تفسير سورة الأنعام

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة الأنعام من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة الأنعام
في السورة فصول ومشاهد متنوعة عما كان يقع بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار من المناظرات. وقد حكي فيها تعجيزهم وما كان يلهم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم من هم وغم من جرائها. وفيها تنديدات وإنذارات قاصمة للكفار وبخاصة لزعمائهم على موقف المكابرة والعناد التي يقفونها والأدوار الخبيثة التي كانوا يقومون بها. واستشهاد الذين أوتوا الكتاب على صحة رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصلة القرآن بالله وشهادتهم بذلك. وفيها تقريرات عديدة عن عظمة الله تعالى وقدرته وشمول حكمه وبديع نواميس كونه. وفيها فصول وصور عن عقائد العرب ونذورهم وتقاليدهم في الأنعام والحرث وقتل الأولاد والذبائح، وحجاج في صددها بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين الكفار، وفيها مجموعة رائعة من الوصايا في التوحيد ومكارم الأخلاق وحملة على الذين يتبعون الأهواء.
والسورة من أمهات السور الجامعة الرائعة، وقد روى ابن كثير بخاصة وغيره من المفسرين مثل البغوي والطبرسي والخازن والزمخشري أحاديث عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في صدد خطورة هذه السورة ونزولها منها عن ابن عبا س قال :( نزلت سورة الأنعام بمكة ليلا جملة واحدة حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح ) وعن أسماء بنت يزيد قالت :( نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وآله وسلم جملة واحدة وأنا آخذة بزمام ناقته، وإن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة ). وليس شيء من الأحاديث واردا في كتب الصحاح، بل ولم يرو الطبري الذي كان أقدم وأكثر المفسرين استيعابا للمأثور منها شيئا. ومع ذلك فيتبادر لنا أنها تدل على ما كان من ذكريات خطورة شأن السورة حين نزولها. وفصول السورة منسجمة متلاحقة وهذا يلهم بحد ذاته أن تكون نزلت متتابعة إن لم تكن نزلت دفعة واحدة.
والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن الآيات [ ٢٠ و٢٢و ٩١ و ٩٣ و١١٤و ١٣١و ١٥٢ و ١٥٣ ] مدنيات. وروى البغوي عن ابن عباس أن الآيات [ ٩١ و ٩٢و ٩٣ و ١٥١ و ١٥٢ و ١٥٣ ] مدنيات. وسياق هذه الآيات وفحواها وانسجامها مع ما قبلها وبعدها على ما سوف ننبه عليه في مناسباتها يسوغ الشك في هذه الروايات وترجيح مكية الآيات والله أعلم.

بسم الله الرحمن الرحيم

يعدلون : يساوون أو يجعلون لله تعالى معادلين ومساوين وهم شركاؤهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ( ١ ) ( ١ ) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ( ٢ ) ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ( ٢ ) وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ( ٣ ) وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ( ٤ ) فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ ( ٥ ) أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ( ٦ ) ﴾ [ ١ – ٦ ]
معاني الآيات واضحة وقد احتوت تنديدا بالكفار المشركين لتسويتهم بين الله تعالى وشركائهم ومماراتهم في البعث، وإعراضهم عما يأتيهم من ربهم مع أنه هو الذي خلقهم وهو رب السماوات والأرض يعلم سرهم وجهرهم وما يكسبون ؛ وجعل لهم أجلا في الحياة ثم أجلا للبعث والحساب. ثم أنذرتهم بأنهم سوف يرون تحقيق ما أوعدوا به جزاء استهزائهم بآيات الله وتكذيبهم لها، وذكرتهم بالأمم التي من قبلهم والتي أهلكها الله لمثل ذلك السبب وكانت أقو ى منهم قوة وتمكينا.
والآيات مقدمة استهلالية بين يدي حكاية بعض أقوال ومواقف الكفار، وروحها تلهم أن الكفار كانوا يعترفون بالله وكونه صاحب الأمر في الكون، وأنهم كانوا يعرفون خبر الأمم السابقة التي أهلكها الله لمواقفهم من رسله وآياته، وبهذا وذاك تبدو قوة الحجة والإلزام في الآيات، وهذا وذاك مما قررته آيات وفصول قرآنية كثيرة مرت أمثلة عديدة منها.
ولقد قال بعض المؤولين على ما رواه البغوي : إن جملة ﴿ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور ﴾ تعني الكفر والإيمان غير أن الجمهور على أنها تعني الليل والنهار وهو الأوجه المتساوق مع روح الآيات هنا وفي مكان آخر. وإن كان القرآن استعمل في آيات أخرى هذه الجملة لذلك المعنى كما جاء في آية سورة إبراهيم هذه :﴿ كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ﴾[ ١ ] وتكرر هذا في غير سورة.
والمؤولون يصرفون تعبير ﴿ خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ﴾ إلى خلقه آدم الأول الذي ذكر بأنه خلقه من طين ومن تراب في آيات عديدة أخرى مر بعضها في السور التي سبق تفسيرها. غير أن ورود التعبير بضمير الجمع المخاطب لا بد له من حكمة وقد يكون من ذلك تذكير السامعين من بني آدم بأصل خلقتهم وقدرة على خلقهم وبعثهم ثانية حين ينقضي الأجل المعلوم

ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده : معظم المفسرين على أن الأجل الأول هو فترة الحياة الأولى إلى الموت والأجل الثاني هو موعد بعث الله الأموات للحساب الأخروي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ( ١ ) ( ١ ) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ( ٢ ) ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ( ٢ ) وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ( ٣ ) وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ ( ٤ ) فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ ( ٥ ) أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ( ٦ ) ﴾ [ ١ – ٦ ]
معاني الآيات واضحة وقد احتوت تنديدا بالكفار المشركين لتسويتهم بين الله تعالى وشركائهم ومماراتهم في البعث، وإعراضهم عما يأتيهم من ربهم مع أنه هو الذي خلقهم وهو رب السماوات والأرض يعلم سرهم وجهرهم وما يكسبون ؛ وجعل لهم أجلا في الحياة ثم أجلا للبعث والحساب. ثم أنذرتهم بأنهم سوف يرون تحقيق ما أوعدوا به جزاء استهزائهم بآيات الله وتكذيبهم لها، وذكرتهم بالأمم التي من قبلهم والتي أهلكها الله لمثل ذلك السبب وكانت أقو ى منهم قوة وتمكينا.
والآيات مقدمة استهلالية بين يدي حكاية بعض أقوال ومواقف الكفار، وروحها تلهم أن الكفار كانوا يعترفون بالله وكونه صاحب الأمر في الكون، وأنهم كانوا يعرفون خبر الأمم السابقة التي أهلكها الله لمواقفهم من رسله وآياته، وبهذا وذاك تبدو قوة الحجة والإلزام في الآيات، وهذا وذاك مما قررته آيات وفصول قرآنية كثيرة مرت أمثلة عديدة منها.
ولقد قال بعض المؤولين على ما رواه البغوي : إن جملة ﴿ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور ﴾ تعني الكفر والإيمان غير أن الجمهور على أنها تعني الليل والنهار وهو الأوجه المتساوق مع روح الآيات هنا وفي مكان آخر. وإن كان القرآن استعمل في آيات أخرى هذه الجملة لذلك المعنى كما جاء في آية سورة إبراهيم هذه :﴿ كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ﴾[ ١ ] وتكرر هذا في غير سورة.
والمؤولون يصرفون تعبير ﴿ خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ﴾ إلى خلقه آدم الأول الذي ذكر بأنه خلقه من طين ومن تراب في آيات عديدة أخرى مر بعضها في السور التي سبق تفسيرها. غير أن ورود التعبير بضمير الجمع المخاطب لا بد له من حكمة وقد يكون من ذلك تذكير السامعين من بني آدم بأصل خلقتهم وقدرة على خلقهم وبعثهم ثانية حين ينقضي الأجل المعلوم

﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ( ١ ) فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ( ٧ ) ﴾ [ ٧ ].
( ١ ) قرطاس : الورق أو ما يقول مقامه للكتابة من مواد مصنوعة. وجملة ﴿ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ ﴾ تعني قرطاسا مكتوبا عليه كتابة.
في الآية وصف لشدة عناد الكفار وتكذيبهم حتى لو أنزل الله تعالى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرطاسا عليه كتابة فلمسوه بأيديهم لقالوا إن هذا سحر وليس حقيقة.
ولقد روى بعض المفسرين ١ أن الآية نزلت جوابا لتحدي بعض زعماء الكفار ؛ حيث قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنهم لن يؤمنوا حتى ينزل عليه كتاب في قرطاس معه أربعة من الملائكة يشهدون على صحة صدوره من الله وعلى صحة نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والرواية لم ترد في الصحاح ولكن القرآن حكى مثل هذا التحدي عن زعماء قريش في سورتي المدثر والإسراء ؛ حيث جاء في الأولى هذه الآية :﴿ بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ( ٥٢ ) ﴾ وحيث جاء في الثانية :﴿ أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ﴾ [ ٩٣ ] والذي يتبادر لنا من نظم الآية وعطفها على ما سبقها أنها جاءت مع الآيات السابقة واللاحقة لها سياقا واحدا بسبيل تصوير كون مواقف ومطالب الكفار هي عنادا وليست رغبة في القناعة عن حسن نية. وهذا لا يمنع أن يكون انطوى في الآية جواب على تحد وقع من الكفار في ظروف نزولها. ويكون الجواب في هذه الحالة من نوع الأجوبة السلبية التي تكررت في القرآن واقتضتها حكمة الله بعدم الاستجابة لتحدي الكفار كلما طالبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمعجزة على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
تعليق على كلمة ( قرطاس )
وبمناسبة ورود كلمة قرطاس لأول مرة نقول : إن من المفسرين من قال : إنه الورق، ومن قال : إنه الصحيفة، ومن قال : إنه الكاغد ٢. وقد وردت الكلمة في القرآن مرة أخرى بصيغة قراطيس في إحدى آيات هذه السورة بمعنى الصحف أو أوراق الصحف.
وعلى كل حال فالمتبادر أنه مادة ملساء خاصة بالكتابة، ولعله الورق الحريري الذي يقال له البارشمن، والذي روي أنه كان مستعملا في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم في البلاد المتحضرة. أو لعله الورق المصري المصنوع من البردي والمسمى بالبابيروس. وورود الكلمة في القرآن يدل أن الورق، أو ما يمكن أن يوصف بهذا الوصف كمادة يكتب عليها مما كان معروفا مستعملا في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيئته قبل نزول القرآن.
ولقد روت الروايات أنه كان يكتب في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي حياته ممتدا إلى ما قبله على الرق المتخذ من جلد الأنعام وعلى أكتاف العظام ولحاف الشجر وقطع النسيج. وقد يكون هذا صحيحا غير أن أسلوب الآية وعدم ورود ذكر لغير القرطاس والرق ٣ في القرآن كمادة للكتابة قد يدل على أن الكتابة على هاتين المادتين هي المألوف الذي لا يرد على البال غيره. ولما كان القرطاس قد تكرر ذكره في القرآن وجاء في صيغة جمع كما قلنا آنفا فيكون هو المألوف في الدرجة الأولى. ويكون ما استقر في الأذهان من بدائية أهل عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيئته وكون أكتاف العظام ولحاف الشجر وقطع النسيج هي مادة الكتابة عندهم مبالغا فيه كثيرا.
١ انظر تفسيرها في تفسير الطبرسي والخازن والبغوي..
٢ انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن والطبرسي وابن كثير مثلا..
٣ الرق هو ما يتخذ من جلود الأنعام وجمعه: رقوق. وقد ورد ذكره كشيء يكتب عليه في آيات سورة الطور هذه: ﴿والطور (١) وكتاب مسطور (٢) في رق منشور(٣)﴾..
﴿ وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ( ٨ ) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا( ١ ) عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ( ٩ ) ﴾ [ ٨ – ٩ ].
تعليق على طلب ( الكفار استنزال الملائكة ورد القرآن عليهم )
في الآيات حكاية تحد للكفار يطلبون به أن ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ملك يؤيد صلته بالله. ورد عليهم أولا : بأن الله تعالى لو أنزل ملكا لكان في ذلك إيذان بحلول أجلهم وقضاء أمر الله فيهم، وحينئذ لا يبقى إمكان لإمهالهم وينصب عليهم البلاء والتدمير. وثانيا : بأن حكمة الله لو اقتضت إنزال ملك لجاءهم على صورة رجل، وحينئذ لا تكون المشكلة قد حلت إذ يكون التبس الأمر عليهم، ولم يروا ما طمعوا في رؤيته على حقيقته. ووقعوا في الشك الذي وقعوا فيه حينما شكوا في أن يرسل الله رسولا من البشر فكانوا سببا في إلباس الله لهم ما ألبسوه لأنفسهم بهذا الشك.
ولم يرو المفسرون رواية ما في صدد المحكي قولهم في الآية الأولى ويلحظ شيء من الفرق بين أسلوب هذه الآية وأسلوب الآية السابقة لها ؛ حيث جاءت الآية السابقة بأسلوب المفروض من موقفهم إذا أنزل الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتابا في قرطاس في حين جاء أسلوب هذه الآية حكاية لطلب وتحد من بعض الكفار. وحيث يسوغ هذا يقال : إن الآيات بسبيل حكاية موقف تحد وجدل وجاهي والرد عليه. وإذا صح هذا تكون الآيات السابقة مقدمة لهذا الموقف، على أن احتمال كون الآيات استمرار للسياق السابق بسبيل حكاية مواقف الكفار وتحدياتهم المتكررة واردا أيضا، وفي هذه الحالة يكون ما حكته من تحد قد سبق نزول السورة فأشير إليه في معرض حكاية مواقف الكفار وتحدياتهم.
ولقد تكررت حكاية طلب الكفار استنزال الملائكة ومرت أمثلة من ذلك في السور التي سبق تفسيرها التي سبقت هذه السورة على التوالي أي سور الحجر وهود ويونس ثم في سورتي الإسراء والفرقان قبلها ؛ حيث يدل هذا على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر من الجزء الكبير الذي كان يشغله الملائكة في أذهان العرب قبل الإسلام واعتقادهم بوجودهم وصلتهم واختصاصهم بالله وكونهم منفذي أوامره وأصحاب الحظوة لديه.
والجديد هنا هو ذكر كون الله تعالى إذا ما شاء إنزال ملك أنزله في صورة رجل، وهناك آيات تفيد أن سنة الله جرت على مثل ذلك في الملائكة الذين كان يرسلهم الله إلى بعض أنبيائه. ومن ذلك ما تفيده آيات [ ٦٨ – ٨٠ ] من سورة هود والآية [ ١٧ ] من سورة مريم.
وهناك أحاديث صحيحة أوردناها في تعليقنا على موضوع الملائكة في تفسير سورة المدثر تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتمثل له الملك أحيانا في صورة رجل، وأن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحوله أصحابه في صورة رجل، والموضوع في أصله أي موضوع الملائكة مما يجب على المسلم الإيمان بما جاء عنه في القرآن وثبت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ثم تفويض الأمر فيه إلى الله ورسوله على ما شرحناه في التعليق المذكور بما يغني عن التكرار مع ملاحظة ما ذكرناه في التعليق من أهداف ومقاصد.
ولقد علل المفسرون المؤولون حكمة الله في إنزال الملك في صورة رجل إذا ما شاء إنزاله على بشر بأن البشر لا يطيقون رؤية الملائكة، أو أن الملائكة في أصلهم نورانيون لا يمكن أن يراهم البشر. فيشاء الله أن يتمثلوا لهم في صورة رجل، وعللوا ما روته بعض الأحاديث التي وردت في الصحاح وأوردناها في سياق تعليقنا المذكور والتي تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى الملك في هيئته الأصلية سادا الأفق بأن ذلك خصوصية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والتعليلات وجيهة فيما هو المتبادر. والله أعلم.
وللبسنا عليهم ما يلبسون : أوجه التأويلات لهذه الجملة أنها بمعنى ( التبس عليهم الأمر فألبسوه لأنفسهم من الشك في كون رسل الله إليهم بشرا مثلهم ).
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٨:﴿ وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ( ٨ ) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا( ١ ) عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ( ٩ ) ﴾ [ ٨ – ٩ ].
تعليق على طلب ( الكفار استنزال الملائكة ورد القرآن عليهم )
في الآيات حكاية تحد للكفار يطلبون به أن ينزل على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ملك يؤيد صلته بالله. ورد عليهم أولا : بأن الله تعالى لو أنزل ملكا لكان في ذلك إيذان بحلول أجلهم وقضاء أمر الله فيهم، وحينئذ لا يبقى إمكان لإمهالهم وينصب عليهم البلاء والتدمير. وثانيا : بأن حكمة الله لو اقتضت إنزال ملك لجاءهم على صورة رجل، وحينئذ لا تكون المشكلة قد حلت إذ يكون التبس الأمر عليهم، ولم يروا ما طمعوا في رؤيته على حقيقته. ووقعوا في الشك الذي وقعوا فيه حينما شكوا في أن يرسل الله رسولا من البشر فكانوا سببا في إلباس الله لهم ما ألبسوه لأنفسهم بهذا الشك.
ولم يرو المفسرون رواية ما في صدد المحكي قولهم في الآية الأولى ويلحظ شيء من الفرق بين أسلوب هذه الآية وأسلوب الآية السابقة لها ؛ حيث جاءت الآية السابقة بأسلوب المفروض من موقفهم إذا أنزل الله على النبي صلى الله عليه وآله وسلم كتابا في قرطاس في حين جاء أسلوب هذه الآية حكاية لطلب وتحد من بعض الكفار. وحيث يسوغ هذا يقال : إن الآيات بسبيل حكاية موقف تحد وجدل وجاهي والرد عليه. وإذا صح هذا تكون الآيات السابقة مقدمة لهذا الموقف، على أن احتمال كون الآيات استمرار للسياق السابق بسبيل حكاية مواقف الكفار وتحدياتهم المتكررة واردا أيضا، وفي هذه الحالة يكون ما حكته من تحد قد سبق نزول السورة فأشير إليه في معرض حكاية مواقف الكفار وتحدياتهم.
ولقد تكررت حكاية طلب الكفار استنزال الملائكة ومرت أمثلة من ذلك في السور التي سبق تفسيرها التي سبقت هذه السورة على التوالي أي سور الحجر وهود ويونس ثم في سورتي الإسراء والفرقان قبلها ؛ حيث يدل هذا على ما ذكرناه في سياق سورة المدثر من الجزء الكبير الذي كان يشغله الملائكة في أذهان العرب قبل الإسلام واعتقادهم بوجودهم وصلتهم واختصاصهم بالله وكونهم منفذي أوامره وأصحاب الحظوة لديه.
والجديد هنا هو ذكر كون الله تعالى إذا ما شاء إنزال ملك أنزله في صورة رجل، وهناك آيات تفيد أن سنة الله جرت على مثل ذلك في الملائكة الذين كان يرسلهم الله إلى بعض أنبيائه. ومن ذلك ما تفيده آيات [ ٦٨ – ٨٠ ] من سورة هود والآية [ ١٧ ] من سورة مريم.
وهناك أحاديث صحيحة أوردناها في تعليقنا على موضوع الملائكة في تفسير سورة المدثر تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتمثل له الملك أحيانا في صورة رجل، وأن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحوله أصحابه في صورة رجل، والموضوع في أصله أي موضوع الملائكة مما يجب على المسلم الإيمان بما جاء عنه في القرآن وثبت عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ثم تفويض الأمر فيه إلى الله ورسوله على ما شرحناه في التعليق المذكور بما يغني عن التكرار مع ملاحظة ما ذكرناه في التعليق من أهداف ومقاصد.
ولقد علل المفسرون المؤولون حكمة الله في إنزال الملك في صورة رجل إذا ما شاء إنزاله على بشر بأن البشر لا يطيقون رؤية الملائكة، أو أن الملائكة في أصلهم نورانيون لا يمكن أن يراهم البشر. فيشاء الله أن يتمثلوا لهم في صورة رجل، وعللوا ما روته بعض الأحاديث التي وردت في الصحاح وأوردناها في سياق تعليقنا المذكور والتي تذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رأى الملك في هيئته الأصلية سادا الأفق بأن ذلك خصوصية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والتعليلات وجيهة فيما هو المتبادر. والله أعلم.

﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ ( ١٠ ) قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( ١١ ) ﴾ [ ١٠ – ١١ ].
جاءت الآيتان معقبتين على سابقاتهما وبسبيل تطمين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنذار الكفار ؛ حيث قررتا أن ما يفعله هؤلاء قد فعلته الأمم السابقة مع رسلهم وقد حاق بهم شر ذلك. وعلى الكفار أن يسيروا في الأرض ليروا آثار بلاء الله تعالى وتدميره، وكيف كانت عاقبة المكذبين وليتعظوا بذلك، وهناك آيات عديدة مر بعضها في سور سبق تفسيرها تذكر أن من سامعي القرآن من زار أماكن الأقوام السابقين ورأوا آيات تدمير الله فيها مثل آيات الفرقان [ ٤٠ ] والصافات [ ١٣٣ – ١٣٨ ] والعنكبوت [ ٣٨ ] حيث يبدو أن الأمر بالسير ورؤية آثار بلاء الله في الأقوام السابقة هو من قبل الإلزام والإفحام.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠:﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِىءَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ ( ١٠ ) قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ( ١١ ) ﴾ [ ١٠ – ١١ ].
جاءت الآيتان معقبتين على سابقاتهما وبسبيل تطمين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنذار الكفار ؛ حيث قررتا أن ما يفعله هؤلاء قد فعلته الأمم السابقة مع رسلهم وقد حاق بهم شر ذلك. وعلى الكفار أن يسيروا في الأرض ليروا آثار بلاء الله تعالى وتدميره، وكيف كانت عاقبة المكذبين وليتعظوا بذلك، وهناك آيات عديدة مر بعضها في سور سبق تفسيرها تذكر أن من سامعي القرآن من زار أماكن الأقوام السابقين ورأوا آيات تدمير الله فيها مثل آيات الفرقان [ ٤٠ ] والصافات [ ١٣٣ – ١٣٨ ] والعنكبوت [ ٣٨ ] حيث يبدو أن الأمر بالسير ورؤية آثار بلاء الله في الأقوام السابقة هو من قبل الإلزام والإفحام.

﴿ قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ١٢ ) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٣ ) ﴾ [ ١٢ – ١٣ ].
في الآيتين توكيد بأسلوب السؤال التقريري بأن كل ما في السماوات والأرض هو لله وهو المتصرف المطلق في كل ما تحرك وسكن في الليل والنهار وأن رحمته قضت أن يجمع الناس جميعا إلى يوم القيامة وأنه ليس في هذا أي مجال للريب، وهناك يرى الذين لا يؤمنون أنهم هم الذين خسروا وأضاعوا أنفسهم بسبب عدم إيمانهم.
هذا، ومن المفسرين والمؤولين من قال : إن جملة ﴿ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [ ١٢ ] هي في مقام قسم رباني جوابه في الجملة التي بعدها. ومنهم من تبادر له من الجملتين أن من الرحمة التي كتبها الله على نفسه أن أمهل الكفار، وأمد لهم في الدنيا لعلهم يغنمون الفرصة، ويدينوا بدين الحق. وأن منها حكمته التي اقتضت البعث والحساب الأخرويين لينال أهل الدنيا جزاء أعمالهم خيرا كانت أم شرا، ولا تحتمل التأويلات من الوجاهة.
ولقد أورد المفسرون في سياق جملة ﴿ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ الأعراف :[ ١٥٦ ] أحاديث نبوية في مدى رحمة الله تعالى. وقد أوردنا هذه الأحاديث في سياق جملة ﴿ ورحمتي وسعت كل شيء ﴾ في سورة الأعراف الآية [ ١٥٦ ] فنكتفي بهذا التنبيه مع التنبيه على أن جملة آية الأعراف أوسع شمولا ومدى منها هنا كما هو المتبادر والله أعلم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢:﴿ قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ١٢ ) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٣ ) ﴾ [ ١٢ – ١٣ ].
في الآيتين توكيد بأسلوب السؤال التقريري بأن كل ما في السماوات والأرض هو لله وهو المتصرف المطلق في كل ما تحرك وسكن في الليل والنهار وأن رحمته قضت أن يجمع الناس جميعا إلى يوم القيامة وأنه ليس في هذا أي مجال للريب، وهناك يرى الذين لا يؤمنون أنهم هم الذين خسروا وأضاعوا أنفسهم بسبب عدم إيمانهم.
هذا، ومن المفسرين والمؤولين من قال : إن جملة ﴿ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ [ ١٢ ] هي في مقام قسم رباني جوابه في الجملة التي بعدها. ومنهم من تبادر له من الجملتين أن من الرحمة التي كتبها الله على نفسه أن أمهل الكفار، وأمد لهم في الدنيا لعلهم يغنمون الفرصة، ويدينوا بدين الحق. وأن منها حكمته التي اقتضت البعث والحساب الأخرويين لينال أهل الدنيا جزاء أعمالهم خيرا كانت أم شرا، ولا تحتمل التأويلات من الوجاهة.
ولقد أورد المفسرون في سياق جملة ﴿ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ﴾ الأعراف :[ ١٥٦ ] أحاديث نبوية في مدى رحمة الله تعالى. وقد أوردنا هذه الأحاديث في سياق جملة ﴿ ورحمتي وسعت كل شيء ﴾ في سورة الأعراف الآية [ ١٥٦ ] فنكتفي بهذا التنبيه مع التنبيه على أن جملة آية الأعراف أوسع شمولا ومدى منها هنا كما هو المتبادر والله أعلم.

﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ( ١٤ ) قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ١٥ ) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ( ١٦ ) ﴾ [ ١٤ – ١٦ ].
معاني الآيات واضحة والخطاب فيها موجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤمر فيها بإعلان عقيدته الخالصة بالله وحده وينطوي فيها كما هو المتبادر إعلان ودعوة وتحذير للسامعين من مؤمنين وغير مؤمنين.
ولقد روى بعض المفسرين ١ أن الآيات نزلت ردا على قول الكفار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنا علمنا أنه لا يحملك على ما تقول إلا الفقر، ونحن نجمع لك أموالنا حتى تكون من أغنانا.
ولقد روي مثل هذه الرواية في مناسبات عديدة مرت أمثلة منها غير أن فحوى الآية هنا لا يساعد على التسليم بصحة الرواية كمناسبة لنزولها. والمتبادر من التشابه بين هذه الآيات والآيات السابقة لها واللاحقة بها معا أنها سياق واحد.
١ انظر تفسيرها في مجمع البيان للطبرسي..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤:﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ( ١٤ ) قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ١٥ ) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ( ١٦ ) ﴾ [ ١٤ – ١٦ ].
معاني الآيات واضحة والخطاب فيها موجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤمر فيها بإعلان عقيدته الخالصة بالله وحده وينطوي فيها كما هو المتبادر إعلان ودعوة وتحذير للسامعين من مؤمنين وغير مؤمنين.
ولقد روى بعض المفسرين ١ أن الآيات نزلت ردا على قول الكفار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنا علمنا أنه لا يحملك على ما تقول إلا الفقر، ونحن نجمع لك أموالنا حتى تكون من أغنانا.
ولقد روي مثل هذه الرواية في مناسبات عديدة مرت أمثلة منها غير أن فحوى الآية هنا لا يساعد على التسليم بصحة الرواية كمناسبة لنزولها. والمتبادر من التشابه بين هذه الآيات والآيات السابقة لها واللاحقة بها معا أنها سياق واحد.
١ انظر تفسيرها في مجمع البيان للطبرسي..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤:﴿ قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ( ١٤ ) قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ( ١٥ ) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ( ١٦ ) ﴾ [ ١٤ – ١٦ ].
معاني الآيات واضحة والخطاب فيها موجه للنبي صلى الله عليه وآله وسلم يؤمر فيها بإعلان عقيدته الخالصة بالله وحده وينطوي فيها كما هو المتبادر إعلان ودعوة وتحذير للسامعين من مؤمنين وغير مؤمنين.
ولقد روى بعض المفسرين ١ أن الآيات نزلت ردا على قول الكفار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنا علمنا أنه لا يحملك على ما تقول إلا الفقر، ونحن نجمع لك أموالنا حتى تكون من أغنانا.
ولقد روي مثل هذه الرواية في مناسبات عديدة مرت أمثلة منها غير أن فحوى الآية هنا لا يساعد على التسليم بصحة الرواية كمناسبة لنزولها. والمتبادر من التشابه بين هذه الآيات والآيات السابقة لها واللاحقة بها معا أنها سياق واحد.
١ انظر تفسيرها في مجمع البيان للطبرسي..

﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ ( ١٧ ) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ( ١ ) وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( ١٨ ) ﴾
والآيات استمرار كذلك في السياق وتعقيب عليه كما هو المتبادر، ومعانيها واضحة. وكأنما أريد أن يقال للكفار في هذه الآيات وسابقاتها بسبيل الرد والتنديد إنكم إذا كنتم تتخذون أولياء غير الله ظنا منكم بأنهم يمكنهم أن يكشفوا عنكم ضرا أو يجلبوا لكم نفعا فإنكم في ضلال. فلن يملك ذلك إلا الله تعالى الذي فطر السماوات والأرض. والذي لا يحتاج إلى أحد ويحتاج إليه كل الناس ولا يستحق العبادة والاتجاه وإسلام النفس إلا هو وحده الذي له القدرة والسيطرة على كل عباده، والذي لا يقتضي إلا بما فيه الحكمة الخبير بكل شأن وأمر.
القاهر فوق عباده : الجملة بمعنى صاحب القدرة والسيطرة على عباده.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٧:﴿ وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ ( ١٧ ) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ( ١ ) وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( ١٨ ) ﴾
والآيات استمرار كذلك في السياق وتعقيب عليه كما هو المتبادر، ومعانيها واضحة. وكأنما أريد أن يقال للكفار في هذه الآيات وسابقاتها بسبيل الرد والتنديد إنكم إذا كنتم تتخذون أولياء غير الله ظنا منكم بأنهم يمكنهم أن يكشفوا عنكم ضرا أو يجلبوا لكم نفعا فإنكم في ضلال. فلن يملك ذلك إلا الله تعالى الذي فطر السماوات والأرض. والذي لا يحتاج إلى أحد ويحتاج إليه كل الناس ولا يستحق العبادة والاتجاه وإسلام النفس إلا هو وحده الذي له القدرة والسيطرة على كل عباده، والذي لا يقتضي إلا بما فيه الحكمة الخبير بكل شأن وأمر.

﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ١٩ ) ﴾ [ ١٩ ].
في الآية أوامر ربانية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم تأمره بأن يسأل عمن هو أعظم شهادة، وأن يقرر أنه هو الله تعالى، وأن يعلن أنه يجعل الله شهيدا بينه وبين الذين يتجادل معهم على أن الله هو الذي أوحى إليه بالقرآن لينذر به الناس السامعين ومن يبلغه خير هذا الإنذار من الغائبين، وبأن يعلن إذا أصر المشركون على إشراك آلهة أخرى مع الله أنه بريء مما يشركون، وأنه لا يشهد إلا بأن الله واحد لا شريك له.
وقد روى البغوي والطبرسي أن بعض زعماء المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم اذكر لنا من يشهد أنك رسول الله كما تزعم، فإننا سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر فنزلت الآية ردا عليهم.
وروى الطبري أن بعض أشخاص من اليهود جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالوا له : ما تعلم مع الله إلها غيره، فقال : لا إله إلا الله. بذلك بعثت وإلى ذلك أدعو، فأنزل الله هذه الآية مع التي بعدها. ورواية الطبري تقتضي أن تكون الآية مدنية. وليس هناك رواية بذلك باستثناء الآية [ ٢٠ ] على ما ذكرناه في مقدمة السورة. وفحوى الآية أنها في صدد جدال مع المشركين. وفي الآية تأييد دعوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلا يعقل أن تكون نزلت للرد على اليهود الذين آذنت أنهم يعرفون حقيقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يعرفون أبناءهم بصفتهم ﴿ الذين أتيناهم الكتاب ﴾ البقرة :[ ١٤٦ ] وهذا وذاك يسوغ الشك في رواية الطبري، أما الرواية الأولى فإن شطرها الثاني مناقض للآية [ ٢٠ ] كما هو واضح.
والذي يتبادر لنا من أسلوب الآية أنها استمرار في السياق، وأن ضمير الجمع المخاطب الذي يعود إلى الكفار على الأرجح يربط بينهما وبين موقف الجدل الوجاهي الذي حكته الآيات السابقة، ثم أخذت ترد عليه ردا بعد رد منددة ومنذرة ومقرعة ومذكرة.
تعليق على الآية
﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً ﴾… الخ
وأسلوب الآية نافذ إلى الأعماق في صدد الدعوة إلى الله وحده. والجملة على مظهر من مظاهر الشرك، ثم في جعل الله شهيدا على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يقول إلا الحق ولا يبلغ إلا الصدق. وأن القرآن هو من وحي الله وجملة ﴿ وَمَن بَلَغَ ﴾ تتضمن عموم الدعوة المحمدية وخلودها وشمولها لكل ظرف ومكان وجنس ونحلة كما هو المتبادر.
ولقد أورد المفسرون في سياق هذه الآية أحاديث نبوية وردت صيغ مقاربة لها في كتب الصحاح. منها حديث رواه الشيخان عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ليبلغ الشاهد الغائب فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه )١. وحديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( بلغوا عني ولو آية )٢. وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( نضر الله امرأ سمع منا شيئا فبلغه كما سمع فرب مبلغ أوعى من سامع )٣.
وينطوي في الأحاديث إيجاب نبوي صريح على كل مسلم في كل زمن ومكان تبليغ شيء مما يعرف من آيات الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وآله وسلم لأي كان لا يعرف ذلك. سواء أكان مسلما أم غير مسلم، فكأنما حمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذا ما أمر به في الآية من إنذار السامعين بالقرآن ومن يبلغه خبره من غيرهم على المسلمين استمرارا لتحقيق أمر الله تعالى له. وهذا يعنى واجب الدعوة إلى الإسلام على كل مسلم في كل زمن ومكان. والمتبادر أن هذا الواجب أشد إيجابا على القادرين عليه علما وسلطانا واستطاعة. وبالدرجة الأولى على أولياء أمر المسلمين الذين هم خلفاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على المسلمين والإسلام. فالله سبحانه وتعالى أرسل رسوله مبشرا وداعيا ونذيرا لجميع البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم ونحلهم، وأمر المسلمين أن يجعلوه أسوة وأن يستمروا على نهجه ولا ينقلبوا على أعقابهم بعده كما جاء في آية سورة آل عمران هذه :﴿ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإين مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ﴾ [ ١٤٤ ] كما جاء في آية سورة الأحزاب هذه :﴿ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ﴾ [ ٢١ ] فصار واجب التبليغ والدعوة واجبا لازما على كل مسلم وكل بحسب قدرته واستطاعته. مع شرط مهم هو أن يكون الصدق والإخلاص رائدهم في كل ما يبلغونه، وأن يتحروا في ذلك أشد التحري وأن لا يكون فيه كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليه حيث جاء في حديث رواه البخاري والترمذي عن عبد الله بن عمرو :( ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار )٤. وفي القرآن آيات عديدة فيها إنذار رهيب لمن يكذب على الله تعالى منها آية سورة الأعراف [ ٢٧ ] التي سبق تفسيرها ومنها آية الزمر هذه :﴿ فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين ( ٣٢ ) ﴾.
١ التاج ج ٢ ص ٥٨ – ٦٠..
٢ التاج ج ٢ ص ٥٨ – ٦٠.
٣ التاج ج ٢ ص ٥٨ – ٦٠.
٤ التاج ج ١ ص ٥٨..
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ٢٠ ) ﴾ [ ٢٠ ].
وفي الآية تقرير رباني بأن الكتابيين يعرفون النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصدق دعوته وصحة وحي الله إليه بالقرآن معرفة يقين كما يعرفون أبناءهم. وبأن الذين لا يؤمنون بذلك هم الذين خسروا أنفسهم وأشقوها بعنادهم ومكابرتهم.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن هذه الآية مدنية ولقد روى المفسرون أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لعبد الله بن سلام اليهودي الذي أسلم في المدينة : إن الله قد أنزل على نبيه هذه الآية. وسأله كيف هذه المعرفة. فقال له : عرفته حين رأيته كما أعرف ابني هذا وإني أشهد أنه رسول الله حقا. ولقد توقفنا في رواية مدنية الآية مع غيرها مما ذكر أنها مدنيات في تعريف السورة لانسجامها مع السياق. وقد تكون رواية مدنية هذه الآية ملتبسة بهذه الرواية. وإنه ليتبادر لنا بقوة أنها متصلة بالسياق وبخاصة بالآية السابقة لها مباشرة اتصال تدعيم. فقد جعلت الآية السابقة لها الله تعالى شهيدا على صدق وحي الله بالقرآن وجاءت هذه الآية لتقرر ذلك بطريق إشهاد أهل الكتاب. ولعل فيها ردا على ما روته الرواية التي أوردناها من قبل، التي ذكرت أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنهم سألوا عنه اليهود والنصارى فأنكروه.
تعليق على جملة
﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ ﴾
الآية تتضمن تقريرا يقينيا بأن أهل الكتاب يعرفون النبي صلى الله عليه وآله وسلم معرفة يقينية كما يعرفون أبناءهم. وينطوي فيها تقرير كونهم يعرفون صدق وصحة الوحي القرآني. وكان هذا يتلى علنا، فلا بد من أنه كان مستندا إلى مشاهد ووقائع ثابتة لا تدحض.
ولقد كان فعلا وهو ما حكته آية سورة الأعراف [ ١٥٧ ] وآيات سورة القصص [ ٥٢ - ٥٢ ] وآيات الإسراء [ ١٠٧ - ١٠٩ ] التي سبق تفسيرها من مشاهد قوية صريحة.
وفي سورة مكية أخرى تسجيل لذلك منها الآية [ ١٠ ] من سورة الأحقاف والآية [ ٤٧ ] من سورة العنكبوت والآية [ ٣٦ ] من سورة الرعد.
وفي سور مدنية تسجيلات أخرى من ذلك في آيات البقرة [ ١٢١، ١٤٦ ] وآل عمران [ ١١٢ – ١١٤ و١٩٩ ] والنساء [ ٥٥ ] والمائدة [ ٨٢ و ٨٣ ] التي أوردناها في سياق تفسير آية الأعراف المذكورة.
وفي هذه السورة آية تذكر أن الذين أوتوا الكتاب يعرفون أن القرآن منزل من الله بالحق.
وإذا كان القرآن المدني قد سجل حقا مواقف مناوئة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ودعوته من طوائف من أهل الكتاب وأحبارهم ورهبانهم مما تضمنته سلسلة آيات البقرة [ ٤٠ ] وما بعدها إلى الآية [ ١٧٥ ] وآيات آل عمران [ ١٩ – ٢٥و ٦٤ - ١٢٠ ] والنساء [ ٤٣ – ٥٦و ١٥٠ ] والمائدة [ ٤٥ - ٨٦ ] والتوبة [ ٢٩ - ٣٥ ] والجمعة [ ٥ - ٨ ] ففي سياق التسجيل تقريرات بأن هذا آت من الغيظ والحسد والرغبة في كنز الذهب والفضة وأكل الأموال بالباطل مع علمهم في قرارة أنفسهم بصحة نبوة النبي والوحي القرآني كما يظهر لمن يقرأ هذه الآيات.
ومن الجدير بالذكر أنه ليس في القرآن المكي ذكر لمواقف مناوئة من أهل الكتاب ؛ حيث يدل هذا على أنهم استجابوا للدعوة التي عرفوا أنها الحق وانضووا إليها، حيث ينطوي في هذا شهادة عيانية خالدة من أهل الكتاب بصدق وحي الله بالقرآن وبصدق الرسالة المحمدية وإيمانهم بهما حينما يرتفع قوله عن كل منفعة مادية وحقد وحسد وأنانية ومكابرة ويرغبون في الحق والهدى كما كان شأن الجماعة التي كانت في مكة التي كانت متنوعة الجنسيات وفيهم أولو العلم والإطلاع. وحجة خالدة على مدى الدهر على كل من يقف موقف الجاحد المعطل من القرآن والرسالة المحمدية.
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ( ١ ) مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( ٢١ ) ﴾ [ ٢١ ].
ومن أظلم : ومن أشد جرما وبغيا.
الآية استمرار في السياق كما هو المتبادر، وقد قال بعض المفسرين ١ في تأويل جملة ﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا ﴾إنها بمعنى ( ليس أحد أظلم ممن تقول على الله فادعى أن الله أرسله ولم يكن أرسله ) ومعظم المفسرين٢ أولوها بمعنى ( ليس أحد أظلم ممن كذب على الله فادعى أن له شركاء ) وكلا التأويلين وجيه ومتسق مع السياق. وفي حال الأخذ بالتأويل الأول تكون الجملة بمثابة تعقيب وتدعيم لجملة إشهاد الله على صحة الوحي القرآني الوارد في الآية [ ١٩ ] بأسلوب قوي رائع. وفي حال الأخذ بالتأويل الثاني تكون الجملة بمثابة تعقيب على أمر الله تعالى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم مجاراة المشركين في شهادتهم بأن مع الله آلهة أخرى وبإعلان براءته مما يشركون، وهذا كذلك مما ورد في الآية المذكورة أيضا.
ولعل الآيات التالية لهذه الآية ترجح التأويل الثاني الذي قال به معظم المفسرين.
١ أنظر تفسير الآية في تفسير ابن كثير..
٢ انظر تفسيرها في تفسير الطبري والبغوي والزمخشري والطبرسي والخازن ورشيد رضا..
﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( ٢٢ ) ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ( ١ ) إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( ٢٣ ) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ( ٢ ) وَضَلَّ ( ٣ ) عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ( ٢٤ ) ﴾ [ ٢٢ - ٢٤ ].
في الآيات وصف للموقف المحرج الذي يقفه المشركون يوم يحشرهم الله تعالى يوم القيامة، حيث يسألهم عن شركائهم فيسقط في أيديهم ويأخذون يحلفون الأيمان على أنهم لم يكونوا مشركين. وهكذا يكذبون أنفسهم ويتنصلون من جريمتهم عبثا، ويغيب عنهم الشركاء الذين افتروهم ولا يجدون لهم منهم أولياء ولا نصراء.
والآيات متصلة بالسياق وهي مرجحة كما قلنا قبل للتأويل الثاني للآية السابقة عليها ؛ حيث يتبادر أن الضمير فيها راجع إلى ( الظالمين ) الذين يفترون على الله ويكذبون بآياته.
وقد استهدفت إثارة الخوف في المشركين وحملهم على الارعواء فيما استهدفته.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [ ٢٣ ] مدنية مع أنها متصلة اتصالا تاما بسياق الآيات التي قبلها وبعدها وبموضوعها حتى إن الآيات الثلاث تبدو وحدة تامة مما يسوغ الشك في الرواية بقوة بل نفيها ولم نطلع على رواية ما في كتب التفسير تؤيد ذلك.
ثم لم تكن فتنتهم : بعضهم أولها بمعنى ( ثم لم تكن عاقبة فتنتهم ) وبعضهم أولها بمعنى ( ثم لم يكن اعتذارهم ) وكلا التأويلين وجيه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٢:﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( ٢٢ ) ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ( ١ ) إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( ٢٣ ) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ( ٢ ) وَضَلَّ ( ٣ ) عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ( ٢٤ ) ﴾ [ ٢٢ - ٢٤ ].
في الآيات وصف للموقف المحرج الذي يقفه المشركون يوم يحشرهم الله تعالى يوم القيامة، حيث يسألهم عن شركائهم فيسقط في أيديهم ويأخذون يحلفون الأيمان على أنهم لم يكونوا مشركين. وهكذا يكذبون أنفسهم ويتنصلون من جريمتهم عبثا، ويغيب عنهم الشركاء الذين افتروهم ولا يجدون لهم منهم أولياء ولا نصراء.
والآيات متصلة بالسياق وهي مرجحة كما قلنا قبل للتأويل الثاني للآية السابقة عليها ؛ حيث يتبادر أن الضمير فيها راجع إلى ( الظالمين ) الذين يفترون على الله ويكذبون بآياته.
وقد استهدفت إثارة الخوف في المشركين وحملهم على الارعواء فيما استهدفته.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [ ٢٣ ] مدنية مع أنها متصلة اتصالا تاما بسياق الآيات التي قبلها وبعدها وبموضوعها حتى إن الآيات الثلاث تبدو وحدة تامة مما يسوغ الشك في الرواية بقوة بل نفيها ولم نطلع على رواية ما في كتب التفسير تؤيد ذلك.

كذبوا على أنفسهم : بمعنى خدعوا أنفسهم.
ضل عنهم : غاب عنهم شركاؤهم الذين أشركوهم مع الله افتراء عليه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٢:﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( ٢٢ ) ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ( ١ ) إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ( ٢٣ ) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ( ٢ ) وَضَلَّ ( ٣ ) عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ( ٢٤ ) ﴾ [ ٢٢ - ٢٤ ].
في الآيات وصف للموقف المحرج الذي يقفه المشركون يوم يحشرهم الله تعالى يوم القيامة، حيث يسألهم عن شركائهم فيسقط في أيديهم ويأخذون يحلفون الأيمان على أنهم لم يكونوا مشركين. وهكذا يكذبون أنفسهم ويتنصلون من جريمتهم عبثا، ويغيب عنهم الشركاء الذين افتروهم ولا يجدون لهم منهم أولياء ولا نصراء.
والآيات متصلة بالسياق وهي مرجحة كما قلنا قبل للتأويل الثاني للآية السابقة عليها ؛ حيث يتبادر أن الضمير فيها راجع إلى ( الظالمين ) الذين يفترون على الله ويكذبون بآياته.
وقد استهدفت إثارة الخوف في المشركين وحملهم على الارعواء فيما استهدفته.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [ ٢٣ ] مدنية مع أنها متصلة اتصالا تاما بسياق الآيات التي قبلها وبعدها وبموضوعها حتى إن الآيات الثلاث تبدو وحدة تامة مما يسوغ الشك في الرواية بقوة بل نفيها ولم نطلع على رواية ما في كتب التفسير تؤيد ذلك.

﴿ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا( ١ ) وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ( ٢٥ ) ﴾[ ٢٥ ].
( ١ ) وقرا : صمما.
في الآية إشارة إلى موقف من مواقف المناظرة التي كانت تحدث بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار حيث كانوا يستمعون إليه حينما يتلو القرآن فلا ينفذون إلى ما فيه من علوية وروحانية عنادا ومكابرة ولا يجدون ما يقولونه إلا أنه أساطير الأولين وقصصهم وكتبهم.
وقد أورد المفسرون١ في سياقها رواية جاء فيها أن أبا سفيان وأبا جهل والنضر بن حارث وآخرين من زعماء المشركين كانوا يستمعون القرآن فقالوا للنضر : ما يقول محمد ؟ قال : ما أدري إلا أني أراه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم، فقال أبو سفيان : إني أرى بعض ما يقول حقا، فقال أبو جهل : كلا، كلا إن الموت أهون علينا من أن نقر بذلك٢.
وضمير ( منهم ) وعطف الجملة على ما سبقها يدلان على أن الآية من سلسلة السياق. ولم تنزل لحدتها فصلا مستقلا، وهذا لا يمنع أن يكون قد حدث ما ذكرته الرواية فأشير إليه في الآية.
تعليق على جملة
﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾
وجملة ﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا ﴾ معترضة أو استطرادية. ويتبادر أنها بسبيل تصوير شدة مكابرتهم وعنادهم وإصرارهم على عدم الإيمان والتصديق مهما رأوا من آيات الله. وقد تكرر مثل هذا التعبير في مثل هذه المناسبة. ومن ذلك آيات سورة الإسراء [ ٤٥ - ٤٦ ] التي مر تفسيرها وعلقنا عليها بما فيه الكفاية وما قلناه هناك ينسحب على هذه الآية بما في ذلك ما لمحناه من قصد التسجيل لواقع الكفار حين نزولها. ويتبادر لنا أنه قصد بالعبارة هنا بخاصة تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتهوين عناد الكفار ومواقفهم عليه. والأسلوب الاستطرادي مما يؤيد ذلك.
١ انظر تفسير الآيات في تفسير الخازن والبغوي والطبرسي..
٢ انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير لهذه الآيات..
﴿ وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( ٢٦ ) ﴾.
قال المفسرون ١ في تأويل الآية : إن زعماء المشركين كانوا ينأون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو عن القرآن فلا يؤمنون به وينهون غيرهم عن الإيمان به فجمعوا بذلك بين القبيحين، وهم بذلك لا يضرون إلا أنفسهم دون أن يشعروا وروى مع ذلك٢ أن الآية نزلت في أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يدافع عنه ولا يؤمن به في الوقت نفسه.
وقد صوب الضحاك وقتادة ومجاهد والطبري التأويل الأول وهو ما نراه الأوجه، ولا سيما إذا لوحظ أن الآية جاءت في سياق تعنيف زعماء الكفار على مواقف عنادهم ومكابرتهم ثم في سياق جدلهم في القرآن. وليس في سياق مجال الاستطراد إلى وصف موقف عنادهم ومكابرتهم ثم في سياق جدلهم في القرآن. وليس في السياق مجال للاستطراد إلى وصف موقف عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم والآية بعد معطوفة على ما قبلها، وليست فصلا مستقلا. والآيات التالية لها هي استمرار في السياق أيضا. أما الشطر الثاني من الآية فقد جاء بمثابة تعقيب على ما حكاه شطرها الأول ؛ حيث قرر أن ما يفعله الكفار إنما يضرون به أنفسهم ويهلكونها به دون أن يشعروا ويدروا.
١ انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والزمخشري والخازن..
٢ انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والطبرسي والزمخشري والخازن.
.

﴿ وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٢٧ )بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ٢٨ ) ﴾. [ ٢٧ – ٢٨ ].
الآيتان معطوفتان على الآية السابقة في صدد الإشارة إلى موقف الكفار وإنذارهم والضمير فيها راجع إليهم. وقد حكت الآية الأولى ما سوف يشعرون به من الندم على هذه المواقف حينما يقفون على النار يوم القيامة ويتيقنون من مصيرهم الرهيب فيها فيأخذون يتمنون العودة إلى الدنيا فلا يكذبون بآيات الله ويكونون من المؤمنين برسله. وقد احتوت الآية الثانية تنديدا وتبكيتا للكفار ثم توكيدا بأنهم لو عادوا إلى الدنيا كما طلبوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون. وينطوي في هذا تعليل لذلك بأنهم إنما كانوا يصدرون عن نية خبيثة وطوية فاسدة.
وقد أول المؤولون الشطر الأول من هذه الآية بتأويلين أحدهما :( إنهم إنما قالوا ما حكته الآية الأولى عنهم لأنهم بدا لهم عاقبة وبال ما كانوا يخفونه من المساوئ والمعاصي ). وثانيهما :( إنهم ظهر لهم مصداق ما كانوا مستيقنين منه من صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما كان يدعو إليه ويبلغه ويبشر وينذر به والذي كانوا يجحدونه استكبارا وحسدا وغيظا ). وكلا التأويلين وارد. ولقد أشير إلى الأول في آية سورة السجدة [ ١٢ ] وآية سورة فاطر [ ٣٧ ] وأشير إلى الثاني في آية سورة ص [ ٧ ] وآيات سورة فاطر [ ٤٢ و ٤٣ ] وآية سورة الزخرف [ ٣١ ].
وواضح أن الآيتين استهدفتا فيما استهدفتاه إنذار الكفار وإثارة الخوف في قلوبهم وتصوير ما استقر في نفوسهم من تعمد العناد والكفر وفقدهم الرغبة الصادقة في الإيمان والصلاح. وفيهما تطمين وتسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين أيضا بالإضافة إلى ما فيهما من مشهد أخروي يجب الإيمان به.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٧:﴿ وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ( ٢٧ )بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ( ٢٨ ) ﴾. [ ٢٧ – ٢٨ ].
الآيتان معطوفتان على الآية السابقة في صدد الإشارة إلى موقف الكفار وإنذارهم والضمير فيها راجع إليهم. وقد حكت الآية الأولى ما سوف يشعرون به من الندم على هذه المواقف حينما يقفون على النار يوم القيامة ويتيقنون من مصيرهم الرهيب فيها فيأخذون يتمنون العودة إلى الدنيا فلا يكذبون بآيات الله ويكونون من المؤمنين برسله. وقد احتوت الآية الثانية تنديدا وتبكيتا للكفار ثم توكيدا بأنهم لو عادوا إلى الدنيا كما طلبوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون. وينطوي في هذا تعليل لذلك بأنهم إنما كانوا يصدرون عن نية خبيثة وطوية فاسدة.
وقد أول المؤولون الشطر الأول من هذه الآية بتأويلين أحدهما :( إنهم إنما قالوا ما حكته الآية الأولى عنهم لأنهم بدا لهم عاقبة وبال ما كانوا يخفونه من المساوئ والمعاصي ). وثانيهما :( إنهم ظهر لهم مصداق ما كانوا مستيقنين منه من صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما كان يدعو إليه ويبلغه ويبشر وينذر به والذي كانوا يجحدونه استكبارا وحسدا وغيظا ). وكلا التأويلين وارد. ولقد أشير إلى الأول في آية سورة السجدة [ ١٢ ] وآية سورة فاطر [ ٣٧ ] وأشير إلى الثاني في آية سورة ص [ ٧ ] وآيات سورة فاطر [ ٤٢ و ٤٣ ] وآية سورة الزخرف [ ٣١ ].
وواضح أن الآيتين استهدفتا فيما استهدفتاه إنذار الكفار وإثارة الخوف في قلوبهم وتصوير ما استقر في نفوسهم من تعمد العناد والكفر وفقدهم الرغبة الصادقة في الإيمان والصلاح. وفيهما تطمين وتسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين أيضا بالإضافة إلى ما فيهما من مشهد أخروي يجب الإيمان به.

﴿ وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ( ٢٩ )وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ( ٣٠ ) ﴾. [ ٢٩ -٣٠ ].
في الآية الأولى حكاية لما كان يقوله الكفار حيث كانوا يزعمون ويؤكدون أنه ليس من حياة وراء هذه الحياة، وأنهم لن يبعثوا بعد الموت. وفي الآية الثانية رد إنذاري موجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أو إلى سامع القرآن إطلاقا، وهذا من أساليب الخطاب العربي بسبيل توكيد بعثهم وحكاية لما سوف يكون بينهم وبين الله تعالى إذ ذاك، حيث يسألهم حينما يقفون أمامه أليس ما يرونه هو الحق الذي كانوا ينكرونه ؟ فيجيبون بالإيجاب فيقول لهم إذا ذوقوا العذاب جزاء إنكارهم وكفرهم.
والآيتان معطوفتان كذلك على سابقاتهما واستمرار في السياق. وفيهما قصد الإنذار مع توكيد البعث والجزاء. وما جاء في الآيتين من أقوال الكفار قد تكرر كثيرا ومر منه أمثلة في السور التي سبق تفسيرها لأن الموافقة المماثلة كانت تتكرر وتتجدد.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٩:﴿ وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ( ٢٩ )وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ( ٣٠ ) ﴾. [ ٢٩ -٣٠ ].
في الآية الأولى حكاية لما كان يقوله الكفار حيث كانوا يزعمون ويؤكدون أنه ليس من حياة وراء هذه الحياة، وأنهم لن يبعثوا بعد الموت. وفي الآية الثانية رد إنذاري موجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. أو إلى سامع القرآن إطلاقا، وهذا من أساليب الخطاب العربي بسبيل توكيد بعثهم وحكاية لما سوف يكون بينهم وبين الله تعالى إذ ذاك، حيث يسألهم حينما يقفون أمامه أليس ما يرونه هو الحق الذي كانوا ينكرونه ؟ فيجيبون بالإيجاب فيقول لهم إذا ذوقوا العذاب جزاء إنكارهم وكفرهم.
والآيتان معطوفتان كذلك على سابقاتهما واستمرار في السياق. وفيهما قصد الإنذار مع توكيد البعث والجزاء. وما جاء في الآيتين من أقوال الكفار قد تكرر كثيرا ومر منه أمثلة في السور التي سبق تفسيرها لأن الموافقة المماثلة كانت تتكرر وتتجدد.

