإشارة، ﴿الْآخِرَةِ﴾: نعت لـ ﴿الْمِلَّةِ﴾، والمراد بها: ملة عيسى. ﴿إِنْ﴾: نافية، ﴿هذا﴾: مبتدأ، إِلَّا: أداة حصر، ﴿اخْتِلاقٌ﴾: خبر لهذا؛ أي: افتعال ومحض كذب. والجملة مستأنفة. ﴿أَأُنْزِلَ﴾: الهمزة للاستفهام الإنكاري، ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماض مبني للمجهول، ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿أُنْزِلَ﴾، ﴿الذِّكْرُ﴾: نائب فاعل، والجملة مستأنفة. ﴿مِنْ بَيْنِنا﴾: جار ومجرور، حال من ضمير عليه، ﴿بَلْ﴾: حرف إضراب انتقالي عن مقدر، فكأنه قال: إنكارهم للذكر ليس عن علم، بل هم في شك. ﴿هُمْ﴾ مبتدأ. ﴿فِي شَكٍّ﴾: خبره. والجملة جملة إضرابية، لا محل لها من الإعراب، أو معطوفة على ذلك المقدر. ﴿مِنْ ذِكْرِي﴾: متعلق بـ ﴿شَكٍّ﴾، ﴿بَلْ﴾: حرف للإضراب الانتقالي أيضًا. ﴿لَمَّا﴾: حرف نفي وجزم بمعنى: لم،
353
﴿يَذُوقُوا﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَمَّا﴾، والواو فاعل، و ﴿عَذابِ﴾: مفعول به منصوب، وعلامة نصبه فتحة مقدرة على ما قبل ياء المتكلم، المحذوفة لمراعاة الفواصل، والجملة مستأنفة مسوقة لبيان سبب شكهم؛ أي: سببه أنهم لم يذوقوا العذاب، ولو ذاقوه لأيقنوا بالقرآن، وآمنوا به.
﴿أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١)﴾.
﴿أَمْ﴾: حرف عطف منقطعة بمعنى: بل الإضرابية، وهمزة الاستفهام الإنكاري، ﴿عِنْدَهُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿خَزائِنُ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾: مضاف إليه، ﴿الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ﴾: صفتان لـ ﴿رَبِّكَ﴾. والجملة جملة إنشائية، معطوفة على الجمل التي قبلها أو مستأنفة. ﴿أَمْ﴾: حرف عطف منقطعة بمعنى: بل، وهمزة الاستفهام أيضًا، ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿مُلْكُ السَّماواتِ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّماواتِ﴾. ﴿وَما﴾: معطوف عليه أيضًا، ﴿بَيْنَهُما﴾: ظرف صلة لـ ﴿ما﴾ الموصولة. والجملة معطوفة على ما قبلها. ﴿فَلْيَرْتَقُوا﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إن زعموا ذلك، وأردت تبكيتهم، فقل لهم: ارتقوا في الأسباب؛ أي: اصعدوا في المعارج الموصلة إلى العرش حتى تستووا عليه. واللّام: لام الأمر، ﴿يرتقوا﴾: فعل مضارع مجزوم بلام الأمر، والواو فاعل، ﴿فِي الْأَسْبابِ﴾: متعلق بـ ﴿يرتقوا﴾. والجملة في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿جُنْدٌ﴾: خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هم جند، ﴿ما﴾: نكرة تامة، صفة أولى لجند على سبيل التحقير؛ أي: هم جند حقير. فإن ﴿ما﴾ إذا كانت صفة تستعمل للتعظيم أو التحقير، والثاني هو المراد هنا، ولك أن تعربها زائدة. ﴿هُنالِكَ﴾ ﴿هنا﴾: اسم إشارة يشار به إلى المكان في محل النصب على الظرفية المكانية، مبني على السكون، لشبهه بالحرف شبهًا معنويًا، و ﴿اللام﴾: لبعد المشار إليه، والكاف حرف دال على الخطاب، والظرف متعلق بـ ﴿مَهْزُومٌ﴾، و ﴿مَهْزُومٌ﴾: صفة ثانية لـ ﴿جُنْدٌ﴾، ﴿مِنَ الْأَحْزابِ﴾: صفة ثالثة لـ ﴿جُنْدٌ﴾؛ أي: هم جند حقير مهزوم هنالك؛ أي: في مكة يوم الفتح، أو في بدر كائن من الأحزاب المتحزبة
354
على محاربة رسول الله - ﷺ -. والجملة الاسمية مستأنفة، مسوقة لبيان عاقبتهم. واختلف المعربون في إعراب هذه الآية اختلافًا كثيرًا؛ لأنها تحتمل عدة أوجه، ذكرنا أهمها، وأوضحها، وأسهلها على المبتدىء خوف الإطالة.
﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥)﴾.
﴿كَذَّبَتْ﴾: فعل ماض، ﴿قَبْلَهُمْ﴾: ظرف متعلق به. ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾: فاعل. ﴿وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ﴾: معطوفان عليه. ﴿ذُو الْأَوْتادِ﴾: صفة لـ ﴿فِرْعَوْنُ﴾، مرفوع بالواو المحذوفة، لالتقاء الساكنين. والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير أحوال الطغاة، وبيان مصائر العتاة. ﴿وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ﴾: معطوفات أيضًا على ﴿قَوْمُ نُوحٍ﴾. ﴿أُولئِكَ﴾: مبتدأ، ﴿الْأَحْزابُ﴾: خبره، والجملة الاسمية في محل الرفع، بدل من الفاعل، وما عطف عليه، ولك أن تجعل اسم الإشارة بدلًا مما قبله، و ﴿الْأَحْزابُ﴾: بدل منه. ﴿إِنْ﴾: نافية، لا عمل لها لانتقاض النفي بإلا، ﴿كُلٌّ﴾: مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر، ﴿كَذَّبَ الرُّسُلَ﴾: فعل ماض، وفاعل يعود على كل، ومفعول به. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة. ﴿فَحَقَّ﴾: الفاء: عاطفة، ﴿حق﴾: فعل ماض، ﴿عِقَابِ﴾: فاعله مرفوع، وعلامة رفعه، الضمة المقدرة على ما قبل ياء المتكلم المحذوفة، لمراعاة الفواصل، والجملة معطوفة على جملة ﴿كَذَّبَ﴾. ﴿وَما﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿ما﴾: نافية، ﴿يَنْظُرُ هؤُلاءِ﴾: فعل، وفاعل. ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر، ﴿صَيْحَةً﴾: مفعول به، ﴿واحِدَةً﴾ صفة لـ ﴿صَيْحَةً﴾. والجملة مستأنفة: مسوقة لتقرير عقاب كفار مكة، بعد بيان عقاب من سبقوهم في الغواية. ﴿ما﴾: نافية حجازية أو تميمية، ﴿لَهَا﴾: خبر مقدم، ﴿مِنْ﴾: حرف جر زائد. ﴿فَواقٍ﴾: اسم ما مؤخر أو مبتدأ مؤخر. والجملة الاسمية في محل النصب، صفة الثانية لـ ﴿صَيْحَةً﴾.
{وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً
355
كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠)}.
﴿وَقالُوا﴾: فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة مسوقة لسرد أنماط من تمحلهم واستهزائهم، بعد أن نزل قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ...﴾ الآية. ﴿رَبَّنا﴾: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾. ﴿عَجِّلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على الله ﴿لَنا﴾ متعلقان به. ﴿قِطَّنا﴾: مفعول به، ﴿قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ﴾: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿عَجِّلْ﴾. والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾: على كونها جواب النداء. ﴿اصْبِرْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿عَلى ما﴾: متعلق بـ ﴿اصْبِرْ﴾، وجملة ﴿يَقُولُونَ﴾: صلة لما الموصولة، والعائد محذوف؛ أي: على ما يقولونه. ﴿وَاذْكُرْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة معطوفة على جملة ﴿اصْبِرْ﴾. ﴿عَبْدَنا﴾ مفعول به. ﴿داوُدَ﴾: بدل من عبدنا، ﴿ذَا الْأَيْدِ﴾: صفة لـ ﴿داوُدَ﴾، ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾: ناصب واسمه، وخبره، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل كونه من أصحاب الأيد. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿سَخَّرْنَا الْجِبالَ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة مسوقة لتعليل قوته في الدين، وكونه رجاعًا إلى مرضاته تعالى، ﴿مَعَهُ﴾: حال من الجبال، أو متعلق بـ ﴿يُسَبِّحْنَ﴾، ﴿يُسَبِّحْنَ﴾: فعل، وفاعل، والمفعول محذوف لعلمه؛ أي: يسبحن الله تعالى، والجملة الفعلية في محل النصب حال من الجبال. ﴿بِالْعَشِيِّ﴾: متعلق بـ ﴿يُسَبِّحْنَ﴾، ﴿وَالْإِشْراقِ﴾: معطوف على ﴿العشي﴾، ﴿وَالطَّيْرَ﴾: معطوف على الجبال، أو مفعول به لفعل محذوف، دل عليه ما قبله؛ أي: سخرنا الطير معه، ﴿مَحْشُورَةً﴾: حال من الطير، ﴿كُلٌّ﴾: مبتدأ، وسوّغ الابتداء به لما فيه من معنى العموم، ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿أَوَّابٌ﴾، و ﴿أَوَّابٌ﴾: خبر ﴿كُلٌّ﴾. والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد ما قبلها. ﴿وَشَدَدْنا مُلْكَهُ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على ﴿سَخَّرْنَا﴾، ﴿وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ﴾: فعل، وفاعل، ومفعولان، معطوف على سخرنا أيضًا، ﴿وَفَصْلَ الْخِطابِ﴾: معطوف على الحكمة.
356
﴿وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢)﴾.
﴿وَهَلْ أَتاكَ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿هَلْ﴾: حرف استفهام للاستفهام التعجبي، ﴿أَتاكَ﴾: فعل ماض، ومفعول به، ﴿نَبَأُ الْخَصْمِ﴾: فاعل، ومضاف إليه. والجملة مستأنفة. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، مجرد عن معنى الشرط، متعلق بمضاف محذوف تقديره: نبأ تخاصم الخصم إلى داود وقت تسورهم المحراب، ﴿تَسَوَّرُوا﴾: فعل، وفاعل، ﴿الْمِحْرابَ﴾: مفعول به. والجملة في محل الجر مضاف لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿إِذْ﴾: بدل من ﴿إِذْ﴾: الأولى، وجملة ﴿دَخَلُوا﴾: في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾، ﴿عَلى داوُدَ﴾: متعلق بـ ﴿دَخَلُوا﴾، ﴿فَفَزِعَ﴾: الفاء: عاطفة، ﴿فزع﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على داود، ﴿مِنْهُمْ﴾: متعلق بـ ﴿فزع﴾. والجملة في محل الجر، معطوفة على جملة ﴿دَخَلُوا﴾. ﴿قالُوا﴾: فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَخَفْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود ﴿عَلى داوُدَ﴾. والجملة في محل النصب مقول قالوا. ﴿خَصْمانِ﴾: خبر لمبتدأ محذوف تقديره: نحن خصمان، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾. ﴿بَغى بَعْضُنا﴾: فعل، وفاعل، ﴿عَلى بَعْضٍ﴾: متعلق بـ ﴿بَغى﴾. والجملة الفعلية في محل الرفع صفة خصمان. ﴿فَاحْكُمْ﴾: الفاء: الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت نحن خصمان، وأردت النصيحة لنا.. فأقول لك احكم. ﴿احكم﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على ﴿داوُدَ﴾، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿بَيْنَنا﴾: ظرف مضاف، متعلق بـ ﴿احكم﴾، ﴿بِالْحَقِّ﴾: متعلق بـ ﴿احكم﴾: أو حال من فاعل ﴿احكم﴾، ﴿وَلا تُشْطِطْ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تُشْطِطْ﴾: فعل مضارع وفاعل مستتر يعود على ﴿داوُدَ﴾. والجملة معطوفة على جملة ﴿احكم﴾، مؤكدة لها. ﴿وَاهْدِنا﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على ﴿احكم﴾، ﴿إِلى سَواءِ الصِّراطِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿اهْدِنا﴾.
357
﴿إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ﴾.
﴿إِنَّ هَذَا﴾ ناصب واسمه ﴿أَخِي﴾ بدل من هذا، أو خبر ﴿إِنَّ﴾، ﴿لَهُ﴾: خبر مقدم، ﴿تِسْعٌ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الابتدائية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ أو خبر ثان لها، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة مسوقة لبيان الخصومة على كونها، مقولًا لجواب إذا المقدرة. ﴿وَتِسْعُونَ﴾: معطوف على تسع، ﴿نَعْجَةً﴾: تمييز للعدد قبله منصوب به، ﴿وَلِيَ﴾: خبر مقدم، ﴿نَعْجَةً﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿واحِدَةٌ﴾ صفة ﴿نَعْجَةً﴾. والجملة معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾. ﴿فَقالَ﴾: الفاء: عاطفة، ﴿قال﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الأخ. والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على خبر ﴿إِنَّ﴾. ﴿أَكْفِلْنِيها﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على الأخ، ونون وقاية، ومفعولان. والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿وَعَزَّنِي﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿عَزَّنِي﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الأخ، ونون وقاية، ومفعول به، ﴿فِي الْخِطابِ﴾: متعلق بـ ﴿عَزَّنِي﴾. والجملة معطوفة على جملة «قال». ﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على داود. والجملة مستأنفة. ﴿لَقَدْ﴾: اللام: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق، ﴿ظَلَمَكَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الأخ، ومفعول به، والجملة جواب القسم، وجملة القسم في محل النصب، مقول قال. ﴿بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿ظَلَمَكَ﴾، ﴿إِلى نِعاجِهِ﴾: جار ومجرور، متعلق بمحذوف تقديره: ليضمها إلى نعاجه.
﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعًا وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥)﴾.
﴿وَإِنَّ كَثِيرًا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إِنَّ كَثِيرًا﴾: ناصب واسمه، ﴿مِنَ الْخُلَطاءِ﴾: صفة لـ ﴿كَثِيرًا﴾، ﴿لَيَبْغِي﴾: اللام: حرف ابتداء، ﴿يبغي بعضهم﴾: فعل، وفاعل، ﴿عَلى بَعْضٍ﴾: متعلق بـ ﴿يبغي﴾. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر
358
﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ معطوفة على جملة جواب القسم. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء، ﴿الَّذِينَ﴾: مستثنى متصل من الخلطاء، في محل النصب على الاستثناء، مبني على الفتح، ﴿آمَنُوا﴾: فعل، وفاعل صلة الموصول، ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به، معطوف على ﴿آمَنُوا﴾، ﴿وَقَلِيلٌ﴾ ﴿الواو﴾: حالية، ﴿قَلِيلٌ﴾: خبر مقدم، ﴿ما﴾: زائدة لتأكيد القلة، ﴿هُمْ﴾: مبتدأ مؤخر. والجملة في محل النصب حال من المستثنى. ﴿وَظَنَّ داوُدُ﴾: فعل، وفاعل، والجملة معطوفة على محذوف تقديره: قال الملكان: قضى الرجل على نفسه، فتنبه وظن داود ﴿أَنَّما﴾: ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ومصدر، ولكنها كفت عن العمل بما، ﴿ما﴾: كافة لكفها، ما قبلها عن العمل فيما بعدها. ﴿فَتَنَّاهُ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به، وجملة ﴿أنما﴾ مع مدخولها في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ﴿ظَنَّ﴾؛ أي: فتنتنا إياه. ﴿فَاسْتَغْفَرَ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿استغفر﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على داود، ﴿رَبَّهُ﴾: مفعول به. والجملة معطوفة على جملة ﴿ظَنَّ﴾. ﴿وَخَرَّ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على ﴿استغفر﴾، ﴿راكِعًا﴾: حال من فاعل خر، ﴿وَأَنابَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على خر، ﴿فَغَفَرْنا﴾: فعل، وفاعل، معطوف على استغفر، ﴿لَهُ﴾: متعلق بـ ﴿غفرنا﴾، ﴿ذلِكَ﴾: مفعول به. ﴿وَإِنَّ لَهُ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿لَهُ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾: مقدم على اسمها، ﴿عِنْدَنا﴾: ظرف متعلق بمحذوف حال من زلفى، ﴿لَزُلْفى﴾: اللام حرف ابتداء، ﴿زلفى﴾: اسم ﴿إِنَّ﴾: مؤخر، والتقدير: وإنّ زلفى عندنا لكائن له، ﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾: معطوف على زلفى. وجملة ﴿إِنَّ﴾ معطوفة على جملة ﴿غفرنا﴾: عطف اسمية على فعلية.
﴿يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ﴾.
﴿يا داوُدُ﴾: منادى مفرد العلم، وجملة النداء مستأنفة. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿جَعَلْناكَ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به أول، ﴿خَلِيفَةً﴾: مفعول ثان، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ صفة لـ ﴿خَلِيفَةً﴾. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾،
359
وجملة ﴿إن﴾: جواب النداء لا محل لها من الإعراب. ﴿فَاحْكُمْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدم تقديره: إذا عرفت، جعلنا إياك خليفة في الأرض، وأردت بيان ما هو اللازم لك.. فأقول لك: احكم بين الناس. ﴿احكم﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، ﴿بَيْنَ النَّاسِ﴾: متعلق بـ ﴿احكم﴾، ﴿بِالْحَقِّ﴾: حال من فاعل ﴿احكم﴾. والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: ناهية جازمة، ﴿تَتَّبِعِ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بلا الناهية، ﴿الْهَوى﴾: مفعول به، والجملة معطوفة على جملة ﴿احكم﴾. ﴿فَيُضِلَّكَ﴾ الفاء: عاطفة سببية، ﴿يضلك﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الهوى، ومفعول به، منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿يضلك﴾. والجملة الفعلية صلة أن المضمرة، أن مع صلتها في تأويل مصدر، معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها، من غير سابك، لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن اتباعك الهوى فإضلاله الناس عن سبيل الله. ﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه، ﴿يَضِلُّونَ﴾: فعل، وفاعل صلة الموصول، ﴿عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿يَضِلُّونَ﴾، ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم. ﴿عَذابٌ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿شَدِيدٌ﴾: صفة ﴿عَذابٌ﴾، والجملة الاسمية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل النهي عن اتباع الهوى. ﴿بِما﴾: الباء: حرف جر وسبب، ﴿ما﴾: مصدرية، ﴿نَسُوا﴾: فعل ماض، وفاعل، ﴿يَوْمَ الْحِسابِ﴾: مفعول به. والجملة الفعلية صلة ﴿ما﴾: المصدرية، ﴿ما﴾: مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بالباء، تقديره: بسبب نسيانهم يوم الحساب، الجار والمجرور متعلق بالاستقرار الذي تعلق به خبر المبتدأ أعني قوله: ﴿لَهُمْ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿ذِي الذِّكْرِ﴾ والذكر: الشرف، والنباهة، أو الذكرى والموعظة، أو ذكر ما يحتاج إليه في أمر الدين، من الشرائع والأحكام وغيرها، من أقاصيص الأنبياء،
360
وأخبار الأمم الماضية، والوعد، والوعيد، اهـ.
﴿فِي عِزَّةٍ﴾: قال الراغب: العزة: حالة مانعة للإنسان من أن يغلب ويمدح بالعزة تارة، كما في قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ لأنها الدائمة الباقية، وهي العزة الحقيقية، ويذم بها أخرى، كما في قوله تعالى: ﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢)﴾؛ لأن العزة التي هي التعزز والاستكبار، وهي في الحقيقة ذل، وقد تستعار للحمية، والأنفة المذمومة، وذلك في قوله تعالى: ﴿أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾. انتهى.
﴿وَشِقاقٍ﴾؛ أي: مخالفة لله ولرسوله، وعداوة لهما من قولهم: فلان في شق صاحبه. ﴿مِنْ قَرْنٍ﴾ والقرن: القوم المقترنون في زمن واحد.
﴿وَلاتَ حِينَ مَناصٍ﴾ في «الوسيط»: والمناص: المنجأ؛ أي: النجاة والفوت عن الخصم، على أنه مفعل من ناصه ينوصه إذا فاته، أريد به: المصدر، ويقال: ناص ينوص؛ أي: هرب، ويقال؛ أي: تأخر. ومنه: ناص قرنه؛ أي: تأخر عنه حينًا. وفي «المفردات»: ناص إلى كذا التجأ إليه، وناص عنه تنحى ينوص نوصا، والمناص: الملجأ، انتهى. وفي «المختار»: النوص: التأخر. يقال: ناص عن قرنه؛ أي: فر وراغ، وبابه قال: ومناصًا أيضًا. ومنه قوله تعالى: ﴿وَلاتَ حِينَ مَناصٍ﴾؛ أي: ليس وقت تأخر وفرار. والمناص أيضًا: المنحى، والمفر، اهـ. وقال النحاس: ويقال: ناص ينوص إذا تقدم، فعلى هذا يكون من الأضداد، اهـ «قرطبي». وأما لاتَ فأصلها: لا، النافية، ثم زيدت عليها التاء لتأنيث اللفظ، أو للمبالغة في معناه، وخصت بنفي الأحيان، وزيادة التاء هنا أحسن منها، في ثُمَّت، ورُبَّت. لأن ﴿لا﴾ محمولة على ليس، وليس تتصل بها التاء، ومن ثم لم تتصل بلا المحمولة على ﴿إن﴾. وهي كلمتان عند الجمهور ﴿لا﴾: النافية، وتاء التأنيث. وحركت لالتقاء الساكنين.
﴿أَجَعَلَ الْآلِهَةَ﴾ جمع إله، وحقه أن لا يجمع، إذ لا معبود في الحقيقة سواه تعالى، لكن العرب لاعتقادهم أن هاهنا معبودات جمعوه، فقالوا: آلهة، {لَشَيْءٌ
361
عُجابٌ} العجاب بمعنى: العجيب. وهو الأمر الذي يتعجب منه كالعجب، إلا أن العجيب أبلغ منه، والعجاب بالتشديد، أبلغ من العجاب بالتخفيف. مثل: كبار في قوله تعالى: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (٢٢)﴾، فإنه أبلغ من الكبار بالتخفيف. والمعنى: بليغ في العجب.
﴿وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ﴾ الانطلاق: الذهاب. والملأ: الأشراف لا مطلق الجماعة. ويقال لهم: ملأ، لأنهم إذا حضروا مجلسا، ملأت العيون وجاهتهم، والقلوب مهابتهم.
فائدة: جميع القراء يكسرون النون في الوصل، من أن امشوا والهمزة في الابتداء من امشوا، اهـ خطيب. ﴿فِي الْمِلَّةِ﴾ والملة كالدين: اسم لما شرع الله لعباده، على ألسنة الأنبياء، ليتوصلوا به إلى ثواب الله وجواره. فإطلاق كل منهما في طريقة المشركين مجاز، مبني على التشبيه.
﴿خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ﴾ والخزائن: جمع خزانة، بكسر الخاء بمعنى: المخزن كما مر. ﴿فِي الْأَسْبابِ﴾ جمع سبب. قال الراغب: السبب: الحبل الذي يصعد به النخل، وسمي كل ما يتوصل به إلى شيء سببًا، انتهى. والمعنى: فليصعدوا في المعارج والطرق، التي يتوصل بها إلى الاستيلاء على العرش، قاله مجاهد، وقتادة، وقيل: المراد بالأسباب: السموات، لأنها أسباب الحوادث السفلية. وقيل: أبوابها، انتهى «أبو السعود».
﴿جُنْدٌ﴾ الجند: العسكر المعد للحرب. ﴿مَهْزُومٌ﴾ والهزم: الكسر، يقال: هزم العدو كسرهم، وغلبهم، والاسم الهزيمة، وهزمه يهزمه فانهزم غمزه بيده، فصارت فيه حفرة، كما في «القاموس». ﴿مِنَ الْأَحْزابِ﴾ جمع حزب، والحزب: جماعة فيه غلظ، كما في «المفردات». وهم المجتمعون لإيذاء محمد - ﷺ -، وكسر شوكته، وإبطال دينه.
﴿ذُو الْأَوْتادِ﴾ جمع وتد محركة، وبكسر التاء، وهو ما غرز في الأرض أو الحائط من خشب. يقال: وتد يتد، من باب وعد إذا دق، وغرز الوتد في
362
الأرض أو في الحائط، وفيه لغات: فتح الواو، وكسر التاء وهي الفصحى، وبفتحتين، وود بإدغام التاء في الدال، بوزن وج، اهـ «سمين». وفي «المصباح»: الوتد بكسر التاء، في لغة أهل الحجاز، وهي الفصحى، وجمعه أوتاد، وفتح التاء لغة، وأهل نجد يسكنون التاء، فيدغمون بعد القلب فيبقى ود، ووتدت الوتد أتده وتدا، من باب وعد أثبته بحائط أو بالأرض، وأوتدته بالألف لغة، انتهى.
﴿وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ﴾ قال الراغب: الأيك: شجر ملتف، وأصحاب الأيكة؛ أي: الغيضة، قيل: نسبوا إلى غيضة كانوا يسكنونها، وقيل: اسم بلد، كما في «المفردات»، وهم قوم شعيب، كما مر.
﴿مَا لَها مِنْ فَواقٍ﴾ والفواق، بالضم: كغراب، ويُفتح كما في «القاموس»: ما بين حلبتي الحالب من الوقت، ورضعتي الرضيع من أفاق المريض إذا رجع إلى صحته، وأفاقت الناقة ساعة ليرجع اللبن إلى ضرعها، يقال: أفاقت الناقة تفيق إفاقة، رجعت، واجتمعت الفيقة في ضرعها. والفيقة: اللبن الذي يجتمع في الضرع بين الحلبتين، ويجمع على أفواق، وأما أفاويق فجمع الجمع، ويقال: ناقة مفيق ومفيقة، وقيل: ﴿فَواقٍ﴾ بالفتح: الإفاقة، والاستراحة كالجواب من أجاب، قاله المؤرخان: السدوسي، والفراء، ومن المفسرين: ابن زيد، والسدي. وأما المضمون فاسم لا مصدر. والمشهور: أنهما بمعنى واحد مقصاص الشعر وقصاصه، اهـ «سمين». وفي «المختار»: الفواق: الزمن الذي بين الحلبتين؛ لأنها تحلب ثم تترك ساعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب، يقال: ما أقام عنده إلا فواقًا. وفي الحديث: «العيادة قدر فواق ناقة». وقوله تعالى: ﴿مِنْ فَواقٍ﴾ يقرأ بالفتح، والضم؛ أي: ما لها من نظرة، وراحة، وإفاقة، اهـ.
﴿عَجِّلْ لَنا قِطَّنا﴾؛ أي: نصيبنا، وحظنا. والقط: القطعة من الشيء، من قط الشيء إذا قطعه، ومنه: قط القلم، والمعنى: قطعة مما وعدتنا به، ولهذا يطلق على الصحيفة والصك قط، لأنها قطعتان يقطعان، وقيل للجائزة أيضًا: قط، لأنها قطعة من العطية، ويجمع على قطوط مثل: حمل وحمول، وعلى قططة مثل: قرد وقردة، وفي القلة: على أقططة وأقطاط مثل: قدح وأقدحة وأقداح، اهـ
363
«سمين». قال الراغب: أصل القط: الشيء المقطوع عرضًا، كما أن القد هو المقطوع طولًا.
﴿ذَا الْأَيْدِ﴾ الأيد بوزن البيع، مفرد. وهو مصدر، وليس جمع يد. وفي المصباح: آد الرجل يئيد أيدًا وإيادًا بكسر الهمزة مثل: باع يبيع بيعًا، إذا اشتد وقوي، فهو أيد بوزن سيد وهين، ومنه قولهم: أيدك الله تأييدًا اهـ «مصباح».
﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ من الأوب. وهو الرجوع؛ أي: رجاع إلى الله، ومرضاته، من قولهم: آب إذا رجع. قال عبيد بن الأبرص:
وَكُلُّ ذِيْ غَيْبَةٍ يَؤُوْبُ وَغَائِبُ الْمَوْتِ لا يَؤُوْبُ
﴿وَالطَّيْرَ﴾ جمع طائر، كركب وراكب، وهو كل ذي جناح يسبح في الهواء. ﴿هَلْ أَتاكَ﴾ ﴿هَلْ﴾ هنا كلمة يراد منها: التعجيب، والتشويق إلى سماع ما يرد بعدها. ﴿نَبَأُ الْخَصْمِ﴾ والنبأ: الخبر العظيم الشأن. والخصم: جماعة المخاصمين، ويستعمل للمفرد والجمع مذكرًا ومؤنثًا. قال الشاعر:
وخصم عضاب ينفضون لحاهم كنفض البراذين العراب المخاليا
﴿تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ﴾؛ أي: قصدوا سوره، ونزلوا من أعلاه. والسور: الحائط المرتفع. وجمع الضمير في ﴿تَسَوَّرُوا﴾؛ لأن الخصم بمعنى المخاصم، والمنازع، وقد يقع للاثنين، والجمع، والمؤنث، فيقال: هما خصم، وهم خصم، وهي خصم؛ لأنه مصدر في أصله، وقد تقدم له نظير، وهو ضيف في قوله: ﴿هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ﴾. والمحراب: الغرفة التي كان يتعبد فيها، ويشتغل بطاعة ربه.
﴿فَفَزِعَ مِنْهُمْ﴾ والفزع: انقباض، ونفار يعتري الإنسان من الشيء المخيف. وهو من جنس الجزع. ولا يقال: فزعت من الله كما يقال: خفت منه.
﴿وَلا تُشْطِطْ﴾؛ أي: ولا تجر. وهو بضم التاء، وسكون الشين، وكسر الطاء الأولى من أشطط يشطط إذا تجاوز الحد. قال أبو عبيدة: شططت في الحكم، وأشططت فيه إذا جرت فيه. فهو مما اتفق فيه فعل وأفعل. ﴿نَعْجَةً﴾ النعجة
364
الأنثى من المعز، وقد يكنى بها عن المرأة. ﴿أَكْفِلْنِيها﴾؛ أي: اجعلني كافلها، والمراد: ملكنيها. وفي «المختار»: كفل عنه بالمال لغريمه، وأكفله المال ضمنه إياه، وكفله إياه بالتخفيف، فكفل هو من باب نصر ودخل، وكفّله إياه تكفيلًا مثله.
﴿وَعَزَّنِي﴾؛ أي: وغلبني. وفي المثل: من عز بز، أي: من غلب سلب. وفي «المختار»: وعز عليه غلبه، وبابه: رد، والاسم: العزة، وهي الغلبة، والقوة. وعزه في الخطاب، وعازه؛ أي: غلبه. ﴿فِي الْخِطابِ﴾؛ أي: في مخاطبته إياي، ومحاجته. إذ قد أتى بحجاج لم أستطع رده، الخلطاء الشركاء خلطوا أمر الواحد خلطا، وأوردت معاجم اللغة للخليط عدة معان. منها: المخالط، والمشارك، والقوم الذين أمرهم واحد، والزوج، والجار والصاحب، وخليط الرجل مخالطه، كالجليس بمعنى المجالس.
﴿فَتَنَّاهُ﴾؛ أي: ابتليناه. ﴿خَرَّ﴾؛ أي: سقط. ﴿راكِعًا﴾؛ أي: ساجدًا قال الشاعر:
فَخَرَّ عَلَى وَجْهِهِ رَاكِعَا وَتَابَ إِلَى اللهِ مِنْ كُلِّ ذَنْبْ
﴿وَأَنابَ﴾؛ أي: رجع إلى ربه. والزلفى: القرب من الله، والإزلاف: التقريب والازدلاف: الاقتراب، ومنه: سميت المزدلفة لقربها من الموقف. اهـ من «الروح».
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ﴾؛ لأن القرن حقيقة في مئة عام مثلًا، والإهلاك لأهله، ففيه إطلاق الظرف وإرادة المظروف.
ومنها: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: ﴿وَقالَ الْكافِرُونَ﴾ بدل. وقالوا
365
تسجيلًا عليهم، بهذا الوصف القبيح، وإشعارًا بأن كفرهم جسرهم على هذا القول، لما تقرر عندهم، من أن نسبة أمر إلى المشتق يفيد علّيّة المأخذ.
ومنها: الإشارة إلى كفار مكة بهؤلاء في قوله: ﴿وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ﴾ تحقيرًا لشأنهم، وتهوينًا لأمرهم.
ومنها: صيغة المبالغة في كل من ﴿كذاب، العزيز، الوهاب، أواب﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ﴾؛ لأن السبب في الأصل: الحبل، استعير لمعارج السموات، وطرقها أو أبوابها.
ومنها: المجاز المبني على التشبيه في قوله: ﴿فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ﴾؛ لأن الملة حقيقة فيما شرع الله لعباده على يد الأنبياء. فإطلاق كل منهما على طريقة المشركين مجاز، كما في «الروح».
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ﴾ لزيادة التعجب، والإنكار. أكده بـ ﴿إِنَّ﴾، وباللام، وباسمية الجملة.
ومنها: زيادة ﴿ما﴾ في قوله: ﴿جُنْدٌ ما هُنالِكَ﴾ للدلالة على القلة والتحقير.
ومنها: الاستعارة البليغة في قوله: ﴿وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ﴾. شبه ملك فرعون في ثباته ورسوخه بخيمة عظيمة، شدت أطنابها بالأوتاد لتثبت، وترسخ، ولا تقتلعها الرياح، ثم استعيرت له استعارة بالكناية، وأثبت له لوازم المشبه به. وهو الأوتاد، تخييلًا، ووجه تخصيص هذه الاستعارة، أن أكثر بيوت العرب كانت خياما، وثباتها بالأوتاد، ويجوز أن يكون المعنى: ذو الجموع الكثيرة، سموا بذلك لأنهم يشدون البلاد والملك، ويشد بعضهم بعضا كالوتد يشد البناء، والخباء، فتكون الأوتاد استعارة تصريحية.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ﴾.
366
ومنها: تصدير الدعاء بالنداء في قوله: ﴿رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا﴾ للإمعان في الاستهزاء، والسخرية كأنهم يدعون ذلك، بكمال الرغبة والابتهال.
ومنها: العدول عن الاسمية إلى الفعلية في قوله: ﴿يُسَبِّحْنَ﴾ حيث لم يقل: مسبحات للدلالة على تجدد التسبيح، وحدوثه شيئًا بعد شيء، وحالًا بعد حال، وكأن السامع حاضر تلك الحال، يسمع تسبيحها.
ومنها: الطباق في قوله: ﴿بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ﴾؛ لأن المراد بهما: المساء، والصباح.
ومنها: أسلوب التشويق، والتعجيب في قوله: ﴿وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ﴾؛ لأن المراد بالاستفهام هنا: التشويق والتعجيب، كما مر.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ﴾؛ لأن النعجة في الأصل: الأنثى من الضأن، فصارت هنا كناية عن المرأة.
ومنها: أسلوب الإطناب في قوله: ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إلخ.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَخَرَّ راكِعًا﴾؛ أي: مصليًا، إذ فسر الركوع بالصلاة، لما فيه من إطلاق الجزء وإرادة الكل.
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ إيذانًا بكمال شناعة الضلال عنه.
ومنها: توافق الفواصل، مراعاة لرؤوس الآيات مثل: ﴿إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ﴾، ﴿فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ﴾، ﴿جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
367
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (٢٩) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (٣١) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (٣٢) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (٣٤) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (٣٦) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (٣٨) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠) وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (٤٢) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (٤٨) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (٥٠) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (٥٢) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (٥٣) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (٥٤)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما (١) ذكر أن الذين يضلون عن سبيل الله، لهم العذاب الشديد يوم الحساب، لظنهم أنه ليس بكائن.. أعقب هذا ببيان أن هذا اليوم آت لا ريب فيه؛ لأنه سبحانه، لم يخلق الخلق عبثًا، بل خلقهم لعبادته
(١) المراغي.
368
وتوحيده، ثم يجمعهم يوم الجمع فيثيب المطيعين، ويعذب الكافرين، ثم أردف ذلك، ببيان فضل القرآن، الذي أنزله على رسوله هاديًا للناس، ومنقذًا لهم من الضلالة إلى الهدى، فإذا هم تدبروا آياته، واتعظوا بعظاتها.. سعدوا في الدارين، وبلغوا السماكين، وكانوا سادة العالم أجمع.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (١) لما حكى عن كفار قريش سفاهتهم على النبي - ﷺ -، فوصفوه بأنه ساحر كذاب، وقالوا استهزاء: ربنا عجل لنا قطنا.. أمره بالصبر على أذاهم لوجهين:
أحدهما: إن المتقين من الأنبياء قبله صبروا على كثير من المكاره، فعليه أن يقتدي بهم، ويجعلهم أسوة له.
وثانيهما: ما ذكره في هذه الآيات والتي بعدها، من أن من أطاع الله، كان له من الثواب كذا وكذا، ومن خالفه، كان له من العقاب كذا وكذا، وكل ذلك مما يوجب الصبر على الأذى حين تبليغ الرسالة، وعلى ما يلاقيه من المكاره.
