تفسير سورة الحجرات

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

سورة الحجرات
قوله جل ذكره: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» «بِسْمِ اللَّهِ» اسم كريم من تنصّل إليه من زلّاته تفضّل عليه بنجاته، ومن توسّل إليه بطاعاته تطوّل عليه بدرجاته.
«بِسْمِ اللَّهِ» اسم عزيز من تقرّب إليه بمناجاته قابله بلطف أفضاله، ومن تحبّب إليه بإيمانه أقبل عليه بكشف جلاله وجماله.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١)
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» : شهادة للمنادى بالشّرف.
«لا تُقَدِّمُوا» أمر بتحمّل الكلف. قدّم الإكرام بالشرف على الإلزام بالكلف أي لا تقدموا بحكمكم «بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» : أي لا تقضوا أمرا من دون الله ورسوله، أي لا تعملوا من ذات أنفسكم شيئا.
ويقال: قفوا حيثما وقفتم، وافعلوا ما به أمرتم، وكونوا أصحاب الاقتداء والاتّباع...
لا أرباب الابتداء والابتداع.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢)
أمرهم بحفظ حرمته، ومراعاة الأدب في خدمته وصحبته، وألّا ينظروا إليه بالعين التي ينظرون بها إلى أمثالهم. وأنه إذا كان بخلقه يلاينهم فينبغى ألا يتبسّطوا معه متجاسرين، ولا يكونوا مع ما يعاشرهم به من تخلّقه عن حدودهم زائدين.
ويقال: لا تبدأوه بحديث حتى يفاتحكم.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ٣]
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)
هم الذين تقع السكينة عليهم من هيبة حضرته، أولئك هم الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى بانتزاع حبّ الشهوات منها، فاتقوا سوء الأخلاق، وراعوا الأدب.
ويقال: هم الذين انسلخوا من عادات البشرية.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٤ الى ٥]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
أي لو عرفوا قدرك لما تركوا حرمتك، والتزموا هيبتك.
ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم ولم يستعجلوا، ولم يوقظوك وقت القيلولة بمناداتهم لكان خيرا لهم «١».
أمّا أصحابه- صلوات الله عليه وسلامه- الذين يعرفون قدره فإنّ أحدهم- كما في الخبر:
«كأنه يقرع بابه بالأظافر».
(١) يقال: نزلت في قوم من بنى تميم منهم الأقرع بن حابس وسويد بن هاشم، ووكيع بن وكيع، وعيينة ابن حصن، وأن الأقرع نادى النبي (ص) من وراء حجرته أن اخرج إلينا فإن مدحنا زين وذمّنا شين. وكان ذلك وقت الظهيرة والنبي في راحته وبعض شئونه الخاصة. فاستيقظ وخرج لهم. [.....]
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦)
دلّت الآية «١» على ترك السكون إلى خبر الفاسق إلى أن يظهر صدقه.
وفي الآية إشارة إلى ترك الاستماع إلى كلام الساعي والنمّام والمغتاب للناس.
والآية تدلّ على قبول خبر الواحد إذا كان عدلا.
والفاسق هو الخارج عن الطاعة «٢». ويقال هو الخارج عن حدّ المروءة.
ويقال: هو الذي ألقى جلباب الحياء.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٧ الى ٨]
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)
أي لو وافقكم محمد رسول الله ﷺ في كثير مما تطلبون منه لوقعتم في العنت- وهو الفساد «٣». ولو قبل قول واحد (قبل وضوح الأمر) لأصابتكم من ذلك شدة.
والرسول صلوات الله عليه لا يطيعكم في أكثر الأمور إذا لم ير في ذلك مصلحة لكم وللدين.
(١) يقال: نزلت في الوليد بن عقبة بن أبى معيط.. أرسله النبي (ص) ليجبى الصدقات من بنى المصطلق.
فلما أبصروه تقدموا نحوه فهابهم فقد كانت بينه وبينهم إحنة.. فعاد من فوره إلى النبي وأخبره أنهم ارتدوا عن الإسلام، فلم يقنع النبي (ص) بما سمع وأرسل إليهم خالد بن الوليد ليتثبت من الأمر فأخبروه أنهم على إسلامهم، وأنهم كانوا خارجين إلى سفير النبي لإكرامه، واستيقن خالد من ذلك حين سمع أذانهم وصلاتهم.. فعاد إلى النبي وجلى حقيقة الأمر.
(٢) مشتق من فسقت الرطبة أي خرجت من قشرها، والفأرة من جحرها.
(٣) للعنت معان أخرى: فهو: الفجور والزنا- كما جاء في سورة النساء. وهو: الوقوع في أمر شاق كما جاء فى آخر سورة براءة.
«وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ» : الإسلام والطاعة والتوحيد، وزيّنها في قلوبكم.
«وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ..» : هذا من تلوين الخطاب.
وفي الآية دليل على صحة قول أهل الحقّ في القدر «١»، وتخصيص المؤمنين بألطاف لا يشترك فيها الكفار. ولولا أنّه يوفّر الدواعي للطاعات لحصل التفريط والتقصير فى العبادات.