الساعة : في أكثر مواضع القرآن تأتي كناية عن وقت قيام القيامة، وقد أولها المفسرون هنا كذلك أيضا. غير أن الذي يتبادر لنا والله أعلم أنها هنا بمعنى ساعة أجل المكذبين في الحياة ؛ لأن هذا هو الأكثر تأثيرا على السامعين الموجه إليهم الإنذار من حيث إن موعد قيام الساعة العام متأخر عنهم.
يزرون : يحملون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ( ١ ) بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ( ٢ ) ( ٣١ ) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( ٣٢ ) ﴾ [ ٣١ – ٣٢ ].
الآية الأولى : تقرر خسران المكذبين بلقاء الله والبعث، وتحكي ما سوف يستشعرون به من الحسرة والندامة على ما فرطوا في حياتهم وأضاعوا الفرصة حينما تأتيهم الساعة بغتة ويلقون الله حاملين خطاياهم وآثامهم، وبئست من حمل.
الثانية : تقرر بأسلوب فيه توكيد وتنديد بأن الحياة الدنيا ليست إلا لعبا ولهوا، وأن الآخرة هي خير وأبقى للذين يتقون الله تعالى، وأن هذا مما يجب أن يدركوه لو تعقلوا وترووا. وفي صيغة الاستفهام معنى التثريب والتنديد.
والآيتان معقبتان على الآيات السابقة كما هو المتبادر وفيهما تنديد وإنذار للكفار وتصوير لما سوف يحل بهم من الندامة بأسلوب آخر ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي حكته فإن المتبادر أن من حكمة ذكره قصد إثارة الخوف والارعواء فيهم، وقد تكرر ذلك في آيات كثيرة، مرت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها.
ويلحظ أن وصف حالة ندم الكفار يوم القيامة على ما قدموا قد تكرر في السياق وهذا مما يدعمك قصد الإنذار وإثارة الخوف والارعواء قبل فوات الوقت، وبالتالي قصد الإصلاح في الآيات كما هو المتبادر.
تعليق على الجملة
﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْو ﴾
وقد يتبادر إلى الوهم أن الآية الأخيرة هي في صدد الدعوة إلى الفراغ من الدنيا ونبذها، والذي يستلهم من روح الآية أن القصد هو تعظيم شأن الآخرة وتعظيم شأن الاستعداد لها بالإيمان والعمل الصالح والتقوى والاعتقاد فيها اعتقادا يجعل المرء يراقب الله في أعماله ولا يستغرق في متاع الدنيا وشهواتها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله والناس. وتوكيد كون الحياة الدنيا بقصر أمدها وبنسبتها إلى الحياة الأخروية هي بمثابة لعب ولهو لا يتحمل استغراقا مثل هذا الاستغراق

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ( ١ ) بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ( ٢ ) ( ٣١ ) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ( ٣٢ ) ﴾ [ ٣١ – ٣٢ ].
الآية الأولى : تقرر خسران المكذبين بلقاء الله والبعث، وتحكي ما سوف يستشعرون به من الحسرة والندامة على ما فرطوا في حياتهم وأضاعوا الفرصة حينما تأتيهم الساعة بغتة ويلقون الله حاملين خطاياهم وآثامهم، وبئست من حمل.
الثانية : تقرر بأسلوب فيه توكيد وتنديد بأن الحياة الدنيا ليست إلا لعبا ولهوا، وأن الآخرة هي خير وأبقى للذين يتقون الله تعالى، وأن هذا مما يجب أن يدركوه لو تعقلوا وترووا. وفي صيغة الاستفهام معنى التثريب والتنديد.
والآيتان معقبتان على الآيات السابقة كما هو المتبادر وفيهما تنديد وإنذار للكفار وتصوير لما سوف يحل بهم من الندامة بأسلوب آخر ومع واجب الإيمان بالمشهد الأخروي الذي حكته فإن المتبادر أن من حكمة ذكره قصد إثارة الخوف والارعواء فيهم، وقد تكرر ذلك في آيات كثيرة، مرت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها.
ويلحظ أن وصف حالة ندم الكفار يوم القيامة على ما قدموا قد تكرر في السياق وهذا مما يدعمك قصد الإنذار وإثارة الخوف والارعواء قبل فوات الوقت، وبالتالي قصد الإصلاح في الآيات كما هو المتبادر.
تعليق على الجملة
﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْو ﴾
وقد يتبادر إلى الوهم أن الآية الأخيرة هي في صدد الدعوة إلى الفراغ من الدنيا ونبذها، والذي يستلهم من روح الآية أن القصد هو تعظيم شأن الآخرة وتعظيم شأن الاستعداد لها بالإيمان والعمل الصالح والتقوى والاعتقاد فيها اعتقادا يجعل المرء يراقب الله في أعماله ولا يستغرق في متاع الدنيا وشهواتها استغراقا ينسيه واجباته نحو الله والناس. وتوكيد كون الحياة الدنيا بقصر أمدها وبنسبتها إلى الحياة الأخروية هي بمثابة لعب ولهو لا يتحمل استغراقا مثل هذا الاستغراق

﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ( ٣٣ ) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ( ٣٤ ) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( ٣٥ ) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ( ٣٦ ) ﴾ [ ٣٣ – ٣٦ ].
الآيات موجهة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبيل تسليته فالله تعالى يعلم أن ما يقوله الكفار له – من مفتر ومن أنه شاعر ومن أنه كاهن ومن أنه ساحر – يحزنه ويؤلمه. ولكن ليس من داع إلى ذلك ؛ لأنهم لا يكذبونه هو بل يكذبون آيات الله ويجحدونها، ولذلك فهم خصماء الله وعليه جزاؤهم. وموقفهم هذا ليس بدعا إزاءه بخاصة. فقد كذبت رسل من قبله أيضا فصبروا على التكذيب والأذى حتى أتاهم نصر الله. وهذه هي سنة الله التي لا تتبدل. وقد عرفها مما جاء إليه من أنباء الرسل ومصائر الأمم في القرآن. وليس من موجب لتفكيره في صنع المستحيل كأن يحفر نفقا ينزل فيه إلى أعماق الأرض، أو ينصب سلما يصعد فيه إلى أعالي السماء ليأتيهم بآية يقنعون بها بسبب ما يعظم عليه من إعراضهم ويشق عليه من عدم استجابتهم. فذلك من شأن الجهلاء الذين لا ينبغي أن يكون هو منهم. فلو شاء الله لجمعهم على الهدى. ولكن حكمته قضت بأن يكون الناس أصحاب اختيار حر ليستجيبوا إلى الدعوة أو يعرضوا عنها باختيارهم، والناس أقسام، فمنهم ذوو قلوب حية، ومنهم ذوو قلوب ميتة. فالأولون يسمعون ويستجيبون إلى نداء الله ودعوته. أما الآخرون فهم بمثابة الموتى الذين لا يسمعون فلا يستجيبون للنداء. ومرجع هؤلاء إلى الله تعالى فسوف يبعثهم ثم يجزيهم بما يستحقون.
والآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة التي حكت مواقف الكفار وجحودهم وشدة عنادهم وبخاصة زعمائهم واحتوت في ذات الوقت إنذارا لهم ووعيدا وتنديدا. وأسلوبها رائع نافذ حقا فيما استهدفته من تطمين نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتهدئته وفي تصوير شدة إشفاقه ورغبته في هداية قومه وحزنه من تصاممهم وتكذيبهم له.
وفي الآية الأخيرة ثناء وتنويه بالذين يذعنون للحق والحقيقة، ولا يكابرون فيهما وتقريع للذين يعاندون ويكابرون عن خبث نية وفساد طوية. أولا : وفيها توكيد لما نبهنا عليه مرارا من أن الذين يكفرون ويقفون مواقف المناوأة والتكذيب وعدم الاستجابة، إنما يصدرون عن خبث طوية ومكابرة.
وقد يكون في الآيات صورة للسامعين للقرآن. غير أن أسلوبها المطلق يجعل تلقيناتها الجليلة المشروحة مستمرة المدى.
تعليق على جملة
﴿ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ﴾
لقد روى الترمذي في سياق الآية الأولى حديثا عن علي بن أبي طالب قال :( إن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم نحن لا نكذبك ولكنا نكذب بما جئت به فأنزل الله الآية )١ وروى الطبري أن جبريل جاء يوما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجده حزينا فسأله عما يحزنه فقال له : إنهم كذبوني، فقال له : إنهم يعلمون أنك صادق فهم لا يكذبونك، ولكنهم يجحدون بآيات الله وبلغه الآية عن الله ). والحديثان لا يعزوان ما جاء فيهما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو المرجع الذي ينقل عنه مثل ذلك. والآية بعد منسجمة مع الآيات الأخرى ومع السياق بحيث يسوغ التوقف في كونها نزلت لمناسبة ما جاء في الأحاديث. هذا لا يمنع أن يكون ما جاء في حديث الترمذي واقعا في ذاته وقد مر في سياق تفسير الآية [ ٢٨ ] من هذه السورة رواية من بابها تفيد أن الكفار كانوا مستيقنين من صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم كانوا يقفون منه موقف المناوأة استكبارا وحسدا، وقد أوردنا في سياق ذلك بعض الآيات التي تفيد ذلك أيضا.
على أن الطبري وغيره يروون في الوقت نفسه أن الذي عنته الآية من حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو تكذيبهم إياه فعلا وقولهم إنه شاعر وإنه كاهن وإنه كاذب وإنه مفتر وإنه ساحر مما حكته عنهم آيات عديدة مرت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها كذلك، فأنزل الله الآية على سبيل تثبيته وتطمينه والتنديد بالكفار وذكر الحقيقة من مواقفهم ولا يخلو هذا من وجاهة أيضا، والله أعلم.
١ روى هذا الحديث الترمذي أيضا انظر التاج جـ ٤ ص ٩٨..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ( ٣٣ ) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ( ٣٤ ) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( ٣٥ ) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ( ٣٦ ) ﴾ [ ٣٣ – ٣٦ ].
الآيات موجهة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبيل تسليته فالله تعالى يعلم أن ما يقوله الكفار له – من مفتر ومن أنه شاعر ومن أنه كاهن ومن أنه ساحر – يحزنه ويؤلمه. ولكن ليس من داع إلى ذلك ؛ لأنهم لا يكذبونه هو بل يكذبون آيات الله ويجحدونها، ولذلك فهم خصماء الله وعليه جزاؤهم. وموقفهم هذا ليس بدعا إزاءه بخاصة. فقد كذبت رسل من قبله أيضا فصبروا على التكذيب والأذى حتى أتاهم نصر الله. وهذه هي سنة الله التي لا تتبدل. وقد عرفها مما جاء إليه من أنباء الرسل ومصائر الأمم في القرآن. وليس من موجب لتفكيره في صنع المستحيل كأن يحفر نفقا ينزل فيه إلى أعماق الأرض، أو ينصب سلما يصعد فيه إلى أعالي السماء ليأتيهم بآية يقنعون بها بسبب ما يعظم عليه من إعراضهم ويشق عليه من عدم استجابتهم. فذلك من شأن الجهلاء الذين لا ينبغي أن يكون هو منهم. فلو شاء الله لجمعهم على الهدى. ولكن حكمته قضت بأن يكون الناس أصحاب اختيار حر ليستجيبوا إلى الدعوة أو يعرضوا عنها باختيارهم، والناس أقسام، فمنهم ذوو قلوب حية، ومنهم ذوو قلوب ميتة. فالأولون يسمعون ويستجيبون إلى نداء الله ودعوته. أما الآخرون فهم بمثابة الموتى الذين لا يسمعون فلا يستجيبون للنداء. ومرجع هؤلاء إلى الله تعالى فسوف يبعثهم ثم يجزيهم بما يستحقون.
والآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة التي حكت مواقف الكفار وجحودهم وشدة عنادهم وبخاصة زعمائهم واحتوت في ذات الوقت إنذارا لهم ووعيدا وتنديدا. وأسلوبها رائع نافذ حقا فيما استهدفته من تطمين نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتهدئته وفي تصوير شدة إشفاقه ورغبته في هداية قومه وحزنه من تصاممهم وتكذيبهم له.
وفي الآية الأخيرة ثناء وتنويه بالذين يذعنون للحق والحقيقة، ولا يكابرون فيهما وتقريع للذين يعاندون ويكابرون عن خبث نية وفساد طوية. أولا : وفيها توكيد لما نبهنا عليه مرارا من أن الذين يكفرون ويقفون مواقف المناوأة والتكذيب وعدم الاستجابة، إنما يصدرون عن خبث طوية ومكابرة.
وقد يكون في الآيات صورة للسامعين للقرآن. غير أن أسلوبها المطلق يجعل تلقيناتها الجليلة المشروحة مستمرة المدى.
تعليق على جملة
﴿ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ﴾
لقد روى الترمذي في سياق الآية الأولى حديثا عن علي بن أبي طالب قال :( إن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم نحن لا نكذبك ولكنا نكذب بما جئت به فأنزل الله الآية )١ وروى الطبري أن جبريل جاء يوما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجده حزينا فسأله عما يحزنه فقال له : إنهم كذبوني، فقال له : إنهم يعلمون أنك صادق فهم لا يكذبونك، ولكنهم يجحدون بآيات الله وبلغه الآية عن الله ). والحديثان لا يعزوان ما جاء فيهما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو المرجع الذي ينقل عنه مثل ذلك. والآية بعد منسجمة مع الآيات الأخرى ومع السياق بحيث يسوغ التوقف في كونها نزلت لمناسبة ما جاء في الأحاديث. هذا لا يمنع أن يكون ما جاء في حديث الترمذي واقعا في ذاته وقد مر في سياق تفسير الآية [ ٢٨ ] من هذه السورة رواية من بابها تفيد أن الكفار كانوا مستيقنين من صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم كانوا يقفون منه موقف المناوأة استكبارا وحسدا، وقد أوردنا في سياق ذلك بعض الآيات التي تفيد ذلك أيضا.
على أن الطبري وغيره يروون في الوقت نفسه أن الذي عنته الآية من حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو تكذيبهم إياه فعلا وقولهم إنه شاعر وإنه كاهن وإنه كاذب وإنه مفتر وإنه ساحر مما حكته عنهم آيات عديدة مرت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها كذلك، فأنزل الله الآية على سبيل تثبيته وتطمينه والتنديد بالكفار وذكر الحقيقة من مواقفهم ولا يخلو هذا من وجاهة أيضا، والله أعلم.
١ روى هذا الحديث الترمذي أيضا انظر التاج جـ ٤ ص ٩٨..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ( ٣٣ ) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ( ٣٤ ) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( ٣٥ ) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ( ٣٦ ) ﴾ [ ٣٣ – ٣٦ ].
الآيات موجهة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبيل تسليته فالله تعالى يعلم أن ما يقوله الكفار له – من مفتر ومن أنه شاعر ومن أنه كاهن ومن أنه ساحر – يحزنه ويؤلمه. ولكن ليس من داع إلى ذلك ؛ لأنهم لا يكذبونه هو بل يكذبون آيات الله ويجحدونها، ولذلك فهم خصماء الله وعليه جزاؤهم. وموقفهم هذا ليس بدعا إزاءه بخاصة. فقد كذبت رسل من قبله أيضا فصبروا على التكذيب والأذى حتى أتاهم نصر الله. وهذه هي سنة الله التي لا تتبدل. وقد عرفها مما جاء إليه من أنباء الرسل ومصائر الأمم في القرآن. وليس من موجب لتفكيره في صنع المستحيل كأن يحفر نفقا ينزل فيه إلى أعماق الأرض، أو ينصب سلما يصعد فيه إلى أعالي السماء ليأتيهم بآية يقنعون بها بسبب ما يعظم عليه من إعراضهم ويشق عليه من عدم استجابتهم. فذلك من شأن الجهلاء الذين لا ينبغي أن يكون هو منهم. فلو شاء الله لجمعهم على الهدى. ولكن حكمته قضت بأن يكون الناس أصحاب اختيار حر ليستجيبوا إلى الدعوة أو يعرضوا عنها باختيارهم، والناس أقسام، فمنهم ذوو قلوب حية، ومنهم ذوو قلوب ميتة. فالأولون يسمعون ويستجيبون إلى نداء الله ودعوته. أما الآخرون فهم بمثابة الموتى الذين لا يسمعون فلا يستجيبون للنداء. ومرجع هؤلاء إلى الله تعالى فسوف يبعثهم ثم يجزيهم بما يستحقون.
والآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة التي حكت مواقف الكفار وجحودهم وشدة عنادهم وبخاصة زعمائهم واحتوت في ذات الوقت إنذارا لهم ووعيدا وتنديدا. وأسلوبها رائع نافذ حقا فيما استهدفته من تطمين نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتهدئته وفي تصوير شدة إشفاقه ورغبته في هداية قومه وحزنه من تصاممهم وتكذيبهم له.
وفي الآية الأخيرة ثناء وتنويه بالذين يذعنون للحق والحقيقة، ولا يكابرون فيهما وتقريع للذين يعاندون ويكابرون عن خبث نية وفساد طوية. أولا : وفيها توكيد لما نبهنا عليه مرارا من أن الذين يكفرون ويقفون مواقف المناوأة والتكذيب وعدم الاستجابة، إنما يصدرون عن خبث طوية ومكابرة.
وقد يكون في الآيات صورة للسامعين للقرآن. غير أن أسلوبها المطلق يجعل تلقيناتها الجليلة المشروحة مستمرة المدى.
تعليق على جملة
﴿ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ﴾
لقد روى الترمذي في سياق الآية الأولى حديثا عن علي بن أبي طالب قال :( إن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم نحن لا نكذبك ولكنا نكذب بما جئت به فأنزل الله الآية )١ وروى الطبري أن جبريل جاء يوما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجده حزينا فسأله عما يحزنه فقال له : إنهم كذبوني، فقال له : إنهم يعلمون أنك صادق فهم لا يكذبونك، ولكنهم يجحدون بآيات الله وبلغه الآية عن الله ). والحديثان لا يعزوان ما جاء فيهما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو المرجع الذي ينقل عنه مثل ذلك. والآية بعد منسجمة مع الآيات الأخرى ومع السياق بحيث يسوغ التوقف في كونها نزلت لمناسبة ما جاء في الأحاديث. هذا لا يمنع أن يكون ما جاء في حديث الترمذي واقعا في ذاته وقد مر في سياق تفسير الآية [ ٢٨ ] من هذه السورة رواية من بابها تفيد أن الكفار كانوا مستيقنين من صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم كانوا يقفون منه موقف المناوأة استكبارا وحسدا، وقد أوردنا في سياق ذلك بعض الآيات التي تفيد ذلك أيضا.
على أن الطبري وغيره يروون في الوقت نفسه أن الذي عنته الآية من حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو تكذيبهم إياه فعلا وقولهم إنه شاعر وإنه كاهن وإنه كاذب وإنه مفتر وإنه ساحر مما حكته عنهم آيات عديدة مرت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها كذلك، فأنزل الله الآية على سبيل تثبيته وتطمينه والتنديد بالكفار وذكر الحقيقة من مواقفهم ولا يخلو هذا من وجاهة أيضا، والله أعلم.
١ روى هذا الحديث الترمذي أيضا انظر التاج جـ ٤ ص ٩٨..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٣:﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ( ٣٣ ) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ ( ٣٤ ) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ( ٣٥ ) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ( ٣٦ ) ﴾ [ ٣٣ – ٣٦ ].
الآيات موجهة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبيل تسليته فالله تعالى يعلم أن ما يقوله الكفار له – من مفتر ومن أنه شاعر ومن أنه كاهن ومن أنه ساحر – يحزنه ويؤلمه. ولكن ليس من داع إلى ذلك ؛ لأنهم لا يكذبونه هو بل يكذبون آيات الله ويجحدونها، ولذلك فهم خصماء الله وعليه جزاؤهم. وموقفهم هذا ليس بدعا إزاءه بخاصة. فقد كذبت رسل من قبله أيضا فصبروا على التكذيب والأذى حتى أتاهم نصر الله. وهذه هي سنة الله التي لا تتبدل. وقد عرفها مما جاء إليه من أنباء الرسل ومصائر الأمم في القرآن. وليس من موجب لتفكيره في صنع المستحيل كأن يحفر نفقا ينزل فيه إلى أعماق الأرض، أو ينصب سلما يصعد فيه إلى أعالي السماء ليأتيهم بآية يقنعون بها بسبب ما يعظم عليه من إعراضهم ويشق عليه من عدم استجابتهم. فذلك من شأن الجهلاء الذين لا ينبغي أن يكون هو منهم. فلو شاء الله لجمعهم على الهدى. ولكن حكمته قضت بأن يكون الناس أصحاب اختيار حر ليستجيبوا إلى الدعوة أو يعرضوا عنها باختيارهم، والناس أقسام، فمنهم ذوو قلوب حية، ومنهم ذوو قلوب ميتة. فالأولون يسمعون ويستجيبون إلى نداء الله ودعوته. أما الآخرون فهم بمثابة الموتى الذين لا يسمعون فلا يستجيبون للنداء. ومرجع هؤلاء إلى الله تعالى فسوف يبعثهم ثم يجزيهم بما يستحقون.
والآيات جاءت معقبة على الآيات السابقة التي حكت مواقف الكفار وجحودهم وشدة عنادهم وبخاصة زعمائهم واحتوت في ذات الوقت إنذارا لهم ووعيدا وتنديدا. وأسلوبها رائع نافذ حقا فيما استهدفته من تطمين نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتهدئته وفي تصوير شدة إشفاقه ورغبته في هداية قومه وحزنه من تصاممهم وتكذيبهم له.
وفي الآية الأخيرة ثناء وتنويه بالذين يذعنون للحق والحقيقة، ولا يكابرون فيهما وتقريع للذين يعاندون ويكابرون عن خبث نية وفساد طوية. أولا : وفيها توكيد لما نبهنا عليه مرارا من أن الذين يكفرون ويقفون مواقف المناوأة والتكذيب وعدم الاستجابة، إنما يصدرون عن خبث طوية ومكابرة.
وقد يكون في الآيات صورة للسامعين للقرآن. غير أن أسلوبها المطلق يجعل تلقيناتها الجليلة المشروحة مستمرة المدى.
تعليق على جملة
﴿ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ﴾
لقد روى الترمذي في سياق الآية الأولى حديثا عن علي بن أبي طالب قال :( إن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم نحن لا نكذبك ولكنا نكذب بما جئت به فأنزل الله الآية )١ وروى الطبري أن جبريل جاء يوما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فوجده حزينا فسأله عما يحزنه فقال له : إنهم كذبوني، فقال له : إنهم يعلمون أنك صادق فهم لا يكذبونك، ولكنهم يجحدون بآيات الله وبلغه الآية عن الله ). والحديثان لا يعزوان ما جاء فيهما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو المرجع الذي ينقل عنه مثل ذلك. والآية بعد منسجمة مع الآيات الأخرى ومع السياق بحيث يسوغ التوقف في كونها نزلت لمناسبة ما جاء في الأحاديث. هذا لا يمنع أن يكون ما جاء في حديث الترمذي واقعا في ذاته وقد مر في سياق تفسير الآية [ ٢٨ ] من هذه السورة رواية من بابها تفيد أن الكفار كانوا مستيقنين من صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنهم كانوا يقفون منه موقف المناوأة استكبارا وحسدا، وقد أوردنا في سياق ذلك بعض الآيات التي تفيد ذلك أيضا.
على أن الطبري وغيره يروون في الوقت نفسه أن الذي عنته الآية من حزن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو تكذيبهم إياه فعلا وقولهم إنه شاعر وإنه كاهن وإنه كاذب وإنه مفتر وإنه ساحر مما حكته عنهم آيات عديدة مرت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها كذلك، فأنزل الله الآية على سبيل تثبيته وتطمينه والتنديد بالكفار وذكر الحقيقة من مواقفهم ولا يخلو هذا من وجاهة أيضا، والله أعلم.
١ روى هذا الحديث الترمذي أيضا انظر التاج جـ ٤ ص ٩٨..

﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( ٣٧ ) وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ( ٣٨ ) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٣٩ ) ﴾
في الآيات حكاية لتحدي الكفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم باستنزال آية ومعجزة من الله مؤيدة له. وأمر بالرد عليهم : بأن الله قادر على ذلك ولكن أكثر المتحدين لا يعلمون ولا يدركون حكمة الله تعالى في تحقيق ذلك أو عدم تحقيقه. وبأن قدرته أوسع شمولا وتناولا، وأن آياته ماثلة للعيان في كل شيء. وأنه ليس في الأرض دابة وليس في السماء طائر إلا هو من خلقه تتناولهم قدرته ويجري فيهم حكمه وتدبيره. وأنه ليس من شيء يمكن أن يفلت من علمه ويخرج من نطاق تصرفه وحكمه، وأن كل مخلوق راجع أمره إليه، وأن الذين يكذبون بآيات الله الماثلة لعيانهم في كل شيء والتي تنبههم إليها آيات القرآن هم في موقفهم التعجيزي الذي يطالبون فيه بآية جديدة كالصم الذين لا يسمعون، والبكم الذين لا ينطقون، وكالذين في الظلمات لا يرون شيئا فمن شاء الله أضله ومن شاء جعله على طريق مستقيم.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صدد ما حكته الآيات من طلب الكفار آية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينزلها عليه ربه. وعطف الآيات على ما قبلها، وما بينها وبين ما قبلها من تماثل وانسجام يسوغ القول إنها استمرار في السياق بسبيل حكاية موقف الكفار وتعجيزاتهم والتنديد بهم بصورة عامة.
ويلفت النظر إلى أسلوب القرآن الحكيم في الإجابة على التحدي باستنزال الآية بما هو أولى، فالكفار يتحدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم باستنزال آية والقرآن يلفت نظرهم إلى آيات الله العظيمة الماثلة لأعينهم في السماء والأرض والإنسان والدواب والطير. فمن لم يؤمن بالله واستحقاقه للعبادة وحده وعظمته بما يراه من هذه الآيات لا يؤمن بأية آية أخرى. ولاسيما أن الإيمان بذلك يتوقف على سلامة العقل والرغبة في الحق والنية الحسنة ولا ينبغي أن يكون متوقفا على معجزات خارقة وعابرة. وهذه المعاني تكررت في القرآن في سياق حكاية كل تحد مماثل صدر عن الكفار وهي معان قوية رائعة نافذة حقا.
تعليق على آية
﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء ثم إلى ربهم يحشرونٍ ﴾
١- قال المفسرون ورووا عن أهل التأويل أن الشطر الأول من الآية يعني أن الله جعل الدواب والطيور أصنافا مثل البشر، تتصرف في حياتها بما أودعه الله فيها كما يتصرفون، وهذا وجه سديد.
٢- وقالوا ورووا في صدد جملة ﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ أن الدواب والطيور تحشر يوم القيامة وتحاسب ويقضى بينها ثم يقول الله لها كوني ترابا فتكون ترابا. وأوردوا أحاديث في ذلك، منها : حديث رواه الإمام أحمد عن أبي ذر قال :( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى شاتين تنتطحان فقال يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان ؟ قال : لا، قال : ولكن الله يدري وسيقضي بينهما ). وحديث رواه الإمام أحمد عن عثمان قال :( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة ) وحديث غير معزو للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أخرجه عبد الرزاق عن أبي هريرة جاء فيه :( يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ الجماء من القرناء ثم يقول : كوني ترابا فتكون ترابا ). وهناك حديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتؤدى الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) ولقد عقب الطبري على كل هذا بقوله : إنه ليس في الآية صراحة عن وقت الحشر، وليس هناك خبر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك فجائز أن يكون الحشر ليوم القيامة كظاهر الآية وجائز أن يكون بمعنى أنه جامعهم وحاشرهم إليه بالموت. ونرى هذا سديدا والوقوف عنده أسلم. ويظهر من هذا أن حديث مسلم والترمذي لم يثبت عنده. وإذا صح فالحكمة المتبادرة منه هي قصد التوكيد والتشديد على المؤمنين بأداء حقوق بعضهم إلى بعضهم وعدم ظلمهم بعضهم لبعض، والله أعلم.
٣- أما جملة ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ فهناك من أول الكتاب بأم الكتاب أو اللوح المحفوظ الذي روى أن الله تعالى أمر بكتابة أمر كل ما هو كائن حين خلقه عليه، وقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سورة البروج ورجحنا أنه يعني علم الله المحصي لكل شيء. وهناك من أولها بعلم الله المحيط بكل خلقه الذي لا ينسى من رزقه وتدبيره أحدا ولا شيئا ومنهم من أول الكتاب في الجملة بالقرآن وأورد آية سورة النحل هذه :﴿ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ﴾ [ ٨٩ ] لتأييد تأويله. وقد رد قائلو هذا على من قال : إن القرآن ليس فيه تفاصيل كل علم وفن ومذهب وتاريخ. فإن القصد من العبارة بيان الأشياء التي يجب معرفتها والإحاطة بها، أو بأن القصد منها وجود إشارات أو أساس لكل شيء بقطع النظر عن التفاصيل والجزئيات.
وهذه الأقوال والتأويلات اجتهادية وتطبيقية، وليس هناك شيء فيما اطلعنا عليه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أصحابه في تأويل الجملة. ويلحظ أنها ليست مستقلة عن ما قبلها وعن ما بعدها بحيث يسوغ القول إنها في صدد ما جاء في الآية من تقرير كون الله جمع الحيوانات من بشر ودواب وطيور صنوفا وكون مردهم وحشرهم إليه وكون علم الله محيطا بهم أن أي تفريط بشيء من أحوالهم وأمورهم. وهذا يتسق من حيث الإطلاق بالقول الثاني أيضا. وسيأتي بعد قليل في هذه السورة آية تدعم هذا وهي الآية [ ٥٩ ] وقد ورد في سور سبق تفسيرها آيات فيها هذا الدعم وهي آيات النمل [ ٧٥ ] ويونس [ ٧٥ ] وهود [ ٦ ] وما ذكرته هود بخاصة تكاد تكون في عبارتها مثل الآية التي نحن في صددها وهناك آيات أخرى من باب ذلك في سورة أخرى لم يسبق تفسيرها أيضا.
وفي كل ما تقدم نفي لكون ( الكتاب ) في الجملة قد عنى ( القرآن ) ورد على من يقتطع الجملة من الآية من مسلمين وغير مسلمين ويأخذها كعبارة مستقلة عن ما قبلها وبعدها، وكونها عنت ( القرآن ) وعلى من يدلل من المسلمين من هؤلاء بها على أن القرآن احتوى كل شيء ويحاول محاولات فيها كثير من التحمل والمجازفة بسبيل إثبات ذلك في حين ينتقد غير المسلمين من هؤلاء القرآن على ضوء ما يقوله أولئك المسلمون من حيث إن القرآن لا يحتوي على كل شيء.
وعلى كل حال فالذي يتبادر لنا أن الآيات التي جاءت فيها العبارات الثلاث هي في صدد تقدير شمول علم الله تعالى وقدرته وحكمته وتدبيره وإحاطته للتدليل على أن الذي له هذا الشمول لا يعجز عن إنزال آية يتحداه بها حفنة من خلقه، وأن الأولى هو الوقوف عند هذا الحد في صدد مدى النص القرآني. والله تعالى أعلم.
تعليق على جملة
﴿ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾
وقد توهم الفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة أن الله قد شاء وحتم الضلال لأناس والهدى لأناس إطلاقا. ولقد ورد مثل هذه العبارة في آيات أخرى مقيدة بما يزيل مثل ذلك الوهم ؛ حيث ذكر فيها أن الله إنما يضل الفاسقين [ آية سورة البقرة ٢ ] وإنما يضل الظالمين [ آية سورة إبراهيم ٢٧ ] ويهدي إليه من أناب [ آية سورة الرعد ٢٧ ] فمن الحق أن تفهم هذه العبارة حينما تجيء مطلقة كما هي هنا على ضوء القيد الوارد في الآيات المذكورة وأمثالها وحينئذ لا يبقى محل للتوهم على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة سابقة. وأن يلحظ أنه لا يصح أن يكون الله قد شاء الضلال لأحد وهو الذي أرسل رسله للناس وهو الذي يقول في آية في سورة الزمر ﴿ ولا يرضى لعباده الكفر ﴾ [ ٧ ] ومع ذلك ففي الآيات التي نحن في صددها قرينة ملهمة لذلك ؛ حيث وصف الكفار بالصمم والبكم وأنذروا بالنار بسبب كفرهم وتكذيبهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٧:﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( ٣٧ ) وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ( ٣٨ ) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٣٩ ) ﴾
في الآيات حكاية لتحدي الكفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم باستنزال آية ومعجزة من الله مؤيدة له. وأمر بالرد عليهم : بأن الله قادر على ذلك ولكن أكثر المتحدين لا يعلمون ولا يدركون حكمة الله تعالى في تحقيق ذلك أو عدم تحقيقه. وبأن قدرته أوسع شمولا وتناولا، وأن آياته ماثلة للعيان في كل شيء. وأنه ليس في الأرض دابة وليس في السماء طائر إلا هو من خلقه تتناولهم قدرته ويجري فيهم حكمه وتدبيره. وأنه ليس من شيء يمكن أن يفلت من علمه ويخرج من نطاق تصرفه وحكمه، وأن كل مخلوق راجع أمره إليه، وأن الذين يكذبون بآيات الله الماثلة لعيانهم في كل شيء والتي تنبههم إليها آيات القرآن هم في موقفهم التعجيزي الذي يطالبون فيه بآية جديدة كالصم الذين لا يسمعون، والبكم الذين لا ينطقون، وكالذين في الظلمات لا يرون شيئا فمن شاء الله أضله ومن شاء جعله على طريق مستقيم.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صدد ما حكته الآيات من طلب الكفار آية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينزلها عليه ربه. وعطف الآيات على ما قبلها، وما بينها وبين ما قبلها من تماثل وانسجام يسوغ القول إنها استمرار في السياق بسبيل حكاية موقف الكفار وتعجيزاتهم والتنديد بهم بصورة عامة.
ويلفت النظر إلى أسلوب القرآن الحكيم في الإجابة على التحدي باستنزال الآية بما هو أولى، فالكفار يتحدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم باستنزال آية والقرآن يلفت نظرهم إلى آيات الله العظيمة الماثلة لأعينهم في السماء والأرض والإنسان والدواب والطير. فمن لم يؤمن بالله واستحقاقه للعبادة وحده وعظمته بما يراه من هذه الآيات لا يؤمن بأية آية أخرى. ولاسيما أن الإيمان بذلك يتوقف على سلامة العقل والرغبة في الحق والنية الحسنة ولا ينبغي أن يكون متوقفا على معجزات خارقة وعابرة. وهذه المعاني تكررت في القرآن في سياق حكاية كل تحد مماثل صدر عن الكفار وهي معان قوية رائعة نافذة حقا.
تعليق على آية
﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء ثم إلى ربهم يحشرونٍ ﴾

١-
قال المفسرون ورووا عن أهل التأويل أن الشطر الأول من الآية يعني أن الله جعل الدواب والطيور أصنافا مثل البشر، تتصرف في حياتها بما أودعه الله فيها كما يتصرفون، وهذا وجه سديد.

٢-
وقالوا ورووا في صدد جملة ﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ أن الدواب والطيور تحشر يوم القيامة وتحاسب ويقضى بينها ثم يقول الله لها كوني ترابا فتكون ترابا. وأوردوا أحاديث في ذلك، منها : حديث رواه الإمام أحمد عن أبي ذر قال :( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى شاتين تنتطحان فقال يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان ؟ قال : لا، قال : ولكن الله يدري وسيقضي بينهما ). وحديث رواه الإمام أحمد عن عثمان قال :( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة ) وحديث غير معزو للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أخرجه عبد الرزاق عن أبي هريرة جاء فيه :( يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ الجماء من القرناء ثم يقول : كوني ترابا فتكون ترابا ). وهناك حديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتؤدى الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) ولقد عقب الطبري على كل هذا بقوله : إنه ليس في الآية صراحة عن وقت الحشر، وليس هناك خبر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك فجائز أن يكون الحشر ليوم القيامة كظاهر الآية وجائز أن يكون بمعنى أنه جامعهم وحاشرهم إليه بالموت. ونرى هذا سديدا والوقوف عنده أسلم. ويظهر من هذا أن حديث مسلم والترمذي لم يثبت عنده. وإذا صح فالحكمة المتبادرة منه هي قصد التوكيد والتشديد على المؤمنين بأداء حقوق بعضهم إلى بعضهم وعدم ظلمهم بعضهم لبعض، والله أعلم.

٣-
أما جملة ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ فهناك من أول الكتاب بأم الكتاب أو اللوح المحفوظ الذي روى أن الله تعالى أمر بكتابة أمر كل ما هو كائن حين خلقه عليه، وقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سورة البروج ورجحنا أنه يعني علم الله المحصي لكل شيء. وهناك من أولها بعلم الله المحيط بكل خلقه الذي لا ينسى من رزقه وتدبيره أحدا ولا شيئا ومنهم من أول الكتاب في الجملة بالقرآن وأورد آية سورة النحل هذه :﴿ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ﴾ [ ٨٩ ] لتأييد تأويله. وقد رد قائلو هذا على من قال : إن القرآن ليس فيه تفاصيل كل علم وفن ومذهب وتاريخ. فإن القصد من العبارة بيان الأشياء التي يجب معرفتها والإحاطة بها، أو بأن القصد منها وجود إشارات أو أساس لكل شيء بقطع النظر عن التفاصيل والجزئيات.
وهذه الأقوال والتأويلات اجتهادية وتطبيقية، وليس هناك شيء فيما اطلعنا عليه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أصحابه في تأويل الجملة. ويلحظ أنها ليست مستقلة عن ما قبلها وعن ما بعدها بحيث يسوغ القول إنها في صدد ما جاء في الآية من تقرير كون الله جمع الحيوانات من بشر ودواب وطيور صنوفا وكون مردهم وحشرهم إليه وكون علم الله محيطا بهم أن أي تفريط بشيء من أحوالهم وأمورهم. وهذا يتسق من حيث الإطلاق بالقول الثاني أيضا. وسيأتي بعد قليل في هذه السورة آية تدعم هذا وهي الآية [ ٥٩ ] وقد ورد في سور سبق تفسيرها آيات فيها هذا الدعم وهي آيات النمل [ ٧٥ ] ويونس [ ٧٥ ] وهود [ ٦ ] وما ذكرته هود بخاصة تكاد تكون في عبارتها مثل الآية التي نحن في صددها وهناك آيات أخرى من باب ذلك في سورة أخرى لم يسبق تفسيرها أيضا.
وفي كل ما تقدم نفي لكون ( الكتاب ) في الجملة قد عنى ( القرآن ) ورد على من يقتطع الجملة من الآية من مسلمين وغير مسلمين ويأخذها كعبارة مستقلة عن ما قبلها وبعدها، وكونها عنت ( القرآن ) وعلى من يدلل من المسلمين من هؤلاء بها على أن القرآن احتوى كل شيء ويحاول محاولات فيها كثير من التحمل والمجازفة بسبيل إثبات ذلك في حين ينتقد غير المسلمين من هؤلاء القرآن على ضوء ما يقوله أولئك المسلمون من حيث إن القرآن لا يحتوي على كل شيء.
وعلى كل حال فالذي يتبادر لنا أن الآيات التي جاءت فيها العبارات الثلاث هي في صدد تقدير شمول علم الله تعالى وقدرته وحكمته وتدبيره وإحاطته للتدليل على أن الذي له هذا الشمول لا يعجز عن إنزال آية يتحداه بها حفنة من خلقه، وأن الأولى هو الوقوف عند هذا الحد في صدد مدى النص القرآني. والله تعالى أعلم.
تعليق على جملة
﴿ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾
وقد توهم الفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة أن الله قد شاء وحتم الضلال لأناس والهدى لأناس إطلاقا. ولقد ورد مثل هذه العبارة في آيات أخرى مقيدة بما يزيل مثل ذلك الوهم ؛ حيث ذكر فيها أن الله إنما يضل الفاسقين [ آية سورة البقرة ٢ ] وإنما يضل الظالمين [ آية سورة إبراهيم ٢٧ ] ويهدي إليه من أناب [ آية سورة الرعد ٢٧ ] فمن الحق أن تفهم هذه العبارة حينما تجيء مطلقة كما هي هنا على ضوء القيد الوارد في الآيات المذكورة وأمثالها وحينئذ لا يبقى محل للتوهم على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة سابقة. وأن يلحظ أنه لا يصح أن يكون الله قد شاء الضلال لأحد وهو الذي أرسل رسله للناس وهو الذي يقول في آية في سورة الزمر ﴿ ولا يرضى لعباده الكفر ﴾ [ ٧ ] ومع ذلك ففي الآيات التي نحن في صددها قرينة ملهمة لذلك ؛ حيث وصف الكفار بالصمم والبكم وأنذروا بالنار بسبب كفرهم وتكذيبهم.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٣٧:﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ( ٣٧ ) وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ( ٣٨ ) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٣٩ ) ﴾
في الآيات حكاية لتحدي الكفار النبي صلى الله عليه وآله وسلم باستنزال آية ومعجزة من الله مؤيدة له. وأمر بالرد عليهم : بأن الله قادر على ذلك ولكن أكثر المتحدين لا يعلمون ولا يدركون حكمة الله تعالى في تحقيق ذلك أو عدم تحقيقه. وبأن قدرته أوسع شمولا وتناولا، وأن آياته ماثلة للعيان في كل شيء. وأنه ليس في الأرض دابة وليس في السماء طائر إلا هو من خلقه تتناولهم قدرته ويجري فيهم حكمه وتدبيره. وأنه ليس من شيء يمكن أن يفلت من علمه ويخرج من نطاق تصرفه وحكمه، وأن كل مخلوق راجع أمره إليه، وأن الذين يكذبون بآيات الله الماثلة لعيانهم في كل شيء والتي تنبههم إليها آيات القرآن هم في موقفهم التعجيزي الذي يطالبون فيه بآية جديدة كالصم الذين لا يسمعون، والبكم الذين لا ينطقون، وكالذين في الظلمات لا يرون شيئا فمن شاء الله أضله ومن شاء جعله على طريق مستقيم.
ولم يرو المفسرون رواية خاصة في صدد ما حكته الآيات من طلب الكفار آية من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ينزلها عليه ربه. وعطف الآيات على ما قبلها، وما بينها وبين ما قبلها من تماثل وانسجام يسوغ القول إنها استمرار في السياق بسبيل حكاية موقف الكفار وتعجيزاتهم والتنديد بهم بصورة عامة.
ويلفت النظر إلى أسلوب القرآن الحكيم في الإجابة على التحدي باستنزال الآية بما هو أولى، فالكفار يتحدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم باستنزال آية والقرآن يلفت نظرهم إلى آيات الله العظيمة الماثلة لأعينهم في السماء والأرض والإنسان والدواب والطير. فمن لم يؤمن بالله واستحقاقه للعبادة وحده وعظمته بما يراه من هذه الآيات لا يؤمن بأية آية أخرى. ولاسيما أن الإيمان بذلك يتوقف على سلامة العقل والرغبة في الحق والنية الحسنة ولا ينبغي أن يكون متوقفا على معجزات خارقة وعابرة. وهذه المعاني تكررت في القرآن في سياق حكاية كل تحد مماثل صدر عن الكفار وهي معان قوية رائعة نافذة حقا.
تعليق على آية
﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْء ثم إلى ربهم يحشرونٍ ﴾

١-
قال المفسرون ورووا عن أهل التأويل أن الشطر الأول من الآية يعني أن الله جعل الدواب والطيور أصنافا مثل البشر، تتصرف في حياتها بما أودعه الله فيها كما يتصرفون، وهذا وجه سديد.

٢-
وقالوا ورووا في صدد جملة ﴿ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ أن الدواب والطيور تحشر يوم القيامة وتحاسب ويقضى بينها ثم يقول الله لها كوني ترابا فتكون ترابا. وأوردوا أحاديث في ذلك، منها : حديث رواه الإمام أحمد عن أبي ذر قال :( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأى شاتين تنتطحان فقال يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان ؟ قال : لا، قال : ولكن الله يدري وسيقضي بينهما ). وحديث رواه الإمام أحمد عن عثمان قال :( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة ) وحديث غير معزو للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أخرجه عبد الرزاق عن أبي هريرة جاء فيه :( يحشر الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيبلغ من عدل الله يومئذ أن يأخذ الجماء من القرناء ثم يقول : كوني ترابا فتكون ترابا ). وهناك حديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتؤدى الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء ) ولقد عقب الطبري على كل هذا بقوله : إنه ليس في الآية صراحة عن وقت الحشر، وليس هناك خبر ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك فجائز أن يكون الحشر ليوم القيامة كظاهر الآية وجائز أن يكون بمعنى أنه جامعهم وحاشرهم إليه بالموت. ونرى هذا سديدا والوقوف عنده أسلم. ويظهر من هذا أن حديث مسلم والترمذي لم يثبت عنده. وإذا صح فالحكمة المتبادرة منه هي قصد التوكيد والتشديد على المؤمنين بأداء حقوق بعضهم إلى بعضهم وعدم ظلمهم بعضهم لبعض، والله أعلم.

٣-
أما جملة ﴿ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ﴾ فهناك من أول الكتاب بأم الكتاب أو اللوح المحفوظ الذي روى أن الله تعالى أمر بكتابة أمر كل ما هو كائن حين خلقه عليه، وقد علقنا على ذلك بما فيه الكفاية في سورة البروج ورجحنا أنه يعني علم الله المحصي لكل شيء. وهناك من أولها بعلم الله المحيط بكل خلقه الذي لا ينسى من رزقه وتدبيره أحدا ولا شيئا ومنهم من أول الكتاب في الجملة بالقرآن وأورد آية سورة النحل هذه :﴿ ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء ﴾ [ ٨٩ ] لتأييد تأويله. وقد رد قائلو هذا على من قال : إن القرآن ليس فيه تفاصيل كل علم وفن ومذهب وتاريخ. فإن القصد من العبارة بيان الأشياء التي يجب معرفتها والإحاطة بها، أو بأن القصد منها وجود إشارات أو أساس لكل شيء بقطع النظر عن التفاصيل والجزئيات.
وهذه الأقوال والتأويلات اجتهادية وتطبيقية، وليس هناك شيء فيما اطلعنا عليه ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أصحابه في تأويل الجملة. ويلحظ أنها ليست مستقلة عن ما قبلها وعن ما بعدها بحيث يسوغ القول إنها في صدد ما جاء في الآية من تقرير كون الله جمع الحيوانات من بشر ودواب وطيور صنوفا وكون مردهم وحشرهم إليه وكون علم الله محيطا بهم أن أي تفريط بشيء من أحوالهم وأمورهم. وهذا يتسق من حيث الإطلاق بالقول الثاني أيضا. وسيأتي بعد قليل في هذه السورة آية تدعم هذا وهي الآية [ ٥٩ ] وقد ورد في سور سبق تفسيرها آيات فيها هذا الدعم وهي آيات النمل [ ٧٥ ] ويونس [ ٧٥ ] وهود [ ٦ ] وما ذكرته هود بخاصة تكاد تكون في عبارتها مثل الآية التي نحن في صددها وهناك آيات أخرى من باب ذلك في سورة أخرى لم يسبق تفسيرها أيضا.
وفي كل ما تقدم نفي لكون ( الكتاب ) في الجملة قد عنى ( القرآن ) ورد على من يقتطع الجملة من الآية من مسلمين وغير مسلمين ويأخذها كعبارة مستقلة عن ما قبلها وبعدها، وكونها عنت ( القرآن ) وعلى من يدلل من المسلمين من هؤلاء بها على أن القرآن احتوى كل شيء ويحاول محاولات فيها كثير من التحمل والمجازفة بسبيل إثبات ذلك في حين ينتقد غير المسلمين من هؤلاء القرآن على ضوء ما يقوله أولئك المسلمون من حيث إن القرآن لا يحتوي على كل شيء.
وعلى كل حال فالذي يتبادر لنا أن الآيات التي جاءت فيها العبارات الثلاث هي في صدد تقدير شمول علم الله تعالى وقدرته وحكمته وتدبيره وإحاطته للتدليل على أن الذي له هذا الشمول لا يعجز عن إنزال آية يتحداه بها حفنة من خلقه، وأن الأولى هو الوقوف عند هذا الحد في صدد مدى النص القرآني. والله تعالى أعلم.
تعليق على جملة
﴿ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾
وقد توهم الفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة أن الله قد شاء وحتم الضلال لأناس والهدى لأناس إطلاقا. ولقد ورد مثل هذه العبارة في آيات أخرى مقيدة بما يزيل مثل ذلك الوهم ؛ حيث ذكر فيها أن الله إنما يضل الفاسقين [ آية سورة البقرة ٢ ] وإنما يضل الظالمين [ آية سورة إبراهيم ٢٧ ] ويهدي إليه من أناب [ آية سورة الرعد ٢٧ ] فمن الحق أن تفهم هذه العبارة حينما تجيء مطلقة كما هي هنا على ضوء القيد الوارد في الآيات المذكورة وأمثالها وحينئذ لا يبقى محل للتوهم على ما نبهنا عليه في مناسبات مماثلة سابقة. وأن يلحظ أنه لا يصح أن يكون الله قد شاء الضلال لأحد وهو الذي أرسل رسله للناس وهو الذي يقول في آية في سورة الزمر ﴿ ولا يرضى لعباده الكفر ﴾ [ ٧ ] ومع ذلك ففي الآيات التي نحن في صددها قرينة ملهمة لذلك ؛ حيث وصف الكفار بالصمم والبكم وأنذروا بالنار بسبب كفرهم وتكذيبهم.

الساعة : المرجح أنها هنا بمعنى الأجل والموت بالنسبة للسامعين على ما شرحناه قبل قليل. وروح الآيات هنا مؤيدة لتأويلها بذلك بقوة عند إمعان النظر فيها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ( ١ ) أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٤٠ ) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ( ٤١ ) ﴾ [ ٤٠ – ٤١ ].
في الآية الأولى أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بسؤال الكفار عما إذا كانوا يدعون غير الله حينما يحدق بهم أو عذاب أو حينما يشعرون بدنو أجلهم وحلول ساعتهم إذا كانوا صادقين في دعواهم الإيمان به. وفي الآية الثانية تعقيب تقريري بواقع ما يفعلون وإلزامهم الحجة ؛ حيث إنهم لا يدعون فعلا إلى الله وحده، وينسون شركاءهم في مثل هذه المواقف على اعتقاد أن الله وحده هو الذي يملك كشف الضر والبلاء.
والآيتان استمرار في حكاية موقف الجدل والمناظرة. وهما متصلتان بالسياق كما هو المتبادر. وفيهما تنديد وإلزام وإفحام للمشركين الذين لا يلجأون إلا إلى الله تعالى وحده في أوقات الخطر في حين أنهم يشركون معه غيره ويتصاممون عن الدعوة إليه وحده في أوقات الرخاء. وهذا الذي احتوته الآية الثانية احتوته آيات عديدة أخرى بصراحة أكثر، مر مثال منها في سورة يونس [ الآيات ٢٢ – ٢٣ ].
والآية الثانية قوية الصراحة في صدد بيان عقيدة المشركين في الله والشركاء كما هو المتبادر

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ( ١ ) أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٤٠ ) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ ( ٤١ ) ﴾ [ ٤٠ – ٤١ ].
في الآية الأولى أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بسؤال الكفار عما إذا كانوا يدعون غير الله حينما يحدق بهم أو عذاب أو حينما يشعرون بدنو أجلهم وحلول ساعتهم إذا كانوا صادقين في دعواهم الإيمان به. وفي الآية الثانية تعقيب تقريري بواقع ما يفعلون وإلزامهم الحجة ؛ حيث إنهم لا يدعون فعلا إلى الله وحده، وينسون شركاءهم في مثل هذه المواقف على اعتقاد أن الله وحده هو الذي يملك كشف الضر والبلاء.
والآيتان استمرار في حكاية موقف الجدل والمناظرة. وهما متصلتان بالسياق كما هو المتبادر. وفيهما تنديد وإلزام وإفحام للمشركين الذين لا يلجأون إلا إلى الله تعالى وحده في أوقات الخطر في حين أنهم يشركون معه غيره ويتصاممون عن الدعوة إليه وحده في أوقات الرخاء. وهذا الذي احتوته الآية الثانية احتوته آيات عديدة أخرى بصراحة أكثر، مر مثال منها في سورة يونس [ الآيات ٢٢ – ٢٣ ].
والآية الثانية قوية الصراحة في صدد بيان عقيدة المشركين في الله والشركاء كما هو المتبادر

البأساء : البؤس وشدة الفقر.
الضراء : الأسقام والعلل.
يتضرعون : يتذللون إلى الله ليكشف البأساء والضراء عنهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء( ١ ) وَالضَّرَّاء( ٢ ) لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ( ٣ )( ٤٢ ) فَلَوْلا( ٤ ) إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٤٣ ) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ( ٥ ) ( ٤٤ ) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ( ٦ ) وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٤٥ ) ﴾ [ ٤٢ – ٤٥ ].
في الآيات تقدير وتذكير بما كان من أمر الأمم السابقة، فقد أرسل الله تعالى إليها رسله بالبينات والمواعظ فلم تستجب ولم تتعظ. فأخذها الله بشيء من الشدة في الأموال والأنفس والأجسام لعلها تتضرع إليه وتذكره فلم تفعل. وظلت سادرة في غيها متبعة لتزيينات الشيطان لما هي عليه من ضلال. وزاد الله في امتحانهم فآتاهم اليسر بعد العسر والفرح بعد الشدة ففرحوا وازدادوا نسيانا لله وانصرافا عن دعوة رسله ومواعظهم. وحينئذ فاجأهم بعذابه وبلائه فانقطع دابر الظالمين وضاعت عليهم فرصة النجاة والإنابة إلى الله التي تهيأت لهم.
والآيات متصلة بالسياق ومعقبة عليه كما هو المتبادر، وقد جاءت جريا على الأسلوب القرآني في التذكير بالأمم السابقة عقب حكاية مواقف كفار العرب وعنادهم بسبيل إنذار هؤلاء الكفار بأنهم أمام امتحان رباني، فلا يغتروا بما هم فيه من مال وسلامة ووفرة، ولا يستمعوا إلى وساوس الشيطان فيقعوا فيما وقع فيه من قبلهم.
والآيات إلى هذا احتوت تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطمينا لقلبه وبشرى له بأن الله قاطع دابر الظالمين، وأن ما هم فيه من رغد ورخاء ليس إلا امتحانا ربانيا.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تنبيها عاما شاملا لكل زمن ومكان إلى وجوب ذكر الله وتجنب غضبه وإتباع آياته وأوامره في كل حال، وعدم الاغترار ببسمات الدهر ونسيان الله فيها.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية الثانية بعد أن قالوا إنها من قبيل الاستدراج والإمهال حديثا رواه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم تلا الآية )١. وهناك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته )٢. وفي الأحاديث توضيح وتحذير نبوي متساوقان مع مدى الآيات كما هو واضح. وننبه على أن سورتي الأعراف والقلم اللتين مر تفسيرهما آيات فيها توضيح أكثر صراحة وهما الآيتان [ ١٧٣ و ١٧٤ ] في الأعراف و [ ٤٤ و ٤٥ ] في القلم.

فلولا : بمعنى فهلا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء( ١ ) وَالضَّرَّاء( ٢ ) لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ( ٣ )( ٤٢ ) فَلَوْلا( ٤ ) إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٤٣ ) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ( ٥ ) ( ٤٤ ) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ( ٦ ) وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٤٥ ) ﴾ [ ٤٢ – ٤٥ ].
في الآيات تقدير وتذكير بما كان من أمر الأمم السابقة، فقد أرسل الله تعالى إليها رسله بالبينات والمواعظ فلم تستجب ولم تتعظ. فأخذها الله بشيء من الشدة في الأموال والأنفس والأجسام لعلها تتضرع إليه وتذكره فلم تفعل. وظلت سادرة في غيها متبعة لتزيينات الشيطان لما هي عليه من ضلال. وزاد الله في امتحانهم فآتاهم اليسر بعد العسر والفرح بعد الشدة ففرحوا وازدادوا نسيانا لله وانصرافا عن دعوة رسله ومواعظهم. وحينئذ فاجأهم بعذابه وبلائه فانقطع دابر الظالمين وضاعت عليهم فرصة النجاة والإنابة إلى الله التي تهيأت لهم.
والآيات متصلة بالسياق ومعقبة عليه كما هو المتبادر، وقد جاءت جريا على الأسلوب القرآني في التذكير بالأمم السابقة عقب حكاية مواقف كفار العرب وعنادهم بسبيل إنذار هؤلاء الكفار بأنهم أمام امتحان رباني، فلا يغتروا بما هم فيه من مال وسلامة ووفرة، ولا يستمعوا إلى وساوس الشيطان فيقعوا فيما وقع فيه من قبلهم.
والآيات إلى هذا احتوت تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطمينا لقلبه وبشرى له بأن الله قاطع دابر الظالمين، وأن ما هم فيه من رغد ورخاء ليس إلا امتحانا ربانيا.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تنبيها عاما شاملا لكل زمن ومكان إلى وجوب ذكر الله وتجنب غضبه وإتباع آياته وأوامره في كل حال، وعدم الاغترار ببسمات الدهر ونسيان الله فيها.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية الثانية بعد أن قالوا إنها من قبيل الاستدراج والإمهال حديثا رواه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم تلا الآية )١. وهناك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته )٢. وفي الأحاديث توضيح وتحذير نبوي متساوقان مع مدى الآيات كما هو واضح. وننبه على أن سورتي الأعراف والقلم اللتين مر تفسيرهما آيات فيها توضيح أكثر صراحة وهما الآيتان [ ١٧٣ و ١٧٤ ] في الأعراف و [ ٤٤ و ٤٥ ] في القلم.

مبلسون : يائسون من النجاة، ولعلها بمعنى أنهم ضاعت عليهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء( ١ ) وَالضَّرَّاء( ٢ ) لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ( ٣ )( ٤٢ ) فَلَوْلا( ٤ ) إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٤٣ ) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ( ٥ ) ( ٤٤ ) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ( ٦ ) وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٤٥ ) ﴾ [ ٤٢ – ٤٥ ].
في الآيات تقدير وتذكير بما كان من أمر الأمم السابقة، فقد أرسل الله تعالى إليها رسله بالبينات والمواعظ فلم تستجب ولم تتعظ. فأخذها الله بشيء من الشدة في الأموال والأنفس والأجسام لعلها تتضرع إليه وتذكره فلم تفعل. وظلت سادرة في غيها متبعة لتزيينات الشيطان لما هي عليه من ضلال. وزاد الله في امتحانهم فآتاهم اليسر بعد العسر والفرح بعد الشدة ففرحوا وازدادوا نسيانا لله وانصرافا عن دعوة رسله ومواعظهم. وحينئذ فاجأهم بعذابه وبلائه فانقطع دابر الظالمين وضاعت عليهم فرصة النجاة والإنابة إلى الله التي تهيأت لهم.
والآيات متصلة بالسياق ومعقبة عليه كما هو المتبادر، وقد جاءت جريا على الأسلوب القرآني في التذكير بالأمم السابقة عقب حكاية مواقف كفار العرب وعنادهم بسبيل إنذار هؤلاء الكفار بأنهم أمام امتحان رباني، فلا يغتروا بما هم فيه من مال وسلامة ووفرة، ولا يستمعوا إلى وساوس الشيطان فيقعوا فيما وقع فيه من قبلهم.
والآيات إلى هذا احتوت تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطمينا لقلبه وبشرى له بأن الله قاطع دابر الظالمين، وأن ما هم فيه من رغد ورخاء ليس إلا امتحانا ربانيا.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تنبيها عاما شاملا لكل زمن ومكان إلى وجوب ذكر الله وتجنب غضبه وإتباع آياته وأوامره في كل حال، وعدم الاغترار ببسمات الدهر ونسيان الله فيها.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية الثانية بعد أن قالوا إنها من قبيل الاستدراج والإمهال حديثا رواه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم تلا الآية )١. وهناك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته )٢. وفي الأحاديث توضيح وتحذير نبوي متساوقان مع مدى الآيات كما هو واضح. وننبه على أن سورتي الأعراف والقلم اللتين مر تفسيرهما آيات فيها توضيح أكثر صراحة وهما الآيتان [ ١٧٣ و ١٧٤ ] في الأعراف و [ ٤٤ و ٤٥ ] في القلم.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء( ١ ) وَالضَّرَّاء( ٢ ) لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ( ٣ )( ٤٢ ) فَلَوْلا( ٤ ) إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٤٣ ) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ( ٥ ) ( ٤٤ ) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ( ٦ ) وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٤٥ ) ﴾ [ ٤٢ – ٤٥ ].
في الآيات تقدير وتذكير بما كان من أمر الأمم السابقة، فقد أرسل الله تعالى إليها رسله بالبينات والمواعظ فلم تستجب ولم تتعظ. فأخذها الله بشيء من الشدة في الأموال والأنفس والأجسام لعلها تتضرع إليه وتذكره فلم تفعل. وظلت سادرة في غيها متبعة لتزيينات الشيطان لما هي عليه من ضلال. وزاد الله في امتحانهم فآتاهم اليسر بعد العسر والفرح بعد الشدة ففرحوا وازدادوا نسيانا لله وانصرافا عن دعوة رسله ومواعظهم. وحينئذ فاجأهم بعذابه وبلائه فانقطع دابر الظالمين وضاعت عليهم فرصة النجاة والإنابة إلى الله التي تهيأت لهم.
والآيات متصلة بالسياق ومعقبة عليه كما هو المتبادر، وقد جاءت جريا على الأسلوب القرآني في التذكير بالأمم السابقة عقب حكاية مواقف كفار العرب وعنادهم بسبيل إنذار هؤلاء الكفار بأنهم أمام امتحان رباني، فلا يغتروا بما هم فيه من مال وسلامة ووفرة، ولا يستمعوا إلى وساوس الشيطان فيقعوا فيما وقع فيه من قبلهم.
والآيات إلى هذا احتوت تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتطمينا لقلبه وبشرى له بأن الله قاطع دابر الظالمين، وأن ما هم فيه من رغد ورخاء ليس إلا امتحانا ربانيا.
ومع خصوصية الآيات الزمنية فإن فيها تنبيها عاما شاملا لكل زمن ومكان إلى وجوب ذكر الله وتجنب غضبه وإتباع آياته وأوامره في كل حال، وعدم الاغترار ببسمات الدهر ونسيان الله فيها.
ولقد أورد المفسرون في سياق الآية الثانية بعد أن قالوا إنها من قبيل الاستدراج والإمهال حديثا رواه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ثم تلا الآية )١. وهناك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته )٢. وفي الأحاديث توضيح وتحذير نبوي متساوقان مع مدى الآيات كما هو واضح. وننبه على أن سورتي الأعراف والقلم اللتين مر تفسيرهما آيات فيها توضيح أكثر صراحة وهما الآيتان [ ١٧٣ و ١٧٤ ] في الأعراف و [ ٤٤ و ٤٥ ] في القلم.

نصرف الآيات : نقلب وجوه الكلام في القرآن.
يصدفون : يعرضون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ( ١ ) ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ( ٢ ) ( ٤٦ ) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ( ٤٧ ) ﴾ [ ٤٦ – ٤٧ ].
في الآيتين أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بسؤال الكفار عما إذا كان غير الله يستطيع أن يرد عليهم سمعهم وأبصارهم وعقولهم إذا ما طرأت عليها الطوارئ فذهبت بها، وعما إذا كانوا يظنون أن الله تعالى إذا أرسل عذابه عليهم فجأة بدون مقدمة، أو جهرة بعد مقدمات هل يمكن أن يهلك به غير الظالمين الباغين حتى يقفوا هذا الموقف الظالم الباغي الذي فيه اغترار وطمأنينة إلى الدهر. والفقرة الثانية من الآية الأولى جاءت معقبة ومنددة، فالله تعالى يضرب لهم الأمثال ويبين لهم الحقائق بأساليب متنوعة في آياته ولكنهم يعرضون عنها.
والآيتان استمرار للسياق بسبيل إنذار الكفار والتنديد بهم والتعقيب على مواقفهم المحكية كما هو المتبادر وفي السؤالين اللذين أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيههما إلى الكفار واللذين لا شك في أنه وجههما مقرعا منددا إفحام وإلزام قويان مستمدان من عقيدة المشركين التي حكتها آيات سابقة بكون الله تعالى هو المتصرف المطلق وحده في الكون، وهو وحده الذي يكشف الضر ويدفع البلاء.
وفي الفقرة الأخيرة من الآية الثانية نص من النصوص القرآنية الحاسمة التي تكررت كثيرا بأن عذاب الله إنما يحيق بالظالمين بسبب ظلمهم، أي إجرامهم وعصيانهم وبغيهم

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ( ١ ) ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ( ٢ ) ( ٤٦ ) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ( ٤٧ ) ﴾ [ ٤٦ – ٤٧ ].
في الآيتين أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بسؤال الكفار عما إذا كان غير الله يستطيع أن يرد عليهم سمعهم وأبصارهم وعقولهم إذا ما طرأت عليها الطوارئ فذهبت بها، وعما إذا كانوا يظنون أن الله تعالى إذا أرسل عذابه عليهم فجأة بدون مقدمة، أو جهرة بعد مقدمات هل يمكن أن يهلك به غير الظالمين الباغين حتى يقفوا هذا الموقف الظالم الباغي الذي فيه اغترار وطمأنينة إلى الدهر. والفقرة الثانية من الآية الأولى جاءت معقبة ومنددة، فالله تعالى يضرب لهم الأمثال ويبين لهم الحقائق بأساليب متنوعة في آياته ولكنهم يعرضون عنها.
والآيتان استمرار للسياق بسبيل إنذار الكفار والتنديد بهم والتعقيب على مواقفهم المحكية كما هو المتبادر وفي السؤالين اللذين أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتوجيههما إلى الكفار واللذين لا شك في أنه وجههما مقرعا منددا إفحام وإلزام قويان مستمدان من عقيدة المشركين التي حكتها آيات سابقة بكون الله تعالى هو المتصرف المطلق وحده في الكون، وهو وحده الذي يكشف الضر ويدفع البلاء.
وفي الفقرة الأخيرة من الآية الثانية نص من النصوص القرآنية الحاسمة التي تكررت كثيرا بأن عذاب الله إنما يحيق بالظالمين بسبب ظلمهم، أي إجرامهم وعصيانهم وبغيهم

﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٤٨ ) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ( ٤٩ ) ﴾ [ ٤٧ – ٤٩ ].
والآيتان كذلك متصلتان بالسياق اتصالا تعقيبيا كما هو المتبادر حيث احتوتا تقريرا ربانيا بعد الآيات الإنذارية والتقريعية التي سبقتهما بأن الله تعالى إنما يرسل رسله للتبشير والإنذار، ثم يكون الناس صنفين حسب مواقفهم منهم. فالذين يؤمنون ويعملون الصالحات لهم البشرى والفوز ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين يكذبون لهم العذاب جزاء ما وقع منهم من فسق وتمرد على الله.
وفي الآيات أيضا نص من النصوص القرآنية الحاسمة بأن رحمة الله وأمنه وعذابه إنما يكون حسب سلوك الناس من إيمان وصلاح وفسق وعصيان باختيارهم بعد أن يكونوا قد بشروا وأنذروا من قبل رسل الله تعالى.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٨:﴿ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ( ٤٨ ) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ( ٤٩ ) ﴾ [ ٤٧ – ٤٩ ].
والآيتان كذلك متصلتان بالسياق اتصالا تعقيبيا كما هو المتبادر حيث احتوتا تقريرا ربانيا بعد الآيات الإنذارية والتقريعية التي سبقتهما بأن الله تعالى إنما يرسل رسله للتبشير والإنذار، ثم يكون الناس صنفين حسب مواقفهم منهم. فالذين يؤمنون ويعملون الصالحات لهم البشرى والفوز ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين يكذبون لهم العذاب جزاء ما وقع منهم من فسق وتمرد على الله.
وفي الآيات أيضا نص من النصوص القرآنية الحاسمة بأن رحمة الله وأمنه وعذابه إنما يكون حسب سلوك الناس من إيمان وصلاح وفسق وعصيان باختيارهم بعد أن يكونوا قد بشروا وأنذروا من قبل رسل الله تعالى.