التفسير وأوجه القراءة
٢٧ - ﴿وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما﴾ من المخلوقات، جملة مستأنفة مقررة لما قبلها من أمر البعث، والحساب، أي: ما خلقنا هذه الأشياء خلقًا ﴿باطِلًا﴾؛ أي: عبثًا خارجًا عن الحكمة الباهرة، بل (٢) خلقناها للدلالة على قدرتنا، وليكون مدارًا للعلم والعمل، ومذكرًا للآخرة وما فيها من الحساب والجزاء، فإن الدنيا لا تخلو عن الصفو والكدر، وكل منهما يفصح عما في الآخرة من الراحة والخطر، وأيضًا ليكون مرآة يشاهد فيها المؤمنون الذين ينظرون بنور الله، شواهد صفات الجمال والجلال، فانتصاب ﴿باطِلًا﴾ إما على المصدرية؛ أي: خلقًا
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
369
باطلًا، أو على الحالية؛ أي (١): ذوي باطل، بمعنى مبطلين عابثين، كقوله: ﴿وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨)﴾، أو على أنه مفعول لأجله؛ أي: للعبث واللهو، بل للحكمة.
والمعنى: أي وما أوجدنا السماء، وما فيها من زينة ومنافع للناس، والأرض، وما فيها من فوائد في ظاهرها، وباطنها لهم، وما بينهما مما يعلمون، وما لا يعلمون لهوًا ولعبًا، بل خلقناها مشتملة على حكم باهرة، وأسرار بالغة، ومصالح جمة، فقد خلقناها للعمل فيها بطاعتنا، والانتهاء إلى أمرنا ونهينا، فإنا لن نترك الناس سدى، بل سنعيدهم بعد موتهم إلى حياة أخرى يحاسبون فيها على النقير، والقطمير، والقليل، والكثير، ثم يلقون الجزاء على ما كسبت أيديهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، ونحو الآية قوله: ﴿وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾.
ثم بيّن أن هذا الظن الفاسد، قد ظنه الذين كفروا بالله تعالى، وجحدوا آياته. فقال: ﴿ذلِكَ﴾؛ أي: كونه خلقًا باطلًا خاليا عن الغاية، والحكمة الباهرة. ﴿ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾؛ أي (٢): مظنون كفار مكة، فإنهم وإن كانوا مقرين بأن الله هو الخالق، لكن لما اعتقدوا بأن الجزاء الذي هو علة خلق العالم باطل، لزمهم أن يظنوا أن المعلول باطل، ويعتقدوا ذلك؛ أي: أنهم يظنون أن هذه الأشياء خلقت لا لغرض، ويقولون: إنه لا قيامة، ولا بعث، ولا حساب، وذلك يستلزم أن يكون خلق هذه المخلوقات باطلًا.
والفاء في قوله: ﴿فَوَيْلٌ﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت كون مظنونهم هذا، وأردت بيان عاقبتهم.. فأقول لك: الهلاك كل الهلاك، أو شدة الهلاك حاصل ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ خبر لويل. ﴿مِنَ النَّارِ﴾ ﴿مِنَ﴾: تعليلية، مفيدة لعلية النار، لثبوت الويل لهم صريحًا، بعد الإشعار بعلية ما يؤدي إليها من ظنهم وكفرهم؛ أي: فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم
(١) البيضاوي.
(٢) روح البيان.
370
وكفرهم، فلا بد من رؤية الحق حقًا، والباطل باطلًا، وتدارك زاد اليوم؛ أي: يوم الجزاء ظاهرًا وباطنًا، ليحصل الخلاص والنجاة، والنعيم واللذات في أعلى الدرجات.
٢٨ - ثم بيّن سبحانه (١)، أن مقتضى عدله وحكمته، أن لا يساوي بين الذين أحسنوا بالحسنى، والذين اجترحوا السيئات، ودسوا أنفسهم بكبير الآثام، والذنوب. فقال: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾ قال مقاتل: قال كفار قريش للمؤمنين: إنا نعطى في الآخرة كما تعطون على تقدير وقوعها، فنزلت الآية. و ﴿أَمْ﴾ فيه منقطعة، تقدر ببل التي للإضراب الانتقالي، وبهمزة الاستفهام الإنكاري؛ أي: بل أنجعل الذين آمنوا بالله، وصدقوا رسله، وعملوا بفرائضه، كالمفسدين في الأرض بالشرك والمعاصي؛ أي (٢): لا نجعلهم سواء. فلو بطل البعث والجزاء، كما يظن الكفار، لا ستوت عند الله، حال من أصلح، ومن أفسد، ومن سوّى بينهما كان سفيهًا، والله تعالى منزه عن السفه، فإنما بالإيمان، والعمل الصالح يرفع المؤمنين ويرد الكافرين إلى أسفل سافلين.
ثم أضرب سبحانه إضرابًا آخر، وانتقل عن الأول إلى ما هو أوضح استحالة منه، فقال: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ﴾؛ أي: بل أنجعل أتقياء المؤمنين كأشقياء الكافرين، والمنافقين، والمنهمكين في معاصي الله سبحانه، من المسلمين؛ أي: لا نجعلهم مثلهم. وقيل (٣): إن الفجار هنا خاص بالكافرين. وقيل: المراد بالمتقين: الصحابة. ولا وجه للتخصيص بغير مخصص، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقال ابن عباس: الآية عامة في جميع المسلمين والكافرين. وقيل: في جماعة من المؤمنين والكافرين معينين بارزوا يوم بدر عليا، وحمزة، وعبيدة بن الحارث رضي الله عنهم، وعتبة، وشيبة، والوليد بن عتبة، ووصف كلا بما ناسبه. اهـ من «البحر».
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
(٣) الشوكاني.
371
أي (١): كما لا نجعل (٢) أهل الإيمان والعمل الصالح، الذين هم مظاهر صفات لطفنا وجمالنا، كالمفسدين الذين هم مظاهر صفات قهرنا وجلالنا، كذلك لا نجعل أهل التقوى كالفجار، والفجور: شق سر الديانة، أنكر التسوية أولًا بين أهل الإيمان والشرك، ثم بين أهل التقوى والهوى يعني: من المؤمنين، وهو المناسب لمقام التهديد، والوعيد كي يخاف من الله تعالى، كل صنف بحسب مرتبته، ويجوز أن يكون تكرير الإنكار الأول باعتبار وصفين آخرين، يمنعان التسوية من الحكيم الرحيم.
واعلم (٣): أن الله تعالى، سوّى بين الفريقين في التمتع بالحياة الدنيا، بل الكفار أوفر حظا من المؤمنين؛ لأن الدنيا لا تعدل عند الله جناح بعوضة، لكن الله جعل الدار الآخرة، للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا، وهم المؤمنون المخلصون، المنقادون لله ولأمره، وإنما لم يجازه في هذه الدار، لسعة رحمته، وضيق هذه الدار، فلذا أخر الجزاء إلى الدار الآخرة، فإذا ترقى الإنسان من الهوى إلى الهدى، ومن الفجور إلى التقوى.. أخذ الأجر بالكيل الأوفى.
والمعنى (٤): أي بل أنجعل من آمنوا بربهم، واعتقدوا أنه الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لا شريك له في ملكه، وأصلحوا أعمالهم، فأدوا ما يجب للخلق والخالق، وائتمروا بما أمر به ربهم على لسان أنبيائه، وانتهوا عما نهوا عنه، فلم يدسوا أنفسهم بفعل شيء من كبائر الآثام، خوفًا من يوم، تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، ولا تُقبل الشفاعة ولا الفداء من أحد إلا لمن أذن له الله، كمن كفروا به، وعاثوا في الأرض فسادًا، وهاموا فيها على وجوههم، لا دين يمنعهم، ولا زاجر يردعهم، إذ هم ينكرون الجزاء، والحساب، والإعادة بعد الموتة الأولى، ويقولون: ما هي إلا أرحام تدفع، وأرض تبلع، وما يهلكنا إلا الدهر، فأنى لمثل هؤلاء أن يرعووا عن غي، أو يكفوا عن معصية؟ بل هم جهد استطاعتهم يحصلون على اللذات، ويجترحون السيئات بما وسوس إليهم به
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) المراغي.
372
الشيطان، أن لا حلال، ولا حرام، ولا جنة، ولا نار، فما هذه إلا أساطير الأولين، وإذا كان هذا حقا، واقتضته الحكمة، وأوجبته العدالة، فلا بد من دار أخرى يجازى فيها المطيع، ويثاب على ما عمل، ويعاقب فيها العاصي، على ما دنس به نفسه من شرك بربه، واجترح للإثم، والعصيان، ومخالفة أمر الواحد الديان. والعقول السليمة، والفطر الصحيحة، ترشد إلى هذا، وتؤيده، وتدل عليه، وتثبته، فإنا نرى الظالم الباغي، قد يزداد في دنياه مالًا وولدًا، ويتمتع بصنوف اللذات من الدور، والقصور، والفراش الوثير، والسكن في الجنات، ويركب فاره الخيول المطهمة، والمراكب الفاخرة، ويشار إليه بالبنان، بينما نرى المطيع لربه المظلوم من بني جنسه، قد يعيش عيش الكفاف، ولا يجد ما يقيم به أوده، ويسد به مخمصته، أفيكون من حكمة الحكيم العادل، الذي لا يظلم مثقال ذرة، أن يترك الناس سدى، يفعلون ما شاؤوا بلا حساب ولا عقاب، أو ينتصف للمظالم من الظالم، ويرجع الحق إلى صاحبه، وربما لا يحصل هذا في هذا الدنيا، فلا بد من دار أخرى، يكون فيها العدل، والإنصاف، والكيل بالقسط، والميزان، وتلك هي الدار التي وعد بها الرحمن، على ألسنة رسله الكرام، صدق ربنا، وإن وعده لحق، وإن هذا اليوم آت لا شك فيه، لتجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم.
٢٩ - ولما كان القرآن، هو الذي يرشد إلى مثل هذه المقاصد الشريفة، والمآخذ العقلية الصحيحة، وكان منبع السعادات والخيرات.. وصفه أولًا، ثم بيّن المصلحة، فقال: ﴿كِتابٌ﴾: خبر مبتدأ محذوف، وهو عبارة عن القرآن؛ أي: هذا كتاب ﴿أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ﴾ يا محمد. صفة لكتاب ﴿مُبارَكٌ﴾ خبر ثان للمبتدأ المحذوف، ولا يجوز أن يكون صفة أخرى لكتاب، لما تقرر عندهم، من أنه لا يجوز تأخير الوصف الصريح، عن غير الصريح، وقد جوزه بعض النحاة، قرأ الجمهور: ﴿مُبارَكٌ﴾ بالرفع على الصفة لـ ﴿كِتابٌ﴾، وقرىء ﴿مباركا﴾ بالنصب على الحال اللازمة، والتقدير؛ أي: هذا القرآن الذي نتلوه عليك يا محمد، كتاب أنزلناه إليك، كثير المنفعة دينًا ودنيا، لمن آمن به، وعمل بأحكامه، وحقائقه، وإشاراته، فإن البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء، والمبارك ما فيه ذلك الخير.
373
﴿لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ﴾ متعلق بـ ﴿أَنْزَلْناهُ﴾؛ أي: أنزلناه ليتفكروا في آياته بالفكر السليم، فيعرفوا ما يتّبع ظاهرها من المعاني الفائقة، والتأويلات اللائقة؛ أي: ليتفكروا في معاني آياته، ويتأملوا فيها، وفي الآية دليل على أن الله سبحانه، إنما أنزل القرآن للتدبر والتفكر في معانيه، لا لمجرد التلاوة، بدون تدبر. وقرأ الجمهور (١): ﴿لِيَدَّبَّرُوا﴾ بياء الغيبة وشد الدال، وأصله: ﴿ليتدبروا﴾. وقرأ علي رضي الله عنه بهذا الأصل. وقرأ أبو جعفر، وشيبة ﴿لتدبروا﴾ بتاء الخطاب، وتخفيف الدال، وجاء كذلك عن عاصم، والكسائي بخلاف عنهما، والأصل: لتتدبروا بتاءين، فحذفت إحداهما على الخلاف الذي فيها، أهي تاء المضارعة، أم التاء التي تليها؟.
﴿وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ﴾؛ أي: وليتعظ به أصحاب العقول الخالصة عن شوب الوهم. عمم (٢) التدبر لعموم العلماء، وخص التذكر بخصوص للعقلاء؛ لأن التدبر للفهم، والتذكر لوقوع الإجلال، والخشية الخاص بأكابر أهل العلم.
فعلم (٣) أن المقصود من كلام الحق التفكر، والتذكر والاتعاظ به، لا حفظ الألفاظ فقط، وكان الصحابة يكتفون ببعض السور القرآنية، ويشتغلون بالعمل بها، فإن المقصود من القرآن العمل به.
والمعنى (٤): أي أنزلنا إليك هذا الكتاب، النافع للناس، المرشد لهم، إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في دينهم ودنياهم، الجامع لوجوه المصالح، ليتدبرها أولوا الحجا، الذين قد أنار الله بصائرهم، فاهتدوا بهديه، وسلكوا في أعمالهم ما أرشد إليه، وتذكروا مواعظه وزواجره، واعتبروا بمن قبلهم، فارعووا عن مخالفته، حتى لا يحل بهم مثل ما حل بالغابرين، ويستأصلهم كما استأصل السابقين، ممن بغوا في الأرض فسادا، وما تدبره بحسن تلاوته، وجودة ترتيله، بل بالعمل بما فيه، واتباع أوامره ونواهيه، ومن ثم قال الحسن البصري: قد قرأ
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
374
القرآن عبيد وصبيان، لا علم لهم بتأويله، حفظوا حروفه، وضيعوا حدوده، حتى إن أحدهم ليقول: والله لقد قرأت القرآن، فما أسقطت منه حرفًا، وقد والله أسقطه كله، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق ولا عمل، والله ما هو بحفظ حروفه وإضاعة حدوده، والله ما هؤلاء بالحكماء، ولا الورعة لا أكثر الله في الناس من مثل هؤلاء، فمن (١) اقتفى بظاهر المتلو، كان مثله، كمثل من له لقحة درور لا يحلبها، ومهرة نتوج لا يستولدها قال أنس رضي الله عنه: قال رسول الله - ﷺ -: «تعوّذوا بالله من فخر القراء، فإنهم أشد فخرًا من الجبابرة». ولا أحد أبغض إلى رسول الله - ﷺ -، من قارىء متكبر. وعن علي رضي الله عنه: قال رسول الله - ﷺ -: «تعوذوا بالله من دار الحزن، فإنها إذا فتحت، استجارت منها جهنم سبعين مرة، أعدها الله للقراء المرائين بأعمالهم، وإن شر القراء لمن يزور الأمراء». وفي سلسلة الذهب للمولى الجامي رحمه الله تعالى: رب تال، يفوه بالقرآن، وهو يفضي به إلى الخذلان.
قصص سليمان حين عُرض عليه الصافنات الجياد
٣٠ - ثم أخبر سبحانه، بأن من جملة نعمه على داود، أنه وهب له سليمان ولدًا، فقال: ﴿وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ﴾؛ أي: وآتينا داود ابنًا يسمى سليمان من (٢) المرأة التي أخذها من أوريا. والهبة (٣): عطاء الواهب بطريق الإنعام والإحسان لا بطريق العوض والجزاء، الموافق لأعمال الموهوب له. فسليمان النعمة التامة على داود؛ لأن الخلافة الظاهرة الإلهية، قد كملت لداود، وظهرت أكمليتها في سليمان، وكذا على العالمين لما وصل منه إليهم من آثار اللطف والرحمة، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: أولادنا من مواهب الله، ثم قرأ: ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ﴾.
وروي: أن داود عليه السلام، عاش مئة سنة، ومات يوم السبت فجأة،
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
(٣) روح البيان.
ويوم السبت لهم، كيوم الجمعة لنا، أتاه ملك الموت وهو يصعد في محرابه؛ أي: الغرفة، وينزل، وقال: جئت لأقبض روحك، فقال: دعني حتى أنزل وأرتقي، فقال: ما لي إلى ذلك سبيل، نفدت الأيام، والشهور، والسنون، والآثار، والأرزاق، فما أنت بمؤثر بعدها، فسجد داود على مرقاة من الدرج، فقبض نفسه على تلك الحال، وموت الفجأة رحمة للصالحين، وتخفيف ورفق بهم، إذ هم المنقطعون المستعدون، فلا يحتاجون إلى الإيصاء، وتجديد التوبة، ورد المظالم بخلاف غيرهم، ولذا كان من آثار غضب الله على الفاسقين، وأوصى داود لابنه سليمان بالخلافة.
ثم مدح الله سبحانه، وأثنى عليه فقال: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ﴾ والمخصوص بالمدح محذوف؛ أي: نعم العبد هو؛ أي: سليمان لصلاحية استعداده للكمال النوعي الإنساني. وهو مقام النبوة والخلافة. وقيل: إن المدح هنا بقوله: ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ﴾ هو لداود. والأول أولى. وجملة ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ تعليل لما قبلها من المدح. والأواب: الرجاع إلى الله بالتوبة، كما تقدم بيانه، أي: إن سليمان رجاع إلى الله سبحانه، بإخلاص العبودية، بلا علة دنيوية ولا أخروية، أو رجاع إلى الله في جميع الأحوال، في النعمة بالشكر، وفي المحنة بالصبر.
والمعنى: أي ما أحقه بالمدح والثناء؛ لأنه كان كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى ربه في أكثر الأوقات، وفي كثير من المهمات اعتقادًا منه، بأن كل شيء من الخير، لا يتم إلا بإعانته وتوفيقه.
٣١ - ثم ذكر حالًا من أحواله، التي تستحق الإطراء والثناء، فقال: ﴿إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: قرّب إليه، وأظهر له ﴿بِالْعَشِيِّ﴾؛ أي: في آخر النهار ﴿الصَّافِناتُ﴾؛ أي: الخيول القائمة على ثلاثة قوائم، جاعلة طرف حافر، الرابعة على الأرض لنشاطها ﴿الْجِيادُ﴾؛ أي: السريعة الجري والعدو، والظرف متعلق بمحذوف؛ أي: اذكر يا محمد لقومك، ما صدر عن سليمان حين عرضت عليه الجياد الصافنات، من العصر إلى آخر النهار لينظر إليها، ويتعرف أحوالها مقدار صلاحيتها للقيام بالمهام، التي توكل إليها حين الغزو وغيره، وقد وصفها
بالصفون والجودة ليجمع لها بين وصفين ممدوحين واقفة وجارية، فإذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعًا خفافًا في جريها. وقيل: وصفها بالصفون لأنه لا يكون في الهجن، بل يكون في العراب الخلَّص. والصافنات: جمع صافن. قال الزجاج: الصافن هو الذي يقف على إحدى اليدين، ويرفع الأخرى، ويجعل على الأرض طرف الحافر منها، حتى كأنه يقوم على ثلاث: وهي الرجلان، وإحدى اليدين، وقد يفعل بإحدى رجليه، وهي علامة الفراهة، والجياد: جمع جواد، يقال للفرس إذا كان شديد العدو، وقيل: إنها الطوال الأعناق، من الجيد، وهو العنق.
قيل: كانت مئة فرس، وقيل: ألفا، وقيل: كانت عشرين ألفًا، وقيل: كانت عشرين فرسًا، وقيل: إنها خرجت له من البحر، وكانت لها أجنحة. روي: أن سليمان عليه السلام، غزا أهل دمشق ونصيبين، وهي قاعدة ديار ربيعة، فأصاب ألف فرس عربي، أو أصابها أبوه من العمالقة، فاستخلف عنه فيها؛ لأنها من مال المصالح، وعلى كل تقدير قعد سليمان يومًا، بعدما صلى الظهر على كرسيه، وكان يريد جهادًا، فاستعرض تلك الأفراس؛ أي: طلب عرضها عليه، فلم تزل تعرض عليه، وهو ينظر إليها، ويتعجب من حسنها حتى غربت الشمس، وغفل عن صلاة العصر، وكانت فرضًا عليه، كما في «كشف الأسرار»، وعن ورد: كان له وقتئذ من الذكر، وتهيبه قومه فلم يعلموه، فاغتم لما فاته بسبب السهو والنسيان، فاستردها، فعقرها تقربا إلى الله، وطلبا لمرضاته على أن يكون العقر قربة في تلك الشريعة، ولذا لم ينكر عليه، أو مباحا في ذلك اليوم، وإنما أراد بذلك: الاستهانة بمال الدنيا، لمكان فريضة الله، كما قاله أبو الليث. فلم يكن من قبيل تعذيب الحيوان، فلما عقرها لله تعالى، أبدله الله خيرًا منها، وأسرع. وهي الريح تجري بأمره حيث شاء.
٣٢ - ﴿فَقالَ﴾ سليمان: ﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ﴾؛ أي: آثرت ﴿حُبَّ الْخَيْرِ﴾؛ أي: حب الخيل ﴿عَنْ ذِكْرِ رَبِّي﴾؛ أي: على ذكر ربي يعني: صلاة العصر، قاله عليه السلام عند غروب الشمس اعترافًا بما صدر عنه من الاشتغال بها عن الصلاة، وندمًا
عليه، وتمهيدًا لما يعقبه من الأمر بردها وعقرها، والتعقيب بالفاء باعتبار أواخر العرض المستمر دون ابتدائه، والتأكيد للدلالة على أن اعترافه وندمه عن صميم القلب، لا لتحقيق مضمون الخبر، وأصل ﴿أَحْبَبْتُ﴾ أن يُعدى بعلى؛ لأنه بمعنى: آثرت، كما في قوله تعالى: ﴿فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى﴾، وكل من أحب شيئًا فقد آثره، لكن لما أنيب مناب أنبت، وضمن معناه، عدى تعديته بعن، و ﴿حُبَّ الْخَيْرِ﴾ مفعوله؛ أي: مفعول به لأنبت المضمن، والذي أنيب مناب الذكر، هو الاطلاع على أحوال الخيل، لا حب الخيل، إلا أنه عدّي الفعل إلى حب الخيل، للدلالة على غاية محبته لها، والخير: المال الكثير، والمراد به: الخيل التي شغلته عليه السلام.
ومعنى الآية: أنبت حب الخيل؛ أي: جعلته نائبًا عن ذكر ربي، ووضعته موضعه، وكان يجب لمثلي، أن يشتغل بذكر ربه، وطاعته.
﴿حَتَّى تَوارَتْ﴾ الشمس، واستترت ﴿بِالْحِجابِ﴾؛ أي: بما يحجبها عن الأبصار، وهو معربها، قال قتادة، وكعب: الحجاب: جبل أخضر محيط بالخلائق، وهو جبل قاف، وقيل: هو جبل دون قاف، بمسيرة سنة تغرب الشمس من ورائه، اهـ «خازن». وسمي الليل حجابًا، لأنه يستر ما فيه، والضمير في ﴿تَوارَتْ﴾ للشمس، وإضمارها من غير ذكر لدلالة العشي عليها، إذ لا شيء يتوارى حينئذ غيرها. و ﴿حَتَّى﴾ متعلقة بقوله: ﴿أَحْبَبْتُ﴾، وغاية له باعتبار استمرار المحبة، ودوامها حسب استمرار العرض.
والمعنى: أنبت حب الخير عن ذكر ربي، واستمر ذلك حتى توارت؛ أي: غربت الشمس، تشبيهًا لغروبها في مغربها، بتواري الجارية المخبأة بحجابها؛ أي: المستترة بخبائها وخدرها. وقيل: الضمير في ﴿تَوارَتْ﴾ للصافنات؛ أي: حتى توارت بحجاب الليل؛ أي: بظلامه؛ لأن ظلام الليل يستر كل شيء.
٣٣ - وقوله: ﴿رُدُّوها عَلَيَّ﴾ من تمام مقالة سليمان، والخطاب لأهل العرض من قومه؛ أي: أعيدوا تلك الخيل علي، والفاء في قوله: ﴿فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ﴾ عاطفة على مقدر يقتضيه السياق، و ﴿طفق﴾ من أفعال الشروع بمعنى:
378
أخذ، وشرع. ومسحته بالسيف كناية عن الضرب. والسوق: جمع ساق كدور ودار، والسوق: ما بين الكعبين: كعب الركبة، وكعب القدم، والتقدير: فردوها عليه، فأخذ يمسح بالسيف مسحًا سوقها وأعناقها؛ أي: يقطع أعناقها، ويعرقب رجلها؛ أي: هو وأصحابه، أو يذبح بعضها، ويعرقب بعضها إزالة للعلاقات، ورفعا للحجاب الحائل بينه وبين الحق سبحانه، واستغفارا وإنابة إليه بالترك والتجريد، وفي الآية إشارة إلى أن حب غير الله شاغل عن الله، وموجب للحجاب، وأن كل محبوب سوى الله إذا حجبك عن الله لحظة، يلزمك أن تعالجه بسيف نفي لا إله إلا الله. قال الحسن: إن سليمان، لما شغله عرض الخيل، حتى فاتته صلاة العصر، غضب لله، وقال: ردوها علي؛ أي: أعيدوها إلي. وقيل: الضمير في ﴿رُدُّوها﴾ يعود إلى الشمس، ويكون ذلك معجزة له، والخطاب للملائكة الموكلين بالشمس، يعني: ردوا الشمس، فردوها إلى موضع وقت صلاة العصر، حتى صلى العصر في وقتها.
وقال الإمام في «تفسيره»: الصواب أن يقال: إن رباط الخيل، كان مندوبًا إليه في دينهم، كما هو مندوب إليه في شرعنا، ثم إن سليمان عليه السلام، احتاج إلى الغزو، فجلس على كرسيه، وأمر بإحضار الخيل، وأمر بإجرائها، وذكر أني لا أجريها لأجل الدنيا وحظ النفس، وإنما أجريها وأحبها، لأمر الله تعالى، وتقوية دينه، وهو المراد من قوله: ﴿عَنْ ذِكْرِ رَبِّي﴾، ثم إنه أمر بإجرائها وتسييرها، حتى توارت بالحجاب؛ أي: غابت عن بصره، فإنه كان له ميدان واسع، مستدير، يسابق فيه بين الخيل، حتى تتوارى عنه، وتغيب عن عينه، ثم أنه أمر الرائضين بأن يردوها، فردوا تلك الخيل إليه. فلما عادت إليه، طفق يمسح سوقها وأعناقها؛ أي: بيده حبًا لها، وتشريفًا وإبانة لعزتها، لكونها من أعظم الأعوان، في قهر الأعداء، وإعلاء الدين، وهو قول الزهري، وابن كيسان وليس فيه نسبة شيء من المنكرات إلى سليمان عليه السلام، فهو أحق بالقبول عند أولي الأفهام، وقال ابن جرير الطبري (١) (٢٣/ ١٥٦): حدثني علي حدثنا أبو
(١) الطبري.
379
صالح قال: حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: ﴿فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ﴾. يقول: جعل يمسح أعراف الخيل، وعراقيبها حبًا لها، وقال الطبري: وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس أشبه بتأويل الآية؛ لأن نبي الله عليه السلام، لم يكن إن شاء الله ليعذب حيوانا بالعرقبة يعني ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف ويهلك مالًا من أمواله بغير سبب، سوى أنه اشتغل عن صلاته بالنظر إليها، ولا ذنب لها باشتغاله بالنظر إليها، اهـ.
وخلاصة معنى الآية على هذا القول (١): أن سليمان احتياطًا للغزو، أراد أن يعرف قوة خيوله، التي تتكون منها قوة الفرسان، فجلس وأمر بإحضارها وإجرائها أمامه، وقال: إني ما أحببتها للدنيا ولذاتها، وإنما أحببتها لأمر الله، وتقوية دينه، حتى إذا ما أجريت وغابت عن بصره، أمر راكضيها بأن يردوها إليه، فلما عادت طفق يمسح سوقها وأعناقها سرورًا بها، وامتحانا لأجزاء أجسامها، ليعرف ما بها فربما يكون فيها من عيوب قد تخفى، فتكون سببا في عدم أدائها مهمتها على الوجه المرضي.
وقال الشوكاني: وقد اختلف (٢) المفسرون في تفسير هذه الآية، فقال قوم: المراد بالمسح: قطع أعناقها وعراقيبها بالسيف، وقال آخرون منهم: الزهري، وقتادة: إن المراد بالمسح: كشف الغبار عن سوقها وأعناقها، وإزالته عنها، حبا لها وتشريفا لها، والقول الأول أولى بسياق الكلام، فإنه ذكر أنه آثرها على ذكر ربه، حتى فاتته صلاة العصر، ثم أمرهم بردها عليه، ليعاقب نفسه بإفساد ما ألهاه عن ذلك، وما صده عن عبادة ربه، وشغله عن القيام بما فرضه الله عليه، ولا يناسب هذا، أن يكون الغرض من ردها عليه، هو كشف الغبار عن سوقها، وأعناقها بالمسح عليها بيده، أو بثوبه، ولا متمسك لمن قال: إن إفساد المال، لا يصدر عن النبي، فإن هذا مجرد استبعاد، باعتبار ما هو المتقرر في شرعنا، مع جواز أن يكون في شرع سليمان، أن مثل هذا مباح، على أن إفساد المال
(١) المراغي.
(٢) الشوكاني.
380
المنهي عنه في شرعنا، إنما هو مجرد إضاعته لغير غرض صحيح، وأما لغرض صحيح، فقد جاز مثله في شرعنا، كما وقع منه - ﷺ -، من إكفاء القدور، التي طبخت من الغنيمة قبل القسمة، ولهذا نظائر كثيرة في الشريعة، ومن ذلك ما وقع من الصحابة، من إحراق طعام المحتكر.
وقرأ الجمهور (١): ﴿مَسْحًا﴾، وزيد بن علي: ﴿مساحًا﴾ على وزن قتال، وقرأ الجمهور: ﴿بِالسُّوقِ﴾ بغير همز على وزن فعل، وهو جمع ساق كدار ودور، وقرأ ابن كثير: ﴿بالسؤق﴾ بالهمز. وقال أبو علي: هي لغة ضعيفة، وليست ضعيفة؛ لأن أبا حيّة النميري، كان يهمز كل واو قبلها ضمة، سماعًا، وكان ينشد:
حب المؤقد بن أبي مؤسى
وجاءت هذه القراءة على هذه اللغة، وقرأ ابن محيصن، وأبو عمران الجوني: ﴿بالسؤوق﴾ بوزن الرؤوس، رواهما بكار عن قنبل، وقرأ زيد بن علي ﴿بِالسَّاقِ﴾ مفردًا اكتفي به عن الجمع لأمن اللبس.
٣٤ - ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ﴾؛ أي: وعزتي وجلالي لقد ابتلينا سليمان، واختبرناه (٢) بمرض عضال ﴿وَأَلْقَيْنا﴾؛ أي: طرحناه ﴿عَلى كُرْسِيِّهِ﴾ وسرير ملكه حال كونه ﴿جَسَدًا﴾؛ أي: جسمًا ضعيفًا، لشدة وطأته عليه، والعرب تقول في الضعيف: إنه لحم على وضم، وجسم بلا روح. ﴿ثُمَّ أَنابَ﴾؛ أي: رجع سليمان بعد إلى حاله الأولى، واستقامت له الأمور كما كان، وما روي من قصص الخاتم، والشيطان، وعبادة الوثن في بيت سليمان، فذلك من أباطيل اليهود، دسوها على المسلمين، وأبي قبولها العلماء الراسخون، ومن ثم قال الحافظ بن كثير: وقد رويت هذه القصة، مطولة عن جماعة من السلف رحمهم الله تعالى كسعيد بن المسيب، وزيد بن أسلم، وجماعة آخرين. وكلها متلقاة من قصص أهل الكتاب، انتهى.
(١) البحر المحيط بتصرف وزيادة من زاد المسير.
(٢) المراغي.
381
وهذه هي التي سنذكرها بعد.
وعبارة «الخازن» هنا: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ﴾ بن داود عليهما السلام؛ أي (١): اختبرناه، وابتليناه، بسلب ملكه عنه، وكان سبب ذلك ما ذكر عن وهب بن منبه قال: سمع سليمان بمدينة في جزيرة من جزائر البحر، يقال لها: صيدون، وبها ملك عظيم الشأن، ولم يكن للناس إليه سبيل لمكانه في البحر، وكان الله تعالى، قد آتى سليمان في ملكه سلطانًا، لا يمتنع عليه شيء في بر ولا بحر، إنما يركب إليه الريح، فخرج إلى تلك المدينة، تحمله الريح على ظهر الماء، حتى نزل بها بجنوده من الجن والإنس، فقتل ملكها، وسبى ما فيها، وأصاب فيما أصاب بنتا لذلك الملك، يقال لها: جرادة، لم ير مثلها حسنًا وجمالًا، فاصطفاها لنفسه، ودعاها إلى الإسلام، فأسلمت على جفاء منها وقلة فقه، وأحبها حبًا لم يحبه شيئًا من نسائه، وكانت على منزلتها عنده لا يذهب حزنها، ولا يرقأ دمعها، فشق ذلك على سليمان، فقال لها: ويحك ما هذا الحزن الذي لا يذهب، والدمع الذي لا يرقأ؟ قالت: إني أذكر أبي، وأذكر ملكه وما كان فيه وما أصابه، فيحزنني ذلك، فقال سليمان: فقد أبدلك الله به ملكا هو أعظم من ملكه، وسلطانًا أعظم من سلطانه، وهداك إلى الإسلام، وهو خير من ذلك، قالت: إن ذلك كذلك، ولكني إذا ذكرته أصابني ما تراه من الحزن، فلو أنك أمرت الشياطين، فصوروا لي صورته في داري التي أنا فيها، أراها بكرة وعشيًا، لرجوت أن يذهب ذلك حزني، وأن يسلي عني بعض ما أجد في نفسي، فأمر سليمان الشياطين، فقال: مثّلوا لها صورة أبيها في دارها، حتى لا تنكر منه شيئًا، فمثّلوه لها حتى نظرت إلى أبيها بعينه؛ إلا أنه لا روح فيه، فعمدت إليه حين صنعوه، فألبسته ثيابًا مثل ثيابه التي كان يلبسها، ثم كانت إذا خرج سليمان من دارها، تغدوا إليه في ولائدها، فتسجد له، ويسجدن معها كما كانت تصنع في ملكه، وتروح في كل عشية بمثل ذلك، وسليمان لا يعلم بشيء من ذلك أربعين صباحًا، وبلغ ذلك آصف بن برخيا، وكان صديقًا، وكان لا يرد عن
(١) الخازن.