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً: أي فعل هذا بكم فضلا منه ورحمة. والله عليم حكيم.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ٩]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩)
«٢» تدل الآية على أن المؤمن بفسقه- والفسق دون الكفر- لا يخرج عن الإيمان لأن إحدى الطائفتين- لا محالة- فاسقة إذا اقتتلا.
وتدل الآية على وجوب نصرة المظلوم حيث قال: «فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى... ».
والإشارة فيه: أن النفس إذا ظلمت القلب بدعائه إلى شهواتها، واشتغالها في فسادها فيجب
(١) يقصد القشيري أن القائلين بأن الله سبحانه المتفرد بخلق ذوات العباد وخلق أفعالهم وصفاتهم واختلاف ألسنتهم و... على صواب لأن الآية صريحة في خلق الأفعال فهو الذي حبّب إلى الإيمان والعكس.
(٢) يقال نزلت في ابن أبيّ حين وقف الرسول على مجلس به بعض الأنصار وهو على حمار فقال ابن أبى:
حلّ سبيل حمارك فقد أذانا، فانبرى له عبد الله بن رواحة قائلا:
والله إنّ بول حماره لأطيب من مسكك.
وبعد أن مضى الرسول (ص) طال الخوض بينهما حتى استبّا وتجالدا، واشتبك الأوس والخزرج وتجالدوا بالعصى. وقيل بالأيدى والنعال والسعف، فرجع الرسول (ص) إليهم فأصلح بينهم.
أن يقاتلها حتى تثخن بالجراحة بسيوف المجاهدة. فإن استجابت إلى الطاعة يعفى عنها لأنها هي المطيّة إلى باب الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٠]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)
إيقاع الصلح بين المتخاصمين من أوكد عزائم الدّين.
وإذا كان ذلك واجبا فإنه يدل على عظم وزر الواشي والنّمام والمصدر في إفساد ذات البين.
(ويقال إنما يتم ذلك بتسوية القلب مع الله فإن الله إذا علم صدق همة عبد في إصلاح ذات البين) «١» فإنه يرفع عنهم تلك العصبيّة «٢».
فأما شرط الأخوة: فمن حقّ الأخوة في الدّين ألا تحوج أخاك إلى الاستعانة بك أو التماس النصرة عنك، وألا تقصّر في تفقّد أحواله بحيث يشكل عليك موضع حاجته فيحتاج إلى مساءلتك.
ومن حقّه ألا تلجئه إلى الاعتذار لك بل تبسط عذره فإن أشكل عليك وجهه عدت باللائمة على نفسك في خفاء عذره عليك ومن حقه أن تتوب عنه إذا أذنب، وتعوده إذا مرض. وإذا أشار عليك بشىء فلا تطالبه بالدليل عليه وإبراز الحجّة- كما قالوا:
إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم... لأيّة حرب أم لأى مكان
ومن حقّه أن تحفظ عهده القديم، وأن تراعى حقّه في أهله المتصلين به في المشهد والمغيب، وفي حال الحياة وبعد الممات «٣» - كما قيل:
وخليل إن لم يكن... منصفا كنت منصفا
(١) ما بين القوسين موجود في م وساقط في ص.
(٢) هكذا في م وهي في ص المعصية ونحن نؤثر الأولى لملاءتها للسياق.
(٣) فى هذه الفقرة ما يدحض مزاعم الذين يقولون بأن الصوفية قوم انعزاليون، لا يفهمون معنى العلاقات الاجتماعية ولا يقدرونها.
تتحسّى له الأمر... ين وكن ملاطفا
إن يقل لك استو احترف... ت رضى لا تكلّفا
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١)
نهى الله- سبحانه وتعالى- عن ازدراء الناس، وعن الغيبة، وعن الاستهانة بالحقوق، وعن ترك الاحترام.
«وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ» : أي لا يعيبنّ بعضكم بعضا، كقوله: «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» «١».
ويقال: ما استصغر أحد أحدا إلا سلّط عليه. ولا ينبغى أن يعتبر بظاهر أحوال الناس فإنّ في الزوايا خبايا. والحقّ يستر أولياءه في حجاب الضّعة «٢» وقد جاء في الخبر:
«ربّ أشعث أغبر ذى طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبرّه» «٣».
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢)
(١) آية ٢٩ سورة النساء.
(٢) الضعة هنا بمعنى خمول الذكر وانطفاء المنظر.
(٣) فى بعض الروايات بزيادة: «وإن البراء منهم»، وعند مسلم بلفظ «ربّ أشعث أغبر مدفوع إلى الأبواب لو أقسم على الله لأبرّه».
النّفس لا تصدق، والقلب لا يكذب. والتمييز بين النفس والقلب مشكل ومن بقيت عليه من حظوظه بقيّة- وإن قلّت- فليس له أن يدّعى بيان القلب بل هو بنفسه مادام عليه شىء من نفسه، ويجب أن يتّهم نفسه في كل ما يقع له من نقصان غيره.. هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه قال وهو يخطب. «كلّ الناس أفقه من عمر..