﴿ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ( ٥٠ ) ﴾ [ ٥٠ ].
أمرت الآية النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعلن أنه لا يزعم لنفسه أنه يملك خزائن الله أو يعلم الغيب أو أنه ملك، وإنما هو رسول أرسله الله للتبشير والدعوة ولا يقول ما يقول ويفعل ما يفعل إلا وفقا لوحي الله، وبأن يسأل الكفار سؤال استنكار وتبكيت عما إذا كان يستوي الأعمى والبصير، بأن يندد بهم لأنهم لا يتفكرون في الأمور.
ولقد عزا الطبري إلى مجاهد وغيره تأويل الكافر والمؤمن والضال والمهتدي لكلمتي الأعمى والبصير. والمقام قد يتحمل ذلك وإن كان احتمال حقيقة العمى والإبصار فيه أقوى ورودا فيما روي على سبيل التمثيل والمقارنة.
تعليق على آية
﴿ قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ﴾
والآية متصلة بالسياق اتصال تعقيب وتوضيح كما هو المتبادر وضمير الجمع المخاطب فيها عائد إلى الكفار المشركين موضوع الآيات السابقة التي حكت مواقفهم وتحديهم ونددت بهم وأنذرتهم. وهي قوية رائعة نافذة في تقريرها طبيعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم البشرية ومهمته التبشيرية والإنذارية وفي أمرها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول إنه ليس ملكا، وليس عالما بالغيب وليس ملكا لخزائن الله وبأن ليس له إلا أن يقف عند حدود ما يوحى إليه به. وقد سبق تقرير ذلك وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله في سورتي الأعراف ويونس.
ولقد رأينا المفسر الخازن يقول في سياق تفسيره للآية : إن النبي صلى الله عليه وآله سلم إنما نفى عن نفسه ما نفاه تواضعا لله واعترافا بالعبودية له. وهو قول غريب، وقد غفل المفسر عن أن ما نفاه عن نفسه هو حقيقة منبثقة من طبيعة النبي البشرية التي قررها القرآن مرة بعد أخرى، وعن أن الله تعالى هو الذي أمره بقول ذلك، وليس الكلام من النبي مباشرة، وهذا لا يمنع من القول بأن موقف النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ولا شك رائعا أخاذا حينما نفذ أمر الله تعالى فأعلن للناس جميعهم المؤمنين منهم والمشركين على السواء ما أمر بنفيه عن نفسه.
يخافون أن يحشروا إلى ربهم : يخافون يوم حشرهم إلى ربهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ( ١ ) لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( ٥١ ) وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ( ٢ )( ٥٢ ) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ( ٣ ) لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ( ٥٣ ) وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٥٤ ) وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ( ٤ )( ٥٥ ) ﴾ [ ٥١ – ٥٥ ].
في الآية الأولى أمر رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن ينذر بالقرآن بنوع خاص الطبقة التي تخشى الله تعالى يوم الحشر وتؤمن بالرجوع إليه وتعترف بأنه ليس لها من دونه من ولي شفيع، فهي التي يمكن أن تنتفع بالإنذار والموعظة وتتقي الله.
في الآية الثانية نهي رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن طرد المؤمنين الذين يبتغون وجه الله ويتجهون إليه ويدعونه في الصباح والمساء فليس عليه حسابهم وليس عليهم حسابه، فإن طردهم كان من الظالمين الجائرين.
وفي الآية الثالثة حكاية لموقف الكفار من المؤمنين وما كان في ذلكم من اختيار رباني. فقد كان زعماء الكفار يرون بعض الفقراء الأرقاء والضعفاء المسلمين ملتفين حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتساءلون تساؤل المحتقر المستهزئ عما إذا كان هؤلاء هم الذين اختصهم الله برحمته من بينهم ومن عليهم بهدايته. ورد عليهم بأن الله إنما جعل التفاوت بين الناس امتحانا ليعلم تصرفهم إزاء بعضهم وهو الأعلم بالصالحين للهداية الشاكرين لنعمة الله بها.
وفي الآية الرابعة أمر رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبر بالمؤمنين حينما يقبلون عليه فيحييهم ويبشرهم بأن ربهم آلى على نفسه بمقتضى صفة الرحمة التي اتصف بها أنه من عمل منهم عملا سيئا وهو جاهل ثم ندم عليه وتاب منه وعمل صالحا يكون موضع غفرانه ورحمته.
وفي الآية الخامسة تقرير رباني بأن الله تعالى يفصل الآيات حتى يعرف السبيل التي يختار سلوكها المجرمون بوضوح.
والآيات وحدة مترابطة الأجزاء، والآية الأخيرة التي جاءت بمثابة التعقيب قرينة على ذلك، وهي غير منقطعة عن السياق. فبعد أن جودل الكفار وأفحموا وأنذروا جاءت هذه الآيات ملتفتة إلى الذين آمنوا بالرسالة المحمدية لتقرر أنهم هم الذين يمكن أن ينتفعوا بالموعظة والإنذار القرآني لما ثبت من حسن نيتهم وصفاء نفوسهم وصدق رغبتهم في الاهتداء، ولتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسك بهم وإغداق عطفه عليهم وتبشيرهم برحمة الله وعفوه، وبعدم المبالاة بموقف الكفار وبخاصة الزعماء منهم.
تعليق على الآية
﴿ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ ﴾
والآيات الخمس التالية لها وما فيها من صور وتلقين
لقد روى المفسرون في صدد هذه الآيات روايات عديدة ١ جاء في بعضها أن زعماء الكفار كانوا إذا مروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحوله فقراء المسلمين سخروا وقالوا : هؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا فهداهم. وفي بعضها أنهم طلبوا من النبي طردهم حتى يتبعوا أو طردهم إذا ما جلسوا إليه أو أرادوا الاجتماع به. وفي بعضها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطر بباله أن يستجيب إلى طلبهم، وأن عمر بن الخطاب اقترح عليه ذلك ليظهر مدى موقف الزعماء وأن النبي هم بأن يكتب لهم عهدا بذلك فأنزل الله الآيات. وهناك رواية تذكر أن الذين طلبوا بعض هذه المطالب هم زعيما قبيلتي تميم وبني فزارة. وهناك رواية تذكر أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقترفوا ذنوبا كبيرة فجاؤوا إلى النبي نادمين، فلم يرد عليهم فأنزل الله الآية [ ٥٤ ] ومقتضى هذه الرواية أن هذه الآية نزلت لحدتها مع أنها منسجمة جدا بما قبلها وبعدها. على أن هناك حديثا ذكره مسلم عن سعد جاء فيه :( كنا مع رسول الله ستة فقال المشركون للنبي اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله وحدث نفسه فأنزل الله عز وجل ﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم…… ﴾ [ ٥٢ ] الخ٢.
ومهما يكن من أمر فالآيات تنطوي على صورة السيرة النبوية. فكثير من الذين آمنوا في أول الأمر كانوا من الفقراء والمساكين، فكان زعماء الكفار يتخذونهم موضوع سخرية ويعدونهم مظهرا من مظاهر إخفاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نشر دعوته. وكان بعضهم يتحججون بهم في عدم الاستجابة ؛ لئلا يكونوا معهم في مستوى واحد، ويطلبون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم طردهم من مجلسه حينما يريدون أن يجتمعوا به أو يريد أن يجتمع بهم. ومضمون الآيات قد يلهم أن موقف زعماء الكفار كان يؤثر في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الشيء، ويوجد فيه أملا في اهتداء زعماء الكفار ويجعله يتشاغل عن تلك الطبقة أو يهملها أو يفكر في إقصاء من يكون في مجلسه منها أحيانا انسياقا وراء هذا الأمل. فنبه في الآيات إلى ما في هذا من خطأ، كما عوتب على موقف مثل هذا الموقف في أوائل سورة عبس التي مر تفسيرها.
ولقد احتوت سورة الكهف آية فيها صراحة في هذا الباب وهي هذه :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ( ٢٨ ) وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾ [ ٢٨ – ٢٩ ] مما يدل على أن هذا الموضوع كان مما يكثر الأخذ فيه بين النبي وزعماء الكفار أو كانت صوره تتكرر فتقتضي حكمة التنزيل موالاة التنبيه والتحذير والتعليم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
على أنه يتبادر لنا من روح الآيات وعطفها على ما سبقها، ومن روح الآيات التالية لها أنها لم تنزل بمناسبة موقف من مثل هذه المواقف مباشرة، وإنما نزلت استمرارا واستئنافا للسياق الذي فيه حكاية موقف الكفار وتعجيزاتهم، وإن كان من المحتمل أن يكون حدث حادث من نوع ما ذكرته الروايات والحديث الصحيح في ظروف نزولها أو قبله فأشير إليه.
وإنعام النظر في مدى الآيات ومضمونها يجعل الناظر يرى فيها صورة رائعة من سمو الأهداف القرآنية في إعلاء شأن المؤمن الصالح مهما كان فقيرا أو متخلفا في السلم الاجتماعي وفي تقرير حق تقدمه على الكافر الشرير مهما كان غنيا عالي الدرجة، كما يجعله يرى فيها مبادئ جليلة الشأن ؛ حيث يؤذن القرآن عدم إقرار التمايز العلني وتفاضل الناس على أساسه بل ويقضي عليه، ويقرر الأفضلية للعمل الصالح والنية الحسنة وطهارة القلب، ويفتح الباب للمسيء عن جهل للدخول في حظيرة الصلاح بتوبته عن الفساد وبعمله الصالح، ويندد بمن يتبجح بعلو طبقته ويحتقر ما دونه.

فتكون من الظالمين : فتكون من الجائرين في عملهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ( ١ ) لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( ٥١ ) وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ( ٢ )( ٥٢ ) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ( ٣ ) لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ( ٥٣ ) وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٥٤ ) وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ( ٤ )( ٥٥ ) ﴾ [ ٥١ – ٥٥ ].
في الآية الأولى أمر رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن ينذر بالقرآن بنوع خاص الطبقة التي تخشى الله تعالى يوم الحشر وتؤمن بالرجوع إليه وتعترف بأنه ليس لها من دونه من ولي شفيع، فهي التي يمكن أن تنتفع بالإنذار والموعظة وتتقي الله.
في الآية الثانية نهي رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن طرد المؤمنين الذين يبتغون وجه الله ويتجهون إليه ويدعونه في الصباح والمساء فليس عليه حسابهم وليس عليهم حسابه، فإن طردهم كان من الظالمين الجائرين.
وفي الآية الثالثة حكاية لموقف الكفار من المؤمنين وما كان في ذلكم من اختيار رباني. فقد كان زعماء الكفار يرون بعض الفقراء الأرقاء والضعفاء المسلمين ملتفين حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتساءلون تساؤل المحتقر المستهزئ عما إذا كان هؤلاء هم الذين اختصهم الله برحمته من بينهم ومن عليهم بهدايته. ورد عليهم بأن الله إنما جعل التفاوت بين الناس امتحانا ليعلم تصرفهم إزاء بعضهم وهو الأعلم بالصالحين للهداية الشاكرين لنعمة الله بها.
وفي الآية الرابعة أمر رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبر بالمؤمنين حينما يقبلون عليه فيحييهم ويبشرهم بأن ربهم آلى على نفسه بمقتضى صفة الرحمة التي اتصف بها أنه من عمل منهم عملا سيئا وهو جاهل ثم ندم عليه وتاب منه وعمل صالحا يكون موضع غفرانه ورحمته.
وفي الآية الخامسة تقرير رباني بأن الله تعالى يفصل الآيات حتى يعرف السبيل التي يختار سلوكها المجرمون بوضوح.
والآيات وحدة مترابطة الأجزاء، والآية الأخيرة التي جاءت بمثابة التعقيب قرينة على ذلك، وهي غير منقطعة عن السياق. فبعد أن جودل الكفار وأفحموا وأنذروا جاءت هذه الآيات ملتفتة إلى الذين آمنوا بالرسالة المحمدية لتقرر أنهم هم الذين يمكن أن ينتفعوا بالموعظة والإنذار القرآني لما ثبت من حسن نيتهم وصفاء نفوسهم وصدق رغبتهم في الاهتداء، ولتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسك بهم وإغداق عطفه عليهم وتبشيرهم برحمة الله وعفوه، وبعدم المبالاة بموقف الكفار وبخاصة الزعماء منهم.
تعليق على الآية
﴿ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ ﴾
والآيات الخمس التالية لها وما فيها من صور وتلقين
لقد روى المفسرون في صدد هذه الآيات روايات عديدة ١ جاء في بعضها أن زعماء الكفار كانوا إذا مروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحوله فقراء المسلمين سخروا وقالوا : هؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا فهداهم. وفي بعضها أنهم طلبوا من النبي طردهم حتى يتبعوا أو طردهم إذا ما جلسوا إليه أو أرادوا الاجتماع به. وفي بعضها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطر بباله أن يستجيب إلى طلبهم، وأن عمر بن الخطاب اقترح عليه ذلك ليظهر مدى موقف الزعماء وأن النبي هم بأن يكتب لهم عهدا بذلك فأنزل الله الآيات. وهناك رواية تذكر أن الذين طلبوا بعض هذه المطالب هم زعيما قبيلتي تميم وبني فزارة. وهناك رواية تذكر أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقترفوا ذنوبا كبيرة فجاؤوا إلى النبي نادمين، فلم يرد عليهم فأنزل الله الآية [ ٥٤ ] ومقتضى هذه الرواية أن هذه الآية نزلت لحدتها مع أنها منسجمة جدا بما قبلها وبعدها. على أن هناك حديثا ذكره مسلم عن سعد جاء فيه :( كنا مع رسول الله ستة فقال المشركون للنبي اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله وحدث نفسه فأنزل الله عز وجل ﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم…… ﴾ [ ٥٢ ] الخ٢.
ومهما يكن من أمر فالآيات تنطوي على صورة السيرة النبوية. فكثير من الذين آمنوا في أول الأمر كانوا من الفقراء والمساكين، فكان زعماء الكفار يتخذونهم موضوع سخرية ويعدونهم مظهرا من مظاهر إخفاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نشر دعوته. وكان بعضهم يتحججون بهم في عدم الاستجابة ؛ لئلا يكونوا معهم في مستوى واحد، ويطلبون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم طردهم من مجلسه حينما يريدون أن يجتمعوا به أو يريد أن يجتمع بهم. ومضمون الآيات قد يلهم أن موقف زعماء الكفار كان يؤثر في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الشيء، ويوجد فيه أملا في اهتداء زعماء الكفار ويجعله يتشاغل عن تلك الطبقة أو يهملها أو يفكر في إقصاء من يكون في مجلسه منها أحيانا انسياقا وراء هذا الأمل. فنبه في الآيات إلى ما في هذا من خطأ، كما عوتب على موقف مثل هذا الموقف في أوائل سورة عبس التي مر تفسيرها.
ولقد احتوت سورة الكهف آية فيها صراحة في هذا الباب وهي هذه :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ( ٢٨ ) وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾ [ ٢٨ – ٢٩ ] مما يدل على أن هذا الموضوع كان مما يكثر الأخذ فيه بين النبي وزعماء الكفار أو كانت صوره تتكرر فتقتضي حكمة التنزيل موالاة التنبيه والتحذير والتعليم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
على أنه يتبادر لنا من روح الآيات وعطفها على ما سبقها، ومن روح الآيات التالية لها أنها لم تنزل بمناسبة موقف من مثل هذه المواقف مباشرة، وإنما نزلت استمرارا واستئنافا للسياق الذي فيه حكاية موقف الكفار وتعجيزاتهم، وإن كان من المحتمل أن يكون حدث حادث من نوع ما ذكرته الروايات والحديث الصحيح في ظروف نزولها أو قبله فأشير إليه.
وإنعام النظر في مدى الآيات ومضمونها يجعل الناظر يرى فيها صورة رائعة من سمو الأهداف القرآنية في إعلاء شأن المؤمن الصالح مهما كان فقيرا أو متخلفا في السلم الاجتماعي وفي تقرير حق تقدمه على الكافر الشرير مهما كان غنيا عالي الدرجة، كما يجعله يرى فيها مبادئ جليلة الشأن ؛ حيث يؤذن القرآن عدم إقرار التمايز العلني وتفاضل الناس على أساسه بل ويقضي عليه، ويقرر الأفضلية للعمل الصالح والنية الحسنة وطهارة القلب، ويفتح الباب للمسيء عن جهل للدخول في حظيرة الصلاح بتوبته عن الفساد وبعمله الصالح، ويندد بمن يتبجح بعلو طبقته ويحتقر ما دونه.

فتنا بعضهم ببعض : جعلنا التفاوت بينهم اختيارا لمعرفة سلوكهم إزاء بعضهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ( ١ ) لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( ٥١ ) وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ( ٢ )( ٥٢ ) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ( ٣ ) لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ( ٥٣ ) وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٥٤ ) وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ( ٤ )( ٥٥ ) ﴾ [ ٥١ – ٥٥ ].
في الآية الأولى أمر رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن ينذر بالقرآن بنوع خاص الطبقة التي تخشى الله تعالى يوم الحشر وتؤمن بالرجوع إليه وتعترف بأنه ليس لها من دونه من ولي شفيع، فهي التي يمكن أن تنتفع بالإنذار والموعظة وتتقي الله.
في الآية الثانية نهي رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن طرد المؤمنين الذين يبتغون وجه الله ويتجهون إليه ويدعونه في الصباح والمساء فليس عليه حسابهم وليس عليهم حسابه، فإن طردهم كان من الظالمين الجائرين.
وفي الآية الثالثة حكاية لموقف الكفار من المؤمنين وما كان في ذلكم من اختيار رباني. فقد كان زعماء الكفار يرون بعض الفقراء الأرقاء والضعفاء المسلمين ملتفين حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتساءلون تساؤل المحتقر المستهزئ عما إذا كان هؤلاء هم الذين اختصهم الله برحمته من بينهم ومن عليهم بهدايته. ورد عليهم بأن الله إنما جعل التفاوت بين الناس امتحانا ليعلم تصرفهم إزاء بعضهم وهو الأعلم بالصالحين للهداية الشاكرين لنعمة الله بها.
وفي الآية الرابعة أمر رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبر بالمؤمنين حينما يقبلون عليه فيحييهم ويبشرهم بأن ربهم آلى على نفسه بمقتضى صفة الرحمة التي اتصف بها أنه من عمل منهم عملا سيئا وهو جاهل ثم ندم عليه وتاب منه وعمل صالحا يكون موضع غفرانه ورحمته.
وفي الآية الخامسة تقرير رباني بأن الله تعالى يفصل الآيات حتى يعرف السبيل التي يختار سلوكها المجرمون بوضوح.
والآيات وحدة مترابطة الأجزاء، والآية الأخيرة التي جاءت بمثابة التعقيب قرينة على ذلك، وهي غير منقطعة عن السياق. فبعد أن جودل الكفار وأفحموا وأنذروا جاءت هذه الآيات ملتفتة إلى الذين آمنوا بالرسالة المحمدية لتقرر أنهم هم الذين يمكن أن ينتفعوا بالموعظة والإنذار القرآني لما ثبت من حسن نيتهم وصفاء نفوسهم وصدق رغبتهم في الاهتداء، ولتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسك بهم وإغداق عطفه عليهم وتبشيرهم برحمة الله وعفوه، وبعدم المبالاة بموقف الكفار وبخاصة الزعماء منهم.
تعليق على الآية
﴿ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ ﴾
والآيات الخمس التالية لها وما فيها من صور وتلقين
لقد روى المفسرون في صدد هذه الآيات روايات عديدة ١ جاء في بعضها أن زعماء الكفار كانوا إذا مروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحوله فقراء المسلمين سخروا وقالوا : هؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا فهداهم. وفي بعضها أنهم طلبوا من النبي طردهم حتى يتبعوا أو طردهم إذا ما جلسوا إليه أو أرادوا الاجتماع به. وفي بعضها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطر بباله أن يستجيب إلى طلبهم، وأن عمر بن الخطاب اقترح عليه ذلك ليظهر مدى موقف الزعماء وأن النبي هم بأن يكتب لهم عهدا بذلك فأنزل الله الآيات. وهناك رواية تذكر أن الذين طلبوا بعض هذه المطالب هم زعيما قبيلتي تميم وبني فزارة. وهناك رواية تذكر أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقترفوا ذنوبا كبيرة فجاؤوا إلى النبي نادمين، فلم يرد عليهم فأنزل الله الآية [ ٥٤ ] ومقتضى هذه الرواية أن هذه الآية نزلت لحدتها مع أنها منسجمة جدا بما قبلها وبعدها. على أن هناك حديثا ذكره مسلم عن سعد جاء فيه :( كنا مع رسول الله ستة فقال المشركون للنبي اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله وحدث نفسه فأنزل الله عز وجل ﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم…… ﴾ [ ٥٢ ] الخ٢.
ومهما يكن من أمر فالآيات تنطوي على صورة السيرة النبوية. فكثير من الذين آمنوا في أول الأمر كانوا من الفقراء والمساكين، فكان زعماء الكفار يتخذونهم موضوع سخرية ويعدونهم مظهرا من مظاهر إخفاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نشر دعوته. وكان بعضهم يتحججون بهم في عدم الاستجابة ؛ لئلا يكونوا معهم في مستوى واحد، ويطلبون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم طردهم من مجلسه حينما يريدون أن يجتمعوا به أو يريد أن يجتمع بهم. ومضمون الآيات قد يلهم أن موقف زعماء الكفار كان يؤثر في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الشيء، ويوجد فيه أملا في اهتداء زعماء الكفار ويجعله يتشاغل عن تلك الطبقة أو يهملها أو يفكر في إقصاء من يكون في مجلسه منها أحيانا انسياقا وراء هذا الأمل. فنبه في الآيات إلى ما في هذا من خطأ، كما عوتب على موقف مثل هذا الموقف في أوائل سورة عبس التي مر تفسيرها.
ولقد احتوت سورة الكهف آية فيها صراحة في هذا الباب وهي هذه :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ( ٢٨ ) وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾ [ ٢٨ – ٢٩ ] مما يدل على أن هذا الموضوع كان مما يكثر الأخذ فيه بين النبي وزعماء الكفار أو كانت صوره تتكرر فتقتضي حكمة التنزيل موالاة التنبيه والتحذير والتعليم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
على أنه يتبادر لنا من روح الآيات وعطفها على ما سبقها، ومن روح الآيات التالية لها أنها لم تنزل بمناسبة موقف من مثل هذه المواقف مباشرة، وإنما نزلت استمرارا واستئنافا للسياق الذي فيه حكاية موقف الكفار وتعجيزاتهم، وإن كان من المحتمل أن يكون حدث حادث من نوع ما ذكرته الروايات والحديث الصحيح في ظروف نزولها أو قبله فأشير إليه.
وإنعام النظر في مدى الآيات ومضمونها يجعل الناظر يرى فيها صورة رائعة من سمو الأهداف القرآنية في إعلاء شأن المؤمن الصالح مهما كان فقيرا أو متخلفا في السلم الاجتماعي وفي تقرير حق تقدمه على الكافر الشرير مهما كان غنيا عالي الدرجة، كما يجعله يرى فيها مبادئ جليلة الشأن ؛ حيث يؤذن القرآن عدم إقرار التمايز العلني وتفاضل الناس على أساسه بل ويقضي عليه، ويقرر الأفضلية للعمل الصالح والنية الحسنة وطهارة القلب، ويفتح الباب للمسيء عن جهل للدخول في حظيرة الصلاح بتوبته عن الفساد وبعمله الصالح، ويندد بمن يتبجح بعلو طبقته ويحتقر ما دونه.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ( ١ ) لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( ٥١ ) وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ( ٢ )( ٥٢ ) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ( ٣ ) لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ( ٥٣ ) وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٥٤ ) وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ( ٤ )( ٥٥ ) ﴾ [ ٥١ – ٥٥ ].
في الآية الأولى أمر رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن ينذر بالقرآن بنوع خاص الطبقة التي تخشى الله تعالى يوم الحشر وتؤمن بالرجوع إليه وتعترف بأنه ليس لها من دونه من ولي شفيع، فهي التي يمكن أن تنتفع بالإنذار والموعظة وتتقي الله.
في الآية الثانية نهي رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن طرد المؤمنين الذين يبتغون وجه الله ويتجهون إليه ويدعونه في الصباح والمساء فليس عليه حسابهم وليس عليهم حسابه، فإن طردهم كان من الظالمين الجائرين.
وفي الآية الثالثة حكاية لموقف الكفار من المؤمنين وما كان في ذلكم من اختيار رباني. فقد كان زعماء الكفار يرون بعض الفقراء الأرقاء والضعفاء المسلمين ملتفين حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتساءلون تساؤل المحتقر المستهزئ عما إذا كان هؤلاء هم الذين اختصهم الله برحمته من بينهم ومن عليهم بهدايته. ورد عليهم بأن الله إنما جعل التفاوت بين الناس امتحانا ليعلم تصرفهم إزاء بعضهم وهو الأعلم بالصالحين للهداية الشاكرين لنعمة الله بها.
وفي الآية الرابعة أمر رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبر بالمؤمنين حينما يقبلون عليه فيحييهم ويبشرهم بأن ربهم آلى على نفسه بمقتضى صفة الرحمة التي اتصف بها أنه من عمل منهم عملا سيئا وهو جاهل ثم ندم عليه وتاب منه وعمل صالحا يكون موضع غفرانه ورحمته.
وفي الآية الخامسة تقرير رباني بأن الله تعالى يفصل الآيات حتى يعرف السبيل التي يختار سلوكها المجرمون بوضوح.
والآيات وحدة مترابطة الأجزاء، والآية الأخيرة التي جاءت بمثابة التعقيب قرينة على ذلك، وهي غير منقطعة عن السياق. فبعد أن جودل الكفار وأفحموا وأنذروا جاءت هذه الآيات ملتفتة إلى الذين آمنوا بالرسالة المحمدية لتقرر أنهم هم الذين يمكن أن ينتفعوا بالموعظة والإنذار القرآني لما ثبت من حسن نيتهم وصفاء نفوسهم وصدق رغبتهم في الاهتداء، ولتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسك بهم وإغداق عطفه عليهم وتبشيرهم برحمة الله وعفوه، وبعدم المبالاة بموقف الكفار وبخاصة الزعماء منهم.
تعليق على الآية
﴿ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ ﴾
والآيات الخمس التالية لها وما فيها من صور وتلقين
لقد روى المفسرون في صدد هذه الآيات روايات عديدة ١ جاء في بعضها أن زعماء الكفار كانوا إذا مروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحوله فقراء المسلمين سخروا وقالوا : هؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا فهداهم. وفي بعضها أنهم طلبوا من النبي طردهم حتى يتبعوا أو طردهم إذا ما جلسوا إليه أو أرادوا الاجتماع به. وفي بعضها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطر بباله أن يستجيب إلى طلبهم، وأن عمر بن الخطاب اقترح عليه ذلك ليظهر مدى موقف الزعماء وأن النبي هم بأن يكتب لهم عهدا بذلك فأنزل الله الآيات. وهناك رواية تذكر أن الذين طلبوا بعض هذه المطالب هم زعيما قبيلتي تميم وبني فزارة. وهناك رواية تذكر أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقترفوا ذنوبا كبيرة فجاؤوا إلى النبي نادمين، فلم يرد عليهم فأنزل الله الآية [ ٥٤ ] ومقتضى هذه الرواية أن هذه الآية نزلت لحدتها مع أنها منسجمة جدا بما قبلها وبعدها. على أن هناك حديثا ذكره مسلم عن سعد جاء فيه :( كنا مع رسول الله ستة فقال المشركون للنبي اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله وحدث نفسه فأنزل الله عز وجل ﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم…… ﴾ [ ٥٢ ] الخ٢.
ومهما يكن من أمر فالآيات تنطوي على صورة السيرة النبوية. فكثير من الذين آمنوا في أول الأمر كانوا من الفقراء والمساكين، فكان زعماء الكفار يتخذونهم موضوع سخرية ويعدونهم مظهرا من مظاهر إخفاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نشر دعوته. وكان بعضهم يتحججون بهم في عدم الاستجابة ؛ لئلا يكونوا معهم في مستوى واحد، ويطلبون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم طردهم من مجلسه حينما يريدون أن يجتمعوا به أو يريد أن يجتمع بهم. ومضمون الآيات قد يلهم أن موقف زعماء الكفار كان يؤثر في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الشيء، ويوجد فيه أملا في اهتداء زعماء الكفار ويجعله يتشاغل عن تلك الطبقة أو يهملها أو يفكر في إقصاء من يكون في مجلسه منها أحيانا انسياقا وراء هذا الأمل. فنبه في الآيات إلى ما في هذا من خطأ، كما عوتب على موقف مثل هذا الموقف في أوائل سورة عبس التي مر تفسيرها.
ولقد احتوت سورة الكهف آية فيها صراحة في هذا الباب وهي هذه :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ( ٢٨ ) وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾ [ ٢٨ – ٢٩ ] مما يدل على أن هذا الموضوع كان مما يكثر الأخذ فيه بين النبي وزعماء الكفار أو كانت صوره تتكرر فتقتضي حكمة التنزيل موالاة التنبيه والتحذير والتعليم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
على أنه يتبادر لنا من روح الآيات وعطفها على ما سبقها، ومن روح الآيات التالية لها أنها لم تنزل بمناسبة موقف من مثل هذه المواقف مباشرة، وإنما نزلت استمرارا واستئنافا للسياق الذي فيه حكاية موقف الكفار وتعجيزاتهم، وإن كان من المحتمل أن يكون حدث حادث من نوع ما ذكرته الروايات والحديث الصحيح في ظروف نزولها أو قبله فأشير إليه.
وإنعام النظر في مدى الآيات ومضمونها يجعل الناظر يرى فيها صورة رائعة من سمو الأهداف القرآنية في إعلاء شأن المؤمن الصالح مهما كان فقيرا أو متخلفا في السلم الاجتماعي وفي تقرير حق تقدمه على الكافر الشرير مهما كان غنيا عالي الدرجة، كما يجعله يرى فيها مبادئ جليلة الشأن ؛ حيث يؤذن القرآن عدم إقرار التمايز العلني وتفاضل الناس على أساسه بل ويقضي عليه، ويقرر الأفضلية للعمل الصالح والنية الحسنة وطهارة القلب، ويفتح الباب للمسيء عن جهل للدخول في حظيرة الصلاح بتوبته عن الفساد وبعمله الصالح، ويندد بمن يتبجح بعلو طبقته ويحتقر ما دونه.

ولتستبين سبيل المجرمين : قرئت سبيل بالرفع وبالنصب١. ومعنى الجملة في الحالة الأولى ( ولتظهر الطريق الذي يسلكه المجرمون ) ومعنى الجملة في الحالة الثانية ( ولتعرف أيها النبي السبيل الذي يسلكه المجرمون ).
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ( ١ ) لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( ٥١ ) وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ ( ٢ )( ٥٢ ) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ( ٣ ) لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ( ٥٣ ) وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٥٤ ) وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ( ٤ )( ٥٥ ) ﴾ [ ٥١ – ٥٥ ].
في الآية الأولى أمر رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن ينذر بالقرآن بنوع خاص الطبقة التي تخشى الله تعالى يوم الحشر وتؤمن بالرجوع إليه وتعترف بأنه ليس لها من دونه من ولي شفيع، فهي التي يمكن أن تنتفع بالإنذار والموعظة وتتقي الله.
في الآية الثانية نهي رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن طرد المؤمنين الذين يبتغون وجه الله ويتجهون إليه ويدعونه في الصباح والمساء فليس عليه حسابهم وليس عليهم حسابه، فإن طردهم كان من الظالمين الجائرين.
وفي الآية الثالثة حكاية لموقف الكفار من المؤمنين وما كان في ذلكم من اختيار رباني. فقد كان زعماء الكفار يرون بعض الفقراء الأرقاء والضعفاء المسلمين ملتفين حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتساءلون تساؤل المحتقر المستهزئ عما إذا كان هؤلاء هم الذين اختصهم الله برحمته من بينهم ومن عليهم بهدايته. ورد عليهم بأن الله إنما جعل التفاوت بين الناس امتحانا ليعلم تصرفهم إزاء بعضهم وهو الأعلم بالصالحين للهداية الشاكرين لنعمة الله بها.
وفي الآية الرابعة أمر رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالبر بالمؤمنين حينما يقبلون عليه فيحييهم ويبشرهم بأن ربهم آلى على نفسه بمقتضى صفة الرحمة التي اتصف بها أنه من عمل منهم عملا سيئا وهو جاهل ثم ندم عليه وتاب منه وعمل صالحا يكون موضع غفرانه ورحمته.
وفي الآية الخامسة تقرير رباني بأن الله تعالى يفصل الآيات حتى يعرف السبيل التي يختار سلوكها المجرمون بوضوح.
والآيات وحدة مترابطة الأجزاء، والآية الأخيرة التي جاءت بمثابة التعقيب قرينة على ذلك، وهي غير منقطعة عن السياق. فبعد أن جودل الكفار وأفحموا وأنذروا جاءت هذه الآيات ملتفتة إلى الذين آمنوا بالرسالة المحمدية لتقرر أنهم هم الذين يمكن أن ينتفعوا بالموعظة والإنذار القرآني لما ثبت من حسن نيتهم وصفاء نفوسهم وصدق رغبتهم في الاهتداء، ولتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسك بهم وإغداق عطفه عليهم وتبشيرهم برحمة الله وعفوه، وبعدم المبالاة بموقف الكفار وبخاصة الزعماء منهم.
تعليق على الآية
﴿ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ ﴾
والآيات الخمس التالية لها وما فيها من صور وتلقين
لقد روى المفسرون في صدد هذه الآيات روايات عديدة ١ جاء في بعضها أن زعماء الكفار كانوا إذا مروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وحوله فقراء المسلمين سخروا وقالوا : هؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا فهداهم. وفي بعضها أنهم طلبوا من النبي طردهم حتى يتبعوا أو طردهم إذا ما جلسوا إليه أو أرادوا الاجتماع به. وفي بعضها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطر بباله أن يستجيب إلى طلبهم، وأن عمر بن الخطاب اقترح عليه ذلك ليظهر مدى موقف الزعماء وأن النبي هم بأن يكتب لهم عهدا بذلك فأنزل الله الآيات. وهناك رواية تذكر أن الذين طلبوا بعض هذه المطالب هم زعيما قبيلتي تميم وبني فزارة. وهناك رواية تذكر أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اقترفوا ذنوبا كبيرة فجاؤوا إلى النبي نادمين، فلم يرد عليهم فأنزل الله الآية [ ٥٤ ] ومقتضى هذه الرواية أن هذه الآية نزلت لحدتها مع أنها منسجمة جدا بما قبلها وبعدها. على أن هناك حديثا ذكره مسلم عن سعد جاء فيه :( كنا مع رسول الله ستة فقال المشركون للنبي اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا. وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما، فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله وحدث نفسه فأنزل الله عز وجل ﴿ وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم…… ﴾ [ ٥٢ ] الخ٢.
ومهما يكن من أمر فالآيات تنطوي على صورة السيرة النبوية. فكثير من الذين آمنوا في أول الأمر كانوا من الفقراء والمساكين، فكان زعماء الكفار يتخذونهم موضوع سخرية ويعدونهم مظهرا من مظاهر إخفاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم في نشر دعوته. وكان بعضهم يتحججون بهم في عدم الاستجابة ؛ لئلا يكونوا معهم في مستوى واحد، ويطلبون من النبي صلى الله عليه وآله وسلم طردهم من مجلسه حينما يريدون أن يجتمعوا به أو يريد أن يجتمع بهم. ومضمون الآيات قد يلهم أن موقف زعماء الكفار كان يؤثر في نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض الشيء، ويوجد فيه أملا في اهتداء زعماء الكفار ويجعله يتشاغل عن تلك الطبقة أو يهملها أو يفكر في إقصاء من يكون في مجلسه منها أحيانا انسياقا وراء هذا الأمل. فنبه في الآيات إلى ما في هذا من خطأ، كما عوتب على موقف مثل هذا الموقف في أوائل سورة عبس التي مر تفسيرها.
ولقد احتوت سورة الكهف آية فيها صراحة في هذا الباب وهي هذه :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا ( ٢٨ ) وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ﴾ [ ٢٨ – ٢٩ ] مما يدل على أن هذا الموضوع كان مما يكثر الأخذ فيه بين النبي وزعماء الكفار أو كانت صوره تتكرر فتقتضي حكمة التنزيل موالاة التنبيه والتحذير والتعليم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
على أنه يتبادر لنا من روح الآيات وعطفها على ما سبقها، ومن روح الآيات التالية لها أنها لم تنزل بمناسبة موقف من مثل هذه المواقف مباشرة، وإنما نزلت استمرارا واستئنافا للسياق الذي فيه حكاية موقف الكفار وتعجيزاتهم، وإن كان من المحتمل أن يكون حدث حادث من نوع ما ذكرته الروايات والحديث الصحيح في ظروف نزولها أو قبله فأشير إليه.
وإنعام النظر في مدى الآيات ومضمونها يجعل الناظر يرى فيها صورة رائعة من سمو الأهداف القرآنية في إعلاء شأن المؤمن الصالح مهما كان فقيرا أو متخلفا في السلم الاجتماعي وفي تقرير حق تقدمه على الكافر الشرير مهما كان غنيا عالي الدرجة، كما يجعله يرى فيها مبادئ جليلة الشأن ؛ حيث يؤذن القرآن عدم إقرار التمايز العلني وتفاضل الناس على أساسه بل ويقضي عليه، ويقرر الأفضلية للعمل الصالح والنية الحسنة وطهارة القلب، ويفتح الباب للمسيء عن جهل للدخول في حظيرة الصلاح بتوبته عن الفساد وبعمله الصالح، ويندد بمن يتبجح بعلو طبقته ويحتقر ما دونه.


١ انظر تفسيرها في تفسير ابن كثير والطبري..
﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( ٥٦ ) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ ( ١ )الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ( ٢ ) ( ٥٧ ) قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ( ٣ ) ( ٥٨ ) ﴾ [ ٥٦ – ٥٨ ].
في الآيات أمر رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعلن للكفار أن الله تعالى نهاه عن عبادة ما يدعون من دونه من إتباع أهوائهم ؛ لأنه يكون حينئذ ضالا غير مهتد في حين أنه غدا على بينة من ربه بالرغم من تكذيبهم وجحودهم، وبأن يعلن لهم كذلك أن ما يستعجلونه ليس في يده ولو كان في يده لكان الأمر قد انقضى بينه وبينهم، ولكنه بيد الله الذي يقول الحق ويقضي به وهو خير الفاصلين، وهو الأعلم بالظالمين الباغين.
والآيات كما هو المتبادر متصلة بالسياق المستأنف فيه حكاية ما كان يقع بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار من حجاج ونقاش.
ومن المحتمل أن تكون جملة ﴿ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُم ﴾ ردا على ما كان زعماء الكفار يطالبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم به من إقصاء فقراء المسلمين عنه مما تضمنته الآيات السابقة، كما أن من المحتمل أن يكون في صدد ما طالبوا به من التساهل معهم في بعض الشؤون مما تضمنته آيات أخرى مر بعضها منها في آيات سورة الإسراء [ ٧٣ – ٧٤ ] وآيات سورة القلم [ ٩ – ١٠ ] أما جملة ﴿ مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِه ﴾ فالجمهور على أنها تعني العذاب الذي أوعد القرآن الكفار به، وكان الكفار يتحدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتعجيل به استخفافا وإنكارا وهو وجيه. وقد حكته عنهم آيات عديدة مر بعضها، مثل آيات سورة يونس [ ٤٨ – ٥٠ ] وآية سورة هود [ ٨ ] وآيات سورة الشعراء [ ٢٠٢ – ٢٠٨ ].
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا عن عائشة جاء فيه :( إنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد، فقال : لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة. إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت. فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب. فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد ظللتني فنظرت، فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك، وما ردوا عليك وقد بعثت إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال : فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك، وقد بعثني إليك لتأمرني بأمرك. إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين فقال رسول الله : بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا ). وقال ابن كثير : إن الحديث ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن طريق الزهري عن عروة عن عائشة.
وينطوي في الحديث أولا : مشهد من المشاهد الروحانية التي كشفها الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لتسكينه وتطمينه. ثانيا : حكمة حكم الله ورسوله فيما كان من عدم التعجيل بالعذاب على قومه الذين ناوأوه وهذا ما تكررت الإشارة إليه في آيات عديدة بعضها في سور سبق تفسيرها. ثالثا : صورة من صدق عاطفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإشفاقه التي كانت تعتلج بها نفسه صلى الله عليه وآله وسلم. ولقد صدق الله ظنه فآمن كثير من الكافرين وأخرج من أصلابهم مؤمنين مخلصين صادقين.
أما عبد ياليل المذكور في الحديث فهو زعيم الطائف حيث ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها بعد موت عمه لعله يجد نصيرا، فرد أقبح رد ورشق حتى أدمى. وعاد كسيرا حزينا وناجى ربه في الطريق مناجاة سنوردها في سياق تفسير سورة الأحقاف ؛ لأن لها مناسبة أكثر ملاءمة فيها، فكان ذلك المشهد والحوار اللذان ذكرا في الحديث.
يقص الحق : قال المفسرون : معنى يقص هنا : يقول. وروى الطبري أن كلمة ( يقص ) قرئت ( يقضي ) ورأى في ذلك وجاهة أكثر لأنها تتسق بذلك مع الجملة التالية لها.
الفاصلين : من الفصل بمعنى القضاء بين الناس.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٦:﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( ٥٦ ) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ ( ١ )الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ( ٢ ) ( ٥٧ ) قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ( ٣ ) ( ٥٨ ) ﴾ [ ٥٦ – ٥٨ ].
في الآيات أمر رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعلن للكفار أن الله تعالى نهاه عن عبادة ما يدعون من دونه من إتباع أهوائهم ؛ لأنه يكون حينئذ ضالا غير مهتد في حين أنه غدا على بينة من ربه بالرغم من تكذيبهم وجحودهم، وبأن يعلن لهم كذلك أن ما يستعجلونه ليس في يده ولو كان في يده لكان الأمر قد انقضى بينه وبينهم، ولكنه بيد الله الذي يقول الحق ويقضي به وهو خير الفاصلين، وهو الأعلم بالظالمين الباغين.
والآيات كما هو المتبادر متصلة بالسياق المستأنف فيه حكاية ما كان يقع بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار من حجاج ونقاش.
ومن المحتمل أن تكون جملة ﴿ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُم ﴾ ردا على ما كان زعماء الكفار يطالبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم به من إقصاء فقراء المسلمين عنه مما تضمنته الآيات السابقة، كما أن من المحتمل أن يكون في صدد ما طالبوا به من التساهل معهم في بعض الشؤون مما تضمنته آيات أخرى مر بعضها منها في آيات سورة الإسراء [ ٧٣ – ٧٤ ] وآيات سورة القلم [ ٩ – ١٠ ] أما جملة ﴿ مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِه ﴾ فالجمهور على أنها تعني العذاب الذي أوعد القرآن الكفار به، وكان الكفار يتحدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتعجيل به استخفافا وإنكارا وهو وجيه. وقد حكته عنهم آيات عديدة مر بعضها، مثل آيات سورة يونس [ ٤٨ – ٥٠ ] وآية سورة هود [ ٨ ] وآيات سورة الشعراء [ ٢٠٢ – ٢٠٨ ].
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا عن عائشة جاء فيه :( إنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد، فقال : لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة. إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت. فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب. فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد ظللتني فنظرت، فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك، وما ردوا عليك وقد بعثت إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال : فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك، وقد بعثني إليك لتأمرني بأمرك. إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين فقال رسول الله : بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا ). وقال ابن كثير : إن الحديث ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن طريق الزهري عن عروة عن عائشة.
وينطوي في الحديث أولا : مشهد من المشاهد الروحانية التي كشفها الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لتسكينه وتطمينه. ثانيا : حكمة حكم الله ورسوله فيما كان من عدم التعجيل بالعذاب على قومه الذين ناوأوه وهذا ما تكررت الإشارة إليه في آيات عديدة بعضها في سور سبق تفسيرها. ثالثا : صورة من صدق عاطفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإشفاقه التي كانت تعتلج بها نفسه صلى الله عليه وآله وسلم. ولقد صدق الله ظنه فآمن كثير من الكافرين وأخرج من أصلابهم مؤمنين مخلصين صادقين.
أما عبد ياليل المذكور في الحديث فهو زعيم الطائف حيث ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها بعد موت عمه لعله يجد نصيرا، فرد أقبح رد ورشق حتى أدمى. وعاد كسيرا حزينا وناجى ربه في الطريق مناجاة سنوردها في سياق تفسير سورة الأحقاف ؛ لأن لها مناسبة أكثر ملاءمة فيها، فكان ذلك المشهد والحوار اللذان ذكرا في الحديث.

الظالمين : هنا بمعنى الطاغين المنحرفين المجرمين.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٦:﴿ قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ( ٥٦ ) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ ( ١ )الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ( ٢ ) ( ٥٧ ) قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ( ٣ ) ( ٥٨ ) ﴾ [ ٥٦ – ٥٨ ].
في الآيات أمر رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعلن للكفار أن الله تعالى نهاه عن عبادة ما يدعون من دونه من إتباع أهوائهم ؛ لأنه يكون حينئذ ضالا غير مهتد في حين أنه غدا على بينة من ربه بالرغم من تكذيبهم وجحودهم، وبأن يعلن لهم كذلك أن ما يستعجلونه ليس في يده ولو كان في يده لكان الأمر قد انقضى بينه وبينهم، ولكنه بيد الله الذي يقول الحق ويقضي به وهو خير الفاصلين، وهو الأعلم بالظالمين الباغين.
والآيات كما هو المتبادر متصلة بالسياق المستأنف فيه حكاية ما كان يقع بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار من حجاج ونقاش.
ومن المحتمل أن تكون جملة ﴿ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُم ﴾ ردا على ما كان زعماء الكفار يطالبون النبي صلى الله عليه وآله وسلم به من إقصاء فقراء المسلمين عنه مما تضمنته الآيات السابقة، كما أن من المحتمل أن يكون في صدد ما طالبوا به من التساهل معهم في بعض الشؤون مما تضمنته آيات أخرى مر بعضها منها في آيات سورة الإسراء [ ٧٣ – ٧٤ ] وآيات سورة القلم [ ٩ – ١٠ ] أما جملة ﴿ مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِه ﴾ فالجمهور على أنها تعني العذاب الذي أوعد القرآن الكفار به، وكان الكفار يتحدون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتعجيل به استخفافا وإنكارا وهو وجيه. وقد حكته عنهم آيات عديدة مر بعضها، مثل آيات سورة يونس [ ٤٨ – ٥٠ ] وآية سورة هود [ ٨ ] وآيات سورة الشعراء [ ٢٠٢ – ٢٠٨ ].
ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا عن عائشة جاء فيه :( إنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد، فقال : لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة. إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل ابن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت. فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا بقرن الثعالب. فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد ظللتني فنظرت، فإذا فيها جبريل عليه السلام فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك، وما ردوا عليك وقد بعثت إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال : فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك، وقد بعثني إليك لتأمرني بأمرك. إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين فقال رسول الله : بل أرجو أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئا ). وقال ابن كثير : إن الحديث ورد في صحيحي البخاري ومسلم عن طريق الزهري عن عروة عن عائشة.
وينطوي في الحديث أولا : مشهد من المشاهد الروحانية التي كشفها الله للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لتسكينه وتطمينه. ثانيا : حكمة حكم الله ورسوله فيما كان من عدم التعجيل بالعذاب على قومه الذين ناوأوه وهذا ما تكررت الإشارة إليه في آيات عديدة بعضها في سور سبق تفسيرها. ثالثا : صورة من صدق عاطفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإشفاقه التي كانت تعتلج بها نفسه صلى الله عليه وآله وسلم. ولقد صدق الله ظنه فآمن كثير من الكافرين وأخرج من أصلابهم مؤمنين مخلصين صادقين.
أما عبد ياليل المذكور في الحديث فهو زعيم الطائف حيث ذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها بعد موت عمه لعله يجد نصيرا، فرد أقبح رد ورشق حتى أدمى. وعاد كسيرا حزينا وناجى ربه في الطريق مناجاة سنوردها في سياق تفسير سورة الأحقاف ؛ لأن لها مناسبة أكثر ملاءمة فيها، فكان ذلك المشهد والحوار اللذان ذكرا في الحديث.

﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ( ٥٩ ) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم( ١ ) بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٦٠ ) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ( ٦١ ) ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ( ٦٢ ) ﴾ [ ٥٩ – ٦٢ ].
في الآيات تقرير بأن مفاتح الغيب بيد الله لا يعلمها إلا هو، وقد أحاط علمه بكل صغيرة وكبيرة ودقيقة وجليلة في السماوات والأرض والبر والبحر والظلمات، وهو الذي يتوفى الناس بالليل ويعلم ما كسبوا في النهار ويمدهم بأسباب الحياة حينما يستيقظون إلى أن تنتهي آجالهم المعينة عنده، ثم يرجعون إليه ليحاسبهم على ما فعلوه، وهو القاهر فوقهم، وعليهم من قبله رقباء وحفظة، وحينما يجيء أجل أحدهم تتوفاه رسله الذين لا يفرطون في شيء مما أمروا به ثم ردوا إلى الله مولاهم الذي له الحكم والذي هو أسرع الحاسبين.
والآيات تتمة على ما هو المتبادر للرد الذي احتوته الآيات السابقة في صدد تقرير كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس في يده شيء، وكون الأمر كله بيد الله والغيب كله عنده، وهو الأعلم بالظالمين، ولا بد من أن يجزيهم بما يستحقون حينما يحين الوقت المعين في عمله. وهي إذن متصلة بالآيات السابقة. والضمير المخاطب فيها راجع إلى الكفار الذين هم موضوع الرد.
تعليق على الآية
﴿ *وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُو…… ﴾
الآيات الثلاث التالية لها
١- أورد المفسرون في صدد جملة ﴿ *وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُو ﴾ أحاديث عديدة منها حديث رواه البخاري عن ابن عمر جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مفاتيح الغيب خمس ثم قرأ :﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ﴾ لقمان :[ ٣٤ ] ١ وهذه الآية هي الآية الأخيرة والذي يلحظ أن هذه الآية لم تصنف الأمور الخمسة صراحة بأنها لا يعلمها إلا الله ولم تحصر المغيبات التي لا يعلمها إلا الله بها، وليس فيها ما ينفي بأن الله تعالى قد يلهم بعض ما في علمه لبعض خلقه. ولا ينفي أن يكون هناك أمور مغيبة أخرى يختص الله تعالى بعلمها.
وقد ذكر هذا بعض المفسرين مثل الطبرسي والسيد رشيد رضا. ومع أن الطبري أورد حديث البخاري فإنه قال : إن تأويل الجملة هو أن الله تعالى هو أعلم بالظالمين من خلقه وما هم مستحقوه وما هو صانع بهم فإن عنده علم ما غاب علمه عن خلقه فلم يطلعوا عليه ولم يدركوه وعنده علم جميع ما يعلمونه فلا شيء يخفى عن الناس أو لا يخفى ولا شيء كان أو هو كائن إلا علمه عنده. وننبه على أن الآية جاءت بعد جملة ﴿ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ﴾ فيكون إيضاح الطبري هذا متصلا بهذه الجملة التي عطفت عليها الآيات التي نحن في صددها، وشيء من هذا يرويه البغوي عن الضحاك ومقاتل، ولقد قال الزمخشري : إن تعبير مفاتح الغيب مجازي بمعنى أن الله وحده هو الذي يعلم الغيب ؛ حيث يبدوا من هذا أن الأحاديث التي تجعل مفاتح الغيب ما ذكرته آية لقمان حصرا لم تؤخذ من قبل بعض علماء التابعين وأئمة المفسرين كقضية مسلمة وفسروا الجملة تفسيرا موضوعيا أو متصلا بما قبلها أو أخذوها على أنها جملة عامة مطلقة تشمل كل ما في علم الله تعالى من أمور مغيبة، ويبدو لنا هذا وجيها على مدى النص القرآني في مقامه والله أعلم.
٢- روى المفسرون عن أهل التأويل أن الجملة ﴿ كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ تعني اللوح المحفوظ الذي روي أن الله أمر بكتابة كل ما هو كائن عليه حين خلقه كما رووا عنهم أنها تعني علم الله الشامل لكل ما كان ويكون. وهذا وذاك مما يتكرر في سياق الجمل المماثلة في هذه السورة والسور الأخرى ومر منه بعض الأمثلة. وفي تعليقنا على اللوح المحفوظ والقلم في سورتي القلم والبروج انتهى الأمر بنا إلى أن مدى التأويلين واحد وهو علم الله بكل ما كان ويكون فنكتفي بهذا التنبيه.
٣- روى المفسرون عن أهل التأويل في صدد جملة ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ ﴾ أن العرب كانوا يعبرون عن النوم بالوفاة الصغرى والموت بالكبرى، وأن ذلك من قبيل المجاز لما بين النوم والموت من بعض التشارك. ورووا أن هذه الجملة مع جملة ﴿ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَار ﴾ أن هذا قد هدف إلى تقرير هيمنة الله تعالى على عباده هيمنة تامة في كل حالاتهم، ثم إلى التدليل على قدرة الله تعالى على بعث الناس بعد موتهم وكون ذلك بالنسبة إليه كبعثهم بعد نومهم. وفي هذه التأويلات وجاهة متسقة مع الجملة في مقامها.
٤- روى المفسرون عن بعض أهل التأويل أن الضمير في جملة ﴿ ثُمَّ رُدُّواْ ﴾ عائد إلى رسل الله كما رووا عن بعض آخر أنه عائد إلى الذين يتوفاهم رسل الله، وقد أخذنا في شرحنا السابق بالتأويل الثاني ؛ لأنه تبادر لنا أنه أكثر اتساقا مع بقية الآية التي جاءت فيها الجملة.
٥- وفي صدد ما جاء في الآية [ ٦١ ] عن الحفظة الذين يرسلهم الله على عباده ورسل الله الذين يتوفون عباده حينما تنتهي آجالهم نقول : إن ذلك من الأمور المتصلة بالملائكة وخدماتهم لله تعالى، ومن الأسرار الإلهية الغيبية التي يجب الإيمان بها ؛ لأنها ذكرت بصراحة وقطعية في القرآن. وقد مرت أمثلة عديدة من ذلك في سور سبق تفسيرها، فلا طائل في التخمين والتزيد بسبيل استشفاف الماهيات على ما شرحناه في المناسبات السابقة وبخاصة في سورة المدثر. ويكفي استشفاف الحكمة من ذكر ما ورد في الآية ومطلعها يلهم أن القصد مما جاء فيها من ذلك هو تقرير كون الله تعالى هو المتصرف المطلق في عباده فيكون ذلك من تلك الحكمة.
وأسلوب الآيات في جملتها قوي رائع، وقد هدف فيما هدف إليه على ما يتبادر من روحها إلى تقرير إحاطة علم الله تعالى بكل شيء ومطلق تصرفه في كل شيء وإنذار الكفار بتحقيق ما يوعدون به وتوكيد قدرة الله تعالى عليه، وإثارة الرعب في قلوبهم وحملهم على الارعواء، والله تعالى أعلم.
١ التاج جـ ٤ ص ١٨١ والأحاديث الأخرى لم ترد في الصحاح فاكتفينا بهذا الحديث..
جرحتم : اقترفتم وعملتم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٩:﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ( ٥٩ ) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم( ١ ) بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٦٠ ) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ( ٦١ ) ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ( ٦٢ ) ﴾ [ ٥٩ – ٦٢ ].
في الآيات تقرير بأن مفاتح الغيب بيد الله لا يعلمها إلا هو، وقد أحاط علمه بكل صغيرة وكبيرة ودقيقة وجليلة في السماوات والأرض والبر والبحر والظلمات، وهو الذي يتوفى الناس بالليل ويعلم ما كسبوا في النهار ويمدهم بأسباب الحياة حينما يستيقظون إلى أن تنتهي آجالهم المعينة عنده، ثم يرجعون إليه ليحاسبهم على ما فعلوه، وهو القاهر فوقهم، وعليهم من قبله رقباء وحفظة، وحينما يجيء أجل أحدهم تتوفاه رسله الذين لا يفرطون في شيء مما أمروا به ثم ردوا إلى الله مولاهم الذي له الحكم والذي هو أسرع الحاسبين.
والآيات تتمة على ما هو المتبادر للرد الذي احتوته الآيات السابقة في صدد تقرير كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس في يده شيء، وكون الأمر كله بيد الله والغيب كله عنده، وهو الأعلم بالظالمين، ولا بد من أن يجزيهم بما يستحقون حينما يحين الوقت المعين في عمله. وهي إذن متصلة بالآيات السابقة. والضمير المخاطب فيها راجع إلى الكفار الذين هم موضوع الرد.
تعليق على الآية
﴿ *وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُو…… ﴾
الآيات الثلاث التالية لها

١-
أورد المفسرون في صدد جملة ﴿ *وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُو ﴾ أحاديث عديدة منها حديث رواه البخاري عن ابن عمر جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مفاتيح الغيب خمس ثم قرأ :﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ﴾ لقمان :[ ٣٤ ] ١ وهذه الآية هي الآية الأخيرة والذي يلحظ أن هذه الآية لم تصنف الأمور الخمسة صراحة بأنها لا يعلمها إلا الله ولم تحصر المغيبات التي لا يعلمها إلا الله بها، وليس فيها ما ينفي بأن الله تعالى قد يلهم بعض ما في علمه لبعض خلقه. ولا ينفي أن يكون هناك أمور مغيبة أخرى يختص الله تعالى بعلمها.
وقد ذكر هذا بعض المفسرين مثل الطبرسي والسيد رشيد رضا. ومع أن الطبري أورد حديث البخاري فإنه قال : إن تأويل الجملة هو أن الله تعالى هو أعلم بالظالمين من خلقه وما هم مستحقوه وما هو صانع بهم فإن عنده علم ما غاب علمه عن خلقه فلم يطلعوا عليه ولم يدركوه وعنده علم جميع ما يعلمونه فلا شيء يخفى عن الناس أو لا يخفى ولا شيء كان أو هو كائن إلا علمه عنده. وننبه على أن الآية جاءت بعد جملة ﴿ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ﴾ فيكون إيضاح الطبري هذا متصلا بهذه الجملة التي عطفت عليها الآيات التي نحن في صددها، وشيء من هذا يرويه البغوي عن الضحاك ومقاتل، ولقد قال الزمخشري : إن تعبير مفاتح الغيب مجازي بمعنى أن الله وحده هو الذي يعلم الغيب ؛ حيث يبدوا من هذا أن الأحاديث التي تجعل مفاتح الغيب ما ذكرته آية لقمان حصرا لم تؤخذ من قبل بعض علماء التابعين وأئمة المفسرين كقضية مسلمة وفسروا الجملة تفسيرا موضوعيا أو متصلا بما قبلها أو أخذوها على أنها جملة عامة مطلقة تشمل كل ما في علم الله تعالى من أمور مغيبة، ويبدو لنا هذا وجيها على مدى النص القرآني في مقامه والله أعلم.

٢-
روى المفسرون عن أهل التأويل أن الجملة ﴿ كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ تعني اللوح المحفوظ الذي روي أن الله أمر بكتابة كل ما هو كائن عليه حين خلقه كما رووا عنهم أنها تعني علم الله الشامل لكل ما كان ويكون. وهذا وذاك مما يتكرر في سياق الجمل المماثلة في هذه السورة والسور الأخرى ومر منه بعض الأمثلة. وفي تعليقنا على اللوح المحفوظ والقلم في سورتي القلم والبروج انتهى الأمر بنا إلى أن مدى التأويلين واحد وهو علم الله بكل ما كان ويكون فنكتفي بهذا التنبيه.

٣-
روى المفسرون عن أهل التأويل في صدد جملة ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ ﴾ أن العرب كانوا يعبرون عن النوم بالوفاة الصغرى والموت بالكبرى، وأن ذلك من قبيل المجاز لما بين النوم والموت من بعض التشارك. ورووا أن هذه الجملة مع جملة ﴿ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَار ﴾ أن هذا قد هدف إلى تقرير هيمنة الله تعالى على عباده هيمنة تامة في كل حالاتهم، ثم إلى التدليل على قدرة الله تعالى على بعث الناس بعد موتهم وكون ذلك بالنسبة إليه كبعثهم بعد نومهم. وفي هذه التأويلات وجاهة متسقة مع الجملة في مقامها.

٤-
روى المفسرون عن بعض أهل التأويل أن الضمير في جملة ﴿ ثُمَّ رُدُّواْ ﴾ عائد إلى رسل الله كما رووا عن بعض آخر أنه عائد إلى الذين يتوفاهم رسل الله، وقد أخذنا في شرحنا السابق بالتأويل الثاني ؛ لأنه تبادر لنا أنه أكثر اتساقا مع بقية الآية التي جاءت فيها الجملة.

٥-
وفي صدد ما جاء في الآية [ ٦١ ] عن الحفظة الذين يرسلهم الله على عباده ورسل الله الذين يتوفون عباده حينما تنتهي آجالهم نقول : إن ذلك من الأمور المتصلة بالملائكة وخدماتهم لله تعالى، ومن الأسرار الإلهية الغيبية التي يجب الإيمان بها ؛ لأنها ذكرت بصراحة وقطعية في القرآن. وقد مرت أمثلة عديدة من ذلك في سور سبق تفسيرها، فلا طائل في التخمين والتزيد بسبيل استشفاف الماهيات على ما شرحناه في المناسبات السابقة وبخاصة في سورة المدثر. ويكفي استشفاف الحكمة من ذكر ما ورد في الآية ومطلعها يلهم أن القصد مما جاء فيها من ذلك هو تقرير كون الله تعالى هو المتصرف المطلق في عباده فيكون ذلك من تلك الحكمة.
وأسلوب الآيات في جملتها قوي رائع، وقد هدف فيما هدف إليه على ما يتبادر من روحها إلى تقرير إحاطة علم الله تعالى بكل شيء ومطلق تصرفه في كل شيء وإنذار الكفار بتحقيق ما يوعدون به وتوكيد قدرة الله تعالى عليه، وإثارة الرعب في قلوبهم وحملهم على الارعواء، والله تعالى أعلم.
١ التاج جـ ٤ ص ١٨١ والأحاديث الأخرى لم ترد في الصحاح فاكتفينا بهذا الحديث..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٩:﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ( ٥٩ ) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم( ١ ) بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٦٠ ) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ( ٦١ ) ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ( ٦٢ ) ﴾ [ ٥٩ – ٦٢ ].
في الآيات تقرير بأن مفاتح الغيب بيد الله لا يعلمها إلا هو، وقد أحاط علمه بكل صغيرة وكبيرة ودقيقة وجليلة في السماوات والأرض والبر والبحر والظلمات، وهو الذي يتوفى الناس بالليل ويعلم ما كسبوا في النهار ويمدهم بأسباب الحياة حينما يستيقظون إلى أن تنتهي آجالهم المعينة عنده، ثم يرجعون إليه ليحاسبهم على ما فعلوه، وهو القاهر فوقهم، وعليهم من قبله رقباء وحفظة، وحينما يجيء أجل أحدهم تتوفاه رسله الذين لا يفرطون في شيء مما أمروا به ثم ردوا إلى الله مولاهم الذي له الحكم والذي هو أسرع الحاسبين.
والآيات تتمة على ما هو المتبادر للرد الذي احتوته الآيات السابقة في صدد تقرير كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس في يده شيء، وكون الأمر كله بيد الله والغيب كله عنده، وهو الأعلم بالظالمين، ولا بد من أن يجزيهم بما يستحقون حينما يحين الوقت المعين في عمله. وهي إذن متصلة بالآيات السابقة. والضمير المخاطب فيها راجع إلى الكفار الذين هم موضوع الرد.
تعليق على الآية
﴿ *وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُو…… ﴾
الآيات الثلاث التالية لها

١-
أورد المفسرون في صدد جملة ﴿ *وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُو ﴾ أحاديث عديدة منها حديث رواه البخاري عن ابن عمر جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مفاتيح الغيب خمس ثم قرأ :﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ﴾ لقمان :[ ٣٤ ] ١ وهذه الآية هي الآية الأخيرة والذي يلحظ أن هذه الآية لم تصنف الأمور الخمسة صراحة بأنها لا يعلمها إلا الله ولم تحصر المغيبات التي لا يعلمها إلا الله بها، وليس فيها ما ينفي بأن الله تعالى قد يلهم بعض ما في علمه لبعض خلقه. ولا ينفي أن يكون هناك أمور مغيبة أخرى يختص الله تعالى بعلمها.
وقد ذكر هذا بعض المفسرين مثل الطبرسي والسيد رشيد رضا. ومع أن الطبري أورد حديث البخاري فإنه قال : إن تأويل الجملة هو أن الله تعالى هو أعلم بالظالمين من خلقه وما هم مستحقوه وما هو صانع بهم فإن عنده علم ما غاب علمه عن خلقه فلم يطلعوا عليه ولم يدركوه وعنده علم جميع ما يعلمونه فلا شيء يخفى عن الناس أو لا يخفى ولا شيء كان أو هو كائن إلا علمه عنده. وننبه على أن الآية جاءت بعد جملة ﴿ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ﴾ فيكون إيضاح الطبري هذا متصلا بهذه الجملة التي عطفت عليها الآيات التي نحن في صددها، وشيء من هذا يرويه البغوي عن الضحاك ومقاتل، ولقد قال الزمخشري : إن تعبير مفاتح الغيب مجازي بمعنى أن الله وحده هو الذي يعلم الغيب ؛ حيث يبدوا من هذا أن الأحاديث التي تجعل مفاتح الغيب ما ذكرته آية لقمان حصرا لم تؤخذ من قبل بعض علماء التابعين وأئمة المفسرين كقضية مسلمة وفسروا الجملة تفسيرا موضوعيا أو متصلا بما قبلها أو أخذوها على أنها جملة عامة مطلقة تشمل كل ما في علم الله تعالى من أمور مغيبة، ويبدو لنا هذا وجيها على مدى النص القرآني في مقامه والله أعلم.