382
أبواب سليمان؛ أي: ساعة أراد دخول شيء من بيوته، دخل حاضرًا كان سليمان أو غائبًا، فأتاه فقال: يا نبي الله كبر سني، ورق عظمي، ونفد عمري، وقد حان مني الذهاب، وقد أحببت أن أقوم مقامًا قبل الموت، أذكر فيه من مضى من أنبياء الله تعالى، وأثني عليهم بعلمي فيهم، وأعلّم الناس بعض ما كانوا يجهلون من كثير من أمرهم، فقال: افعل. فجمع له سليمان الناس، فقام فيهم خطيبًا، فذكر من مضى من أنبياء الله تعالى، وأثنى على كل نبي بما فيه، وذكر ما فضّله الله تعالى به، حتى انتهى إلى سليمان، فقال: ما كان أحكمك في صغرك، وأورعك في صغرك، وأفضلك في صغرك، وأحكم أمرك في صغرك، وأبعدك عن كل ما يكره الله تعالى في صغرك، ثم انصرف فوجد سليمان في نفسه من ذلك، حتى ملىء غضبًا، فلما دخل سليمان داره دعاه فقال: يا آصف ذكرت من مضى من أنبياء الله تعالى، فأثنيت عليهم خيرًا في كل زمانهم، وعلى كل حال من أمرهم، فلما ذكرتني جعلت تثني علي خيرًا في صغري، وسكت عما سوى ذلك من أمري في كبري، فما الذي أحدثت في آخر عمري؟. فقال آصف: إن غير الله يعبد في دارك منذ أربعين صباحًا، في هوى امرأة، فقال سليمان: في داري؟ قال: في دارك، قال: فإنا لله وإنا إليه راجعون، قد عرفت أنك ما قلت الذي قلت إلا عن شيء بلغك، ثم رجع سليمان إلى داره فكسر ذلك الصنم، وعاقب تلك المرأة وولائدها، ثم أمر بثياب الظهيرة فأتي بها، وهي ثياب لا يغزلها إلا الأبكار، ولا ينسجها إلا الأبكار، ولا يغسلها إلا الأبكار، لم تمسها يد امرأة قد رأت الدم، فلبسها، ثم خرج إلى فلاة من الأرض وحده، وأمر برماد، ففرش له، ثم أقبل تائبًا إلى الله تعالى، حتى جلس على ذلك الرماد، وتمعك به في ثيابه تذللًا إلى الله تعالى، وتضرعًا إليه يبكي، ويدعو، ويستغفر مما كان في داره، فلم يزل كذلك يومه حتى أمسى، ثم رجع إلى داره، وكانت له أم ولد، يقال لها: أمينة، كان إذا دخل الخلاء، أو أراد إصابة امرأة من نسائه، وضع خاتمه عندها حتى يتطهر، وكان لا يمس خاتمه إلا وهو طاهر، وكان ملكه في خاتمه، فوضعه يومًا عندها، ثم دخل مذهبه، فأتاها شيطان اسمه صخر المارد، في صورة سليمان، لا تنكر منه شيئًا، فقال: خاتمي أمينة، فتناولته إياه، فجعله في يده، ثم
383
خرج حتى جلس على سرير سليمان، وعكفت عليه الطير والوحش والجن والإنس، وخرج سليمان، فأتى أمينة وقد تغيرت حالته، وهيئته عند كل من رآه، فقال: يا أمينة خاتمي، قالت: من أنت؟ قال: سليمان بن داود، فقالت: كذبت قد جاء سليمان وأخذ خاتمه، وهو جالس على سرير ملكه، فعرف سليمان أن خطيئته قد أدركته فخرج، فجعل يقف على الدار من دور بني إسرائيل، فيقول: أنا سليمان بن داود، فيحثون عليه التراب، ويقولون: انظروا إلى هذا المجنون أي شيء يقول، يزعم أنه سليمان، فلما رأى سليمان ذلك، عمد إلى البحر، فكان ينقل الحيتان لأصحاب السوق، ويعطونه كل يوم سمكتين، فإذا أمسى باع إحدى سمكتيه بأرغفة، ويشوي الأخرى فيأكلها، فمكث على ذلك أربعين صباحًا عدة ما كان يعبد الوثن في داره، ثم إن آصف وعظماء بني إسرائيل، أنكروا حكم عدو الله الشيطان في تلك المدة، فقال آصف: يا معشر بني إسرائيل هل رأيتم من اختلاف حكم ابن داود ما رأيتم؟ قالوا: نعم، فقال: أمهلوني حتى أدخل على نسائه، فأسألهن هل أنكرن من خاصة أمره، ما أنكرنا في عامة الناس وعلانيتهم؟ فدخل على نسائه، فقال: ويحكن هل أنكرتن من ابن داود ما أنكرنا؟ فقلن: أشد ما يدع امرأة في دمها، ولا يغتسل من الجنابة، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
قال الحسن: ما كان الله سبحانه وتعالى، ليسلط الشيطان على نساء نبيه عليه السلام، قال وهب: ثم إن آصف خرج على بني إسرائيل، فقال: ما في الخاصة أشد مما في العامة، فلما مضى أربعون صباحًا، طار الشيطان عن مجلسه، ثم مر بالبحر، فقذف الخاتم فيه، فبلعته سمكة، فأخذها بعض الصيادين، وقد عمل له سليمان صدر يومه، فلما أمسى أعطاه سمكتيه، فباع سليمان إحداهما بأرغفة، وبقّر بطن الأخرى ليشويها، فاستقبله خاتمه في جوفها، فأخذه وجعله في يده، ووقع لله ساجدا، وعكفت عليه الطير والجن، وأقبل الناس عليه، وعرف الذي كان دخل عليه، لما كان أحدث في داره، فرجع إلى ملكه، وأظهر التوبة من ذنبه، وأمر الشياطين أن يأتوه بصخر، فطلبوه حتى أخذوه، فأُتي به، فأدخله في جوف صخرة، وسد عليه بأخرى، ثم أوثقها بالحديد والرصاص، ثم أمر به، فقذفوه في البحر، فعلى هذا الجسد الذي ألقي
384
على كرسيه صخر سمي به، وهو جسم لا روح فيه؛ لأنه كان متمثلًا بما لم يكن كذلك، والخطيئة تغافله عن حال أهله؛ لأن اتخاذ التماثيل كان جائزا حينئذ، والسجود للصورة بغير علمه لا يضره.
وقيل في سبب فتنة سليمان عليه السلام: إن جرادة كانت أبر نسائه عنده، وكان يأتمنها على خاتمه، فقالت له يوما: إن أخي بينه وبين فلان خصومة، فأحب أن تقضي له، فقال: نعم، ولم يفعل، فابتلي بقوله: نعم، وذكروا نحو ما تقدم، وقيل: إن سليمان لما افتتن سقط الخاتم من يده، فأعاده في يده فسقط، وكان فيه ملكه، فأيقن سليمان بالفتنة، فأتاه آصف، فقال: إنك مفتون بذلك، والخاتم لا يتماسك في يدك، ففر إلى الله تائبًا، فإني أقوم مقامك، وأسير بسيرتك إلى أن يتوب الله عليك، ففر سليمان إلى الله تعالى تائبًا، وأعطى آصف الخاتم، فوضعه في يده، فثبت في يده، فأقام آصف في ملك سليمان بسيرته، أربعة عشر يومًا، إلى أن رد الله تعالى على سليمان ملكه، وتاب عليه، فرجع إلى ملكه، وجلس على سريره، وأعاد الخاتم في يده، فثبت، فهو؛ أي: آصف الجسد الذي ألقي على كرسيه.
وروي عن سعيد بن المسيب قال: احتجب سليمان عن الناس ثلاثة أيام، فأوحى الله تعالى إليه، احتجبت عن الناس ثلاثة أيام، فلم تنظر في أمور عبادي، فابتلاه الله تعالى، وذكر نحو ما تقدم من حديث الخاتم، وأخذ الشيطان إياه، قال القاضي عياض، وغيره من المحققين: لا يصح ما نقله الأخباريون من تشبيه الشيطان به، وتسليطه على ملكه، وتصرفه في أمته بالجور في حكمه، وإن الشياطين لا يسلطون على مثل هذا، وقد عصم الله تعالى الأنبياء من مثل هذا، والذي ذهب إليه المحققون، أن سبب فتنته، ما أخرجاه في «الصحيحين»، من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - ﷺ -: قال سليمان: لأطوفن الليلة على تسعين امرأة، كلهن تأتي بفارس، يجاهد في سبيل الله تعالى، فقال له صاحبه: قل: إن شاء الله تعالى، فلم يقل: إن شاء الله، فطاف عليهن جميعا، فلم تحمل منه إلا امرأة واحدة، جاءت بشق رجل، وايم الله الذي نفسي
385
بيده، لو قال: إن شاء الله، لجاهدوا في سبيل الله فرسانًا أجمعون، وفي رواية:
لأطوفن بمئة امرأة، فقال له الملك: قل: إن شاء الله، فلم يقل، ونسي، قال العلماء: والشق: هو الجسد الذي ألقي على كرسيه، وهي عقوبته، ومحنته؛ لأنه لم يستثن، لما استغرقه من الحرص، وغلب عليه من التمني، وقيل: نسي أن يستثني، كما صح في الحديث، لينفذ أمر الله، ومراده فيه، وقيل: إن المراد بالجسد، الذي ألقي على كرسيه: أنه ولد له ولد، فاجتمعت الشياطين، وقال بعضهم: لبعض: إن عاش له ولد لم ننفك من البلاء، فسبيلنا أن نقتل ولده أو نخبله، فعلم بذلك سليمان، فأمر السحاب، فحمله، فكان يربيه في السحاب خوفا من الشياطين، فبينما هو مشتغل في بعض مهماته إذ ألقي ذلك الولد ميتا على كرسيه، فعاتبه الله تعالى على خوفه من الشياطين، ولم يتوكل عليه في ذلك، فتنبه لخطئه، فاستغفر ربه. فذلك قوله عز وجل: ﴿وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنابَ﴾؛ أي: رجع إلى ملكه بعد الأربعين يومًا.
٣٥ - وقيل: أناب إلى الاستغفار. وهو قوله: ﴿قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي﴾؛ أي: سأل ربه المغفرة، فقال: رب اغفر لي؛ أي: قال سليمان وهو بدل من أَنابَ، وتفسير له: رب اغفر لي ما صدر مني، من الزلة التي لا تليق بشأني. وتقديم (١) الاستغفار على استيهاب الملك الآتي، لمزيد اهتمامه بأمر الدين، وجريا على عادة الأنبياء عليهم السلام والصالحين، في تقديم الاستغفار على السؤال، ولكون ذلك أدخل في الإجابة.
﴿وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي﴾؛ أي: لا يكون، ولا يحصل ﴿لِأَحَدٍ﴾ من الخلق ﴿مِنْ بَعْدِي﴾ إلي يوم القيامة. وقيل (٢): لا تسلبنيه في باقي عمري، وتعطيه غيري كما سلبته مني فيما مضى من عمري، وقرأ الجمهور (٣): ﴿مِنْ بَعْدِي﴾ بسكون الياء، ونافع، وأبو عمر بفتح الياء.
وذلك (٤) بأن يكون الظهور به بالفعل في عالم الشهادة، في الأمور العامة والخاصة مختصًا بي. وهو الغاية التي يمكنه بلوغها، دل على هذا المعنى قوله
(١) روح البيان.
(٢) الخازن.
(٣) النسفي.
(٤) روح البيان.
386
--: «إن عفريتًا من الجن، تفلّت عليّ البارحة، ليقطع عليّ صلاتي، فأمكنني الله منه، فأخذته، فأردت أن أربطه على سارية من سواري المسجد، حتى تنظروا إليه كلكم، ويلعب به ولدان أهل المدينة، فذكرت دعوة أخي سليمان: رب اغفر لي وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من بعدي، فرددته خاسئًا»؛ أي: ذليلا مطرودا، لم يظفر بي، ولم يغلب على صلاتي، فدل على أن الملك الذي آتاه الله سليمان، ولم يؤت أحدًا غيره من بعده، هو الظهور بعموم التصرف في عالم الشهادة لا التمكن منه، فإن ذلك مما آتاه الله غيره من الكمل نبيا كان أو وليا. ألا ترى: أن نبينا -- قال: «فأمكنني الله منه»؛ أي: من العفريت، فعلمنا أن الله تعالى، قد وهب التصرف فيه، بما شاء من الربط وغيره، ثم إن الله تعالى ذكره، فتذكر دعوة سليمان، فتأدب معه كمال التأدب، حيث لم يظهر بالتصرف في الخصوص.. فكيف في العموم؟. فرد الله ذلك العفريت، ببركة هذا التأدب خاسئًا عن الظفر به، وكان في وجود سليمان عليه السلام، قابلية السلطنة العامة، ولهذا ألهمه الله تعالى، أن يسأل الملك المخصوص به، فلم يكن سؤاله للبخل، والحسد، والحرص على الاستبداد بالنعمة والرغبة فيها، كما توهمه الجهلة.
وعبارة «الخازن» هنا: فإن قلت: قول سليمان: ﴿لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ مشعر بالحسد، والحرص على الدنيا.
قلت: لم يقل ذلك حرصًا على طلب الدنيا ولا نفاسة بها، ولكن كان قصده في ذلك، أن لا يسلط عليه الشيطان مرة أخرى، وهذا على قول من قال: إن الشيطان استولى على ملكه، وقيل: سأل ذلك ليكون علمًا وآية لنبوته، ومعجزة دالة على رسالته، ودلالة على قبول توبته، حيث أجاب الله تعالى دعاءه، ورد ملكه إليه، وزاده فيه، وقيل: غير ذلك.
وعبارة «فتح الرحمن»: إن قلت: كيف (١) قال سليمان ذلك، مع أنه يشبه الحسد والبخل بنعم الله تعالى على عباده، بما لا يضر سليمان؟.
(١) فتح الرحمن.
387
قلت: المراد، لا ينبغي لأحد أن يسلبه مني في حياتي، كما فعل الشيطان الذي لبس خاتمي، وجلس على كرسيي، أو أن الله تعالى، علم أنه لا يقوم غيره مقامه، بمصالح ذلك المكان، واقتضت حكمته تعالى تخصيصه به، فألهمه سؤاله، انتهى.
ثم علل المغفرة والهبة معًا، فقال: ﴿إِنَّكَ أَنْتَ﴾ يا إلهي ﴿الْوَهَّابُ﴾؛ أي: الكثير المواهب والعطاء، فأجب طلبي، وحقق رجائي، فإن قيل (١): قوله: ﴿لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ هل يتناول النبي - ﷺ - أم لا؟ قلنا: أما بالصورة فيتناول، ولكن لعلو همته وكمال قدره لا لعدم استحقاقه؛ لأنه عُرض عليه - ﷺ - ملك أعظم من ملكه، فلم يقبله، وقال: الفقر فخري. وأما بالمعنى: فلم يتناول النبي - ﷺ -؛ لأنه قال: «فضلت على الأنبياء بست» يعني: على جميع الأنبياء، ولا خفاء في أن سليمان عليه السلام، ما بلغ درجة واحد من أولي العزم من الرسل، مع اختصاصه بصورة الملك منهم، وهم معه مفضولون بست فضائل من النبي - ﷺ -.
٣٦ - ثم أخبر سبحانه، بأنه أجاب دعاءه، ووفقه لتحصيل ما أراد، وعدد نعمه عليه. فقال:
١ - ﴿فَسَخَّرْنا لَهُ﴾؛ أي: فذللنا لطاعة سليمان إجابة لدعوته ﴿الرِّيحَ﴾. قال أبو عمرو: إنها ريح الصبا؛ أي: جعلناها مطيعة له، لا تخالفه إجابة لدعوته، فعاد أمره عليه السلام، على كان عليه قبل الفتنة، فيكون ذلك مسببًا عن إنابته إلى ربه.
وفيه: إشارة إلى أن سليمان، لما فعل بالصافنات الجياد. ما فعل في سبيل الله، عوّضه الله مركبًا مثل الريح، كان غدوها شهرا، ورواحها شهرًا. كما في «التأويلات النجمية». وقد سبق أيضًا «كشف الأسرار»: قال البقلي، رحمه الله: كان سليمان عليه السلام، من فرط حبه جمال الحق، يحب أن يظهر إلى صنائعه، وممالكه ساعة، فساعة من الشرق إلى الغرب، حتى يدرك عجائب ملكه
(١) روح البيان.
وملكوته، فسخر الله له الريح، وأجراها بمراده، وهذا جزاء صبره في ترك حظوظ نفسه.
وقوله: ﴿تَجْرِي﴾ وتهب ﴿بِأَمْرِهِ﴾؛ أي: بأمر سليمان. بيان لتسخيرها له.
وقوله: ﴿رُخاءً﴾ حال من ضمير ﴿تَجْرِي﴾؛ أي: حالة كون تلك الريح، لينة الهبوب، طيبة لا عاصفة تزعزع، ولا ينافي (١) هذا قوله في آية أخرى ﴿وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ﴾؛ لأن المراد: أنها في قوة العاصفة ولا تعصف. وقيل: إنها كانت تارة رخاء، وتارة عاصفة على ما يريده سليمان، ويشتهيه، وهذا أولى في الجمع بين الآيتين، أو المعنى: لينة في أثناء سيرها عاصفة في أوله.
وقوله: ﴿حَيْثُ أَصابَ﴾ ظرف لـ ﴿تَجْرِي﴾؛ أي: تجري إلى حيث قصد وأراد من النواحي والأطراف. واعلم: أن المراد بقوله: ﴿بِأَمْرِهِ﴾: جريان الريح بمجرد أمره من غير جمعية خاطر، ولا همة قلب، فهو الذي جعل الله من الملك، الذي لا ينبغي لأحد من بعده، لا مجرد التسخير، فإن الله تعالى، سخر لنا أيضًا ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، ولكن إنما تفعل أجرام العالم لهمم النفوس، إذا أقيمت في مقام الجمعية، فهذا التسخير عن أمر الله، لا عن أمرنا، كحال سليمان عليه السلام، والمعنى؛ أي: فذللنا لطاعته إجابة لدعوته الريح، تجري لينةً طائعة له، لا تمتنع عليه إلى أي جهة قصد.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿الرِّيحَ﴾ بالإفراد. وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وقتادة، وأبو جعفر: الرياح بالجمع، وهو أعم لعظم ملك سليمان، وإن كان المفرد بمعنى الجمع لكونه اسم جنس.
٢ - ٣٧ ﴿وَالشَّياطِينَ﴾ معطوف على الريح ﴿كُلَّ بَنَّاءٍ﴾ بدل من الشياطين، وهو مبالغة بأن اسم فاعل من بنى، وكانوا يعملون له عليه السلام، ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان، كالجواب وقدور راسيات، كما سبق في سورة سبأ، ويبنون له الأبنية الرفيعة بدمشق واليمن، ومن بنائهم: بيت المقدس واصطخر
(١) الشوكاني.
(٢) البحر المحيط.
وهي من بلاد فارس، تنسب إلى صخر الجنّيّ، المراد بقوله تعالى: ﴿قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ﴾. ﴿وَغَوَّاصٍ﴾ معطوف على ﴿بَنَّاءٍ﴾. مبالغة غائص. اسم فاعل من غاص الماء يغوص غوصًا؛ أي: يغوصون في الماء، ويستخرجون له من البحر الدرر، والجواهر، والحلي، وهو أول من استخرج اللؤلؤ من البحر.
والمعنى: أي وذللنا لأمره البنائين من الشياطين والغواصين في البحار، منهم يسخرهم فيما يريد من الأعمال، فإذا أراد بناء العمائر والقصور، أو الحصون والقناطر، أنجزوها له في الزمن القصير، وإذا أحب استخراج اللؤلؤ والمرجان من البحار، لجعلهما حلية لمن في قصورة لبوا طلبه سراعًا.
٣ - ٣٨ ﴿وَآخَرِينَ﴾ معطوف على ﴿كُلَّ بَنَّاءٍ﴾، داخل في حكم البدل؛ أي: وسخرنا له شياطين آخرين، مخالفين أمره ليصفدهم في الأصفاد، وقوله: ﴿مُقَرَّنِينَ﴾ بصيغة اسم المفعول، من التفعيل، صفة لـ ﴿آخَرِينَ﴾ من قرّنت الشيء بالشيء؛ أي: وصلته به، وشدد العين للمبالغة والكثرة، ﴿فِي الْأَصْفادِ﴾ متعلق بمقرنين، جمع صفد محركة، وهو القيد من الحديد، ويسمى الأغلال، والسلاسل.
ومعنى الآية: وسخرنا له شياطين آخرين لا يبنون، ولا يغوصون، فقرنهم، وأوثقهم في الأصفاد، والسلاسل، والأغلال من الحديد، لكفهم عن الشر والفساد.
وخلاصة ما سلف (١): أن سليمان قد استعمل الشياطين في الأعمال الشاقة كالبناء والغوص في الماء، ومن لم يطع أمره، وضعه في السلاسل والأغلال، كفا لشره، وعقابا له، وعبرة لغيره، فإن قيل: إن (٢) هذه الآية، تدل على أن الشياطين لها قوة عظيمة، قدروا بها على تلك الأبنية العظيمة، التي لا يقدر عليها البشر، وقدروا على الغوص في البحار، واستخراج جواهرها، وأنى يمكن
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
390
تقييدهم وتصفيدهم بالأغلال والأصفاد؟. وفيه إشكال، وهو أن هذه الشياطين، إما أن تكون أجسادهم كثيفة أو لطيفة، فإن كانت كثيفة، وجب أن يراهم من كان صحيح الحاسة، إذ لو جاز أن لا يراهم مع كثافة أجسادهم، لجاز أن يكون بحضرتنا جبال عالية، وأصوات هائلة لا نراها، ولا نسمعها، وذلك سفسطة، وإن كانت أجسادهم لطيفة، واللطافة تنافي الصلابة، فمثل هذا يمتنع أن يكون موصوفا بالقوة الشديدة، بحيث يقدر بها على ما لا يقدر عليه البشر؛ لأن الجسم اللطيف، يكون ضعيف القوام، تتمزق أجزاؤه بأدنى المدافعة، فلا يطيق تحمل الأشياء الثقيلة، ومزاولة الأعمال الشاقة، وأيضا لا يمكن تقييده بالأصفاد والأغلال، قلنا: إن أجسادهم لطيفة، ولكن شفافة، ولطافتها لا تنافي صلابتها، بمعنى الامتناع من التفرق، فلكونها لطيفة لا ترى، ولكونها صلبة يمكن تقييدها، وتحملها الأشياء الثقيلة ومزاولتها الأعمال الشاقة، ولو سلم أن اللطافة تنافي الصلابة، إلا أنا، لا نسلم أن اللطيف الذي لا صلابة له، يمتنع أن يتحمل الأشياء الثقيلة، ويقدر على الأعمال الشاقة، ألا ترى: أن الرياح العاصفة تفعل أفعالًا عجيبة، لا تقدر عليها جماعة من الناس.
وفي «الأسئلة المقحمة»: الجن أجسام مؤلفة، وأشخاص ممثلة، ولا دليل يقضي بأن تلك الأجسام لطيفة أو كثيفة، بل يجوز أن تكون لطيفة، وأن تكون كثيفة، وإنما لا نراهم لا للطافتهم كما يزعمه المعتزلة، ولكن لأن الله تعالى لم يخلق فينا إدراكًا لهم، انتهى.
والحق أن يقال (١): إنا لا نعلم حقيقة تلك القيود، ولا كيف تكون العقوبة، كما لا نعلم كيف يشتغل الشياطين، وكيف يبنون أو يغوصون؟. فكل ذلك في عالم لا ندرك شيئًا من أحواله، فعلينا أن نؤمن، بأن سليمان لعظم ملكه، لم يكتف بتسخير الإنس في أعماله، بل سخر معهم الجن، فيما يصعب عليهم، ونتقبل هذا كما قصه القرآن، دون دخول في التفاصيل خوفًا من الزلل الذي لا
(١) المراغي.
391
تؤمن مغبته، ولا نصل أخيرًا إلى معرفة الحق فيه، ولنكتف بذلك، فالعبرة به ماثلة ولا نتزيد فيه.
روي (١): أن الله تعالى أجاب دعاء سليمان، بأن سخر له ما لم يسخره لأحد من الملوك، وهو الرياح، والشياطين، والطير، وسخر له من الملوك، ما لم يتيسر لغيره مثل ذلك، فإنه روي: أنه ورث ملك أبيه داود، في عصر كيخسرو بن سياوش، وسار من الشام إلى العراق، فبلغ خبره إلى كيخسرو، فهرب إلى خراسان، فلم يلبث إلا قليلًا حتى هلك، ثم سار إلى مرو ثم سار إلى بلاد الترك فوغل فيها، ثم جاز بلاد الصين، ثم عطف إلى أن وافى بلاد فارس، فنزلها أيامًا، ثم عاد إلى الشام، ثم أمر ببناء بيت المقدس، فلما فرغ منه سار إلى تهامة، ثم إلى صنعاء، وكان من حديثه مع صاحبة صنعاء، وهي بلقيس، ما ذكره الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم. وغزا بلاد المغرب، والأندلس، وطنجة وإفرنجة، ونواحيها.
٣٩ - ثم ذكر سبحانه، أنه أباح له أن يتصرف في كل هذا الملك الواسع، كما شاء، دون رقيب ولا حسيب. فقال: ﴿هَذَا عَطَاؤُنَا﴾ وهو معمول لقول محذوف؛ أي (٢): فسخرنا له جميع ما ذكر، وقلنا له: هذا الذي أعطيناك من الملك العظيم والبسطة، والتسلط على ما لم يتسلط عليه غيرك، عطاؤنا الخاص بك، الذي لا يقدر عليه غيرنا. ﴿فَامْنُنْ﴾؛ أي: فأعط منه من شئت من قولهم: من عليه منا إذا أنعم عليه. ﴿أَوْ أَمْسِكْ﴾؛ أي: وامنع منه من شئت. و ﴿أَوْ﴾ هنا للإباحة. وقوله: ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ حال من المستكن في الأمر؛ أي: حالة كونك غير محاسب على منّه وإحسانه، ومنعه وإمساكه، لا حرج عليك فيما أعطيت، وفيما أمسكت، لتفويض التصرف فيه إليك على الإطلاق. وقيل (٣): الإشارة إلى تسخير الشياطين، والمراد بالمن والإمساك: إطلاقهم أو إبقائهم في القيد. وفي «المفردات»: قيل: تصرف فيه تصرف من لا يحاسب؛ أي: تناول كما تحب في
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
(٣) البيضاوي.
وقت ما تحب، وعلى ما تحب، وأنفقه كذلك، انتهى. قال الحسن. ما أنعم الله على أحد نعمة، إلا كان عليه تبعة إلا سليمان. فإن أعطى أجر عليه، وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة وإثم. وهذا مما خص به، والتبعة: ما يترتب على الشيء من المضرة، وكل حق يجب للمظلوم على الظالم بمقابلة ظلمه عليه، قال بعض المحققين: كان سؤال سليمان ذلك عن أمر ربه، والطلب إذا وقع عن الأمر الإلهي كان امتثال أمر وعبادة، فللطالب الأجر التام على طلبه، من غير تبعة حساب ولا عقاب، فهذا الملك والعطاء، لا ينقصه من ملك آخرته شيئًا، ولا يحاسب عليه أصلًا، كما يقع لغيره، وأما ما روي: أن سليمان آخر الأنبياء دخولًا الجنة لمكان ملكه، فعلى تقدير صحته، لا ينافي الاستواء بهم في درجات الجنة، ومطلق التأخر في الدخول لا يستلزم الحساب.
وقد روي: أن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمس مئة سنة، ويجوز أن يكون بغير حساب حالًا من العطاء؛ أي: هذا عطاؤنا ملتبسًا بغير حساب، لغاية كثرته، كما يقال للشيء الكثير: هذا لا يحيط به حساب أو صلة له، وما بينهما اعتراض على التقديرين.
٤٠ - وبعد (١) أن ذكر ما أوتيه من نعم الدنيا، التي يحار العقل في إدراكها أبان ما له في الآخرة عند ربه، من مقام كريم وجنات نعيم، فقال: ﴿وَإِنَّ لَهُ﴾؛ أي: لسليمان عليه السلام ﴿عِنْدَنا لَزُلْفى﴾؛ أي: لقربى في الآخرة مع ما له من الملك العظيم في الدنيا ﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾؛ أي: وحسن مرجع، وهو الجنة؛ أي: وإن له في الآخرة لقربى وكرامة لدينا، فنبوّئه جنات النعيم، ونؤتيه الإجلال والتعظيم، فهو كما كان سعيدًا في الدنيا، يكون سعيدًا في الآخرة، ويفوز برضا ربه وعظيم كرامته. جعلنا الله ممن كتبت له السعادة في الدنيا، والكرامة، والمثوبة لديه في جنات النعيم، وجملة ﴿إِنَّ﴾ حال من الضمير في ﴿سخرنا﴾؛ أي: أعدنا له الملك، والحال أن منزلته عندنا، لم تزل بزوال الملك، ولم تتغير بتغيره، بل
(١) المراغي.
وقع له امتحان ظاهري فقط، ورتبته على ما هي عليه، اهـ شيخنا.
وختم سبحانه وتعالى قصته، بما ذكر في قصة والده، وهو قوله: ﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ دفعًا لما يتوهم من نقصان درجاتهما في الآخرة، بسبب ما أوتيا في الدنيا من الملك العظيم، والتسخير العجيب.
وقرأ الجمهور: ﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾ بالنصب عطفًا على ﴿لَزُلْفى﴾. وقرأ الحسن، وابن أبي عبلة بالرفع، ويقفان على ﴿لَزُلْفى﴾ ويبتدآن ﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾. وهو مبتدأ خبره محذوف تقديره: وحسن مآب كائن له، وعلى قراءة الجمهور ﴿لَزُلْفى﴾ اسم ﴿إِنَّ﴾، والخبر ﴿لَهُ﴾، والعامل في عند الخبر كما سيأتي، وفي الحديث: «أرأيتم ما أعطي سليمان بن داود من ملكه، فإن ذلك لم يزده إلا تخشعًا، ما كان يرفع بصره إلى السماء تخشعًا لربه». ولذا وجد الزلفى وحسن المرجع، فطوبى له، حيث كان فقيرًا في صورة الغني. روي: أن سليمان عليه السلام، فتن بعد ما ملك عشرين سنة، وملك بعد الفتنة عشرين سنة، ثم انتقل إلى حسن مآب.
قصص أيوب عليه السلام
٤١ - ﴿وَاذْكُرْ﴾ يا محمد لقومك، أو تذكر بقلبك، ليكون أسوة لك، فهو معطوف على ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ﴾، وعدم تصدير قصة سليمان بهذا العنوان، لكمال الاتصال بينه وبين داود، حتى كأن قصتهما قصة واحدة. ﴿عَبْدَنا أَيُّوبَ﴾؛ أي: قصة عبدنا أيوب بن آموى بن رازخ بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، وأمه من أولاد لوط بن هاران، وزوجته رحمة بنت أفراثيم بن يوسف عليه السلام، أو ليّا بنت يعقوب عليه السلام، ولذا قال في «كشف الأسرار»: كان أيوب في زمان يعقوب. أو ما خير بنت ميشا بن يوسف. والأول أشهر الأقاويل. قال القرطبي: لم يؤمن بأيوب إلا ثلاثة نفر، وعمره ثلاث وتسعون، وقوله: ﴿أَيُّوبَ﴾ عطف بيان للعبد. وقوله: ﴿إِذْ نادى رَبَّهُ﴾ بدل اشتمال من ﴿عَبْدَنا﴾؛ أي: واذكر إذ دعا أيوب ربه، وتضرع إليه بلسان الاضطرار، والافتقار ﴿أَنِّي﴾؛ أي: بأني ﴿مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ﴾؛ أي: أصابني
394
﴿بِنُصْبٍ﴾؛ أي: ضر وبلاء ﴿وَعَذابٍ﴾؛ أي: إيجاع وألم شديد. فعطفه على النصب من عطل المسبب على السبب. وقرأ الجمهور: ﴿أَنِّي﴾ بفتح الهمزة على أنه حكاية لكلامه الذي نادى ربه به، ولو لم يحكه لقال: إنه مسه. لأنه غائب. وقرأ عيسى بن عمر: بكسرها على إضمار القول، وأسند المس إلى الشيطان، قال الزمخشري: لما كانت وسوسته إليه، وطاعته له فيما وسوس، سببا فيما مسه الله به من النصب والعذاب، نسب إليه، وقد راع الأدب في ذلك، حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه، مع أنه فاعله، ولا يقدر عليه أحد إلا هو.
والمعنى: واذكر يا محمد لقومك، صبر أيوب حين نادى ربه، وقال: رب إني أصبت بالمرض، وتفرق الأهل، وضياع الولد. ولا يناسب مناصب الأنبياء ما ذكره الزمخشري، من أن أيوب، كانت منه طاعة للشيطان فيما وسوس به، وأن ذلك، كان سببًا لما مسه الله به من النصب والعذاب.
وقرأ الجمهور: ﴿بِنُصْبٍ﴾ بضم النون وسكون الصاد، قيل: جمع نصب كوثن ووثن، وأسد وأسد. وقيل: هو لغة في النصب نحو: رشد ورشد، وقرأ أبو جعفر يزيد بن القعقاع، وشيبة، ونافع في رواية عنه، وأبو عمارة في حفص، والجعفي، وأبو معاذ عن نافع بضمتين، ورويت هذه القراءة عن الحسن. وقرأ زيد بن علي، والحسن في رواية، والسدي، وابن أبي عبلة، ويعقوب، والجحدري بفتحتين، وقرأ أبو حيوة، ويعقوب في رواية، وهبيرة عن حفص بفتح النون وسكون الصاد، وهذه القراءات كلها بمعنى واحد، وإنما اختلفت القراءات باختلاف اللغات، وقال أبو عبيدة: إن النَّصَبَ - بفتحتين -: التعب والإعياء.
وعلى بقية القراءات: الشر والبلاء.
ومعنى قوله: ﴿وَعَذابٍ﴾؛ أي: ألم. قال قتادة، ومقاتل: النصب في الجسد والعذاب في المال، قال النحاس: وفيه بعد كذا قال. والأولى تفسير النصب بالمعنى اللغوي، وهو التعب والإعياء، وتفسير العذاب بما يصدق عليه مسمى العذاب، وهو الألم، وكلاهما راجع إلى البدن.
395
وليس هذا المذكور هنا تمام دعائه عليه السلام، بل من جملته قوله: ﴿وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾، فاكتفي هاهنا عن ذكره، بما في سورة الأنبياء، كما ترك هناك ذكر الشيطان، ثقة بما ذكره هنا، فإن قلت: لا قدرة للشيطان البتة على إيقاع الناس في الأمراض، والأسقام، لأنه لو قدر على ذلك لسعى في إهلاك الأنبياء، والأولياء، والعلماء، والصالحين، فهو لا يقدر أن يضر أحدًا إلا بطريق إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة، فما معنى إسناد المس إليه؟
قلت: إن الذي أصابه، لم يصبه إلا من الله تعالى، إلا أنه أسنده إلى الشيطان، لسؤال الشيطان منه تعالى، أن يمسه الله تعالى بذلك الضر، امتحانا لصبره، ففي إسناده إليه دون الله تعالى، مراعاة للأدب كما مر آنفًا، وقيل: إنه لما عمل بوسوسته، عوقب على ذلك بذلك النصب والعذاب، فنسبه إليه، فقد قيل: إنه أعجب بكثرة ماله، وقيل: استغاثه مظلوم فلم يغثه، وقيل: إنه قال ذلك؛ لأن الشيطان وسوس إلى أتباعه، فرفضوه، وأخرجوه من ديارهم، وقيل المراد به: ما كان يوسوسه الشيطان إليه حال مرضه وابتلائه، من تحسين الجزع، وعدم الصبر على المصيبة، وقيل غير ذلك. والله أعلم.
روي: أن أيوب عليه السلام، كان له أموال كثيرة من صنوف مختلفة، وهو مع ذلك كله، كان مواظبا على طاعة الله، محسنا للفقراء واليتامى، وأرباب الحاجات، فحسده إبليس لذلك، وقال: إنه يذهب بالدنيا والآخرة، فقال: إلهي عبدك أيوب قد أنعمت عليه فشكرك، وعافيته فحمدك، ولو ابتليته بنزع النعمة والعافية لتغير عن حاله، فقال تعالى: إني أعلم منه أن يعبدني ويحمدني على كل حال، فقال إبليس: يا رب سلطني عليه، وعلى أولاده وأمواله.
٤٢ - وقوله: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ﴾ مقول لقول محذوف، معطوف على مقدر تقديره: واذكر يا محمد، إذ نادى أيوب ربه فاستجبنا له، وقلنا له على لسان جبرائيل، حين انقضاء مدة بلائه: اركض، واضرب برجلك وقدمك الأرض، وهي أرض الجابية بلد في الشام من أقطاع أبي تمام، فضربها، فنبعت عين ماء، فقلنا له: ﴿هَذَا﴾ الماء النابع ﴿مُغْتَسَلٌ﴾؛ أي: ماء يغتسل به ﴿بارِدٌ﴾ فاغتسل به،
396
فباغتسالك به يبرأ ظاهرك مما به ﴿وَشَرابٌ﴾ تشرب منه، فيبرأ باطنك مما به، والواو لتأكيد الصفة بالموصوف والظاهر (١): أن المشار إليه كان واحدًا، والعين التي نبعت له عينان شرب من إحداهما، واغتسل من الأخرى، وقيل: ضرب برجله اليمنى، فنبعت عين حارة، فاغتسل بها، وباليسرى فنبعت باردة فشرب منها، وهذا مخالف لظاهر قوله: ﴿مُغْتَسَلٌ بارِدٌ﴾، فإنه يدل على أنه ماء واحد، وقال الحسن: ركض برجله، فنبعت عين ماء، فاغتسل منها، ثم مشى نحوًا من أربعين ذراعًا، ثم ركض برجله، فنبعت عين ماء فشرب منها، قيل: والجمهور على أنه ركض ركضتين، فنبعت له عينان شرب من إحداهما، واغتسل من الأخرى، والجمهور على أنه تعالى أحيا له من مات من أهله، وعافى المرضى، وجمع عليه من شتت منهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: مكث في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات لم يغمض فيهن، ولم ينقلب من جنب إلى جنب، كما في زهرة الرياض. ولا نعلم (٢) على وجه التحقيق، قدر الزمن الذي لحقه فيه الضر، ولا نوع هذا الضر، إذ القرآن لم يصرح بهذا، ولكنا نعلم على وجه، لا يقبل الشك أنه لم يصب بأذى ينفّر منه الناس، ويمنعهم من لقائه والجلوس معه؛ لأن ذلك شرط من شروط النبوة، كما أنّا نعلم من وصف الدواء الآتي الذي أوحى الله تعالى به إليه، أنه من الأمراض الجلدية التي تشفيها المياه المعدنية أو الكبريتية، كما أشار إلى ذلك بقوله واصفا الدواء: ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢)﴾؛ أي: حرك الأرض برجلك، واضربها بها يخرج ينبوع من الماء تغتسل منه وتشرب، فتبرأ مما أنت فيه من المرض.