امرأة أفقه من عمر»
.
«وَلا تَجَسَّسُوا». والعارف لا يتفرغ من شهود الحقّ إلى شهود الخلق.. فكيف يتفرغ إلى تجسّس أحوالهم؟ وهو لا يتفرغ إلى نفسه فكيف إلى غيره؟ «وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً» : لا تحصل الغيبة للخلق إلّا من الغيبة عن الحقّ.
«أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً... » جاء في التفسير أن المقصود بذلك الغيبة، وعلى ذلك يدل ظاهر الآية.. وأخسّ الكفّار وأقلّهم قدرا من يأكل الميتة.. وعزيز رؤية من لا يغتاب أحدا بين يديك.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٣]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)
إنّا خلقناكم أجمعكم من آدم وحواء، ثم جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا لا لتكاثروا ولا لتنافسوا. فإذا كانت الأصول تربة ونطفة وعلقة... فالتفاخر بماذا؟ أبا لحمأ المسنون؟ أم بالنطفة في قرار مكين؟ أم بما ينطوى عليه ظاهرك مما تعرفه؟! «١» وقد قيل:
(١) ربما نفهم من هذه العبارة ما يقصده القشيري في موضع آخر ماثل من سخرية بالإنسان وتحطيم لتجبره كأن يقول له: من أنت أيها الإنسان؟ أنت كنيف في قميص! ألا ترى إلى ريح إبطك إذا عرقت، وإلى ريح فمك إذا جعت!؟... ونحو ذلك.
إنّ آثارنا تدل علينا فانظروا بعدنا إلى الآثار
أم بأفعالك التي هي بالرياء مشوبة؟ أم بأحوالك التي هي بالإعجاب مصحوبة؟ أم بمعاملاتك التي هي ملأى بالخيانة؟
«إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ؟ أتقاكم أي أبعدكم عن نفسه، فالتقوى هي التحرّر من النفس وأطماعها وحظوظها. فأكرم العباد عند الله من كان أبعد عن نفسه وأقرب إلى الله تعالى.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٤]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)
الإيمان هو حياة القلب، والقلب لا يحيا إلا بعد ذبح النّفس، والنفوس لا تموت ولكنها تغيب، ومع حضورها لا يتمّ خير، والاستسلام في الظاهر إسلام. وليس كلّ من استسلم ظاهرا مخلص في سرّه.
«وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ»
فى هذا دليل على أن محلّ الإيمان القلب. كما أنه في وصف المنافقين قال تعالى:
«فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ» ومرض القلب والإيمان ضدان.
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٥]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)
جعل الله الإيمان مشروطا بخصال ذكرها، ونصّ عليها بلفظ «إِنَّمَا» وهي للتحقيق الذي يقتضى طرد العكس فمن خرج عن هذه الشرائط التي جعلها للإيمان فمردود عليه قوله.
والإيمان يوجب للعبد الأمان، فما لم يكن الإيمان موجبا للأمان فصاحبه بغيره أولى.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٦]
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦)
تدل الآية على أنّ الوقوف «١» فى المسائل الدينية يعتبر واجبا فالأسامى منه تؤخذ، والأحكام منه تطلب، وأوامره متّيعة «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٧]
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧)
من لاحظ شيئا من أعماله وأحواله فإن رآها من نفسه كان شركا، وإن رآها لنفسه كان مكرا فكيف يمن العبد بما هو شرك أو بما هو مكر؟! والذي يجب عليه قبول المنّة... كيف يرى لنفسه على غيره منّة؟! هذا لعمرى فضيحة! بل المنّة لله فهو وليّ النعمة. ولا تكون المنة منة إلا إذا كان العبد صادقا في حاله، فأمّا إذا كان معلو لا في صفة من صفاته فهى محنة لصاحبها لا منّة.
والمنّة تكدّر الصنيع إذا كانت من المخلوقين، ولكن بالمنّة تطيب النعمة إذا كانت من قبل الله.
قوله جل ذكره:
[سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٨]
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨).
(١) هكذا في م وهي بمعنى (التوقف) (والتوقيف) عند بعض الأمور، ولهذا فما جاء في ص وهو (التوفيق) خطأ في النسخ.
(٢) فالاتباع واجب والابتداع مرفوض- كما نهنا القشيري من قبل. [.....]
445
ومن وقف هاهنا تكدّر عليه عيشه إذ ليس يدرى ما غيبه فيه، وفي معنى هذا قول القائل:
أبكى.. وهل تدرين ما يبكينى؟
أبكى حذارا أن تفارقينى وتقطعى وصلي وتهجرينى «١»
(١) فى (اللمع) للسراج وتقطعى (حبلى) وتهجرينى (اللمع ص ٣٠٥) وكلاهما صحيح في المعنى ملائم للوزن.
446
Icon