٢-
روى المفسرون عن أهل التأويل أن الجملة ﴿ كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ تعني اللوح المحفوظ الذي روي أن الله أمر بكتابة كل ما هو كائن عليه حين خلقه كما رووا عنهم أنها تعني علم الله الشامل لكل ما كان ويكون. وهذا وذاك مما يتكرر في سياق الجمل المماثلة في هذه السورة والسور الأخرى ومر منه بعض الأمثلة. وفي تعليقنا على اللوح المحفوظ والقلم في سورتي القلم والبروج انتهى الأمر بنا إلى أن مدى التأويلين واحد وهو علم الله بكل ما كان ويكون فنكتفي بهذا التنبيه.

٣-
روى المفسرون عن أهل التأويل في صدد جملة ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ ﴾ أن العرب كانوا يعبرون عن النوم بالوفاة الصغرى والموت بالكبرى، وأن ذلك من قبيل المجاز لما بين النوم والموت من بعض التشارك. ورووا أن هذه الجملة مع جملة ﴿ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَار ﴾ أن هذا قد هدف إلى تقرير هيمنة الله تعالى على عباده هيمنة تامة في كل حالاتهم، ثم إلى التدليل على قدرة الله تعالى على بعث الناس بعد موتهم وكون ذلك بالنسبة إليه كبعثهم بعد نومهم. وفي هذه التأويلات وجاهة متسقة مع الجملة في مقامها.

٤-
روى المفسرون عن بعض أهل التأويل أن الضمير في جملة ﴿ ثُمَّ رُدُّواْ ﴾ عائد إلى رسل الله كما رووا عن بعض آخر أنه عائد إلى الذين يتوفاهم رسل الله، وقد أخذنا في شرحنا السابق بالتأويل الثاني ؛ لأنه تبادر لنا أنه أكثر اتساقا مع بقية الآية التي جاءت فيها الجملة.

٥-
وفي صدد ما جاء في الآية [ ٦١ ] عن الحفظة الذين يرسلهم الله على عباده ورسل الله الذين يتوفون عباده حينما تنتهي آجالهم نقول : إن ذلك من الأمور المتصلة بالملائكة وخدماتهم لله تعالى، ومن الأسرار الإلهية الغيبية التي يجب الإيمان بها ؛ لأنها ذكرت بصراحة وقطعية في القرآن. وقد مرت أمثلة عديدة من ذلك في سور سبق تفسيرها، فلا طائل في التخمين والتزيد بسبيل استشفاف الماهيات على ما شرحناه في المناسبات السابقة وبخاصة في سورة المدثر. ويكفي استشفاف الحكمة من ذكر ما ورد في الآية ومطلعها يلهم أن القصد مما جاء فيها من ذلك هو تقرير كون الله تعالى هو المتصرف المطلق في عباده فيكون ذلك من تلك الحكمة.
وأسلوب الآيات في جملتها قوي رائع، وقد هدف فيما هدف إليه على ما يتبادر من روحها إلى تقرير إحاطة علم الله تعالى بكل شيء ومطلق تصرفه في كل شيء وإنذار الكفار بتحقيق ما يوعدون به وتوكيد قدرة الله تعالى عليه، وإثارة الرعب في قلوبهم وحملهم على الارعواء، والله تعالى أعلم.
١ التاج جـ ٤ ص ١٨١ والأحاديث الأخرى لم ترد في الصحاح فاكتفينا بهذا الحديث..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٩:﴿ وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ( ٥٩ ) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم( ١ ) بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ( ٦٠ ) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ( ٦١ ) ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ( ٦٢ ) ﴾ [ ٥٩ – ٦٢ ].
في الآيات تقرير بأن مفاتح الغيب بيد الله لا يعلمها إلا هو، وقد أحاط علمه بكل صغيرة وكبيرة ودقيقة وجليلة في السماوات والأرض والبر والبحر والظلمات، وهو الذي يتوفى الناس بالليل ويعلم ما كسبوا في النهار ويمدهم بأسباب الحياة حينما يستيقظون إلى أن تنتهي آجالهم المعينة عنده، ثم يرجعون إليه ليحاسبهم على ما فعلوه، وهو القاهر فوقهم، وعليهم من قبله رقباء وحفظة، وحينما يجيء أجل أحدهم تتوفاه رسله الذين لا يفرطون في شيء مما أمروا به ثم ردوا إلى الله مولاهم الذي له الحكم والذي هو أسرع الحاسبين.
والآيات تتمة على ما هو المتبادر للرد الذي احتوته الآيات السابقة في صدد تقرير كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس في يده شيء، وكون الأمر كله بيد الله والغيب كله عنده، وهو الأعلم بالظالمين، ولا بد من أن يجزيهم بما يستحقون حينما يحين الوقت المعين في عمله. وهي إذن متصلة بالآيات السابقة. والضمير المخاطب فيها راجع إلى الكفار الذين هم موضوع الرد.
تعليق على الآية
﴿ *وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُو…… ﴾
الآيات الثلاث التالية لها

١-
أورد المفسرون في صدد جملة ﴿ *وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُو ﴾ أحاديث عديدة منها حديث رواه البخاري عن ابن عمر جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم مفاتيح الغيب خمس ثم قرأ :﴿ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير ﴾ لقمان :[ ٣٤ ] ١ وهذه الآية هي الآية الأخيرة والذي يلحظ أن هذه الآية لم تصنف الأمور الخمسة صراحة بأنها لا يعلمها إلا الله ولم تحصر المغيبات التي لا يعلمها إلا الله بها، وليس فيها ما ينفي بأن الله تعالى قد يلهم بعض ما في علمه لبعض خلقه. ولا ينفي أن يكون هناك أمور مغيبة أخرى يختص الله تعالى بعلمها.
وقد ذكر هذا بعض المفسرين مثل الطبرسي والسيد رشيد رضا. ومع أن الطبري أورد حديث البخاري فإنه قال : إن تأويل الجملة هو أن الله تعالى هو أعلم بالظالمين من خلقه وما هم مستحقوه وما هو صانع بهم فإن عنده علم ما غاب علمه عن خلقه فلم يطلعوا عليه ولم يدركوه وعنده علم جميع ما يعلمونه فلا شيء يخفى عن الناس أو لا يخفى ولا شيء كان أو هو كائن إلا علمه عنده. وننبه على أن الآية جاءت بعد جملة ﴿ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ ﴾ فيكون إيضاح الطبري هذا متصلا بهذه الجملة التي عطفت عليها الآيات التي نحن في صددها، وشيء من هذا يرويه البغوي عن الضحاك ومقاتل، ولقد قال الزمخشري : إن تعبير مفاتح الغيب مجازي بمعنى أن الله وحده هو الذي يعلم الغيب ؛ حيث يبدوا من هذا أن الأحاديث التي تجعل مفاتح الغيب ما ذكرته آية لقمان حصرا لم تؤخذ من قبل بعض علماء التابعين وأئمة المفسرين كقضية مسلمة وفسروا الجملة تفسيرا موضوعيا أو متصلا بما قبلها أو أخذوها على أنها جملة عامة مطلقة تشمل كل ما في علم الله تعالى من أمور مغيبة، ويبدو لنا هذا وجيها على مدى النص القرآني في مقامه والله أعلم.

٢-
روى المفسرون عن أهل التأويل أن الجملة ﴿ كِتَابٍ مُّبِينٍ ﴾ تعني اللوح المحفوظ الذي روي أن الله أمر بكتابة كل ما هو كائن عليه حين خلقه كما رووا عنهم أنها تعني علم الله الشامل لكل ما كان ويكون. وهذا وذاك مما يتكرر في سياق الجمل المماثلة في هذه السورة والسور الأخرى ومر منه بعض الأمثلة. وفي تعليقنا على اللوح المحفوظ والقلم في سورتي القلم والبروج انتهى الأمر بنا إلى أن مدى التأويلين واحد وهو علم الله بكل ما كان ويكون فنكتفي بهذا التنبيه.

٣-
روى المفسرون عن أهل التأويل في صدد جملة ﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ ﴾ أن العرب كانوا يعبرون عن النوم بالوفاة الصغرى والموت بالكبرى، وأن ذلك من قبيل المجاز لما بين النوم والموت من بعض التشارك. ورووا أن هذه الجملة مع جملة ﴿ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَار ﴾ أن هذا قد هدف إلى تقرير هيمنة الله تعالى على عباده هيمنة تامة في كل حالاتهم، ثم إلى التدليل على قدرة الله تعالى على بعث الناس بعد موتهم وكون ذلك بالنسبة إليه كبعثهم بعد نومهم. وفي هذه التأويلات وجاهة متسقة مع الجملة في مقامها.

٤-
روى المفسرون عن بعض أهل التأويل أن الضمير في جملة ﴿ ثُمَّ رُدُّواْ ﴾ عائد إلى رسل الله كما رووا عن بعض آخر أنه عائد إلى الذين يتوفاهم رسل الله، وقد أخذنا في شرحنا السابق بالتأويل الثاني ؛ لأنه تبادر لنا أنه أكثر اتساقا مع بقية الآية التي جاءت فيها الجملة.

٥-
وفي صدد ما جاء في الآية [ ٦١ ] عن الحفظة الذين يرسلهم الله على عباده ورسل الله الذين يتوفون عباده حينما تنتهي آجالهم نقول : إن ذلك من الأمور المتصلة بالملائكة وخدماتهم لله تعالى، ومن الأسرار الإلهية الغيبية التي يجب الإيمان بها ؛ لأنها ذكرت بصراحة وقطعية في القرآن. وقد مرت أمثلة عديدة من ذلك في سور سبق تفسيرها، فلا طائل في التخمين والتزيد بسبيل استشفاف الماهيات على ما شرحناه في المناسبات السابقة وبخاصة في سورة المدثر. ويكفي استشفاف الحكمة من ذكر ما ورد في الآية ومطلعها يلهم أن القصد مما جاء فيها من ذلك هو تقرير كون الله تعالى هو المتصرف المطلق في عباده فيكون ذلك من تلك الحكمة.
وأسلوب الآيات في جملتها قوي رائع، وقد هدف فيما هدف إليه على ما يتبادر من روحها إلى تقرير إحاطة علم الله تعالى بكل شيء ومطلق تصرفه في كل شيء وإنذار الكفار بتحقيق ما يوعدون به وتوكيد قدرة الله تعالى عليه، وإثارة الرعب في قلوبهم وحملهم على الارعواء، والله تعالى أعلم.
١ التاج جـ ٤ ص ١٨١ والأحاديث الأخرى لم ترد في الصحاح فاكتفينا بهذا الحديث..

﴿ قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( ٦٣ ) قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ( ٦٤ ) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ ( ١ )شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ( ٢ ) ( ٦٥ ) ﴾ [ ٦٣ – ٦٥ ].
في الآيات أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسؤال الكفار عن الذي يدعونه سرا متذللين إليه حينما يكونون في رحلاتهم البرية والبحرية، فيكتنفهم الظلام، ويحدق بهم الخطر، ويرجونه كشف ما هم فيه، ويقطعون على أنفسهم العهد بأنهم يكونون شاكرين له معترفين بفضله إذا نجاهم، وبالإجابة على السؤال بأن الله هو المرجى لكل ذلك وهو في يده نجاتهم من تلك الأخطار ومن كل خطر آخر. ومع ذلك فهم يشركون معه غيره في الاتجاه والدعاء في حالة السلامة والظروف العادية. وبإنذارهم بأن الله قادر على أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم، أو يجعلهم فرقا وأحزابا متباغضة متناحرة ويسلط بعضهم على بعض بالقتال والحرب. وجاءت الآية الأخيرة معقبة على ما احتوته الآيات السابقة لها منبهة إلى أن الله تعالى يقلب وجوه الكلام لهم لعلهم يفقهون مداه فيتدبرون فيما هم فيه ويرتدعون.
والآيات كما هو المتبادر هي أيضا متصلة بالسياق واستمرار في الرد على الكفار وإنذارهم. وجملة ﴿ قُلِ اللّهُ ﴾ وإن كانت تقريرا ربانيا فإنها تلهم أنها بسبيل تقرير واقع أمر الكفار الذين يعترفون بالله ويدعونه وحده مخلصين له الدين في الأخطار مما حكته آيات أخرى بصراحة أكثر مر بعضها مثل الآيات [ ٤٠ – ٤١ ] من هذه السورة والآيات [ ٢٢ – ٢٣ ] من سورة يونس، ومما تضمن الإلزام والإفحام والتبكيت الشديد كما هو واضح.
بعض الأحاديث الواردة في صدد الآية
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ ﴾
وتعليق عليها
لقد روى المفسرون عن بعض أهل التأويل مثل مجاهد وقتادة : أن هذه الآية نزلت في أمة محمد وما كان من تفرقها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحروبها فيما بينها وتسلط الأمراء الطغاة الضالين والعبيد السفلة عليها عدا الخسف والرجم اللذين لم يقعا واللذين سوف يقعان. ورووا في صدد ذلك أحاديث نبوية عديدة منها ما ورد في الصحاح. ومن ذلك حديث رواه البخاري في كتاب التفسير في سياق الآية عن جابر قال :( لما نزلت الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما سمع ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ ﴾ أعوذ بوجهك وحينما سمع ﴿ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ قال أعوذ بوجهك وحينما سمع بقيتها قال هذا أهون أو هذا أيسر ) ١. وحديث رواه الترمذي بسند حسن عن سعد بن أبي وقاص في هذه الآية :( أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد )٢ وحديث رواه أبو داود والترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( إنها ستكون فتنة تستنظف العرب، قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقع السيف )٣. وحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( قال : إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي يبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد. وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من أقطارها أو من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بضعا ). وفي رواية أبي داود زيادة هي :( إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي. وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله )٤. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة )٥.
وتعليقا على ما تقدم نقول أولا : إن الآية جزء من آيات موجهة إلى المشركين السامعين على سبيل التنديد بهم وإنذارهم. وليس في الأحاديث الصحيحة ما يؤيد القول إنها نزلت في أمة محمد. والأرجح أن هذا القول قد كان تطبيقا، ومن وحي الأحداث التي وقعت عقب وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعبارة الآية تسوغ هذا التطبيق الاجتهادي بالنسبة لكل سامعي القرآن في كل ظرف من المسلمين وغيرهم على سبيل الإنذار في حالة انحرافهم أو ضلالهم وبغيهم واستحقاقهم لمثل هذا العذاب الذي أنذرت به الآية سامعي القرآن الضالين البغاة مباشرة. وثانيا : إن ما جاء في الأحاديث هو من قبيل الاستدراك النبوي المنبعث من الإنذار الرباني في الآية، وفيها صورة رائعة للشفقة النبوية على أمته من بعده ومن الحكمة الملموحة فيها التحذير والتنبيه. وهما موجهان إلى كل مسلم في كل ظرف بطبيعة الحال وفيها كشف رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بما سوف يكون من أحداث في أمته وقع كثير منها بعد وفاته.
وفي الأحاديث الصحيحة وعد رباني بأن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم يستبيح بيضتهم. وفي هذا بشرى ربانية بارتداد عدوهم عنهم وعدم تمكنه منهم أبديا. ولقد وقع في مختلف حقب التاريخ الإسلامي ووعد الله حق ولسوف يتم ذلك بالنسبة للعدو اليهودي اللئيم.
١ التاج جـ ٤ ص ٩٨ و٩٩ أورد الحديث الثاني ابن كثير برواية الإمام أحمد وجاء فيها أن سعد سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآية فقال……).
٢ المصدر نفسه.
٣. التاج جـ ٥ ص ٢٧٦..
٤ التاج ج ٥ ص ٢٧٥ و ٢٧٦. وجملة (سنة عامة) تعني قحطا عاما أو مجاعة عامة..
٥ التاج جـ ١ ص ٣٩ و ٤٠ وهناك أحاديث أخرى رواها أئمة حديث آخرون ليسوا من أصحاب الكتب الخمسة أوردها المفسرون بخاصة ابن كثير من باب الأحاديث التي أوردناها مع بعض زيادات ونقص فاكتفينا بما أوردناه..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٣:﴿ قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( ٦٣ ) قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ( ٦٤ ) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ ( ١ )شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ( ٢ ) ( ٦٥ ) ﴾ [ ٦٣ – ٦٥ ].
في الآيات أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسؤال الكفار عن الذي يدعونه سرا متذللين إليه حينما يكونون في رحلاتهم البرية والبحرية، فيكتنفهم الظلام، ويحدق بهم الخطر، ويرجونه كشف ما هم فيه، ويقطعون على أنفسهم العهد بأنهم يكونون شاكرين له معترفين بفضله إذا نجاهم، وبالإجابة على السؤال بأن الله هو المرجى لكل ذلك وهو في يده نجاتهم من تلك الأخطار ومن كل خطر آخر. ومع ذلك فهم يشركون معه غيره في الاتجاه والدعاء في حالة السلامة والظروف العادية. وبإنذارهم بأن الله قادر على أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم، أو يجعلهم فرقا وأحزابا متباغضة متناحرة ويسلط بعضهم على بعض بالقتال والحرب. وجاءت الآية الأخيرة معقبة على ما احتوته الآيات السابقة لها منبهة إلى أن الله تعالى يقلب وجوه الكلام لهم لعلهم يفقهون مداه فيتدبرون فيما هم فيه ويرتدعون.
والآيات كما هو المتبادر هي أيضا متصلة بالسياق واستمرار في الرد على الكفار وإنذارهم. وجملة ﴿ قُلِ اللّهُ ﴾ وإن كانت تقريرا ربانيا فإنها تلهم أنها بسبيل تقرير واقع أمر الكفار الذين يعترفون بالله ويدعونه وحده مخلصين له الدين في الأخطار مما حكته آيات أخرى بصراحة أكثر مر بعضها مثل الآيات [ ٤٠ – ٤١ ] من هذه السورة والآيات [ ٢٢ – ٢٣ ] من سورة يونس، ومما تضمن الإلزام والإفحام والتبكيت الشديد كما هو واضح.
بعض الأحاديث الواردة في صدد الآية
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ ﴾
وتعليق عليها
لقد روى المفسرون عن بعض أهل التأويل مثل مجاهد وقتادة : أن هذه الآية نزلت في أمة محمد وما كان من تفرقها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحروبها فيما بينها وتسلط الأمراء الطغاة الضالين والعبيد السفلة عليها عدا الخسف والرجم اللذين لم يقعا واللذين سوف يقعان. ورووا في صدد ذلك أحاديث نبوية عديدة منها ما ورد في الصحاح. ومن ذلك حديث رواه البخاري في كتاب التفسير في سياق الآية عن جابر قال :( لما نزلت الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما سمع ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ ﴾ أعوذ بوجهك وحينما سمع ﴿ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ قال أعوذ بوجهك وحينما سمع بقيتها قال هذا أهون أو هذا أيسر ) ١. وحديث رواه الترمذي بسند حسن عن سعد بن أبي وقاص في هذه الآية :( أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد )٢ وحديث رواه أبو داود والترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( إنها ستكون فتنة تستنظف العرب، قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقع السيف )٣. وحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( قال : إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي يبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد. وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من أقطارها أو من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بضعا ). وفي رواية أبي داود زيادة هي :( إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي. وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله )٤. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة )٥.
وتعليقا على ما تقدم نقول أولا : إن الآية جزء من آيات موجهة إلى المشركين السامعين على سبيل التنديد بهم وإنذارهم. وليس في الأحاديث الصحيحة ما يؤيد القول إنها نزلت في أمة محمد. والأرجح أن هذا القول قد كان تطبيقا، ومن وحي الأحداث التي وقعت عقب وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعبارة الآية تسوغ هذا التطبيق الاجتهادي بالنسبة لكل سامعي القرآن في كل ظرف من المسلمين وغيرهم على سبيل الإنذار في حالة انحرافهم أو ضلالهم وبغيهم واستحقاقهم لمثل هذا العذاب الذي أنذرت به الآية سامعي القرآن الضالين البغاة مباشرة. وثانيا : إن ما جاء في الأحاديث هو من قبيل الاستدراك النبوي المنبعث من الإنذار الرباني في الآية، وفيها صورة رائعة للشفقة النبوية على أمته من بعده ومن الحكمة الملموحة فيها التحذير والتنبيه. وهما موجهان إلى كل مسلم في كل ظرف بطبيعة الحال وفيها كشف رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بما سوف يكون من أحداث في أمته وقع كثير منها بعد وفاته.
وفي الأحاديث الصحيحة وعد رباني بأن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم يستبيح بيضتهم. وفي هذا بشرى ربانية بارتداد عدوهم عنهم وعدم تمكنه منهم أبديا. ولقد وقع في مختلف حقب التاريخ الإسلامي ووعد الله حق ولسوف يتم ذلك بالنسبة للعدو اليهودي اللئيم.
١ التاج جـ ٤ ص ٩٨ و٩٩ أورد الحديث الثاني ابن كثير برواية الإمام أحمد وجاء فيها أن سعد سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآية فقال……).
٢ المصدر نفسه.
٣. التاج جـ ٥ ص ٢٧٦..
٤ التاج ج ٥ ص ٢٧٥ و ٢٧٦. وجملة (سنة عامة) تعني قحطا عاما أو مجاعة عامة..
٥ التاج جـ ١ ص ٣٩ و ٤٠ وهناك أحاديث أخرى رواها أئمة حديث آخرون ليسوا من أصحاب الكتب الخمسة أوردها المفسرون بخاصة ابن كثير من باب الأحاديث التي أوردناها مع بعض زيادات ونقص فاكتفينا بما أوردناه..

يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض : يخلط عليكم الأمور حتى تصيروا فرقا وأحزابا متباغضين، ويسلط بعضكم على بعض بالأذى والشدة والقتال والحرب.
يفقهون : يفهمون فهما تاما.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦٣:﴿ قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ( ٦٣ ) قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ( ٦٤ ) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ ( ١ )شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ( ٢ ) ( ٦٥ ) ﴾ [ ٦٣ – ٦٥ ].
في الآيات أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسؤال الكفار عن الذي يدعونه سرا متذللين إليه حينما يكونون في رحلاتهم البرية والبحرية، فيكتنفهم الظلام، ويحدق بهم الخطر، ويرجونه كشف ما هم فيه، ويقطعون على أنفسهم العهد بأنهم يكونون شاكرين له معترفين بفضله إذا نجاهم، وبالإجابة على السؤال بأن الله هو المرجى لكل ذلك وهو في يده نجاتهم من تلك الأخطار ومن كل خطر آخر. ومع ذلك فهم يشركون معه غيره في الاتجاه والدعاء في حالة السلامة والظروف العادية. وبإنذارهم بأن الله قادر على أن يبعث عليهم عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم، أو يجعلهم فرقا وأحزابا متباغضة متناحرة ويسلط بعضهم على بعض بالقتال والحرب. وجاءت الآية الأخيرة معقبة على ما احتوته الآيات السابقة لها منبهة إلى أن الله تعالى يقلب وجوه الكلام لهم لعلهم يفقهون مداه فيتدبرون فيما هم فيه ويرتدعون.
والآيات كما هو المتبادر هي أيضا متصلة بالسياق واستمرار في الرد على الكفار وإنذارهم. وجملة ﴿ قُلِ اللّهُ ﴾ وإن كانت تقريرا ربانيا فإنها تلهم أنها بسبيل تقرير واقع أمر الكفار الذين يعترفون بالله ويدعونه وحده مخلصين له الدين في الأخطار مما حكته آيات أخرى بصراحة أكثر مر بعضها مثل الآيات [ ٤٠ – ٤١ ] من هذه السورة والآيات [ ٢٢ – ٢٣ ] من سورة يونس، ومما تضمن الإلزام والإفحام والتبكيت الشديد كما هو واضح.
بعض الأحاديث الواردة في صدد الآية
﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ ﴾
وتعليق عليها
لقد روى المفسرون عن بعض أهل التأويل مثل مجاهد وقتادة : أن هذه الآية نزلت في أمة محمد وما كان من تفرقها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحروبها فيما بينها وتسلط الأمراء الطغاة الضالين والعبيد السفلة عليها عدا الخسف والرجم اللذين لم يقعا واللذين سوف يقعان. ورووا في صدد ذلك أحاديث نبوية عديدة منها ما ورد في الصحاح. ومن ذلك حديث رواه البخاري في كتاب التفسير في سياق الآية عن جابر قال :( لما نزلت الآية قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما سمع ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ ﴾ أعوذ بوجهك وحينما سمع ﴿ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ قال أعوذ بوجهك وحينما سمع بقيتها قال هذا أهون أو هذا أيسر ) ١. وحديث رواه الترمذي بسند حسن عن سعد بن أبي وقاص في هذه الآية :( أما إنها كائنة ولم يأت تأويلها بعد )٢ وحديث رواه أبو داود والترمذي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( إنها ستكون فتنة تستنظف العرب، قتلاها في النار، اللسان فيها أشد من وقع السيف )٣. وحديث رواه مسلم وأبو داود والترمذي عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاء فيه :( قال : إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي يبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض، وإني سألت ربي لأمتي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد. وإني أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من أقطارها أو من بين أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بضعا ). وفي رواية أبي داود زيادة هي :( إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي. وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله )٤. وحديث رواه أبو داود والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة )٥.
وتعليقا على ما تقدم نقول أولا : إن الآية جزء من آيات موجهة إلى المشركين السامعين على سبيل التنديد بهم وإنذارهم. وليس في الأحاديث الصحيحة ما يؤيد القول إنها نزلت في أمة محمد. والأرجح أن هذا القول قد كان تطبيقا، ومن وحي الأحداث التي وقعت عقب وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وعبارة الآية تسوغ هذا التطبيق الاجتهادي بالنسبة لكل سامعي القرآن في كل ظرف من المسلمين وغيرهم على سبيل الإنذار في حالة انحرافهم أو ضلالهم وبغيهم واستحقاقهم لمثل هذا العذاب الذي أنذرت به الآية سامعي القرآن الضالين البغاة مباشرة. وثانيا : إن ما جاء في الأحاديث هو من قبيل الاستدراك النبوي المنبعث من الإنذار الرباني في الآية، وفيها صورة رائعة للشفقة النبوية على أمته من بعده ومن الحكمة الملموحة فيها التحذير والتنبيه. وهما موجهان إلى كل مسلم في كل ظرف بطبيعة الحال وفيها كشف رباني للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بما سوف يكون من أحداث في أمته وقع كثير منها بعد وفاته.
وفي الأحاديث الصحيحة وعد رباني بأن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم يستبيح بيضتهم. وفي هذا بشرى ربانية بارتداد عدوهم عنهم وعدم تمكنه منهم أبديا. ولقد وقع في مختلف حقب التاريخ الإسلامي ووعد الله حق ولسوف يتم ذلك بالنسبة للعدو اليهودي اللئيم.
١ التاج جـ ٤ ص ٩٨ و٩٩ أورد الحديث الثاني ابن كثير برواية الإمام أحمد وجاء فيها أن سعد سأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الآية فقال……).
٢ المصدر نفسه.
٣. التاج جـ ٥ ص ٢٧٦..
٤ التاج ج ٥ ص ٢٧٥ و ٢٧٦. وجملة (سنة عامة) تعني قحطا عاما أو مجاعة عامة..
٥ التاج جـ ١ ص ٣٩ و ٤٠ وهناك أحاديث أخرى رواها أئمة حديث آخرون ليسوا من أصحاب الكتب الخمسة أوردها المفسرون بخاصة ابن كثير من باب الأحاديث التي أوردناها مع بعض زيادات ونقص فاكتفينا بما أوردناه..

وكيل : هنا بمعنى مسؤول.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ( ١ ) ( ٦٦ ) لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ( ٢ ) وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( ٦٧ ) ﴾ [ ٦٦ – ٦٧ ].
بعض المفسرين أرجع ضمير ( به ) إلى القرآن والرسالة المحمدية١ وبعضهم أرجعه إلى العذاب الذي وعد به الكفار في الآية السابقة لهذه الآية٢. وهذا هو الأوجه المتسق مع النظم على ما يتبادر لنا.
وعلى هذا فتكون الآية الأولى تقريرا لموقف الكفار المكذبين بالعذاب الموعود مع أنه حق لا ريب فيه. وقد أمر فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلانهم بأنه ليس مسؤولا عنهم واحتوت الآية الثانية إنذارا بأنه لكل نبأ نهاية يستقر عندها وأن ما وعدوا به سوف يتحقق وسوف يرون مصداق ذلك.
والآيتان بهذا الشرح متصلتان بالسياق وتتمة له كما هو المتبادر. ولقد تحققت معجزة الآية بما كان من هلاك رؤساء الكفار الذين ظلوا مصرين على العناد والتكذيب والمناوأة في وقعة بدر الكبرى.
ولقد روى ابن كثير عن زيد بن أسلم ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه حينما نزلت الآية السابقة لهاتين الآيتين لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف قالوا له ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله قال : نعم، فقال بعضهم : هذا لا يكون أبدا يقتل بعضنا بعضا ونحن مسلمون فأنزل الله الآيتين ). وهذا لم يرد في كتب الأحاديث المعتبرة وعبارة الآيتين تسوغ التوقف فيها بكل قوة فلا يمكن أن تكون أولاهما عنت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فضلا عن أن الآيتين منسجمتان موضوعيا في السياق السابق واللاحق. ويظل شرحنا هو الأوجه الذي يستفاد أيضا من شروح غير واحد من المفسرين والله تعالى أعلم.
ولقد قال بعضهم : إن جملة ﴿ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ﴾ قد نسجت بآيات القتال، وهذا يتكرر في كل مناسبة مماثلة، وهذا إنما يصح في حالة إذا رافق موقف الكفار والمكذبين طعن وأذى على ما شرحناه في تفسير سورة ( الكافرون ).

لكل نبأ مستقر : لكل أمر نهاية يستقر عندها. وروي عن ابن عباس تأويل لكلمة ( مستقر ) بأنها بمعنى ( حقيقة تظهر وتتحقق ) وهذا لا يبعد عن المعنى الأول.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ( ١ ) ( ٦٦ ) لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ( ٢ ) وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ( ٦٧ ) ﴾ [ ٦٦ – ٦٧ ].
بعض المفسرين أرجع ضمير ( به ) إلى القرآن والرسالة المحمدية١ وبعضهم أرجعه إلى العذاب الذي وعد به الكفار في الآية السابقة لهذه الآية٢. وهذا هو الأوجه المتسق مع النظم على ما يتبادر لنا.
وعلى هذا فتكون الآية الأولى تقريرا لموقف الكفار المكذبين بالعذاب الموعود مع أنه حق لا ريب فيه. وقد أمر فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلانهم بأنه ليس مسؤولا عنهم واحتوت الآية الثانية إنذارا بأنه لكل نبأ نهاية يستقر عندها وأن ما وعدوا به سوف يتحقق وسوف يرون مصداق ذلك.
والآيتان بهذا الشرح متصلتان بالسياق وتتمة له كما هو المتبادر. ولقد تحققت معجزة الآية بما كان من هلاك رؤساء الكفار الذين ظلوا مصرين على العناد والتكذيب والمناوأة في وقعة بدر الكبرى.
ولقد روى ابن كثير عن زيد بن أسلم ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه حينما نزلت الآية السابقة لهاتين الآيتين لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف قالوا له ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله قال : نعم، فقال بعضهم : هذا لا يكون أبدا يقتل بعضنا بعضا ونحن مسلمون فأنزل الله الآيتين ). وهذا لم يرد في كتب الأحاديث المعتبرة وعبارة الآيتين تسوغ التوقف فيها بكل قوة فلا يمكن أن تكون أولاهما عنت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فضلا عن أن الآيتين منسجمتان موضوعيا في السياق السابق واللاحق. ويظل شرحنا هو الأوجه الذي يستفاد أيضا من شروح غير واحد من المفسرين والله تعالى أعلم.
ولقد قال بعضهم : إن جملة ﴿ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ﴾ قد نسجت بآيات القتال، وهذا يتكرر في كل مناسبة مماثلة، وهذا إنما يصح في حالة إذا رافق موقف الكفار والمكذبين طعن وأذى على ما شرحناه في تفسير سورة ( الكافرون ).

يخوضون : أصل معنى الخوض العبور في الماء ثم استعير للتعبير عن الدخول في الحديث والإفاضة فيه. ويستعمل على الأغلب في الإفاضة في الجدل والعبث والباطل من الكلام.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ( ١ ) في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ٦٨ ) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( ٦٩ ) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ( ٢ )نفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ( ٣ )لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ( ٧٠ ) ﴾ [ ٦٨ – ٧٠ ].
في الآيات نهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مجالسة الكفار إذا ما سمعهم ورآهم يخوضون في آيات الله خوضا خارجا عن حدود الأدب والحق. وإذا أنساه الشيطان ذلك ثم ذكر النهي فليبادر إلى ترك مجلسهم، وتقرير بأن المتقين لا يتحملون إثم الكفار في عملهم، ولكن النهي تذكير لهم ليبتعدوا عن مجالس الظالمين الآثمين.
وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بألا يهتم للذين غرتهم الحياة الدنيا وما تيسر لهم فيها من مال وقوة ورغد عيش وجعلوا الدين لعبا ولهوا، وأن يتركهم ويكتفي بتبليغ رسالته وإنذار الناس حتى لا يهلكوا أنفسهم ويصبحوا رهينة بما كسبوا يوم لا يكون لهم من دون الله ولي ولا شفيع، ولا يؤخذ منهم فدية مهما عظمت حيث يعذبون أشد العذاب مع شرب الماء الحار جدا جزاء ما كانوا يقترفون ويفترون.
تعليق على آية
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾
ولقد روى الطبري أن المشركين كانوا يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحبون أن يسمعوا منه فإذا سمعوا استهزأوا، فنزلت الآية الأولى. وروى الطبرسي والبغوي والخازن أن المسلمين قالوا حينما نزلت هذه الآية : كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدا ونخاف أن نتركهم ولا ننهاهم ! فنزلت الآية الثانية.
ويتبادر لنا من عطف الآيات على ما سبقها وانسجام الآيتين الأوليين بالآيات التالية لها أن الآيات وحدة مترابطة، وأنها استمرار للسياق المستأنف في حكاية موقف الكفار، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتأذى من استهزاء الكفار – الذين يجلس إليهم ويجلسون إليه – بالقرآن الذي يتلوه عليهم، وبالمواعظ والنذر التي يوجهها إليهم، ويتحرج من ترك مجالسهم وإهمال إنذارهم، فنزلت الآيات تسلية له ورفع للحرج عنه وبيانا لمدى مهمته ومسؤوليته وإنذار للكفار في وقت نفسه.
ومع أن الخطاب في الآية الأولى قد يكون منصرفا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقرينة ضمير المخاطب المفرد فإن نص الآية الثانية يسوغ القول بأن الحظر الذي احتوته الآية الأولى ليس خاصا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما هو عام للمسلمين. وقد يكون من دعائم ذلك آية سورة النساء هذه :﴿ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم مثلهم ﴾ [ ١٤٠ ] حيث احتوت الآية إشارة إلى آيات الأنعام التي نحن في صددها.
ويلحظ أن النهي محدود بوقت الخوض وبمن يقترفونه، وهو المتسق مع مهمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين التبشيرية.
ولقد تكررت الآيات المكية التي فيها إشارة إلى خوض الكفار والمشركين والمنافقين منها آية في سورة المدثر التي سبق تفسيرها ﴿ كنا نخوض مع الخائضين( ٤٥ ) ﴾ وآية في سورة الطور ﴿ الذين هم في خوض يلعبون( ١٢ ) ﴾ وآية في سورة الزخرف ﴿ فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ( ٨٣ ) ﴾ وآية أخرى في سورة الأنعام ستأتي بعد قليل، حيث يبدو من هذا أن ذلك كان من ديدنهم ومن جملة الصور التي كانوا يواجهون بها دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن، مع التنبيه إلى أن آية النساء التي أوردناها قد نزلت بخاصة في خوض المنافقين على ما يتبادر من سياقها، على ما سوف يشرح في مناسبته.
ولقد قال بعض المفسرين١ : إن آية النساء المذكورة قد نسخت هذه الآية ولسنا نرى في آية النساء نسخا بل نرى توكيدا. فآية الأنعام لم تسمح بالقعود مع الخائضين وإنما تسامحت في نسيان أمر الله بذلك وأوجبته في حالة التذكر.
ولقد روى الطبري عن قتادة أن الآية قد نسخت بآيات القتال، وهذا صواب إذا كان الخوض طعنا في الدين وفي الله وكتابه ورسوله. فكل هذا صار من مستوجبات القتال بعد الهجرة على ما جاء في آية سورة التوبة هذه :﴿ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ( ١٢ ) ﴾ وهذه الحالة هي غير حالة الأمر بالصبر على الكفار والإعراض عنهم الذي تكرر في سور مكية عديدة وقال بعض المفسرين : إنه نسخ بعد الهجرة بآيات القتال. فإن هذا إنما يصح إذا رافق موقف الكفار طعن وأذى على ما شرحناه في تفسير سورة الكافرون.
ومع خصوصية الآيات وصلتها بظروف السيرة النبوية فإنها تضمنت تلقينا جليلا مستمر المدى في حظر مجالسة الهازئين الطاعنين في دين الله ورسله وكتبه والخائضين في مواضع خارجة عن الأدب والحق كما هو المتبادر. فضلا عن كون الهزء والطعن في الدين من موجبات الجهاد على المسلمين على ما ذكرناه آنفا.
تعليق على جملة
﴿ وإما ينسينك الشيطان ﴾
بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
ولقد وقف بعض المفسرين٢ عند هذه الجملة وتساءلوا عن جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم جواز تأثره بالشيطان. والآية صريحة بجواز النسيان عليه، وعلى غيره من الأنبياء. وفي القرآن آيات عديدة أخرى تؤيد ذلك. مثل آية الكهف هذه التي يخاطب بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم :﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ ( ٢٤ ) وآية طه ( ١١٥ ) بالنسبة لآدم وآية الكهف ( ٦٢ ) بالنسبة لموسى. وقد أمر الله رسوله والمؤمنين بالدعاء لله بأن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا في الآية الأخيرة من سورة البقرة.
وهو منبثق من طبيعة الأنبياء البشرية. وهناك أحاديث عديدة عن نسيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها حديث رواه الخمسة عن عبد الله ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر خمسا فقيل له : أزيد في الصلاة، فقال وما ذاك ؟ قال صليت خمسا فسجد سجدتين بعدما سلم وفي رواية قال : أنا بشر مثلكم كما تذكرون وأنسى كما تنسون ثم سجد سجدتي السهو )٣.
ويتبادر لنا أن نسبة الإنساء للشيطان في الجملة هو تعبير أسلوبي أو هو وسوسة الشيطان التي تجوز على كل إنسان، وهي ليست من قبيل سلطان الشيطان الذي نبهت آيات عديدة على أن ذلك ليس واردا بالنسبة لعباد الله المخلصين الذين يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مقدمتهم.
وإنساء الشيطان أيسر من نزغ الشيطان، ومع ذلك ففي آية سورة الأعراف التي سبق تفسيرها ما يجعل النزغ الشيطاني جائزا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما شرحناه في سياقها. وجواز السهو والنسيان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما يحتمل في الشؤون البشرية والدنيوية. أما الشؤون الدينية والتبليغ عن الله تعالى فالمتفق عليه عند الجمهور أنه معصوم عنهما وهو الحق٤.
وقد استنبط بعضهم٥ من الآية الأولى التي فيها هذه الجملة رفع مسؤولية ما يقع من الإنسان من أمور محظورة نسيانا وسهوا وخطأ غير معتمد. وأيدوا ذلك بالحديث النبوي الذي رواه ابن ماجه وأبو داود وجاء فيه :( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )٦. وفي سورة الأحزاب هذه الآية :﴿ وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما ( ٥ ) ﴾ وقد علم الله كما قلنا رسوله والمؤمنين بالدعاء بأن لا يؤاخذهم إذا نسوا أو أخطأوا ومقتضى حكمة ذلك الاستجابة لهذا الالتماس. وفي حديث رواه البخاري والترمذي أن الله تعالى كان يوحي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما أنزل آخر آيات البقرة بكلمة : نعم عند كل مقطع من مقاطع الالتماسات التي في هذه الآية٧.
وننبه على أن في سورة النساء آية ترتب الكفارة والدية على قتل الخطأ، وهي الآية [ ٩٦ ] ولا نرى هذا متعارضا مع ذاك لأنه ليس في الترتيب عقوبة على إثم، وإنما فيه تعويض عن حق وتوبة إلى الله بالكفارة للتنبيه على ما في إزهاق النفس من خطورة ولو كان ذلك خطأ. والله تعالى أعلم

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ( ١ ) في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ٦٨ ) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( ٦٩ ) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ( ٢ )نفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ( ٣ )لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ( ٧٠ ) ﴾ [ ٦٨ – ٧٠ ].
في الآيات نهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مجالسة الكفار إذا ما سمعهم ورآهم يخوضون في آيات الله خوضا خارجا عن حدود الأدب والحق. وإذا أنساه الشيطان ذلك ثم ذكر النهي فليبادر إلى ترك مجلسهم، وتقرير بأن المتقين لا يتحملون إثم الكفار في عملهم، ولكن النهي تذكير لهم ليبتعدوا عن مجالس الظالمين الآثمين.
وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بألا يهتم للذين غرتهم الحياة الدنيا وما تيسر لهم فيها من مال وقوة ورغد عيش وجعلوا الدين لعبا ولهوا، وأن يتركهم ويكتفي بتبليغ رسالته وإنذار الناس حتى لا يهلكوا أنفسهم ويصبحوا رهينة بما كسبوا يوم لا يكون لهم من دون الله ولي ولا شفيع، ولا يؤخذ منهم فدية مهما عظمت حيث يعذبون أشد العذاب مع شرب الماء الحار جدا جزاء ما كانوا يقترفون ويفترون.
تعليق على آية
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾
ولقد روى الطبري أن المشركين كانوا يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحبون أن يسمعوا منه فإذا سمعوا استهزأوا، فنزلت الآية الأولى. وروى الطبرسي والبغوي والخازن أن المسلمين قالوا حينما نزلت هذه الآية : كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدا ونخاف أن نتركهم ولا ننهاهم ! فنزلت الآية الثانية.
ويتبادر لنا من عطف الآيات على ما سبقها وانسجام الآيتين الأوليين بالآيات التالية لها أن الآيات وحدة مترابطة، وأنها استمرار للسياق المستأنف في حكاية موقف الكفار، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتأذى من استهزاء الكفار – الذين يجلس إليهم ويجلسون إليه – بالقرآن الذي يتلوه عليهم، وبالمواعظ والنذر التي يوجهها إليهم، ويتحرج من ترك مجالسهم وإهمال إنذارهم، فنزلت الآيات تسلية له ورفع للحرج عنه وبيانا لمدى مهمته ومسؤوليته وإنذار للكفار في وقت نفسه.
ومع أن الخطاب في الآية الأولى قد يكون منصرفا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقرينة ضمير المخاطب المفرد فإن نص الآية الثانية يسوغ القول بأن الحظر الذي احتوته الآية الأولى ليس خاصا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما هو عام للمسلمين. وقد يكون من دعائم ذلك آية سورة النساء هذه :﴿ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم مثلهم ﴾ [ ١٤٠ ] حيث احتوت الآية إشارة إلى آيات الأنعام التي نحن في صددها.
ويلحظ أن النهي محدود بوقت الخوض وبمن يقترفونه، وهو المتسق مع مهمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين التبشيرية.
ولقد تكررت الآيات المكية التي فيها إشارة إلى خوض الكفار والمشركين والمنافقين منها آية في سورة المدثر التي سبق تفسيرها ﴿ كنا نخوض مع الخائضين( ٤٥ ) ﴾ وآية في سورة الطور ﴿ الذين هم في خوض يلعبون( ١٢ ) ﴾ وآية في سورة الزخرف ﴿ فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ( ٨٣ ) ﴾ وآية أخرى في سورة الأنعام ستأتي بعد قليل، حيث يبدو من هذا أن ذلك كان من ديدنهم ومن جملة الصور التي كانوا يواجهون بها دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن، مع التنبيه إلى أن آية النساء التي أوردناها قد نزلت بخاصة في خوض المنافقين على ما يتبادر من سياقها، على ما سوف يشرح في مناسبته.
ولقد قال بعض المفسرين١ : إن آية النساء المذكورة قد نسخت هذه الآية ولسنا نرى في آية النساء نسخا بل نرى توكيدا. فآية الأنعام لم تسمح بالقعود مع الخائضين وإنما تسامحت في نسيان أمر الله بذلك وأوجبته في حالة التذكر.
ولقد روى الطبري عن قتادة أن الآية قد نسخت بآيات القتال، وهذا صواب إذا كان الخوض طعنا في الدين وفي الله وكتابه ورسوله. فكل هذا صار من مستوجبات القتال بعد الهجرة على ما جاء في آية سورة التوبة هذه :﴿ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ( ١٢ ) ﴾ وهذه الحالة هي غير حالة الأمر بالصبر على الكفار والإعراض عنهم الذي تكرر في سور مكية عديدة وقال بعض المفسرين : إنه نسخ بعد الهجرة بآيات القتال. فإن هذا إنما يصح إذا رافق موقف الكفار طعن وأذى على ما شرحناه في تفسير سورة الكافرون.
ومع خصوصية الآيات وصلتها بظروف السيرة النبوية فإنها تضمنت تلقينا جليلا مستمر المدى في حظر مجالسة الهازئين الطاعنين في دين الله ورسله وكتبه والخائضين في مواضع خارجة عن الأدب والحق كما هو المتبادر. فضلا عن كون الهزء والطعن في الدين من موجبات الجهاد على المسلمين على ما ذكرناه آنفا.
تعليق على جملة
﴿ وإما ينسينك الشيطان ﴾
بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
ولقد وقف بعض المفسرين٢ عند هذه الجملة وتساءلوا عن جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم جواز تأثره بالشيطان. والآية صريحة بجواز النسيان عليه، وعلى غيره من الأنبياء. وفي القرآن آيات عديدة أخرى تؤيد ذلك. مثل آية الكهف هذه التي يخاطب بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم :﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ ( ٢٤ ) وآية طه ( ١١٥ ) بالنسبة لآدم وآية الكهف ( ٦٢ ) بالنسبة لموسى. وقد أمر الله رسوله والمؤمنين بالدعاء لله بأن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا في الآية الأخيرة من سورة البقرة.
وهو منبثق من طبيعة الأنبياء البشرية. وهناك أحاديث عديدة عن نسيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها حديث رواه الخمسة عن عبد الله ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر خمسا فقيل له : أزيد في الصلاة، فقال وما ذاك ؟ قال صليت خمسا فسجد سجدتين بعدما سلم وفي رواية قال : أنا بشر مثلكم كما تذكرون وأنسى كما تنسون ثم سجد سجدتي السهو )٣.
ويتبادر لنا أن نسبة الإنساء للشيطان في الجملة هو تعبير أسلوبي أو هو وسوسة الشيطان التي تجوز على كل إنسان، وهي ليست من قبيل سلطان الشيطان الذي نبهت آيات عديدة على أن ذلك ليس واردا بالنسبة لعباد الله المخلصين الذين يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مقدمتهم.
وإنساء الشيطان أيسر من نزغ الشيطان، ومع ذلك ففي آية سورة الأعراف التي سبق تفسيرها ما يجعل النزغ الشيطاني جائزا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما شرحناه في سياقها. وجواز السهو والنسيان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما يحتمل في الشؤون البشرية والدنيوية. أما الشؤون الدينية والتبليغ عن الله تعالى فالمتفق عليه عند الجمهور أنه معصوم عنهما وهو الحق٤.
وقد استنبط بعضهم٥ من الآية الأولى التي فيها هذه الجملة رفع مسؤولية ما يقع من الإنسان من أمور محظورة نسيانا وسهوا وخطأ غير معتمد. وأيدوا ذلك بالحديث النبوي الذي رواه ابن ماجه وأبو داود وجاء فيه :( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )٦. وفي سورة الأحزاب هذه الآية :﴿ وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما ( ٥ ) ﴾ وقد علم الله كما قلنا رسوله والمؤمنين بالدعاء بأن لا يؤاخذهم إذا نسوا أو أخطأوا ومقتضى حكمة ذلك الاستجابة لهذا الالتماس. وفي حديث رواه البخاري والترمذي أن الله تعالى كان يوحي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما أنزل آخر آيات البقرة بكلمة : نعم عند كل مقطع من مقاطع الالتماسات التي في هذه الآية٧.
وننبه على أن في سورة النساء آية ترتب الكفارة والدية على قتل الخطأ، وهي الآية [ ٩٦ ] ولا نرى هذا متعارضا مع ذاك لأنه ليس في الترتيب عقوبة على إثم، وإنما فيه تعويض عن حق وتوبة إلى الله بالكفارة للتنبيه على ما في إزهاق النفس من خطورة ولو كان ذلك خطأ. والله تعالى أعلم

الإبسال : قيل : إنها بمعنى الهلاك. وقيل : إنها بمعنى الارتهان والحبس، وهي هنا بالمعنى الأول.
وإن تعدل كل العدل : بمعنى وإن تفتد بكل فدية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ( ١ ) في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( ٦٨ ) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَـكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ( ٦٩ ) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ( ٢ )نفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ( ٣ )لا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ( ٧٠ ) ﴾ [ ٦٨ – ٧٠ ].
في الآيات نهي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مجالسة الكفار إذا ما سمعهم ورآهم يخوضون في آيات الله خوضا خارجا عن حدود الأدب والحق. وإذا أنساه الشيطان ذلك ثم ذكر النهي فليبادر إلى ترك مجلسهم، وتقرير بأن المتقين لا يتحملون إثم الكفار في عملهم، ولكن النهي تذكير لهم ليبتعدوا عن مجالس الظالمين الآثمين.
وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بألا يهتم للذين غرتهم الحياة الدنيا وما تيسر لهم فيها من مال وقوة ورغد عيش وجعلوا الدين لعبا ولهوا، وأن يتركهم ويكتفي بتبليغ رسالته وإنذار الناس حتى لا يهلكوا أنفسهم ويصبحوا رهينة بما كسبوا يوم لا يكون لهم من دون الله ولي ولا شفيع، ولا يؤخذ منهم فدية مهما عظمت حيث يعذبون أشد العذاب مع شرب الماء الحار جدا جزاء ما كانوا يقترفون ويفترون.
تعليق على آية
﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ﴾
ولقد روى الطبري أن المشركين كانوا يجلسون إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحبون أن يسمعوا منه فإذا سمعوا استهزأوا، فنزلت الآية الأولى. وروى الطبرسي والبغوي والخازن أن المسلمين قالوا حينما نزلت هذه الآية : كيف نقعد في المسجد الحرام ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدا ونخاف أن نتركهم ولا ننهاهم ! فنزلت الآية الثانية.
ويتبادر لنا من عطف الآيات على ما سبقها وانسجام الآيتين الأوليين بالآيات التالية لها أن الآيات وحدة مترابطة، وأنها استمرار للسياق المستأنف في حكاية موقف الكفار، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتأذى من استهزاء الكفار – الذين يجلس إليهم ويجلسون إليه – بالقرآن الذي يتلوه عليهم، وبالمواعظ والنذر التي يوجهها إليهم، ويتحرج من ترك مجالسهم وإهمال إنذارهم، فنزلت الآيات تسلية له ورفع للحرج عنه وبيانا لمدى مهمته ومسؤوليته وإنذار للكفار في وقت نفسه.
ومع أن الخطاب في الآية الأولى قد يكون منصرفا إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقرينة ضمير المخاطب المفرد فإن نص الآية الثانية يسوغ القول بأن الحظر الذي احتوته الآية الأولى ليس خاصا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما هو عام للمسلمين. وقد يكون من دعائم ذلك آية سورة النساء هذه :﴿ وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم مثلهم ﴾ [ ١٤٠ ] حيث احتوت الآية إشارة إلى آيات الأنعام التي نحن في صددها.
ويلحظ أن النهي محدود بوقت الخوض وبمن يقترفونه، وهو المتسق مع مهمة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين التبشيرية.
ولقد تكررت الآيات المكية التي فيها إشارة إلى خوض الكفار والمشركين والمنافقين منها آية في سورة المدثر التي سبق تفسيرها ﴿ كنا نخوض مع الخائضين( ٤٥ ) ﴾ وآية في سورة الطور ﴿ الذين هم في خوض يلعبون( ١٢ ) ﴾ وآية في سورة الزخرف ﴿ فذرهم يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون ( ٨٣ ) ﴾ وآية أخرى في سورة الأنعام ستأتي بعد قليل، حيث يبدو من هذا أن ذلك كان من ديدنهم ومن جملة الصور التي كانوا يواجهون بها دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآيات القرآن، مع التنبيه إلى أن آية النساء التي أوردناها قد نزلت بخاصة في خوض المنافقين على ما يتبادر من سياقها، على ما سوف يشرح في مناسبته.
ولقد قال بعض المفسرين١ : إن آية النساء المذكورة قد نسخت هذه الآية ولسنا نرى في آية النساء نسخا بل نرى توكيدا. فآية الأنعام لم تسمح بالقعود مع الخائضين وإنما تسامحت في نسيان أمر الله بذلك وأوجبته في حالة التذكر.
ولقد روى الطبري عن قتادة أن الآية قد نسخت بآيات القتال، وهذا صواب إذا كان الخوض طعنا في الدين وفي الله وكتابه ورسوله. فكل هذا صار من مستوجبات القتال بعد الهجرة على ما جاء في آية سورة التوبة هذه :﴿ وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ( ١٢ ) ﴾ وهذه الحالة هي غير حالة الأمر بالصبر على الكفار والإعراض عنهم الذي تكرر في سور مكية عديدة وقال بعض المفسرين : إنه نسخ بعد الهجرة بآيات القتال. فإن هذا إنما يصح إذا رافق موقف الكفار طعن وأذى على ما شرحناه في تفسير سورة الكافرون.
ومع خصوصية الآيات وصلتها بظروف السيرة النبوية فإنها تضمنت تلقينا جليلا مستمر المدى في حظر مجالسة الهازئين الطاعنين في دين الله ورسله وكتبه والخائضين في مواضع خارجة عن الأدب والحق كما هو المتبادر. فضلا عن كون الهزء والطعن في الدين من موجبات الجهاد على المسلمين على ما ذكرناه آنفا.
تعليق على جملة
﴿ وإما ينسينك الشيطان ﴾
بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
ولقد وقف بعض المفسرين٢ عند هذه الجملة وتساءلوا عن جواز النسيان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم جواز تأثره بالشيطان. والآية صريحة بجواز النسيان عليه، وعلى غيره من الأنبياء. وفي القرآن آيات عديدة أخرى تؤيد ذلك. مثل آية الكهف هذه التي يخاطب بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم :﴿ واذكر ربك إذا نسيت ﴾ ( ٢٤ ) وآية طه ( ١١٥ ) بالنسبة لآدم وآية الكهف ( ٦٢ ) بالنسبة لموسى. وقد أمر الله رسوله والمؤمنين بالدعاء لله بأن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا في الآية الأخيرة من سورة البقرة.
وهو منبثق من طبيعة الأنبياء البشرية. وهناك أحاديث عديدة عن نسيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها حديث رواه الخمسة عن عبد الله ( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صلى الظهر خمسا فقيل له : أزيد في الصلاة، فقال وما ذاك ؟ قال صليت خمسا فسجد سجدتين بعدما سلم وفي رواية قال : أنا بشر مثلكم كما تذكرون وأنسى كما تنسون ثم سجد سجدتي السهو )٣.
ويتبادر لنا أن نسبة الإنساء للشيطان في الجملة هو تعبير أسلوبي أو هو وسوسة الشيطان التي تجوز على كل إنسان، وهي ليست من قبيل سلطان الشيطان الذي نبهت آيات عديدة على أن ذلك ليس واردا بالنسبة لعباد الله المخلصين الذين يأتي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مقدمتهم.
وإنساء الشيطان أيسر من نزغ الشيطان، ومع ذلك ففي آية سورة الأعراف التي سبق تفسيرها ما يجعل النزغ الشيطاني جائزا بالنسبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما شرحناه في سياقها. وجواز السهو والنسيان على النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما يحتمل في الشؤون البشرية والدنيوية. أما الشؤون الدينية والتبليغ عن الله تعالى فالمتفق عليه عند الجمهور أنه معصوم عنهما وهو الحق٤.
وقد استنبط بعضهم٥ من الآية الأولى التي فيها هذه الجملة رفع مسؤولية ما يقع من الإنسان من أمور محظورة نسيانا وسهوا وخطأ غير معتمد. وأيدوا ذلك بالحديث النبوي الذي رواه ابن ماجه وأبو داود وجاء فيه :( إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه )٦. وفي سورة الأحزاب هذه الآية :﴿ وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما ( ٥ ) ﴾ وقد علم الله كما قلنا رسوله والمؤمنين بالدعاء بأن لا يؤاخذهم إذا نسوا أو أخطأوا ومقتضى حكمة ذلك الاستجابة لهذا الالتماس. وفي حديث رواه البخاري والترمذي أن الله تعالى كان يوحي للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما أنزل آخر آيات البقرة بكلمة : نعم عند كل مقطع من مقاطع الالتماسات التي في هذه الآية٧.
وننبه على أن في سورة النساء آية ترتب الكفارة والدية على قتل الخطأ، وهي الآية [ ٩٦ ] ولا نرى هذا متعارضا مع ذاك لأنه ليس في الترتيب عقوبة على إثم، وإنما فيه تعويض عن حق وتوبة إلى الله بالكفارة للتنبيه على ما في إزهاق النفس من خطورة ولو كان ذلك خطأ. والله تعالى أعلم

استهوته الشياطين : استجاب لنداء الشياطين وتبعهم، وكان من صور عقائد العرب في الجن أنهم ينادون من يرونه منفردا في القفر فيتبعهم وتختلط عليه الأمور فيضل ويضيع ويقع في المهلكة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ( ١ ) فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٧١ ) وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( ٧٢ ) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ( ٢ ) وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( ٧٣ ) ﴾ [ ٧١ – ٧٣ ].
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتساؤل بلهجة استنكارية عما كان يصح في العقل أن يدعو هو والمسلمون غير الله مما لا ينفعهم ولا يضرهم، وأن يرتدوا على أعقابهم ضالين بعد أن هداهم الله، وأن يصبح شأنهم كشأن الذي استهوته الشياطين في الأرض فاتبعها وتاه، ووقف موقف الحائر الذاهل الذي ضل عن الطريق الذي يحسن أن يسلكه لينجو، وله رفاق مهتدون آمنون يدعونه إليهم فلا يتبعهم.
وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يهتف بأن هدى الله هو الهدى الحق، وبأنه أمر ومن معه بإسلام النفس لله وإقامة الصلاة له واتقائه بصالح العمل، فهو الذي يحشر الناس إليه وهو رب العالمين، الذي خلق السماوات والأرض بالحق، والذي يحيط علمه بكل شيء من حاضر وغائب وسر وعلن وماض ومستقبل، والذي يقول الحق ويقضي به، ويكون له الملك والحكم والأمر دائما، وفي يوم القيامة أيضا والذي يتم كل ما يشاء وقت ما يشاء بما في ذلك بعث الناس بمجرد تعلق مشيئته بتمامه، وهذا ما عبر عنه بجملة ﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ ﴾.
والمتبادر أن جملة ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ ﴾ أسلوب آخر لما عنته آيات سورة ص [ ٢٧ – ٢٩ ] على ما سبق شرحه. ومن هذا الباب آيات الأنبياء [ ١٦ – ٣٣ ] والدخان [ ٣٨و ٣٩ ] والروم [ ٨ ].
تعليق على الآية
﴿ قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا ﴾
الآيتين التاليتين لها
لقد روى الطبري عن ابن عباس أن في الآيات مثلا ضربه الله تعالى للآلهة وعبادها والدعاة إليها ولنفسه سبحانه وتعالى لمن يدعو إليه وحده. وهذا ملموح فيها. ولقد روي عن السدي أيضا أن المشركين قالوا للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد فأنزل الله الآيات. ومقتضى الرواية أن تكون الآيات مناسبة خاصة، ومستقلة عن السياق. في حين أن المتبادر من فحواها وفحوى السياق السابق أن الاتصال قائم بينها وبين هذا السياق، وأنها جاءت معقبة عليه. والموضوع الذي تضمنته من المواضيع والصور التي ما فتئت فصول السورة تحكيها. ولا يمنع هذا أن يكون ما رواه السدي صحيحا في ذاته وأن المشركين كانوا أحيانا يقفون موقف الناصح والواعظ ويدعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى العودة إلى دين الآباء وتقاليدهم التي انحرفوا عنها بزعمهم فاحتوت الآيات إشارة إلى ذلك، وهي تعقب على الآيات السابقة وترد عليهم وتسفه عقولهم وتنذر بمنطقهم وتقرر ما هم فيه من ضلال يمنعهم سماع دعوة الحق والهدى. وتعلن وحدة الربوبية لله تعالى وشمول علمه وقدرته وكونه وحده المستوجب للخضوع والعبادة والدعاء. ولقد حكت ذلك عنهم آية العنكبوت هذه ﴿ وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون ( ١٢ ) ﴾.
والصورة طريفة من دون ريب في مجال الحجاج والنقاش حيث كان زعماء الكفار ونبهاؤهم يظهرون بمظهر القوة فيصرون على أنهم على الدين الحق ويدعون الذين يدعونهم إلى هدى الله إليهم.
ويأتي بعد هذه الآيات فصل قصصي عن الأنبياء مما جرى عليه النظم القرآني واقتضته حكمة التنزيل، بحيث يمكن أن يقال إن هذه الآيات جاءت خاتمة للفصول السابقة التي فيها حجاج ونقاش لمواقف الكفار وتعجيزاتهم، والرد عليهم وإنذارهم، وتثبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين والتي بدأت منذ أوائل السورة. وفيها من الصور المتلاحقة ما يدل على ما كان بين جبهتي التوحيد والشرك من احتكاك، وما واجهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون من عناد ومكابرة وما لقيه من عناء، مضافة إلى الصور المماثلة الكثيرة التي تضمنتها السور السابقة ثم التي تضمنتها فصول السورة الآتية وكثير من السور الآتية أيضا. ولقد شرحنا النفخ بالصور في سور سبق تفسيرها فلا نرى ضرورة للإعادة في مناسبة ورود ذلك في الآيات.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ( ١ ) فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٧١ ) وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( ٧٢ ) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ( ٢ ) وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( ٧٣ ) ﴾ [ ٧١ – ٧٣ ].
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتساؤل بلهجة استنكارية عما كان يصح في العقل أن يدعو هو والمسلمون غير الله مما لا ينفعهم ولا يضرهم، وأن يرتدوا على أعقابهم ضالين بعد أن هداهم الله، وأن يصبح شأنهم كشأن الذي استهوته الشياطين في الأرض فاتبعها وتاه، ووقف موقف الحائر الذاهل الذي ضل عن الطريق الذي يحسن أن يسلكه لينجو، وله رفاق مهتدون آمنون يدعونه إليهم فلا يتبعهم.
وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يهتف بأن هدى الله هو الهدى الحق، وبأنه أمر ومن معه بإسلام النفس لله وإقامة الصلاة له واتقائه بصالح العمل، فهو الذي يحشر الناس إليه وهو رب العالمين، الذي خلق السماوات والأرض بالحق، والذي يحيط علمه بكل شيء من حاضر وغائب وسر وعلن وماض ومستقبل، والذي يقول الحق ويقضي به، ويكون له الملك والحكم والأمر دائما، وفي يوم القيامة أيضا والذي يتم كل ما يشاء وقت ما يشاء بما في ذلك بعث الناس بمجرد تعلق مشيئته بتمامه، وهذا ما عبر عنه بجملة ﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ ﴾.
والمتبادر أن جملة ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ ﴾ أسلوب آخر لما عنته آيات سورة ص [ ٢٧ – ٢٩ ] على ما سبق شرحه. ومن هذا الباب آيات الأنبياء [ ١٦ – ٣٣ ] والدخان [ ٣٨و ٣٩ ] والروم [ ٨ ].
تعليق على الآية
﴿ قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا ﴾
الآيتين التاليتين لها
لقد روى الطبري عن ابن عباس أن في الآيات مثلا ضربه الله تعالى للآلهة وعبادها والدعاة إليها ولنفسه سبحانه وتعالى لمن يدعو إليه وحده. وهذا ملموح فيها. ولقد روي عن السدي أيضا أن المشركين قالوا للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد فأنزل الله الآيات. ومقتضى الرواية أن تكون الآيات مناسبة خاصة، ومستقلة عن السياق. في حين أن المتبادر من فحواها وفحوى السياق السابق أن الاتصال قائم بينها وبين هذا السياق، وأنها جاءت معقبة عليه. والموضوع الذي تضمنته من المواضيع والصور التي ما فتئت فصول السورة تحكيها. ولا يمنع هذا أن يكون ما رواه السدي صحيحا في ذاته وأن المشركين كانوا أحيانا يقفون موقف الناصح والواعظ ويدعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى العودة إلى دين الآباء وتقاليدهم التي انحرفوا عنها بزعمهم فاحتوت الآيات إشارة إلى ذلك، وهي تعقب على الآيات السابقة وترد عليهم وتسفه عقولهم وتنذر بمنطقهم وتقرر ما هم فيه من ضلال يمنعهم سماع دعوة الحق والهدى. وتعلن وحدة الربوبية لله تعالى وشمول علمه وقدرته وكونه وحده المستوجب للخضوع والعبادة والدعاء. ولقد حكت ذلك عنهم آية العنكبوت هذه ﴿ وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون ( ١٢ ) ﴾.
والصورة طريفة من دون ريب في مجال الحجاج والنقاش حيث كان زعماء الكفار ونبهاؤهم يظهرون بمظهر القوة فيصرون على أنهم على الدين الحق ويدعون الذين يدعونهم إلى هدى الله إليهم.
ويأتي بعد هذه الآيات فصل قصصي عن الأنبياء مما جرى عليه النظم القرآني واقتضته حكمة التنزيل، بحيث يمكن أن يقال إن هذه الآيات جاءت خاتمة للفصول السابقة التي فيها حجاج ونقاش لمواقف الكفار وتعجيزاتهم، والرد عليهم وإنذارهم، وتثبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين والتي بدأت منذ أوائل السورة. وفيها من الصور المتلاحقة ما يدل على ما كان بين جبهتي التوحيد والشرك من احتكاك، وما واجهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون من عناد ومكابرة وما لقيه من عناء، مضافة إلى الصور المماثلة الكثيرة التي تضمنتها السور السابقة ثم التي تضمنتها فصول السورة الآتية وكثير من السور الآتية أيضا. ولقد شرحنا النفخ بالصور في سور سبق تفسيرها فلا نرى ضرورة للإعادة في مناسبة ورود ذلك في الآيات.