وفي هذا (٣): إيماء إلى نوع المرض، الذي كان به، وأنه من الأمراض الجلدية غير المعدية كالأكزيما، والحكة، ونحوهما مما يتعب الجسم، ويؤذيه أشد الإيذاء، لكنه ليس بقتال، وكلما تقدم الطب، أمكن للطبيب أن يبين نوع هذا
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
397
المرض على وجه التقريب، لا على وجه التحديد، كما أن في ذلك إيماء، إلى أن الماء كان من المياه الكبريتية، ذات الفائدة الناجحة في تلك الأمراض. وهي كما تفيد بالاستعمال الظاهري تفيد بالشرب أيضًا، كما نرى في العيون التي في البلاد، التي أنشئت فيها الحمامات في أوروبا ومصر والحبشة وغيرها، واستعملت مصحات للأمراض الجلدية والأمراض الباطنية، كمياه فيشي، وسويسرا، وحلوان، وكوسم، وعرر من الحبشة.
٤٣ - وكما دفع عنه سبحانه الضر، إجابة لدعائه، أجاب دعاءه في أهله وولده، فقال: ﴿وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ﴾ معطوف (١) على مقدر؛ أي: فاغتسل وشرب، فكشفنا بذلك ما به من ضر، كما في سورة الأنبياء، ووهبنا له أهله، وكانوا ثلاثة عشر، روى الحسن: أن الله تعالى، أحياهم بعد هلاكهم؛ أي: بما ذكر من أن إبليس هدّم عليهم البناء فماتوا. ﴿وَ﴾ وهبنا له ﴿مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ﴾ عطف على ﴿أَهْلَهُ﴾. فكان له من الأولاد ضعف ما كان له قبل؛ أي: زاده على ما كان قبل البلاء، فكانوا مثلي ما كانوا من قبل ابتلائه، وانتصاب قوله: ﴿رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ﴾ مفعولان لأجله؛ أي: ووهبناهم له لأجل رحمة عظيمة عليه من عندنا، ولتذكير أصحاب العقول السليمة بذلك، ليصبروا على الشدائد كما صبر، ويلجؤوا إلى الله تعالى، فيما ينزل بهم، كما لجأ هو إليه، ليفعل بهم مثل ما فعل به من حسن العاقبة.
والمعنى (٢): أي وجمعنا له أهله بعد التفرق والتشتت، وأكثرنا نسلهم حتى صاروا ضعف ما كانوا عليه رحمة منا، وتذكرة لأصحاب العقول السليمة، لتعتبر وتعلم أن رحمة الله قريب من المحسنين، وأن من العسر يسرًا، وأن الإنسان لا يقنط من الفرج بعد الشدة:
عَسَى فَرَجٌ يَأْتِيْ بِهِ اللهُ إِنَّهُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ فِيْ خَلِيْقَتِهِ أَمْرُ
ولم يذكر لنا الكتاب الكريم، ماذا كانت حاله في ماله؟، فنُمسك عن
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
الكلام كما أمسك.
٤٤ - ثم ذكر أنه رخص له سبحانه في تحلة يمينه، فقال: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا﴾ معطوف (١) على ﴿ارْكُضْ﴾ أو على ﴿وَهَبْنا﴾ بتقدير: وقلنا خذ بيدك إلخ. والأول أقرب لفظًا، وهذا أنسب معنى، فإن الحاجة إلى هذا الأمر لا تمس إلا بعد الصحة؛ أي: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا﴾؛ أي: ملء كفك من حشيش، أو عيدان، أو ريحان أو عثكال نخل بشماريخه ﴿فَاضْرِبْ بِهِ﴾؛ أي: بذلك الضغث زوجك، وبر في يمينك ﴿وَلا تَحْنَثْ﴾ فيها، فإن البر يتحقق بذلك، فأخذ ضغثًا، فضربها به ضربة واحدة، يقال: حنث في يمينه إذا لم يف بها، وكان (٢) حلف في مرضه ليضربن امرأته مئة سوط إذا برأ. فحلل يمينه بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه، وهذه الرخصة باقية إلى يوم القيامة، ويجب أن يصيب المضروب كل واحدةٍ من المئة. والسبب في يمينه، أنها أبطأت عليه ذاهبةً في حاجة، وقيل: باعت ذؤابتيها برغيفين، إذ لم تجد شيئًا، وكان أيوب يتعلق بهما إذا أراد القيام، وقيل: غير ذلك، وهذا الذي ذكرنا أليق بالمقام، والضغث: عثكال النخل بشماريخه، وقال الواحدي: الضغث ملء الكف من الشجر، والحشيش، والشماريخ.
فإن قلت (٣): لم قال الله سبحانه، لأيوب عليه السلام: ﴿وَلا تَحْنَثْ﴾، وقال لمحمد - ﷺ -: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ﴾؟.
قلت: لأن كفارة اليمين لم تكن لأحد قبلنا، بل هي لنا، مما أكرم الله به هذه الأمة، بدليل قوله تعالى: ﴿لَكُمْ﴾، كذا في «أسئلة الحكم»، وفي كلام بعض المفسرين: لعل التكفير لم يجز في شرعهم، أو أن الأفضل الوفاء به، انتهى.
والمعنى (٤): أي وخذ حزمة صغيرة من ريحان، أو كلأ أو عثكال نخل، فاضرب بها، فيكون ذلك تحلة ليمينك التي حلفتها، والكتاب الكريم لم يبين لنا
(١) الإرشاد.
(٢) النسفي.
(٣) روح البيان.
(٤) المراغي.
399
علام حلف، وعلى من حلف. ويذكر الرواة: أنه حلف على زوجته رحمة، بنت أفراثيم، وقد كانت ذهبت لحاجة، فأبطأت عليه، فحلف ليضربنها إن برىء مئة ضربة. فرخص له ربه أن يأخذ حزمة صغيرة، ويضربها بها، وبذا يتحقق البر في يمينه رحمة به، وبها لحسن خدمتها له، وقيامها بواجباته المنزلية أثناء مرضه.
وفي هذا مخرج، وفرج لمن اتقى الله، وأناب إليه، ولهذا قال عز اسمه: ﴿إِنَّا وَجَدْناهُ﴾؛ أي: وجدنا أيوب، وعلمناه ﴿صَابِرًا﴾ على ما أصابه في النفس، والأهل، والمال من البلاء الذي ابتليناه، فإنه ابتلي بالداء العظيم في جسده، وذهاب ماله، وأهله، وولده، فصبر على ذلك، وفي «التأويلات النجمية»: يشير إلى أن أيوب عليه السلام، لم يكن ليجد نفسه صابرًا، لولا أنا وجدناه؛ أي: جعلناه صابرًا. يدل على هذا المعنى، قوله تعالى لنبيه - ﷺ -: ﴿وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾؛ أي: هو الذي صبرك وإن لم تكن تصبر، انتهى.
روي (١): أنه بلغ أمر أيوب عليه السلام، إلى أن لم يبق منه إلا القلب، واللسان، فجاءت دودة إلى القلب فعضته، وأخرى إلى السان فعضته، فعند ذلك دعا أيوب، فوقعت دودة في الماء، فصار علقًا، وأخرى في البر، فصار نحلًا يخرج منه العسل، وفي «زهرة الرياض»: أنه بقي على بدنه أربعة من الديدان: واحد طار ووقع على شجرة الفرصاد فصار دود القز، وواحد وقع في الماء فصار علقًا، وواحد وقع في الحبوب فصار سوسًا، والرابع طار ووقع في الجبال والأشجار فصار نحلًا، وهذا بعد ما كشف الله عنه.
﴿نِعْمَ الْعَبْدُ﴾ أيوب، وحسن ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ تعليل (٢) لمدحه؛ أي: إنما قيل فيه: نعم العبد؛ لأنه رجاع إلى الله تعالى، لا إلى الأسباب، مقبل بجملة وجوده إلى طاعته، أو رجّاع إلى الحضرة في طلب الصبر على البلاء والرضى بالقضاء، ولقد سوى الله سبحانه وتعالى، بين عبديه اللذين، أحدهما: أنعم عليه فشكر، والآخر: ابتلي فصبر، حيث أثنى عليهما ثناءً واحدًا، فقال في وصف سليمان:
(١) روح البيان.
(٢) روح البيان.
400
﴿نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾، وفي وصف أيوب كذلك، ولم يلزم من الأوابية الذنب، لأن بلاء أيوب، كان من قبيل الامتحان.
والمعنى: أي (١) إنا وجدنا أيوب صابرًا على ما أصابه في النفس والأهل والمال، من أذى، فجازيناه بما فرّج كربته وأذهب لوعته، وليس في الشكوى إلى الله إخلال بالصبر، وليس فيه شيء من الجزع، فهو كتمني العافية وطلب الشفاء، وقد روي أنه كان يقول كلما أصابته مصيبة: اللهم أنت أخذت وأنت أعطيت، وكان يقول في مناجاته: إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي، ولم يتبع قلبي بصري، ولم يلهني ما ملكت يميني، ولم آكل إلا ومعي يتيم، ولم أبت شبعان ولا كاسيًا ومعي جائع أو عريان.
فإن قلت (٢): كيف وصف الله تعالى أيوب عليه السلام بالصبر، مع أن الصبر ترك الشكوى من ألم البلوى، وهو قد شكا بقوله: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ﴾، وقوله: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ﴾؟.
قلت: الشكوى إلى الله تعالى لا ينافي الصبر، ولا تسمى جزعًا لما فيها من الجهاد والخضوع والعبودية لله تعالى، والافتقار إليه، ويؤيده قول يعقوب عليه السلام: ﴿إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ مع قوله: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾، وقولهم: الصبر ترك الشكوى؛ أي: إلى العباد، أو أنه عليه السلام، طلب الشفاء من الله تعالى، بعد ما لم يبق منه إلا قلبه ولسانه، خيفة على قومه، أن يفتنهم الشيطان، ويوسوس إليهم، أنه لو كان نبيًا لما ابتلي بما هو فيه، ولكشف الله ضره إذا دعاه.
ويروى: أن الله تعالى لما أذهب عن أيوب ما كان فيه من الأذى، أنزل عليه ثوبين أبيضين من السماء، فاتزر بأحدهما، وارتدى بالآخر، ثم مشى إلى منزله، فأقبلت سحابة، فسحت في أندر قمحه ذهبًا حتى امتلأ، وأقبلت سحابة
(١) المراغي.
(٢) فتح الرحمن.
401
أخرى إلى أندر شعيره، فسحت فيه ورقًا حتى امتلأ، وشكر الله خدمة زوجته، فردها إلى شبابها، وجمالها.
قصص: إبراهيم وإسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع
٤٥ - ﴿وَاذْكُرْ﴾ يا محمد، أو تذكّر ﴿عِبادَنا﴾؛ أي: صبر عبادنا المخصوصين من أهل العناية ﴿إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ﴾ بن إبراهيم ﴿وَيَعْقُوبَ﴾ بن إسحاق ليكونوا لك قدوة في الصبر، فإبراهيم ألقي في النار فصبر، وإسحاق أضجع للذبح فصبر على قول، ويعقوب ابتلي بفقد ولده وذهاب بصره فصبر. ﴿أُولِي الْأَيْدِي﴾؛ أي: أصحاب القوى في الأعمال الظاهرة، والأفعال الدينية ﴿وَ﴾ أولي ﴿الْأَبْصارِ﴾؛ أي: أصحاب الفكر الباطنة والمعارف الإلهية، والأيدي: جمع يد بمعنى: القوة، والتمكن من الأعمال الظاهرة، والأبصار: جمع بصر بمعنى: البصيرة، وهي القوة التي يتمكن بها الإنسان من إدراك المعقولات، والمعنى: أصحاب القوة في الطاعة، والبصيرة في أمور الدين.
وكأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة (١)، ولا يجاهدون في الله، ولا يتفكرون أفكار ذوي الديانات، في حكم الزمنى، الذين لا يقدرون على أعمال جوارحهم، والمسلوبي العقول الذين لا استبصار لهم، وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله، ولا من المستبصرين في دين الله، وتوبيخ على تركهم المجاهدة، والتأمل مع كونهم متمكنين منهما.
قال ابن عباس رضي الله عنهما (٢): ﴿أُولِي الْأَيْدِي﴾؛ أي: أولي القوة في طاعة الله تعالى. ﴿وَالْأَبْصارِ﴾؛ أي: في المعرفة بالله تعالى، وقيل: المراد باليد. أكثر الأعمال، وبالبصر: أقوى الإدراكات، فعبّر بهما عن العمل باليد، وعن الإدراك بالبصر، وللإنسان قوتان عالمية، وعاملية، وأشرف ما يصدر عن القوة
(١) النسفي.
(٢) الخازن.
العالمية معرفة الله تعالى، وأشرف ما يصدر عن القوة العاملية طاعته وعبادته، فعبر عن هاتين القوتين بالأيدي، والأبصار.
وقرأ ابن عباس وابن كثير وأهل مكة (١) ﴿عِبادَنا﴾ على الإفراد، و ﴿إِبْراهِيمَ﴾ بدل منه أو عطف بيان، وقرأ الجمهور: ﴿عِبادَنا﴾: بالجمع، وما بعده من الثلاثة، بدل أو عطف بيان، وقرأ الجمهور: ﴿أُولِي الْأَيْدِي﴾ بالياء. وقرأ عبد الله، والحسن، وعيسى، والأعمش: ﴿الأيد﴾ بغير ياء، فقيل: يراد به: الأيدي حذفت منه الياء اجتزاء بالكسرة عنها، ولما كانت ﴿أل﴾ تعاقب التنوين حذفت الياء معها، كما حذفت مع التنوين، وهذا تخريج لا يسوغ؛ لأن حذف هذه الياء مع وجود ﴿أل﴾ ذكره سيبويه في الضرورات. وقرىء ﴿الأيادي﴾ جمع الجمع كأوطف وأواطف.
والمعنى: أي واذكر صبر عبادنا، الذين شرفناهم بطاعتنا، وقويناهم على العمل لما يرضينا، وآتيناهم البصيرة في الدين، والفقه في أسراره، والعمل النافع فيه.
٤٦ - ثم علل ما وصفهم به من فاضل الصفات، وجليل المدح بقوله: ﴿إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ﴾؛ أي: إنا جعلناهم خالصين بخصلة خالصة عظيمة الشأن، لا شوب فيها ﴿ذِكْرَى الدَّارِ﴾ مصدر، بمعنى التذكر، مضاف إلى مفعوله، وهو خبر مبتدأ محذوف، والجملة صفة لـ ﴿خالصة﴾، والتقدير: إنا خصصناهم بخصلة خالصة لنا، هي تذكرهم للدار الآخرة دائمًا، ولا هم لهم غيرها، وإطلاق الدار يعني مرادًا بها الدار الآخرة، للإشعار بأنها الدار في الحقيقة، وإنما الدنيا معبر.
فإن قيل (٢): كيف يكونون خالصين لله تعالى، وهم مستغرقون في الطاعة، وفيما هو سبب لها، وهو تذكر الآخرة؟.
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
قلت: إن استغراقهم في الطاعة، إنما هو لاستغراقهم في الشوق إلى لقاء الله، ولما لم يكن ذلك إلا في الآخرة، استغرقوا في تذكرها، وفي «التأويلات النجمية»: إنا صفيناهم عن شوب صفات النفوس، وكدورة الأنانية، وجعلناهم لنا خالصين بالمحبة الحقيقية، ليس لغيرنا فيهم نصيب، ولا يميلون إلى الغير بالمحبة العارضة، لا إلى أنفسهم، ولا إلى غيرهم، بسبب خصلة خالصة غير مشوبة بهمّ آخر، هي ذكرى الدار الباقية، والمقر الأصلي؛ أي: استخلصناهم لوجهنا بسبب تذكرهم لعالم القدس، وإعراضهم عن معدن الرجس، مستشرقين لأنواره، لا التفات لهم إلى الدنيا، وظلماتها أصلًا، انتهى.
وقرأ أبو جعفر، وشيبة، والأعرج، ونافع، وهشام (١): ﴿بِخالِصَةٍ﴾ بغير تنوين أضيفت إلى ﴿ذِكْرَى﴾. وقرأ باقي السبعة بالتنوين، و ﴿ذِكْرَى﴾ بدل من ﴿بِخالِصَةٍ﴾. وقرأ الأعمش، وطلحة ﴿بخالصتهم﴾.
والمعنى: أي إنا جعلناهم خالصين لطاعتنا، عاملين بأوامرنا ونواهينا، لاتصافهم بخصلة جليلة الشأن، لا يساويها غيرها من الخصال، وهي تذكرهم الدار الآخرة، فهي مطمح أنظارهم، ومطرح أفكارهم في كل ما يأتون، وما يذرون، ليفوزوا بلقاء ربهم، وينالوا رضوانه في جنات النعيم.
٤٧ - ﴿وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ﴾؛ أي: لمن المختارين في الدنيا بالنبوة والإسلام ﴿الْأَخْيارِ﴾ عند الله يوم القيامة.
والمعنى (٢): أي وإنهم لمن المختارين، الذين جبلت نفوسهم على الخير فلا تطمح إلى الأذى، ولا تميل إلى التباغض والتحاسد، ولا ترتكب الشرور والآثام.
٤٨ - ﴿وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ﴾ بن إبراهيم عليهما السلام، وإنما فصل ذكره عن ذكر أبيه
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
وأخيه، للإشعار بعراقته في الصبر، الذي هو المقصود بالتذكر، وذلك لأنه، أسلم نفسه للذبح في سبيل الله، أو ليكون أكثر تعظيما، فإنه جد أفضل الأنبياء والمرسلين. ﴿وَ﴾ اذكر ﴿الْيَسَعَ﴾ هو ابن أخطوب من العجوز، استخلفه إلياس - عليه السلام - على بني إسرائيل، ثم اسُتنبىء، ودخلت اللام على العلم، لكونه منكرا، بسبب طرو الاشتراك عليه، فعرّف باللام العهدية على إرادة اليسع الفلاني، مثل قول الشاعر:
رَأَيْتُ الْوَلِيْدَ بْنَ الْيَزِيْدِ مُبَارَكًا
أو هي زائدة، وقرأ حمزة، والكسائي: بتشديد اللام وسكون الياء.
﴿وَ﴾ اذكر ﴿ذَا الْكِفْلِ﴾ هو ابن عم يسع، أو بشر بن أيوب عليه السلام، بعث بعد أبيه إلى قوم في الشام. واختلف في نبوته، والأكثرون على أنه نبي لذكره في سلك الأنبياء، واختلف أيضًا أنه إلياس أو يوشع أو زكريا أو غيرهم؟. وإنما لقّب بذي الكفل؛ لأنه فرّ إليه مئة نبي من بني إسرائيل من القتل، فآواهم وكفلهم بمعنى: أطعمهم وكساهم وكتمهم من الأعداء.
﴿وَكُلٌّ﴾ أي: وكل (١) من المتقدمين من داود إلى هنا ﴿مِنَ الْأَخْيارِ﴾؛ أي: من المشهورين بالخيرية؛ أي: ممن اختاره الله للنبوة، واصطفاه من خلقه، وهذه الآيات تعزية، وتسلية للرسول - ﷺ -، فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إذا اجتهدوا في الطاعات، وقاسوا الشدائد والآفات، وصبروا على البلايا والأذيات من أعدائهم، مع أنهم مفضولون، فالنبي - ﷺ - أولى بذلك لكونه أفضل منهم، والأفضل يقاسي ما لا يقاسي المفضول، إذ به تتم رتبته، وتظهر رفعته، والأخيار: جمع خيِّر أو خير على التخفيف، كأموات جمع ميِّت أو ميت.
٤٩ - ﴿هَذَا﴾ المذكور من الآيات الناطقة، بمناقب الأنبياء ﴿ذِكْرٌ﴾؛ أي: شرف لهم، وذكر جميل يذكرون به أبدًا، كما يقول: يموت الرجل ويبقى اسمه وذكره، ويموت الفرس ويبقى ميدانه.
(١) المراح.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هذا ذكر من مضى من الأنبياء، وفي «التأويلات النجمية»: ﴿هَذَا﴾؛ أي: القرآن فيه ذكر ما كان، وذكر الأنبياء وقصصهم، لتعتبر بهم، وتقتدي بهم، وهذا أسلوب يذكر للانتقال من كلام إلى آخر. كما يقول الجاحظ في كتبه: فهذا باب، ثم يشرع في باب آخر، ويقول الكاتب، إذا فرغ من فصل من كتابه، وأراد الشروع في آخر: هذا، وكان كيت وكيت، وعلى هذا جاء قوله: ﴿هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥)﴾ كما سيأتي بعد.
﴿وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ﴾ الذين يتقون الله لا ما سواه، وذلك، لأن جنات عدن مقام أهل الخصوص ﴿لَحُسْنَ مَآبٍ﴾ ومرجع في الآخرة، مع ما لهم في الدنيا من الثناء الجميل، وهو من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: مآبًا حسنًا، والمآب: المرجع. والمعنى: أنهم يرجعون في الآخرة إلى مغفرة الله، ورضوانه، ونعيم جنته.
٥٠ - ثم بيّن حسن المرجع، فقال: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ عطف بيان لحسن مآب، وأصل العدن في اللغة: الإقامة، ثم صار علمًا بالغلبة على تلك الجنة، وقيل: هو اسم لقصر في الجنة.
قرأ الجمهور (١): ﴿جَنَّاتِ﴾ بالنصب بدلًا من ﴿حسن مآب﴾، سواء كان جنات معرفة أو نكرة؛ لأن المعرفة تبدل من النكرة وبالعكس، ويجوز أن يكون ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ عطف بيان إن كانت نكرة، ولا يجوز ذلك فيها، إن كانت معرفة على مذهب جمهور النحاة، وقد جوزه بعضهم، ويجوز أن يكون نصب ﴿جَنَّاتِ﴾ بإضمار فعل تقديره: سيدخلون جنات. وقرأ زيد بن علي، وعبد الله بن رفيع، وأبو حيوة ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً﴾ برفع التائين مبتدأ وخبرا، أو كل منهما خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو جنات عدن هي مفتحة.
(١) الشوكاني.
وقوله: ﴿مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ﴾ حال من ﴿جَنَّاتِ﴾. والعامل (١) فيها ما في ﴿المتقين﴾ من معنى الفعل. والأبواب مرتفعة باسم المفعول، كقوله: ﴿وَفُتِحَتْ أَبْوابُها﴾. والرابط بين الحال وصاحبها ضمير مقدر، إذ الأصل: أبوابها. وقيل: إن ارتفاع ﴿الْأَبْوابُ﴾ على البدل من الضمير في ﴿مُفَتَّحَةً﴾ العائد على ﴿جَنَّاتِ﴾، وبه قال أبو علي الفارسي؛ أي: مفتحة هي الأبواب.
والمعنى (٢): أي حال كون تلك الجنات، مفتحة لهم الأبواب منها؛ أي: إذا وصلوا إليها، وجدوها مفتوحة الأبواب، لا يحتاجون إلى فتح بمعاناة، ولا يلحقهم ذل الحجاب، ولا كلفة الاستئذان، تستقبلهم الملائكة بالتبجيل والترحيب والإكرام، يقولون: سلام عليكم بما صبرتم، فنعم عقبى الدار، وقيل: هذا مثل ما تقول: متى جئتني وجدت بابي مفتوحًا، لا تمنع من الدخول، فإن قيل: ما فائدة العدول عن الفتح إلى التفتح؟.
قلنا: المبالغة، وليست لكثرة الأبواب بل لعظمها، كما ورد من المبالغة في سعتها، وكثرة الداخلين، ويحتمل أن يكون للإشارة، إلى أن أسباب فتحها عظيمة شديدة، لأن الجنة قد حفت بالمكاره على وجه، لما رآها جبرائيل مع عظمة نعيمها قال: يا رب أنى هذه لا يدخلها أحد.
٥١ - وقوله: ﴿مُتَّكِئِينَ فِيها﴾ حال من ضمير ﴿لَهُمُ﴾، والعامل فيه ﴿مُفَتَّحَةً﴾؛ أي: حال كونهم، جالسين فيها جلسة المتنعمين للراحة. ولا شك أن الاتكاء على الأرائك دليل التنعم، ثم استأنفه لبيان حالهم في الجنات، فقال: ﴿يَدْعُونَ فِيها﴾؛ أي: يسألون، ويطلبون في الجنات ﴿بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ﴾؛ أي: بألوان متنوعة متكثرة، وهي ما يؤكل للذة لا للغذاء، والاقتصار على دعاء الفاكهة للإيذان، بأن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ، دون التغذي، فإنه لتحصيل بدل المتحلل، ولا تحلل فيها. ﴿وَشَرابٌ﴾؛ أي: ويدعون فيها أيضًا بشراب كثير؛ أي:
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
ألوانه. فحذف ﴿كثير﴾ لدلالة الأول عليه، ففيه اكتفاء، ويقال: نطق القرآن بعشرة أشربة في الجنة منها: الخمر الجارية من العيون وفي الأنهار، ومنها: العسل واللبن وغيرهما. ولا شك أن الأذواق المعنوية في الدنيا متنوعة، ومقتضاه تنوع التجليات الواقعة في الجنة، سواء كانت تجليات شرابية أو غيرها.
والمعنى (١): أي والمآب الحسن، هو جنات استقرار وإقامة، وأبوابها فتحت إكراما لهم، وفي هذا إيماء إلى وصفها بالسعة، وقرة العيون فيها، ومشاهدة أحوالها التي تسر الناظرين، ففيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ثم ذكر سبحانه ما يدل على مقدار أمنهم فيها، وتنعمهم بنعيمها، فقال: متكئين فيها يدعون فيها بألوان كثيرة من الفاكهة والشراب وهم متكئون على الأرائك، وإنما (٢) خص الشراب، والفاكهة من بين ما يتنعم به فيها؛ لأن بلاد العرب قليلة الفواكه والأشربة، فالنفس إليها أشوق، وفي ذكرها أرغب، كما أن في ذلك إيماء، إلى أن مطاعمهم لمحض التفكه، والتلذذ دون التغذي؛ لأنه إنما يكون لتحصيل بدل المتحلل، ولا تحلل فيها كما مر قريبًا.
٥٢ - وبعد أن وصف المسكن، والمأكول، والمشروب وصف الأزواج، فقال: ﴿وَعِنْدَهُمْ﴾؛ أي: وعند المتقين في الجنة أزواج ﴿قاصِراتُ الطَّرْفِ﴾ وحابسات النظر عليهم؛ أي: زوجات قصرن طرفهن؛ أي: نظرهن على أزواجهن، لا ينظرن إلى غيرهم. قال في «كشف الأسرار»: هذا كقولهم: فلانة عند فلان؛ أي: زوجته ﴿أَتْرابٌ﴾؛ أي (٣): متحدات في السن أو متساويات في الحسن، قال مجاهد: معنى أتراب: إنهن متواخيات لا يتباغضن، ولا يتغايرن، وقيل: أتراب للأزواج؛ أي: أقران لهم، والأتراب: جمع ترب، كما سيأتي، واشتقاقه من التراب؛ لأنه يمسهن في وقت واحد، لاتحاد مولدهن.
والمعنى: لدات أقران ينشأن معًا، تشبيهًا في التساوي، والتماثل بالترائب
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
التي هي ضلوع الصدر، ولوقوعهن على الأرض معًا، يمسهن التراب في وقت واحد.
قال في «كشف الأسرار»: لدات مستويات في السن، لا عجوز فيهن، ولا صبية، وقال بعضهم: لدات لأزواجهن؛ أي: هن في سن أزواجهن لا أصغر ولا أكبر، وفيه أن رغبة الرجل فيمن هي دونه في السن أتم، وأنه كان التحاب بين الأقران أرسخ، فلا يكون كونهن لدات لأزواجهن صفة مدح في حقهن.
وفي الخبر الصحيح: «يدخل أهل الجنة الجنة، جردًا مردًا، مكهلين أبناء ثلاث وثلاثين سنة، لكل رجل منهم زوجتان، على كل زوجة سبعون حلة، يرى مخ ساقها من ورائها».
والمعنى: أي وعندهم نساء ذوات خفر، قصرن طرفهن على أزواجهن، فلا يلتفتن إلى غير بعولتهن، وهن متساويات في السن والجمال، يحب بعضهن بعضا. وفي ذلك راحة عظيمة للأزواج، إذ في تباغض الضرائر النصب، والتعب والهم الكثير للزوج، ولهن.
٥٣ - وتقول لهم الملائكة: ﴿هذا﴾ المذكور من الثواب والنعيم ﴿ما تُوعَدُونَ﴾ به أيها المتقون في الدنيا على لسان نبيكم - ﷺ -. ﴿لِيَوْمِ الْحِسابِ﴾؛ أي: لأجل وقوع يوم الحساب، وهو يوم القيامة؛ أي: لأجل وقوع الحساب والجزاء في يوم القيامة، فإن الحساب علة للوصول إلى الجزاء. وقال بعضهم: ويحتمل أن يكون التقدير: هذا ما توعدون بوقوعه في يوم الحساب والجزاء، واللام بمعنى: في الظرفية.
وقرأ الجمهور (١): ﴿ما تُوعَدُونَ﴾ بتاء الخطاب التفاتًا. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن محيصن، ويعقوب ﴿ما يوعدون﴾ بياء الغيبة، إذ قبله ﴿وَعِنْدَهُمْ﴾ واختار هذه القراءة أبو عبيدة، وأبو حاتم لقوله: ﴿وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ﴾، فإنه خبر.
(١) الشوكاني.
والمعنى (١): أي هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة، هو ما وعد الله سبحانه به عباده، يصيرون إليه بعد نشورهم، وقيامهم من قبورهم.
٥٤ - ثم أخبر بأن نعيم الجنة دائم، لا يزول ولا ينقطع، فقال: ﴿إِنَّ هَذَا﴾ الذي ذكرناه من أنواع النعم والكرامات ﴿لَرِزْقُنا﴾؛ أي: عطاؤنا أعطيناكموه. ﴿ما لَهُ مِنْ نَفادٍ﴾؛ أي: ليس له انقطاع أبدًا، وفناء، وزوال؛ أي: إن هذا النعيم، وتلك الكرامة لعطاء دائم غير مجذوذ ولا منقطع، ونحو الآية قوله: ﴿ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ﴾، وقوله: ﴿لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾؛ أي: غير منقطع ﴿أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها﴾. قال ابن عباس (٢) رضي الله عنهما: ليس لشيء نفاد، ما أكل من ثمارها خلف مكانه مثله، وما أكل من حيوانها وطيرها عاد مكانه حيًا.
وفي «التأويلات النجمية»: وبقوله: ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾ إلى قوله: ﴿لِيَوْمِ الْحِسابِ﴾ يشير إلى أن هذه الجنات بهذه الصفات مفتوحة لهم الأبواب، وأبواب الجنة بعضها مفتوحة إلى الخلق، وبعضها مفتوحة إلى الخالق لا يغلق عليهم واحد منها، فيدخلون من باب الخلق، وينتفعون بما أعد لهم فيها، ثم يخرجون من باب الخالق، وينزلون في مقعد صدق عند مليك مقتدر، لا يقيدهم نعيم الجنة ليكونوا من أهل الجنة، كما لم يقيدهم نعيم الدنيا، ليكونوا من أهل النار، بل أخلصهم من حبس الدارين، ومتعهم بنزول المنزلين، وجعلهم من أهل الله، وخاصته. ﴿إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤)﴾؛ أي: هذا ما رزقناهم في الأزل، فلا نفاد له إلى الأبد، انتهى.
فعلى العاقل: الإعراض عن اللذات الفانية، والإقبال على الأذواق الباقية، فالفناء يوصل إلى البقاء، كما أن الفقر يوصل إلى الغنى. ولكل احتياج استغناء.
إِذَا شَابَ الْغُرَابُ أَتَيْتُ أَهْلِيْ وَهَيْهَاتَ الْغُرَابُ مَتَى يَشِيْبُ
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
410
عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتُ فِيْهِ يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيْبُ
الإعراب
﴿وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧)﴾.
﴿وَمَا﴾ الواو: استئنافية، ﴿مَا﴾: نافية، ﴿خَلَقْنَا﴾: فعل، وفاعل. ﴿السَّماءَ﴾: مفعول به. ﴿وَالْأَرْضَ﴾ معطوف عليه، ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾ اسم موصول في محل النصب معطوف على السماء. ﴿بَيْنَهُما﴾ ظرف متعلق بمحذوف صلة لما، ﴿باطِلًا﴾ صفة لمصدر محذوف؛ أي: خلقًا باطلًا. ويجوز أن يكون حالًا من فاعل ﴿خَلَقْنَا﴾؛ أي: مبطلين أو ذوي باطل، والجملة مستأنفة، مسوقة لتقرير مضمون ما تقدم من أمر البعث والحساب والجزاء. ﴿ذلِكَ﴾؛ أي: خلقها باطلًا لا لحكمة مبتدأ، ﴿ظَنُّ الَّذِينَ﴾ خبر، ومضاف إليه، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾ صلته، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿فَوَيْلٌ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت ظنهم ذلك، وأردت بيان عاقبتهم.. فأقول لك: ويل للذين كفروا. ﴿ويل﴾ مبتدأ، ﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور خبره، وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلة للموصول. ﴿مِنَ النَّارِ﴾ صفة لـ ﴿ويل﴾. والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة ﴿إذا﴾ المقدرة مستأنفة.
﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٩)﴾.
﴿أَمْ﴾ منقطعة بمعنى: بل التي للإضراب الانتقالي، وهمزة الإنكار، ﴿نَجْعَلُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿الَّذِينَ﴾: مفعول أول لنجعل، وجملة ﴿آمَنُوا﴾: صلة الموصول. ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول، معطوف على ﴿آمَنُوا﴾، ﴿كَالْمُفْسِدِينَ﴾: الكاف اسم بمعنى مثل، في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿نَجْعَلُ﴾، ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ متعلق بالمفسدين، ﴿أَمْ﴾ منقطعة بمعنى: بل
411
الإضرابية، وهمزة الإنكار أيضًا. ﴿نَجْعَلُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ﴿الْمُتَّقِينَ﴾: مفعول أول، ﴿كَالْفُجَّارِ﴾: الكاف اسم بمعنى: مثل في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿نَجْعَلُ﴾. والجملة معطوفة على ما قبلها. ﴿كِتابٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هذا القرآن كتاب أنزلناه إليك، والجملة مستأنفة، وجملة ﴿أَنْزَلْناهُ﴾: صفة أولى لكتاب، ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق بـ ﴿أَنْزَلْناهُ﴾، ﴿مُبارَكٌ﴾ صفة ثانية له، ومنعه بعضهم بحجة، أن النعت غير الصريح، لا يتقدم على النعت الصريح، فهو عندهم خبر ثان أو خبر مبتدأ محذوف، وقرأ ﴿مباركا﴾: بالنصب على الحال اللازمة، ﴿لِيَدَّبَّرُوا﴾: اللام: حرف جر وتعليل، ﴿يدبروا﴾: فعل، وفاعل، منصوب بأن مضمرة بعد لام التعليل جوازًا، ﴿آياتِهِ﴾: مفعول به. والجملة الفعلية مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور باللام، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَنْزَلْناهُ﴾؛ أي: أنزلناه لتدبرهم آياته. ﴿وَلِيَتَذَكَّرَ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، واللام حرف جر وتعليل، ﴿يتذكر﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة جوازًا، بعد لام كي، ﴿أُولُوا الْأَلْبابِ﴾: فاعل، ومضاف إليه مرفوع بالواو؛ لأنه ملحق بجمع المذكر السالم، والجملة الفعلية، مع أن المضمرة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: ولتذكر أولي الألباب، الجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله.
﴿وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٣٠) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (٣١)﴾.
﴿وَوَهَبْنا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿وَهَبْنا﴾: فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿لِداوُدَ﴾: متعلق بـ ﴿وَهَبْنا﴾، ﴿سُلَيْمانَ﴾: مفعول به، ﴿نِعْمَ﴾: فعل ماض لإنشاء المدح، ﴿الْعَبْدُ﴾: فاعله، والمخصوص بالمدح محذوف تقديره: هو. والجملة الفعلية جملة إنشائية، لا محل لها من الإعراب. ﴿إِنَّهُ﴾ ناصب واسمه، ﴿أَوَّابٌ﴾: خبره. والجملة الاسمية مسوقة لتعليل جملة المدح. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ ﴿أَوَّابٌ﴾ أو بـ ﴿نِعْمَ﴾ أو بمحذوف تقديره: اذكر يا محمد، قصة إذ عرض عليه. ﴿عُرِضَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة، ﴿عَلَيْهِ﴾
412
متعلق به، ﴿بِالْعَشِيِّ﴾: حال من الضمير في ﴿عَلَيْهِ﴾، أو من ﴿الصَّافِناتُ﴾، ﴿الصَّافِناتُ﴾: نائب فاعل لعرض، ﴿الْجِيادُ﴾: صفة لـ ﴿الصَّافِناتُ﴾. والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾.
﴿فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (٣٢) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (٣٣) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنابَ (٣٤)﴾.
﴿فَقالَ﴾: الفاء: عاطفة. ﴿قال﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿سُلَيْمانَ﴾، والجملة معطوفة على جملة ﴿عُرِضَ﴾. ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه، ﴿أَحْبَبْتُ﴾: فعل، وفاعل، والجملة في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قال﴾. و ﴿أَحْبَبْتُ﴾: ليست جارية على معناها الأصلي، وإنما هي متضمنة معنى فعل، يتعدى بعلى، وهي بمعنى: آثرت. ﴿حُبَّ الْخَيْرِ﴾: مفعول به لذلك الفعل، أو مفعول مطلق، ﴿عَنْ ذِكْرِ رَبِّي﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿أَحْبَبْتُ﴾، و ﴿عَنْ﴾: بمعنى على، ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية بمعنى: إلى ﴿تَوارَتْ﴾: فعل ماض في محل النصب بأن مضمرة، وفاعله ضمير يعود على الشمس، أو على الخيل، ﴿بِالْحِجابِ﴾: متعلق بـ ﴿تَوارَتْ﴾. والجملة الفعلية مع أن المضمرة، في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى؛ أي: إلى مواراتها بالحجاب، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿أَحْبَبْتُ﴾؛ أي: شغلت عن ذكر ربي إلى مواراتها بالحجاب. ﴿رُدُّوها﴾: فعل أمر، وفاعل، ومفعول، والجملة مقول لقول محذوف؛ أي: قال: ردوها علي. و ﴿عَلَيَّ﴾: متعلق بردوها، ﴿فَطَفِقَ﴾ الفاء: عاطفة على محذوف تقديره: فردوها عليه، ﴿طفق﴾: فعل ماض من أفعال الشروع، يعمل عمل كان، واسمها ضمير يعود على سليمان، ﴿مَسْحًا﴾: مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره: يمسح مسحًا، والجملة المحذوفة في محل النصب خبر ﴿طفق﴾، وجملة ﴿طفق﴾ معطوفة على الجملة المقدرة. ﴿بِالسُّوقِ﴾: متعلق بـ ﴿مَسْحًا﴾، ﴿وَالْأَعْناقِ﴾ معطوف على السوق، ﴿وَلَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، واللام: موطئة للقسم، ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿فَتَنَّا﴾: فعل، وفاعل،
413
﴿سُلَيْمانَ﴾: مفعول به، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. ﴿وَأَلْقَيْنا﴾: فعل، وفاعل، معطوف على ﴿فَتَنَّا﴾، ﴿عَلى كُرْسِيِّهِ﴾ متعلق بـ ﴿أَلْقَيْنا﴾، ﴿جَسَدًا﴾: مفعول به ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف وتراخ، ﴿أَنابَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، معطوف على ﴿أَلْقَيْنا﴾.
﴿قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٣٥)﴾.
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿سُلَيْمانَ﴾، والجملة مستأنفة، مسوقة لتفسير الإنابة. ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿اغْفِرْ﴾: فعل دعاء، وفاعل مستتر. ﴿لِي﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿وَهَبْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر، معطوف على ﴿اغْفِرْ﴾، ﴿لِي﴾: متعلق بـ ﴿يهب﴾، ﴿مُلْكًا﴾: مفعول به، ﴿لا﴾: نافية ﴿يَنْبَغِي﴾ فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على ﴿مُلْكًا﴾، والجملة في محل النصب، صفة لـ ﴿مُلْكًا﴾. ﴿لِأَحَدٍ﴾: متعلق بـ ﴿يَنْبَغِي﴾، ﴿مِنْ بَعْدِي﴾: جار ومجرور صفة ﴿لِأَحَدٍ﴾. ﴿إِنَّكَ﴾: ناصب واسمه. ﴿أَنْتَ﴾: ضمير فصل، ﴿الْوَهَّابُ﴾: خبر ﴿إن﴾، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل الدعاء.
﴿فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (٣٦) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (٣٧) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٣٨) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٩) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٤٠)﴾.
﴿فَسَخَّرْنا﴾: الفاء: عاطفة على محذوف يفهم من السياق؛ أي: فاستجبنا له دعاءه وأعدنا له هذا الملك السليب، وسخرنا. ﴿سخرنا﴾: فعل، وفاعل، معطوف على ذلك المحذوف. ﴿لَهُ﴾ متعلق بـ ﴿سخرنا﴾، ﴿الرِّيحَ﴾: مفعول به. ﴿تَجْرِي﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الريح، والجملة في محل النصب حال من ﴿الرِّيحَ﴾. ﴿بِأَمْرِهِ﴾: جار ومجرور، متعلق بـ ﴿تَجْرِي﴾، ﴿رُخاءً﴾: حال من الضمير في ﴿تَجْرِي﴾. ﴿حَيْثُ﴾: في محل النصب على الظرفية المكانية، متعلق بـ ﴿تَجْرِي﴾ أو بـ ﴿سخرنا﴾. ﴿أَصابَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿سُلَيْمانَ﴾،
414
والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿حَيْثُ﴾، ﴿وَالشَّياطِينَ﴾: معطوف على الريح، ﴿كُلَّ بَنَّاءٍ﴾: بدل من الشياطين، بدل تفصيل من مجمل. ﴿وَغَوَّاصٍ﴾ معطوف على بناء، ﴿وَآخَرِينَ﴾: معطوف على ﴿كُلَّ بَنَّاءٍ﴾، أدخل معه في حكم البدل، ﴿مُقَرَّنِينَ﴾: نعت ﴿لآخرين﴾، ﴿فِي الْأَصْفادِ﴾ متعلق بـ ﴿مُقَرَّنِينَ﴾. ﴿هذا﴾: مبتدأ، ﴿عَطاؤُنا﴾: خبره، والجملة في محل النصب مقول، لقول محذوف تقديره: وقلنا له: هذا عطاؤنا. ﴿فَامْنُنْ﴾: الفاء: عاطفة، ﴿امنن﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على ﴿سليمان﴾، والجملة الطلبية معطوفة على الجملة الاسمية، على كونها مقولًا للقول المحذوف. ﴿أَوْ أَمْسِكْ﴾ ﴿أَوْ﴾: حرف عطف وتخيير، وجملة ﴿أَمْسِكْ﴾: معطوفة على جملة ﴿امنن﴾. ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾: متعلق بـ ﴿عَطاؤُنا﴾: أو متعلق بـ ﴿امنن﴾، أو ﴿أَمْسِكْ﴾، ويجوز أن يكون متعلقًا بمحذوف حال، من الضمير المستتر في الفعلين، أعني: امنن أو أمسك؛ أي: حال كونك غير محاسب عليه. ﴿وَإِنَّ لَهُ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب، ﴿لَهُ﴾: خبر مقدم لـ ﴿إِنَّ﴾، ﴿عِنْدَنا﴾: حال من الضمير المستكن في خبر ﴿إِنَّ﴾، ﴿لَزُلْفى﴾ اللام: حرف ابتداء. ﴿زلفى﴾. اسم ﴿إِنَّ﴾، ﴿وَحُسْنَ مَآبٍ﴾: معطوف على زلفى، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة.
﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (٤١) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (٤٢) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٤٣) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (٤٤)﴾.
﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿اذْكُرْ﴾: فعل، وفاعل مستتر، ﴿عَبْدَنا﴾: مفعول به، ﴿أَيُّوبَ﴾: بدل منه أو عطف بيان، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ﴾، ولم يذكر ذلك في قصة سليمان، لكمال الاتصال بين سليمان وداود، كأن قصتهما واحدة. ﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان، بدل اشتمال من أيوب، ﴿نادى رَبَّهُ﴾: فعل، وفاعل مستتر، ومفعول به. والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿أَنِّي﴾: ناصب واسمه، ﴿مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به، ﴿بِنُصْبٍ﴾ متعلق به، ﴿وَعَذابٍ﴾: معطوف
415
على نصب، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿أن﴾ وجملة ﴿أن﴾ واسمها في محل النصب بنزع الخافض؛ أي: بأني مسني الشيطان، وجملة قوله: ﴿ارْكُضْ﴾: مقول لقول محذوف تقديره: وقيل له: اركض برجلك. ﴿ارْكُضْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على ﴿أَيُّوبَ﴾، ﴿بِرِجْلِكَ﴾: متعلق بـ ﴿ارْكُضْ﴾، ومفعول ﴿ارْكُضْ﴾ محذوف تقديره الأرض. ﴿هذا مُغْتَسَلٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لذلك القول المحذوف. ﴿بارِدٌ﴾: صفة لـ ﴿مُغْتَسَلٌ﴾، ﴿وَشَرابٌ﴾ معطوف على ﴿مُغْتَسَلٌ﴾، ﴿وَوَهَبْنا﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة على محذوف، يقتضيه السياق تقديره: فاغتسل وشرب، فكشفنا بذلك ما به من ضر، ومسحنا به ما ألم به من أوصاب، ووهبنا له، إلخ. ﴿وَهَبْنا﴾: فعل، وفاعل، معطوف على ذلك المقدر، ﴿لَهُ﴾ متعلق بـ ﴿وَهَبْنا﴾، ﴿أَهْلَهُ﴾: مفعول به. ﴿وَمِثْلَهُمْ﴾: معطوف على أهله. ﴿مَعَهُمْ﴾: ظرف متعلق بمحذوف حال من المثل؛ أي: حال كونه كائنًا معهم، ﴿رَحْمَةً﴾: مفعول لأجله. ﴿مِنَّا﴾: صفة لـ ﴿رَحْمَةً﴾، ﴿وَذِكْرى﴾: معطوف على ﴿رَحْمَةً﴾، ﴿لِأُولِي﴾، صفة لـ ﴿ذِكْرى﴾. ﴿الْأَلْبابِ﴾: مضاف إليه، ﴿وَخُذْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر معطوف على ﴿ارْكُضْ﴾، ﴿بِيَدِكَ﴾: متعلق بـ ﴿خُذْ﴾، ﴿ضِغْثًا﴾ مفعول به، ﴿فَاضْرِبْ﴾ الفاء: عاطفة، ﴿اضرب﴾: فعل، وفاعل مستتر، معطوف على ﴿خُذْ﴾، ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿اضرب﴾، والمفعول محذوف؛ أي: امرأتك. ﴿وَلا تَحْنَثْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿لا﴾: ناهية، جازمة، ﴿تَحْنَثْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر مجزوم بلا الناهية، والجملة معطوفة على جملة ﴿اضرب﴾. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، ﴿وَجَدْناهُ صابِرًا﴾: فعل، وفاعل، ومفعولان، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إن﴾، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿نِعْمَ الْعَبْدُ﴾: فعل، وفاعل، والمخصوص بالمدح محذوف؛ أي: هو، والجملة الفعلية جملة إنشائية لا محل لها من الإعراب. ﴿إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾: ناصب واسمه وخبره، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل المدح.
{وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (٤٩) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ
416
الْأَبْوابُ (٥٠)}.
﴿وَاذْكُرْ عِبادَنا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة، ﴿اذْكُرْ عِبادَنا﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به، معطوف على ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ﴾، ﴿إِبْراهِيمَ﴾: بدل من عبادنا، أو عطف بيان له. ﴿وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ﴾: معطوفان على ﴿إِبْراهِيمَ﴾، ﴿أُولِي﴾: صفة للثلاثة، ﴿الْأَيْدِي﴾: مضاف إليه، مجرور بكسرة مقدرة على الياء المحذوف، اجتزاء عنها بكسرة الدال؛ لأنه اسم منقوص. ﴿وَالْأَبْصارِ﴾: معطوف على ﴿الْأَيْدِي﴾. ﴿إِنَّا﴾: ناصب واسمه، وجملة ﴿أَخْلَصْناهُمْ﴾: خبره، وجملة ﴿إن﴾: مستأنفة، مسوقة لتعليل ما وصفوا به من علو الرتبة، وسموها بالعلم والعمل. ﴿بِخالِصَةٍ﴾: متعلق بـ ﴿أَخْلَصْناهُمْ﴾، والباء، إما للسببية، إن كان ﴿أَخْلَصْناهُمْ﴾ بمعنى:
جعلناهم خالصين، وإما للتعدية، إن كان أخلصناهم، بمعنى: خصصناهم، و ﴿خالصة﴾ صفة لموصوف محذوف؛ أي: بخصلة خالصة. ﴿ذِكْرَى الدَّارِ﴾: إما خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هي ذكرى الدار، أو بدل من خالصة، ﴿ذِكْرَى﴾: مضاف، ﴿الدَّارِ﴾: مضاف إليه، فهي من إضافة المصدر إلى المفعول؛ أي: ذكرهم الدار الآخرة. ﴿وَإِنَّهُمْ﴾: الواو عاطفة، ﴿إِنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه. ﴿عِنْدَنا﴾: حال من اسم ﴿إن﴾، ﴿لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ﴾: اللام: حرف ابتداء، ﴿من المصطفين﴾: خبر ﴿إن﴾، ﴿الْأَخْيارِ﴾: صفة له، وجملة ﴿إن﴾ معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى. ﴿وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ﴾: فعل، وفاعل مستتر ومفعول به، معطوف على ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ﴾، ﴿وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ﴾: معطوفان على إسماعيل، ﴿وَكُلٌّ﴾ ﴿الواو﴾: حالية، ﴿كُلٌّ﴾: مبتدأ، وسوّغ الابتداء به، قصد العموم ﴿مِنَ الْأَخْيارِ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، حال من الثلاثة المذكورة قبله. ﴿هذا ذِكْرٌ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة، مسوقة للإيذان بانتهاء ما تقدم، والشروع في موضوع آخر. ﴿وإن﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إن﴾: حرف نصب ﴿لِلْمُتَّقِينَ﴾: خبر ﴿إن﴾ مقدم على اسمها، ﴿لَحُسْنَ﴾ اللام: حرف ابتداء، ﴿حسن﴾: اسمها مؤخر، ﴿مَآبٍ﴾: مضاف إليه، من إضافة الصفة إلى الموصوف، وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة. ﴿جَنَّاتِ عَدْنٍ﴾: بدل، أو عطف بيان لحسن مآب، ﴿مُفَتَّحَةً﴾: حال من جنات عدن، والعامل فيها ما في المتقين، من معنى
417
الفعل، ﴿لَهُمُ﴾: متعلق بـ ﴿مُفَتَّحَةً﴾، ﴿الْأَبْوابُ﴾: نائب فاعل لـ ﴿مُفَتَّحَةً﴾؛ لأنه اسم مفعول من فتّح المضعف.
﴿مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (٥١) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (٥٢) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (٥٣) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (٥٤)﴾.
﴿مُتَّكِئِينَ﴾ حال من الهاء في ﴿لَهُمُ﴾، والعامل فيها مفتحة، ﴿فِيها﴾: متعلق بـ ﴿مُتَّكِئِينَ﴾، وجملة ﴿يَدْعُونَ﴾: إما مستأنفة لبيان حالهم، أو حال من الهاء المذكور، أو من الضمير المستكن في ﴿مُتَّكِئِينَ﴾، ﴿فِيها﴾: حال من فاعل يدعون؛ أي: حال كونهم فيها. ﴿بِفاكِهَةٍ﴾: متعلق بـ ﴿يَدْعُونَ﴾، ﴿كَثِيرَةٍ﴾: صفة لـ ﴿فاكهة﴾، ﴿وَشَرابٍ﴾: معطوف على فاكهة، ﴿وَعِنْدَهُمْ﴾: عاطفة، ﴿عِنْدَهُمْ﴾: خبر مقدم، ﴿قاصِراتُ الطَّرْفِ﴾: مبتدأ مؤخر، ﴿أَتْرابٌ﴾: صفة لـ ﴿قاصِراتُ﴾، والجملة الاسمية معطوفة على جملة ﴿إن﴾. ﴿هذا﴾: مبتدأ، ﴿ما﴾: اسم موصول في محل الرفع خبر ﴿تُوعَدُونَ﴾: فعل، ونائب فاعل، والجملة صلة الموصول، والعائد محذوف تقديره: هذا ما توعدونه. ﴿لِيَوْمِ الْحِسابِ﴾: متعلق بـ ﴿تُوعَدُونَ﴾، والجملة في محل النصب مقول لقول محذوف؛ أي: وتقول لهم الملائكة: هذا ما توعدون ليوم الحساب. واللام: فيه للتعليل؛ أي: لأجل يوم الحساب. ﴿إِنَّ هذا﴾: ناصب واسمه. ﴿لَرِزْقُنا﴾ اللام: حرف ابتداء، و ﴿رزقنا﴾: خبر ﴿إن﴾، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها. ﴿ما﴾: نافية حجازية، أو تميمية. ﴿لَهُ﴾: خبر مقدم. ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿نَفادٍ﴾: مبتدأ مؤخر، أو اسم ما مؤخر، والجملة في محل النصب حال من ﴿رزقنا﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿باطِلًا﴾؛ أي: عبثًا، ولعبًا. ﴿فَوَيْلٌ﴾؛ أي: هلاك. ﴿كَالْفُجَّارِ﴾ من الفجر، وهو شق الشيء شقًا واسعًا، والفجور: شق سر الديانة. ﴿مُبارَكٌ﴾؛ أي: كثير المنافع الدينية والدنيوية، فإن البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء، والمبارك ما فيه ذلك الخير. ﴿لِيَدَّبَّرُوا﴾ أصله: يتدبروا فأدغمت التاء في الدال، بعد قلبها
418
دالاً؛ أي: ليتفكروا في آياته بالفكر السليم، فإن التدبر عبارة عن النظر في عواقب الأمور، والتفكر: تصرف القلب في معاني الأشياء، لدرك المطلوب. ﴿وَلِيَتَذَكَّرَ﴾؛ أي: ليتعظ. ﴿الْأَلْبابِ﴾ جمع لب، وهو العقل، وقد يجمع على ألب، ويفك إدغامه في ضرورة الشعر. قال الكميت:
إِلَيْكُمْ ذَوِيْ آلِ النَّبِيِّ تَطَلَّعَتْ نَوَازعُ مِنْ قَلْبِيْ ظِمَاءٌ وَأَلْبُبُ
﴿إِذْ عُرِضَ﴾ يقال: عرض له أمر كذا إذا ظهر، وعرضته له؛ أي: أظهرته، وعرض الجند إذا أمرهم بالعرض عليه ونظر ما حالهم. ﴿الصَّافِناتُ﴾ جمع صافن لا صافنة؛ لأنها لذكور الخيل. وصفة المذكر الذي لا يعقل، يجمع هذا الجمع مطردا، كما عرف في النحو، والصفن: الجمع بين الشيئين ضامًا بعضهما إلى بعض، يقال: صفن الفرس قوائمه، إذا قام على ثلاث وثنى الرابعة؛ أي: قلب أحد حوافره، وقام على طرف سنبك يد أو رجل، والسنبك: طرف مقدم الحافر، وهو من الصفات المحمودة في الخيل، لا يكاد يتفق إلا في العربي الخالص، وقد صفن الفرس من باب جلس، والصافن من الناس الذي يصف قدميه، وجمعه صفون كما في «المختار»، وعبارة الزمخشري: الصفون لا يكاد يوجد في الهجن، وإنما هو في العراب الخلص، وقيل: وصفها بالصفون، والجودة ليجمع ما بين الوصفين المحمودين واقفة وجارية، يعني: إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإذا جرت كانت سراعًا خفافًا، في جريها.
﴿الْجِيادُ﴾: جمع جواد، وهو السابق أو جمع جود، وهو الذي يسرع في جريه تشبيهًا له بالمطر الجود، قال في «القاموس»: الجواد: السخي، والجمع: الأجواد. والجيّد ضد الرديء. والجمع: الجياد، وقيل: الجواد: هو الفرس الذي يجود عند الركض؛ أي العدو. وفي أدب الكاتب لابن قتيبة: ويقال للفرس: عتيق، وجواد، وكريم، ويقال للبرذون، والبغل، والحمار: فاره.
والسوابق من الخيل: أولها: السابق. ثم: المصلي، وذلك لأن رأسه عند صلا السابق، ثم الثالث والرابع، كذلك إلى التاسع والعاشر: السكيت، ويقال أيضًا: السكيت مشددًا، فما جاء بعد ذلك لم يعتد به. والفسكل الذي يجيء في
419
الحلبة آخر الليل، هذا ما أورده ابن قتيبة. وقد سموا. الثالث: المتلي؛ لأنه يتلي الثاني، وسموا. الرابع: التالي، وسموا. الخامس: المرتاح، وسموا. السادس: العاطف، وسموا. السابع: المؤمل، وسموا. الثامن: الحظي، وسموا. التاسع: اللطيم.
﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ﴾ والخير: المال الكثير، والمراد به: الخيل التي شغلته عليه السلام، لأنها مال. ﴿مَسْحًا﴾ المسح: القطع. وفي «المختار»: ومسحه بالسيف قطعه. والجمهور: على أن المراد به هنا: القطع من قولهم: مسح علاوته؛ أي: ضرب عنقه، وقطع رأسه، والعلاوة بالكسر: أعلى الرأس أو العنق. قال في «المفردات»: مسحته بالسيف كناية عن الضرب. ﴿بِالسُّوقِ﴾ والسوق: جمع ساق كدور ودار. والساق: ما بين الكعبين: كعب الركبة وكعب القدم. ومن غريب أمر الساق، أن له العديد من المعاني، فأولها، وهو المراد هنا: أنه ما بين الكعب والركبة مؤنث، وجمعه: سوق، وسيقان، وأسوق، وساق الشجر: جذعها، ومن معانيه: ساق الحمام والغراب نباتان، وساق حر ذكر القمارى، ويقال: كشف الأمر عن ساقه؛ أي: اشتد وعظم، وقامت الحرب على ساق؛ أي: اشتدت وولدت المرأة ثلاثة بنين، على ساق واحدة؛ أي: بعضهم في إثر بعض لا جارية بينهم، والحديث في هذه المادة يطول، فنحيل القارىء إلى المعاجم. ﴿وَالْأَعْناقِ﴾ جمع: عنق.
﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ﴾ الفتنة: الاختبار والابتلاء؛ أي: ابتليناه بسلب ملكه، وكان ملكه مرتبًا في لبس خاتمه، فإذا لبسه سخرت له الجن، والإنس، والرياح، وغيرها، وإذا نزعه زال عنه الملك، اهـ شيخنا. وكان خاتمه من الجنة، نزل به آدم كما نزل بعصى موسى، والحجر الأسود المسمى باليمين، وبعود البخور، وبأوراق التين ساترًا عورته بها. وقد نظم الخمسة بعضهم في قوله:
420
اهـ شيخنا. وفي «القرطبي»: قال جابر بن عبد الله: قال النبي - ﷺ -: «كان نقش خاتم سليمان بن داود، لا إله إلا الله، محمد رسول الله» اهـ.
﴿وَأَلْقَيْنا﴾ الإلقاء: الطرح. ﴿عَلى كُرْسِيِّهِ﴾ الكرسي اسم لما يقعد عليه، والمراد: سريره المشهور. ﴿جَسَدًا﴾ قال في «المفردات»: الجسد: الجسم، لكنه أخص. قال الخليل: لا يقال الجسد لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه، وأيضا فإن الجسد، يقال لما له لون، والجسم: يقال لما لا يبين له لون كالماء والهواء، وقال في «أنوار المشارق»: الفرق بين الجسد والبدن أن: الأول: يعم لذي الروح وغيره، ويتناول الرأس والشوى. والثاني: مخصوص بذي الروح، ولا يتناولهما.
﴿لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ﴾؛ أي: لا تنتقل إلى غيري. ﴿رُخاءً﴾؛ أي: لينة طيبة لا تزعزع. والرخاء: الريح اللينة من قولهم: شيء رخو كما في «المفردات». وفي «الفتوحات المكية»: أن الهواء، لا يسمى ريحًا إلا إذا تحرك، وتموج، فإن اشتدت حركته كان زعزعًا، وإن لم تشتد كان رخاء، وهو ذو روح يعقل كسائر أجزاء العالم، وهبوبه تسبيحه تجري به الجواري، ويطفأ به السراج، وتشتعل به النار، وتتحرك المياه والأشجار، ويموج البحر، وتزلزل الأرض، ويزجي السحاب. انتهى.
﴿حَيْثُ أَصابَ﴾؛ أي: أراد، وقصد في لغة حمير وهجر. وفي «القاموس»: الإصابة: القصد؛ أي: حيث قصد، وأراد من النواحي والأطراف، وقد حكى الزجاج عن العرب، أنها تقول: أصاب الصواب فأخطأ الجواب. قال الشاعر:
وَآدَمُ مَعَهُ أُنْزِلَ الْعُوْدُ وَالْعَصَا لِمُوْسَى مِنَ الآسِ النَّبَاتِ الْمُكَرَّمِ
وَأَوْرَاقُ تِيْنٍ وَالْيَمِيْنُ بِمَكَّةٍ وَخَتْمُ سُلَيْمَانَ النَّبِيِّ الْمُعَظَّم
أَصَابَ الْكَلامَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ لَدَى الْمُفَصَّلْ
﴿كُلَّ بَنَّاءٍ﴾ وهو مبالغة بأن اسم الفاعل من بني. وكانوا يعملون له - عليه السلام - ما يشاء. ﴿وَغَوَّاصٍ﴾ مبالغة غائص، اسم فاعل من غاص يغوص غوصًا. وهو الدخول تحت الماء، وإخراج شيء منه. ﴿مُقَرَّنِينَ﴾ جمع مقرّن اسم مفعول من قرّن المضعف، يقال: قرّنت البعيرين إذا جمعت بينهما، وقرّنت على التكثير
421
كما في الآية. وقال ابن الشيخ: ﴿مُقَرَّنِينَ﴾: صفة لآخرين، وهو اسم مفعول من باب التفعيل، منقول من قرنت الشيء بالشيء؛ أي: وصلته به، وشدد العين للمبالغة، والكثرة.
﴿فِي الْأَصْفادِ﴾؛ أي: الأغلال، جمع صفد محركًا، وهو القيد. وفي «المختار»: صفده شده وأوثقه من باب ضرب، وكذا صفّده تصفيدًا، والصفد بفتحتين، والصفاد بالكسر: ما يوثق به الأسير من قد، وقيد، وغل، والأصفاد: القيود، واحدها صفد بالتحريك. قال عمرو بن كلثوم:
فَآبُوا بالنِّهَابِ وَبِالسَّبَايَا وَأُبْنَا بِالْمُلُوْكِ مُصَفَّدِيْنَا
﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ﴾ وهو ابن عيصو بن إسحاق، فليس من بني إسرائيل؛ لأنهم من نسل يعقوب، وهو ابن العيص أخي يعقوب. والذي في «القاموس»: أن عيصو بن إسحاق بواو بعد الصاد، بوزن بيعوا أمرًا بالبيع للجماعة، اهـ. وفي «التحبير»: أيوب هو ابن موص بن رعبل بن عيص بن إسحاق، وعاش ثلاثا وستين سنة، وكانت مدة بلائه سبع سنين، اهـ. وقيل: كانت عشرا. وقيل: ثمانية عشر، وقيل: أربعين، اهـ.
﴿بِنُصْبٍ﴾ النصب بضم فسكون، وبفتح فسكون، وبضمتين: الداء، والبلاء، قيل: جمع نصب كأسد وأسد، وقيل: هو لغة في النصب. ﴿ارْكُضْ بِرِجْلِكَ﴾ الركض: الضرب، والدفع القوي بالرجل، فمتى نسب إلى الراكب، فهو إغراء مركوبه، وحثه للعدو، نحو: ركضت الفرس. ومتى نسب إلى الماشي فوطىء الأرض، كما في الآية، كذا قاله الراكب. والرجل: القدم أو من أصل الفخذ إلى رؤوس الأصابع. ﴿مُغْتَسَلٌ﴾ والمغتسل: هو المكان الذي يغتسل فيه، والماء الذي يغتسل به، والاغتسال: غسل البدن. وغسلت الشيء غسلا، أسلت عليه الماء، فأزلت درنه. ﴿وَشَرابٌ﴾ والشراب: هو ما يشرب، ويتناول من كل مائع ماء كان، أو غيره.
﴿ضِغْثًا﴾ والضغث: الحزمة الصغيرة من الحشيش، والقضبان، ونحوه. وفي
422
«القاموس»: والضغث بالكسر: قبضة حشيش مختلطة الرطب باليابس، واضطغثه: احتطبه. وفي «المفردات»: الضغث: قبضة ريحان أو حشيش. وبه شُبِّه الأحلام المختلطة التي لا يتبين حقائقها، انتهى. وأضغاث أحلام: رؤيا لا يصح تأويلها لاختلاطها.
﴿وَلا تَحْنَثْ﴾ يقال: حنث في يمينه إذا لم يف بها. وقال بعضهم: الحنث: الإثم. ويُطلق على فعل ما حلف على تركه، وترك ما حلف على فعله، من حيث إن كل واحد منهما سبب له.
﴿أُولِي الْأَيْدِي﴾؛ أي: ذوي الأيدي. جمع يد بمعنى: الجارحة في الأصل. أريد بها: القوة مجازًا بمعونة المقام. وذلك لكونها سبب التقوي على أكثر الأعمال، وبها يحصل البطش، والقهر، ولم تجمع القوة لكونها مصدرًا يتناول الكثير. ﴿وَالْأَبْصارِ﴾ جمع بصر، حمل على بصر القلب، ويسمى البصيرة، وهي القوة التي يتمكن بها الإنسان، من إدراك المعقولات. قال في «المفردات»: البصر يقال للجارحة الناظرة، وللقوة التي فيها، ويقال لقوة القلب المدركة: بصيرة، وبصر، ولا يكاد يقال للجارحة: بصيرة، وجمع البصر أبصار، وجمع البصيرة بصائر.
﴿لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ﴾ بفتح الفاء والنون، جمع مصطفى، أصله: مصطفيين بالياءين، وبكسر الأولى. ﴿الْأَخْيارِ﴾ جمع خير كشر، وأشرار، على أنه اسم تفضيل، أو خيّر بالتشديد، أو خير بالتخفيف، كأموات، جمع ميت أو ميت.
﴿بِفاكِهَةٍ﴾ والفاكهة: هي كل ما يؤكل للتلذذ، لا للغذاء. ﴿أَتْرابٌ﴾ أسنانهن واحدة، بنات ثلاث وثلاثين سنة، جمع ترب بالكسر، وهي اللدة؛ أي: من ولد معك، والهاء في اللدة، عوض عن الواو الذاهبة من أوله؛ لأنه من الولادة نظير عدة من الوعد. ﴿ما لَهُ مِنْ نَفادٍ﴾ قال في «المفردات»: النفاد: الفناء.
423
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ وضع الموصول موضع ضميرهم، للإشعار بعلية الصلة، لاستحقاق الويل.
ومنها: المقابلة بين المؤمنين والمفسدين، وبين المتقين والفجار في قوله: ﴿أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨)﴾. وهذه من ألطف أنواع البديع.
ومنها: التأكيد في قوله: ﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ﴾ للدلالة على أن اعترافه، وندمه عن صميم القلب، لا لتحقيق مضمون الخبر.
ومنها: إضمار ضمير الشمس في قوله: ﴿حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ﴾ من غير سبق ذكرها، لدلالة العشي عليها، إذ لا شيء يتوارى حينئذ غيرها.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ﴾. كني عن العقر والذبح بالمسح، وهي كناية بليغة.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ﴾. قال في «بحر العلوم»: والأقرب أن المراد: تمثيل كفهم ومنعهم عن الشرور، بالتقرين في الصفد، يعني: أن قولهم لا يمكن تقييدهم بالأصفاد، والأغلال، حقيقة مسلم، ولكن ليس الكلام محمولًا على حقيقته؛ لأنهم لما كانوا مسخرين مذللين لطاعته عليه السلام - بتسخير الله إياهم له - كان قادرًا على كفهم عن الإضرار بالخلق، فشبّه كفهم عن ذلك بالتقرين في الأصفاد، فأطلق على الكف المذكور لفظ التقرين استعارة أصلية، ثم اشتق من التقرين - يعني: المعنى المجازي - لفظ مقرنين بمعنى: ممنوعين عن الشرور. والإضرار استعارة تبعية، انتهى.
ومنها: الطباق بين ﴿فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ﴾؛ لأنهما بمعنى: أعط من شئت، وامنع من شئت.
424
ومنها: مراعاة الأدب في قوله: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ﴾. أسند الضرر إلى الشيطان أدبًا، والخير والشر بيد الله تعالى.
ومنها: الاستعارة التصريحية في قوله: ﴿أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ﴾. استعار الأيدي للقوة في العبادة، والأبصار للبصيرة في الدين. وفيه أيضًا فن التعرض، بأن من لم يكن من عمال الله، ولا من المستبصرين في دين الله، خليق بالتوبيخ وأسوأ المذام.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ﴾.
ومنها: الاقتصار على الفاكهة في قوله: ﴿يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ﴾ إيذانًا بأن مطاعمهم هناك ليست للتغذي، وإقامة الجسم، ولكن لمحض اللذة والتفكه.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
425
قال الله سبحانه جلَّ وعلا:
﴿هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (٥٦) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (٥٨) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (٥٩) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (٦٠) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (٦١) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (٦٢) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (٦٣) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (٧٤) قَالَ يَاإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (٧٥) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله (١) سبحانه لما وصف ثواب المتقين أولًا.. أردفه بوصف عقاب الطاغين، ليكون ذلك متممًا له، فيأتي الوعيد عقب الوعد، والترهيب إثر الترغيب، فيكون المرء بين رجاء في الثواب، وخوف من العقاب، فيزداد في الطاعة، وينأى عن المعصية، وتلك وسيلة التهذيب، والتأديب التي ترقى بها
(١) المراغي.
426
النفوس إلى سبيل الكمال، في دنياها وآخرتها.
قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما ذكر في أول السورة، أن محمدًا - ﷺ - دعا إلى التوحيد، وأثبت أنه نبي، ودعا إلى الحشر والنشر، فقابلوه بالسفاهة، وقالوا: إنه ساحر كذاب، ثم صبّره على ذلك، وقص عليه من قصص الأنبياء، قبله ما يكون سلوة له في الصبر على الأذى، ثم أردف ذلك بذكر ثواب أهل الجنة، وعذاب أهل النار.. عاد هنا إلى تقرير هذه المطالب، التي ذكرها أول السورة، وهي تقرير التوحيد، والنبوة، والبعث.
قوله تعالى: ﴿إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَرًا...﴾ الآيات، قد سلف (١) ذكر هذه القصة في سور البقرة، والأعراف، والحجر، والإسراء، والكهف، كما ذكرت هنا، والعبرة منها النهي عن الحسد، والكبر؛ لأن إبليس إنما وقع فيما وقع فيه بسببهما، والكفار إنما نازعوا محمدًا - ﷺ - بسببهما، وكرر ذكرها ليكون زاجرا لهم عنهما، والمواعظ، والنصائح باب من أبواب التكرير، للمبالغة في النصح والإرشاد.
التفسير وأوجه القراءة
٥٥ - ﴿هذا﴾ قال الزجاج: خبر مبتدأ محذوف؛ أي: الأمر في حق المؤمنين، هذا الذي ذكرناه. فيوقف على هذا، قال ابن الأنباري: وهذا وقف حسن، ثم يبتدىء، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: هذا المذكور للمؤمنين، وكلاهما من فصل الخطاب، وقال ابن الأثير: ﴿هذا﴾ في هذا المقام من الفصل، الذي هو خير من الوصل، وهي علاقة وكيدة بين الخروج من الكلام إلى كلام آخر، وقال بعضهم (٢): هذا من قبيل، ما إذا فرغ الكاتب من فصل، وأراد الشروع في فصل آخر، منفصل عما قبله، قال: ﴿هذا﴾؛ أي: احفظ ما كان كيت وكيت، وانتظر إلى ما يجيىء.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
والمعنى؛ أي: هذا الذي تقدم، هو ما يكون جزاء للمؤمنين، كفاء ما قدموا من أعمال صالحة.
﴿وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ﴾؛ أي: وإن للذين طغوا على الله، وكذبوا الرسل؛ أي: وإن للكافرين الخارجين عن طاعة الله تعالى، المكذبين لرسله ﴿لَشَرَّ مَآبٍ﴾ وأقبح مرجع في الآخرة وشر منقلب ينقلبون إليه،
٥٦ - ثم بين ذلك فقال ﴿جَهَنَّمَ﴾ بدل من ﴿شر مآب﴾، أو عطف بيان له أو منصوب بأعني. وقوله: ﴿يَصْلَوْنَها﴾ حال من المستكن في ﴿لِلطَّاغِينَ﴾؛ أي: حال كونهم يدخلونها، ويجدون حرها يوم القيامة، ولكن اليوم مهدوا لأنفسهم. ﴿فَبِئْسَ الْمِهادُ﴾؛ أي: قبح الفراش لهم جهنم، والمهد، والمهاد: الفراش، مستعار من فراش النائم، إذ لا مهاد في جهنم، ولا استراحة، وإنما مهادها نار، وغواشيها نار، كما قال في آية أخرى ﴿لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ﴾؛ أي: فراش من تحتهم. و ﴿مِنْ﴾ تجريدية. ﴿وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ﴾؛ أي: أغطية.