عالم الغيب والشهادة : الغيب هنا بمعنى المغيب والمخفى والمستقبل، والشهادة بمعنى الحاضر والمشاهد.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ( ١ ) فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ( ٧١ ) وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ( ٧٢ ) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ( ٢ ) وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ( ٧٣ ) ﴾ [ ٧١ – ٧٣ ].
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالتساؤل بلهجة استنكارية عما كان يصح في العقل أن يدعو هو والمسلمون غير الله مما لا ينفعهم ولا يضرهم، وأن يرتدوا على أعقابهم ضالين بعد أن هداهم الله، وأن يصبح شأنهم كشأن الذي استهوته الشياطين في الأرض فاتبعها وتاه، ووقف موقف الحائر الذاهل الذي ضل عن الطريق الذي يحسن أن يسلكه لينجو، وله رفاق مهتدون آمنون يدعونه إليهم فلا يتبعهم.
وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يهتف بأن هدى الله هو الهدى الحق، وبأنه أمر ومن معه بإسلام النفس لله وإقامة الصلاة له واتقائه بصالح العمل، فهو الذي يحشر الناس إليه وهو رب العالمين، الذي خلق السماوات والأرض بالحق، والذي يحيط علمه بكل شيء من حاضر وغائب وسر وعلن وماض ومستقبل، والذي يقول الحق ويقضي به، ويكون له الملك والحكم والأمر دائما، وفي يوم القيامة أيضا والذي يتم كل ما يشاء وقت ما يشاء بما في ذلك بعث الناس بمجرد تعلق مشيئته بتمامه، وهذا ما عبر عنه بجملة ﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ ﴾.
والمتبادر أن جملة ﴿ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ ﴾ أسلوب آخر لما عنته آيات سورة ص [ ٢٧ – ٢٩ ] على ما سبق شرحه. ومن هذا الباب آيات الأنبياء [ ١٦ – ٣٣ ] والدخان [ ٣٨و ٣٩ ] والروم [ ٨ ].
تعليق على الآية
﴿ قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا ﴾
الآيتين التاليتين لها
لقد روى الطبري عن ابن عباس أن في الآيات مثلا ضربه الله تعالى للآلهة وعبادها والدعاة إليها ولنفسه سبحانه وتعالى لمن يدعو إليه وحده. وهذا ملموح فيها. ولقد روي عن السدي أيضا أن المشركين قالوا للمؤمنين : اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد فأنزل الله الآيات. ومقتضى الرواية أن تكون الآيات مناسبة خاصة، ومستقلة عن السياق. في حين أن المتبادر من فحواها وفحوى السياق السابق أن الاتصال قائم بينها وبين هذا السياق، وأنها جاءت معقبة عليه. والموضوع الذي تضمنته من المواضيع والصور التي ما فتئت فصول السورة تحكيها. ولا يمنع هذا أن يكون ما رواه السدي صحيحا في ذاته وأن المشركين كانوا أحيانا يقفون موقف الناصح والواعظ ويدعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين إلى العودة إلى دين الآباء وتقاليدهم التي انحرفوا عنها بزعمهم فاحتوت الآيات إشارة إلى ذلك، وهي تعقب على الآيات السابقة وترد عليهم وتسفه عقولهم وتنذر بمنطقهم وتقرر ما هم فيه من ضلال يمنعهم سماع دعوة الحق والهدى. وتعلن وحدة الربوبية لله تعالى وشمول علمه وقدرته وكونه وحده المستوجب للخضوع والعبادة والدعاء. ولقد حكت ذلك عنهم آية العنكبوت هذه ﴿ وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون ( ١٢ ) ﴾.
والصورة طريفة من دون ريب في مجال الحجاج والنقاش حيث كان زعماء الكفار ونبهاؤهم يظهرون بمظهر القوة فيصرون على أنهم على الدين الحق ويدعون الذين يدعونهم إلى هدى الله إليهم.
ويأتي بعد هذه الآيات فصل قصصي عن الأنبياء مما جرى عليه النظم القرآني واقتضته حكمة التنزيل، بحيث يمكن أن يقال إن هذه الآيات جاءت خاتمة للفصول السابقة التي فيها حجاج ونقاش لمواقف الكفار وتعجيزاتهم، والرد عليهم وإنذارهم، وتثبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين والتي بدأت منذ أوائل السورة. وفيها من الصور المتلاحقة ما يدل على ما كان بين جبهتي التوحيد والشرك من احتكاك، وما واجهه النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنون من عناد ومكابرة وما لقيه من عناء، مضافة إلى الصور المماثلة الكثيرة التي تضمنتها السور السابقة ثم التي تضمنتها فصول السورة الآتية وكثير من السور الآتية أيضا. ولقد شرحنا النفخ بالصور في سور سبق تفسيرها فلا نرى ضرورة للإعادة في مناسبة ورود ذلك في الآيات.

﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٧٤ ) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( ١ ) وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ( ٢ ) رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( ٣ )( ٧٦ ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا( ٤ ) قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( ٧٧ ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ٧٨ ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٧٩ ) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( ٨٠ ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨١ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ( ٥ ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( ٨٢ ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( ٨٣ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٨٤ ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٥ ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٨٦ ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٨٧ ) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٨٨ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء( ٦ ) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( ٨٩ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( ٩٠ ) ﴾ [ ٧٥ – ٩٠ ].
هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب.
وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به.
ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين١ أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات.
وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.
مواضع العبرة
في قصة إبراهيم عليه السلام
أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لاحظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج، وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية الحج هذه ﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ﴾ [ ٧٨ ] وآيات سورة البقرة هذه ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( ١٢٥ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٢٦ ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٢٧ ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٢٨ ) ﴾. ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام.
ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره، فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والإقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله.
ومن المفسرين من قال : إن الآية [ ٨٢ ] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال : إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه٢. وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا، لقد روى المفسرون٣ في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أينا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم ) وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين.
وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا.
تعليق على وصف
إبراهيم عليه السلام بالحنيف
وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني قالوا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف، وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن، وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده، ومنها آية الحج هذه ﴿ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من الماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾ ولاسيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم النبوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها.
هذا وقد تكلم المفسرون طويلا ٤ في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول٥. والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك – إن لم نقل إننا نرجح – أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه.
وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم ( إلياس ) فإنه يأتي هنا لأول مرة.
وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول، وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير..
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار..
٣ المصدر نفسه..
٤ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..
٥ الإصحاح ١٢..
ملكوت السماوات والأرض : سعة ملك الله في السماوات والأرض أو عظم ملك الله.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٤:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٧٤ ) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( ١ ) وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ( ٢ ) رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( ٣ )( ٧٦ ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا( ٤ ) قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( ٧٧ ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ٧٨ ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٧٩ ) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( ٨٠ ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨١ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ( ٥ ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( ٨٢ ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( ٨٣ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٨٤ ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٥ ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٨٦ ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٨٧ ) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٨٨ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء( ٦ ) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( ٨٩ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( ٩٠ ) ﴾ [ ٧٥ – ٩٠ ].
هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب.
وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به.
ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين١ أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات.
وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.
مواضع العبرة
في قصة إبراهيم عليه السلام
أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لاحظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج، وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية الحج هذه ﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ﴾ [ ٧٨ ] وآيات سورة البقرة هذه ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( ١٢٥ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٢٦ ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٢٧ ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٢٨ ) ﴾. ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام.
ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره، فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والإقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله.
ومن المفسرين من قال : إن الآية [ ٨٢ ] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال : إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه٢. وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا، لقد روى المفسرون٣ في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أينا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم ) وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين.
وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا.
تعليق على وصف
إبراهيم عليه السلام بالحنيف
وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني قالوا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف، وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن، وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده، ومنها آية الحج هذه ﴿ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من الماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾ ولاسيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم النبوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها.
هذا وقد تكلم المفسرون طويلا ٤ في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول٥. والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك – إن لم نقل إننا نرجح – أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه.
وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم ( إلياس ) فإنه يأتي هنا لأول مرة.
وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول، وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير..
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار..
٣ المصدر نفسه..
٤ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..
٥ الإصحاح ١٢..

جن عليه الليل : أظلم.
الآفلين : من الأفول وهو الزوال والاحتجاب والتغير والانطفاء والتنقل من حال إلى حال.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٤:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٧٤ ) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( ١ ) وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ( ٢ ) رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( ٣ )( ٧٦ ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا( ٤ ) قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( ٧٧ ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ٧٨ ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٧٩ ) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( ٨٠ ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨١ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ( ٥ ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( ٨٢ ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( ٨٣ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٨٤ ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٥ ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٨٦ ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٨٧ ) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٨٨ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء( ٦ ) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( ٨٩ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( ٩٠ ) ﴾ [ ٧٥ – ٩٠ ].
هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب.
وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به.
ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين١ أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات.
وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.
مواضع العبرة
في قصة إبراهيم عليه السلام
أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لاحظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج، وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية الحج هذه ﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ﴾ [ ٧٨ ] وآيات سورة البقرة هذه ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( ١٢٥ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٢٦ ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٢٧ ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٢٨ ) ﴾. ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام.
ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره، فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والإقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله.
ومن المفسرين من قال : إن الآية [ ٨٢ ] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال : إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه٢. وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا، لقد روى المفسرون٣ في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أينا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم ) وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين.
وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا.
تعليق على وصف
إبراهيم عليه السلام بالحنيف
وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني قالوا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف، وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن، وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده، ومنها آية الحج هذه ﴿ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من الماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾ ولاسيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم النبوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها.
هذا وقد تكلم المفسرون طويلا ٤ في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول٥. والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك – إن لم نقل إننا نرجح – أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه.
وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم ( إلياس ) فإنه يأتي هنا لأول مرة.
وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول، وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير..
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار..
٣ المصدر نفسه..
٤ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..
٥ الإصحاح ١٢..

بازغا : مشرقا أو ساطعا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٤:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٧٤ ) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( ١ ) وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ( ٢ ) رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( ٣ )( ٧٦ ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا( ٤ ) قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( ٧٧ ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ٧٨ ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٧٩ ) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( ٨٠ ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨١ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ( ٥ ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( ٨٢ ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( ٨٣ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٨٤ ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٥ ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٨٦ ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٨٧ ) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٨٨ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء( ٦ ) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( ٨٩ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( ٩٠ ) ﴾ [ ٧٥ – ٩٠ ].
هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب.
وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به.
ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين١ أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات.
وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.
مواضع العبرة
في قصة إبراهيم عليه السلام
أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لاحظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج، وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية الحج هذه ﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ﴾ [ ٧٨ ] وآيات سورة البقرة هذه ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( ١٢٥ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٢٦ ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٢٧ ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٢٨ ) ﴾. ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام.
ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره، فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والإقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله.
ومن المفسرين من قال : إن الآية [ ٨٢ ] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال : إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه٢. وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا، لقد روى المفسرون٣ في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أينا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم ) وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين.
وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا.
تعليق على وصف
إبراهيم عليه السلام بالحنيف
وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني قالوا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف، وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن، وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده، ومنها آية الحج هذه ﴿ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من الماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾ ولاسيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم النبوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها.
هذا وقد تكلم المفسرون طويلا ٤ في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول٥. والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك – إن لم نقل إننا نرجح – أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه.
وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم ( إلياس ) فإنه يأتي هنا لأول مرة.
وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول، وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير..
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار..
٣ المصدر نفسه..
٤ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..
٥ الإصحاح ١٢..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٤:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٧٤ ) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( ١ ) وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ( ٢ ) رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( ٣ )( ٧٦ ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا( ٤ ) قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( ٧٧ ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ٧٨ ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٧٩ ) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( ٨٠ ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨١ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ( ٥ ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( ٨٢ ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( ٨٣ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٨٤ ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٥ ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٨٦ ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٨٧ ) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٨٨ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء( ٦ ) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( ٨٩ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( ٩٠ ) ﴾ [ ٧٥ – ٩٠ ].
هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب.
وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به.
ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين١ أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات.
وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.
مواضع العبرة
في قصة إبراهيم عليه السلام
أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لاحظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج، وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية الحج هذه ﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ﴾ [ ٧٨ ] وآيات سورة البقرة هذه ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( ١٢٥ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٢٦ ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٢٧ ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٢٨ ) ﴾. ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام.
ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره، فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والإقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله.
ومن المفسرين من قال : إن الآية [ ٨٢ ] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال : إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه٢. وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا، لقد روى المفسرون٣ في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أينا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم ) وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين.
وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا.
تعليق على وصف
إبراهيم عليه السلام بالحنيف
وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني قالوا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف، وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن، وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده، ومنها آية الحج هذه ﴿ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من الماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾ ولاسيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم النبوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها.
هذا وقد تكلم المفسرون طويلا ٤ في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول٥. والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك – إن لم نقل إننا نرجح – أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه.
وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم ( إلياس ) فإنه يأتي هنا لأول مرة.
وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول، وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير..
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار..
٣ المصدر نفسه..
٤ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..
٥ الإصحاح ١٢..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٤:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٧٤ ) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( ١ ) وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ( ٢ ) رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( ٣ )( ٧٦ ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا( ٤ ) قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( ٧٧ ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ٧٨ ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٧٩ ) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( ٨٠ ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨١ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ( ٥ ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( ٨٢ ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( ٨٣ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٨٤ ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٥ ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٨٦ ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٨٧ ) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٨٨ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء( ٦ ) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( ٨٩ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( ٩٠ ) ﴾ [ ٧٥ – ٩٠ ].
هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب.
وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به.
ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين١ أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات.
وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.
مواضع العبرة
في قصة إبراهيم عليه السلام
أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لاحظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج، وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية الحج هذه ﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ﴾ [ ٧٨ ] وآيات سورة البقرة هذه ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( ١٢٥ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٢٦ ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٢٧ ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٢٨ ) ﴾. ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام.
ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره، فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والإقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله.
ومن المفسرين من قال : إن الآية [ ٨٢ ] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال : إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه٢. وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا، لقد روى المفسرون٣ في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أينا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم ) وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين.
وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا.
تعليق على وصف
إبراهيم عليه السلام بالحنيف
وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني قالوا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف، وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن، وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده، ومنها آية الحج هذه ﴿ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من الماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾ ولاسيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم النبوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها.
هذا وقد تكلم المفسرون طويلا ٤ في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول٥. والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك – إن لم نقل إننا نرجح – أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه.
وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم ( إلياس ) فإنه يأتي هنا لأول مرة.
وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول، وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير..
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار..
٣ المصدر نفسه..
٤ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..
٥ الإصحاح ١٢..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٤:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٧٤ ) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( ١ ) وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ( ٢ ) رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( ٣ )( ٧٦ ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا( ٤ ) قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( ٧٧ ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ٧٨ ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٧٩ ) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( ٨٠ ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨١ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ( ٥ ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( ٨٢ ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( ٨٣ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٨٤ ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٥ ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٨٦ ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٨٧ ) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٨٨ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء( ٦ ) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( ٨٩ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( ٩٠ ) ﴾ [ ٧٥ – ٩٠ ].
هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب.
وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به.
ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين١ أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات.
وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.
مواضع العبرة
في قصة إبراهيم عليه السلام
أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لاحظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج، وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية الحج هذه ﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ﴾ [ ٧٨ ] وآيات سورة البقرة هذه ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( ١٢٥ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٢٦ ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٢٧ ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٢٨ ) ﴾. ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام.
ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره، فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والإقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله.
ومن المفسرين من قال : إن الآية [ ٨٢ ] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال : إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه٢. وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا، لقد روى المفسرون٣ في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أينا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم ) وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين.
وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا.
تعليق على وصف
إبراهيم عليه السلام بالحنيف
وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني قالوا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف، وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن، وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده، ومنها آية الحج هذه ﴿ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من الماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾ ولاسيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم النبوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها.
هذا وقد تكلم المفسرون طويلا ٤ في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول٥. والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك – إن لم نقل إننا نرجح – أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه.
وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم ( إلياس ) فإنه يأتي هنا لأول مرة.
وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول، وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير..
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار..
٣ المصدر نفسه..
٤ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..
٥ الإصحاح ١٢..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٤:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٧٤ ) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( ١ ) وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ( ٢ ) رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( ٣ )( ٧٦ ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا( ٤ ) قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( ٧٧ ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ٧٨ ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٧٩ ) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( ٨٠ ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨١ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ( ٥ ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( ٨٢ ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( ٨٣ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٨٤ ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٥ ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٨٦ ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٨٧ ) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٨٨ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء( ٦ ) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( ٨٩ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( ٩٠ ) ﴾ [ ٧٥ – ٩٠ ].
هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب.
وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به.
ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين١ أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات.
وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.
مواضع العبرة
في قصة إبراهيم عليه السلام
أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لاحظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج، وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية الحج هذه ﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ﴾ [ ٧٨ ] وآيات سورة البقرة هذه ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( ١٢٥ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٢٦ ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٢٧ ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٢٨ ) ﴾. ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام.
ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره، فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والإقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله.
ومن المفسرين من قال : إن الآية [ ٨٢ ] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال : إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه٢. وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا، لقد روى المفسرون٣ في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أينا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم ) وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين.
وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا.
تعليق على وصف
إبراهيم عليه السلام بالحنيف
وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني قالوا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف، وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن، وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده، ومنها آية الحج هذه ﴿ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من الماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾ ولاسيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم النبوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها.
هذا وقد تكلم المفسرون طويلا ٤ في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول٥. والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك – إن لم نقل إننا نرجح – أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه.
وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم ( إلياس ) فإنه يأتي هنا لأول مرة.
وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول، وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير..
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار..
٣ المصدر نفسه..
٤ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..
٥ الإصحاح ١٢..

ولم يلبسوا إيمانهم بظلم : ولم يشربوا أو يخلطوا إيمانهم بإثم وظلم وجرم أو شرك.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٤:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٧٤ ) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( ١ ) وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ( ٢ ) رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( ٣ )( ٧٦ ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا( ٤ ) قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( ٧٧ ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ٧٨ ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٧٩ ) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( ٨٠ ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨١ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ( ٥ ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( ٨٢ ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( ٨٣ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٨٤ ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٥ ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٨٦ ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٨٧ ) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٨٨ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء( ٦ ) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( ٨٩ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( ٩٠ ) ﴾ [ ٧٥ – ٩٠ ].
هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب.
وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به.
ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين١ أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات.
وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.
مواضع العبرة
في قصة إبراهيم عليه السلام
أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لاحظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج، وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية الحج هذه ﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ﴾ [ ٧٨ ] وآيات سورة البقرة هذه ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( ١٢٥ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٢٦ ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٢٧ ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٢٨ ) ﴾. ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام.
ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره، فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والإقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله.
ومن المفسرين من قال : إن الآية [ ٨٢ ] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال : إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه٢. وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا، لقد روى المفسرون٣ في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أينا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم ) وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين.
وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا.
تعليق على وصف
إبراهيم عليه السلام بالحنيف
وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني قالوا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف، وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن، وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده، ومنها آية الحج هذه ﴿ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من الماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾ ولاسيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم النبوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها.
هذا وقد تكلم المفسرون طويلا ٤ في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول٥. والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك – إن لم نقل إننا نرجح – أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه.
وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم ( إلياس ) فإنه يأتي هنا لأول مرة.
وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول، وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير..
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار..
٣ المصدر نفسه..
٤ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..
٥ الإصحاح ١٢..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٤:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٧٤ ) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( ١ ) وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ( ٢ ) رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( ٣ )( ٧٦ ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا( ٤ ) قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( ٧٧ ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ٧٨ ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٧٩ ) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( ٨٠ ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨١ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ( ٥ ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( ٨٢ ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( ٨٣ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٨٤ ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٥ ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٨٦ ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٨٧ ) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٨٨ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء( ٦ ) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( ٨٩ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( ٩٠ ) ﴾ [ ٧٥ – ٩٠ ].
هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب.
وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به.
ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين١ أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات.
وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.
مواضع العبرة
في قصة إبراهيم عليه السلام
أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لاحظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج، وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية الحج هذه ﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ﴾ [ ٧٨ ] وآيات سورة البقرة هذه ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( ١٢٥ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٢٦ ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٢٧ ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٢٨ ) ﴾. ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام.
ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره، فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والإقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله.
ومن المفسرين من قال : إن الآية [ ٨٢ ] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال : إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه٢. وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا، لقد روى المفسرون٣ في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أينا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم ) وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين.
وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا.
تعليق على وصف
إبراهيم عليه السلام بالحنيف
وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني قالوا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف، وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن، وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده، ومنها آية الحج هذه ﴿ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من الماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾ ولاسيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم النبوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها.
هذا وقد تكلم المفسرون طويلا ٤ في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول٥. والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك – إن لم نقل إننا نرجح – أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه.
وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم ( إلياس ) فإنه يأتي هنا لأول مرة.
وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول، وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير..
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار..
٣ المصدر نفسه..
٤ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..
٥ الإصحاح ١٢..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٤:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٧٤ ) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( ١ ) وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ( ٢ ) رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( ٣ )( ٧٦ ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا( ٤ ) قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( ٧٧ ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ٧٨ ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٧٩ ) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( ٨٠ ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨١ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ( ٥ ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( ٨٢ ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( ٨٣ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٨٤ ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٥ ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٨٦ ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٨٧ ) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٨٨ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء( ٦ ) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( ٨٩ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( ٩٠ ) ﴾ [ ٧٥ – ٩٠ ].
هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب.
وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به.
ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين١ أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات.
وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.
مواضع العبرة
في قصة إبراهيم عليه السلام
أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لاحظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج، وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية الحج هذه ﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ﴾ [ ٧٨ ] وآيات سورة البقرة هذه ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( ١٢٥ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٢٦ ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٢٧ ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٢٨ ) ﴾. ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام.
ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره، فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والإقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله.
ومن المفسرين من قال : إن الآية [ ٨٢ ] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال : إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه٢. وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا، لقد روى المفسرون٣ في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أينا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم ) وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين.
وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا.
تعليق على وصف
إبراهيم عليه السلام بالحنيف
وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني قالوا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف، وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن، وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده، ومنها آية الحج هذه ﴿ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من الماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾ ولاسيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم النبوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها.
هذا وقد تكلم المفسرون طويلا ٤ في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول٥. والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك – إن لم نقل إننا نرجح – أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه.
وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم ( إلياس ) فإنه يأتي هنا لأول مرة.
وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول، وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير..
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار..
٣ المصدر نفسه..
٤ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..
٥ الإصحاح ١٢..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٤:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٧٤ ) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( ١ ) وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ( ٢ ) رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( ٣ )( ٧٦ ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا( ٤ ) قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( ٧٧ ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ٧٨ ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٧٩ ) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( ٨٠ ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨١ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ( ٥ ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( ٨٢ ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( ٨٣ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٨٤ ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٥ ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٨٦ ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٨٧ ) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٨٨ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء( ٦ ) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( ٨٩ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( ٩٠ ) ﴾ [ ٧٥ – ٩٠ ].
هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب.
وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به.
ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين١ أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات.
وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.
مواضع العبرة
في قصة إبراهيم عليه السلام
أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لاحظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج، وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية الحج هذه ﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ﴾ [ ٧٨ ] وآيات سورة البقرة هذه ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( ١٢٥ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٢٦ ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٢٧ ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٢٨ ) ﴾. ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام.
ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره، فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والإقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله.
ومن المفسرين من قال : إن الآية [ ٨٢ ] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال : إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه٢. وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا، لقد روى المفسرون٣ في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أينا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم ) وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين.
وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا.
تعليق على وصف
إبراهيم عليه السلام بالحنيف
وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني قالوا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف، وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن، وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده، ومنها آية الحج هذه ﴿ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من الماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾ ولاسيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم النبوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها.
هذا وقد تكلم المفسرون طويلا ٤ في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول٥. والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك – إن لم نقل إننا نرجح – أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه.
وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم ( إلياس ) فإنه يأتي هنا لأول مرة.
وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول، وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير..
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار..
٣ المصدر نفسه..
٤ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..
٥ الإصحاح ١٢..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٤:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٧٤ ) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( ١ ) وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ( ٢ ) رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( ٣ )( ٧٦ ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا( ٤ ) قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( ٧٧ ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ٧٨ ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٧٩ ) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( ٨٠ ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨١ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ( ٥ ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( ٨٢ ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( ٨٣ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٨٤ ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٥ ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٨٦ ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٨٧ ) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٨٨ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء( ٦ ) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( ٨٩ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( ٩٠ ) ﴾ [ ٧٥ – ٩٠ ].
هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب.
وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به.
ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين١ أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات.
وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.
مواضع العبرة
في قصة إبراهيم عليه السلام
أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لاحظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج، وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية الحج هذه ﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ﴾ [ ٧٨ ] وآيات سورة البقرة هذه ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( ١٢٥ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٢٦ ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٢٧ ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٢٨ ) ﴾. ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام.
ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره، فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والإقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله.
ومن المفسرين من قال : إن الآية [ ٨٢ ] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال : إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه٢. وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا، لقد روى المفسرون٣ في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أينا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم ) وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين.
وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا.
تعليق على وصف
إبراهيم عليه السلام بالحنيف
وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني قالوا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف، وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن، وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده، ومنها آية الحج هذه ﴿ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من الماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾ ولاسيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم النبوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها.
هذا وقد تكلم المفسرون طويلا ٤ في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول٥. والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك – إن لم نقل إننا نرجح – أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه.
وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم ( إلياس ) فإنه يأتي هنا لأول مرة.
وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول، وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير..
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار..
٣ المصدر نفسه..
٤ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..
٥ الإصحاح ١٢..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٤:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٧٤ ) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( ١ ) وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ( ٢ ) رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( ٣ )( ٧٦ ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا( ٤ ) قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( ٧٧ ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ٧٨ ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٧٩ ) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( ٨٠ ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨١ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ( ٥ ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( ٨٢ ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( ٨٣ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٨٤ ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٥ ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٨٦ ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٨٧ ) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٨٨ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء( ٦ ) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( ٨٩ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( ٩٠ ) ﴾ [ ٧٥ – ٩٠ ].
هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب.
وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به.
ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين١ أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات.
وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.
مواضع العبرة
في قصة إبراهيم عليه السلام
أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لاحظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج، وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية الحج هذه ﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ﴾ [ ٧٨ ] وآيات سورة البقرة هذه ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( ١٢٥ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٢٦ ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٢٧ ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٢٨ ) ﴾. ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام.
ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره، فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والإقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله.
ومن المفسرين من قال : إن الآية [ ٨٢ ] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال : إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه٢. وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا، لقد روى المفسرون٣ في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أينا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم ) وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين.
وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا.
تعليق على وصف
إبراهيم عليه السلام بالحنيف
وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني قالوا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف، وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن، وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده، ومنها آية الحج هذه ﴿ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من الماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾ ولاسيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم النبوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها.
هذا وقد تكلم المفسرون طويلا ٤ في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول٥. والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك – إن لم نقل إننا نرجح – أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه.
وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم ( إلياس ) فإنه يأتي هنا لأول مرة.
وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول، وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير..
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار..
٣ المصدر نفسه..
٤ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..
٥ الإصحاح ١٢..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٤:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٧٤ ) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( ١ ) وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ( ٢ ) رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( ٣ )( ٧٦ ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا( ٤ ) قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( ٧٧ ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ٧٨ ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٧٩ ) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( ٨٠ ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨١ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ( ٥ ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( ٨٢ ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( ٨٣ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٨٤ ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٥ ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٨٦ ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٨٧ ) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٨٨ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء( ٦ ) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( ٨٩ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( ٩٠ ) ﴾ [ ٧٥ – ٩٠ ].
هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب.
وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به.
ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين١ أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات.
وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.
مواضع العبرة
في قصة إبراهيم عليه السلام
أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لاحظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج، وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية الحج هذه ﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ﴾ [ ٧٨ ] وآيات سورة البقرة هذه ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( ١٢٥ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٢٦ ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٢٧ ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٢٨ ) ﴾. ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام.
ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره، فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والإقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله.
ومن المفسرين من قال : إن الآية [ ٨٢ ] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال : إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه٢. وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا، لقد روى المفسرون٣ في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أينا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم ) وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين.
وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا.
تعليق على وصف
إبراهيم عليه السلام بالحنيف
وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني قالوا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف، وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن، وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده، ومنها آية الحج هذه ﴿ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من الماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾ ولاسيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم النبوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها.
هذا وقد تكلم المفسرون طويلا ٤ في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول٥. والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك – إن لم نقل إننا نرجح – أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه.
وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم ( إلياس ) فإنه يأتي هنا لأول مرة.
وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول، وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير..
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار..
٣ المصدر نفسه..
٤ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..
٥ الإصحاح ١٢..

فإن يكفر بها هؤلاء : الجملة تعني كفار العرب الذين كفروا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٤:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٧٤ ) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( ١ ) وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ( ٢ ) رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( ٣ )( ٧٦ ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا( ٤ ) قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( ٧٧ ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ٧٨ ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٧٩ ) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( ٨٠ ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨١ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ( ٥ ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( ٨٢ ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( ٨٣ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٨٤ ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٥ ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٨٦ ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٨٧ ) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٨٨ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء( ٦ ) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( ٨٩ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( ٩٠ ) ﴾ [ ٧٥ – ٩٠ ].
هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب.
وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به.
ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين١ أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات.
وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.
مواضع العبرة
في قصة إبراهيم عليه السلام
أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لاحظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج، وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية الحج هذه ﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ﴾ [ ٧٨ ] وآيات سورة البقرة هذه ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( ١٢٥ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٢٦ ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٢٧ ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٢٨ ) ﴾. ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام.
ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره، فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والإقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله.
ومن المفسرين من قال : إن الآية [ ٨٢ ] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال : إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه٢. وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا، لقد روى المفسرون٣ في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أينا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم ) وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين.
وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا.
تعليق على وصف
إبراهيم عليه السلام بالحنيف
وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني قالوا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف، وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن، وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده، ومنها آية الحج هذه ﴿ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من الماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾ ولاسيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم النبوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها.
هذا وقد تكلم المفسرون طويلا ٤ في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول٥. والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك – إن لم نقل إننا نرجح – أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه.
وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم ( إلياس ) فإنه يأتي هنا لأول مرة.
وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول، وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير..
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار..
٣ المصدر نفسه..
٤ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..
٥ الإصحاح ١٢..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٧٤:﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ( ٧٤ ) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ( ١ ) وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ( ٧٥ ) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ( ٢ ) رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ( ٣ )( ٧٦ ) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا( ٤ ) قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ( ٧٧ ) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ( ٧٨ ) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ٧٩ ) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ ( ٨٠ ) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨١ ) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ( ٥ ) أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ( ٨٢ ) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ( ٨٣ ) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ( ٨٤ ) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ ( ٨٥ ) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ( ٨٦ ) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( ٨٧ ) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ٨٨ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء( ٦ ) فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ( ٨٩ ) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ( ٩٠ ) ﴾ [ ٧٥ – ٩٠ ].
هذا الفصل جاء عقب فصول الحجاج والنقاش وحكاية المواقف التي كانت بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار جريا على الأسلوب القرآني وبسبيل التمثيل والتذكير والتثبيت. فهو غير منقطع عن السياق السابق، والآية الأخيرة من الفصل التي وجه الخطاب فيها إلى العرب.
وآيات الفصل واضحة المعاني ولا تحتاج إلى أداء بياني آخر. وقصة إبراهيم عليه السلام مع قومه ذكرت في سورتي الشعراء ومريم بأسلوب آخر فيه بعض الزيادات ؛ حيث يبدو أن حكمة التنزيل حينما اقتضت ذكرها هنا اقتضت أن تكون بالأسلوب الذي جاءت به.
ولقد علقنا على القصة بما فيه الكفاية في سياق تفسير السورتين المذكورتين فلا حاجة إلى الإعادة. غير أننا ننبه هنا إلى أن المفسرين١ أوردوا تفصيلات كثيرة عن هذه القصة في سياق الآيات التي نحن في صددها معزوة إلى علماء الأخبار والسير مما ينطوي فيه دلالة على أنها كانت مما يتناقل ويتداول في بيئة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعصره. ومما قد يؤيد ترجيحنا بأنها كانت واردة في أسفار وقراطيس يهودية لم تصل إلينا. ولم نر ضرورة ولا طائلا في إيرادها لأنها ليست مما يتصل بهدف الآيات.
وفي القصة هنا شيء جديد لم يرد في سورتي الشعراء ومريم وهو نظرة إبراهيم عليه السلام إلى الكواكب ثم إلى القمر ثم إلى الشمس وتبرؤه من عبادتها. واحدة بعد أخرى. والراجح أن هذا أيضا ورد في الأسفار التي كانت في أيدي اليهود.
مواضع العبرة
في قصة إبراهيم عليه السلام
أما العبرة فيما جاء في الآيات فهي قائمة في التطابق بين ما حكته من خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه وقومه وتنديده بهم وإعلانه البراءة منهم ونبذة عبادة الكواكب والأوثان التي كانوا يعبدونها واتجاهه إلى الله تعالى وحده ومحاججة قومه له وإفحامه إياهم بالحجج التي ألهمها الله له، وبين ما حكته الفصول السابقة من مواقف مماثلة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقومه حيث ينطوي في ذلك تثبيت وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتنديد وإنذار وإفحام للمشركين. وإذا لاحظنا ما تواترت فيه الروايات من تداول العرب خبر صلتهم بإبراهيم بالنبوة والملة وتقاليد الحج، وهو ما احتوى القرآن إشارات عديدة إليه، منها آية الحج هذه ﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل ﴾ [ ٧٨ ] وآيات سورة البقرة هذه ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ( ١٢٥ ) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ( ١٢٦ ) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١٢٧ ) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( ١٢٨ ) ﴾. ظهرت قوة استحكام الإفحام والتمثيل والتذكير والإلزام.
ومن مواضع العبرة في الآيات أيضا التنويه بأنبياء الله وعباده الصالحين وذرياتهم التي سارت على طريقهم وما كان لهم عند الله من الدرجات العليا والإشارة إلى أنهم لم يكونوا يصلون إلى ما وصلوا إليه لو ظلوا على الشرك مثل سائر قومهم، حيث ينطوي في ذلك لفت نظر المشركين إلى أنهم إذا كانوا يكفرون بآيات الله ويشركون معه غيره، فقد رمن به أولئك الصالحون الذين أوتوا الحكمة والنبوة والكتاب، وكانوا موضع تكريم الله وحملة مشعل الهداية إليه، وتقرير استغناء الله تعالى عنهم ودعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بالثبات على موقفهم والإقتداء بهؤلاء الذين هداهم الله.
ومن المفسرين من قال : إن الآية [ ٨٢ ] من كلام إبراهيم عليه السلام لقومه، ومنهم من قال : إنه تقرير رباني لتوكيد حجة إبراهيم وأنها مطلقة التوجيه٢. وهو ما نرجحه استلهاما من أسلوبها. وقد جرى النظم القرآني على مثل هذه الآيات الاستطرادية والاعتراضية كثيرا، لقد روى المفسرون٣ في سياقها أن المسلمين شق عليهم ما جاء فيها وتساءلوا قائلين أينا يظلم نفسه فقال لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس بالذي تعنون أو تظنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح ( إن الشرك لظلم عظيم ) وهذه الفقرة من آية سورة لقمان التي يجيء ترتيب أولها بعد سورة الأنعام بسورتين.
وعلى كل حال ففي الآية تلقين جليل مستمر المدى. فالمؤمنون هم الآمنون المهتدون على شرط أن لا يشوب إيمانهم شائبة ما من شرك وظلم وإثم. وهذا ما تكرر تقريره في القرآن بأساليب متنوعة مرت أمثلة منها.
والآية الأخيرة جاءت خاتمة قوية للفصل حيث أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول للمشركين إنه لا يسألهم ولا ينتظر منهم أجرا وإنه إنما يقوم بالمهمة التي انتدبه الله إليها وتبليغ القرآن الذي يوحي الله به إليه ليكون تذكرة للناس جميعا.
تعليق على وصف
إبراهيم عليه السلام بالحنيف
وهذه أول مرة وصف بها إبراهيم عليه السلام في القرآن بالحنيف ثم تكرر ذلك. وقد علقنا على هذه الكلمة في سياق تفسير سورة يونس بما فيه الكفاية. غير أننا بمناسبة وصف إبراهيم بها نقول إن بعض المستشرقين ومنهم كايتاني الطلياني قالوا : إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو أول من أشار إلى ملة إبراهيم ووصفه بالحنيف، وأن هذا كان مجهولا في أوساط العرب. وهذا خطأ فيما نعتقد. فورود الكلمة مكررة في القرآن المكي في صور وصف ملة إبراهيم والروايات المروية عن وجود أشخاص كانوا على ملة إبراهيم موحدين غير مشركين وكانوا يسمونها بالحنيفية على ما ذكرناه في سياق تفسير سورة يونس دلائل قوية على أن وصف إبراهيم بالحنيف كان مستعملا قبل نزول القرآن، وأن ملة إبراهيم الحنيفية كان مما يذكر في أوساط العرب، وأن هذا الوصف كان يعني التوحيد وعدم الشرك كما جاء في آيات عديدة منها إحدى آيات الفصل الذي نحن في صدده، ومنها آية الحج هذه ﴿ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من الماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ( ٣١ ) ﴾ ولاسيما أن في القرآن إشارات عديدة كما قلنا تفيد تداول العرب صلتهم النبوية بإبراهيم وملته. والمماراة في هذا مكابرة لا شك فيها.
هذا وقد تكلم المفسرون طويلا ٤ في صدد التأليف بين اسم أبي إبراهيم آزر المذكور في الآيات واسم تارح المذكور في سفر التكوين المتداول٥. والذي نراه أن يوقف عند ما جاء في القرآن. ولا نرى ضرورة لهذه المحاولات ولا طائلا من ورائها فسفر التكوين لم يذكر إلا اسما واحدا وقد عربته العرب بآزر وكفى. ولا نستبعد مع ذلك – إن لم نقل إننا نرجح – أن يكون اسم أبي إبراهيم في النسخ المخطوطة التي كانت في أيدي اليهود هو نفس ما ورد في القرآن أو قريبا منه.
وأسماء الأنبياء المذكورين في السلسلة قد مرت جميعها في السور السابقة عدا اسم ( إلياس ) فإنه يأتي هنا لأول مرة.
وقد ذكر مرة أخرى في سورة الصافات التي تأتي بعد هذه السورة في ترتيب النزول، وهو تعريب إيليا النبي أحد أنبياء بني إسرائيل. وندع الكلام عنه إلى تفسير السورة التالية
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والخازن والبغوي وابن كثير..
٢ انظر تفسير الآية في تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والزمخشري والخازن والمنار..
٣ المصدر نفسه..
٤ انظر تفسير الطبري وابن كثير والبغوي والخازن..
٥ الإصحاح ١٢..

تجعلونها قراطيس : تجعلونها أوراقا مفرقة ومجزأة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ( ١ ) تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ( ٩١ ) وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( ٩٢ ) ﴾[ ٩١ – ٩٢ ].
في الآيات تنديد بالكفار على مكابرتهم وتجاهلهم أو عدم إدراكهم عظم شأن الله وقدره وسابق أحداثه مع أنبيائه ونفيهم نزول أي شيء منه على بشر ما. وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرد عليهم بسؤالهم بأسلوب استنكاري عمن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى والذي يذكرونه ويعرفونه ويجعلونه مع ذلك أجزاء مفرقة يبدون أو يعترفون بما يريدون منه ويخفون أو ينكرون ما يريدون، وهو الأكثر حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم وعلموا أشياء كثيرة لم يكونوا يعلمونها هم وآباؤهم من قبل. وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهتاف بأن الله تعالى هو الذي أنزله وبأن يدعهم بعد ذلك وشأنهم غارقين في خوضهم وثرثرتهم وغوايتهم لأنهم يقولون ما يقولون مكابرة وعنادا. وتقرير رباني بأن الله قد أنزل القرآن الكتاب المبارك على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما أنزل كتاب موسى من قبل، وهو مؤيد لما سبقه من كتب الله ومتطابق معها لينذر به أهل مكة ومن حولها. وتنبيه تنويهي إلى أن الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بذلك، ويحافظون على أداء عبادتهم وصلاتهم لله تعالى.
تعليق على الآية
﴿ وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾
والآيتين التاليتين لها
لقد أورد المفسرون روايات عديدة في نزول الآيات ومداها. منها أن حبرا من يهود المدينة كان يخاصم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلجاجة وكان سمينا، فقال له : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أما تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين ؟ فغضب وقال : والله ما أنزل الله على بشر شيئا. ومنها أن هذا الحبر أو جماعة آخرين من يهود المدينة أنكروا أن يكون الله قد أنزل القرآن على رسوله فنزلت الآية تندد بهم لأنهم يعرفون أن الله أنزل كتابا على موسى فليس بدعا أن ينزل كتابا على رسول آخر. ومنها أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل الله عليه كتابا أو ألواحا من السماء كما أنزل على موسى فقال لهم : لقد كفرتم بما أنزل على موسى فغضبوا وأنكروا أن يكون نبيا وأن يكون القرآن منزلا عليه من الله فأنزل الله الآية. وليس شيء من ذلك واردا في كتب الصحاح. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية الأولى مدنية ولو صح ذلك لكان من المحتمل أن تصح الروايات الأولى تبعا لذلك. ولم نر تأييدا لمدنية الآية وطابع بارز عليها بقوة، وقد رجح الطبري أن يكون القول حكاية عن مشركي مكة في موقف حجاجي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولاسيما أن السياق في صددهم. ونحن نرجح ذلك أيضا ولاسيما أن رواية المدينة محصورة في الآية الأولى مع أنها منسجمة كل الانسجام مع الآيتين التاليتين لها.
وقد يبدو أن عبارة ﴿ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ﴾ أشبه أن تكون صادرة عن يهود. وأن ترجيح صدورها عن المشركين يبدو غريبا، ونقول في صدد ذلك إن في القرآن آيات تفيد أن المشركين يعرفون رسالة موسى وتوراته ومعجزاته منها آيات سورة القصص [ ٤٧ – ٥٠ ] التي مر تفسيرها. وأن الموقف قد تجدد فكابر المشركون مرة أخرى فحكت عنهم ذلك الآيات التي نحن في صددها. وقد تكون رواية إرسال المشركين لليهود وسؤالهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجوابهم صحيحة فنزلت الآية لترد عليهم وعلى اليهود معا. وجملة ﴿ وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ﴾ بعد العبارة نفسها تلهم بقوة أن الكلام كلام المشركين وأن الخطاب موجه إليهم. هذا وما تقدم من الشرح هو بسبيل تقرير صلة الآيات بالسياق السابق للفصل القصصي والذي دار على مواقف المشركين والتنديد بهم. والمتبادر أن الفصل القصصي جاء استطراديا بعد ذلك السياق جريا على النظم القرآني. ثم جاءت هذه الآيات بعده استئنافا لفصول جديدة أخرى من موقف المشركين. والله أعلم.
تعليق على جملة
﴿ ولتنذر أم القرى ومن حولها ﴾
ويلحظ أن الآية الثانية ذكرت أن الله تعالى أنزل القرآن على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لينذر أم القرى ومن حولها. والمتبادر أن هذا الاختصاص ناشئ من كون الحجاج والجدال قام في أكثر أدوار العهد المكي بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكفار مكة التي كانت ( أم القرى ) أي عاصمة للبلاد الحجازية، ومن يقيم حولها من أهل المدن والقرى والبادية، وليس من شأنه نقض عموم الدعوة الذي تقرر بأساليب عديدة في القرآن مرت أمثلة منها ولفتنا النظر إلى فحواها. ويبدو أن التنويه الذي احتواه شطر الآية الثاني هو تنويه بالمؤمنين الذين استجابوا للدعوة. فهؤلاء قد صدقوا وآمنوا بالآخرة، وواظبوا على عبادة الله والصلاة إليه. وقد يدل هذا على أن الإيمان بالآخرة كان وظل ميزان استجابة الناس للدعوة النبوية. وفي القرآن آيات عديدة مؤيدة لذلك مرت أمثلة منها.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ( ١ ) تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ( ٩١ ) وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ( ٩٢ ) ﴾[ ٩١ – ٩٢ ].
في الآيات تنديد بالكفار على مكابرتهم وتجاهلهم أو عدم إدراكهم عظم شأن الله وقدره وسابق أحداثه مع أنبيائه ونفيهم نزول أي شيء منه على بشر ما. وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالرد عليهم بسؤالهم بأسلوب استنكاري عمن أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى والذي يذكرونه ويعرفونه ويجعلونه مع ذلك أجزاء مفرقة يبدون أو يعترفون بما يريدون منه ويخفون أو ينكرون ما يريدون، وهو الأكثر حسب ما تمليه عليهم أهواؤهم وعلموا أشياء كثيرة لم يكونوا يعلمونها هم وآباؤهم من قبل. وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالهتاف بأن الله تعالى هو الذي أنزله وبأن يدعهم بعد ذلك وشأنهم غارقين في خوضهم وثرثرتهم وغوايتهم لأنهم يقولون ما يقولون مكابرة وعنادا. وتقرير رباني بأن الله قد أنزل القرآن الكتاب المبارك على نبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم كما أنزل كتاب موسى من قبل، وهو مؤيد لما سبقه من كتب الله ومتطابق معها لينذر به أهل مكة ومن حولها. وتنبيه تنويهي إلى أن الذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون بذلك، ويحافظون على أداء عبادتهم وصلاتهم لله تعالى.
تعليق على الآية
﴿ وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾
والآيتين التاليتين لها
لقد أورد المفسرون روايات عديدة في نزول الآيات ومداها. منها أن حبرا من يهود المدينة كان يخاصم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلجاجة وكان سمينا، فقال له : أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى أما تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين ؟ فغضب وقال : والله ما أنزل الله على بشر شيئا. ومنها أن هذا الحبر أو جماعة آخرين من يهود المدينة أنكروا أن يكون الله قد أنزل القرآن على رسوله فنزلت الآية تندد بهم لأنهم يعرفون أن الله أنزل كتابا على موسى فليس بدعا أن ينزل كتابا على رسول آخر. ومنها أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينزل الله عليه كتابا أو ألواحا من السماء كما أنزل على موسى فقال لهم : لقد كفرتم بما أنزل على موسى فغضبوا وأنكروا أن يكون نبيا وأن يكون القرآن منزلا عليه من الله فأنزل الله الآية. وليس شيء من ذلك واردا في كتب الصحاح. والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن الآية الأولى مدنية ولو صح ذلك لكان من المحتمل أن تصح الروايات الأولى تبعا لذلك. ولم نر تأييدا لمدنية الآية وطابع بارز عليها بقوة، وقد رجح الطبري أن يكون القول حكاية عن مشركي مكة في موقف حجاجي بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولاسيما أن السياق في صددهم. ونحن نرجح ذلك أيضا ولاسيما أن رواية المدينة محصورة في الآية الأولى مع أنها منسجمة كل الانسجام مع الآيتين التاليتين لها.
وقد يبدو أن عبارة ﴿ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ﴾ أشبه أن تكون صادرة عن يهود. وأن ترجيح صدورها عن المشركين يبدو غريبا، ونقول في صدد ذلك إن في القرآن آيات تفيد أن المشركين يعرفون رسالة موسى وتوراته ومعجزاته منها آيات سورة القصص [ ٤٧ – ٥٠ ] التي مر تفسيرها. وأن الموقف قد تجدد فكابر المشركون مرة أخرى فحكت عنهم ذلك الآيات التي نحن في صددها. وقد تكون رواية إرسال المشركين لليهود وسؤالهم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجوابهم صحيحة فنزلت الآية لترد عليهم وعلى اليهود معا. وجملة ﴿ وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم ﴾ بعد العبارة نفسها تلهم بقوة أن الكلام كلام المشركين وأن الخطاب موجه إليهم. هذا وما تقدم من الشرح هو بسبيل تقرير صلة الآيات بالسياق السابق للفصل القصصي والذي دار على مواقف المشركين والتنديد بهم. والمتبادر أن الفصل القصصي جاء استطراديا بعد ذلك السياق جريا على النظم القرآني. ثم جاءت هذه الآيات بعده استئنافا لفصول جديدة أخرى من موقف المشركين. والله أعلم.
تعليق على جملة
﴿ ولتنذر أم القرى ومن حولها ﴾
ويلحظ أن الآية الثانية ذكرت أن الله تعالى أنزل القرآن على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لينذر أم القرى ومن حولها. والمتبادر أن هذا الاختصاص ناشئ من كون الحجاج والجدال قام في أكثر أدوار العهد المكي بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكفار مكة التي كانت ( أم القرى ) أي عاصمة للبلاد الحجازية، ومن يقيم حولها من أهل المدن والقرى والبادية، وليس من شأنه نقض عموم الدعوة الذي تقرر بأساليب عديدة في القرآن مرت أمثلة منها ولفتنا النظر إلى فحواها. ويبدو أن التنويه الذي احتواه شطر الآية الثاني هو تنويه بالمؤمنين الذين استجابوا للدعوة. فهؤلاء قد صدقوا وآمنوا بالآخرة، وواظبوا على عبادة الله والصلاة إليه. وقد يدل هذا على أن الإيمان بالآخرة كان وظل ميزان استجابة الناس للدعوة النبوية. وفي القرآن آيات عديدة مؤيدة لذلك مرت أمثلة منها.

ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا : بمعنى ومن أشد جرما وإثما ممن افترى على الله كذبا.
غمرات الموت : شدائد الاحتضار عند الموت.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا( ١ ) أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ( ٢ ) وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ( ٩٣ ) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى( ٣ ) كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ ( ٤ )وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ( ٥ ) وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( ٩٤ ) ﴾
في الآيات تساؤل إنكاري بمعنى التقرير بأنه ليس من أحد أشد ظلما من الذي يفتري على الله الكذب فينسب إليه ما ليس منه، أو ممن يدعي بأن الله أوحى إليه ولم يكن قد أوحى إليه. أو ممن يجرؤ على القول بأنه سينزل مثل ما أنزل الله. وإشارة إنذارية إلى ما سوف يكون من أمر الظالمين عند الموت وبعده تحيط بهم الملائكة حينما يكونون في غمرات الموت وشدائد الاحتضار ينتظرون خروج أرواحهم ويذكرون لهم ما سوف يلقون من العذاب والهوان عقوبة على ما كانوا يقولونه على الله تعالى من الباطل ويبدو منهم من استكبار على آيات الله. وحكاية لما سوف يخاطبون به من قبل الله تعالى بعد ذلك من خطاب توبيخي ؛ حيث يقول لهم إنكم قد جئتمونا منفردين كما خلقناكم لأول مرة مجردين من كل ما كنتم تتمتعون به في الدنيا، ومن مال وقوة وأنصار، وليس معكم الشفعاء الذين كنتم تعبدونهم كشركاء مع الله وتركنون إلى شفاعتهم وقد غابوا عنكم وتقطعت الصلات بينكم وبينهم.
تعليق على جملة
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ﴾
والمصحف الذي اعتمدناه روى أن الآية [ ٩٣ ] مدنية كذلك. وروى المفسرون روايات عديدة في سياقها١، ومنها : أن المعنى أن الله تعالى أوحى إليهما، منها أن المعنى بمن افترى على الله كذبا هما مسيلمة والأسود اللذان ادعيا النبوة وزعما أن الله تعالى أوحى إليهما، ومنها : أن المعنى بمن قال سأنزل مثل ما أنزل الله هو عبد الله بن سرح أحد كتاب الوحي الذي ارتد وفر من المدينة. وأنه كان يكتب بعض مقاطع قرآنية مخالفة لما كان يمليها عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكتب ( غفور رحيم ) بدلا من ( عزيز حكيم ) و( عليم حكيم ) بدلا من ( خبير عليم ) وأنه قال مرة حينما أملى النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية سورة المؤمنون هذه :﴿ ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر ﴾ [ ١٤ ] قال :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ( ١٤ ) ﴾ فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قد نزلت كما قلت فاكتبها، فقال : إني إذا أنزل كما أنزل الله.
ومنها أن شطر الآية الأولى نزل في مسيلمة والأسود النبيين الكذابين اللذين ظهرا في آخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليمامة واليمن، وأن الشطر الثاني نزل في عبد الله بن سرح. لقد روي أن عبد الله هذا بعد ذلك الحادث ارتد ولحق بمكة ووشى بعمار وجبر وغيرهما من الأرقاء المؤمنين فأخذهم مواليهم وعذبوهم حتى أجبروهم على الكفر ونزل فيه وفيهم آية النحل :﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ( ١٠٦ ) ﴾ [ ١٠٦ ] ولم يرد شيء من هذه الروايات في الصحاح. ويلوح أن رواية مدنية الآية متصلة برواية كونها في شأن مسيلمة والأسود أو برواية كونها في شأن عبد الله بن سرح بعد الهجرة.
ولسنا نرى أي حكمة ومعنى لوضع هذه الآية في سياق يحكي مواقف مشركي مكة لو كانت مدنية ومنفصلة عن السياق. وحركة مسيلمة والأسود كانت كما قلنا في آخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتكون صلتها بالآية أكثر بعدا. والروايات في صدد عبد الله بن سرح مضطربة، وسورة المؤمنون التي تروي إحداهما قول عبد الله الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم إنما مطابق لما نزلت بعد سورة الأنعام بمدة غير قصيرة. وكذلك سورة النحل التي تروي بعض الروايات أن بعض آياتها نزلت في سعد والمرتدين المكرهين. وعبد الله هو أخو عثمان بن عفان بالرضاعة، وقد عينه في زمن خلافته واليا على مصر بعد أن عزل عمرو بن العاص. وروت الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهدر دمه بسبب ارتداده حتى تشفع فيه أخوه، وكل هذا يجعلنا نخشى أن يكون اسمه قد أقحم لأهواء سياسة ويجعلنا نشك أولا في رواية مدنية الآية، وثانيا في الروايات المروية كسبب لنزولها ؛ لأن هذا وذاك يقتضيان أن تكون نزلت منفردة بل ومجزأة أي إن شطرا منها نزل في مناسبة وشطرا في مناسبة أخرى، وأن تكون أقحمت على السياق إقحاما مع أنها منسجمة انسجاما تاما في السياق والموضوع وشطرها الأول متصل بشطرها الثاني. وفحوى الآية التالية لها والتي تعطف عليها وتنذر الظالمين وتحكي ما كان منهم من استكبار عن آيات الله وافتراء عليه يلهم بكل قوة أنها في صدد مشركي العرب موضوع الكلام في الآيات السابقة.
وقد رأينا الطبري يتحفظ في كون الآية نزلت للأسباب المذكورة في الروايات.
وقد يكون حادث ارتداد عبد الله بن سرح ولحوقه بمكة صحيحا٢ ولكن التوقف هو أن تكون الآية نزلت فيه.
والذي يتبادر لنا بقوة أن الآية الأولى بخاصة تضمنت ردا على الكفار الذين حكت الآية [ ٩٠ ] إنكارهم لإنزال الله شيئا على بشر حيث قررت ضمنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرف أنه ليس من أحد أشد ظلما ممن ينسب إلى الله ما ليس منه، ويدعي بأنه موحى إليه ولم يوح إليه. ثم تبعتها الآيات التالية لها منددة منذرة، وبذلك يتصل السياق. والرد قوي موجه إلى العقول والقلوب السليمة، وقد تكرر في كل مرة حكي القرآن فيها زعم الكفار بافتراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن بنفس القوة والنفوذ ومن ذلك آية سورة الأحقاف هذه :﴿ أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم ( ٨ ) ﴾ [ ٨ ] ومن هذا الباب آية سورة الشورى [ ٢٤ ] وآية سورة يونس [ ١٧ ]

فرادى : منفردين مجردين من أموالكم وأولادكم وأنصاركم.
خولناكم : منحناكم وأعطيناكم ومتعناكم به.
تقطع بينكم : انقطعت بينكم الصلات.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا( ١ ) أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ( ٢ ) وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ( ٩٣ ) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى( ٣ ) كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ ( ٤ )وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ( ٥ ) وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ( ٩٤ ) ﴾
في الآيات تساؤل إنكاري بمعنى التقرير بأنه ليس من أحد أشد ظلما من الذي يفتري على الله الكذب فينسب إليه ما ليس منه، أو ممن يدعي بأن الله أوحى إليه ولم يكن قد أوحى إليه. أو ممن يجرؤ على القول بأنه سينزل مثل ما أنزل الله. وإشارة إنذارية إلى ما سوف يكون من أمر الظالمين عند الموت وبعده تحيط بهم الملائكة حينما يكونون في غمرات الموت وشدائد الاحتضار ينتظرون خروج أرواحهم ويذكرون لهم ما سوف يلقون من العذاب والهوان عقوبة على ما كانوا يقولونه على الله تعالى من الباطل ويبدو منهم من استكبار على آيات الله. وحكاية لما سوف يخاطبون به من قبل الله تعالى بعد ذلك من خطاب توبيخي ؛ حيث يقول لهم إنكم قد جئتمونا منفردين كما خلقناكم لأول مرة مجردين من كل ما كنتم تتمتعون به في الدنيا، ومن مال وقوة وأنصار، وليس معكم الشفعاء الذين كنتم تعبدونهم كشركاء مع الله وتركنون إلى شفاعتهم وقد غابوا عنكم وتقطعت الصلات بينكم وبينهم.
تعليق على جملة
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ﴾
والمصحف الذي اعتمدناه روى أن الآية [ ٩٣ ] مدنية كذلك. وروى المفسرون روايات عديدة في سياقها١، ومنها : أن المعنى أن الله تعالى أوحى إليهما، منها أن المعنى بمن افترى على الله كذبا هما مسيلمة والأسود اللذان ادعيا النبوة وزعما أن الله تعالى أوحى إليهما، ومنها : أن المعنى بمن قال سأنزل مثل ما أنزل الله هو عبد الله بن سرح أحد كتاب الوحي الذي ارتد وفر من المدينة. وأنه كان يكتب بعض مقاطع قرآنية مخالفة لما كان يمليها عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيكتب ( غفور رحيم ) بدلا من ( عزيز حكيم ) و( عليم حكيم ) بدلا من ( خبير عليم ) وأنه قال مرة حينما أملى النبي صلى الله عليه وآله وسلم آية سورة المؤمنون هذه :﴿ ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر ﴾ [ ١٤ ] قال :﴿ فتبارك الله أحسن الخالقين ( ١٤ ) ﴾ فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : قد نزلت كما قلت فاكتبها، فقال : إني إذا أنزل كما أنزل الله.
ومنها أن شطر الآية الأولى نزل في مسيلمة والأسود النبيين الكذابين اللذين ظهرا في آخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في اليمامة واليمن، وأن الشطر الثاني نزل في عبد الله بن سرح. لقد روي أن عبد الله هذا بعد ذلك الحادث ارتد ولحق بمكة ووشى بعمار وجبر وغيرهما من الأرقاء المؤمنين فأخذهم مواليهم وعذبوهم حتى أجبروهم على الكفر ونزل فيه وفيهم آية النحل :﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ( ١٠٦ ) ﴾ [ ١٠٦ ] ولم يرد شيء من هذه الروايات في الصحاح. ويلوح أن رواية مدنية الآية متصلة برواية كونها في شأن مسيلمة والأسود أو برواية كونها في شأن عبد الله بن سرح بعد الهجرة.
ولسنا نرى أي حكمة ومعنى لوضع هذه الآية في سياق يحكي مواقف مشركي مكة لو كانت مدنية ومنفصلة عن السياق. وحركة مسيلمة والأسود كانت كما قلنا في آخر حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتكون صلتها بالآية أكثر بعدا. والروايات في صدد عبد الله بن سرح مضطربة، وسورة المؤمنون التي تروي إحداهما قول عبد الله الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم إنما مطابق لما نزلت بعد سورة الأنعام بمدة غير قصيرة. وكذلك سورة النحل التي تروي بعض الروايات أن بعض آياتها نزلت في سعد والمرتدين المكرهين. وعبد الله هو أخو عثمان بن عفان بالرضاعة، وقد عينه في زمن خلافته واليا على مصر بعد أن عزل عمرو بن العاص. وروت الروايات أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أهدر دمه بسبب ارتداده حتى تشفع فيه أخوه، وكل هذا يجعلنا نخشى أن يكون اسمه قد أقحم لأهواء سياسة ويجعلنا نشك أولا في رواية مدنية الآية، وثانيا في الروايات المروية كسبب لنزولها ؛ لأن هذا وذاك يقتضيان أن تكون نزلت منفردة بل ومجزأة أي إن شطرا منها نزل في مناسبة وشطرا في مناسبة أخرى، وأن تكون أقحمت على السياق إقحاما مع أنها منسجمة انسجاما تاما في السياق والموضوع وشطرها الأول متصل بشطرها الثاني. وفحوى الآية التالية لها والتي تعطف عليها وتنذر الظالمين وتحكي ما كان منهم من استكبار عن آيات الله وافتراء عليه يلهم بكل قوة أنها في صدد مشركي العرب موضوع الكلام في الآيات السابقة.
وقد رأينا الطبري يتحفظ في كون الآية نزلت للأسباب المذكورة في الروايات.
وقد يكون حادث ارتداد عبد الله بن سرح ولحوقه بمكة صحيحا٢ ولكن التوقف هو أن تكون الآية نزلت فيه.
والذي يتبادر لنا بقوة أن الآية الأولى بخاصة تضمنت ردا على الكفار الذين حكت الآية [ ٩٠ ] إنكارهم لإنزال الله شيئا على بشر حيث قررت ضمنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يعرف أنه ليس من أحد أشد ظلما ممن ينسب إلى الله ما ليس منه، ويدعي بأنه موحى إليه ولم يوح إليه. ثم تبعتها الآيات التالية لها منددة منذرة، وبذلك يتصل السياق. والرد قوي موجه إلى العقول والقلوب السليمة، وقد تكرر في كل مرة حكي القرآن فيها زعم الكفار بافتراء النبي صلى الله عليه وآله وسلم للقرآن بنفس القوة والنفوذ ومن ذلك آية سورة الأحقاف هذه :﴿ أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم ( ٨ ) ﴾ [ ٨ ] ومن هذا الباب آية سورة الشورى [ ٢٤ ] وآية سورة يونس [ ١٧ ]