والمعنى: أي هم يدخلون جهنم، ويقاسون شديد حرها، فبئس شرابًا هي.
٥٧ - ثم أمرهم أمر تهكم وسخرية، بذوق هذا العذاب. فقال: ﴿هذا فَلْيَذُوقُوهُ﴾؛ أي: ليذوقوا هذا العذاب، والذوق: وجود الطعم بالفم، وأصله في القليل، لكنه يصلح للكثير الذي يقال له: الأكل، وكثر استعماله في العذاب تهكمًا.
وارتفاع ﴿حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ﴾ على أنهما خبران لمبتدأ محذوف؛ أي: ذلك العذاب حميم؛ أي: ماء حار بلغ نهاية الحرارة، ﴿وَغَسَّاقٌ﴾؛ أي: قيح وصديد يسيل من أهل النار، وقيل: هذا في موضع رفع بالابتداء، و ﴿حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ﴾ خبران له، فيكون الكلام على التقديم والتأخير، فتقدير الآية: حميم وغساق فليذوقوه، قاله الفراء والزجاج، والحميم: الماء الذي انتهى حره، والغساق: ما يسيل من جلد أهل النار من القيح والصديد، كما مر آنفًا. وفي «القاموس»: الغساق: الماء البارد المنتن، لو قطرت منه قطرة في المشرق، لنتنت أهل المغرب، ولو قطرت قطرة في المغرب، لنتنت أهل المشرق، وقال الحسن: هو عذاب لا يعلمه إلا الله، إن ناسًا أخفوا لله طاعة، فأخفى لهم ثوابًا في قوله:
﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ﴾، وأخفوا معصية، فأخفى لهم عقوبة، وقيل: هو مستنقع في جهنم، يسيل إليه سم كل ذي سم من عقرب وحية، يغمس فيه الآدمي، فيسقط جلده ولحمه عن العظام، وقيل: هو ما يسيل من فروج النساء الزواني، ومن نتن لحوم الكفرة وجلودهم، وفي «التأويلات النجمية»: ﴿هذا﴾ الذي مهدوا اليوم ﴿فَلْيَذُوقُوهُ﴾ يوم القيامة، يعني: قد حصلوا اليوم معنى صورته ﴿حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ﴾ يوم القيامة، ولكن مذاقهم، بحيث لا يجدون ألم عذاب، ما حصلوه بسوء أعمالهم، فليذوقوه يوم القيامة، انتهى. فإذا تنعم المؤمنون بالفاكهة، والشراب.. تعذب الكافرون بالحميم والغساق، وقال مجاهد، ومقاتل: الغساق: هو الثلج البارد، الذي قد انتهى برده. وتفسير الغساق بالبارد، أنسب بما تقتضيه لغة العرب، ومنه قول الشاعر:
إِذَا مَا تَذَكَّرْتَ الْحَيَاةَ وَطِيْبَهَا إِلَيَّ جَرَى دَمْعٌ مِنَ اللَّيْلِ غَاسِقُ
أي: بارد. وأنسب أيضًا بمقابلة الحميم.
والخلاصة: أي لهم في جهنم ماء حار، يشوي الوجوه، وماء بارد، لا يُستطاع شربه لبرودته.
وقرأ ابن أبي إسحاق، وقتادة، وابن وثاب، وطلحة، وحمزة، والكسائي، وحفص، والفضل، وابن سعدان، وهارون عن أبي عمرو: ﴿غساق﴾ بتشديد السين. وقرأ باقي السبعة: بتخفيف السين، وهما لغتان بمعنى واحد، كما قال الأخفش. وقيل: معناهما مختلف. فمن خفف، فهو اسم مثل: عذاب، وجواب، وصواب، ومن شدد قال: هو اسم فاعل للمبالغة، نحو: ضراب، وقتال.
٥٨ - ثم زاد في التهديد، وبالغ في الوعيد. فقال: ﴿وَ﴾ عذاب ﴿آخَرُ﴾ أو مذوق آخر. وهو مبتدأ خبره ﴿مِنْ شَكْلِهِ﴾؛ أي: كائن لهم من شكل الحميم، والغساق المذكورين، ومثلها في الشدة والفظاعة، وقوله: ﴿أَزْواجٌ﴾ صفة ﴿وَآخَرُ﴾. ومعنى ﴿أَزْواجٌ﴾؛ أي: أجناس، وأنواع، وأشباه؛ أي: وعذاب آخر ذو ضروب، وأجناس كثيرة، كائن لهم من شكل الحميم والغساق المذكورين، ومثلهما في الشدة والفظاعة.
وحاصل معنى الآية (١): أن لأهل النار حميمًا وغساقًا، وأنواعًا أخر من العذاب، من مثل الحميم والغساق في الشدة والفظاعة، وفي «التأويلات النجمية»؛ أي: فنون أخر، مثل ذلك العذاب، كائن لهم، يشير به إلى أن لكل نوع من المعاصي، نوعًا آخر من العذاب، كما أن كل بذر يزرعونه يكون له ثمرة تناسب البذر.
والمعنى (٢): أي ليس الأمر مقصورًا على هذا فحسب، بل لهم فيها أشباه، وأمثال من مثله فظاعةً وشدةً، كالزقوم، والسموم، والزمهرير.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿وَآخَرُ﴾ على الإفراد. فقيل: مبتدأ خبره محذوف تقديره: ولهم عذاب آخر، وقيل: خبره الجملة بعده؛ لأن قوله: ﴿أَزْواجٌ﴾ مبتدأ، و ﴿مِنْ شَكْلِهِ﴾: خبره، والجملة خبر ﴿آخَرُ﴾، وقيل: خبره ﴿أَزْواجٌ﴾، و ﴿مِنْ شَكْلِهِ﴾: في موضع الصفة، وجاز أن يخبر بالجمع عن الواحد، من حيث هو درجات، ورتب من العذاب، أو سمي كل جزء من ذلك الآخر، باسم الكل. وقرأ الحسن، ومجاهد، والجحدري، وابن جبير، وعيسى، وأبو عمرو: ﴿وأخر﴾ بضم الهمزة على الجمع، وهو مبتدأ، و ﴿مِنْ شَكْلِهِ﴾ في موضع الصفة، و ﴿أَزْواجٌ﴾: خبره؛ أي: ومذوقات أخر من شكل هذا المذوق، ومثله في الشدة والفظاعة أزواج وأجناس كثيرة. وأنكر (٤) أبو عمرو على الجمهور قراءتهم بالإفراد ﴿وَآخَرُ﴾ مفردًا مذكرًا لقوله: ﴿أَزْواجٌ﴾. وأنكر عاصم الجحدري قراءة أبي عمرو، وقال: لو كانت كما قرأ لقال: من شكلها. وقرأ مجاهد: ﴿مِنْ شَكْلِهِ﴾ بكسر الشين، والجمهور بفتحها، وهما لغتان بمعنى: المثل، والضرب.
٥٩ - وقال خزنة جهنم لرؤساء الكفار في أتباعهم، إذا دخلوا النار: ﴿هذا﴾ الجم الغفير ﴿فَوْجٌ﴾ وجمع ﴿مُقْتَحِمٌ﴾ وداخل ﴿مَعَكُمْ﴾ في النار؛ أي (٥) هذا جمع
(١) الشوكاني.
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط.
(٤) الشوكاني.
(٥) روح البيان.
430
كثيف، قد دخل معكم النار، كما كانوا قد دخلوا معكم في الضلال.
والمعنى: يقول الخزنة لرؤساء الطاغين، إذا دخلوا النار مشيرين إلى الأتباع الذين أضلوهم: ﴿هَذَا﴾؛ أي: الأتباع فوج، وجمع تبعكم في دخول النار بالاضطرار، كما كانوا قد تبعوكم في الكفر والضلالة بالاختيار، فانظروا إلى أتباعكم لم يحصل بينكم وبينهم تناصر، وانقطعت مودتكم، وصارت عداوة، قيل: يضرب الزبانية المتبوعين، والأتباع معًا بالمقامع، فيسقطون في النار خوفًا من تلك المقامع. فذلك هو الاقتحام.
أي: وهذا حكاية لقول الملائكة، الذين هم خزنة النار، وذلك أن القادة، والرؤساء إذا دخلوا النار ثم دخل بعدهم الأتباع، قالت الخزنة للقادة: هذا فوج، يعنون: الأتباع ﴿مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ﴾؛ أي: داخل ومدفوع معكم إلى النار.
وقوله: ﴿لا مَرْحَبًا بِهِمْ﴾ من قول القادة والرؤساء، لما قالت لهم الخزنة ذلك قالوا؛ أي: الرؤساء والقادة في شأن الأتباع: ﴿لا مَرْحَبًا بِهِمْ﴾؛ أي: لا اتسعت منازلهم في النار.
والمعنى: لا كرامة لهم، وجملة (١) ﴿لا مَرْحَبًا بِهِمْ﴾ دعائية، لا محل لها من الإعراب أو صفة للفوج أو حال منه، أو بتقدير القول؛ أي: مقولًا في حقهم: لا مرحبًا بهم. وقيل: إنها من تمام قول الخزنة، والأول أولى كما يدل عليه جواب الأتباع الآتي.
وجملة ﴿إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ﴾؛ أي: داخلون فيها، كما دخلنا فيها تعليل من جهة القائلين؛ أي: إنهم صالوا النار كما صليناها، ومستحقون لها كما استحققناها. أو تعليل من جهة الخزنة، لاستحقاقهم الدعاء عليهم؛ أي: داخلون النار بأعمالهم السيئة، وباستحقاقهم.
وقوله: ﴿لا مَرْحَبًا﴾ مصدر (٢) بمعنى: الرحب، وهو السعة. و ﴿بِهِمْ﴾ بيان
(١) الشوكاني.
(٢) روح البيان.
431
للمدعو عليهم، وانتصابه على أنه مفعول به لفعل مقدر؛ أي: لا يصادفون رحبًا وسعةً، أو لا يأتون رحب عيش، ولا وسعة مسكن، ولا غيره.
وحاصله: لا كرامة لهم، أو على المصدر؛ أي: لا رحبهم عيشهم. ومنزلهم رحبًا بل ضاق عليهم، يقول الرجل لمن يدعوه: مرحبًا؛ أي: أتيت رحبًا من البلاد، وأتيت واسعًا وخيرًا كثيرًا قاله الكاشفي. وقال غيره: يُقصد به: إكرام الداخل، وإظهار المسرة بدخوله، ثم يدخل عليه كلمة ﴿لا﴾ في دعاء السوء.
وفي بعض شروح الحديث: التكلم بكلمة ﴿مَرْحَبًا﴾ سنة اقتداءً بالنبي - ﷺ -، حيث قال: مرحبًا يا أم هانىء حين ذهبت إلى رسول الله عام الفتح. وهي بنت أبي طالب، أسلمت يوم الفتح، ومن أبواب الكعبة باب يسمى باب أم هانىء، لكون بيتها في جانب ذلك الباب، وقد صح أنه - ﷺ -، قد عُرج به من بيتها.
وقال أبو حيان: والظاهر (١): أن قوله: هذا فوج مقتحم معكم، من قول رؤسائهم بعضهم لبعض. والفوج: الجمع الكثير، وهم الأتباع، ثم دعوا عليهم بقولهم: لا مرحبًا بهم؛ لأن الرئيس إذا رأى الخسيس قد قُرن معه في العذاب.. ساءه ذلك حيث وقع التساوي في العذاب، ولم يكن هو السالم من العذاب وأتباعه في العذاب.
والحاصل: أن الله سبحانه، بعدما وصف مساكنهم ومشاربهم، حكى ما يتناجون به، ويقوله بعضهم لبعض؛ أي: هم يتلاعنون، ويتكاذبون. فتقول الطائفة التي دخلت قبل الأخرى، حين تُقبل التي بعدها مع الخزنة والزبانية: هذا جمع كثيف داخل معكم، فلا مرحبا بهم. قال ابن عباس في تفسير الآية: إن القادة إذا دخلوا النار، ثم دخل بعدهم الأتباع، تقول الخزنة للقادة: هذا فوج داخل النار معكم، فيقول السادة: لا مرحبًا بهم، والمراد بذلك الدعاء عليهم. قال النابغة:
لَا مَرْحَبًا بِغَدٍ وَلا أَهْلًا بِهِ إِنْ كَانَ تَفْرِيْقُ الأَحِبَّةِ فِيْ غَدِ
٦٠ - ثم علل استيجاب الدعاء عليهم بقوله: إنهم صالوا النار؛ أي (٢): إنهم
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
ذائقوا حر النار مثلكم. وهذا كلام من المتبوعين والرؤساء الذين أغووهم، وأدخلوهم في الكفر، وحينئذ يرد عليهم الداخلون من الأتباع، ويقولون لهم: ﴿بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ﴾؛ أي: قال الأتباع، وهم الفوج المقتحم للنار عند سماع ما قال الرؤساء في حقهم، أو قالت الخزنة؛ أي: قالوا لأولئك الرؤساء: بل أنتم أحق منا بما قلتم: لا مرحبًا بكم؛ أي: لا كرامة لكم، فإنكم ﴿أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا﴾ وأغويتمونا، ودعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير ﴿فَبِئْسَ الْقَرارُ﴾؛ أي: قبح المستقر والمنزل لنا، ولكم، والمخصوص بالذم: النار، وهذا كلام يراد به: التشفي منهم؛ لأنه مشترك بينهم، خاطبوا (١) الرؤساء مع أن الظاهر: أن يقولوا بطريق الاعتذار إلى الخزنة: بل هم لا مرحبًا بهم، قصدًا منهم إلى إظهار صدقهم بالمخاصمة مع الرؤساء، والتحاكم إلى الخزنة طمعًا في قضائهم، بتخفيف عذابهم، أو تضعيف عذاب خصمائهم؛ أي: بل أنتم أيها الرؤساء، أحق بما قيل لنا من جهة الخزنة، لإغوائكم إيانا مع ضلالكم في أنفسكم.
وقوله: ﴿أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا﴾ تعليل لأحقيتهم بذلك؛ أي: أنتم قدمتم العذاب أو الصلي لنا، وأوقعتمونا فيه، بتقديم ما يؤدي إليه من العقائد الزائغة، والأعمال السيئة، وتزيينها في أعيننا، وإغرائنا عليها، لا أنا باشرنا من تلقاء أنفسنا، وذلك أن سبب عذاب الأتباع، هو تلك العقائد والأعمال، والرؤساء لم يقدموها، بل الذين قدموها هم الأتباع باختيارهم إياها، واتصافهم بها، والذي قدمه الرؤساء لهم، ما يحملهم عليها من الإغواء والإغراء عليها، وهذا القدر من السببية، كاف لنا ولكم في إسناد تقديم العذاب، أو الصلي إلى الرؤساء. ﴿فَبِئْسَ الْقَرارُ﴾؛ أي: فبئس المقر جهنم، قصدوا بذمها جناية الرؤساء عليهم.
٦١ - ثم حكى عن الأتباع أيضًا: أنهم أردفوا هذا القول بقول آخر، وهو: ﴿قالُوا﴾؛ أي: الأتباع معرضين عن خصومتهم متضرعين إلى الله، داعين على رؤساء الضلال: ﴿رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا﴾ العذاب أو الصلي {فَزِدْهُ عَذابًا ضِعْفًا فِي
(١) روح البيان.
النَّارِ}؛ أي: فزده في النار عذابًا ذا ضعف. والضعف: بأن يزيد عليه مثله. و ﴿مَنْ﴾ يجوز أن تكون شرطية، و ﴿فَزِدْهُ﴾ جوابها، وأن تكون موصولة بمعنى: الذي مرفوعة المحل على الابتداء، والخبر ﴿فَزِدْهُ﴾. والفاء: زائدة لتضمن المبتدأ معنى الشرط، و ﴿ضِعْفًا﴾ صفة لـ ﴿عَذابًا﴾ بمعنى: مضاعفًا، ﴿وفِي النَّارِ﴾ ظرف لـ ﴿زده﴾ أو نعت لـ ﴿عَذابًا﴾.
والمعنى: أي قال الأتباع دعاء على الرؤساء: ربنا، آت من قدم لنا هذا العذاب، عذابًا مضاعفًا في النار، للضلال، وعذابًا للإضلال. كما ورد في الحديث: «من سن سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها». ونحو الآية قوله: ﴿رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ﴾، وقوله: ﴿وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (٦٧) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (٦٨)﴾.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: العذاب الضعف: هو الحيات، والأفاعي، وذلك المضل آذى روح من أضله في الدنيا، فسلط الله عليه المؤذي في الآخرة؛ لأن الجزاء من جنس العمل، فعلى العاقل إصلاح الباطن وتزكيته من الأخلاق الذميمة والوصاف القبيحة، وإصلاح الظاهر وتحليته عن الأقوال الشنيعة، والأعمال الفظيعة، ولا يغتر بالقرناء السوء، فإنهم منقطعون غدًا من كل خلة ومودة، ولا ينفع لأحد إلا القلب السليم، والعلم النافع، والعمل الصالح، اللهم اجعلنا من أهل المحبة والرحبة، ولا تجعلنا من أهل السخط والغضب.
٦٢ - وبعد أن ذكر حديثهم عن أحبابهم في الدنيا، حكى حديثهم عن أعدائهم فيها، فقال: ﴿وَقالُوا﴾؛ أي: وقال المشركون بعضهم لبعض، على سبيل التعجب والتحسر، إذا افتقدوا المؤمنين ولم يجدوهم في النار: ﴿ما لَنا﴾؛ أي: ما بالنا وشأننا. و ﴿ما﴾ استفهامية مبتدأ، و ﴿لَنا﴾ خبره، وهو مثل قوله: ﴿ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ﴾ في أن الاستفهام محمول على التعجب، لا على حقيقته، إذ لا معنى لاستفهام العاقل عن نفسه، والفعل المنفي في قوله: ﴿لا نَرى رِجالًا﴾ حال من ضمير ﴿لَنا﴾؛ أي: أي شيء ثبت لنا، حال كوننا غير رائين رجالًا ﴿كُنَّا﴾ في الدنيا ﴿نَعُدُّهُمْ﴾ ونظنهم ﴿مِنَ الْأَشْرارِ﴾ والأراذل الذين لا خير فيهم، ولا جدوى،
جمع شر، وهو الذي يرغب عنه الكل، يعنون: فقراء المسلمين كانوا يسترذلونهم، ويسخرون منهم مثل: صهيب الرومي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وخباب، وعمار - رضي الله عنهم - وغيرهم من صعاليك المهاجرين، الذين كانوا يقولون لهم: ﴿أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا﴾، سموهم أشرار، إما بمعنى الأراذل والسفلة الذين لا خير فيهم، ولا جدوى، كما يقال: هذا من شر المتاع، أو لأنهم كانوا على خلاف دينهم، فكانوا عندهم أشرارًا.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يريدون أصحاب محمد - ﷺ -، يقول أبو جهل وأضرابه: أين بلال، أين صهيب، أين عمار، أولئك في الفردوس، وا عجبا لأبي جهل، مسكين أسلم ابنه عكرمة، وابنته جويرية، وأسلمت أمه، وأسلم أخوه، وكفر هو. قال:
وَنُوْرًا أَضَاءَ الأَرْضَ شَرْقًا وَمَغْرِبًا وَمَوْضِعُ رِجْلِيْ مِنْهُ أَسْوَدُ مُظْلِمُ
٦٣ - ثم سألوا عن السبب في عدم رؤيتهم، فقالوا: ﴿أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا﴾ بقطع (١) الهمزة على أنها استفهام، والأصل: أاتخذناهم، حذفت همزة الوصل، للاستغناء عنها بهمزة الاستفهام. و ﴿سِخْرِيًّا﴾ بضم السين وكسرها مصدر سخره، زيد فيه ياء النسبة للمبالغة؛ لأن في ياء النسبة زيادة قوة في الفعل، كما قيل: الخصوصية في الخصوص. قالوه إنكارا على أنفسهم، ولوما لها في الاستسخار منهم. فمعنى الاستفهام: الإنكار، والتوبيخ، والتعنيف، واللوم؛ أي: ألأجل أنا قد اتخذناهم في الدنيا سخريا، ولم يكونوا كذلك لم يدخلوا النار. ﴿أَمْ﴾ هم معنا في النار، ولكن ﴿زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ﴾ ومالت، ولم تقع عليهم أبصارنا. و ﴿أم﴾ متصلة معادلة ﴿لاتخذناهم﴾، وفي هذا إنكار على أنفسهم، وتأنيب لها على استسخارهم منهم في الدنيا.
والخلاصة (٢): أن الكفار حين دخلوا النار، ونظروا في جوانبها، ولم يروا المؤمنين، الذين كانوا يسخرون منهم في الدنيا تناجوا، وقالوا: ما بالنا؟ لا نرى
(١) روح البيان.
(٢) المراغي.
الذين كنا نتخذهم في الدنيا سخريًا، ألم يدخلوا النار معنا، أم دخلوها ولكن زاغت عنهم أبصارنا، ولم ترهم.
وقرأ النحويان (١) - أبو عمرو والكسائي - وحمزة ﴿أَتَّخَذْناهُمْ﴾ وصلًا. فقال أبو حاتم، والزمخشري، وابن عطية: صفة لـ ﴿رِجالًا﴾. قال الزمخشري: مثل قوله: ﴿نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ﴾. وقال ابن الأنباري: حال؛ أي: وقد اتخذناهم. وقرأ أبو جعفر، والأعرج، الحسن، وقتادة، وباقي السبعة: بهمزة الاستفهام، لتقرير أنفسهم على هذا، على جهة التوبيخ لها، والأسف؛ أي: اتخذناهم سخريا ولم يكونوا كذلك، وقرأ عبد الله، وأصحابه، ومجاهد، والضحاك، وأبو جعفر، وشيبة، والأعرج، ونافع، وحمزة، والكسائي: ﴿سخريا﴾ بضم السين ومعناها، من السخرة والاستخدام. وقرأ الحسن، وأبو رجاء، وعيسى، وابن محيصن، وباقي السبعة بكسر السين، ومعناها المشهور من السخر، وهو الهزء. قال أبو عبيدة: من كسر جعله من الهزء، ومن ضم جعله من التسخير.
٦٤ - ثم بيّن أن هذا التناجي، سيكون يوم القيامة، وأنه حق لا مرية فيه، فقال: ﴿إِنَّ ذلِكَ﴾ المذكور الذي حدثناك عنه، أيها الرسول من تخاصم أهل النار بعضهم لبعض، ولعن بعضهم بعضًا ﴿لَحَقٌّ﴾؛ أي: لواقع ثابت في الدار الآخرة، لا يتخلف البتة. هو ﴿تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾ خبر لمبتدأ محذوف، والجملة بيان لذلك، وقيل: بيان لحق، وقيل: بدل منه، وقيل: بدل من محل ﴿ذلِكَ﴾، ويجوز أن يكون خبرًا بعد خبر، وهذا على قراءة الجمهور، برفع ﴿تَخاصُمُ﴾.
والمعنى: أن ذلك الذي حكاه الله عنهم لحق، لا بد أن يتكلموا به، وهو تخاصم أهل النار فيها، وما قالته الرؤساء للاتباع، وما قالته الأتباع لهم.
وقرأ الجمهور: ﴿تَخاصُمُ﴾ بالرفع مضافًا إلى ﴿أَهْلِ﴾. وقرأ ابن أبي عبلة، ﴿تخاصمَ أهل﴾ بنصب الميم وجر ﴿أَهْلِ﴾ على أنه بدل من ﴿ذلِكَ﴾ أو بإضمار أعني، وقرأ ابن السميقع ﴿تَخَاصَم﴾ فعلًا ماضيًا، ﴿أَهْلِ﴾: فاعل، فتكون جملة
(١) البحر المحيط.
مستأنفة، وسمى الله تعالى، تلك المفاوضة التي جرت بين رؤساء الكفار، وأتباعهم تخاصمًا؛ لأن قولهم: ﴿لا مَرْحَبًا بِهِمْ﴾، وقول الأتباع: ﴿بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ﴾ هو من باب الخصومة، فسمي التفاوض كله تخاصمًا، لاستعماله عليه.
٦٥ - ﴿قُلْ﴾ يا محمد - ﷺ - لمشركي مكة: ﴿إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ﴾؛ أي: مخوف بعذاب الله تعالى لمن عصى. أنذركم، وأحذركم عذابه على كفركم ومعاصيكم، وقل أيضًا: ﴿وَما مِنْ إِلهٍ﴾ في الوجود موجود ﴿إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ﴾ الذي لا يقبل الشركة، والكثرة؛ أي: لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فلا ملجأ، ولا مفر إلا إليه، يعني: من عرف أنه الواحد، أفرد قلبه له، فكان واحدًا به، وقد فسر قوله عليه السلام: «إن الله وتر يحب الوتر» يعني: القلب المنفرد له. ومن خاصية هذا الاسم: أن من قرأه ألف مرة، خرج الخلائق من قلبه. وما أحسن قول بعضهم:
إِذَا كَانَ مَا تَهْوَاهُ فِيْ الْحُسْنِ وَاحِدًا فَكُنْ وَاحِدًا فِي الْحُبِّ إِنْ كُنْتَ تَهْوَاهُ
﴿الْقَهَّارُ﴾ لكل شيء سواه، ومن الأشياء آلهتهم، فهو يغلبهم، فكيف تكون له شركاء، وأيضًا يقهر العباد بذنوبهم، ومعاصيهم. وقال بعضهم: القهار الذي له الغلبة التامة، على ظاهر كل أمر وباطنه، ومن عرف قهره لعباده، نسي مراد نفسه لمراده، فكان له، وبه، لا لأحد سواه، وخاصية هذا الاسم إذهاب الدنيا، وعظمة ما سوى الله تعالى عن القلب، ومن أكثر ذكره، ظهرت له آثار القهر على عدوه.
٦٦ - ﴿رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا﴾ من المخلوقات؛ أي: مالك جميع العوالم، فكيف يتوهم أن يكون له شريك؟ ﴿الْعَزِيزُ﴾ الذي لا يغالبه مغالب في أمر من أموره، وأيضًا العزيز بالانتقام من المجرمين، فالعزة لله تعالى، وبه التعزز أيضًا. قال الشيخ أبو العباس المرسي - رحمه الله -: والله ما رأيت العز، إلا في رفع الهمة عن المخلوقين، وخاصية هذا الاسم: أن من ذكره أربعين يوما، في كل يوم أربعين مرة.. أعانه الله، وأعزه، فلم يحوجه لأحد من خلقه. ﴿الْغَفَّارُ﴾؛ أي: المبالغ في المغفرة، والستر، والمحو، لمن تاب وآمن وعمل صالحًا، قال بعضهم: الغفار: كثير المغفرة لعباده، والمغفرة: الستر على الذنوب، وعدم
المؤاخذة بها، وما جاء على فعال، فمشعر بترداد الفعل، وخاصية هذا الاسم: وجود المغفرة، فمن ذكره إثر صلاة الجمعة مئة مرة، ظهرت له آثار المغفرة. وقد قال رسول الله - ﷺ -: «من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ويرزقه من حيث لا يحتسب». وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - ﷺ - إذا تضوّر من الليل، قال: «لا إله إلا الله الواحد القهار، رب السموات والأرض وما بينهما، العزيز الغفار». ومعنى تضوّر: تلوّى إذا قام من النوم.
ومعنى قوله: ﴿قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ﴾؛ أي: قل (١) أيها الرسول لمشركي مكة: إنما أنا نذير، مرسل من ربي، لأحذركم مخالفة أوامره، حتى لا يحل بكم من العقاب، مثل ما حل بالأمم قبلكم، كعاد، وثمود، ولست بالساحر، ولا بالكذاب ولا بالمسيطر الجبار، على نحو ما جاء في قوله: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢)﴾، وقوله: ﴿وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ﴾، وبعد أن ذكر وظيفة الرسول، ذكر ما يبلّغه للناس، فقال: ﴿وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ﴾ إلخ؛ أي: إنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو الذي قهر كل شيء، وغلبه بعزته وجبروته، وهو مالك السموات والأرض وما بينهما، وهو الذي يغلب ولا يغلب، ويغفر الذنوب لمن يشاء من عباده، إذا تاب جلّت أو حقرت.
٦٧ - ثم توعدهم على مخالفته، وترك العمل به، وأمر رسوله أن يجلي لهم حقيقة وظيفته، ليرعووا عن غيهم، ويتوبوا إلى رشدهم، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لمشركي مكة ﴿هُوَ﴾؛ أي (٢): هذا القرآن، وما أنبئكم به من أمر التوحيد، والنبوة، وأخبار القيامة، والحشر، والجنة، والنار، وغيرها. ﴿نَبَأٌ عَظِيمٌ﴾ وشأن عظيم؛ لأنه كلام الرب القديم، وارد من جانبه الكريم، يدل على صدقي في دعوى النبوة، والنبأ: كل ما أخبر النبي - ﷺ - عن الله تعالى، ولا يستعمل إلا في خبر، ذي فائدة عظيمة.
(١) المراغي.
(٢) روح البيان.
وقال أبو حيان (١): الضمير في قوله: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ﴾ يعود على ما أخبر النبي - ﷺ -، من كونه رسولًا منذرًا، داعيًا إلى الله تعالى، وأنه تعالى هو المنفرد بالألوهية، المتصف بتلك الأوصاف، من الوحدانية، والقهر، وملك العالم، وعزته، وغفرانه، وهو خبر عظيم، لا يعرض عن مثله إلا غافل شديد الغفلة. وقال ابن عباس: النبأ العظيم: القرآن الكريم، وقال الحسن: يوم القيامة، وقيل: قصص آدم، والإنباء به من غير سماع من أحد، وقال صاحب التحرير: سياق الآية وظاهرها: أنه يريد بقوله: ﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧)﴾ ما قصه الله تعالى من مناظرة أهل النار، ومقاولة الأتباع مع الرؤساء؛ لأنه من أحوال البعث، وكانت قريش تنكر البعث، والحساب، والعقاب، وهم عن ذلك معرضون.
٦٨ - وجملة قوله: ﴿أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨)﴾ لا تتفكرون فيه، وتعدونه كذبًا لغاية ضلالتكم وغاية جهالتكم، فلذا لا تؤمنون به مع عظمته، وكونه موجبًا للإقبال الكلي عليه، وتلقيه بحسن القبول، فالتصديق فيه نجاة، والكذب فيه هلكة، توبيخ لهم، وتقريع لكونهم أعرضوا عنه.
والمعنى (٢): أي قل لهم يا محمد: إن ما أنبأتكم به، من كوني رسولًا منذرًا، ومن أن الله واحد لا شريك له، خبر عظيم الفائدة لكم، فهو ينقذكم مما أنتم فيه من الضلال، لكنكم معرضون عنه، لا تفكرون فيه، لتماديكم في الغفلة، وفي هذا تنبيه إلى ما هم فيه من الخطأ، علّهم يرجعون عن غيهم.
٦٩ - ثم ذكر من الأدلة ما يرشد إلى نبوته، فقال: ﴿مَا كَانَ لِي﴾ قرأ حفص عن عاصم بفتح الياء، والباقون بإسكانها. وهو كلام مستأنف، مسوق لتقرير أنه نبأ عظيم؛ أي: ما كان لي فيما سبق ﴿مِنْ عِلْمٍ﴾؛ أي (٣): علم ما بوجه من الوجوه، على ما يفيده حرف الاستغراق ﴿بِالْمَلَإِ الْأَعْلى﴾؛ أي: بحال الملأ الأعلى، وهم الملائكة، وآدم عليهم السلام، وإبليس عليه اللعنة، سموا بالملأ الأعلى؛ لأنهم
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
(٣) روح البيان.
كانوا في السماء وقت التقاول ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾؛ أي: بحالهم وقت اختصامهم، ورجوع بعضهم إلى بعض، في الكلام في شأن آدم، فإن إخباره عن تقاول الملائكة، وما جرى بينهم من قولهم: ﴿أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها﴾ حين قال الله لهم: ﴿إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ على ما ورد في الكتب المتقدمة، من غير سماع ومطالعة كتاب، لا يتصور إلا بالوحي؛ أي: فلو لم يكن لي نبوة، ما أخبرتكم عن اختصامهم. و ﴿إِذْ﴾ متعلق بالحال المحذوف، الذي يقتضيه المقام. إذ المراد: نفي علمه بحالهم لا بذواتهم، والحال يشمل الأقوال الجارية فيما بينهم، والأفعال أيضًا، من سجود الملائكة، واستكبار إبليس وكفره، وقيل (١): إن الضمير في ﴿يَخْتَصِمُونَ﴾ عائد إلى قريش. يعني: قول من قال منهم: الملائكة بنات الله، والمعنى: ما كان لي علم بالملائكة، إذ تختصم فيهم قريش. والأول أولى.
والخلاصة: أي ولولا الوحي، ما كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى، يعني في شأن آدم عليه السلام، وامتناع إبليس من السجود له، ومحاجته ربه في تفضيله عليه.
٧٠ - ثم أكد نبوته بقوله: ﴿إِنْ يُوحى إِلَيَّ﴾؛ أي: ما يوحى إلى من حال الملأ الأعلى، وغيره من الأمور المغيبة ﴿إِلَّا أَنَّما﴾ بفتح الهمزة، على تقدير لام التعليل؛ أي: إلا لأنما ﴿أَنَا نَذِيرٌ﴾؛ أي: نبي منذر من العذاب، من جهته تعالى ﴿مُبِينٌ﴾؛ أي: ظاهر النذارة، والنبوة بالدلائل الواضحة، عبر عن النبي بالنذير؛ لأنه صفته، وخصص النذير مع أنه بشير أيضًا؛ لأن المقام يقتضي ذلك، وجملة قوله: ﴿إِنْ يُوحى إِلَيَّ﴾ إلخ، معترضة بين اختصامهم المجمل، وبين تفضيله بقوله: ﴿إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ﴾، قال الفراء، المعنى: ما يوحى إلى إلا أنني نذير مبين، أبيّن لكم ما تأتون من الفرائض، والسنن، وما تدعون من الحرام والمعصية.
وقرأ الجمهور (٢): بفتح همزة ﴿أَنَّما﴾ على أنها وما في حيزها في محل
(١) الشوكاني.
(٢) الشوكاني.
رفع، لقيامها مقام الفاعل؛ أي: ما يوحى إلي إلا الإنذار، أو إلا كوني نذيرًا مبينًا، أو في محل نصب، أو جر بعد إسقاط لام العلة، والقائم مقام الفاعل على هذا الجار والمجرور، وقرأ أبو جعفر بكسر الهمزة، لأن في الوحي معنى القول، وهي القائمة مقام الفاعل، على سبيل الحكاية، كأنه قيل: ما يوحى إلي إلا هذه الجملة المتضمنة لهذا الإخبار، وهو أن أقول لكم: إنما أنا نذير مبين.
٧١ - ولما ذكر سبحانه، خصومة الملائكة، إجمالًا فيما تقدم ذكرها هنا، تفصيلًا فقال: ﴿إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ﴾ ﴿إِذْ﴾: هي بدل من ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ لاشتمال ما في حيز هذه على الخصومة، وقيل: هي منصوبة بإضمار ﴿اذكر﴾، والأول أولى، إذا كانت خصومة الملائكة في شأن من يُستخلف في الأرض. وأما إذا كانت في غير ذلك مما تقدم ذكره، فالثاني أولى.
فإن قلت (١): كيف يجوز أن يقال: إن الملائكة اختصموا بهذا القول، والمخاصمة مع الله تعالى كفر؟.
قلت: لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب، وذلك يشبه المخاصمة والمناظرة، والمشابهة تجوز إطلاق اسم المشبه به على المشبه، فحسن إطلاق المخاصمة على المقاولة الواقعة هناك.
فإن قلت: إن الاختصام المذكور سابقًا، مسند إلى الملأ الأعلى، وواقع فيما بينهم، وما وقع في جملة البدل هو التقاول الواقع بين الله تعالى، وبينهم، لأنه تعالى، هو الذي قال لهم وقالوا له، فكيف تجعل هذه الجملة بدلا من قوله: ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾ مبينًا ومشتملًا له؟.
قلت: حيث كان تكليمه تعالى إياهم بواسطة الملك، صح إسناد الاختصام إلى الله تعالى، لكونه سببًا آمرًا. وقد سبق المراد بالملائكة في سورة الحجر، فارجع.
(١) روح البيان.
﴿إِنِّي خالِقٌ﴾ فيما سيأتي من الزمن ﴿بَشَرًا﴾؛ أي: إنسانًا بادي البشر؛ أي: ظاهر الجلد، ليس على جلده صوف ولا شعر، ولا وبر، ولا ريش، ولا قشر، فإن قيل (١): كيف صح أن يقول لهم: إني خالق بشرا، وما عرفوا البشر، ولا عهدوا به قبل؟.
أجيب: بأنه يمكن أنه يكون قال لهم: إني خالق خلقًا من صفته كيت وكيت، ولكنه حين حكاه اقتصر على الاسم، اهـ «خطيب». ﴿مِنْ طِينٍ﴾؛ أي: من تراب مبلول. متعلق بمحذوف، هو صفة لـ ﴿بَشَرًا﴾، أو بخالق
٧٢ - ﴿فَإِذا سَوَّيْتُهُ﴾؛ أي: صورته بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية، أو سوّيت أجزاء بدنه بتعديل طبائعه، كما في الجنين الذي أتى عليه أربعة أشهر. فلا بد لنفخ الروح من هذه التسوية البتة. ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾؛ أي: من الروح الذي أملكه، ولا يملكه غيري. وقيل: هو تمثيل لإضافة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها؛ لأن النفخ: إجراء الريح إلى تجويف جسم صلح لإمساكها والامتلاء بها، وليس ثمة نفخ ولا منفوخ، والمعنى حينئذ: فإذا أكملت استعداده، وأفضت عليه، ما يحيى به من الروح التي هي من أمري، وإضافته إلى نفسه لشرفه وطهارته، أو على سبيل التعظيم؛ لأن المضاف إلى العظيم عظيم، كما في بيت الله، وناقة الله.. ﴿فَقَعُوا﴾؛ أي: فاسقطوا ﴿لَهُ﴾؛ أي: لذلك البشر؛ أي: لتكريمه أمر من وقع، يقع حال كونكم ﴿ساجِدِينَ﴾ لاستحقاقه الخلافة، وهذا السجود من باب التحية والتكريم، فإنه لا يجوز السجود لغير الله تعالى، على وجه العبادة، لا في هذه الأمة، ولا في الأمم السابقة، وإنما شاع بطريق التحية للمتقدمين. ثم أبطله الإسلام، وفيه دليل على أن المأمور به، ليس مجرد انحناء كما قيل، وكذا في قوله: ﴿ساجِدِينَ﴾ فإن حقيقة السجود: وضع الجبهة على الأرض.
وقال بعضهم: نفخ الروح عندي، عبارة عن إظهارها في محلها، وعبر عنه بالنفخ؛ لأن البدن بعد ظهور الروح فيه، يكون كالمنفوخ المرتفع الممتلىء، ألا
(١) خطيب.
ترى إلى أن الميت يبقى بعد مفارقة الروح كالخشب اليابس، ثم في إضافة الروح، إشارة إلى تقديم روح آدم على أرواح الملائكة وغيرها؛ لأن المضاف إلى القديم قديم، وإن كان جسد بعض الأشياء متقدمًا على جسده.
٧٣ - قوله: ﴿فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ﴾ في الكلام حذف، تدل عليه الفاء، والتقدير: فخلقه فسواه، فنفخ فيه الروح، فسجد الملائكة ﴿كُلُّهُمْ﴾ بحيث لم يبق منهم أحد، إلا سجد ﴿أَجْمَعُونَ﴾ بطريق المعية، بحيث لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن أحد. فالأول: لقصد الإحاطة، والثاني: لقصد الاجتماع، قال في «الكشاف»: فإفادا معًا، أنهم سجدوا عن آخرهم، ما بقي منهم ملك إلا سجد، وأنهم سجدوا جميعا في وقت واحد، غير متفرقين في أوقات، وقيل: إنه أكد بتأكيدين، للمبالغة في التعميم.
٧٤ - ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ﴾ فإنه لم يسجد، والاستثناء متصل؛ لأنه كان من الملائكة فعلًا، ومن الجن نوعًا، ولذلك تناوله أمرهم، وكان اسم إبليس قبل أن يبلس من رحمة الله تعالى، عزازيل والحارث، وكنيته: أبو كردوس وأبو مرة، كأنه سئل كيف ترك السجود، هل كان ذلك للتروي والتأمل، أو غير ذلك؟ فقيل: ﴿اسْتَكْبَرَ﴾ وتعظم عن السجود لآدم. وسببه أنه كان أعور، فما رأى آثار أنوار التجلي على آدم عليه السلام. وقيل: الاستثناء منقطع على ما هو الظاهر من عدم دخوله فيهم؛ أي: لكن إبليس ﴿اسْتَكْبَرَ﴾ وأنف من السجود جهلًا منه، بأنه طاعة لله تعالى ﴿وَ﴾ كان استكباره استكبار كفر، فلذلك ﴿كانَ مِنَ الْكافِرِينَ﴾؛ أي (١): صار منهم بمخالفته لأمر الله، واستكباره عن طاعته، أو كان من الكافرين في علم الله سبحانه، أزلا بالذات، وفي الخارج أبدًا باستقباح أمر الله. ولذا كانت شقاوته ذاتية لا عارضية، وسعادته في البين عارضية لا ذاتية، فالعبرة لما هو بالذات، وذلك لا يزول لا لما هو بالعرض، إذ ذاك يزول.
أي (٢): صار من الكافرين، بإبائه عن أمر الله، بعد أن كان مسلمًا عابدًا لله سبحانه مع الملائكة، نحو ثمانين ألف سنة، وطاف بالبيت أربعة عشر ألف عام،
(١) روح البيان.
(٢) الفتوحات.
على ما قيل، اهـ شيخنا.
٧٥ - ﴿قَالَ﴾ الله تعالى لإبليس مشافهة، حين امتنع من السجود: ﴿يا إِبْلِيسُ﴾؛ أي: يا خبيث، وهذه مشافهة لا تدل على إكرام إبليس، إذ يخاطب السيد عبده بطريق الغضب، وتمامه في سورة الحجر. ﴿ما﴾ استفهامية؛ أي: أي شيء ﴿مَنَعَكَ﴾ من ﴿أَنْ تَسْجُدَ﴾؛ أي: أي شيء دعاك إلى ترك السجود ﴿لِمَا﴾؛ أي: لمن ﴿خَلَقْتُ﴾ وأوجدت ﴿بِيَدَيَّ﴾؛ أي خصصته بخلقي إياه بيدي كرامة له؛ أي: خلقته بذاتي، من غير توسط أب وأم، فذكر اليد لنفي توهم التجوز؛ أي: لتحقيق إضافة خلقه إليه تعالى، والتثنية في اليد، لما في خلقه من مزيد القدرة، واختلاف الفعل، فإن طينته خمّرت أربعين صباحا، وكان خلقه مخالفًا لسائر أبناء جنسه، المتكونة من نطفة الأبوين، أو من نطفة الأم مميزًا عنهم، ببديع صنعه تعالى.
﴿أَسْتَكْبَرْتَ﴾؛ أي: أتكبرت عن السجود لآدم من غير استحقاق التكبر، بقطع الألف، أصله: أاستكبرت، أدخلت همزة الاستفهام للتوبيخ، والإنكار على همزة الوصل، فحذفت همزة الوصل استغناء عنها بهمزة الاستفهام، وبقيت همزة الاستفهام مفتوحة. ﴿أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ﴾؛ أي: من المستحقين للتفوق والعلو، ويحتمل أن يكون المراد بالعالين: الملائكة المهيّمين، الذين ما أمروا بالسجود لآدم، لاستغراقهم في شهود الحق، وهم الأرواح المجردة.
والمعنى (١): أتركت السجود لاستكبارك الحادث، أم لاستكبارك القديم المستمر؟. لكن جواب إبليس بقوله: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾ لا يطابقه؛ لأنه أجاب: بأنه إنما ترك السجود، لكونه خيرًا منه، وعاليا بالنسبة إليه، وبيّن ذلك بأن أصله من النار، وأصل آدم من الطين، والنار أشرف من الطين؛ لأن الأجرام الفلكية أشرف من الأجرام العنصرية، والنار أقرب العناصر من الفلك، والأرض أبعدها منه، وأيضا النار لطيفة نورانية، والأرض كثيفة ظلمانية، واللطافة والنورانية خير من الكثافة والظلمانية، اهـ «زاده».
(١) زادة.
وقرأ الجحدري ﴿لما خلقت﴾ بفتح اللام وتشديد الميم، على أنها ظرف بمعنى: حين، كما قال أبو علي الفارسي، وقرأ: ﴿بيدي﴾ على الإفراد. وقرأ الجمهور (١): ﴿بِيَدَيَّ﴾ على التثنية، وقرأ ﴿بيدى﴾ كقراءة ﴿بِمُصْرِخِيَّ﴾، وقال تعالى: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا﴾. وقرأ الجمهور: ﴿أَسْتَكْبَرْتَ﴾ بهمزة الاستفهام، فأم متصلة عادلت الهمزة، والاستفهام للتوبيخ والتقريع، وقرأ ابن كثير في رواية عنه، وأهل مكة بألف وصل، ويجوز أن يكون الاستفهام مرادًا، فيوافق القراءة الأولى. كما في قول الشاعر:
تَرُوْحُ مِنَ الْحَيِّ أَمْ تَبْتَكِرْ
وقول الآخر:
بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِيَا
ويحتمل أن يكون إخبارًا محضًا، من غير إرادة للاستفهام، فتكون ﴿أَمْ﴾ منقطعة. والمعنى: استكبرت عن السجود الذي أمرت به، بل أ ﴿كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ﴾.
٧٦ - وجملة قوله: ﴿قالَ﴾ إبليس إبداء للمانع: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ﴾؛ أي: أفضل من آدم، مستأنفة، واقعة في جواب سؤال مقدر، وفي ضمن كلامه هذا: أن سجود الفاضل للمفضول لا يحسن؛ أي: ولو كنت مساويًا له في الشرف، لكان يقبح أن أسجد له، فكيف وأنا خير منه؟.
ثم بيّن وجه الخيرية منه بقوله: ﴿خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ﴾ نسب خلقه إلى النار باعتبار الجزء الغالب، إذ الشيطان مخلوق من نار وهواء. ﴿وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ نسب خلقه إلى الطين، باعتبار الجزء الغالب أيضًا، إذ آدم مخلوق من العناصر الأربعة.
والمعنى (٢): لو كان آدم مخلوقًا من نار، لما سجدت له؛ لأنه مثلي، فكيف أسجد لمن هو دوني؟؛ لأنه من طين، والنار تغلب الطين وتأكله، فلا
(١) البحر المحيط.
(٢) روح البيان.
445
يحسن أن يسجد الفاضل للمفضول، فكيف يحسن أن يؤمر، ظن أن ذلك شرف له، ولم يعلم أن الشرف يكتسب بطاعة الله تعالى، ولقد أخطأ اللعين، حيث خص الفضل بما من جهة المادة والعنصر، وزل عما من جهة الفاعل، كما أنبأ عنه قوله تعالى: ﴿لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾، وما من جهة الصورة، كما نبه عليه قوله تعالى: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾. وما من جهة الغاية، وهو ملاك الأمر، كما قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ﴾، ولذلك أمر الملائكة بسجوده، حين ظهر لهم، أنه أعلم منهم، بما يدور عليه أمر الخلافة في الأرض، وأن له خواص ليست لغيره.
ومراده: أن النار أقرب إلى الأشرف الذي هو الفلك. وهي خليفة الشمس والقمر في الإضاءة والحرارة، وهي ألطف من الأرض، وهي مشرقة، وهي شبيه الروح، وأشرف الأعضاء القلب والروح، وهما على طبيعة النار، وكل جسم أشبه النار، كالذهب والياقوت فهو أشرف، والشمس أشرف الأجسام، وهي تشبه النار في الطبع والصورة، وأيضًا لم يتم المزاج إلا بالحرارة، ومآل كل هذه إلى أن أصله خير فهو خير. وهذا ممنوع، ولذا قال من قال:
أَتَفْخَرَ بِاتِّصَالِكَ مِنْ عَلِيٍّ وَأَصْلُ الْبَوْلَةِ الْمَاءِ الْقَرَاحُ
وَلَيْسَ بِنَافِعٍ نَسَبٌ زَكِيٌّ تُدَنِّسُهُ صَنَائِعُكَ الْقِبَاحُ
فيجوز أن يكون أصل أحد الشيئين أفضل، وينضم إليه ما يقتضي مرجوحيته، كما في إبليس، فإنه قد انضم إلى أصله عوارض رديئة، كالكبر والحسد والعجب والعصيان، فاقتضت اللعنة عليه، وأمر آدم عليه السلام بالعكس.
وقال في «آكام المرجان»: اعلم أن هذه الشبهة التي ذكرها إبليس، إنما ذكرها على سبيل التعنت، وإلا فامتناعه عن السجود لآدم، إنما كان عن كبر وكفر، ومجرد إباء وحسد، ومع ذلك فما أبداه من الشبهة فهو داحض؛ أي: باطل؛ لأنه رتب على ذلك، أنه خير من آدم، لكونه خلق من نار، وآدم خلق من طين، ورتب على هذا، أنه لا يحسن منه الخضوع، لمن هو دونه، وهذا باطل من وجوه:
446
الأول: أن النار طبعها الفساد، وإتلاف ما تعلقت به بخلاف التراب، فإنه إذا وضع القوت فيه، أخرجه أضعاف ما وضع فيه، بخلاف النار، فإنها آكلة لا تبقي ولا تذر.
والثاني: أن النار طبعها الخفة، والطيش، والحدة، والتراب طبعه الرزانة، والسكون، والثبات.
والثالث: أن التراب يكون فيه، ومنه أرزاق الحيوانات وأقواتهم، ولباس العباد وزينتهم، وآلات معايشهم ومساكنهم، والنار لا يتكون فيها شيء من ذلك.
والرابع: أن التراب ضروري للحيوان، لا يستغني عنه البتة، ولا عما يتكون فيه ومنه، والنار يستغني عنها الحيوان مطلقًا، وقد يستغني عنها الإنسان أيامًا وشهورًا، فلا تدعوه إليها ضرورة.
الخامس: أن النار لا تقوم بنفسها، بل هي مفتقرة إلى محل تقوم به، يكون حاملًا، والتراب لا يفتقر إلى حامل، فالتراب أكمل منها، لغناه وافتقارها.
والسادس: أن النار مفتقرة إلى التراب، وليس بالتراب فقر إليها، فإن المحل الذي تقوم به النار، لا يكون إلا متكونا من التراب أو فيه، فهي المفتقرة إلى التراب، وهو الغني عنها.
والسابع: أن المادة الإبليسية هي المارج من النار، وهو ضعيف تتلاعب به الأهوية، فيميل معها كيفما مالت، ولهذا غلب الهوى على المخلوق منه فأسره وقهره، ولما كانت المادة الآدمية هي التراب، وهو قوي لا يذهب مع الهواء أينما ذهب، فهو قهر هواه، وأسره، ورجع إلى ربه فاجتباه، فكان الهواء الذي مع المادة الآدمية عارضا سريع الزوال، فزال، فكان الثبات والرزانة أصلًا له، فعاد إليه، وكان إبليس بالعكس من ذلك، فعاد كل منهما إلى أصله وعنصره، آدم إلى أصله الطيب الشريف، واللعين إلى أصله الرديء الخبيث.
والثامن: أن النار وإن حصل بها بعض المنفعة من الطبخ والتسخين والاستضاءة بها، فالشر كامن فيها لا يصدها عنه، إلا قسرها وحبسها، ولولا
447
القاصر والحابس لها، لأفسدت الحرث والنسل، وأما التراب، فالخير والبركة كامن فيه، كلما أثير وقُلب ظهر خيره وبركته وثمرته. فأين أحدهما من الآخر، إلى آخر ما ذكره من الوجوه الكثيرة، التي تُدخض شبهه.
٧٧ - ﴿قالَ﴾ الله سبحانه وتعالى، بقهره وعزته ﴿فَاخْرُجْ﴾ الفاء فيه فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا خالفت أمري وأبيت من السجود لآدم، وأردت بيان ما هو الجزاء لك.. فأقول لك: اخرج يا إبليس ﴿مِنْها﴾؛ أي: من (١) الجنة، وقيل: من السماء، وقيل: من زمرة الملائكة، وهو المراد بالأمر بالهبوط، لا الهبوط من السماء، كما قال البيضاوي، فإن وسوسته لآدم، كانت بعد هذا الطرد، قال بعضهم: عظم جناية إبليس يقتضي هبوطه من السماء إلى الأرض، لا التوقف فيها إلى زمان الوسوسة. وأما أمر الوسوسة، فيجوز أن يكون بطريق الصعود إلى السماء؛ ابتلاء من الله تعالى، ودخوله الجنة، وهو في السماء، ليس بأهون من دخوله وهو في الأرض، إذ هو ممنوع من الدخول مطلقا، سواء كان في الأرض أو في السماء، إلا بطريق الامتحان.
وفي «الكرخي»: وقيل: اخرج (٢) من الخلقة التي كنت عليها أولًا، وانسلخ منها؛ لأنه كان يفتخر بخلقته، فغيّر الله خلقته، فاسود بعد ما كان أبيض، وقبح بعدما كان حسنًا، وأظلم بعدما كان نورانيًا، وفي «تحفة العارفين» ما نصه: وكان إبليس رئيسًا على اثني عشر ألف ملك، وكان له جناحان من زمرد أخضر، فلما طرد غيرت صورته، وجعله الله منكوسًا على مثال الخنازير: ووجهه كالقردة، وهو شيخ أعور كوسج، وفي لحيته سبع شعرات، مثل شعر الفرس، وعيناه مشقوقتان في طول وجهه، وأنيابه خارجة كأنياب الخنازير، ورأسه كرأس البعير، وصدره كسنام الجمل الكبير، وشفتاه كشفتي الثور، ومنخاراه مفتوحتان مثل: كوز الحجام، اهـ. ولكنها من الإسرائيليات التي لا أصل لها، وإنما نقلناها، لأنه أحق بهذه الصفات القبيحة.
(١) روح البيان.
(٢) الفتوحات.
وقوله: ﴿فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾ تعليل للأمر بالخروج؛ أي: مطرود عن كل خير وكرامة، فإن من يطرد يرجم بالحجارة، إهانة له، أو شيطان يرجم بالشهب السماوية، أو الأثيرية. وإلى الثاني ذهب بعض أهل الحقائق.
فإن قلت (١): إذا كان الرجم بمعنى الطرد، وكذلك اللعنة، لزم التكرار فما الفرق؟.
قلت: الفرق يحصل بحمل الرجم على الطرد من الجنة، أو السماء، وبحمل اللعنة على معنى الطرد من الرحمة، فيكون أبلغ، ويحصل الفرق، ويزول التكرار، اهـ «خازن».
٧٨ - ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي﴾؛ أي: إبعادي عن الرحمة، فإن اللعن: طرد، أو إبعاد على سبيل السخط، وذلك من الله تعالى في الآخرة عقوبة، وفي الدنيا انقطاع عن قبول فيضه وتوفيقه، ومن الإنسان دعاء على غيره.
وتقييدها (٢) بالإضافة مع إطلاقها في قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ﴾ لما أن لعنة اللاعنين من الملائكة، والثقلين أيضًا من جهته تعالى، وأنهم يدعون عليه بلعنة الله، وإبعاده من الرحمة، قال بعضهم: اللعنة المطلقة أيضًا هي لعنة الله تعالى؛ لأن اللام عوض عن المضاف إليه، فمآل الآيتين واحد. ويجوز أن يكون المعنى: وإن عليك لعنتي على ألسنة عبادي يلعنونك ﴿إِلى يَوْمِ الدِّينِ﴾؛ أي: إلى يوم الجزاء والعقوبة.
قال زكريا (٣): قال سبحانه في سورة الحجر: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ﴾ بتعريف الجنس، ليناسب ما قبله من التعبير في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ﴾ ﴿وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ﴾، وقال هنا: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي﴾ بالإضافة ليناسب ما قبله من قوله: ﴿لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ﴾، انتهى.
(١) الخازن.
(٢) روح البيان.
(٣) متشابه القرآن.
فإن قلت (١): كلمة ﴿إِلى﴾ لانتهاء الغاية، فتقتضي انقضاء اللعنة، عنه، عند مجيء يوم الدين، مع أنها لا تنقطع؟.
قلت: معناه: أن اللعنة باقية عليه في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة، زيد له على اللعنة من العذاب، بحيث تنسى اللعنة بذلك، فكأنها انقطعت عنده.
قال بعضهم: ولا يلزم (٢) من هذا التوقيت، انقطاع اللعنة عنه في الآخرة، إذ من كان ملعونًا مدة الدنيا، ولم يشم رائحة الرحمة في وقتها، كان ملعونًا أبديًا في الآخرة، ولم يجد أثر الرحمة فيها، لكونها ليست وقت الرحمة للكافر، وقد علم خلوده في النار بالنص، وكذا اللعنة، كما قال تعالى: ﴿فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ مع ما ينضم إليه من عذاب آخر، ينسى عنده اللعنة، والعياذ بالله تعالى.
٧٩ - وجملة قوله: ﴿قَالَ﴾ إبليس اللعين: ﴿رَبِّ﴾؛ أي: يا ربي إلخ، مستأنفة كما تقدم فيما قبلها، والفاء في قوله: ﴿فَأَنْظِرْنِي﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا جعلتني رجيمًا، مطرودًا عن رحمتك، وأردت بيان سؤلي منك.. فأقول لك: يا ربي أمهلني ولا تمتني ﴿إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾ من قبورهم للجزاء، وهو يوم القيامة، يعني: آدم وذريته؛ أي: إلى يوم يبعث آدم وذريته من القبور، للجزاء بعد فنائهم، وأراد بدعائه أن يجد فسحة لإغوائهم، ويأخذ منهم ثأره، وينجو من الموت بالكلية، إذ لا موت بعد يوم البعث، فلم يجب، ولم يوصل إلى مراده.
٨٠ - ﴿قالَ﴾ الله تعالى: ﴿فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾؛ أي: من جملة الذين أخرت آجالهم أزلًا، بحسب الحكمة كالملائكة ونحوهم. والفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا سألتني الإنظار، وأردت بيان ما أنظرته لك.. فأقول لك: إنك من الممهلين
٨١ - ﴿إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١)﴾ عندي، لا عند غيري؛ أي: إلى اليوم (٣) الذي قدرته، وعينته لفناء
(١) الخازن.
(٢) روح البيان.
(٣) روح البيان.
الخلائق، وهو وقت النفخة الأولى، لا إلى وقت البعث، الذي هو المسؤول له، قال في «آكام المرجان»: ظاهر القرآن يدل على أن إبليس غير مخصوص بالإنظار، وأما ولده وقبيله، فلم يقم دليل على أنهم منظرون معه، وقال بعضهم: الشياطين يتوالدون ولا يموتون إلى وقت النفخة الأولى، بخلاف الجن، يتوالدون ويموتون، ويحتمل أن بعض الجن أيضًا، منظرون، كما أن بعض الإنس منظرون، كالخضر عليه السلام، وفيه: أن الظاهر: أن يموت الخضر وأمثاله حين يموت المؤمنون، ولا يبقى منهم أحد. وذلك قبل الساعة بكثير من الزمان.
ثم إن قوله تعالى: ﴿فَإِنَّكَ﴾ إلخ، إخبار من الله تعالى، بالإنظار المقدر أزلًا، لا إنشاء، لإنظار خاص به قد وقع إجابةً لدعائه، وكان استنظاره طلبًا لتأخير الموت، لا لتأخير العقوبة. هكذا في «الإرشاد». وقال بعضهم: ولا شك أن الله تعالى، استجاب دعاء إبليس، ليكون طول بقائه في الدنيا، أجرا له في مقابلة طول عبادته قبل لعنه، ودعاء الكافر مستجاب في أمور الدنيا، فلا مانع أن يكون إنظاره بطريق الإنشاء، يدل عليه ترتيبه على دعائه الحادث.
٨٢ - ﴿قَالَ﴾ إبليس عليه ما يستحق ﴿فَبِعِزَّتِكَ﴾ والباء فيه للقسم؛ أي: فأقسم بعزتك؛ أي: بقهرك وسلطانك، ولا ينافيه قوله تعالى، حكاية عنه: ﴿فَبِما أَغْوَيْتَنِي﴾؛ لأن إغواءه إياه، أثر من آثار قدره وعزته، وحكم من أحكام قهره وسلطنته. ولهذه النكتة الخفية ورد الحلف هنا بالعزة، مع أن الصفات اللائقة للحلف كثير. وفي «التأويلات النجمية»: ثم إن إبليس لتمام شقاوته قال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ﴾ إلخ، ولو عرف عزته، لما أقسم بها على مخالفته، ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ﴾ لأضلنّ ذرية آدم ﴿أَجْمَعِينَ﴾؛ أي: لأحملنهم على الغي والضلال، ولأكونن سببًا لغوايتهم وضلالهم بتزيين المعاصي لهم، وإدخال الشكوك والشبهات فيهم،
٨٣ - ثم صدق حيث استثنى، فقال: ﴿إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣)﴾ بفتح اللام؛ أي: الذين أخلصتهم واصطفيتهم لطاعتك، وعصمتهم من الشيطان، وقرىء بالكسر على صيغة اسم الفاعل؛ أي: الذين أخلصوا أعمالهم وقلوبهم لله تعالى، من غير شائبة الرياء، قال بعضهم: العبد المخلص، هو الذي يكون سره بينه وبين ربه،
بحيث لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله، ثم لا شك أن من العباد عبادًا، إذ رأى الشيطان أثر سلطنة ولايتهم، وعزة أحوالهم، يذوب كما يذوب الملح في الإناء، ولا يبقى له حيل، ولا يطيق أن يمكر بهم، بل ينسى في رؤيتهم جميع مكرياته، ولا يطيق أن يرمي إليهم من أسهم وسوسته، بل مكره محيط به، لا بأهل الحق، وهكذا حال ورثة الشيطان من المنكرين المفسدين، مع أهل الله تعالى، فإنهم محفوظون عما سوى الله تعالى مطلقًا.
٨٤ - وجملة قوله: ﴿قالَ فَالْحَقُّ﴾ مستأنفة كالجمل التي قبلها؛ أي: قال الله تعالى: ﴿فَالْحَقُّ﴾ إلخ. الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا حلفت بصفتي على إغوائهم، ثم أغويتهم، لتكون بارا في قسمك، وأردت بيان عاقبتك وعاقبتهم.. فأقول لك: الحق، بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف؛ أي: فالحق قسمي، على أن الحق اسم من أسماء الله تعالى، كما في قوله تعالى: ﴿أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ﴾، أو نقيض الباطل، عظمه الله تعالى بإقسامه به، ويحتمل أن يكون التقدير: فالحق مني، كما قال: ﴿الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ﴾ ﴿وَالْحَقَّ أَقُولُ﴾ بالنصب على أنه مفعول لأقول، قدم عليه للقصر؛ أي: لا أقول إلا الحق.
٨٥ - وقوله: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ﴾؛ أي: من جنسك من الشيطان، والجملة جواب القسم، وجملة ﴿وَالْحَقَّ أَقُولُ﴾ معترضة بين القسم وجوابه، ﴿وَمِمَّنْ تَبِعَكَ﴾ في الغواية والضلال بسوء اختياره ﴿مِنْهُمْ﴾؛ أي: من ذرية آدم ﴿أَجْمَعِينَ﴾ تأكيد للكاف وما عطف عليه؛ أي: لأملأنها من المتبوعين والأتباع أجمعين، لا أترك أحدًا منهم. وفي «التأويلات النجمية»: ولما كان تجاسره في مخاطبته الحق، حيث أصر على الخلاف، وأقسم عليه أقبح وأولى في استحقاق اللعنة، من امتناعه السجود لآدم، قال فالحق إلخ، انتهى. فعلى العاقل أن يتأدب بالآداب الحسنة، قولًا وفعلًا، ولا يتجاسر على الله تعالى أصلًا، ولا يتبع خطوات الشيطان، حتى لا يرد معه النار.
وقرأ الجمهور: ﴿فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ﴾ بنصبهما، أما الأول فمقسم به، حذف منه الحرف كقولهم: أمانة الله لأقومن، والمقسم عليه ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ﴾ {وَالْحَقَ
أَقُولُ} اعتراض بين القسم وجوابه، أو هما منصوبان على الإغراء؛ أي: إلزموا الحق، وقرأ ابن عباس، ومجاهد، والأعمش برفعهما، فرفع الأول على ما تقدم، ورفع الثاني بالابتداء، والخبر الجملة المذكورة بعده، والرابط محذوف، وقرأ ابن السميقع، وطلحة بن مصرف، والحسن، وعيسى، وعبد الرحمن ابن أبي حماد، عن أبي بكر بجرهما. ويخرّج على أن الأول، مجرور بواو القسم، محذوفة، تقديره: فوالحق، و ﴿الْحَقَّ﴾ معطوف عليه، كما تقول: والله والله لأقومن ﴿أَقُولُ﴾ اعتراض بين القسم وجوابه، وقرأ مجاهد، والأعمش بخلاف عنهما، وأبان بن تغلب، وطلحة في رواية، وحمزة، وعاصم عن المفضل، وخلف وعيسى: برفع الأول، ونصب الثاني. وتقدم إعرابهما.
وخلاصة هذه القصة (١): أن الله سبحانه، أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه السلام، أنه سيخلق بشرًا من صلصال من حمأ مسنون، وأمرهم بالسجود له، متى فرغ من خلقه، وتسويته إجلالًا وإعظامًا له. فامتثل الملائكة كلهم ذلك، إلا إبليس، فلم يكن منهم جنسًا، بل كان من الجن، فخانه طبعه، فاستنكف عن السجود له، وخاصم ربه، وادعى أنه خير من آدم؛ لأنه مخلوق من نار وآدم مخلوق من طين، والنار خير من الطين في زعمه، وقد خالف بذلك أمر ربه، فكفر به، فأبعده وطرده من باب رحمته وحضرة قدسه، مذمومًا مدحورًا، فسأل النظرة إلى يوم البعث، فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه، فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة، تمرد وطغى، وقال: ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣)﴾. فقال تعالى: ﴿فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)﴾.
٨٦ - ثم أمر الله سبحانه رسوله، أن يخبرهم: بأنه إنما يريد بالدعوة إلى الله تعالى، امتثال أمره، لا عرض الدنيا الزائل، فقال: ﴿قُلْ﴾ يا محمد لهؤلاء المشركين: ﴿ما أَسْئَلُكُمْ﴾؛ أي: ما أطلب منكم ﴿عَلَيْهِ﴾؛ أي: على
(١) المراغي.
453
القرآن الذي أتيتكم به، أو على تبليغ الوحي، وأداء الرسالة، أو على الدعاء إلى الله على العموم، فيشمل القرآن وغيره من الوحي. ﴿مِنْ أَجْرٍ﴾ تعطونيه عليه أو جعل تجعلونه لي من مال دنيوي، ولكن أعلمكم بغير أجر، وذلك لأن من شرط العبودية الخالصة، أن لا يراد عليها الجزاء، ولا الشكور، فمن قطع رأس كافر في دار الحرب، أو أسره وأحضره عند رئيس العسكر، فيُعطي له مالًا، فقد فعله للأجر، لا لله تعالى، وعلى هذه جميع ما يتعلق به الأعراض الفاسدة.
﴿وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾؛ أي (١): من المتصنعين بما ليسوا من أهله، على ما عرفتم من حالي حتى أنتحل النبوة؛ أي: أدعيها لنفسي كاذبًا، وأتقول القرآن من تلقاء نفسي، وكل من قال شيئًا من تلقاء نفسه، فقد تكلف له؛ أي (٢): من الحاملين للمشقة في التشريع على الناس؛ أي: إن هذا الذي أدعوكم إليه، دين لا يحتاج في معرفة صحته، إلى التكلفات الكثيرة، بل هو دين يشهد العقل بصحته، فإني أدعوكم:
أولًا: إلى الإقرار بوجود الله سبحانه، ثم أدعوكم:
ثانيًا: إلى تنزيهه تعالى، عن كل ما لا يليق به، ثم أدعوكم:
ثالثًا: إلى الإقرار بكونه تعالى، موصوفًا بكمال العلم، والقدرة والحكمة والرحمة، ثم أدعوكم:
رابعًا: إلى الإقرار بكونه تعالى، منزهًا عن الشركاء، ثم أدعوكم:
خامسًا: إلى الامتناع عن عبادة الأوثان، ثم أدعوكم:
سادسًا: إلى تعظيم الملائكة والأنبياء، ثم أدعوكم:
سابعًا: إلى الإقرار بالبعث والقيامة، ثم أدعوكم:
ثامنًا: إلى الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة. فهذه الأصول الثمانية هي الأصول المعتبرة في دين الله تعالى، وأوائل الأفكار شاهدة بصحة هذه
(١) روح البيان.
(٢) المراح.
454
الأصول الثمانية، فثبت أني لست من المتكلفين في الشريعة، التي أدعو الخلق إليها، بل كل عقل سليم يشهد بصحتها وبعدها عن الفساد،
٨٧ - وهو المراد من قوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ﴾؛ أي: ما هذا القرآن، أو الوحي، أو ما أدعوكم إليه ﴿إِلَّا ذِكْرٌ﴾؛ أي: عظة من الله تعالى، أو شرف وذكر باق ﴿لِلْعالَمِينَ﴾؛ أي: للثقلين كافة.
وعن مسروق قال: دخلنا على ابن مسعود فقال: يا أيها الناس، من علم شيئًا فليقل به، ومن لم يعلم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم، أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم. قال الله تعالى، لنبيه - ﷺ -: «قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين»، متفق عليه. وهذا لفظ البخاري.
٨٨ - ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ﴾؛ أي: وعزة الله وجلاله، لتعلمن أيها المشركون ﴿نَبَأَهُ﴾؛ أي: نبأ هذا القرآن؛ أي: ما أنبأ به من الوعد، والوعيد، وغيرها أو صحة خبره، وأنه الحق والصدق ﴿بَعْدَ حِينٍ﴾؛ أي: بعد الموت، أو يوم القيامة، حين لا ينفع العلم. وفيه تهديد. وقال الكلبي: من بقي علم ذلك حين ظهر وعلا، ومن مات علمه بعد الموت. وقال الحسن بن آدم: عند الموت يأتيك الخبر اليقين، فينبغي للمؤمن، أن يكون بحيث لو كشف الحجاب، ما ازداد يقينًا. ومن كلام علي - رضي الله عنه -: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينًا، وختم السورة بالذكر، كما افتتحها بالذكر. والله الموفق.
الإعراب
﴿هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (٥٥) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (٥٦)﴾.
﴿هذا﴾: ﴿ها﴾ حرف تنبيه. ﴿ذا﴾: اسم إشارة، يشار به في محل الرفع مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: هذا العذاب المذكور فيما بعد للكفار. ﴿وَإِنَّ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب. ﴿لِلطَّاغِينَ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾ مقدم على اسمها، ﴿لَشَرَّ مَآبٍ﴾: اللام: حرف ابتداء ﴿شر مآب﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿إِنَّ﴾ معطوفة على جملة ﴿هذا﴾. ﴿جَهَنَّمَ﴾: بدل من شر مآب، أو عطف بيان
455
له، ﴿يَصْلَوْنَها﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به، والجملة في محل النصب حال من جهنم. ﴿فَبِئْسَ الْمِهادُ﴾ الفاء: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن مآبهم جهنم، وأردت بيان ما يقال فيها عند التعجب.. فأقول لك: بئس المهاد. ﴿بئس﴾: فعل ماض لإنشاء الذم. ﴿الْمِهادُ﴾: فاعل، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: هي؛ أي: جهنم. وجملة ﴿بئس﴾ إنشائية، لا محل لها من الإعراب.
﴿هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (٥٧) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (٥٨) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (٥٩) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (٦٠)﴾.