فالق الحب والنوى : الفلق بمعنى الشق. والحب للزرع والنوى للشجر ومعنى الجملة الذي يفلق الحب والنوى ويجعلهما ينموان في الأرض فيكون منهما الزرع والشجر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى( ١ ) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( ٩٥ ) فَالِقُ الإِصْبَاحِ ( ٢ )وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا( ٣ ) ذَلِكَ تَقْدِيرُ ( ٤ )الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( ٩٦ ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ٩٧ ) وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ( ٥ ) قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ( ٩٨ ) وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا( ٦ ) نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا ( ٧ )وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا( ٨ ) قِنْوَانٌ( ٩ ) دَانِيَةٌ( ١٠ ) وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ( ١١ ) انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ( ١٢ ) إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ٩٩ ) ﴾ [ ٩٥ – ٩٩ ].
احتوت الآيات تنويها تقريريا بمظاهر قدرة الله تعالى وعظمته وبديع نواميس كونه في خلقه الحب والنوى وإخراجه الحي من الميت والميت من الحي. وفي خفاء وحركات الشمس والقمر والليل والنهار والنجوم وما يكون من هدايته الناس في البر والبحر. وفي الماء الذي ينزل من السماء فينبت به متنوع النبات والشجر ذات الألوان والأشكال المتشابهة في المنظر المتغايرة في الثمر والطعم. وفي الإنسان الذي خلقه الله في الأصل نفسا واحدة ثم جعله سلالة يتوالد بعضها من بعض فتكون نسمة الحياة مستودعة في أصلاب الرجال ثم مستقرة في أرحام النساء. وفي جعله ينتفع بكل هذه المظاهر والنواميس في مختلف ظروف حياته ومعاشه ويقيم به أوده ويحمي به نفسه. وأسلوبها قوي نافد، وقد انتهى كل مقطع منها بالتنبيه مرة على ما في هذه المظاهر من دلائل على وجود الله واستحقاقه للعبادة والخضوع له وحده، ومرة بالتنديد بالناس لانصرافهم عن التفكير في ذلك، ومرة بالتنويه بأن الله إنما يفصل الآيات للنبهاء والعقلاء والعلماء ليتدبروا فيها وليؤمن من حسنت نيته ورغب في الهدى.
وورود ضمير المخاطب الجمع فيها أولا، وأسلوب خواتمها ثانيا، يدلان على أن الآيات موجهة للكفار في الدرجة الأولى على سبيل التنديد بهم على تجاهلهم ما في الكون من مظاهر رائعة ينتفعون بها، وتدل على قوة الله تعالى وشمول قدرته وربوبيته، ثم على وقوفهم من الدعوة إليه وحده موقف المكابر الجاحد، وافترائهم عليه الكذب وإشراكهم غيره معه. وهي والحالة هذه متصلة بمواقف الحجاج والمناظرة التي ما فتئت فصول السورة تحكيها.
ولقد تعددت أقوال المفسرين١ في تأويل معاني بعض الجمل للتوفيق بينهما وبين ما هو معلوم من المسائل الفنية والحياتية كما أن هناك من حاول استخراج قواعد فنية وحياتية وفلكية منها.
ونكرر هنا ما نبهنا إليه غير مرة من أن الآيات هنا وفي المناسبات المماثلة إنما تخاطب الناس في نطاق مشاهداتهم وما يقع عليه حسهم وتستوعبه أذهانهم بصورة عامة، وأن من الواجب إبقاؤها في هذا النطاق وعدم الخروج منه إلى تأويلات واستنباطات ومحاولات في صدد نواميس الكون والحياة وأنظمتها الفنية ؛ لأن الآيات لم تهدف إلى ذلك ؛ ولأن مثل ذلك من شأنه أن يخرج القرآن من نطاق قدسيته وهدفه الإرشادي الموجه إلى جميع الناس في كل ظرف ومكان ويعرضه للأخذ والرد دونما طائل ولا جدوى

فالق الإصباح : بمعنى مخرج نور الفجر من ظلمة الليل.
وجعل الشمس والقمر حسبانا : حسبانا مصدر آخر لفعل حسب أيضا، ومعنى الجملة جعل الله حركات الشمس والقمر بحساب مقدر محدد.
ترتيب : مرتب ترتيبا دقيقا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى( ١ ) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( ٩٥ ) فَالِقُ الإِصْبَاحِ ( ٢ )وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا( ٣ ) ذَلِكَ تَقْدِيرُ ( ٤ )الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( ٩٦ ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ٩٧ ) وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ( ٥ ) قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ( ٩٨ ) وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا( ٦ ) نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا ( ٧ )وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا( ٨ ) قِنْوَانٌ( ٩ ) دَانِيَةٌ( ١٠ ) وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ( ١١ ) انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ( ١٢ ) إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ٩٩ ) ﴾ [ ٩٥ – ٩٩ ].
احتوت الآيات تنويها تقريريا بمظاهر قدرة الله تعالى وعظمته وبديع نواميس كونه في خلقه الحب والنوى وإخراجه الحي من الميت والميت من الحي. وفي خفاء وحركات الشمس والقمر والليل والنهار والنجوم وما يكون من هدايته الناس في البر والبحر. وفي الماء الذي ينزل من السماء فينبت به متنوع النبات والشجر ذات الألوان والأشكال المتشابهة في المنظر المتغايرة في الثمر والطعم. وفي الإنسان الذي خلقه الله في الأصل نفسا واحدة ثم جعله سلالة يتوالد بعضها من بعض فتكون نسمة الحياة مستودعة في أصلاب الرجال ثم مستقرة في أرحام النساء. وفي جعله ينتفع بكل هذه المظاهر والنواميس في مختلف ظروف حياته ومعاشه ويقيم به أوده ويحمي به نفسه. وأسلوبها قوي نافد، وقد انتهى كل مقطع منها بالتنبيه مرة على ما في هذه المظاهر من دلائل على وجود الله واستحقاقه للعبادة والخضوع له وحده، ومرة بالتنديد بالناس لانصرافهم عن التفكير في ذلك، ومرة بالتنويه بأن الله إنما يفصل الآيات للنبهاء والعقلاء والعلماء ليتدبروا فيها وليؤمن من حسنت نيته ورغب في الهدى.
وورود ضمير المخاطب الجمع فيها أولا، وأسلوب خواتمها ثانيا، يدلان على أن الآيات موجهة للكفار في الدرجة الأولى على سبيل التنديد بهم على تجاهلهم ما في الكون من مظاهر رائعة ينتفعون بها، وتدل على قوة الله تعالى وشمول قدرته وربوبيته، ثم على وقوفهم من الدعوة إليه وحده موقف المكابر الجاحد، وافترائهم عليه الكذب وإشراكهم غيره معه. وهي والحالة هذه متصلة بمواقف الحجاج والمناظرة التي ما فتئت فصول السورة تحكيها.
ولقد تعددت أقوال المفسرين١ في تأويل معاني بعض الجمل للتوفيق بينهما وبين ما هو معلوم من المسائل الفنية والحياتية كما أن هناك من حاول استخراج قواعد فنية وحياتية وفلكية منها.
ونكرر هنا ما نبهنا إليه غير مرة من أن الآيات هنا وفي المناسبات المماثلة إنما تخاطب الناس في نطاق مشاهداتهم وما يقع عليه حسهم وتستوعبه أذهانهم بصورة عامة، وأن من الواجب إبقاؤها في هذا النطاق وعدم الخروج منه إلى تأويلات واستنباطات ومحاولات في صدد نواميس الكون والحياة وأنظمتها الفنية ؛ لأن الآيات لم تهدف إلى ذلك ؛ ولأن مثل ذلك من شأنه أن يخرج القرآن من نطاق قدسيته وهدفه الإرشادي الموجه إلى جميع الناس في كل ظرف ومكان ويعرضه للأخذ والرد دونما طائل ولا جدوى

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى( ١ ) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( ٩٥ ) فَالِقُ الإِصْبَاحِ ( ٢ )وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا( ٣ ) ذَلِكَ تَقْدِيرُ ( ٤ )الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( ٩٦ ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ٩٧ ) وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ( ٥ ) قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ( ٩٨ ) وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا( ٦ ) نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا ( ٧ )وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا( ٨ ) قِنْوَانٌ( ٩ ) دَانِيَةٌ( ١٠ ) وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ( ١١ ) انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ( ١٢ ) إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ٩٩ ) ﴾ [ ٩٥ – ٩٩ ].
احتوت الآيات تنويها تقريريا بمظاهر قدرة الله تعالى وعظمته وبديع نواميس كونه في خلقه الحب والنوى وإخراجه الحي من الميت والميت من الحي. وفي خفاء وحركات الشمس والقمر والليل والنهار والنجوم وما يكون من هدايته الناس في البر والبحر. وفي الماء الذي ينزل من السماء فينبت به متنوع النبات والشجر ذات الألوان والأشكال المتشابهة في المنظر المتغايرة في الثمر والطعم. وفي الإنسان الذي خلقه الله في الأصل نفسا واحدة ثم جعله سلالة يتوالد بعضها من بعض فتكون نسمة الحياة مستودعة في أصلاب الرجال ثم مستقرة في أرحام النساء. وفي جعله ينتفع بكل هذه المظاهر والنواميس في مختلف ظروف حياته ومعاشه ويقيم به أوده ويحمي به نفسه. وأسلوبها قوي نافد، وقد انتهى كل مقطع منها بالتنبيه مرة على ما في هذه المظاهر من دلائل على وجود الله واستحقاقه للعبادة والخضوع له وحده، ومرة بالتنديد بالناس لانصرافهم عن التفكير في ذلك، ومرة بالتنويه بأن الله إنما يفصل الآيات للنبهاء والعقلاء والعلماء ليتدبروا فيها وليؤمن من حسنت نيته ورغب في الهدى.
وورود ضمير المخاطب الجمع فيها أولا، وأسلوب خواتمها ثانيا، يدلان على أن الآيات موجهة للكفار في الدرجة الأولى على سبيل التنديد بهم على تجاهلهم ما في الكون من مظاهر رائعة ينتفعون بها، وتدل على قوة الله تعالى وشمول قدرته وربوبيته، ثم على وقوفهم من الدعوة إليه وحده موقف المكابر الجاحد، وافترائهم عليه الكذب وإشراكهم غيره معه. وهي والحالة هذه متصلة بمواقف الحجاج والمناظرة التي ما فتئت فصول السورة تحكيها.
ولقد تعددت أقوال المفسرين١ في تأويل معاني بعض الجمل للتوفيق بينهما وبين ما هو معلوم من المسائل الفنية والحياتية كما أن هناك من حاول استخراج قواعد فنية وحياتية وفلكية منها.
ونكرر هنا ما نبهنا إليه غير مرة من أن الآيات هنا وفي المناسبات المماثلة إنما تخاطب الناس في نطاق مشاهداتهم وما يقع عليه حسهم وتستوعبه أذهانهم بصورة عامة، وأن من الواجب إبقاؤها في هذا النطاق وعدم الخروج منه إلى تأويلات واستنباطات ومحاولات في صدد نواميس الكون والحياة وأنظمتها الفنية ؛ لأن الآيات لم تهدف إلى ذلك ؛ ولأن مثل ذلك من شأنه أن يخرج القرآن من نطاق قدسيته وهدفه الإرشادي الموجه إلى جميع الناس في كل ظرف ومكان ويعرضه للأخذ والرد دونما طائل ولا جدوى

أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع : الشطر الأول يعني وحدة الذكر والأنثى كأنهما نصفان يتمم بعضهما بعضا، وقد تعددت تأويلات الشطر الثاني. ويتبادر لنا أن أوجهها هو ( استقرار نسمة الحكمة واستيداعها ) ويكون معنى الجملة والله أعلم : أن الله خلقكم من نفس واحدة مقسومة إلى ذكر وأنثى. وجعل نسمة الحياة مستودعة في أصلاب الرجال ثم تصبح مستقرة في أرحام النساء.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى( ١ ) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( ٩٥ ) فَالِقُ الإِصْبَاحِ ( ٢ )وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا( ٣ ) ذَلِكَ تَقْدِيرُ ( ٤ )الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( ٩٦ ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ٩٧ ) وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ( ٥ ) قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ( ٩٨ ) وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا( ٦ ) نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا ( ٧ )وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا( ٨ ) قِنْوَانٌ( ٩ ) دَانِيَةٌ( ١٠ ) وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ( ١١ ) انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ( ١٢ ) إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ٩٩ ) ﴾ [ ٩٥ – ٩٩ ].
احتوت الآيات تنويها تقريريا بمظاهر قدرة الله تعالى وعظمته وبديع نواميس كونه في خلقه الحب والنوى وإخراجه الحي من الميت والميت من الحي. وفي خفاء وحركات الشمس والقمر والليل والنهار والنجوم وما يكون من هدايته الناس في البر والبحر. وفي الماء الذي ينزل من السماء فينبت به متنوع النبات والشجر ذات الألوان والأشكال المتشابهة في المنظر المتغايرة في الثمر والطعم. وفي الإنسان الذي خلقه الله في الأصل نفسا واحدة ثم جعله سلالة يتوالد بعضها من بعض فتكون نسمة الحياة مستودعة في أصلاب الرجال ثم مستقرة في أرحام النساء. وفي جعله ينتفع بكل هذه المظاهر والنواميس في مختلف ظروف حياته ومعاشه ويقيم به أوده ويحمي به نفسه. وأسلوبها قوي نافد، وقد انتهى كل مقطع منها بالتنبيه مرة على ما في هذه المظاهر من دلائل على وجود الله واستحقاقه للعبادة والخضوع له وحده، ومرة بالتنديد بالناس لانصرافهم عن التفكير في ذلك، ومرة بالتنويه بأن الله إنما يفصل الآيات للنبهاء والعقلاء والعلماء ليتدبروا فيها وليؤمن من حسنت نيته ورغب في الهدى.
وورود ضمير المخاطب الجمع فيها أولا، وأسلوب خواتمها ثانيا، يدلان على أن الآيات موجهة للكفار في الدرجة الأولى على سبيل التنديد بهم على تجاهلهم ما في الكون من مظاهر رائعة ينتفعون بها، وتدل على قوة الله تعالى وشمول قدرته وربوبيته، ثم على وقوفهم من الدعوة إليه وحده موقف المكابر الجاحد، وافترائهم عليه الكذب وإشراكهم غيره معه. وهي والحالة هذه متصلة بمواقف الحجاج والمناظرة التي ما فتئت فصول السورة تحكيها.
ولقد تعددت أقوال المفسرين١ في تأويل معاني بعض الجمل للتوفيق بينهما وبين ما هو معلوم من المسائل الفنية والحياتية كما أن هناك من حاول استخراج قواعد فنية وحياتية وفلكية منها.
ونكرر هنا ما نبهنا إليه غير مرة من أن الآيات هنا وفي المناسبات المماثلة إنما تخاطب الناس في نطاق مشاهداتهم وما يقع عليه حسهم وتستوعبه أذهانهم بصورة عامة، وأن من الواجب إبقاؤها في هذا النطاق وعدم الخروج منه إلى تأويلات واستنباطات ومحاولات في صدد نواميس الكون والحياة وأنظمتها الفنية ؛ لأن الآيات لم تهدف إلى ذلك ؛ ولأن مثل ذلك من شأنه أن يخرج القرآن من نطاق قدسيته وهدفه الإرشادي الموجه إلى جميع الناس في كل ظرف ومكان ويعرضه للأخذ والرد دونما طائل ولا جدوى

خضراً : الرطب أو الطري من الزرع.
حباً متراكباً : حبا منضدا في السنابل.
طلعها : ثمرها.
قنوان : قطوف.
دانية : قريبة أو مدلاة سهلة التناول.
مشتبها وغير متشابه : مشتبه في الخلق والشكل والورق واللون وغير متشابه في الثمر والطعم. أو منها ما هو متشابه في الشكل واللون والورق والثمر والطعم ومنها ما هو غير متشابه.
انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه : ينعه بمعنى نضجه وبلوغه ومعنى الجملة انظروا كيف يبدأ ثمره ثم ينمو حتى ينضج.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى( ١ ) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ( ٩٥ ) فَالِقُ الإِصْبَاحِ ( ٢ )وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا( ٣ ) ذَلِكَ تَقْدِيرُ ( ٤ )الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ( ٩٦ ) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ٩٧ ) وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ( ٥ ) قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ( ٩٨ ) وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا( ٦ ) نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُّتَرَاكِبًا ( ٧ )وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا( ٨ ) قِنْوَانٌ( ٩ ) دَانِيَةٌ( ١٠ ) وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ( ١١ ) انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ( ١٢ ) إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ( ٩٩ ) ﴾ [ ٩٥ – ٩٩ ].
احتوت الآيات تنويها تقريريا بمظاهر قدرة الله تعالى وعظمته وبديع نواميس كونه في خلقه الحب والنوى وإخراجه الحي من الميت والميت من الحي. وفي خفاء وحركات الشمس والقمر والليل والنهار والنجوم وما يكون من هدايته الناس في البر والبحر. وفي الماء الذي ينزل من السماء فينبت به متنوع النبات والشجر ذات الألوان والأشكال المتشابهة في المنظر المتغايرة في الثمر والطعم. وفي الإنسان الذي خلقه الله في الأصل نفسا واحدة ثم جعله سلالة يتوالد بعضها من بعض فتكون نسمة الحياة مستودعة في أصلاب الرجال ثم مستقرة في أرحام النساء. وفي جعله ينتفع بكل هذه المظاهر والنواميس في مختلف ظروف حياته ومعاشه ويقيم به أوده ويحمي به نفسه. وأسلوبها قوي نافد، وقد انتهى كل مقطع منها بالتنبيه مرة على ما في هذه المظاهر من دلائل على وجود الله واستحقاقه للعبادة والخضوع له وحده، ومرة بالتنديد بالناس لانصرافهم عن التفكير في ذلك، ومرة بالتنويه بأن الله إنما يفصل الآيات للنبهاء والعقلاء والعلماء ليتدبروا فيها وليؤمن من حسنت نيته ورغب في الهدى.
وورود ضمير المخاطب الجمع فيها أولا، وأسلوب خواتمها ثانيا، يدلان على أن الآيات موجهة للكفار في الدرجة الأولى على سبيل التنديد بهم على تجاهلهم ما في الكون من مظاهر رائعة ينتفعون بها، وتدل على قوة الله تعالى وشمول قدرته وربوبيته، ثم على وقوفهم من الدعوة إليه وحده موقف المكابر الجاحد، وافترائهم عليه الكذب وإشراكهم غيره معه. وهي والحالة هذه متصلة بمواقف الحجاج والمناظرة التي ما فتئت فصول السورة تحكيها.
ولقد تعددت أقوال المفسرين١ في تأويل معاني بعض الجمل للتوفيق بينهما وبين ما هو معلوم من المسائل الفنية والحياتية كما أن هناك من حاول استخراج قواعد فنية وحياتية وفلكية منها.
ونكرر هنا ما نبهنا إليه غير مرة من أن الآيات هنا وفي المناسبات المماثلة إنما تخاطب الناس في نطاق مشاهداتهم وما يقع عليه حسهم وتستوعبه أذهانهم بصورة عامة، وأن من الواجب إبقاؤها في هذا النطاق وعدم الخروج منه إلى تأويلات واستنباطات ومحاولات في صدد نواميس الكون والحياة وأنظمتها الفنية ؛ لأن الآيات لم تهدف إلى ذلك ؛ ولأن مثل ذلك من شأنه أن يخرج القرآن من نطاق قدسيته وهدفه الإرشادي الموجه إلى جميع الناس في كل ظرف ومكان ويعرضه للأخذ والرد دونما طائل ولا جدوى

وخرقوا له : اخترعوا له.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ( ١ ) لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ( ١٠٠ ) بَدِيعُ( ٢ ) السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ( ٣ ) وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١٠١ ) ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( ٤ )( ١٠٢ ) لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( ١٠٣ ) ﴾ [ ١٠٠ – ١٠٣ ].
في الآيات حكاية لبعض عقائد العرب ورد عليهم : فقد جعلوا الجن شركاء لله تعالى واخترعوا له بنين وبنات كذبا وبدون بينة، في حين أنه هو الذي خلقهم وليس لمن يشركونه معه يد في خلق، وحين أنه هو الذي أبدع السماوات والأرض وكل شيء، وليس له زوجة ولا يعقل أن يكون له ولد أو أن يكون في حاجة إلى ذلك ؛ لأنه رب كل شيء وخالق كل شيء والوكيل المتصرف المحيط بكل شيء. وليس من إله إلا هو، لا تحيط بكنهه العقول، ولا تدرك ماهيته الأبصار ولا يماثله شيء من خلقه حتى يقاس به ؛ وهو المستحق وحده للعبادة.
تعليق على الآية
﴿ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْم ﴾
من أهل التأويل الذين يروي المفسرون أقوالهم من أخذ الجملة الأولى على ظاهرها، ومنهم من قال : إن كلمة الجن تعني الملائكة من حيث إن المشركين العرب كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله. وعلى اعتبار أن كلمة الجن التي تعني الخفاء تصدق على الملائكة. ومنهم من قال : إن الجملة تعني عقيدة المجوس الذين كانوا يعتقدون أن الجن أو الشياطين آلهة الظلمة والشر. والذين قالوا القول الأول قالوا : إن العرب كانوا فعلا يعبدون الجن ويشركونهم مع الله.
وأوردوا آيات سورة سبأ هذه للتدليل على ذلك :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ( ٤٠ ) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ( ٤١ ) ﴾ ونرى هذا القول هو الأوجه بالنسبة للنص القرآني. ولاسيما إن آيات سبأ قد جمعت الجن والملائكة فلا يصح أن يكون ( الجن ) بمعنى الملائكة كما جاء في القول الثاني.
وفي سورة الجن آية تشير إلى شيء من عقائد العرب في الجن وهي :﴿ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا( ٦ ) ﴾ والكلام كما هو واضح في صدد مشركي العرب فيكون ذكر عقائد المجوس مقحما.
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن كلمة ( بنين ) عنت عقيدة اليهود بأن العزير ابن الله وعقيدة النصارى بأن المسيح ابن الله وقد جاء هذا وذاك في آيات قرآنية١. ومع صحة هذا القول في ذاته فلسنا نرى محلا لإقحام اليهود والنصارى أيضا في سياق يدور حول عقائد مشركي العرب. ولقد حكى القرآن عن هؤلاء قولهم : إن الله اتخذ ولدا وعنوا بذلك الملائكة كما يستفاد من آيات سورة الأنبياء هذه :﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا بل عباد مكرمون ( ٢٦ ) لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ( ٢٧ ) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ( ٢٨ ) ﴾. وقد يكون ورود كلمة ( بنات ) يجعل القول أن المقصودين هم الملائكة واردا. غير أن نص الآية يجعلنا نؤكد على ترجيحنا أن الجن هم المقصودون.
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الجملة أسلوبية في مقام التنديد بمشركي العرب للتعبير عن ماهية شركهم بجعلهم لله أولادا بنين وبنات والله تعالى أعلم.
تعليق على جملة
﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ﴾
لقد كانت هذه الجملة مناسبة لإدارة المفسرين الكلام حول موضوع رؤية الله عزل وجل ؛ حيث رآها بعضهم نافية للرؤية ولم ير ذلك بعض آخر. وأوردوا في سياق ذلك أقوالا للمؤولين وبعض الأحاديث النبوية في النفي والإثبات معا مؤيدا كل منهم قوله بما أورده٢. وتعليقا على ذلك نقول : إن الآية جاءت في سياق تنديدي لعقائد المشركين وتنزيهي لله تعالى عن الشركاء وتنويهي لعظمة الله وقدرته وكمال صفاته. وإن الأولى أخذها وفهمها على هذا الاعتبار والوقوف عنده وعدم تحويل الآية إلى ما لم تنزل بسبيله. وإن كانت يمكن أن تكون ضابطا من ضوابط العقيدة التي يجب أن يعتقدها المسلم في الله عز وجل وتنزيهه بها عن الجسمانية والحدود والحلول والمشابهة للخلق. ولقد علقنا على موضوع رؤية الله عز وجل بما فيه الكفاية، وأوردنا الأقوال المتعارضة والأحاديث الواردة فيه في سياق تفسير سورة القيامة فنكتفي بهذا التنبيه

بديع : المبدع من العدم. والإبداع : فعل ما لم يسبق إلى مثله.
صاحبة : زوجة.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ( ١ ) لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ( ١٠٠ ) بَدِيعُ( ٢ ) السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ( ٣ ) وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١٠١ ) ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( ٤ )( ١٠٢ ) لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( ١٠٣ ) ﴾ [ ١٠٠ – ١٠٣ ].
في الآيات حكاية لبعض عقائد العرب ورد عليهم : فقد جعلوا الجن شركاء لله تعالى واخترعوا له بنين وبنات كذبا وبدون بينة، في حين أنه هو الذي خلقهم وليس لمن يشركونه معه يد في خلق، وحين أنه هو الذي أبدع السماوات والأرض وكل شيء، وليس له زوجة ولا يعقل أن يكون له ولد أو أن يكون في حاجة إلى ذلك ؛ لأنه رب كل شيء وخالق كل شيء والوكيل المتصرف المحيط بكل شيء. وليس من إله إلا هو، لا تحيط بكنهه العقول، ولا تدرك ماهيته الأبصار ولا يماثله شيء من خلقه حتى يقاس به ؛ وهو المستحق وحده للعبادة.
تعليق على الآية
﴿ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْم ﴾
من أهل التأويل الذين يروي المفسرون أقوالهم من أخذ الجملة الأولى على ظاهرها، ومنهم من قال : إن كلمة الجن تعني الملائكة من حيث إن المشركين العرب كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله. وعلى اعتبار أن كلمة الجن التي تعني الخفاء تصدق على الملائكة. ومنهم من قال : إن الجملة تعني عقيدة المجوس الذين كانوا يعتقدون أن الجن أو الشياطين آلهة الظلمة والشر. والذين قالوا القول الأول قالوا : إن العرب كانوا فعلا يعبدون الجن ويشركونهم مع الله.
وأوردوا آيات سورة سبأ هذه للتدليل على ذلك :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ( ٤٠ ) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ( ٤١ ) ﴾ ونرى هذا القول هو الأوجه بالنسبة للنص القرآني. ولاسيما إن آيات سبأ قد جمعت الجن والملائكة فلا يصح أن يكون ( الجن ) بمعنى الملائكة كما جاء في القول الثاني.
وفي سورة الجن آية تشير إلى شيء من عقائد العرب في الجن وهي :﴿ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا( ٦ ) ﴾ والكلام كما هو واضح في صدد مشركي العرب فيكون ذكر عقائد المجوس مقحما.
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن كلمة ( بنين ) عنت عقيدة اليهود بأن العزير ابن الله وعقيدة النصارى بأن المسيح ابن الله وقد جاء هذا وذاك في آيات قرآنية١. ومع صحة هذا القول في ذاته فلسنا نرى محلا لإقحام اليهود والنصارى أيضا في سياق يدور حول عقائد مشركي العرب. ولقد حكى القرآن عن هؤلاء قولهم : إن الله اتخذ ولدا وعنوا بذلك الملائكة كما يستفاد من آيات سورة الأنبياء هذه :﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا بل عباد مكرمون ( ٢٦ ) لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ( ٢٧ ) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ( ٢٨ ) ﴾. وقد يكون ورود كلمة ( بنات ) يجعل القول أن المقصودين هم الملائكة واردا. غير أن نص الآية يجعلنا نؤكد على ترجيحنا أن الجن هم المقصودون.
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الجملة أسلوبية في مقام التنديد بمشركي العرب للتعبير عن ماهية شركهم بجعلهم لله أولادا بنين وبنات والله تعالى أعلم.
تعليق على جملة
﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ﴾
لقد كانت هذه الجملة مناسبة لإدارة المفسرين الكلام حول موضوع رؤية الله عزل وجل ؛ حيث رآها بعضهم نافية للرؤية ولم ير ذلك بعض آخر. وأوردوا في سياق ذلك أقوالا للمؤولين وبعض الأحاديث النبوية في النفي والإثبات معا مؤيدا كل منهم قوله بما أورده٢. وتعليقا على ذلك نقول : إن الآية جاءت في سياق تنديدي لعقائد المشركين وتنزيهي لله تعالى عن الشركاء وتنويهي لعظمة الله وقدرته وكمال صفاته. وإن الأولى أخذها وفهمها على هذا الاعتبار والوقوف عنده وعدم تحويل الآية إلى ما لم تنزل بسبيله. وإن كانت يمكن أن تكون ضابطا من ضوابط العقيدة التي يجب أن يعتقدها المسلم في الله عز وجل وتنزيهه بها عن الجسمانية والحدود والحلول والمشابهة للخلق. ولقد علقنا على موضوع رؤية الله عز وجل بما فيه الكفاية، وأوردنا الأقوال المتعارضة والأحاديث الواردة فيه في سياق تفسير سورة القيامة فنكتفي بهذا التنبيه

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ( ١ ) لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ( ١٠٠ ) بَدِيعُ( ٢ ) السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ( ٣ ) وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١٠١ ) ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( ٤ )( ١٠٢ ) لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( ١٠٣ ) ﴾ [ ١٠٠ – ١٠٣ ].
في الآيات حكاية لبعض عقائد العرب ورد عليهم : فقد جعلوا الجن شركاء لله تعالى واخترعوا له بنين وبنات كذبا وبدون بينة، في حين أنه هو الذي خلقهم وليس لمن يشركونه معه يد في خلق، وحين أنه هو الذي أبدع السماوات والأرض وكل شيء، وليس له زوجة ولا يعقل أن يكون له ولد أو أن يكون في حاجة إلى ذلك ؛ لأنه رب كل شيء وخالق كل شيء والوكيل المتصرف المحيط بكل شيء. وليس من إله إلا هو، لا تحيط بكنهه العقول، ولا تدرك ماهيته الأبصار ولا يماثله شيء من خلقه حتى يقاس به ؛ وهو المستحق وحده للعبادة.
تعليق على الآية
﴿ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْم ﴾
من أهل التأويل الذين يروي المفسرون أقوالهم من أخذ الجملة الأولى على ظاهرها، ومنهم من قال : إن كلمة الجن تعني الملائكة من حيث إن المشركين العرب كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله. وعلى اعتبار أن كلمة الجن التي تعني الخفاء تصدق على الملائكة. ومنهم من قال : إن الجملة تعني عقيدة المجوس الذين كانوا يعتقدون أن الجن أو الشياطين آلهة الظلمة والشر. والذين قالوا القول الأول قالوا : إن العرب كانوا فعلا يعبدون الجن ويشركونهم مع الله.
وأوردوا آيات سورة سبأ هذه للتدليل على ذلك :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ( ٤٠ ) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ( ٤١ ) ﴾ ونرى هذا القول هو الأوجه بالنسبة للنص القرآني. ولاسيما إن آيات سبأ قد جمعت الجن والملائكة فلا يصح أن يكون ( الجن ) بمعنى الملائكة كما جاء في القول الثاني.
وفي سورة الجن آية تشير إلى شيء من عقائد العرب في الجن وهي :﴿ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا( ٦ ) ﴾ والكلام كما هو واضح في صدد مشركي العرب فيكون ذكر عقائد المجوس مقحما.
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن كلمة ( بنين ) عنت عقيدة اليهود بأن العزير ابن الله وعقيدة النصارى بأن المسيح ابن الله وقد جاء هذا وذاك في آيات قرآنية١. ومع صحة هذا القول في ذاته فلسنا نرى محلا لإقحام اليهود والنصارى أيضا في سياق يدور حول عقائد مشركي العرب. ولقد حكى القرآن عن هؤلاء قولهم : إن الله اتخذ ولدا وعنوا بذلك الملائكة كما يستفاد من آيات سورة الأنبياء هذه :﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا بل عباد مكرمون ( ٢٦ ) لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ( ٢٧ ) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ( ٢٨ ) ﴾. وقد يكون ورود كلمة ( بنات ) يجعل القول أن المقصودين هم الملائكة واردا. غير أن نص الآية يجعلنا نؤكد على ترجيحنا أن الجن هم المقصودون.
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الجملة أسلوبية في مقام التنديد بمشركي العرب للتعبير عن ماهية شركهم بجعلهم لله أولادا بنين وبنات والله تعالى أعلم.
تعليق على جملة
﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ﴾
لقد كانت هذه الجملة مناسبة لإدارة المفسرين الكلام حول موضوع رؤية الله عزل وجل ؛ حيث رآها بعضهم نافية للرؤية ولم ير ذلك بعض آخر. وأوردوا في سياق ذلك أقوالا للمؤولين وبعض الأحاديث النبوية في النفي والإثبات معا مؤيدا كل منهم قوله بما أورده٢. وتعليقا على ذلك نقول : إن الآية جاءت في سياق تنديدي لعقائد المشركين وتنزيهي لله تعالى عن الشركاء وتنويهي لعظمة الله وقدرته وكمال صفاته. وإن الأولى أخذها وفهمها على هذا الاعتبار والوقوف عنده وعدم تحويل الآية إلى ما لم تنزل بسبيله. وإن كانت يمكن أن تكون ضابطا من ضوابط العقيدة التي يجب أن يعتقدها المسلم في الله عز وجل وتنزيهه بها عن الجسمانية والحدود والحلول والمشابهة للخلق. ولقد علقنا على موضوع رؤية الله عز وجل بما فيه الكفاية، وأوردنا الأقوال المتعارضة والأحاديث الواردة فيه في سياق تفسير سورة القيامة فنكتفي بهذا التنبيه

وكيل : حافظ أو كفيل.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ( ١ ) لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ ( ١٠٠ ) بَدِيعُ( ٢ ) السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ( ٣ ) وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١٠١ ) ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ( ٤ )( ١٠٢ ) لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ( ١٠٣ ) ﴾ [ ١٠٠ – ١٠٣ ].
في الآيات حكاية لبعض عقائد العرب ورد عليهم : فقد جعلوا الجن شركاء لله تعالى واخترعوا له بنين وبنات كذبا وبدون بينة، في حين أنه هو الذي خلقهم وليس لمن يشركونه معه يد في خلق، وحين أنه هو الذي أبدع السماوات والأرض وكل شيء، وليس له زوجة ولا يعقل أن يكون له ولد أو أن يكون في حاجة إلى ذلك ؛ لأنه رب كل شيء وخالق كل شيء والوكيل المتصرف المحيط بكل شيء. وليس من إله إلا هو، لا تحيط بكنهه العقول، ولا تدرك ماهيته الأبصار ولا يماثله شيء من خلقه حتى يقاس به ؛ وهو المستحق وحده للعبادة.
تعليق على الآية
﴿ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْم ﴾
من أهل التأويل الذين يروي المفسرون أقوالهم من أخذ الجملة الأولى على ظاهرها، ومنهم من قال : إن كلمة الجن تعني الملائكة من حيث إن المشركين العرب كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله. وعلى اعتبار أن كلمة الجن التي تعني الخفاء تصدق على الملائكة. ومنهم من قال : إن الجملة تعني عقيدة المجوس الذين كانوا يعتقدون أن الجن أو الشياطين آلهة الظلمة والشر. والذين قالوا القول الأول قالوا : إن العرب كانوا فعلا يعبدون الجن ويشركونهم مع الله.
وأوردوا آيات سورة سبأ هذه للتدليل على ذلك :﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ( ٤٠ ) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ( ٤١ ) ﴾ ونرى هذا القول هو الأوجه بالنسبة للنص القرآني. ولاسيما إن آيات سبأ قد جمعت الجن والملائكة فلا يصح أن يكون ( الجن ) بمعنى الملائكة كما جاء في القول الثاني.
وفي سورة الجن آية تشير إلى شيء من عقائد العرب في الجن وهي :﴿ وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا( ٦ ) ﴾ والكلام كما هو واضح في صدد مشركي العرب فيكون ذكر عقائد المجوس مقحما.
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن كلمة ( بنين ) عنت عقيدة اليهود بأن العزير ابن الله وعقيدة النصارى بأن المسيح ابن الله وقد جاء هذا وذاك في آيات قرآنية١. ومع صحة هذا القول في ذاته فلسنا نرى محلا لإقحام اليهود والنصارى أيضا في سياق يدور حول عقائد مشركي العرب. ولقد حكى القرآن عن هؤلاء قولهم : إن الله اتخذ ولدا وعنوا بذلك الملائكة كما يستفاد من آيات سورة الأنبياء هذه :﴿ وقالوا اتخذ الرحمان ولدا بل عباد مكرمون ( ٢٦ ) لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون ( ٢٧ ) يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ( ٢٨ ) ﴾. وقد يكون ورود كلمة ( بنات ) يجعل القول أن المقصودين هم الملائكة واردا. غير أن نص الآية يجعلنا نؤكد على ترجيحنا أن الجن هم المقصودون.
ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الجملة أسلوبية في مقام التنديد بمشركي العرب للتعبير عن ماهية شركهم بجعلهم لله أولادا بنين وبنات والله تعالى أعلم.
تعليق على جملة
﴿ لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ ﴾
لقد كانت هذه الجملة مناسبة لإدارة المفسرين الكلام حول موضوع رؤية الله عزل وجل ؛ حيث رآها بعضهم نافية للرؤية ولم ير ذلك بعض آخر. وأوردوا في سياق ذلك أقوالا للمؤولين وبعض الأحاديث النبوية في النفي والإثبات معا مؤيدا كل منهم قوله بما أورده٢. وتعليقا على ذلك نقول : إن الآية جاءت في سياق تنديدي لعقائد المشركين وتنزيهي لله تعالى عن الشركاء وتنويهي لعظمة الله وقدرته وكمال صفاته. وإن الأولى أخذها وفهمها على هذا الاعتبار والوقوف عنده وعدم تحويل الآية إلى ما لم تنزل بسبيله. وإن كانت يمكن أن تكون ضابطا من ضوابط العقيدة التي يجب أن يعتقدها المسلم في الله عز وجل وتنزيهه بها عن الجسمانية والحدود والحلول والمشابهة للخلق. ولقد علقنا على موضوع رؤية الله عز وجل بما فيه الكفاية، وأوردنا الأقوال المتعارضة والأحاديث الواردة فيه في سياق تفسير سورة القيامة فنكتفي بهذا التنبيه

﴿ قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ( ١٠٤ ) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( ١٠٥ ) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ( ١٠٦ ) وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ( ١٠٧ ) ﴾[ ١٠٤ – ١٠٧ ].
في الآيات هتاف بالناس بأنه قد جاءهم من ربهم الهدى والبينات، فمن أبصر واهتدى فلنفسه، ومن عمي عن ذلك وضل فإنما يضر نفسه. وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليس حفيظا عليهم ولا مسؤولا عنهم. وتقرير رباني بأن الله تعالى يصرف الآيات القرآنية ويقلب فيها وجوه الكلام تبيانا للناس الذين يحبون أن يعلموا ويتبينوا الأمور حتى يقولوا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم درست، وعلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك أن يتبع ما يوحى إليه من ربه الذي لا إله إلا هو، وأن يلتزم الحدود المرسومة له، وألا يبالي بالمشركين إذا أصروا على شركهم. فلو شاء الله ما أشركوا ؛ لأن في قدرته إجبارهم على الهدى، وإنما تركهم لاختيارهم ليظهر الطيب من الخبيث، وسليم القلب الراغب في الهدى من سيء النية المعتمد المكابرة والتكذيب ولم يجعله الله مسيطرا عليهم ولا مسؤولا عنهم. وصلة الآيات بسابقاتها وبمواقف المناظرة والجدل والإنذار واضحة، وأسلوبها نافذ وموجه إلى العقل والقلب معا.
وواضح من الشرح المستلهم من فحواها أنها تتضمن تقريرا جديدا لما قررته آيات عديدة سبقت أمثلة منها في سور سبق تفسيرها من مهمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التبليغية والإنذارية، ومن ترك الناس بعد ذلك لضمائرهم وتحميلهم مسؤولية مواقفهم إزاء رسالة الله بعد ذلك.
ولقد روى المفسرون عن أهل التأويل أن معنى جملة ﴿ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ ﴾ أنه بمعنى حتى ( يقول الكفار أنك درست وتعلمت ما تتلوه من أهل الكتاب ). ولقد قرئت كلمة ( درست ) بفتح السين وتسكين التاء من الدروس أي بمعنى ( حتى يقولوا إن ما تتلوه قديم دارس من أساطير الأولين ). والجمهور على أن كلمة ( درست ) من الدرس لا من الدروس. وقد خطر لنا تأويل آخر نرجو أن يكون هو الصواب وهو ( حتى يقولوا كفاك فقد بلغت وقرأت وكررت وبينت فدع الناس فيؤمن من يبصر ما فيه من هدى ويكفر من عمي قلبه ) وقد استلهمنا هذا من الجملة السابقة للجملة وهي ﴿ وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ﴾ فالله يقلب وجوه الكلام ويأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم تبليغه للناس حتى يقولوا كفى فقد بلغت. وفي أساس البلاغة للزمخشري ( درست الكتاب ) كررت قراءته للحفظ.
وجملة ﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ ليست بمعنى أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتركهم بدون تبليغ، فهذا من مهمته الأصلية وإنما هي بمعنى الأمر بعدم الاهتمام بمواقفهم. وهذا ما تكرر بأساليب عديدة سبقت أمثلة منها في السور التي سبق تفسيرها. ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن الجملة نسخت بآيات القتال. وهذا إنما يصح إذا رافق مواقف المشركين بعد الهجرة طعن في الإسلام وأذى للمسلمين وحسب على ما شرحناه في مناسبات سابقة.
هذا، ونظم الآية الأولى يوهم أن الكلام هو كلام النبي مباشرة، ومثل هذا قد تكرر ومرت أمثلة منه في سور سبق تفسيرها. وقد علقنا على ذلك في سياق الآيات الأولى من سورة هود تعليقا ينسحب على هذه الآية. ومع ذلك فإنه يلحظ أن الآية الثانية احتوت كلاما ربانيا مباشرا في مخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مما ينطوي فيه كون الكلام الأول هو إيعاز بأن يقول ذلك.
﴿ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْوًا( ١ ) بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ١٠٨ ) ﴾ [ ١٠٨ ].
عدوا : بغيا وتجاوزا لحدود الأدب.
في الآية نهي للمسلمين عن سب آلهة المشركين وعقائدهم، وتنبيه إلى أن هذا قد يحملهم على المقابلة فيسبون الله تعالى بغيا وجهلا واندفاعا في العصبية والحمية الجاهلية. وتقرير بأن الله قد جبل الناس على طبيعة استحسان ما يعملون، أو أن من مقتضى النظام الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري أن يستحسن الناس ما يعملون، وأن مرد الجميع إليه حيث ينبئهم بما عملوا ويوفيهم عليه بما استحقوا.
تعليق على جملة
﴿ وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ ﴾
وقد روى المفسرون أنه لما نزلت آية :﴿ إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ﴾ الأنبياء :[ ٩٨ ] أنذر المشركون النبي صلى الله عليه وسلم قائلين : لتكفن عن سب آلهتنا ولنشتمن إلهك فنزلت الآية١. وهذه الآية من آيات سورة الأنبياء التي يأتي ترتيبها بعد هذه السورة بثماني عشرة سورة. وقد روى المفسرون أيضا : أن بعض زعماء المشركين جاءوا إلى أبي طالب حينما حضرته الوفاة وطلبوا منه أن ينصح ابن أخيه بعدم سب آلهتهم في سياق طويل، فلما يئسوا منه قالوا له : لتكفن عن سب آلهتنا أو نسب إلهك، فنزلت الآية٢. وأبو طالب توفي أواخر العهد المكي ؛ حيث يفرض أن سورة الأنعام نزلت قبل ذلك بأمد غير قصير، ويضاف إلى هذا أن النهي موجه إلى المؤمنين عامة، وليس للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة. ومهما يكن من أمر فالآية تدل بدون ريب على أن آلهة المشركين كانت تشتم، وأن المشركين توعدوا بمقابلة الشتيمة بمثلها أو قابلوها فعلا، والظاهر أنه كان يحتدم بين المؤمنين والمشركين نقاش ونزاع وأن المؤمنين كانوا ينالون من عقائد هؤلاء ومعبوداتهم سبا وتحقيرا فيندفع هؤلاء بالحمية والعصبية إلى المقابلة فنهت الآية المسلمين عن ذلك.
ومع ما هناك من خصوصية زمنية فإن إطلاق النهي والتعليل في الآية ينطويان على تلقين مستمر المدى حيث أوجب على المسلمين في كل زمن ومكان التزام هذا الأدب وعدم شتم أديان غيرهم وعقائدهم، وفي هذا ما فيه من الجلال والروعة التأديبية التي تهدف إلى إبعاد المسلم عن الفحش والبذاءة وإثارة الغير وجرح عاطفته الدينية مهما كانت. ولاسيما أن ذلك متناف مع مبدأ حرية التدين الذي قرره القرآن على ما شرحناه في سياق سورة ( الكافرون ) شرحا يغني عن التكرار، ومع مبدأ الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة الذي قررته آية سورة النحل :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ( ١٢٥ ) ﴾.
ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( ملعون من سب والديه، قالوا يا رسول الله وكيف يسب الرجل والديه ؟ قال : يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه ويسب أمه فيسب أمه حيث ينطوي في الحديث تأديب نبوي رفيع مستمد من التأديب القرآني ومتساوق معه.
تعليق على جملة
﴿ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ﴾
إن إطلاق العبارة في هذه الجملة ألهمنا أن نؤولها بما أولناها في الشرح المباشر للآية. ونرجو أن يكون هو الصواب وفي الجملة التالية قرينة على ذلك حيث تنذر الناس جميعا بأن مرجعهم إلى الله فينبئهم بما عملوا ويجزيهم عليه. وبكلمة أخرى قرينة على أن الجملة لم تعن قط أن الله أغراهم وزين لهم ما يعملون حسنا كان أم سيئا. والآية في جملتها تعني أن الله وكلهم في ذلك إلى أخلاقهم وقابلياتهم، ولقد ورد في سورة النمل التي سبق تفسيرها آية فيها مثل هذه الجملة مصروفة إلى المجرمين حيث يكون تأويلنا على ضوء ذلك في محله أيضا. ولقد أوردنا في سياق الجملة المذكورة في سورة النمل تأويلات المؤولين والمفسرين، وعلقنا عليها تعليقا وافيا، وما قلناه هناك يصح هنا أيضا فنكتفي بهذا التنبيه.
١ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبرسي وابن كثير والخازن والبغوي..
٢ المصدر نفسه..
﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ١٠٩ ) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( ١١٠ ) ﴾[ ١٠٩ – ١١٠ ].
في الآيات حكاية لما كان الكفار يحلفونه من الأيمان الغليظة بأنهم ليؤمنن إذا ما جاءتهم آية من الله مؤيدة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يرد عليهم قائلا : إنما الآيات عند الله وليست في متناول قدرته. وبأن يسأل مخاطبين قريبين عما إذا كان لا يخطر ببالهم أن الله لو أظهر معجزة أن ينقض الحالفون أيمانهم ولا يؤمنوا بها. وتقرير رباني بأن قلوبهم ستظل قاسية وأبصارهم متعامية كما هو دأبهم قبل. ثم يبقون عمهين في طغيانهم مصرين على مكابرتهم لا يؤمنون كدأبهم منذ البدء أو منذ وقفوا مثل هذا الموقف لأول مرة.
تعليق على آية
﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ﴾
ولقد روى المفسرون أن قريشا قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنك تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فتنفجر منه عيون الماء، وأن عيسى كان يحيي الموتى وأن هودا أتى بمعجزة الناقة لثمود فأتنا بآية حتى نصدقك، قال : فإن فعلت ما تقولون، أتصدقونني ؟ قالوا : نعم. والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين. فقال : ما تحبون أن آتيكم به، قالوا اجعل لنا الصفا ذهبا، وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك، وأتنا بالملائكة يشهدون لك، فقام يدعو ربه فجاءه جبريل يقول له : إن الله يبلغك إن شئت أرسل آية فإن لم يؤمنوا أخذهم بالعذاب وإن شئت تركهم حتى يثوب ثائبهم فقال : بل اتركهم حتى يثوب ثائبهم فنزلت الآيات. وروى الطبري أن جملة ﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ١٠٩ ) ﴾ موجهة إلى المؤمنين لأن هؤلاء قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما طلب المشركون آية وأقسموا أنهم ليؤمنن إذا جاءتهم، سل ربك يا رسول الله ذلك، فوجه الله الخطاب في الآية إليهم.
والآيات لم ترد في الصحاح، ولكنها متساوقة مع فحوى الآيات. وصحتها محتملة وفيها صورة طريفة من صور العهد المكي، وما كان يعتلج في صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه معا من رغبة ملحة في اهتداء قومهم، وهذه الصورة ملموحة في الآية الأولى ولو لم تصح الروايات.
ومن المحتمل أن تكون الآيات نزلت للمناسبة المذكورة في الروايات بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها، ومن المحتمل أن تكون المناسبة سابقة فأشير إليها في سياق الإشارة إلى مواقف المشركين. ونحن نميل إلى ترجيح الاحتمال الثاني ؛ لأن السياق متساوق والآيات معطوفة على ما قبلها.
ولقد علقنا على موضوع تحدي الكفار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإتيان بالمعجزة وموقف الوحي القرآني من ذلك وحكمته في سياق تفسير سورة المدثر. وفي هذه الآيات توكيد جديد لهذا الموقف يضاف إلى ما جاء من مثله في سور سبق تفسيرها مثل طه والقصص والإسراء ويونس وهود.
وفيها كذلك تعليل جديد لموقف الكفار وهو أن موقفهم ناشيء عن مكابرة وعناد. وليس موقف رغبة صادقة في الإيمان. وبعض العبارات توهم ظاهرا أن الله سبحانه هو الذي يحول دون إيمان الكفار ويذرهم يستمرون ويعمهون في طغيانهم. والذي يتبادر لنا أن العبارات أسلوبية وبسبيل تقرير شدة مكابرة الكفار وإصرارهم على العناد وعدم صدق رغبتهم كما هو شأن الصيغ المماثلة. ونرجو أن يكون الشرح الذي شرحنا به العبارات هو الوجه والصواب.
ولقد أرسل الله رسوله بالبينات والهدى للناس وطلب منهم أن يؤمنوا وبشر المؤمنين وأنذر الكافرين في آيات كثيرة جدا وخاطبهم في آية في سورة الزمر قائلا :﴿ إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ﴾ [ ٧ ] فيتنزه الله عن منعهم من الإيمان.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٠٩:﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ١٠٩ ) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ( ١١٠ ) ﴾[ ١٠٩ – ١١٠ ].
في الآيات حكاية لما كان الكفار يحلفونه من الأيمان الغليظة بأنهم ليؤمنن إذا ما جاءتهم آية من الله مؤيدة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يرد عليهم قائلا : إنما الآيات عند الله وليست في متناول قدرته. وبأن يسأل مخاطبين قريبين عما إذا كان لا يخطر ببالهم أن الله لو أظهر معجزة أن ينقض الحالفون أيمانهم ولا يؤمنوا بها. وتقرير رباني بأن قلوبهم ستظل قاسية وأبصارهم متعامية كما هو دأبهم قبل. ثم يبقون عمهين في طغيانهم مصرين على مكابرتهم لا يؤمنون كدأبهم منذ البدء أو منذ وقفوا مثل هذا الموقف لأول مرة.
تعليق على آية
﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ﴾
ولقد روى المفسرون أن قريشا قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنك تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فتنفجر منه عيون الماء، وأن عيسى كان يحيي الموتى وأن هودا أتى بمعجزة الناقة لثمود فأتنا بآية حتى نصدقك، قال : فإن فعلت ما تقولون، أتصدقونني ؟ قالوا : نعم. والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين. فقال : ما تحبون أن آتيكم به، قالوا اجعل لنا الصفا ذهبا، وابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم عنك، وأتنا بالملائكة يشهدون لك، فقام يدعو ربه فجاءه جبريل يقول له : إن الله يبلغك إن شئت أرسل آية فإن لم يؤمنوا أخذهم بالعذاب وإن شئت تركهم حتى يثوب ثائبهم فقال : بل اتركهم حتى يثوب ثائبهم فنزلت الآيات. وروى الطبري أن جملة ﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ١٠٩ ) ﴾ موجهة إلى المؤمنين لأن هؤلاء قالوا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما طلب المشركون آية وأقسموا أنهم ليؤمنن إذا جاءتهم، سل ربك يا رسول الله ذلك، فوجه الله الخطاب في الآية إليهم.
والآيات لم ترد في الصحاح، ولكنها متساوقة مع فحوى الآيات. وصحتها محتملة وفيها صورة طريفة من صور العهد المكي، وما كان يعتلج في صدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه معا من رغبة ملحة في اهتداء قومهم، وهذه الصورة ملموحة في الآية الأولى ولو لم تصح الروايات.
ومن المحتمل أن تكون الآيات نزلت للمناسبة المذكورة في الروايات بعد الآيات السابقة فوضعت بعدها، ومن المحتمل أن تكون المناسبة سابقة فأشير إليها في سياق الإشارة إلى مواقف المشركين. ونحن نميل إلى ترجيح الاحتمال الثاني ؛ لأن السياق متساوق والآيات معطوفة على ما قبلها.
ولقد علقنا على موضوع تحدي الكفار للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالإتيان بالمعجزة وموقف الوحي القرآني من ذلك وحكمته في سياق تفسير سورة المدثر. وفي هذه الآيات توكيد جديد لهذا الموقف يضاف إلى ما جاء من مثله في سور سبق تفسيرها مثل طه والقصص والإسراء ويونس وهود.
وفيها كذلك تعليل جديد لموقف الكفار وهو أن موقفهم ناشيء عن مكابرة وعناد. وليس موقف رغبة صادقة في الإيمان. وبعض العبارات توهم ظاهرا أن الله سبحانه هو الذي يحول دون إيمان الكفار ويذرهم يستمرون ويعمهون في طغيانهم. والذي يتبادر لنا أن العبارات أسلوبية وبسبيل تقرير شدة مكابرة الكفار وإصرارهم على العناد وعدم صدق رغبتهم كما هو شأن الصيغ المماثلة. ونرجو أن يكون الشرح الذي شرحنا به العبارات هو الوجه والصواب.
ولقد أرسل الله رسوله بالبينات والهدى للناس وطلب منهم أن يؤمنوا وبشر المؤمنين وأنذر الكافرين في آيات كثيرة جدا وخاطبهم في آية في سورة الزمر قائلا :﴿ إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ﴾ [ ٧ ] فيتنزه الله عن منعهم من الإيمان.

﴿ *وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ( ١ ) مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ( ١١١ ) ﴾ [ ١١١ ].
قبلا : عيانا أمامهم.
في الآية تقرير بأن الله لو أنزل الملائكة فرآهم المشركون جهرة وأحيا لهم الموتى فكلموهم ولبى كل ما يقترحون ويطلبون وجعله ماثلا أمامهم عيانا لما آمنوا إلا أن يشاء الله إيمانهم، وأن أكثرهم يجهل هذه الحقيقة ويتصرفون إزاءها تصرف الجهال.
والآية كما هو واضح متصلة بسابقاتها اتصال تعقيب وإيضاح، والمتبادر أنها بسبيل تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين وتثبيتهم وإقناعهم بعدم صدق رغبة المشركين وتصميمهم على المكابرة والجحود على أي حال.
ومع ما هو ظاهر من خصوصية الآية وصلتها بموقف مكابرة الكفار وهدفها من تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه فإن بعض المفسرين وقفوا عند عبادة ﴿ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّه ﴾ وقالوا : إنها تقرر أن المشيئة لله تعالى في كل حال وفي كل أمر. فهو الهادي وهو الضال١. وقال فريق آخر ٢ إنها بمعنى ( إلا أن يجبرهم ويقسرهم على الإيمان ) ونحن نرجح المعنى الثاني الذي انطوى في آيات أخرى بصراحة أكثر، منها ما مر شرحه في هذه السورة وما قبلها. ولا يقتضي هذا ما يحتج به بعض علماء الكلام أن يقع من الكفار ما لا يشاء الله تعالى، وإنما ينطوي فيه معنى أكدته آيات أخرى بصراحة أكثر مرت أمثلة عديدة منها وهو أن حكمة الله وناموس خلقه اقتضيا أن يكون للناس حرية الاختيار والكسب وإرادتهما. وهذا من مشيئة الله الأزلية فليس هناك تعارض على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة وبخاصة في التعليق الذي علقناه على هذا الموضوع في سورة المدثر، ويجب أن نذكر دائما آية سورة الزمر التي أوردناها آنفا فهي من الضوابط في هذا الموضوع وهي تنسب الكفر والشكر للناس.
١ انظر تفسيرها في تفسير ابن كثير مثلا..
٢ انظر المنار والزمخشري والطبرسي..
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( ١١٢ ) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ( ١ ) أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ( ١١٣ ) ﴾ [ ١١٢ – ١١٣ ].
تعليق على الآية
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ ﴾
في الآيات تقرير لمظهر من مظاهر النظام الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري. وهو أن ينبري لكل نبي عدو من شياطين الإنس والجن فيوحي بعضهم إلى بعض بالوساوس وتزيين الباطل وبزخرف القول للتغرير والخداع. وقد تضمنت الفقرة الأخيرة من الآية ثم الآية الثانية تسلية وتطمينا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : فعليه أن لا يأبه بمن انبرى له من الشياطين العتاة بل يدعهم وما يفترون. ولن يكون لهم تأثيرا إلا على الناس الذين لا يؤمنون بالآخرة، فهؤلاء هم الذين تميل قلوبهم إلى ما يقولونه ويزوقونه ويرضون به ليستمروا في اقتراف ما يقترفونه من آثام. أما جملة ﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ﴾ فجائز أن تكون أسلوبية فيها تتمة للتسلية والتطمين، وجائز أن تكون بقصد تقرير كون الله عز وجل لو شاء لمنعهم من فعل ما يفعلونه، ولكنه تركهم لاختيارهم حتى يستحقوا جزاءهم وفاقا له.
وبهذا الشرح المستلهم من فحوى الآيات وروحها لا يبقى إن شاء الله محل للتوهم من ظاهر العبارة بأن الله قد شاء أن يجعل أعداء من الشياطين لكل نبي أرسله.
وفي حصر الميل للشياطين ووساوسهم بالذين لا يؤمنون بالآخرة قرينة على صواب التأويل السابق من جهة وتعليل لذلك الميل من جهة أخرى. فلا يميل إلى وساوس الشياطين إلا الكفار المجرمون الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم الذين يستمرون في اقتراف الآثام وإتباع الشهوات أكثر من غيرهم لأنهم لا يخشون عاقبة أفعالهم بعد الموت.
ولم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآيتين والسياق السابق دار على مواقف الكفار وتعجيزاتهم. والمتبادر أن تعبير شياطين الإنس قد قصد به زعماء الكفار الذين كانوا يقودون المناوأة. أما ذكر شياطين الجن فجائز أن يكون من باب التنديد بزعماء الكفار بتقرير كون مواقفهم متأثرة بوساوس شياطين الجن. وكانوا يعرفون أن الشياطين يوحون إلى الناس ويتنزلون عليهم ويوسوسون لهم على ما يستفاد من آيات عديدة سبق تفسيرها. وقد قرر القرآن في آيات عديدة سبق تفسيرها أن الشياطين إنما يوحون وينزلون على الآثمين الأفاكين وأنهم ليس لهم سلطان على المؤمنين المخلصين فصار التنديد بالكفار مستحكما.
ولتصغي إليه : ولتميل إليه.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٢:﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ( ١١٢ ) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ( ١ ) أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ( ١١٣ ) ﴾ [ ١١٢ – ١١٣ ].
تعليق على الآية
﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ ﴾
في الآيات تقرير لمظهر من مظاهر النظام الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري. وهو أن ينبري لكل نبي عدو من شياطين الإنس والجن فيوحي بعضهم إلى بعض بالوساوس وتزيين الباطل وبزخرف القول للتغرير والخداع. وقد تضمنت الفقرة الأخيرة من الآية ثم الآية الثانية تسلية وتطمينا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : فعليه أن لا يأبه بمن انبرى له من الشياطين العتاة بل يدعهم وما يفترون. ولن يكون لهم تأثيرا إلا على الناس الذين لا يؤمنون بالآخرة، فهؤلاء هم الذين تميل قلوبهم إلى ما يقولونه ويزوقونه ويرضون به ليستمروا في اقتراف ما يقترفونه من آثام. أما جملة ﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ﴾ فجائز أن تكون أسلوبية فيها تتمة للتسلية والتطمين، وجائز أن تكون بقصد تقرير كون الله عز وجل لو شاء لمنعهم من فعل ما يفعلونه، ولكنه تركهم لاختيارهم حتى يستحقوا جزاءهم وفاقا له.
وبهذا الشرح المستلهم من فحوى الآيات وروحها لا يبقى إن شاء الله محل للتوهم من ظاهر العبارة بأن الله قد شاء أن يجعل أعداء من الشياطين لكل نبي أرسله.
وفي حصر الميل للشياطين ووساوسهم بالذين لا يؤمنون بالآخرة قرينة على صواب التأويل السابق من جهة وتعليل لذلك الميل من جهة أخرى. فلا يميل إلى وساوس الشياطين إلا الكفار المجرمون الذين لا يؤمنون بالآخرة وهم الذين يستمرون في اقتراف الآثام وإتباع الشهوات أكثر من غيرهم لأنهم لا يخشون عاقبة أفعالهم بعد الموت.
ولم يرو المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآيتين والسياق السابق دار على مواقف الكفار وتعجيزاتهم. والمتبادر أن تعبير شياطين الإنس قد قصد به زعماء الكفار الذين كانوا يقودون المناوأة. أما ذكر شياطين الجن فجائز أن يكون من باب التنديد بزعماء الكفار بتقرير كون مواقفهم متأثرة بوساوس شياطين الجن. وكانوا يعرفون أن الشياطين يوحون إلى الناس ويتنزلون عليهم ويوسوسون لهم على ما يستفاد من آيات عديدة سبق تفسيرها. وقد قرر القرآن في آيات عديدة سبق تفسيرها أن الشياطين إنما يوحون وينزلون على الآثمين الأفاكين وأنهم ليس لهم سلطان على المؤمنين المخلصين فصار التنديد بالكفار مستحكما.

مفصلا : هنا بمعنى واضح مبين.
الممترين : الشاكين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ( ١ )وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ( ٢ ) ( ١١٤ ) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١١٥ ) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ( ٣ ) ( ١١٦ ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( ١١٧ ) ﴾ [ ١١٤ – ١١٧ ].
في الآيات تساؤل استنكاري بلسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما إذا كان يصح أن يتخذ حكما ومرشدا غير الله تعالى الذي أنزل عليه الكتاب واضحا مبينا ليكون هدى للسامعين المخاطبين. وتقرير رباني بأن الذين أتوا الكتاب من قبله يعلمون أنه منزل بالحق من الله تعالى. وتحذير من الشك والمماراة في ذلك. وتقرير آخر بأن كلمات الله تعالى وأحكامه قد كملت وبلغت الغاية في الإحكام والصدق والعدل بحيث لا يستطيع أحد أن يجرحها ويبدل أو يغير فيها، وهو السميع لكل شيء العليم بكل شيء فلا تصدر أحكامه إلا عن علم شامل لكل مقتض. وتنبيه إلى أن أكثر الناس إنما يسيرون في عقائدهم وأفكارهم بالظن والتخمين والتوهم، وأن السير على طريقتهم وطاعتهم أو مجاراتهم فيما يقولون يؤدي إلى الضلال والانحراف عن سبيل الله. وتقرير فيه معنى التحدي بأن الله تعالى هو الأعلم بحقائق الناس، ومن هو المهتدي ومن هو الضال منهم.
والفقرة الأولى من الآية الأولى تقرير بلسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الكلام انتقل في بقية الآية إلى التقرير الرباني مما لا يدع مجالا للتوهم بأن الكلام الأول هو كلام النبي المباشر. ولقد تكرر هذا ومن ذلك ما جاء في سور سبق تفسيرها. وقد علقنا عليه في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة هود في هذا الجزء بما يغني عن التكرار.
تعليق على الآية
﴿ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
ضمير المفرد المخاطب في الآيات قد يسوغ القول : إن العبارات التي ورد فيها موجهة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالذات. وقد يكون في الآيتين [ ١١٦ و١١٧ ] قرينة قوية على ذلك. وفي هذه الحالة تكون العبارات بسبيل تثبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتدعيمه في موقفه إزاء الأكثرية التي كانت تناوئه وتجادله. وليست بسبيل مفهوم العبارة الحرفي، فيقين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العميق بصدق ما أنزل الله عليه واستحالة جنوحه إلى طاعة الجاحدين والضالين لا يمكن أن تسوغا أخذ العبارة بمفهومها الحرفي الظاهري. وقد تكرر هذا الأسلوب الذي ينطوي فيه هذا المعنى على ما شرحنا في الآيات المماثلة التي سبق تفسيرها.
والآيات قوية نافذة في ما احتوته من تقرير وتثبيت وتحذير وتحد. وبنوع خاص الآية [ ١١٥ ] التي انطوت على بشرى وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن كلام الله الذي أنزل عليه صادق كل الصدق عادل كل العدل متحقق بحذافيره، ولن يستطيع أحد أن يحدث فيه تبديلا.
والمصحف الذي اعتمدناه ذكر أن الآية [ ١١٤ ] مدنية ولم نطلع على ما يؤيد ذلك في كتب أخرى. والآية منسجمة مع الآيات التي تأتي بعدها كل الانسجام، وليس هناك قرينة في السياق يمكن أن يؤيد ذلك. وروح الآية وفحواها يفيدان أنها جاءت كرد على الكفار موضوع الكلام السابق. والمفسرون يعزون كل آية فيها إيمان أهل الكتاب وتصديقهم إلى يهود المدينة، ولعل الرواية جاءت من هذه الناحية غير أن هذا غير مسلم به على إطلاقه، وهناك آيات لا خلاف في مكيتها تذكر ذلك مثل آيات الإسراء [ ١٠٧ و ١٠٨ ] وهناك رواية تكاد تكون يقينية أن أهل الكتاب في مكة أو فريق منهم على الأقل كانوا آمنوا وصدقوا في مكة ومنهم صهيب الرومي الصحابي الجليل.
وصلة الآيات بالسياق السابق واللاحق ملموحة بقوة بحيث يمكن أن تكون من جهة قد جاءت بعد الآيات السابقة للتدعيم والتعقيب. ومن جهة جاءت لتكون مقدمة للآيات اللاحقة في الوقت نفسه، والله تعالى أعلم.
وفحوى الآية [ ١١٤ ] قوي في تثبيته وتدعيمه، والمتبادر منه أن ما ذكر فيها ليس تقريرا لواقع معلوم وحسب، بل هو مستند إلى موقف إيماني وتصديقي من أهل الكتاب ؛ حيث ينطوي في ذلك شهادة عيانية جديدة لأعلام النبوة المحمدية. وصدق القرآن وصلته بالله تعالى من الفريق الذي تغلب الحق فيه على الباطل والرغبة في الإذعان للحق على المكابرة والهوى تضاف إلى شهادات عديدة أخرى مرت أمثلة منها في سور سبق تفسيرها مثل : الأعراف والقصص والإسراء

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ( ١ )وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ( ٢ ) ( ١١٤ ) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١١٥ ) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ( ٣ ) ( ١١٦ ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( ١١٧ ) ﴾ [ ١١٤ – ١١٧ ].
في الآيات تساؤل استنكاري بلسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما إذا كان يصح أن يتخذ حكما ومرشدا غير الله تعالى الذي أنزل عليه الكتاب واضحا مبينا ليكون هدى للسامعين المخاطبين. وتقرير رباني بأن الذين أتوا الكتاب من قبله يعلمون أنه منزل بالحق من الله تعالى. وتحذير من الشك والمماراة في ذلك. وتقرير آخر بأن كلمات الله تعالى وأحكامه قد كملت وبلغت الغاية في الإحكام والصدق والعدل بحيث لا يستطيع أحد أن يجرحها ويبدل أو يغير فيها، وهو السميع لكل شيء العليم بكل شيء فلا تصدر أحكامه إلا عن علم شامل لكل مقتض. وتنبيه إلى أن أكثر الناس إنما يسيرون في عقائدهم وأفكارهم بالظن والتخمين والتوهم، وأن السير على طريقتهم وطاعتهم أو مجاراتهم فيما يقولون يؤدي إلى الضلال والانحراف عن سبيل الله. وتقرير فيه معنى التحدي بأن الله تعالى هو الأعلم بحقائق الناس، ومن هو المهتدي ومن هو الضال منهم.
والفقرة الأولى من الآية الأولى تقرير بلسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الكلام انتقل في بقية الآية إلى التقرير الرباني مما لا يدع مجالا للتوهم بأن الكلام الأول هو كلام النبي المباشر. ولقد تكرر هذا ومن ذلك ما جاء في سور سبق تفسيرها. وقد علقنا عليه في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة هود في هذا الجزء بما يغني عن التكرار.
تعليق على الآية
﴿ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
ضمير المفرد المخاطب في الآيات قد يسوغ القول : إن العبارات التي ورد فيها موجهة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالذات. وقد يكون في الآيتين [ ١١٦ و١١٧ ] قرينة قوية على ذلك. وفي هذه الحالة تكون العبارات بسبيل تثبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتدعيمه في موقفه إزاء الأكثرية التي كانت تناوئه وتجادله. وليست بسبيل مفهوم العبارة الحرفي، فيقين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العميق بصدق ما أنزل الله عليه واستحالة جنوحه إلى طاعة الجاحدين والضالين لا يمكن أن تسوغا أخذ العبارة بمفهومها الحرفي الظاهري. وقد تكرر هذا الأسلوب الذي ينطوي فيه هذا المعنى على ما شرحنا في الآيات المماثلة التي سبق تفسيرها.
والآيات قوية نافذة في ما احتوته من تقرير وتثبيت وتحذير وتحد. وبنوع خاص الآية [ ١١٥ ] التي انطوت على بشرى وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن كلام الله الذي أنزل عليه صادق كل الصدق عادل كل العدل متحقق بحذافيره، ولن يستطيع أحد أن يحدث فيه تبديلا.
والمصحف الذي اعتمدناه ذكر أن الآية [ ١١٤ ] مدنية ولم نطلع على ما يؤيد ذلك في كتب أخرى. والآية منسجمة مع الآيات التي تأتي بعدها كل الانسجام، وليس هناك قرينة في السياق يمكن أن يؤيد ذلك. وروح الآية وفحواها يفيدان أنها جاءت كرد على الكفار موضوع الكلام السابق. والمفسرون يعزون كل آية فيها إيمان أهل الكتاب وتصديقهم إلى يهود المدينة، ولعل الرواية جاءت من هذه الناحية غير أن هذا غير مسلم به على إطلاقه، وهناك آيات لا خلاف في مكيتها تذكر ذلك مثل آيات الإسراء [ ١٠٧ و ١٠٨ ] وهناك رواية تكاد تكون يقينية أن أهل الكتاب في مكة أو فريق منهم على الأقل كانوا آمنوا وصدقوا في مكة ومنهم صهيب الرومي الصحابي الجليل.
وصلة الآيات بالسياق السابق واللاحق ملموحة بقوة بحيث يمكن أن تكون من جهة قد جاءت بعد الآيات السابقة للتدعيم والتعقيب. ومن جهة جاءت لتكون مقدمة للآيات اللاحقة في الوقت نفسه، والله تعالى أعلم.
وفحوى الآية [ ١١٤ ] قوي في تثبيته وتدعيمه، والمتبادر منه أن ما ذكر فيها ليس تقريرا لواقع معلوم وحسب، بل هو مستند إلى موقف إيماني وتصديقي من أهل الكتاب ؛ حيث ينطوي في ذلك شهادة عيانية جديدة لأعلام النبوة المحمدية. وصدق القرآن وصلته بالله تعالى من الفريق الذي تغلب الحق فيه على الباطل والرغبة في الإذعان للحق على المكابرة والهوى تضاف إلى شهادات عديدة أخرى مرت أمثلة منها في سور سبق تفسيرها مثل : الأعراف والقصص والإسراء

يخرصون : يخمنون تخمينا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ( ١ )وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ( ٢ ) ( ١١٤ ) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١١٥ ) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ( ٣ ) ( ١١٦ ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( ١١٧ ) ﴾ [ ١١٤ – ١١٧ ].
في الآيات تساؤل استنكاري بلسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما إذا كان يصح أن يتخذ حكما ومرشدا غير الله تعالى الذي أنزل عليه الكتاب واضحا مبينا ليكون هدى للسامعين المخاطبين. وتقرير رباني بأن الذين أتوا الكتاب من قبله يعلمون أنه منزل بالحق من الله تعالى. وتحذير من الشك والمماراة في ذلك. وتقرير آخر بأن كلمات الله تعالى وأحكامه قد كملت وبلغت الغاية في الإحكام والصدق والعدل بحيث لا يستطيع أحد أن يجرحها ويبدل أو يغير فيها، وهو السميع لكل شيء العليم بكل شيء فلا تصدر أحكامه إلا عن علم شامل لكل مقتض. وتنبيه إلى أن أكثر الناس إنما يسيرون في عقائدهم وأفكارهم بالظن والتخمين والتوهم، وأن السير على طريقتهم وطاعتهم أو مجاراتهم فيما يقولون يؤدي إلى الضلال والانحراف عن سبيل الله. وتقرير فيه معنى التحدي بأن الله تعالى هو الأعلم بحقائق الناس، ومن هو المهتدي ومن هو الضال منهم.
والفقرة الأولى من الآية الأولى تقرير بلسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الكلام انتقل في بقية الآية إلى التقرير الرباني مما لا يدع مجالا للتوهم بأن الكلام الأول هو كلام النبي المباشر. ولقد تكرر هذا ومن ذلك ما جاء في سور سبق تفسيرها. وقد علقنا عليه في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة هود في هذا الجزء بما يغني عن التكرار.
تعليق على الآية
﴿ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
ضمير المفرد المخاطب في الآيات قد يسوغ القول : إن العبارات التي ورد فيها موجهة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالذات. وقد يكون في الآيتين [ ١١٦ و١١٧ ] قرينة قوية على ذلك. وفي هذه الحالة تكون العبارات بسبيل تثبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتدعيمه في موقفه إزاء الأكثرية التي كانت تناوئه وتجادله. وليست بسبيل مفهوم العبارة الحرفي، فيقين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العميق بصدق ما أنزل الله عليه واستحالة جنوحه إلى طاعة الجاحدين والضالين لا يمكن أن تسوغا أخذ العبارة بمفهومها الحرفي الظاهري. وقد تكرر هذا الأسلوب الذي ينطوي فيه هذا المعنى على ما شرحنا في الآيات المماثلة التي سبق تفسيرها.
والآيات قوية نافذة في ما احتوته من تقرير وتثبيت وتحذير وتحد. وبنوع خاص الآية [ ١١٥ ] التي انطوت على بشرى وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن كلام الله الذي أنزل عليه صادق كل الصدق عادل كل العدل متحقق بحذافيره، ولن يستطيع أحد أن يحدث فيه تبديلا.
والمصحف الذي اعتمدناه ذكر أن الآية [ ١١٤ ] مدنية ولم نطلع على ما يؤيد ذلك في كتب أخرى. والآية منسجمة مع الآيات التي تأتي بعدها كل الانسجام، وليس هناك قرينة في السياق يمكن أن يؤيد ذلك. وروح الآية وفحواها يفيدان أنها جاءت كرد على الكفار موضوع الكلام السابق. والمفسرون يعزون كل آية فيها إيمان أهل الكتاب وتصديقهم إلى يهود المدينة، ولعل الرواية جاءت من هذه الناحية غير أن هذا غير مسلم به على إطلاقه، وهناك آيات لا خلاف في مكيتها تذكر ذلك مثل آيات الإسراء [ ١٠٧ و ١٠٨ ] وهناك رواية تكاد تكون يقينية أن أهل الكتاب في مكة أو فريق منهم على الأقل كانوا آمنوا وصدقوا في مكة ومنهم صهيب الرومي الصحابي الجليل.
وصلة الآيات بالسياق السابق واللاحق ملموحة بقوة بحيث يمكن أن تكون من جهة قد جاءت بعد الآيات السابقة للتدعيم والتعقيب. ومن جهة جاءت لتكون مقدمة للآيات اللاحقة في الوقت نفسه، والله تعالى أعلم.
وفحوى الآية [ ١١٤ ] قوي في تثبيته وتدعيمه، والمتبادر منه أن ما ذكر فيها ليس تقريرا لواقع معلوم وحسب، بل هو مستند إلى موقف إيماني وتصديقي من أهل الكتاب ؛ حيث ينطوي في ذلك شهادة عيانية جديدة لأعلام النبوة المحمدية. وصدق القرآن وصلته بالله تعالى من الفريق الذي تغلب الحق فيه على الباطل والرغبة في الإذعان للحق على المكابرة والهوى تضاف إلى شهادات عديدة أخرى مرت أمثلة منها في سور سبق تفسيرها مثل : الأعراف والقصص والإسراء

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً ( ١ )وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ( ٢ ) ( ١١٤ ) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( ١١٥ ) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ( ٣ ) ( ١١٦ ) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ( ١١٧ ) ﴾ [ ١١٤ – ١١٧ ].
في الآيات تساؤل استنكاري بلسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم عما إذا كان يصح أن يتخذ حكما ومرشدا غير الله تعالى الذي أنزل عليه الكتاب واضحا مبينا ليكون هدى للسامعين المخاطبين. وتقرير رباني بأن الذين أتوا الكتاب من قبله يعلمون أنه منزل بالحق من الله تعالى. وتحذير من الشك والمماراة في ذلك. وتقرير آخر بأن كلمات الله تعالى وأحكامه قد كملت وبلغت الغاية في الإحكام والصدق والعدل بحيث لا يستطيع أحد أن يجرحها ويبدل أو يغير فيها، وهو السميع لكل شيء العليم بكل شيء فلا تصدر أحكامه إلا عن علم شامل لكل مقتض. وتنبيه إلى أن أكثر الناس إنما يسيرون في عقائدهم وأفكارهم بالظن والتخمين والتوهم، وأن السير على طريقتهم وطاعتهم أو مجاراتهم فيما يقولون يؤدي إلى الضلال والانحراف عن سبيل الله. وتقرير فيه معنى التحدي بأن الله تعالى هو الأعلم بحقائق الناس، ومن هو المهتدي ومن هو الضال منهم.
والفقرة الأولى من الآية الأولى تقرير بلسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الكلام انتقل في بقية الآية إلى التقرير الرباني مما لا يدع مجالا للتوهم بأن الكلام الأول هو كلام النبي المباشر. ولقد تكرر هذا ومن ذلك ما جاء في سور سبق تفسيرها. وقد علقنا عليه في سياق تفسير الآيات الأولى من سورة هود في هذا الجزء بما يغني عن التكرار.
تعليق على الآية
﴿ أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
ضمير المفرد المخاطب في الآيات قد يسوغ القول : إن العبارات التي ورد فيها موجهة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالذات. وقد يكون في الآيتين [ ١١٦ و١١٧ ] قرينة قوية على ذلك. وفي هذه الحالة تكون العبارات بسبيل تثبيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتدعيمه في موقفه إزاء الأكثرية التي كانت تناوئه وتجادله. وليست بسبيل مفهوم العبارة الحرفي، فيقين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العميق بصدق ما أنزل الله عليه واستحالة جنوحه إلى طاعة الجاحدين والضالين لا يمكن أن تسوغا أخذ العبارة بمفهومها الحرفي الظاهري. وقد تكرر هذا الأسلوب الذي ينطوي فيه هذا المعنى على ما شرحنا في الآيات المماثلة التي سبق تفسيرها.
والآيات قوية نافذة في ما احتوته من تقرير وتثبيت وتحذير وتحد. وبنوع خاص الآية [ ١١٥ ] التي انطوت على بشرى وتطمين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن كلام الله الذي أنزل عليه صادق كل الصدق عادل كل العدل متحقق بحذافيره، ولن يستطيع أحد أن يحدث فيه تبديلا.
والمصحف الذي اعتمدناه ذكر أن الآية [ ١١٤ ] مدنية ولم نطلع على ما يؤيد ذلك في كتب أخرى. والآية منسجمة مع الآيات التي تأتي بعدها كل الانسجام، وليس هناك قرينة في السياق يمكن أن يؤيد ذلك. وروح الآية وفحواها يفيدان أنها جاءت كرد على الكفار موضوع الكلام السابق. والمفسرون يعزون كل آية فيها إيمان أهل الكتاب وتصديقهم إلى يهود المدينة، ولعل الرواية جاءت من هذه الناحية غير أن هذا غير مسلم به على إطلاقه، وهناك آيات لا خلاف في مكيتها تذكر ذلك مثل آيات الإسراء [ ١٠٧ و ١٠٨ ] وهناك رواية تكاد تكون يقينية أن أهل الكتاب في مكة أو فريق منهم على الأقل كانوا آمنوا وصدقوا في مكة ومنهم صهيب الرومي الصحابي الجليل.
وصلة الآيات بالسياق السابق واللاحق ملموحة بقوة بحيث يمكن أن تكون من جهة قد جاءت بعد الآيات السابقة للتدعيم والتعقيب. ومن جهة جاءت لتكون مقدمة للآيات اللاحقة في الوقت نفسه، والله تعالى أعلم.
وفحوى الآية [ ١١٤ ] قوي في تثبيته وتدعيمه، والمتبادر منه أن ما ذكر فيها ليس تقريرا لواقع معلوم وحسب، بل هو مستند إلى موقف إيماني وتصديقي من أهل الكتاب ؛ حيث ينطوي في ذلك شهادة عيانية جديدة لأعلام النبوة المحمدية. وصدق القرآن وصلته بالله تعالى من الفريق الذي تغلب الحق فيه على الباطل والرغبة في الإذعان للحق على المكابرة والهوى تضاف إلى شهادات عديدة أخرى مرت أمثلة منها في سور سبق تفسيرها مثل : الأعراف والقصص والإسراء

﴿ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ( ١١٨ ) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ( ١١٩ ) وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ ( ١٢٠ ) وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ( ١ ) وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ( ١٢١ ) ﴾[ ١١٨ – ١٢١ ].
في الآيات أمر رباني موجه للمسلمين بأن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وتحذير لهم بعدم التردد في ذلك لأن الله تعالى قد بين لهم ما حرم عليهم في غير ظروف الاضطرار، وإشارة إلى أن كثيرا من الناس يفعلون ما يفعلون بسائق الهوى فينحرفون عن سبيل الله وتقرير بأن الله تعالى يعلم الذين يتجاوزون الحدود التي رسمها ويعتدون في تصرفاتهم. وأمر آخر للمسلمين بالابتعاد عن الإثم ظاهره وباطنه وعلنه وسره، وإنذار للذين يقترفون الإثم بأنهم سينالهم القصاص الحق العادل ونهي للمسلمين عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ؛ لأن ذلك يجعله فسقا وإثما وخروجا على أوامر الله وحدوده. وتنبيه إلى أن الشياطين يوسوسون إلى أوليائهم ليجادلوا المسلمين في هذه المواضيع وتحذير للمسلمين من مجاراتهم ومطاوعتهم لأنهم بذلك يغدون مشركين مثلهم.
تعليق على آية
﴿ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
وجمهور المفسرين على أن الذي أمر المسلمون بأكله إذا ذكر اسم الله عليه في الآيات ونهوا عن أكله إذا لم يذكر اسم الله عليه هو المواشي والذبائح. وهذا مؤيد بآيات قرآنية أخرى جاء فيها ذكر ذلك صراحة وهي آية سورة المائدة :
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٣ ) ﴾.
والآيات وإن كانت تبدو فصلا جديدا فإن مما يمكن أن يستلهم من مضمونها ومضمون سابقاتها أنها غير منقطعة الصلة بالآيات السابقة لها وأنها متصلة بما كان يقوم بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من جهة، والكفار من جهة ثانية من مواقف جدلية متنوعة مما حكته فصول السورة.
ولقد أورد المفسرون١ في سياقها روايات متنوعة، ذكر فيها أن المشركين أو اليهود كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه النقطة. وهناك رواية تذكر أن أناسا من المسلمين قالوا يا رسول الله كيف نأكل ما نقتله، ولا نأكل ما يقتله الله فنزلت الآية [ ١١٤ ].
ورواية المجوس تبدو غريبة جدا، وأكل الميتة عند اليهود محرم فلا يعقل أن يكون من المنتقدين لعدم أكل الميتة أو المجادلة فيه. وأوثق الروايات هو الرواية الأخيرة فقد رواها الترمذي عن ابن عباس٢ والروايات الأخرى لم ترد في كتب الصحاح.
ويلحظ من جهة أن الآيات ليست في صدد أكل الميتة وإنما هي في صدد الحث على الأكل مما ذكر اسم الله عليه، والنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، وأن الآية [ ١١٤ ] من جهة أخرى من سلسلة متكاملة فضلا عن الاتصال الملموح بين هذه السلسلة وبين الآيات السابقة.
ومهما يكن من أمر فالآيات تلهم أنه كان يقع بين المسلمين والمشركين جدل ومناظرات في صدد الذبائح، فالمشركون كانوا يأكلون ما يموت حتف أنفه ولم يكونوا يذكرون كذلك اسم الله تعالى على ما يذبحونه.
وتلهم أن بعض النبهاء من الزعماء كانوا يلقنون الذين يتصلون بالمسلمين من الكفار ما يجادلونهم به من حجج، وأن بعض المسلمين كانوا يترددون في هذه الأمور لسابق عهدهم بالتقاليد التي كانوا يجرون عليها قبل إسلامهم. فنزلت الآيات للقضاء على هذا التردد، ولبيان الأمور بصورة حاسمة على الوجه الذي جاءت به، وللتنبيه إلى أن التقاليد الجاهلية ليست قائمة على علم وحق وإنما هي بنت الأوهام والأهواء والظنون، وأن السير على هذه التقاليد ومطاوعة المشركين فيها هو شرك.
وهكذا تكون الآيات من الفصول الحاسمة التي جاءت لهدم تقليد من تقاليد الشرك والجاهلية.
ولقد أشكل على المفسرين محتوى الآية الثانية التي تذكر أن الله قد فصل للمسلمين ما حرم عليهم ؛ لأن ذلك لم يرد في السور السابقة في النزول سورة الأنعام. وبعضهم قال : إن تفصيل ذلك ورد في آية سورة المائدة التي أوردنا نصها قبل قليل. وبعضهم أنكر ذلك لأن سورة المائدة مدنية ورد التفصيل إلى ما احتوته آيات تأتي قريبا في سورة الأنعام٣ وهو وجيه مع فرض أن الآيات المذكورة نزلت مع هذه الآيات دفعة واحدة وهو فرض في محله.
ولم نر المفسرين فيما اطلعنا عليه يتعرضون لتعليل تردد المسلمين في أكل ما كان يذكر اسم الله عليه حتى اقتضت حكمة التنزيل إباحته والحث عليه بالأسلوب القوي الذي جاءت عليه الآيتان الأولى والثانية. ولقد روى المفسرون في سياق آية سورة الحج هذه :﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ( ٢٨ ) ﴾
أن العرب كانوا لا يأكلون ما يقربونه لآلهتهم أو ينذرون تقريبه لهم. فلما أسلم منهم من أسلم وصاروا يذكرون اسم الله على القرابين التي يقربونها لله في موسم الحج وغيره، أو ينذرون تقريبها لله ظلوا على عادتهم في الامتناع عن الأكل منها. والمتبادر أن الوارد في الآية متصل بذلك.
وللفقهاء أقوال متنوعة في صدد هذا الموضوع على ما ورد في كتب التفسير، فبعضهم أوجب ذكر اسم الله جهرا عند ذبح الذبيحة، وبعضهم قال : تكفي النية. وبعضهم قال بحل الذبيحة التي يذبحها المسلم ولو نسي ذكر الله عليها، أو حتى لو تعمد عدم ذكره. وبعضهم قال بحل ما نسي دون العمد. وبعضهم توقف في الذبيحة التي لا يعرف بجزم أنها ذكر اسم الله عليها. وبعضهم أباح ذلك إذا كان يعرف يقينا أن الذابح مسلم. وهناك أحاديث نبوية صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المدني على الأرجح في هذا الصدد لم نر بأسا في إيراد ما فيه التوضيح في مناسبة التشريع الذي احتوته الآيات التي نحن في صددها. منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد.
ومن الأول حديث رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة ( قالوا يا رسول الله إن قوما حديثو عهد بجاهلية يأتوننا بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليه أو لا، أنأكل منها ؟ فقال سموا الله وكلوا )٤. ومن الثاني أحاديث أوردها ابن كثير واحد بتخريج الحافظ بن عدي عن أبي هريرة قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي فقال النبي : اسم الله على كل مسلم ). وواحد بتخريج البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكل ). وواحد بتخريج أبي داود عن الصلت السدوسي قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر، إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله ).
وتعليقا على ذلك نقول : إنه يتبادر لنا أن المقصود بحل أكل ما يذكر اسم الله عليه من الذبائح وتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه هو تثبيت فكرة الله وحده في نفوس المسلمين ومخالفة المشركين الذين كانوا يغفلون عن ذلك أو يذبحون لشركائهم أو يشركون شركاءهم مع الله عند الذبح. وأن المحرم هو ما ذبحه المشركون الذين يعرف يقينا أنهم لا يذكرون اسم الله وحده. وأن القول بجواز ذكر الله سرا أو نية من قبل المسلم أو حل ذبيحة المسلم لو نسي ذكر الله صواب حتى لو لم تصح الأحاديث التي أوردها ابن كثير. أما القول بحل ذبيحة المسلم إذا تعمد عدم ذكر الله ففيه نظر فيما يتبادر لنا ؛ لأنه مخالف لنص الآية بدون عذر لنسيان. وصفة المسلم لا تكفي هنا إزاء النص فضلا عن إثم هذا المسلم لتعمده إساءة الأدب مع الله بعدم ذكره اسمه مع إيجاب القرآن ذلك.
وللفقهاء كلام في صدد ذبيحة الكتابي على ما جاء في كتب التفسير، فمنهم من أحلها إطلاقا لنص آية المائدة هذه :﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ﴾ [ ٥ ] ومنهم من أحلها إذا تيقن المسلم أنهم لم يذكروا اسم المسيح أو مريم عليها وحرمها إذا تيقن لأن القرآن حرم أكل ما يهل به لغير الله على ما جاء في آية سورة المائدة الثالثة وغيرها وأجازها إذا لم يتيقن من ذلك. ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه والله تعالى أعلم.
وهناك أحاديث وأقوال أخرى في صدد المحرمات من الحيوانات وكيفيات الذبح سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.
تعليق على جملة
﴿ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾
لقد احتوت هذه الجملة مبدأ من المبادئ القرآنية الجليلة وهو رفع الحظر عن المنبهات حين الاضطرار.
ومع أنه جاء هنا وتكرر أكثر من مرة في صدد الذبائح والأطعمة المحرمة مما سيأتي مثال له في آيات قريبة من هذه السورة فإن هناك آيات أخرى تلهم أنه من المبادئ القرآنية العامة، ومنها آية سورة النحل هذه :﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ( ١٠٦ ) ﴾.
وواضح أن القرآن في إقراره هذا المبدأ قد تمشى مع ظروف الحياة وطبائع الأمور، من حيث إن الأوامر والنواهي إنما يمكن تنفيذها ضمن نطاق الإمكان والوسع وانتفاء الخطر والضرر والاضطرار، وهذا المبدأ شبيه لمبدأ عدم تكليف الله نفسا إلا وسعا الذي شرعناه في سياق الآية [ ٤٢ ] من سورة الأعراف وأوردنا في مناسبته أحاديث عديدة متساوية مع التلقين القرآني، والأحاديث واردة بالنسبة لهذا المبدأ كما هي بالنسبة لذاك ويحسن بالقارئ أن يرجع إليها لتكون الصورة ماثلة له وهو يقرأ هذه الكلمة.
وبمثل هذا المبدأ وذاك صلحت الشريعة الإسلامية للخلود والتطبيق في كل ظروف ومكان. والمتبادر أن القاعدة الشرعية القائلة ( الضرورات تبيح المحظورات ) قد استندت إلى هذا المبدأ. وهناك آيات قررت بصراحة أن حالة الاضطرار التي تبيح المحظور يجب أن تكون بقدر الضرورة وعدم تجاوز هذا الحد، منها الآية [ ١٤٥ ] من سورة الأنعام الآتية قريبا، وهذا مما يقف دون القول إن هذا المبدأ قد ي
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والبغوي والخازن..
٢ روى هذا الترمذي، انظر التاج جـ ٤ ص ١٠١..
٣ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي والطبرسي..
٤ التاج جـ ٣ ص ٩٥..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٨:﴿ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ( ١١٨ ) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ( ١١٩ ) وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ ( ١٢٠ ) وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ( ١ ) وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ( ١٢١ ) ﴾[ ١١٨ – ١٢١ ].
في الآيات أمر رباني موجه للمسلمين بأن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وتحذير لهم بعدم التردد في ذلك لأن الله تعالى قد بين لهم ما حرم عليهم في غير ظروف الاضطرار، وإشارة إلى أن كثيرا من الناس يفعلون ما يفعلون بسائق الهوى فينحرفون عن سبيل الله وتقرير بأن الله تعالى يعلم الذين يتجاوزون الحدود التي رسمها ويعتدون في تصرفاتهم. وأمر آخر للمسلمين بالابتعاد عن الإثم ظاهره وباطنه وعلنه وسره، وإنذار للذين يقترفون الإثم بأنهم سينالهم القصاص الحق العادل ونهي للمسلمين عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ؛ لأن ذلك يجعله فسقا وإثما وخروجا على أوامر الله وحدوده. وتنبيه إلى أن الشياطين يوسوسون إلى أوليائهم ليجادلوا المسلمين في هذه المواضيع وتحذير للمسلمين من مجاراتهم ومطاوعتهم لأنهم بذلك يغدون مشركين مثلهم.
تعليق على آية
﴿ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
وجمهور المفسرين على أن الذي أمر المسلمون بأكله إذا ذكر اسم الله عليه في الآيات ونهوا عن أكله إذا لم يذكر اسم الله عليه هو المواشي والذبائح. وهذا مؤيد بآيات قرآنية أخرى جاء فيها ذكر ذلك صراحة وهي آية سورة المائدة :
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٣ ) ﴾.
والآيات وإن كانت تبدو فصلا جديدا فإن مما يمكن أن يستلهم من مضمونها ومضمون سابقاتها أنها غير منقطعة الصلة بالآيات السابقة لها وأنها متصلة بما كان يقوم بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من جهة، والكفار من جهة ثانية من مواقف جدلية متنوعة مما حكته فصول السورة.
ولقد أورد المفسرون١ في سياقها روايات متنوعة، ذكر فيها أن المشركين أو اليهود كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه النقطة. وهناك رواية تذكر أن أناسا من المسلمين قالوا يا رسول الله كيف نأكل ما نقتله، ولا نأكل ما يقتله الله فنزلت الآية [ ١١٤ ].
ورواية المجوس تبدو غريبة جدا، وأكل الميتة عند اليهود محرم فلا يعقل أن يكون من المنتقدين لعدم أكل الميتة أو المجادلة فيه. وأوثق الروايات هو الرواية الأخيرة فقد رواها الترمذي عن ابن عباس٢ والروايات الأخرى لم ترد في كتب الصحاح.
ويلحظ من جهة أن الآيات ليست في صدد أكل الميتة وإنما هي في صدد الحث على الأكل مما ذكر اسم الله عليه، والنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، وأن الآية [ ١١٤ ] من جهة أخرى من سلسلة متكاملة فضلا عن الاتصال الملموح بين هذه السلسلة وبين الآيات السابقة.
ومهما يكن من أمر فالآيات تلهم أنه كان يقع بين المسلمين والمشركين جدل ومناظرات في صدد الذبائح، فالمشركون كانوا يأكلون ما يموت حتف أنفه ولم يكونوا يذكرون كذلك اسم الله تعالى على ما يذبحونه.
وتلهم أن بعض النبهاء من الزعماء كانوا يلقنون الذين يتصلون بالمسلمين من الكفار ما يجادلونهم به من حجج، وأن بعض المسلمين كانوا يترددون في هذه الأمور لسابق عهدهم بالتقاليد التي كانوا يجرون عليها قبل إسلامهم. فنزلت الآيات للقضاء على هذا التردد، ولبيان الأمور بصورة حاسمة على الوجه الذي جاءت به، وللتنبيه إلى أن التقاليد الجاهلية ليست قائمة على علم وحق وإنما هي بنت الأوهام والأهواء والظنون، وأن السير على هذه التقاليد ومطاوعة المشركين فيها هو شرك.
وهكذا تكون الآيات من الفصول الحاسمة التي جاءت لهدم تقليد من تقاليد الشرك والجاهلية.
ولقد أشكل على المفسرين محتوى الآية الثانية التي تذكر أن الله قد فصل للمسلمين ما حرم عليهم ؛ لأن ذلك لم يرد في السور السابقة في النزول سورة الأنعام. وبعضهم قال : إن تفصيل ذلك ورد في آية سورة المائدة التي أوردنا نصها قبل قليل. وبعضهم أنكر ذلك لأن سورة المائدة مدنية ورد التفصيل إلى ما احتوته آيات تأتي قريبا في سورة الأنعام٣ وهو وجيه مع فرض أن الآيات المذكورة نزلت مع هذه الآيات دفعة واحدة وهو فرض في محله.
ولم نر المفسرين فيما اطلعنا عليه يتعرضون لتعليل تردد المسلمين في أكل ما كان يذكر اسم الله عليه حتى اقتضت حكمة التنزيل إباحته والحث عليه بالأسلوب القوي الذي جاءت عليه الآيتان الأولى والثانية. ولقد روى المفسرون في سياق آية سورة الحج هذه :﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ( ٢٨ ) ﴾
أن العرب كانوا لا يأكلون ما يقربونه لآلهتهم أو ينذرون تقريبه لهم. فلما أسلم منهم من أسلم وصاروا يذكرون اسم الله على القرابين التي يقربونها لله في موسم الحج وغيره، أو ينذرون تقريبها لله ظلوا على عادتهم في الامتناع عن الأكل منها. والمتبادر أن الوارد في الآية متصل بذلك.
وللفقهاء أقوال متنوعة في صدد هذا الموضوع على ما ورد في كتب التفسير، فبعضهم أوجب ذكر اسم الله جهرا عند ذبح الذبيحة، وبعضهم قال : تكفي النية. وبعضهم قال بحل الذبيحة التي يذبحها المسلم ولو نسي ذكر الله عليها، أو حتى لو تعمد عدم ذكره. وبعضهم قال بحل ما نسي دون العمد. وبعضهم توقف في الذبيحة التي لا يعرف بجزم أنها ذكر اسم الله عليها. وبعضهم أباح ذلك إذا كان يعرف يقينا أن الذابح مسلم. وهناك أحاديث نبوية صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المدني على الأرجح في هذا الصدد لم نر بأسا في إيراد ما فيه التوضيح في مناسبة التشريع الذي احتوته الآيات التي نحن في صددها. منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد.
ومن الأول حديث رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة ( قالوا يا رسول الله إن قوما حديثو عهد بجاهلية يأتوننا بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليه أو لا، أنأكل منها ؟ فقال سموا الله وكلوا )٤. ومن الثاني أحاديث أوردها ابن كثير واحد بتخريج الحافظ بن عدي عن أبي هريرة قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي فقال النبي : اسم الله على كل مسلم ). وواحد بتخريج البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكل ). وواحد بتخريج أبي داود عن الصلت السدوسي قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر، إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله ).
وتعليقا على ذلك نقول : إنه يتبادر لنا أن المقصود بحل أكل ما يذكر اسم الله عليه من الذبائح وتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه هو تثبيت فكرة الله وحده في نفوس المسلمين ومخالفة المشركين الذين كانوا يغفلون عن ذلك أو يذبحون لشركائهم أو يشركون شركاءهم مع الله عند الذبح. وأن المحرم هو ما ذبحه المشركون الذين يعرف يقينا أنهم لا يذكرون اسم الله وحده. وأن القول بجواز ذكر الله سرا أو نية من قبل المسلم أو حل ذبيحة المسلم لو نسي ذكر الله صواب حتى لو لم تصح الأحاديث التي أوردها ابن كثير. أما القول بحل ذبيحة المسلم إذا تعمد عدم ذكر الله ففيه نظر فيما يتبادر لنا ؛ لأنه مخالف لنص الآية بدون عذر لنسيان. وصفة المسلم لا تكفي هنا إزاء النص فضلا عن إثم هذا المسلم لتعمده إساءة الأدب مع الله بعدم ذكره اسمه مع إيجاب القرآن ذلك.
وللفقهاء كلام في صدد ذبيحة الكتابي على ما جاء في كتب التفسير، فمنهم من أحلها إطلاقا لنص آية المائدة هذه :﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ﴾ [ ٥ ] ومنهم من أحلها إذا تيقن المسلم أنهم لم يذكروا اسم المسيح أو مريم عليها وحرمها إذا تيقن لأن القرآن حرم أكل ما يهل به لغير الله على ما جاء في آية سورة المائدة الثالثة وغيرها وأجازها إذا لم يتيقن من ذلك. ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه والله تعالى أعلم.
وهناك أحاديث وأقوال أخرى في صدد المحرمات من الحيوانات وكيفيات الذبح سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.
تعليق على جملة
﴿ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾
لقد احتوت هذه الجملة مبدأ من المبادئ القرآنية الجليلة وهو رفع الحظر عن المنبهات حين الاضطرار.
ومع أنه جاء هنا وتكرر أكثر من مرة في صدد الذبائح والأطعمة المحرمة مما سيأتي مثال له في آيات قريبة من هذه السورة فإن هناك آيات أخرى تلهم أنه من المبادئ القرآنية العامة، ومنها آية سورة النحل هذه :﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ( ١٠٦ ) ﴾.
وواضح أن القرآن في إقراره هذا المبدأ قد تمشى مع ظروف الحياة وطبائع الأمور، من حيث إن الأوامر والنواهي إنما يمكن تنفيذها ضمن نطاق الإمكان والوسع وانتفاء الخطر والضرر والاضطرار، وهذا المبدأ شبيه لمبدأ عدم تكليف الله نفسا إلا وسعا الذي شرعناه في سياق الآية [ ٤٢ ] من سورة الأعراف وأوردنا في مناسبته أحاديث عديدة متساوية مع التلقين القرآني، والأحاديث واردة بالنسبة لهذا المبدأ كما هي بالنسبة لذاك ويحسن بالقارئ أن يرجع إليها لتكون الصورة ماثلة له وهو يقرأ هذه الكلمة.
وبمثل هذا المبدأ وذاك صلحت الشريعة الإسلامية للخلود والتطبيق في كل ظروف ومكان. والمتبادر أن القاعدة الشرعية القائلة ( الضرورات تبيح المحظورات ) قد استندت إلى هذا المبدأ. وهناك آيات قررت بصراحة أن حالة الاضطرار التي تبيح المحظور يجب أن تكون بقدر الضرورة وعدم تجاوز هذا الحد، منها الآية [ ١٤٥ ] من سورة الأنعام الآتية قريبا، وهذا مما يقف دون القول إن هذا المبدأ قد ي
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والبغوي والخازن..
٢ روى هذا الترمذي، انظر التاج جـ ٤ ص ١٠١..
٣ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي والطبرسي..
٤ التاج جـ ٣ ص ٩٥..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٨:﴿ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ( ١١٨ ) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ( ١١٩ ) وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ ( ١٢٠ ) وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ( ١ ) وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ( ١٢١ ) ﴾[ ١١٨ – ١٢١ ].
في الآيات أمر رباني موجه للمسلمين بأن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وتحذير لهم بعدم التردد في ذلك لأن الله تعالى قد بين لهم ما حرم عليهم في غير ظروف الاضطرار، وإشارة إلى أن كثيرا من الناس يفعلون ما يفعلون بسائق الهوى فينحرفون عن سبيل الله وتقرير بأن الله تعالى يعلم الذين يتجاوزون الحدود التي رسمها ويعتدون في تصرفاتهم. وأمر آخر للمسلمين بالابتعاد عن الإثم ظاهره وباطنه وعلنه وسره، وإنذار للذين يقترفون الإثم بأنهم سينالهم القصاص الحق العادل ونهي للمسلمين عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ؛ لأن ذلك يجعله فسقا وإثما وخروجا على أوامر الله وحدوده. وتنبيه إلى أن الشياطين يوسوسون إلى أوليائهم ليجادلوا المسلمين في هذه المواضيع وتحذير للمسلمين من مجاراتهم ومطاوعتهم لأنهم بذلك يغدون مشركين مثلهم.
تعليق على آية
﴿ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
وجمهور المفسرين على أن الذي أمر المسلمون بأكله إذا ذكر اسم الله عليه في الآيات ونهوا عن أكله إذا لم يذكر اسم الله عليه هو المواشي والذبائح. وهذا مؤيد بآيات قرآنية أخرى جاء فيها ذكر ذلك صراحة وهي آية سورة المائدة :
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٣ ) ﴾.
والآيات وإن كانت تبدو فصلا جديدا فإن مما يمكن أن يستلهم من مضمونها ومضمون سابقاتها أنها غير منقطعة الصلة بالآيات السابقة لها وأنها متصلة بما كان يقوم بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من جهة، والكفار من جهة ثانية من مواقف جدلية متنوعة مما حكته فصول السورة.
ولقد أورد المفسرون١ في سياقها روايات متنوعة، ذكر فيها أن المشركين أو اليهود كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه النقطة. وهناك رواية تذكر أن أناسا من المسلمين قالوا يا رسول الله كيف نأكل ما نقتله، ولا نأكل ما يقتله الله فنزلت الآية [ ١١٤ ].
ورواية المجوس تبدو غريبة جدا، وأكل الميتة عند اليهود محرم فلا يعقل أن يكون من المنتقدين لعدم أكل الميتة أو المجادلة فيه. وأوثق الروايات هو الرواية الأخيرة فقد رواها الترمذي عن ابن عباس٢ والروايات الأخرى لم ترد في كتب الصحاح.
ويلحظ من جهة أن الآيات ليست في صدد أكل الميتة وإنما هي في صدد الحث على الأكل مما ذكر اسم الله عليه، والنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، وأن الآية [ ١١٤ ] من جهة أخرى من سلسلة متكاملة فضلا عن الاتصال الملموح بين هذه السلسلة وبين الآيات السابقة.
ومهما يكن من أمر فالآيات تلهم أنه كان يقع بين المسلمين والمشركين جدل ومناظرات في صدد الذبائح، فالمشركون كانوا يأكلون ما يموت حتف أنفه ولم يكونوا يذكرون كذلك اسم الله تعالى على ما يذبحونه.
وتلهم أن بعض النبهاء من الزعماء كانوا يلقنون الذين يتصلون بالمسلمين من الكفار ما يجادلونهم به من حجج، وأن بعض المسلمين كانوا يترددون في هذه الأمور لسابق عهدهم بالتقاليد التي كانوا يجرون عليها قبل إسلامهم. فنزلت الآيات للقضاء على هذا التردد، ولبيان الأمور بصورة حاسمة على الوجه الذي جاءت به، وللتنبيه إلى أن التقاليد الجاهلية ليست قائمة على علم وحق وإنما هي بنت الأوهام والأهواء والظنون، وأن السير على هذه التقاليد ومطاوعة المشركين فيها هو شرك.
وهكذا تكون الآيات من الفصول الحاسمة التي جاءت لهدم تقليد من تقاليد الشرك والجاهلية.
ولقد أشكل على المفسرين محتوى الآية الثانية التي تذكر أن الله قد فصل للمسلمين ما حرم عليهم ؛ لأن ذلك لم يرد في السور السابقة في النزول سورة الأنعام. وبعضهم قال : إن تفصيل ذلك ورد في آية سورة المائدة التي أوردنا نصها قبل قليل. وبعضهم أنكر ذلك لأن سورة المائدة مدنية ورد التفصيل إلى ما احتوته آيات تأتي قريبا في سورة الأنعام٣ وهو وجيه مع فرض أن الآيات المذكورة نزلت مع هذه الآيات دفعة واحدة وهو فرض في محله.
ولم نر المفسرين فيما اطلعنا عليه يتعرضون لتعليل تردد المسلمين في أكل ما كان يذكر اسم الله عليه حتى اقتضت حكمة التنزيل إباحته والحث عليه بالأسلوب القوي الذي جاءت عليه الآيتان الأولى والثانية. ولقد روى المفسرون في سياق آية سورة الحج هذه :﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ( ٢٨ ) ﴾
أن العرب كانوا لا يأكلون ما يقربونه لآلهتهم أو ينذرون تقريبه لهم. فلما أسلم منهم من أسلم وصاروا يذكرون اسم الله على القرابين التي يقربونها لله في موسم الحج وغيره، أو ينذرون تقريبها لله ظلوا على عادتهم في الامتناع عن الأكل منها. والمتبادر أن الوارد في الآية متصل بذلك.
وللفقهاء أقوال متنوعة في صدد هذا الموضوع على ما ورد في كتب التفسير، فبعضهم أوجب ذكر اسم الله جهرا عند ذبح الذبيحة، وبعضهم قال : تكفي النية. وبعضهم قال بحل الذبيحة التي يذبحها المسلم ولو نسي ذكر الله عليها، أو حتى لو تعمد عدم ذكره. وبعضهم قال بحل ما نسي دون العمد. وبعضهم توقف في الذبيحة التي لا يعرف بجزم أنها ذكر اسم الله عليها. وبعضهم أباح ذلك إذا كان يعرف يقينا أن الذابح مسلم. وهناك أحاديث نبوية صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المدني على الأرجح في هذا الصدد لم نر بأسا في إيراد ما فيه التوضيح في مناسبة التشريع الذي احتوته الآيات التي نحن في صددها. منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد.
ومن الأول حديث رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة ( قالوا يا رسول الله إن قوما حديثو عهد بجاهلية يأتوننا بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليه أو لا، أنأكل منها ؟ فقال سموا الله وكلوا )٤. ومن الثاني أحاديث أوردها ابن كثير واحد بتخريج الحافظ بن عدي عن أبي هريرة قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي فقال النبي : اسم الله على كل مسلم ). وواحد بتخريج البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكل ). وواحد بتخريج أبي داود عن الصلت السدوسي قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر، إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله ).
وتعليقا على ذلك نقول : إنه يتبادر لنا أن المقصود بحل أكل ما يذكر اسم الله عليه من الذبائح وتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه هو تثبيت فكرة الله وحده في نفوس المسلمين ومخالفة المشركين الذين كانوا يغفلون عن ذلك أو يذبحون لشركائهم أو يشركون شركاءهم مع الله عند الذبح. وأن المحرم هو ما ذبحه المشركون الذين يعرف يقينا أنهم لا يذكرون اسم الله وحده. وأن القول بجواز ذكر الله سرا أو نية من قبل المسلم أو حل ذبيحة المسلم لو نسي ذكر الله صواب حتى لو لم تصح الأحاديث التي أوردها ابن كثير. أما القول بحل ذبيحة المسلم إذا تعمد عدم ذكر الله ففيه نظر فيما يتبادر لنا ؛ لأنه مخالف لنص الآية بدون عذر لنسيان. وصفة المسلم لا تكفي هنا إزاء النص فضلا عن إثم هذا المسلم لتعمده إساءة الأدب مع الله بعدم ذكره اسمه مع إيجاب القرآن ذلك.
وللفقهاء كلام في صدد ذبيحة الكتابي على ما جاء في كتب التفسير، فمنهم من أحلها إطلاقا لنص آية المائدة هذه :﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ﴾ [ ٥ ] ومنهم من أحلها إذا تيقن المسلم أنهم لم يذكروا اسم المسيح أو مريم عليها وحرمها إذا تيقن لأن القرآن حرم أكل ما يهل به لغير الله على ما جاء في آية سورة المائدة الثالثة وغيرها وأجازها إذا لم يتيقن من ذلك. ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه والله تعالى أعلم.
وهناك أحاديث وأقوال أخرى في صدد المحرمات من الحيوانات وكيفيات الذبح سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.
تعليق على جملة
﴿ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾
لقد احتوت هذه الجملة مبدأ من المبادئ القرآنية الجليلة وهو رفع الحظر عن المنبهات حين الاضطرار.
ومع أنه جاء هنا وتكرر أكثر من مرة في صدد الذبائح والأطعمة المحرمة مما سيأتي مثال له في آيات قريبة من هذه السورة فإن هناك آيات أخرى تلهم أنه من المبادئ القرآنية العامة، ومنها آية سورة النحل هذه :﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ( ١٠٦ ) ﴾.
وواضح أن القرآن في إقراره هذا المبدأ قد تمشى مع ظروف الحياة وطبائع الأمور، من حيث إن الأوامر والنواهي إنما يمكن تنفيذها ضمن نطاق الإمكان والوسع وانتفاء الخطر والضرر والاضطرار، وهذا المبدأ شبيه لمبدأ عدم تكليف الله نفسا إلا وسعا الذي شرعناه في سياق الآية [ ٤٢ ] من سورة الأعراف وأوردنا في مناسبته أحاديث عديدة متساوية مع التلقين القرآني، والأحاديث واردة بالنسبة لهذا المبدأ كما هي بالنسبة لذاك ويحسن بالقارئ أن يرجع إليها لتكون الصورة ماثلة له وهو يقرأ هذه الكلمة.
وبمثل هذا المبدأ وذاك صلحت الشريعة الإسلامية للخلود والتطبيق في كل ظروف ومكان. والمتبادر أن القاعدة الشرعية القائلة ( الضرورات تبيح المحظورات ) قد استندت إلى هذا المبدأ. وهناك آيات قررت بصراحة أن حالة الاضطرار التي تبيح المحظور يجب أن تكون بقدر الضرورة وعدم تجاوز هذا الحد، منها الآية [ ١٤٥ ] من سورة الأنعام الآتية قريبا، وهذا مما يقف دون القول إن هذا المبدأ قد ي
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والبغوي والخازن..
٢ روى هذا الترمذي، انظر التاج جـ ٤ ص ١٠١..
٣ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي والطبرسي..
٤ التاج جـ ٣ ص ٩٥..

فسق : عصيان الله.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١١٨:﴿ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ( ١١٨ ) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ ( ١١٩ ) وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ ( ١٢٠ ) وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ( ١ ) وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ( ١٢١ ) ﴾[ ١١٨ – ١٢١ ].
في الآيات أمر رباني موجه للمسلمين بأن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وتحذير لهم بعدم التردد في ذلك لأن الله تعالى قد بين لهم ما حرم عليهم في غير ظروف الاضطرار، وإشارة إلى أن كثيرا من الناس يفعلون ما يفعلون بسائق الهوى فينحرفون عن سبيل الله وتقرير بأن الله تعالى يعلم الذين يتجاوزون الحدود التي رسمها ويعتدون في تصرفاتهم. وأمر آخر للمسلمين بالابتعاد عن الإثم ظاهره وباطنه وعلنه وسره، وإنذار للذين يقترفون الإثم بأنهم سينالهم القصاص الحق العادل ونهي للمسلمين عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه ؛ لأن ذلك يجعله فسقا وإثما وخروجا على أوامر الله وحدوده. وتنبيه إلى أن الشياطين يوسوسون إلى أوليائهم ليجادلوا المسلمين في هذه المواضيع وتحذير للمسلمين من مجاراتهم ومطاوعتهم لأنهم بذلك يغدون مشركين مثلهم.
تعليق على آية
﴿ فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
وجمهور المفسرين على أن الذي أمر المسلمون بأكله إذا ذكر اسم الله عليه في الآيات ونهوا عن أكله إذا لم يذكر اسم الله عليه هو المواشي والذبائح. وهذا مؤيد بآيات قرآنية أخرى جاء فيها ذكر ذلك صراحة وهي آية سورة المائدة :
﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٣ ) ﴾.
والآيات وإن كانت تبدو فصلا جديدا فإن مما يمكن أن يستلهم من مضمونها ومضمون سابقاتها أنها غير منقطعة الصلة بالآيات السابقة لها وأنها متصلة بما كان يقوم بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين من جهة، والكفار من جهة ثانية من مواقف جدلية متنوعة مما حكته فصول السورة.
ولقد أورد المفسرون١ في سياقها روايات متنوعة، ذكر فيها أن المشركين أو اليهود كانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه النقطة. وهناك رواية تذكر أن أناسا من المسلمين قالوا يا رسول الله كيف نأكل ما نقتله، ولا نأكل ما يقتله الله فنزلت الآية [ ١١٤ ].
ورواية المجوس تبدو غريبة جدا، وأكل الميتة عند اليهود محرم فلا يعقل أن يكون من المنتقدين لعدم أكل الميتة أو المجادلة فيه. وأوثق الروايات هو الرواية الأخيرة فقد رواها الترمذي عن ابن عباس٢ والروايات الأخرى لم ترد في كتب الصحاح.
ويلحظ من جهة أن الآيات ليست في صدد أكل الميتة وإنما هي في صدد الحث على الأكل مما ذكر اسم الله عليه، والنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، وأن الآية [ ١١٤ ] من جهة أخرى من سلسلة متكاملة فضلا عن الاتصال الملموح بين هذه السلسلة وبين الآيات السابقة.
ومهما يكن من أمر فالآيات تلهم أنه كان يقع بين المسلمين والمشركين جدل ومناظرات في صدد الذبائح، فالمشركون كانوا يأكلون ما يموت حتف أنفه ولم يكونوا يذكرون كذلك اسم الله تعالى على ما يذبحونه.
وتلهم أن بعض النبهاء من الزعماء كانوا يلقنون الذين يتصلون بالمسلمين من الكفار ما يجادلونهم به من حجج، وأن بعض المسلمين كانوا يترددون في هذه الأمور لسابق عهدهم بالتقاليد التي كانوا يجرون عليها قبل إسلامهم. فنزلت الآيات للقضاء على هذا التردد، ولبيان الأمور بصورة حاسمة على الوجه الذي جاءت به، وللتنبيه إلى أن التقاليد الجاهلية ليست قائمة على علم وحق وإنما هي بنت الأوهام والأهواء والظنون، وأن السير على هذه التقاليد ومطاوعة المشركين فيها هو شرك.
وهكذا تكون الآيات من الفصول الحاسمة التي جاءت لهدم تقليد من تقاليد الشرك والجاهلية.
ولقد أشكل على المفسرين محتوى الآية الثانية التي تذكر أن الله قد فصل للمسلمين ما حرم عليهم ؛ لأن ذلك لم يرد في السور السابقة في النزول سورة الأنعام. وبعضهم قال : إن تفصيل ذلك ورد في آية سورة المائدة التي أوردنا نصها قبل قليل. وبعضهم أنكر ذلك لأن سورة المائدة مدنية ورد التفصيل إلى ما احتوته آيات تأتي قريبا في سورة الأنعام٣ وهو وجيه مع فرض أن الآيات المذكورة نزلت مع هذه الآيات دفعة واحدة وهو فرض في محله.
ولم نر المفسرين فيما اطلعنا عليه يتعرضون لتعليل تردد المسلمين في أكل ما كان يذكر اسم الله عليه حتى اقتضت حكمة التنزيل إباحته والحث عليه بالأسلوب القوي الذي جاءت عليه الآيتان الأولى والثانية. ولقد روى المفسرون في سياق آية سورة الحج هذه :﴿ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ( ٢٨ ) ﴾
أن العرب كانوا لا يأكلون ما يقربونه لآلهتهم أو ينذرون تقريبه لهم. فلما أسلم منهم من أسلم وصاروا يذكرون اسم الله على القرابين التي يقربونها لله في موسم الحج وغيره، أو ينذرون تقريبها لله ظلوا على عادتهم في الامتناع عن الأكل منها. والمتبادر أن الوارد في الآية متصل بذلك.
وللفقهاء أقوال متنوعة في صدد هذا الموضوع على ما ورد في كتب التفسير، فبعضهم أوجب ذكر اسم الله جهرا عند ذبح الذبيحة، وبعضهم قال : تكفي النية. وبعضهم قال بحل الذبيحة التي يذبحها المسلم ولو نسي ذكر الله عليها، أو حتى لو تعمد عدم ذكره. وبعضهم قال بحل ما نسي دون العمد. وبعضهم توقف في الذبيحة التي لا يعرف بجزم أنها ذكر اسم الله عليها. وبعضهم أباح ذلك إذا كان يعرف يقينا أن الذابح مسلم. وهناك أحاديث نبوية صدرت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المدني على الأرجح في هذا الصدد لم نر بأسا في إيراد ما فيه التوضيح في مناسبة التشريع الذي احتوته الآيات التي نحن في صددها. منها ما ورد في الصحاح ومنها ما لم يرد.
ومن الأول حديث رواه البخاري وأبو داود والنسائي عن عائشة ( قالوا يا رسول الله إن قوما حديثو عهد بجاهلية يأتوننا بلحمان لا ندري أذكروا اسم الله عليه أو لا، أنأكل منها ؟ فقال سموا الله وكلوا )٤. ومن الثاني أحاديث أوردها ابن كثير واحد بتخريج الحافظ بن عدي عن أبي هريرة قال :( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي فقال النبي : اسم الله على كل مسلم ). وواحد بتخريج البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :( المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكل ). وواحد بتخريج أبي داود عن الصلت السدوسي قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر، إن ذكر لم يذكر إلا اسم الله ).
وتعليقا على ذلك نقول : إنه يتبادر لنا أن المقصود بحل أكل ما يذكر اسم الله عليه من الذبائح وتحريم ما لم يذكر اسم الله عليه هو تثبيت فكرة الله وحده في نفوس المسلمين ومخالفة المشركين الذين كانوا يغفلون عن ذلك أو يذبحون لشركائهم أو يشركون شركاءهم مع الله عند الذبح. وأن المحرم هو ما ذبحه المشركون الذين يعرف يقينا أنهم لا يذكرون اسم الله وحده. وأن القول بجواز ذكر الله سرا أو نية من قبل المسلم أو حل ذبيحة المسلم لو نسي ذكر الله صواب حتى لو لم تصح الأحاديث التي أوردها ابن كثير. أما القول بحل ذبيحة المسلم إذا تعمد عدم ذكر الله ففيه نظر فيما يتبادر لنا ؛ لأنه مخالف لنص الآية بدون عذر لنسيان. وصفة المسلم لا تكفي هنا إزاء النص فضلا عن إثم هذا المسلم لتعمده إساءة الأدب مع الله بعدم ذكره اسمه مع إيجاب القرآن ذلك.
وللفقهاء كلام في صدد ذبيحة الكتابي على ما جاء في كتب التفسير، فمنهم من أحلها إطلاقا لنص آية المائدة هذه :﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ ﴾ [ ٥ ] ومنهم من أحلها إذا تيقن المسلم أنهم لم يذكروا اسم المسيح أو مريم عليها وحرمها إذا تيقن لأن القرآن حرم أكل ما يهل به لغير الله على ما جاء في آية سورة المائدة الثالثة وغيرها وأجازها إذا لم يتيقن من ذلك. ويتبادر لنا أن هذا هو الأوجه والله تعالى أعلم.
وهناك أحاديث وأقوال أخرى في صدد المحرمات من الحيوانات وكيفيات الذبح سنوردها في مناسبات آتية أكثر ملاءمة.
تعليق على جملة
﴿ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ ﴾
لقد احتوت هذه الجملة مبدأ من المبادئ القرآنية الجليلة وهو رفع الحظر عن المنبهات حين الاضطرار.
ومع أنه جاء هنا وتكرر أكثر من مرة في صدد الذبائح والأطعمة المحرمة مما سيأتي مثال له في آيات قريبة من هذه السورة فإن هناك آيات أخرى تلهم أنه من المبادئ القرآنية العامة، ومنها آية سورة النحل هذه :﴿ من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ( ١٠٦ ) ﴾.
وواضح أن القرآن في إقراره هذا المبدأ قد تمشى مع ظروف الحياة وطبائع الأمور، من حيث إن الأوامر والنواهي إنما يمكن تنفيذها ضمن نطاق الإمكان والوسع وانتفاء الخطر والضرر والاضطرار، وهذا المبدأ شبيه لمبدأ عدم تكليف الله نفسا إلا وسعا الذي شرعناه في سياق الآية [ ٤٢ ] من سورة الأعراف وأوردنا في مناسبته أحاديث عديدة متساوية مع التلقين القرآني، والأحاديث واردة بالنسبة لهذا المبدأ كما هي بالنسبة لذاك ويحسن بالقارئ أن يرجع إليها لتكون الصورة ماثلة له وهو يقرأ هذه الكلمة.
وبمثل هذا المبدأ وذاك صلحت الشريعة الإسلامية للخلود والتطبيق في كل ظروف ومكان. والمتبادر أن القاعدة الشرعية القائلة ( الضرورات تبيح المحظورات ) قد استندت إلى هذا المبدأ. وهناك آيات قررت بصراحة أن حالة الاضطرار التي تبيح المحظور يجب أن تكون بقدر الضرورة وعدم تجاوز هذا الحد، منها الآية [ ١٤٥ ] من سورة الأنعام الآتية قريبا، وهذا مما يقف دون القول إن هذا المبدأ قد ي
١ انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والبغوي والخازن..
٢ روى هذا الترمذي، انظر التاج جـ ٤ ص ١٠١..
٣ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي والطبرسي..
٤ التاج جـ ٣ ص ٩٥..