﴿هذا﴾: مبتدأ، ﴿حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ﴾ خبراه، والجملة الاسمية مستأنفة. ﴿فَلْيَذُوقُوهُ﴾: الفاء: اعتراضية، واللام: لام أمر وجزم مبني على السكون، ﴿يذوقوه﴾: فعل، وفاعل مجزوم بلام الأمر، وعلامة جزمه حذف النون، والهاء مفعول به. والجملة الفعلية معترضة، لا محل لها من الإعراب، لوقوعها بين المبتدأ والخبر. ﴿وَآخَرُ﴾ معطوف على حميم، ﴿مِنْ شَكْلِهِ﴾: جار ومجرور صفة لـ ﴿آخَرُ﴾، و ﴿أَزْواجٌ﴾ خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هي أزواج، والجملة الاسمية في محل الرفع صفة للثلاثة، أو أزواج صفة للثلاثة، أعني: حميم وغساق وآخر. ﴿هذا فَوْجٌ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب، مقول لقول محذوف تقديره: ويقال لهم عند دخولهم النار: هذا فوج. ﴿مُقْتَحِمٌ﴾ صفة لـ ﴿فَوْجٌ﴾، ﴿مَعَكُمْ﴾: ظرف، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف صفة ثانية لـ ﴿فَوْجٌ﴾، أو حال من الضمير في ﴿مُقْتَحِمٌ﴾ أو من ﴿فَوْجٌ﴾، ﴿لا﴾: نافية، ﴿مَرْحَبًا﴾: مفعول لفعل محذوف تقديره: لا أتيتم مرحبًا، أو لا سمعتم مرحبًا، والجملة مستأنفة، مسوقة للدعاء عليهم بضيق المكان، أو حالية من فوج؛ أي: هذا فوج مقتحم معكم، مقولًا لهم: لا مرحبًا بهم. ﴿بِهِمْ﴾ متعلقان بـ ﴿مَرْحَبًا﴾ ﴿إِنَّهُمْ﴾: ناصب واسمه، ﴿صالُوا النَّارِ﴾: خبر، ومضاف إليه، والجملة مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿قالُوا﴾: فعل، وفاعل، والضمير يعود على الأتباع، والجملة مستأنفة، ﴿بَلْ﴾: حرف
456
إضراب، ﴿أَنْتُمْ﴾: مبتدأ، ﴿لا﴾: نافية، ﴿مَرْحَبًا﴾: مفعول لفعل محذوف، تقديره: لا أتيتم ولا وجدتم مرحبًا؛ أي: مكانًا واسعًا، والجملة المحذوفة مقول لقول محذوف، هو خبر المبتدأ، والتقدير: قالوا بل أنتم مقول فيكم: لا مرحبًا بكم، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾. ﴿بِكُمْ﴾ متعلقان بـ ﴿مَرْحَبًا﴾ ﴿أَنْتُمْ﴾: مبتدأ. ﴿قَدَّمْتُمُوهُ﴾: فعل ماض، والتاء فاعل، والميم علامة الجمع، والواو حرف زائد لإشباع ضمة الميم، والهاء مفعول به، ﴿لَنا﴾: جار ومجرور، متعلق بقدم، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾. ﴿فَبِئْسَ﴾ الفاء: عاطفة أو استئنافية، ﴿بئس القرار﴾: فعل وفاعل، والمخصوص بالذم محذوف تقديره: فبئس القرار هي؛ أي: النار. وجملة ﴿بئس﴾: معطوفة على جملة قوله ﴿بَلْ أَنْتُمْ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قالُوا﴾ أو مستأنفة.
﴿قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (٦١) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)﴾.
﴿قالُوا﴾: فعل، وفاعل، والجملة مستأنفة. ﴿رَبَّنا﴾: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾. مَنْ ﴿:﴾ اسم موصول في محل الرفع مبتدأ، ﴿قَدَّمَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، صلة من الموصولة، ﴿لَنا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قَدَّمَ﴾، ﴿هذا﴾: مفعول ﴿قَدَّمَ﴾، ﴿فَزِدْهُ﴾: الفاء: رابطة الخبر بالمبتدأ، لما في الموصول من رائحة الشرط، ﴿زده﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر، ومفعول به. ﴿عَذابًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿زده﴾، ﴿ضِعْفًا﴾: صفة لـ ﴿عَذابًا﴾؛ أي: مضاعفًا ﴿فِي النَّارِ﴾: متعلق بـ ﴿زده﴾ أو صفة ثانية لـ ﴿عَذابًا﴾. والجملة الفعلية في محل الرفع خبر لمبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول ﴿قالُوا﴾ على كونها جواب النداء. ﴿وَقالُوا﴾: فعل، وفاعل، معطوف على ﴿قالُوا﴾ الأول، والضمير يعود لكفار مكة، كأبي جهل وأضرابه. ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿لَنا﴾: جار ومجرور خبره، والجملة الاسمية في
457
محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾. ﴿لا﴾: نافية. ﴿نَرى﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الكفار. ﴿رِجالًا﴾: مفعول به؛ لأن رأى هنا بصرية، والجملة الفعلية في محل النصب، حال من ضمير المتكلمين في ﴿لَنا﴾. ﴿كُنَّا﴾: فعل ماض ناقص واسمه، والجملة صفة لـ ﴿رِجالًا﴾. ﴿نَعُدُّهُمْ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر. ﴿مِنَ الْأَشْرارِ﴾ متعلق بـ ﴿نَعُدُّهُمْ﴾، وجملة ﴿نَعُدُّهُمْ﴾: في محل النصب خبر ﴿كُنَّا﴾. ﴿أَتَّخَذْناهُمْ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول أول لـ ﴿اتخذنا﴾، والهمزة للاستفهام التوبيخي التعجبي، وهمزة الوصل سقطت استغناء عنها. ﴿سِخْرِيًّا﴾: مفعول ثان لـ ﴿اتخذنا﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالُوا﴾. ﴿أَمْ﴾: حرف عطف، متصل بقوله: ﴿ما لَنا﴾. ﴿زاغَتْ﴾: فعل ماض. ﴿عَنْهُمُ﴾: متعلق بـ ﴿زاغَتْ﴾. ﴿الْأَبْصارُ﴾: فاعل، والجملة معطوفة على جملة ﴿ما لَنا﴾. ﴿إِنَّ ذلِكَ﴾: ناصب واسمه ﴿لَحَقٌّ﴾: خبر، واللام حرف ابتداء، ﴿تَخاصُمُ﴾: بدل من حق، أو خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: هو تخاصم أهل النار، وجملة المبتدأ المحذوف، وخبره مفسرة لاسم الإشارة. ﴿تَخاصُمُ﴾: مضاف، ﴿أَهْلِ النَّارِ﴾: مضاف إليه، وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة.
﴿قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿إِنَّما﴾: أداة حصر. ﴿أَنَا﴾: مبتدأ. ﴿مُنْذِرٌ﴾: خبره، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿وَما﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿مِنْ﴾: زائدة. ﴿إِلهٍ﴾: مبتدأ، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر. ﴿اللَّهُ﴾: خبر المبتدأ. ﴿الْواحِدُ الْقَهَّارُ﴾: صفتان للجلالة، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿رَبُّ السَّماواتِ﴾: نعت للجلالة، أو بدل منه. ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على السموات. ﴿وَما بَيْنَهُمَا﴾: معطوف أيضًا على السموات. ﴿الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ﴾: صفتان أيضًا لرب السموات.
﴿قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)﴾.
458
﴿قُلْ﴾: فعل، وفاعل مستتر، والجملة مستأنفة. ﴿هُوَ﴾: مبتدأ، ﴿نَبَأٌ﴾: خبره، ﴿عَظِيمٌ﴾: صفة لـ ﴿نَبَأٌ﴾، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿أَنْتُمْ﴾: مبتدأ، ﴿عَنْهُ﴾: متعلق بما بعده. ﴿مُعْرِضُونَ﴾: خبر، والجملة الاسمية في محل الرفع، صفة ثانية لـ ﴿نَبَأٌ﴾. ﴿ما﴾: نافية، ﴿كَانَ﴾: فعل ناقص، ﴿لِي﴾: خبرها مقدم على اسمها. ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿عِلْمٍ﴾: اسمها مؤخر، ﴿بِالْمَلَإِ﴾: متعلق بـ ﴿عِلْمٍ﴾، ﴿الْأَعْلى﴾: صفة لـ ﴿الملأ﴾، وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة على كونها مقولًا لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿إذ﴾: ظرف لما مضى، متعلق بـ ﴿عِلْمٍ﴾ أيضًا، وجملة ﴿يَخْتَصِمُونَ﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذ﴾ ﴿إِنْ﴾: نافية، ﴿يُوحى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ﴿إِلَيَّ﴾: متعلق به، ﴿إِلَّا﴾: أداة حصر. ﴿أَنَّما﴾: كاف ومكفوف، ﴿أَنَا﴾: مبتدأ، ﴿نَذِيرٌ﴾: خبره، ﴿مُبِينٌ﴾: صفة ﴿نَذِيرٌ﴾، والجملة الاسمية صلة ﴿إِنْ﴾ المكفوفة، وجملة ﴿إِنْ﴾ في تأويل مصدر، مرفوع على كونه نائب فاعل، لـ ﴿يُوحى﴾؛ أي: ما يوحى إلى إلا الإنذار، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾.
﴿إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤)﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى، بدل من ﴿إِذْ يَخْتَصِمُونَ﴾، أو متعلق بـ ﴿اذكر﴾ محذوفًا، ﴿قالَ رَبُّكَ﴾: فعل، وفاعل، ﴿لِلْمَلائِكَةِ﴾، متعلق بـ ﴿قَالَ﴾، والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿إِذْ﴾. ﴿إِنِّي خالِقٌ﴾: ناصب واسمه وخبره، ﴿بَشَرًا﴾: مفعول به لـ ﴿خالِقٌ﴾. ﴿مِنْ طِينٍ﴾: صفة لـ ﴿بَشَرًا﴾، أو متعلق بـ ﴿خالِقٌ﴾، وجملة ﴿إن﴾ في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿فَإِذا﴾: الفاء: عاطفة، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، متعلق بالجواب الآتي، ﴿سَوَّيْتُهُ﴾: فعل، وفاعل، ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾: على كونها فعل شرط لها. ﴿وَنَفَخْتُ﴾: فعل، وفاعل، معطوف على ﴿سويت﴾، ﴿فِيهِ﴾: متعلق بـ ﴿نَفَخْتُ﴾: ﴿مِنْ رُوحِي﴾: متعلق بـ ﴿نَفَخْتُ﴾: أيضًا، ﴿فَقَعُوا﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿إذا﴾ وجوبًا. ﴿قعوا﴾: فعل أمر، وفاعل مبني على حذف النون. ﴿لَهُ﴾: متعلق
459
بـ ﴿ساجِدِينَ﴾، و ﴿ساجِدِينَ﴾: حال من فاعل ﴿قعوا﴾، والجملة الفعلية جواب ﴿إذا﴾، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذا﴾ معطوفة على جملة ﴿إن﴾ على كونها مقول ﴿قالَ﴾. ﴿فَسَجَدَ﴾: الفاء: عاطفة، ﴿سجد الملائكة﴾: فعل، وفاعل، ﴿كُلُّهُمْ﴾: توكيد أول للملائكة، ﴿أَجْمَعُونَ﴾: توكيد ثان له، والجملة الفعلية معطوفة على جملة ﴿إذا﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء، ﴿إِبْلِيسَ﴾: منصوب على الاستثناء المتصل أو المنقطع. ﴿اسْتَكْبَرَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿إِبْلِيسَ﴾، والجملة مستأنفة، مسوقة لبيان كيفية إبائه من السجود، وجملة ﴿وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ﴾: معطوفة على جملة ﴿استكبر﴾، ﴿كان﴾: فعل ماض ناقص، واسمها ضمير يعود على ﴿إِبْلِيسَ﴾، ﴿مِنَ الْكافِرِينَ﴾: خبرها.
﴿قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨)﴾.
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿يا إِبْلِيسُ﴾: منادى مفرد العلم، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾، ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ، ﴿مَنَعَكَ﴾: فعل، ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿ما﴾، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر لما الاستفهامية، أي: أي شيء مانع إياك من السجود، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ومصدر، ﴿تَسْجُدَ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر، ﴿لِما﴾ جار ومجرور، متعلق بـ ﴿تَسْجُدَ﴾، وجملة ﴿تَسْجُدَ﴾ مع ﴿أَنْ﴾ المصدرية في تأويل مصدر، منصوب على كونه مفعولًا ثانيًا لـ ﴿تَسْجُدَ﴾؛ أي: أي شيء منعك السجود. ﴿خَلَقْتُ﴾: فعل، وفاعل، ﴿بِيَدَيَّ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية صلة ﴿لِما﴾ الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: لما خلقته بيدي. ﴿أَسْتَكْبَرْتَ﴾: الهمزة: للاستفهام الإنكاري التوبيخي، وهمزة الوصل سقطت استغناء عنها. ﴿أَسْتَكْبَرْتَ﴾: فعل، وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿أَمْ﴾: عاطفة متصلة، ﴿كُنْتَ﴾: فعل ناقص واسمه، ﴿مِنَ الْعالِينَ﴾: خبره، والجملة
460
معطوفة على جملة ﴿أَسْتَكْبَرْتَ﴾، ﴿قالَ﴾: فعل، وفاعل مستتر يعود على ﴿إِبْلِيسُ﴾، والجملة مستأنفة. ﴿أَنَا خَيْرٌ﴾: مبتدأ وخبر، ﴿مِنْهُ﴾: متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾، ﴿خَلَقْتَنِي﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به، ونون وقاية، ﴿مِنْ نارٍ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾: على كونها مفسرة للخيرية. و ﴿خلقناه﴾: فعل، وفاعل، ومفعول به معطوف على ﴿خَلَقْتَنِي﴾، ﴿مِنْ طِينٍ﴾: متعلق بـ ﴿خَلَقْتَهُ﴾، ﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر، يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿فَاخْرُجْ﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا خالفت أمري، وأبيت من السجود لآدم، وأردت بيان ما هو الجزاء لك.. فأقول لك: اخرج. ﴿اخرج﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر، يعود على ﴿إِبْلِيسُ﴾ ﴿مِنْها﴾: متعلق بـ ﴿اخرج﴾، والجملة الفعلية مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول لـ ﴿قالَ﴾. ﴿فَإِنَّكَ﴾: الفاء: تعليلية، ﴿إنك رجيم﴾: ناصب واسمه وخبره، والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾ على كونها معللة للأمر بالخروج. ﴿وَإِنَّ﴾: حرف نصب وتوكيد. ﴿عَلَيْكَ﴾: خبرها مقدم على اسمها، ﴿لَعْنَتِي﴾: اسمها مؤخر، وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب، معطوفة على جملة قوله: ﴿فَاخْرُجْ﴾، أو على جملة قوله: ﴿فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾: ﴿إِلى يَوْمِ الدِّينِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من ﴿لَعْنَتِي﴾؛ أي: حال كونها مستمرة إلى يوم الدين.
﴿قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠)﴾.
﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿إبليس﴾، والجملة مستأنفة. ﴿رَبِّ﴾: منادى مضاف، حذف منه حرف النداء، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿فَأَنْظِرْنِي﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا جعلتني رجيمًا مطرودًا عن رحمتك، وأردت بيان سؤلي منك.. فأقول لك: يا رب أنظرني. ﴿أنظرني﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على لله، والنون للوقاية، والياء مفعول به، ﴿إِلى يَوْمِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب
461
مقول ﴿قالَ﴾. ﴿يُبْعَثُونَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، والواو نائب عن الفاعل، والجملة في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾، ﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿فَإِنَّكَ﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا سألتني الإنظار، وأردت بيان ما أنظرته لك، فأقول لك: إنك من المنظرين. ﴿إنك﴾: ناصب واسمه. ﴿مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾: خبره، والجملة في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة، في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾.
﴿إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥)﴾.
﴿إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بالمنظرين، ﴿الْمَعْلُومِ﴾: صفة لـ ﴿الْوَقْتِ﴾، ﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على ﴿إبليس﴾، والجملة مستأنفة. ﴿فَبِعِزَّتِكَ﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: ﴿إذا﴾ أنظرتني، وأردت ثأري منهم، فأقول لك: بعزتك. الباء: حرف جر وقسم، ﴿عزتك﴾: مقسم به، مجرور بباء القسم، الجار والمجرور متعلق بفعل قسم محذوف جوازًا، تقديره: أقسم بعزتك. ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ﴾ اللام: موطئة للقسم. ﴿أغوين﴾: فعل مضارع مبني على الفتح لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، وفاعله ضمير مستتر يعود على ﴿إبليس﴾، والنون حرف توكيد، والهاء مفعول به، ﴿أَجْمَعِينَ﴾: تأكيد للضمير المنصوب، والجملة الفعلية جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب، مقول ﴿قالَ﴾. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿عِبادَكَ﴾: مستثنى من ضمير الغائبين. ﴿مِنْهُمُ﴾: حال من عبادك ﴿الْمُخْلَصِينَ﴾، صفة لـ ﴿عِبادَكَ﴾، ﴿قالَ﴾: فعل ماض، وفاعل مستتر يعود على الله، والجملة مستأنفة. ﴿فَالْحَقُّ﴾: ﴿الفاء﴾: استئنافية، ﴿الحق﴾: مبتدأ، خبره محذوف تقديره: قسمي. والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾. ﴿وَالْحَقَّ﴾: مفعول مقدم لـ ﴿أَقُولُ﴾، ﴿أَقُولُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر
462
يعود على الله، والجملة معترضة بين القسم وجوابه، ﴿لَأَمْلَأَنَّ﴾ اللام: موطئة للقسم. ﴿أملأن﴾ فعل مضارع، مبني على الفتح، وفاعله ضمير يعود على الله، والنون للتوكيد، ﴿جَهَنَّمَ﴾: مفعول به، ﴿مِنْكَ﴾: متعلق بـ ﴿أملأن﴾، ﴿وَمِمَّنْ﴾: معطوف على ﴿مِنْكَ﴾، وجملة ﴿تَبِعَكَ﴾: صلة لـ ﴿من﴾ الموصولة، وجملة ﴿أملأن﴾ جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾، ﴿مِنْهُمْ﴾: جار ومجرور، حال من فاعل ﴿تَبِعَكَ﴾، ﴿أَجْمَعِينَ﴾: تأكيد للضمير في ﴿مِنْهُمْ﴾ أو للكاف في ﴿مِنْكَ﴾ وما عطف عليه.
﴿قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة. ﴿ما﴾: نافية، ﴿أَسْئَلُكُمْ﴾: فعل مضارع، ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالَ﴾، ﴿عَلَيْهِ﴾: جار ومجرور، حال من أجر؛ لأنه صفة نكرة قدمت عليها. ﴿مِنْ﴾: زائدة، ﴿أَجْرٍ﴾: مفعول ثان لـ ﴿أسأل﴾. والجملة الفعلية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿وَما﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿ما﴾: نافية. ﴿أَنَا﴾: مبتدأ. ﴿مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾: خبره أو ﴿ما﴾: حجازية. ﴿أَنَا﴾: اسمها، ﴿مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾: خبرها، والجملة الاسمية معطوفة على جملة قوله: ﴿ما أَسْئَلُكُمْ﴾: على كونها مقولًا لـ ﴿قُلْ﴾ أو في محل النصب حال من فاعل ﴿أَسْئَلُكُمْ﴾. ﴿إِنْ﴾: نافية. ﴿هُوَ﴾: مبتدأ. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرّغ. ﴿ذِكْرٌ﴾: خبر المبتدأ. ﴿لِلْعالَمِينَ﴾: متعلق بذكر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ﴾: ﴿الواو﴾: عاطفة، واللام: موطئة للقسم ﴿تعلمنّ﴾: فعل مضارع مرفوع؛ لأن نون التوكيد لم تباشره، وعلامة رفعه ثبوت النون المحذوفة لتوالي الأمثال، والواو المحذوفة أيضًا، لالتقاء الساكنين، فاعل والنون نون التوكيد الثقيلة، ﴿نَبَأَهُ﴾: مفعول به، ﴿بَعْدَ حِينٍ﴾ منصوب على الظرفية ومضاف إليه، والظرف متعلق بـ ﴿تعلمن﴾؛ لأن علم هنا عرفانية، ويجوز أن تكون على بابها، فيكون المفعول الثاني ﴿بَعْدَ حِينٍ﴾. والجملة الفعلية جواب القسم، لا
463
محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب، معطوفة على جملة قوله: ﴿ما أَسْئَلُكُمْ﴾: على كونها مقولًا لـ ﴿قُلْ﴾. والله أعلم.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ﴾: هم الكفار الذين تجاوزوا حدود الله تعالى، وكذبوا رسله، من الطغيان. قال الراغب: الطغيان: تجاوز الحد في العصيان. ﴿فَبِئْسَ الْمِهادُ﴾ المهاد: كالفراش وزنًا ومعنى. ﴿فَلْيَذُوقُوهُ﴾ والذوق: وجود الطعم بالفم، وأصله في القليل، لكنه يصلح للكثير الذي يقال له: الأكل، وكثر استعماله في العذاب تهكمًا. ﴿حَمِيمٌ﴾: وهو الماء الذي انتهى حره. ﴿وَغَسَّاقٌ﴾ وهو ما يغسق، ويسيل من صديد أهل النار، من غسقت العين إذا سال دمعها، وفي «القاموس»: الغساق كسحاب وشداد: البارد المنتن. ﴿مِنْ شَكْلِهِ﴾؛ أي: من مثل المذوق في الشدة والفظاعة. ﴿أَزْواجٌ﴾؛ أي: أجناس؛ لأنه يجوز أن يكون ضروبًا. ﴿هَذَا فَوْجٌ﴾ الفوج: الجماعة، والقطيع من الناس، وأفاج: أسرع، وعدا، وند. قال الراغب: الفوج: الجماعة المارة المسرعة، وهو مفرد اللفظ، ولذا قيل: مقتحم لا مقتحمون. ﴿مُقْتَحِمٌ﴾ من الاقتحام، وهو الدخول في الشيء بشدة، والقحمة: الشدة. قال في «القاموس»: قحم في الأمر كنصر قحومًا، إذا رمى بنفسه فيه فجأة، بلا روية.
﴿لا مَرْحَبًا بِهِمْ﴾ مصدر بمعنى الرحب، وهو السعة. و ﴿بِهِمْ﴾: بيان للمدعو، وانتصابه على أنه مفعول به، لفعل مقدر؛ أي: لا يصادفون رحبًا وسعة، أو لا يأتون رحب عيش، ولا سعة مسكن ولا غيره.
وحاصله: لا كرامة لهم، أو على المصدر؛ أي: لا رحبهم عيشهم، ومنزلهم رحبا بل ضاق عليهم، يقول الرجل لمن يدعوه: مرحبًا؛ أي: أتيت رحبًا من البلاد، وأتيت واسعًا وخيرًا كثيرًا. قال أبو عبيدة: العرب تقول: لا مرحبًا؛ أي: لا رحبت عليك الأرض، ولا اتسعت.
﴿فَزِدْهُ عَذابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ﴾ قال الراغب: الضعف من الأسماء المتضاعفة،
464
التي يقتضي وجود أحدها وجود الآخر: كالضعف، والزوج، وهو تركب قدرين مساويين، ويختص بالعدد، فإذا قيل: ضعفت الشيء وضاعفته؛ أي: ضممت إليه مثله فصاعدًا فمعنى ﴿عَذابًا ضِعْفًا﴾؛ أي: عذابًا مضاعفًا؛ أي: ذا ضعف، بأن يزيد عليه مثله، ويكون ضعفين؛ أي: مثلين، فإن ضعف الشيء، وضعفيه: مثلاه.
﴿مِنَ الْأَشْرارِ﴾؛ أي: من الأراذل الذين لا خير فيهم، جمع شر، وهو الذي يرغب عنه الكل، كما أن الخير هو الذي يرغب فيه الكل. ﴿سخريا﴾ بضم السين وكسرها مصدر سخره. قال في «القاموس»: سخر؛ أي: هزىء كاستسخر، والاسم: السخرية والسخري، ويكسر، انتهى، زيد فيه ياء النسب للمبالغة؛ لأن في ياء النسبة، زيادة قوة في الفعل، كما قيل: الخصوصية في الخصوص، فالسخري أقوى من السخر.
واعلم: أن النسب يحدث في الاسم تغييرات:
الأول: زيادة ياء النسب في آخره، وهذه الياء المشددة حرف، بمنزلة تاء التأنيث، لا موضع لها من الإعراب.
الثاني: كسر ما قبلها.
والثالث: جعل الياء منتهى الاسم، وإنما تطرق التغيير في اللفظ لتغيير المعنى، ألا ترى: أنك إذا نسبت إلى علم، استحال إلى نكرة، بحيث تدخله أداة التعريف كالتثنية والجمع، وصار صفة بمنزلة المشتق بعد الجمود، ويرفع الاسم بعده على الفاعلية. إما مظهرًا أو مضمرًا، تقول: مررت برجل تميمي أبوه، وآخر هاشمي جده، وإذا نسبت إلى المصدر، زادته قوة، كما في قولك: سخريًا.
﴿أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ﴾ يقال: زاغ؛ أي: مال عن الاستقامة، وزاغ البصر كل. ﴿تَخاصُمُ﴾ والتخاصم: مخاصمة بعضهم بعضًا، ومدافعة كل منهم عن الآخر. ﴿بِالْمَلَإِ الْأَعْلى﴾ قال الراغب: الملأ: الجماعة يجتمعون على رأي، فيملؤون العيون رواء، والنفوس جلالةً وبهاء.
465
﴿فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ﴾ أمر من وقع يقع وقوعًا، والأمر: قع؛ أي: اسقطوا له ساجدين: ﴿ما مَنَعَكَ﴾؛ أي: ما صرفك، وصدك. ﴿مِنَ الْعالِينَ﴾؛ أي: المستحقين للترفع عن طاعة الله تعالى، المتعالين عن ذلك. ﴿فَإِنَّكَ رَجِيمٌ﴾؛ أي: مرجوم، ومطرود من كل خير. ﴿لَعْنَتِي﴾؛ أي: طردي. ﴿أنظرني﴾ الإنظار: الإمهال، والتأخير؛ أي: أمهلني. ﴿مِنَ الْمُنْظَرِينَ﴾؛ أي: من الممهلين. ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ﴾؛ أي: لأضلنهم. ﴿الْمُخْلَصِينَ﴾؛ أي: الذين أخلصتهم للعبادة. ﴿مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾؛ أي: المدعين معرفة ما ليس عندهم، والتكلف في الأصل: التعسف في طلب الشيء، الذي لا يقتضيه العقل. وفي «المفردات»: تكلف الشيء: ما يفعله الإنسان بإظهار كلفة، مع مشقة تناوله في تعاطيه. وصارت الكلفة في التعارف اسمًا للمشقة، والتكلف: اسم لما يفعل بمشقة، أو بتصنع أو تشيع، ولذلك صار التكليف ضربين:
الأول: محمودًا، وهو ما يتحراه الإنسان، لتوصل به إلى أن يصير الفعل الذي يتعاطاه سهلًا عليه.
والثاني: ما يكون مذمومًا، وإياه عني بقوله: ﴿وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ﴾. ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ﴾ أصله: لتعلمونن، حُذفت نون الرفع، لتوالي الأمثال، وواو الفاعل لالتقاء الساكنين.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآية ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة التصريحية الأصلية في قوله: ﴿فَبِئْسَ الْمِهادُ﴾؛ لأنه مستعار من فراش النائم، إذ لا مهاد في جهنم، ولا استراحة.
ومنها: التهكم في قوله: ﴿هذا فَلْيَذُوقُوهُ﴾؛ لأن الذوق في الأصل: وجود الطعم بالفم.
ومنها: الحصر في قوله: ﴿إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾.
466
ومنها: تخصيص الإنذار، مع أنه بشير أيضًا في قوله: ﴿أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾؛ لأن المقام يقتضي ذلك.
ومنها: الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي﴾. حيث شبه إضافة ما به الحياة بالفعل، على المادة القابلة لها، بإجراء الريح في جوف جسم، صلح لإمساكها، والامتلاء بها؛ لأنه ليس ثمة نفخ ولا منفوخ.
ومنها: إضافة الروح إلى نفسه سبحانه، في قوله: ﴿مِنْ رُوحِي﴾ إظهارًا لشرفه وطهارته أو تعظيمًا له؛ لأن المضاف إلى العظيم عظيم، كما في: ناقة الله، وبيت الله.
ومنها: الجناس المغاير بين ﴿ساجدين، فسجد﴾ في قوله: ﴿فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة﴾.
ومنها: الإضافة للتخصيص في قوله: ﴿وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي﴾ إظهارًا لشدة السخط، والغضب عليه.
ومنها: نسبة الإغواء إليه في قوله: ﴿لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾. لكونه سببًا لغوايتهم.
منها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠)﴾.
ومنها: القصر في قوله: ﴿وَالْحَقَّ أَقُولُ﴾؛ لأن تقديم المعمول على عامله يفيد القصر.
ومنها: مراعاة الفواصل، وهو من خصائص القرآن في قوله: ﴿وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (٦٢) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (٦٣) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (٦٤)﴾.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ﴾، حيث شبه تقاولهم وما يدور بينهم من حوار، ويتبادلونه من سؤال وجواب، بما يجري بين المتخاصمين من نحو ذلك.
467
ومنها: الحذف والزيادة في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
468
خلاصة ما تضمنته هذه السورة الكريمة من العبر والمواعظ
١ - حلف المشركين، وإعراضهم عن الحق، مع ضرب المثل لهم، بالأمم الماضية، التي حادت عن الحق فهلكت.
٢ - إنكارهم للوحدانية.
٣ - إنكارهم لنبوة محمد - ﷺ -.
٤ - إنكارهم للبعث والحساب.
٥ - قصص داود، وسليمان، وأيوب، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام.
٦ - وصف نعيم أهل الجنة.
٧ - وصف عذاب أهل النار، وتلاعن بعضهم بعضًا، وسؤالهم عن المؤمنين لم لم يروهم في النار؟.
٨ - قصص آدم، عليه السلام.
٩ - قسم إبليس ليغوين بني آدم أجمعين، إلا عباد الله المخلصين.
١٠ - أمر الله سبحانه، نبيه - ﷺ -، أن يقول للمشركين: ما أطلب منكم أجرًا على تبليغ رسالتي، ولا أنا بالذي يدعي علم شيء، هو لا يعرفه.
١١ - أن القرآن أنزل للثقلين كافة.
١٢ - أن المشركين بعد موتهم يعلمون حقيقة أمره (١).
والله أعلم
* * *
(١) هنا وقفت الأقلام على هذه السورة في تاريخ سنة: ٨/ ٥/ ١٤١٤ هـ.
469
سورة الزمر
ويقال لها: سورة الغرف، مكية في قول الحسن، وعكرمة، وجابر بن زيد، ومجاهد، وقتادة، وأخرج ابن الضريس، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: أنزلت سورة الزمر بمكة. وأخرج النحاس في ناسخه عنه قال: نزلت بمكة سورة الزمر، سوى ثلاث آيات، نزلت بالمدينة في وحشي، قاتل حمزة ﴿يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ﴾ الثلاث آيات. وقال آخرون: إلى سبع آيات من قوله: ﴿قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ...﴾ إلى آخر السبع.
وآياتها: اثنتان أو خمس وسبعون آية.
وكلماتها: ألف ومئة واثنتان وسبعون كلمة.
وحروفها: أربعة آلاف وتسع مئة وثمانية أحرف.
التسمية: سميت سورة الزمر؛ لأن الله تعالى، ذكر فيها زمرة السعداء من أهل الجنة، وزمرة الأشقياء من أهل النار، أولئك مع الإجلال والإكرام، وهؤلاء مع الهوان والصغار.
المناسبة: ومناسبتها لآخر ما قبلها (١): أنه ختم السورة قبلها بقوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾، وبدأ هنا: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١)﴾. ذكره أبو حيان.
وعبارة المراغي هنا: ووجه اتصالها بما قبلها (٢):
١ - أنه وصف القرآن في آخر سورة ص بقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ
(١) البحر المحيط.
(٢) المراغي.
470
لِلْعالَمِينَ}، ووصفه هنا بقوله: ﴿تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١)﴾.
٢ - أنه ذكر في ﴿ص﴾، أحوال الخلق من المبدأ إلى المعاد، وذكر هنا مثله، إلى نحو ذلك من وجوه الربط، تظهر بالتأمل، اهـ.
الناسخ والمنسوخ فيها: وقال أبو عبد الله محمد بن حزم: سورة الزمر كلها محكم، إلا (١) سبع آيات:
أولاهن: قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾، نسخت بآية السيف.
والثانية: قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)﴾، نسخت بقوله تعالى: ﴿لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ﴾.
الثالثة: قوله تعالى: ﴿فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ﴾، نسخت بآية السيف.
الرابعة: قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ﴾، نسخ معناها بآية السيف.
الخامسة: قوله تعالى: ﴿قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ﴾ نسخت بآية السيف.
السادسة: قوله تعالى: ﴿أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾، نسخ معناها بآية السيف.
والسابعة: قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها﴾، نسخت بآية السيف، انتهى.
فضلها: ومن فضائلها: ما أخرجه (٢) النسائي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - ﷺ - يصوم، حتى نقول ما يريد أن يفطر، ويفطر حتى نقول ما يريد أن يصوم، وكان يقرأ في كل ليلة بني إسرائيل والزمر. وأخرجه الترمذي عنها بلفظ: «كان رسول الله - ﷺ - لا ينام حتى يقرأ الزمر، وبني إسرائيل».
(١) الناسخ والمنسوخ.
(٢) الشوكاني.
471
وروي (١) من حديث ابن عمر: أن رسول الله - ﷺ - قرأ على المنبر آخر الزمر، فتحرك المنبر مرتين وفيه ضعف. وعن النبي - ﷺ - قال: «من قرأ سورة الزمر، لم يقطع الله رجاءه يوم القيامة، وأعطاه الله ثواب الخائفين» وفيه مقال.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
(١) البيضاوي.
472

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (٢) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٤) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٧) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (٨) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (٩) قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (١٤) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ (١٦)﴾.
473
المناسبة
قوله تعالى: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه (١) لما أبان أنه منزه عن الولد بكونه إلهًا قهارًا، وأن كل المخلوقات في قبضته وسلطانه.. أردف ذلك، بما يدل على كمال قدرته بآياته، التي أوجدها في الأكوان، وفي خلق الإنسان، فبسط سلطانه على الشمس والقمر، وذللهما، وجعلهما يجريان في ذلك الملكوت، الذي لا يعلم مداه إلا هو، كما خلق الإنسان الأول، وجعل له زوجًا من جنسه، وخلق ثمانية أزواج من الحيوان، ذكر وأنثى، فكانت نواة التناسل في هذه الأنواع، فهل بعد هذا، يجد العاقل معدلًا عن الاعتراف بربوبيته، وعظيم قدرته؟.
قوله تعالى: ﴿إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه لما أقام (٢) الأدلة على وحدانيته تعالى، وذكر أن المشركين عبدة الأصنام، لا دليل لهم على عبادتها، وكأن عقولهم قد ذهبت حين عبدوها.. أعقب ذلك، ببيان أنه هو الغني، عما سواه من المخلوقات، فهو لا يريد بعبادته جر منفعة، ولا دفع مضرة، ولكنه لا يرضى الكفر لعباده، بل يرضى لهم الشكر، وأن كل نفس مطالبة بما عملت، وبعدئذ ترد إلى عالم الغيب والشهادة، فيجازيها بما كسبت، ثم أتبعه بذكر تناقض المشركين فيما يفعلون، فإذا أصابهم الضر، رجعوا في طلب دفعه إلى الله تعالى، وإذا ذهب عنهم، عادوا إلى عبادة الأوثان، وقد كان العقل يقضي، وقد علموا أنه لا يدفع الضر سواه، أن يعبدوه في جميع الحالات، ثم أمر رسوله، أن يقول لهم متهكمًا موبخًا: تمتعوا بكفركم قليلا، ثم مصيركم إلى النار، وبئس القرار.
قوله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه لما أبان صفات المشركين الضالين، وذكر تقلقلهم واضطرابهم في العبادة، إذ يرجعون إليه في وقت الشدة، ويعودون إلى الأوثان
(١) المراغي.
(٢) المراغي.
474
حين الرخاء.. أردفه ذكر أحوال المؤمنين، القانتين، الذين لا يعتمدون إلا على ربهم، ولا ينيبون إلا إليه، ويرجون رحمته، ويخافون عذابه.
قوله تعالى: ﴿قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه لما نفى المساواة، بين من يعلم ومن لا يعلم.. أردفه أمر رسوله، أن ينصح المؤمنين بجملة نصائح:
١ - تقوى الله وطاعته، لما في ذلك من جزيل الفوائد، فإذا تعذرت طاعته في بلد، تحولوا عنه إلى بلد آخر، يتمكنون فيه من الاشتغال بالعبادة والطاعة، كما فعل كثير من الأنبياء، ولهم كفاء ذلك أجر بغير حساب، فلا يقدر بمكيال، ولا ميزان.
٢ - أنه أمر بعبادة الله وحده، مخلصًا له الدين، وقد قال كفار قريش للنبي - ﷺ -: ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به، ألا تنظر إلى ملة أبيك إبراهيم، وجدك، وسادات قومك، يعبدون اللات والعزى، فأنزل الله سبحانه الآية، وأمره أن يكون أول المسلمين، وفي ذلك تنبيه، إلى كونه رسولًا من عند الله، واجب الطاعة.
٣ - أنه أمر أن يقول لهم: إني أخاف عذاب يوم القيامة إن عصيته، وفي ذلك إيماء إلى زجر غيره عن المعاصي.
٤ - أنه أمر أن يذكر لهم، أن الخاسر هو الذي يخسر نفسه، ويخسر أهله؛ لأنهم إن كانوا من أهل النار، فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، وإن كانوا من أهل الجنة، فقد ذهبوا عنهم ذهابا لا رجوع بعده أبدًا.
٥ - وصف النار، وأنها تحيط بهم من كل جانب، وهذا من أفظع أنواع العذاب، التي يخوّف بها عباده.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ...﴾ الآية، سبب (١)
(١) لباب النقول.
475
Icon