﴿ أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون ( ١٢٢ ) ﴾ [ ١٢٢ ].
تتساءل الآية على سبيل التمثيل عما إذا كان يصح في العقل أن يكون من أحياه الله بعد جهله وضلاله بالهدى وجعل له منه نورا يمشي به في الطريق القويم الواضح. مثل الذي يتسكع في الظلمات لا يستطيع أن يخرج منها، أو أن يرى الطريق القويم الواضح. ثم تقرر تقريرا فيه معنى التنديد والتقريع بأن الكافرين الذين هم الفريق الثاني إنما صاروا كذلك لأنهم زين لهم عملهم المنحرف فرأوه حسنا واستمروا فيه.
وقد روى المفسرون أن الآية نزلت في صدد المقايسة بين رجل من المسلمين وآخر من المشركين اختلفت الروايات في اسميهما، منها ما ذكر أنهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأبو جهل، ومنها ما ذكر أنهما النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأبو جهل، ومنها ما ذكر أنهما عمار بن ياسر أو حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنهما وأبو جهل١. ومع أن الآيات التي تلي هذه الآية قد تساعد على القول إن هذه الآية في صدد التنديد ببعض أكابر مشركي قريش وبالتالي تساعد على القول بوجاهة إحدى تلك الروايات إجمالا، فإن هذا لا يمنع أن تكون جاءت تعقيبا على الآيات السابقة بسبيل التنديد بالذين يسيرون على وهم وجهل ومكابرة، وبسبيل التنبيه إلى ما بينهم وبين الذين يسيرون على علم وهدى من فرق عظيم، بصورة عامة وهو ما رجحه ابن كثير، وأن تكون الآيات التالية لها قد جاءت استطرادا لذكر مواقف مكابرة أكابر المجرمين وعنادهم وهذا ما نرجحه.
والآية في حد ذاتها من روائع الآيات في أسلوبها وتنويهها وتنديدها، وفيها تلقين جليل مستمر المدى ينطبق على كل ظرف ومكان في سبيل المقايسة بين الضالين والمهتدين، والمستقيمين والمنحرفين. ويمكن تأويل جملة ( زين لهم ) بأن فساد أخلاقهم وارتكاسهم في تقليد الجاهلية وعنادهم هو الذي زين لهم عملهم، وبذلك يزول أي وهم وإشكال قد يردان على بال إنسان ما. والله تعالى أعلم.
١ انظر تفسيرها في تفسير الطبري وابن كثير والخازن والطبرسي..
{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( ١٢٣ ) وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ( ١ ) عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ ( ١٢٤ )
في الآيات تقرير لمظهر من مظاهر النظام الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري وهو وجود زعماء ماكرين مجرمين في كل بيئة دأبهم الكيد والمكر والوقوف من رسل الله ودعاة الخير موقف التعطيل والعناد. فإذا جاءتهم آية كابروا وقالوا : لا نصدق حتى نرى وندرك ما يراه رسل الله ويدركونه. ورد عليهم بأن كيدهم لن يضر غيرهم ومكرهم لن يحيق إلا بهم دون أن يشعروا. وتقرير بأن الله تعالى يعلم أين يضع رسالته، وكيف يصطفي ويختار رسله من بين الناس وإنذار قاصم بأن الماكرين المجرمين سيصيبهم هوان وذلة عند الله، وسينالهم العذاب الشديد جزاء مكرهم وكيدهم.
والتنديد الشديد بالمجرمين من القرائن على صواب تأويلنا للجملة الأولى الذي أولنا به جملة مماثلة في الآية [ ١١٢ ] من هذه السورة والآية [ ٣١ ] من سورة الفرقان، وبه يزول ما يمكن أن يوهمه ظاهر الجملة من أن الله تعالى هو الذي يسوق الأكابر إلى الإجرام والصد، أو يجعل أكابر المجرمين يسودون.
تعليق على آية
﴿ وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه ﴾
وقد روى المفسرون١ أن الآيات نزلت بمناسبة قول الوليد بن المغيرة من زعماء قريش لو كانت النبوة حقا لكنت أولى منك بها ؛ لأني أكبر منك سنا وأكثر مالا، أو بمناسبة قول أبي جهل :( زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إنا صرنا كفرسي رهان فقالوا : منا نبي يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه ). والرواية متسقة مع مضمون الآيات. وفي سورة ص آية تحكي تساؤل زعماء الكفار بأسلوب الاستكبار والإنكار عن اختصاص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنزول القرآن من دونهم وهي :﴿ أأنزل عليه الذكر من بيننا ﴾ [ ٨ ]، وفي سورة الزخرف آية تحكي قول زعماء الكفار بأنه كان يجب أن ينزل القرآن على أحد عظماء مكة أو الطائف وهي :﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( ٣١ ) ﴾ حيث يفيد هذا أن مثل هذا القول الذي حكته الآيات قد صدر من زعماء المشركين أكثر من مرة وبأساليب مختلفة. غير أننا نلحظ أن الآيات هنا جاءت بأسلوب مطلق وتقريري ومعطوفة على ما قبلها حيث يلهم هذا أنها استمرار في السياق وفي صدد الإشارة إلى زعماء المشركين وكبار مجرمي مكة الذين تولوا كبر المعارضة والتعطيل للرسالة النبوية بصورة عامة، وفي صدد وصف شدة مكابرتهم وعنادهم. وإن كان هذا لا يمنع أن كان بعضهم حينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبر بوحي الله إليه وبصلته به وبما يراه من تجليات ربانية ويتلوا آيات القرآن يتخذ ذلك وسيلة إلى العناد والمكابرة والتعجيز حسدا ومنافسة، ويعلن أنه لن يصدق ما لم يدرك هذا بنفسه وتقوم عليه الدلائل في ذاته. وعلى كل حال ففي الآيات صورة جديدة من صور الحجاج واللجاج والتحدي بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزعماء المشركين.
وفي أسلوبها المطلق تلقينات مستمرة المدى، ففيها تنديد بذوي الزعامة والوجاهة الذين يقفون من الدعوة إلى الخير والإصلاح وأصحابها موقف اللجاج والتعطيل والصد والتعجيز استكبارا وحسدا وغيظا، وفيها تثبيت لأصحاب مثل هذه الدعوة وتشجيع لهم بتقرير كون مكر الماكرين الصادين المعطلين حائقا بهم وحدهم. وفيها تنبيه إلى مسؤولية الزعماء وما ترتكس فيه أممهم من الآثام والانحراف بسبب مكرهم وإجرامهم وعنادهم ومكابرتهم ؛ لأنهم القدوة والأسوة. ولعله مما ينطوي في نطاق مصالحهم ومآربهم، فهم مجرمون ماكرون ولا ينبغي الرضوخ لهم والسير في فلكهم.
وفي جملة ﴿ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه ﴾ رد مفحم حاسم من جهة، وتنويه بالغ بقدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخصائصه من جهة أخرى. فمرتبة النبوة من أعظم المراتب التي لا يوصل إليها إلا بأعظم الخصائص الروحية والعقلية. والذين يختارهم الله تعالى لرسالته وتجلياته تكون هذه الخصائص قد بلغت فيهم إلى الدرجة العالية من الكمال. وينطوي في هذا وصف تقريري عظيم لما بلغته خصائص النبي العربي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم الخلقية والعقلية والإنسانية من مرتبة عالية حتى صار بها مظهرا لاصطفاء الله تعالى وتجلياته. وكفى به وصفا يزري بكل ما يصفه به الناس، وقد كانت آية سورة القلم ﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ( ٤ ) ﴾ تعبيرا قرآنيا جليلا عن هذه الخصائص التي تحققت فيه قبل بعثته وتأهل بها للاصطفاء الرباني على ما شرحناه في مناسبته.
ولقد احتوى القرآن إشارات عديدة إلى ما ظهر وظل يظهر من عظمة أخلاق وكمال صفات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبره وإشفاقه وعمق إيمانه وصميمته ما بلغ الذروة التي تفسر أسباب اصطفاء الله تعالى له للرسالة العظمى، مما نبهنا عليه في سور سبق تفسيرها ومما سوف ننبه عليه في ما يأتي من السور.
وفي كتب الأحاديث أحاديث كثيرة جدا فيها ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كمال الأخلاق والصفات مما بلغ الذروة كذلك وفيها مصداق ذلك أيضا٢.
١ انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي والطبرسي..
٢ انظر ما ورد في الأحاديث الصحيحة الخمسة في التاج مثلا ج ٣ ص ٢٠٤ – ٢٢٠. وهذه الأحاديث هي في صدد أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته وحسبه. وهناك أحاديث كثيرة جدا في هذه الكتب فيها من أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونواهيه ومواعظه وحكمه ومعالجاته لمختلف ما كان يعرض عليه من شؤون نفسية واجتماعية وأخلاقية وسلوكية وقضائية ما يصح أن يكون مظهرا بالغ الذروة من مظاهر صفاته وأخلاقه أيضا..
صغار : هوان وذلة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢٣:{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ( ١٢٣ ) وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ( ١ ) عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ ( ١٢٤ )
في الآيات تقرير لمظهر من مظاهر النظام الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري وهو وجود زعماء ماكرين مجرمين في كل بيئة دأبهم الكيد والمكر والوقوف من رسل الله ودعاة الخير موقف التعطيل والعناد. فإذا جاءتهم آية كابروا وقالوا : لا نصدق حتى نرى وندرك ما يراه رسل الله ويدركونه. ورد عليهم بأن كيدهم لن يضر غيرهم ومكرهم لن يحيق إلا بهم دون أن يشعروا. وتقرير بأن الله تعالى يعلم أين يضع رسالته، وكيف يصطفي ويختار رسله من بين الناس وإنذار قاصم بأن الماكرين المجرمين سيصيبهم هوان وذلة عند الله، وسينالهم العذاب الشديد جزاء مكرهم وكيدهم.
والتنديد الشديد بالمجرمين من القرائن على صواب تأويلنا للجملة الأولى الذي أولنا به جملة مماثلة في الآية [ ١١٢ ] من هذه السورة والآية [ ٣١ ] من سورة الفرقان، وبه يزول ما يمكن أن يوهمه ظاهر الجملة من أن الله تعالى هو الذي يسوق الأكابر إلى الإجرام والصد، أو يجعل أكابر المجرمين يسودون.
تعليق على آية
﴿ وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه ﴾
وقد روى المفسرون١ أن الآيات نزلت بمناسبة قول الوليد بن المغيرة من زعماء قريش لو كانت النبوة حقا لكنت أولى منك بها ؛ لأني أكبر منك سنا وأكثر مالا، أو بمناسبة قول أبي جهل :( زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إنا صرنا كفرسي رهان فقالوا : منا نبي يوحى إليه، والله لا نؤمن به ولا نتبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه ). والرواية متسقة مع مضمون الآيات. وفي سورة ص آية تحكي تساؤل زعماء الكفار بأسلوب الاستكبار والإنكار عن اختصاص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنزول القرآن من دونهم وهي :﴿ أأنزل عليه الذكر من بيننا ﴾ [ ٨ ]، وفي سورة الزخرف آية تحكي قول زعماء الكفار بأنه كان يجب أن ينزل القرآن على أحد عظماء مكة أو الطائف وهي :﴿ وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ( ٣١ ) ﴾ حيث يفيد هذا أن مثل هذا القول الذي حكته الآيات قد صدر من زعماء المشركين أكثر من مرة وبأساليب مختلفة. غير أننا نلحظ أن الآيات هنا جاءت بأسلوب مطلق وتقريري ومعطوفة على ما قبلها حيث يلهم هذا أنها استمرار في السياق وفي صدد الإشارة إلى زعماء المشركين وكبار مجرمي مكة الذين تولوا كبر المعارضة والتعطيل للرسالة النبوية بصورة عامة، وفي صدد وصف شدة مكابرتهم وعنادهم. وإن كان هذا لا يمنع أن كان بعضهم حينما كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبر بوحي الله إليه وبصلته به وبما يراه من تجليات ربانية ويتلوا آيات القرآن يتخذ ذلك وسيلة إلى العناد والمكابرة والتعجيز حسدا ومنافسة، ويعلن أنه لن يصدق ما لم يدرك هذا بنفسه وتقوم عليه الدلائل في ذاته. وعلى كل حال ففي الآيات صورة جديدة من صور الحجاج واللجاج والتحدي بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وزعماء المشركين.
وفي أسلوبها المطلق تلقينات مستمرة المدى، ففيها تنديد بذوي الزعامة والوجاهة الذين يقفون من الدعوة إلى الخير والإصلاح وأصحابها موقف اللجاج والتعطيل والصد والتعجيز استكبارا وحسدا وغيظا، وفيها تثبيت لأصحاب مثل هذه الدعوة وتشجيع لهم بتقرير كون مكر الماكرين الصادين المعطلين حائقا بهم وحدهم. وفيها تنبيه إلى مسؤولية الزعماء وما ترتكس فيه أممهم من الآثام والانحراف بسبب مكرهم وإجرامهم وعنادهم ومكابرتهم ؛ لأنهم القدوة والأسوة. ولعله مما ينطوي في نطاق مصالحهم ومآربهم، فهم مجرمون ماكرون ولا ينبغي الرضوخ لهم والسير في فلكهم.
وفي جملة ﴿ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَه ﴾ رد مفحم حاسم من جهة، وتنويه بالغ بقدر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخصائصه من جهة أخرى. فمرتبة النبوة من أعظم المراتب التي لا يوصل إليها إلا بأعظم الخصائص الروحية والعقلية. والذين يختارهم الله تعالى لرسالته وتجلياته تكون هذه الخصائص قد بلغت فيهم إلى الدرجة العالية من الكمال. وينطوي في هذا وصف تقريري عظيم لما بلغته خصائص النبي العربي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم الخلقية والعقلية والإنسانية من مرتبة عالية حتى صار بها مظهرا لاصطفاء الله تعالى وتجلياته. وكفى به وصفا يزري بكل ما يصفه به الناس، وقد كانت آية سورة القلم ﴿ وإنك لعلى خلق عظيم ( ٤ ) ﴾ تعبيرا قرآنيا جليلا عن هذه الخصائص التي تحققت فيه قبل بعثته وتأهل بها للاصطفاء الرباني على ما شرحناه في مناسبته.
ولقد احتوى القرآن إشارات عديدة إلى ما ظهر وظل يظهر من عظمة أخلاق وكمال صفات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبره وإشفاقه وعمق إيمانه وصميمته ما بلغ الذروة التي تفسر أسباب اصطفاء الله تعالى له للرسالة العظمى، مما نبهنا عليه في سور سبق تفسيرها ومما سوف ننبه عليه في ما يأتي من السور.
وفي كتب الأحاديث أحاديث كثيرة جدا فيها ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كمال الأخلاق والصفات مما بلغ الذروة كذلك وفيها مصداق ذلك أيضا٢.
١ انظر تفسير الآيات في تفسير البغوي والطبرسي..
٢ انظر ما ورد في الأحاديث الصحيحة الخمسة في التاج مثلا ج ٣ ص ٢٠٤ – ٢٢٠. وهذه الأحاديث هي في صدد أخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وصفاته وحسبه. وهناك أحاديث كثيرة جدا في هذه الكتب فيها من أوامر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونواهيه ومواعظه وحكمه ومعالجاته لمختلف ما كان يعرض عليه من شؤون نفسية واجتماعية وأخلاقية وسلوكية وقضائية ما يصح أن يكون مظهرا بالغ الذروة من مظاهر صفاته وأخلاقه أيضا..

كأنما يصعد في السماء : يتصعد، ومعنى الجملة كأنما يتكلف مشقة ارتقاء مرتفع عال حيث يضيق صدره ونفسه بذلك.
الرجس : هنا بمعنى الخزي.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء( ١ ) كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ( ٢ ) عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ١٢٥ ) وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ( ١٢٦ ) لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ١٢٧ ) ﴾ [ ١٢٥ – ١٢٧ ].
ينطوي في الآيات تقرير بأن الإيمان والاهتداء إليه والضلال والانحراف عنه مسألة قلب ورغبة ؛ وبأن الناس صنفان منهم من طهر قلبه وحسنت نيته وصدقت رغبته في الاهتداء إلى الإيمان، ومنهم من خبثت سريرته وانعدمت فيه الرغبة. فالله سبحانه يشرح صدر الأولين للإسلام حينما توجه الدعوة إليهم، أما الآخرون فيكون كمن يتكلف ارتقاء مرتفع عال حيث تضيق صدورهم وتتلاحق أنفاسهم ويعتريهم الاضطراب ولا يستجيبون للدعوة ولا يؤمنون فيحق عليهم الخزي والخذلان والعذاب. وإعلان بأن صراط الله قد بان واضحا مستقيما وأن الله تعالى قد فصل الآيات للناس حتى ينتفع بها الذين يحبون أن يتدبروا ويتذكروا ويهتدوا فيستحقوا بذلك رضاء الله وينزلون عنده في دار السلام والطمأنينة ويكون وليهم وناصرهم بما قدموا وعملوا.
تعليق على الجملة
{ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن
يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا }
والآيات متصلة بسابقاتها ومعقبة عليها كما هو المتبادر، وروحها ومضمونها يلهمان أن التأويل الذي أولناه بها هو الأوجه المتسق مع روح الآيات القرآنية عامة. وأنها ليست بسبيل تقرير أن الهدى والضلال حتم من الله على أناس بأعيانهم كما قد توهمه العبارة لأول وهلة، والتنديد بغير المؤمنين وتقرير الرجس عليهم وإنذارهم والتنويه بالمؤمنين وتبشيرهم فيها ووصفهم بالمتذكرين قرائن حاسمة على ذلك. ولقد قررت آيات عديدة أن الله تعالى إنما يضل الفاسقين والظالمين ويهدي المنيبين إليه، على ما أوردناه وشرحناه في مناسبات سابقة ؛ حيث يكون فيها قرائن حاسمة أخرى ومقيدة ويزول بها التوهم أيضا ويجب أن يذكر آية الزمر ﴿ ولا يرضى لعباده الكفر ﴾ [ ٧ ] ففيها أيضا ضابط حاسم.
ومما يتبادر أن الآيات بالإضافة إلى ما شرحناه من تقريراتها قد استهدفت تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم إزاء تصامم وعناد زعماء قومه والتنويه بالمؤمنين الذين استجابوا إلى دعوته.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن عبارة ﴿ وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ﴾ تعني الإسلام. وروى ابن كثير عن بعض أهل التأويل أنها تعني ( القرآن ) وكلا التأويلين وجيه وهما في الحقيقة شيء واحد. ولقد أول المفسرون عبارة ( دار السلام ) بالجنة. وهو تأويل وارد وقد مر مثل هذه العبارة في سورة يونس مع التنبيه على أننا نلمح في العبارة مدى أقوى في صدد تطمين المؤمنين بما يكون لهم عند الله من أمن وسلام، والله تعالى أعلم

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء( ١ ) كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ( ٢ ) عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ١٢٥ ) وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ( ١٢٦ ) لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ١٢٧ ) ﴾ [ ١٢٥ – ١٢٧ ].
ينطوي في الآيات تقرير بأن الإيمان والاهتداء إليه والضلال والانحراف عنه مسألة قلب ورغبة ؛ وبأن الناس صنفان منهم من طهر قلبه وحسنت نيته وصدقت رغبته في الاهتداء إلى الإيمان، ومنهم من خبثت سريرته وانعدمت فيه الرغبة. فالله سبحانه يشرح صدر الأولين للإسلام حينما توجه الدعوة إليهم، أما الآخرون فيكون كمن يتكلف ارتقاء مرتفع عال حيث تضيق صدورهم وتتلاحق أنفاسهم ويعتريهم الاضطراب ولا يستجيبون للدعوة ولا يؤمنون فيحق عليهم الخزي والخذلان والعذاب. وإعلان بأن صراط الله قد بان واضحا مستقيما وأن الله تعالى قد فصل الآيات للناس حتى ينتفع بها الذين يحبون أن يتدبروا ويتذكروا ويهتدوا فيستحقوا بذلك رضاء الله وينزلون عنده في دار السلام والطمأنينة ويكون وليهم وناصرهم بما قدموا وعملوا.
تعليق على الجملة
{ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن
يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا }
والآيات متصلة بسابقاتها ومعقبة عليها كما هو المتبادر، وروحها ومضمونها يلهمان أن التأويل الذي أولناه بها هو الأوجه المتسق مع روح الآيات القرآنية عامة. وأنها ليست بسبيل تقرير أن الهدى والضلال حتم من الله على أناس بأعيانهم كما قد توهمه العبارة لأول وهلة، والتنديد بغير المؤمنين وتقرير الرجس عليهم وإنذارهم والتنويه بالمؤمنين وتبشيرهم فيها ووصفهم بالمتذكرين قرائن حاسمة على ذلك. ولقد قررت آيات عديدة أن الله تعالى إنما يضل الفاسقين والظالمين ويهدي المنيبين إليه، على ما أوردناه وشرحناه في مناسبات سابقة ؛ حيث يكون فيها قرائن حاسمة أخرى ومقيدة ويزول بها التوهم أيضا ويجب أن يذكر آية الزمر ﴿ ولا يرضى لعباده الكفر ﴾ [ ٧ ] ففيها أيضا ضابط حاسم.
ومما يتبادر أن الآيات بالإضافة إلى ما شرحناه من تقريراتها قد استهدفت تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم إزاء تصامم وعناد زعماء قومه والتنويه بالمؤمنين الذين استجابوا إلى دعوته.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن عبارة ﴿ وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ﴾ تعني الإسلام. وروى ابن كثير عن بعض أهل التأويل أنها تعني ( القرآن ) وكلا التأويلين وجيه وهما في الحقيقة شيء واحد. ولقد أول المفسرون عبارة ( دار السلام ) بالجنة. وهو تأويل وارد وقد مر مثل هذه العبارة في سورة يونس مع التنبيه على أننا نلمح في العبارة مدى أقوى في صدد تطمين المؤمنين بما يكون لهم عند الله من أمن وسلام، والله تعالى أعلم

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء( ١ ) كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ( ٢ ) عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ( ١٢٥ ) وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ ( ١٢٦ ) لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ( ١٢٧ ) ﴾ [ ١٢٥ – ١٢٧ ].
ينطوي في الآيات تقرير بأن الإيمان والاهتداء إليه والضلال والانحراف عنه مسألة قلب ورغبة ؛ وبأن الناس صنفان منهم من طهر قلبه وحسنت نيته وصدقت رغبته في الاهتداء إلى الإيمان، ومنهم من خبثت سريرته وانعدمت فيه الرغبة. فالله سبحانه يشرح صدر الأولين للإسلام حينما توجه الدعوة إليهم، أما الآخرون فيكون كمن يتكلف ارتقاء مرتفع عال حيث تضيق صدورهم وتتلاحق أنفاسهم ويعتريهم الاضطراب ولا يستجيبون للدعوة ولا يؤمنون فيحق عليهم الخزي والخذلان والعذاب. وإعلان بأن صراط الله قد بان واضحا مستقيما وأن الله تعالى قد فصل الآيات للناس حتى ينتفع بها الذين يحبون أن يتدبروا ويتذكروا ويهتدوا فيستحقوا بذلك رضاء الله وينزلون عنده في دار السلام والطمأنينة ويكون وليهم وناصرهم بما قدموا وعملوا.
تعليق على الجملة
{ فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن
يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا }
والآيات متصلة بسابقاتها ومعقبة عليها كما هو المتبادر، وروحها ومضمونها يلهمان أن التأويل الذي أولناه بها هو الأوجه المتسق مع روح الآيات القرآنية عامة. وأنها ليست بسبيل تقرير أن الهدى والضلال حتم من الله على أناس بأعيانهم كما قد توهمه العبارة لأول وهلة، والتنديد بغير المؤمنين وتقرير الرجس عليهم وإنذارهم والتنويه بالمؤمنين وتبشيرهم فيها ووصفهم بالمتذكرين قرائن حاسمة على ذلك. ولقد قررت آيات عديدة أن الله تعالى إنما يضل الفاسقين والظالمين ويهدي المنيبين إليه، على ما أوردناه وشرحناه في مناسبات سابقة ؛ حيث يكون فيها قرائن حاسمة أخرى ومقيدة ويزول بها التوهم أيضا ويجب أن يذكر آية الزمر ﴿ ولا يرضى لعباده الكفر ﴾ [ ٧ ] ففيها أيضا ضابط حاسم.
ومما يتبادر أن الآيات بالإضافة إلى ما شرحناه من تقريراتها قد استهدفت تسلية النبي صلى الله عليه وآله وسلم إزاء تصامم وعناد زعماء قومه والتنويه بالمؤمنين الذين استجابوا إلى دعوته.
ولقد روى الطبري عن ابن عباس أن عبارة ﴿ وَهَـذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا ﴾ تعني الإسلام. وروى ابن كثير عن بعض أهل التأويل أنها تعني ( القرآن ) وكلا التأويلين وجيه وهما في الحقيقة شيء واحد. ولقد أول المفسرون عبارة ( دار السلام ) بالجنة. وهو تأويل وارد وقد مر مثل هذه العبارة في سورة يونس مع التنبيه على أننا نلمح في العبارة مدى أقوى في صدد تطمين المؤمنين بما يكون لهم عند الله من أمن وسلام، والله تعالى أعلم

قد استكثرتم من الإنس : قد أضللتم وأغويتم كثيرين من الإنس.
وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا : يكون الظالمون بعضهم أولياء بعض.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ ( ١ )وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ ( ١٢٨ ) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ١٢٩ ) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ( ١٣٠ ) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ( ١٣١ ) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( ١٣٢ ) ﴾ [ ١٢٨ – ١٣٢ ].
في الآية الأولى والآية الثانية حكاية لبعض ما يكون يوم القيامة حيث يوجه الله تعالى الخطاب إلى الجن منددا بهم لكثرة ما أضلوا من الإنس. وحيث يجيب الضالون من هؤلاء على سبيل الاعتذار بأن كلا من الطرفين قد انخدع بالآخر واستمتع به غافلا عن المصير، فلم يلبثوا أن اصطدموا جميعا بالحقيقة ورأوا حقيقة الموعد الذي وعدهم الله به، والأجل الذي عينه لهم وحيث يجابون حينئذ أن مثواهم النار بسبب ذلك خالدين فيها إلا ما شاء الله.
وحيث يوجه الخطاب إلى الإنس والجن ثانية بصيغة السؤال الإنكاري والتنديدي عما إذا لم يكن قد جاءهم رسل منهم يتلون عليهم آيات الله وينذرونهم لقاء هذا اليوم فيجيبون الإيجاب مقررين وشاهدين على أنفسهم بالكفر والاغترار بالحياة الدنيا.
أما الآيات الثانية والرابعة والخامسة ففيها تعقيب على الحوار المحكي تنطوي فيه العبرة والموعظة، حيث قررت الثانية أن الظالمين إنما يتولى بعضهم بعضا، ويتبع بعضهم بعضا لاتحادهم في الصفات والأفعال. وحيث نبهت الآيتان الرابعة والخامسة إلى أن الله تعالى لم يكن ليهلك القرى ويعذب أهلها ظلما وهم غافلون متروكون في عماء وجهالة وغير منبهين بالدعوة إلى الحق والهدى، وإنما يستحقون ذلك لكفرهم وإثمهم عن بينة وبعد أن يكونوا قد أنذروا بلسان رسل الله. وإلى أن كل امرئ إنما ينال الدرجة والمنزلة التي يستحقها حسب عمله، وأن الله تعالى غير غافل عما يفعله الناس. ولم يرو المفسرون رواية ما كمناسبة لنزول الآيات. والصلة بينهما وبين سابقاتها ملموحة. ومع واجب الإيمان بما جاء فيها من خبر المشهد الأخروي فالمتبادر أن من حكمته العظة والتنبيه وإثارة الرعب والخوف والندم في نفوس الكفار أيضا.
تعليق على الآية
﴿ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ ﴾
والآيات الأربع التالية لها
لقد أول المؤولون والمفسرون على ما جاء في كتب التفسير ( استمتاع الإنس والجن بعضهم بعضا ) الذي حكى على لسان الإنس في الآية الأولى بأن استمتاع الإنس بالجن هو ما كان العرب يعتقدونه من آثار الجن في نوابغ الشعراء والكهان السحرة وباستجابة الجن لهم حينما كانوا يستعيذون بهم في الوديان أثناء الليل.
وبأن استمتاع الجن بالإنس هو ما كان من تعظيم العرب لشأن الجن والعياذ بهم والتعبد لهم. وهذا التأويل وجيه متسق مع ما أشارت إليه بعض الآيات القرآنية صراحة وضمنا مثل آيات الشعراء [ ٢٢١ – ٢٢٣ ] وآية الجن [ ٦ ] وآية الأنعام [ ١٠٠ ] وقد مر تفسير ذلك بحيث يصح أن يقال : إن في هذه الإشارة توكيدا جديدا للصور التي كانت في أذهان العرب عن الجن والتي شرحناها في سياق تفسير سورتي الناس والجن.
ومن المؤولين والمفسرين على ما جاء في كتبهم من قال : إن في الآية [ ١٣٠ ] دليلا على أن الله يرسل رسلا إلى الجن كما يرسل إلى الإنس. ودعم قائلو ذلك ببعض الآيات العامة مثل آية فاطر [ ٢٤ ] التي مر تفسيرها :﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( ٢٤ ) ﴾ ومثل آية النحل هذه :﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ﴾ [ ٣٦ ] ومنهم من قال : إن جميع رسل الله وأنبيائه من الإنس وأن الله أرسلهم للإنس والجن معا، وإن كلمة ( منكم ) في الآية يصح أن تكون للإنس وحدهم، وإنه ليس في آيات القرآن صراحة بأن الله أرسل من الجن رسلا. ودعم هؤلاء قولهم بآيات سورة الجن [ ١ و ٢ و ١٣و ١٤ ] وآيات سورة الأحقاف [ ٢٩ – ٣١ ] التي يخبر الله فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن طوائف من الجن استمعوا للقرآن وآمنوا وأنذروا قومهم ودعوهم إلى الإيمان بالنبي والقرآن ؛ حيث ينطوي في الآيات أن الجن اعتبروا أن رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن موجهان إليهم. ويتبادر لنا أن هذه النصوص لا تحتوي صراحة قطعية تثبت أو تنفي الرسل إلى الجن من الجن ولم نطلع على حديث نبوي صحيح في ذلك. وأن الأولى الوقوف في هذه المسألة عندما اقتضته حكمة التنزيل الإيحاء به وتفويض حقيقة الأمر وتأويله إلى الله تعالى. مع ملاحظة أن هدف الآيات الجوهري المتبادر منها هو التنديد بالكفار وإلزامهم وإنذارهم وحملهم على الارعواء والندم والله تعالى أعلم.
وفي الآية [ ١٢٩ ] تلقين مستمر المدى حيث ينطوي فيها تقرير كون الظالمين لا يتولاهم ولا يتعاون معهم إلا الظالمون أمثالهم. وتحذير للمؤمنين الصالحين من مسايرتهم بأي شكل. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا مرفوعا أخرجه ابن عساكر عن ابن مسعود جاء فيه :( من أعان ظالما سلطه الله عليه ) وقد احتوى الحديث تلقينا متسقا مع التلقين التحذيري المنطوي في الآية.
وهناك أحاديث وردت في كتب الصحاح فيها تنديد بالظلم والظالمين وحث على الوقوف في وجوههم بدون تردد وخوف أوردناها في تعليقنا على موضوع الظلم في سورة الفرقان فنكتفي بهذا التنبيه.
هذا، وفي هذه الآيات قرينة على ما قلناه في صدد أسلوب الآيات التي سبقتها، ونفي لإرادة الله سبحانه الهدى لأناس والضلال لآخرين دون أن يكون لأخلاقهم واختيارهم تأثير في ذلك.
وتعليقا على الجملة ﴿ إلا ما شاء الله ﴾ في صدد خلود الكافرين في النار نقول : إن مثل هذه الجملة قد ورد في آيات في سورة هود، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار فنكتفي بهذه الإشارة.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ ( ١ )وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ ( ١٢٨ ) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ١٢٩ ) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ( ١٣٠ ) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ( ١٣١ ) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( ١٣٢ ) ﴾ [ ١٢٨ – ١٣٢ ].
في الآية الأولى والآية الثانية حكاية لبعض ما يكون يوم القيامة حيث يوجه الله تعالى الخطاب إلى الجن منددا بهم لكثرة ما أضلوا من الإنس. وحيث يجيب الضالون من هؤلاء على سبيل الاعتذار بأن كلا من الطرفين قد انخدع بالآخر واستمتع به غافلا عن المصير، فلم يلبثوا أن اصطدموا جميعا بالحقيقة ورأوا حقيقة الموعد الذي وعدهم الله به، والأجل الذي عينه لهم وحيث يجابون حينئذ أن مثواهم النار بسبب ذلك خالدين فيها إلا ما شاء الله.
وحيث يوجه الخطاب إلى الإنس والجن ثانية بصيغة السؤال الإنكاري والتنديدي عما إذا لم يكن قد جاءهم رسل منهم يتلون عليهم آيات الله وينذرونهم لقاء هذا اليوم فيجيبون الإيجاب مقررين وشاهدين على أنفسهم بالكفر والاغترار بالحياة الدنيا.
أما الآيات الثانية والرابعة والخامسة ففيها تعقيب على الحوار المحكي تنطوي فيه العبرة والموعظة، حيث قررت الثانية أن الظالمين إنما يتولى بعضهم بعضا، ويتبع بعضهم بعضا لاتحادهم في الصفات والأفعال. وحيث نبهت الآيتان الرابعة والخامسة إلى أن الله تعالى لم يكن ليهلك القرى ويعذب أهلها ظلما وهم غافلون متروكون في عماء وجهالة وغير منبهين بالدعوة إلى الحق والهدى، وإنما يستحقون ذلك لكفرهم وإثمهم عن بينة وبعد أن يكونوا قد أنذروا بلسان رسل الله. وإلى أن كل امرئ إنما ينال الدرجة والمنزلة التي يستحقها حسب عمله، وأن الله تعالى غير غافل عما يفعله الناس. ولم يرو المفسرون رواية ما كمناسبة لنزول الآيات. والصلة بينهما وبين سابقاتها ملموحة. ومع واجب الإيمان بما جاء فيها من خبر المشهد الأخروي فالمتبادر أن من حكمته العظة والتنبيه وإثارة الرعب والخوف والندم في نفوس الكفار أيضا.
تعليق على الآية
﴿ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ ﴾
والآيات الأربع التالية لها
لقد أول المؤولون والمفسرون على ما جاء في كتب التفسير ( استمتاع الإنس والجن بعضهم بعضا ) الذي حكى على لسان الإنس في الآية الأولى بأن استمتاع الإنس بالجن هو ما كان العرب يعتقدونه من آثار الجن في نوابغ الشعراء والكهان السحرة وباستجابة الجن لهم حينما كانوا يستعيذون بهم في الوديان أثناء الليل.
وبأن استمتاع الجن بالإنس هو ما كان من تعظيم العرب لشأن الجن والعياذ بهم والتعبد لهم. وهذا التأويل وجيه متسق مع ما أشارت إليه بعض الآيات القرآنية صراحة وضمنا مثل آيات الشعراء [ ٢٢١ – ٢٢٣ ] وآية الجن [ ٦ ] وآية الأنعام [ ١٠٠ ] وقد مر تفسير ذلك بحيث يصح أن يقال : إن في هذه الإشارة توكيدا جديدا للصور التي كانت في أذهان العرب عن الجن والتي شرحناها في سياق تفسير سورتي الناس والجن.
ومن المؤولين والمفسرين على ما جاء في كتبهم من قال : إن في الآية [ ١٣٠ ] دليلا على أن الله يرسل رسلا إلى الجن كما يرسل إلى الإنس. ودعم قائلو ذلك ببعض الآيات العامة مثل آية فاطر [ ٢٤ ] التي مر تفسيرها :﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( ٢٤ ) ﴾ ومثل آية النحل هذه :﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ﴾ [ ٣٦ ] ومنهم من قال : إن جميع رسل الله وأنبيائه من الإنس وأن الله أرسلهم للإنس والجن معا، وإن كلمة ( منكم ) في الآية يصح أن تكون للإنس وحدهم، وإنه ليس في آيات القرآن صراحة بأن الله أرسل من الجن رسلا. ودعم هؤلاء قولهم بآيات سورة الجن [ ١ و ٢ و ١٣و ١٤ ] وآيات سورة الأحقاف [ ٢٩ – ٣١ ] التي يخبر الله فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن طوائف من الجن استمعوا للقرآن وآمنوا وأنذروا قومهم ودعوهم إلى الإيمان بالنبي والقرآن ؛ حيث ينطوي في الآيات أن الجن اعتبروا أن رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن موجهان إليهم. ويتبادر لنا أن هذه النصوص لا تحتوي صراحة قطعية تثبت أو تنفي الرسل إلى الجن من الجن ولم نطلع على حديث نبوي صحيح في ذلك. وأن الأولى الوقوف في هذه المسألة عندما اقتضته حكمة التنزيل الإيحاء به وتفويض حقيقة الأمر وتأويله إلى الله تعالى. مع ملاحظة أن هدف الآيات الجوهري المتبادر منها هو التنديد بالكفار وإلزامهم وإنذارهم وحملهم على الارعواء والندم والله تعالى أعلم.
وفي الآية [ ١٢٩ ] تلقين مستمر المدى حيث ينطوي فيها تقرير كون الظالمين لا يتولاهم ولا يتعاون معهم إلا الظالمون أمثالهم. وتحذير للمؤمنين الصالحين من مسايرتهم بأي شكل. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا مرفوعا أخرجه ابن عساكر عن ابن مسعود جاء فيه :( من أعان ظالما سلطه الله عليه ) وقد احتوى الحديث تلقينا متسقا مع التلقين التحذيري المنطوي في الآية.
وهناك أحاديث وردت في كتب الصحاح فيها تنديد بالظلم والظالمين وحث على الوقوف في وجوههم بدون تردد وخوف أوردناها في تعليقنا على موضوع الظلم في سورة الفرقان فنكتفي بهذا التنبيه.
هذا، وفي هذه الآيات قرينة على ما قلناه في صدد أسلوب الآيات التي سبقتها، ونفي لإرادة الله سبحانه الهدى لأناس والضلال لآخرين دون أن يكون لأخلاقهم واختيارهم تأثير في ذلك.
وتعليقا على الجملة ﴿ إلا ما شاء الله ﴾ في صدد خلود الكافرين في النار نقول : إن مثل هذه الجملة قد ورد في آيات في سورة هود، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار فنكتفي بهذه الإشارة.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ ( ١ )وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ ( ١٢٨ ) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ١٢٩ ) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ( ١٣٠ ) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ( ١٣١ ) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( ١٣٢ ) ﴾ [ ١٢٨ – ١٣٢ ].
في الآية الأولى والآية الثانية حكاية لبعض ما يكون يوم القيامة حيث يوجه الله تعالى الخطاب إلى الجن منددا بهم لكثرة ما أضلوا من الإنس. وحيث يجيب الضالون من هؤلاء على سبيل الاعتذار بأن كلا من الطرفين قد انخدع بالآخر واستمتع به غافلا عن المصير، فلم يلبثوا أن اصطدموا جميعا بالحقيقة ورأوا حقيقة الموعد الذي وعدهم الله به، والأجل الذي عينه لهم وحيث يجابون حينئذ أن مثواهم النار بسبب ذلك خالدين فيها إلا ما شاء الله.
وحيث يوجه الخطاب إلى الإنس والجن ثانية بصيغة السؤال الإنكاري والتنديدي عما إذا لم يكن قد جاءهم رسل منهم يتلون عليهم آيات الله وينذرونهم لقاء هذا اليوم فيجيبون الإيجاب مقررين وشاهدين على أنفسهم بالكفر والاغترار بالحياة الدنيا.
أما الآيات الثانية والرابعة والخامسة ففيها تعقيب على الحوار المحكي تنطوي فيه العبرة والموعظة، حيث قررت الثانية أن الظالمين إنما يتولى بعضهم بعضا، ويتبع بعضهم بعضا لاتحادهم في الصفات والأفعال. وحيث نبهت الآيتان الرابعة والخامسة إلى أن الله تعالى لم يكن ليهلك القرى ويعذب أهلها ظلما وهم غافلون متروكون في عماء وجهالة وغير منبهين بالدعوة إلى الحق والهدى، وإنما يستحقون ذلك لكفرهم وإثمهم عن بينة وبعد أن يكونوا قد أنذروا بلسان رسل الله. وإلى أن كل امرئ إنما ينال الدرجة والمنزلة التي يستحقها حسب عمله، وأن الله تعالى غير غافل عما يفعله الناس. ولم يرو المفسرون رواية ما كمناسبة لنزول الآيات. والصلة بينهما وبين سابقاتها ملموحة. ومع واجب الإيمان بما جاء فيها من خبر المشهد الأخروي فالمتبادر أن من حكمته العظة والتنبيه وإثارة الرعب والخوف والندم في نفوس الكفار أيضا.
تعليق على الآية
﴿ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ ﴾
والآيات الأربع التالية لها
لقد أول المؤولون والمفسرون على ما جاء في كتب التفسير ( استمتاع الإنس والجن بعضهم بعضا ) الذي حكى على لسان الإنس في الآية الأولى بأن استمتاع الإنس بالجن هو ما كان العرب يعتقدونه من آثار الجن في نوابغ الشعراء والكهان السحرة وباستجابة الجن لهم حينما كانوا يستعيذون بهم في الوديان أثناء الليل.
وبأن استمتاع الجن بالإنس هو ما كان من تعظيم العرب لشأن الجن والعياذ بهم والتعبد لهم. وهذا التأويل وجيه متسق مع ما أشارت إليه بعض الآيات القرآنية صراحة وضمنا مثل آيات الشعراء [ ٢٢١ – ٢٢٣ ] وآية الجن [ ٦ ] وآية الأنعام [ ١٠٠ ] وقد مر تفسير ذلك بحيث يصح أن يقال : إن في هذه الإشارة توكيدا جديدا للصور التي كانت في أذهان العرب عن الجن والتي شرحناها في سياق تفسير سورتي الناس والجن.
ومن المؤولين والمفسرين على ما جاء في كتبهم من قال : إن في الآية [ ١٣٠ ] دليلا على أن الله يرسل رسلا إلى الجن كما يرسل إلى الإنس. ودعم قائلو ذلك ببعض الآيات العامة مثل آية فاطر [ ٢٤ ] التي مر تفسيرها :﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( ٢٤ ) ﴾ ومثل آية النحل هذه :﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ﴾ [ ٣٦ ] ومنهم من قال : إن جميع رسل الله وأنبيائه من الإنس وأن الله أرسلهم للإنس والجن معا، وإن كلمة ( منكم ) في الآية يصح أن تكون للإنس وحدهم، وإنه ليس في آيات القرآن صراحة بأن الله أرسل من الجن رسلا. ودعم هؤلاء قولهم بآيات سورة الجن [ ١ و ٢ و ١٣و ١٤ ] وآيات سورة الأحقاف [ ٢٩ – ٣١ ] التي يخبر الله فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن طوائف من الجن استمعوا للقرآن وآمنوا وأنذروا قومهم ودعوهم إلى الإيمان بالنبي والقرآن ؛ حيث ينطوي في الآيات أن الجن اعتبروا أن رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن موجهان إليهم. ويتبادر لنا أن هذه النصوص لا تحتوي صراحة قطعية تثبت أو تنفي الرسل إلى الجن من الجن ولم نطلع على حديث نبوي صحيح في ذلك. وأن الأولى الوقوف في هذه المسألة عندما اقتضته حكمة التنزيل الإيحاء به وتفويض حقيقة الأمر وتأويله إلى الله تعالى. مع ملاحظة أن هدف الآيات الجوهري المتبادر منها هو التنديد بالكفار وإلزامهم وإنذارهم وحملهم على الارعواء والندم والله تعالى أعلم.
وفي الآية [ ١٢٩ ] تلقين مستمر المدى حيث ينطوي فيها تقرير كون الظالمين لا يتولاهم ولا يتعاون معهم إلا الظالمون أمثالهم. وتحذير للمؤمنين الصالحين من مسايرتهم بأي شكل. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا مرفوعا أخرجه ابن عساكر عن ابن مسعود جاء فيه :( من أعان ظالما سلطه الله عليه ) وقد احتوى الحديث تلقينا متسقا مع التلقين التحذيري المنطوي في الآية.
وهناك أحاديث وردت في كتب الصحاح فيها تنديد بالظلم والظالمين وحث على الوقوف في وجوههم بدون تردد وخوف أوردناها في تعليقنا على موضوع الظلم في سورة الفرقان فنكتفي بهذا التنبيه.
هذا، وفي هذه الآيات قرينة على ما قلناه في صدد أسلوب الآيات التي سبقتها، ونفي لإرادة الله سبحانه الهدى لأناس والضلال لآخرين دون أن يكون لأخلاقهم واختيارهم تأثير في ذلك.
وتعليقا على الجملة ﴿ إلا ما شاء الله ﴾ في صدد خلود الكافرين في النار نقول : إن مثل هذه الجملة قد ورد في آيات في سورة هود، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار فنكتفي بهذه الإشارة.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ ( ١ )وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ ( ١٢٨ ) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ١٢٩ ) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ( ١٣٠ ) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ( ١٣١ ) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( ١٣٢ ) ﴾ [ ١٢٨ – ١٣٢ ].
في الآية الأولى والآية الثانية حكاية لبعض ما يكون يوم القيامة حيث يوجه الله تعالى الخطاب إلى الجن منددا بهم لكثرة ما أضلوا من الإنس. وحيث يجيب الضالون من هؤلاء على سبيل الاعتذار بأن كلا من الطرفين قد انخدع بالآخر واستمتع به غافلا عن المصير، فلم يلبثوا أن اصطدموا جميعا بالحقيقة ورأوا حقيقة الموعد الذي وعدهم الله به، والأجل الذي عينه لهم وحيث يجابون حينئذ أن مثواهم النار بسبب ذلك خالدين فيها إلا ما شاء الله.
وحيث يوجه الخطاب إلى الإنس والجن ثانية بصيغة السؤال الإنكاري والتنديدي عما إذا لم يكن قد جاءهم رسل منهم يتلون عليهم آيات الله وينذرونهم لقاء هذا اليوم فيجيبون الإيجاب مقررين وشاهدين على أنفسهم بالكفر والاغترار بالحياة الدنيا.
أما الآيات الثانية والرابعة والخامسة ففيها تعقيب على الحوار المحكي تنطوي فيه العبرة والموعظة، حيث قررت الثانية أن الظالمين إنما يتولى بعضهم بعضا، ويتبع بعضهم بعضا لاتحادهم في الصفات والأفعال. وحيث نبهت الآيتان الرابعة والخامسة إلى أن الله تعالى لم يكن ليهلك القرى ويعذب أهلها ظلما وهم غافلون متروكون في عماء وجهالة وغير منبهين بالدعوة إلى الحق والهدى، وإنما يستحقون ذلك لكفرهم وإثمهم عن بينة وبعد أن يكونوا قد أنذروا بلسان رسل الله. وإلى أن كل امرئ إنما ينال الدرجة والمنزلة التي يستحقها حسب عمله، وأن الله تعالى غير غافل عما يفعله الناس. ولم يرو المفسرون رواية ما كمناسبة لنزول الآيات. والصلة بينهما وبين سابقاتها ملموحة. ومع واجب الإيمان بما جاء فيها من خبر المشهد الأخروي فالمتبادر أن من حكمته العظة والتنبيه وإثارة الرعب والخوف والندم في نفوس الكفار أيضا.
تعليق على الآية
﴿ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ ﴾
والآيات الأربع التالية لها
لقد أول المؤولون والمفسرون على ما جاء في كتب التفسير ( استمتاع الإنس والجن بعضهم بعضا ) الذي حكى على لسان الإنس في الآية الأولى بأن استمتاع الإنس بالجن هو ما كان العرب يعتقدونه من آثار الجن في نوابغ الشعراء والكهان السحرة وباستجابة الجن لهم حينما كانوا يستعيذون بهم في الوديان أثناء الليل.
وبأن استمتاع الجن بالإنس هو ما كان من تعظيم العرب لشأن الجن والعياذ بهم والتعبد لهم. وهذا التأويل وجيه متسق مع ما أشارت إليه بعض الآيات القرآنية صراحة وضمنا مثل آيات الشعراء [ ٢٢١ – ٢٢٣ ] وآية الجن [ ٦ ] وآية الأنعام [ ١٠٠ ] وقد مر تفسير ذلك بحيث يصح أن يقال : إن في هذه الإشارة توكيدا جديدا للصور التي كانت في أذهان العرب عن الجن والتي شرحناها في سياق تفسير سورتي الناس والجن.
ومن المؤولين والمفسرين على ما جاء في كتبهم من قال : إن في الآية [ ١٣٠ ] دليلا على أن الله يرسل رسلا إلى الجن كما يرسل إلى الإنس. ودعم قائلو ذلك ببعض الآيات العامة مثل آية فاطر [ ٢٤ ] التي مر تفسيرها :﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( ٢٤ ) ﴾ ومثل آية النحل هذه :﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ﴾ [ ٣٦ ] ومنهم من قال : إن جميع رسل الله وأنبيائه من الإنس وأن الله أرسلهم للإنس والجن معا، وإن كلمة ( منكم ) في الآية يصح أن تكون للإنس وحدهم، وإنه ليس في آيات القرآن صراحة بأن الله أرسل من الجن رسلا. ودعم هؤلاء قولهم بآيات سورة الجن [ ١ و ٢ و ١٣و ١٤ ] وآيات سورة الأحقاف [ ٢٩ – ٣١ ] التي يخبر الله فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن طوائف من الجن استمعوا للقرآن وآمنوا وأنذروا قومهم ودعوهم إلى الإيمان بالنبي والقرآن ؛ حيث ينطوي في الآيات أن الجن اعتبروا أن رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن موجهان إليهم. ويتبادر لنا أن هذه النصوص لا تحتوي صراحة قطعية تثبت أو تنفي الرسل إلى الجن من الجن ولم نطلع على حديث نبوي صحيح في ذلك. وأن الأولى الوقوف في هذه المسألة عندما اقتضته حكمة التنزيل الإيحاء به وتفويض حقيقة الأمر وتأويله إلى الله تعالى. مع ملاحظة أن هدف الآيات الجوهري المتبادر منها هو التنديد بالكفار وإلزامهم وإنذارهم وحملهم على الارعواء والندم والله تعالى أعلم.
وفي الآية [ ١٢٩ ] تلقين مستمر المدى حيث ينطوي فيها تقرير كون الظالمين لا يتولاهم ولا يتعاون معهم إلا الظالمون أمثالهم. وتحذير للمؤمنين الصالحين من مسايرتهم بأي شكل. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا مرفوعا أخرجه ابن عساكر عن ابن مسعود جاء فيه :( من أعان ظالما سلطه الله عليه ) وقد احتوى الحديث تلقينا متسقا مع التلقين التحذيري المنطوي في الآية.
وهناك أحاديث وردت في كتب الصحاح فيها تنديد بالظلم والظالمين وحث على الوقوف في وجوههم بدون تردد وخوف أوردناها في تعليقنا على موضوع الظلم في سورة الفرقان فنكتفي بهذا التنبيه.
هذا، وفي هذه الآيات قرينة على ما قلناه في صدد أسلوب الآيات التي سبقتها، ونفي لإرادة الله سبحانه الهدى لأناس والضلال لآخرين دون أن يكون لأخلاقهم واختيارهم تأثير في ذلك.
وتعليقا على الجملة ﴿ إلا ما شاء الله ﴾ في صدد خلود الكافرين في النار نقول : إن مثل هذه الجملة قد ورد في آيات في سورة هود، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار فنكتفي بهذه الإشارة.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ ( ١ )وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ ( ١٢٨ ) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ( ١٢٩ ) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ ( ١٣٠ ) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ( ١٣١ ) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ( ١٣٢ ) ﴾ [ ١٢٨ – ١٣٢ ].
في الآية الأولى والآية الثانية حكاية لبعض ما يكون يوم القيامة حيث يوجه الله تعالى الخطاب إلى الجن منددا بهم لكثرة ما أضلوا من الإنس. وحيث يجيب الضالون من هؤلاء على سبيل الاعتذار بأن كلا من الطرفين قد انخدع بالآخر واستمتع به غافلا عن المصير، فلم يلبثوا أن اصطدموا جميعا بالحقيقة ورأوا حقيقة الموعد الذي وعدهم الله به، والأجل الذي عينه لهم وحيث يجابون حينئذ أن مثواهم النار بسبب ذلك خالدين فيها إلا ما شاء الله.
وحيث يوجه الخطاب إلى الإنس والجن ثانية بصيغة السؤال الإنكاري والتنديدي عما إذا لم يكن قد جاءهم رسل منهم يتلون عليهم آيات الله وينذرونهم لقاء هذا اليوم فيجيبون الإيجاب مقررين وشاهدين على أنفسهم بالكفر والاغترار بالحياة الدنيا.
أما الآيات الثانية والرابعة والخامسة ففيها تعقيب على الحوار المحكي تنطوي فيه العبرة والموعظة، حيث قررت الثانية أن الظالمين إنما يتولى بعضهم بعضا، ويتبع بعضهم بعضا لاتحادهم في الصفات والأفعال. وحيث نبهت الآيتان الرابعة والخامسة إلى أن الله تعالى لم يكن ليهلك القرى ويعذب أهلها ظلما وهم غافلون متروكون في عماء وجهالة وغير منبهين بالدعوة إلى الحق والهدى، وإنما يستحقون ذلك لكفرهم وإثمهم عن بينة وبعد أن يكونوا قد أنذروا بلسان رسل الله. وإلى أن كل امرئ إنما ينال الدرجة والمنزلة التي يستحقها حسب عمله، وأن الله تعالى غير غافل عما يفعله الناس. ولم يرو المفسرون رواية ما كمناسبة لنزول الآيات. والصلة بينهما وبين سابقاتها ملموحة. ومع واجب الإيمان بما جاء فيها من خبر المشهد الأخروي فالمتبادر أن من حكمته العظة والتنبيه وإثارة الرعب والخوف والندم في نفوس الكفار أيضا.
تعليق على الآية
﴿ وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ ﴾
والآيات الأربع التالية لها
لقد أول المؤولون والمفسرون على ما جاء في كتب التفسير ( استمتاع الإنس والجن بعضهم بعضا ) الذي حكى على لسان الإنس في الآية الأولى بأن استمتاع الإنس بالجن هو ما كان العرب يعتقدونه من آثار الجن في نوابغ الشعراء والكهان السحرة وباستجابة الجن لهم حينما كانوا يستعيذون بهم في الوديان أثناء الليل.
وبأن استمتاع الجن بالإنس هو ما كان من تعظيم العرب لشأن الجن والعياذ بهم والتعبد لهم. وهذا التأويل وجيه متسق مع ما أشارت إليه بعض الآيات القرآنية صراحة وضمنا مثل آيات الشعراء [ ٢٢١ – ٢٢٣ ] وآية الجن [ ٦ ] وآية الأنعام [ ١٠٠ ] وقد مر تفسير ذلك بحيث يصح أن يقال : إن في هذه الإشارة توكيدا جديدا للصور التي كانت في أذهان العرب عن الجن والتي شرحناها في سياق تفسير سورتي الناس والجن.
ومن المؤولين والمفسرين على ما جاء في كتبهم من قال : إن في الآية [ ١٣٠ ] دليلا على أن الله يرسل رسلا إلى الجن كما يرسل إلى الإنس. ودعم قائلو ذلك ببعض الآيات العامة مثل آية فاطر [ ٢٤ ] التي مر تفسيرها :﴿ وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ( ٢٤ ) ﴾ ومثل آية النحل هذه :﴿ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة ﴾ [ ٣٦ ] ومنهم من قال : إن جميع رسل الله وأنبيائه من الإنس وأن الله أرسلهم للإنس والجن معا، وإن كلمة ( منكم ) في الآية يصح أن تكون للإنس وحدهم، وإنه ليس في آيات القرآن صراحة بأن الله أرسل من الجن رسلا. ودعم هؤلاء قولهم بآيات سورة الجن [ ١ و ٢ و ١٣و ١٤ ] وآيات سورة الأحقاف [ ٢٩ – ٣١ ] التي يخبر الله فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن طوائف من الجن استمعوا للقرآن وآمنوا وأنذروا قومهم ودعوهم إلى الإيمان بالنبي والقرآن ؛ حيث ينطوي في الآيات أن الجن اعتبروا أن رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والقرآن موجهان إليهم. ويتبادر لنا أن هذه النصوص لا تحتوي صراحة قطعية تثبت أو تنفي الرسل إلى الجن من الجن ولم نطلع على حديث نبوي صحيح في ذلك. وأن الأولى الوقوف في هذه المسألة عندما اقتضته حكمة التنزيل الإيحاء به وتفويض حقيقة الأمر وتأويله إلى الله تعالى. مع ملاحظة أن هدف الآيات الجوهري المتبادر منها هو التنديد بالكفار وإلزامهم وإنذارهم وحملهم على الارعواء والندم والله تعالى أعلم.
وفي الآية [ ١٢٩ ] تلقين مستمر المدى حيث ينطوي فيها تقرير كون الظالمين لا يتولاهم ولا يتعاون معهم إلا الظالمون أمثالهم. وتحذير للمؤمنين الصالحين من مسايرتهم بأي شكل. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية حديثا مرفوعا أخرجه ابن عساكر عن ابن مسعود جاء فيه :( من أعان ظالما سلطه الله عليه ) وقد احتوى الحديث تلقينا متسقا مع التلقين التحذيري المنطوي في الآية.
وهناك أحاديث وردت في كتب الصحاح فيها تنديد بالظلم والظالمين وحث على الوقوف في وجوههم بدون تردد وخوف أوردناها في تعليقنا على موضوع الظلم في سورة الفرقان فنكتفي بهذا التنبيه.
هذا، وفي هذه الآيات قرينة على ما قلناه في صدد أسلوب الآيات التي سبقتها، ونفي لإرادة الله سبحانه الهدى لأناس والضلال لآخرين دون أن يكون لأخلاقهم واختيارهم تأثير في ذلك.
وتعليقا على الجملة ﴿ إلا ما شاء الله ﴾ في صدد خلود الكافرين في النار نقول : إن مثل هذه الجملة قد ورد في آيات في سورة هود، وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار فنكتفي بهذه الإشارة.

﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ( ١٣٣ ) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ( ١٣٤ ) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( ١٣٥ ) ﴾ [ ١٣٣ – ١٣٥ ].
وجه الخطاب في الآيتين الأولى والثانية إلى الكفار حيث قرر فيهما أن الله تعالى هو غني عن الناس، وهو متصف بالرحمة أيضا، وأنه يستطيع إذا شاء أن يهلكهم ويستخلف من بعدهم ما يشاء، كما استطاع أن ينشئكم من ذرية قوم قبلهم. وأنه إذا لم يفعل ذلك فورا فلأن رحمته قد وسعت الجميع وحكمته قد اقتضت التأجيل، وأن ما يوعدون به آت لا ريب فيه وهم غير معجزين لله وغير خارجين عن نطاق قدرته وجبروته. أما الآية الثالثة فقد احتوت أمرا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقول للذين وقفوا منه موقف الجحود والعناد بأسلوب فيه تحد ويقين سيروا وابقوا على ما أنتم عليه، وأنا سائر وثابت على ما أنا عليه والمستقبل بيننا حيث يعرف الذي تكون له العاقبة الحسنى والفوز النهائي من الفريقين، ولن يصيب الظالمون نجاحا ولا فوزا.
وظاهر أن الآيات استمرار في التعقيب على ما سبق من الآيات وإنذار قوي بأسلوب رصين نافذ إلى العقول والقلوب معا. ومن شأنه بث البشرى والطمأنينة والوثوق في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بأنهم على الحق وأنهم المفلحون في العاقبة، وقد تحقق ذلك فعلا فكان فيها معجزة باهرة.
وقد جاءت الآيات في الوقت نفسه خاتمة قوية ثانية لمواقف المناظرة واللجاج القائمة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار والتي ما فتئت الفصول التي جاءت بعد سلسلة قصص الأنبياء تحكي صورها المتنوعة استئنافا لمثلها قبل هذه السلسلة.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٣:﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ( ١٣٣ ) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ( ١٣٤ ) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( ١٣٥ ) ﴾ [ ١٣٣ – ١٣٥ ].
وجه الخطاب في الآيتين الأولى والثانية إلى الكفار حيث قرر فيهما أن الله تعالى هو غني عن الناس، وهو متصف بالرحمة أيضا، وأنه يستطيع إذا شاء أن يهلكهم ويستخلف من بعدهم ما يشاء، كما استطاع أن ينشئكم من ذرية قوم قبلهم. وأنه إذا لم يفعل ذلك فورا فلأن رحمته قد وسعت الجميع وحكمته قد اقتضت التأجيل، وأن ما يوعدون به آت لا ريب فيه وهم غير معجزين لله وغير خارجين عن نطاق قدرته وجبروته. أما الآية الثالثة فقد احتوت أمرا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقول للذين وقفوا منه موقف الجحود والعناد بأسلوب فيه تحد ويقين سيروا وابقوا على ما أنتم عليه، وأنا سائر وثابت على ما أنا عليه والمستقبل بيننا حيث يعرف الذي تكون له العاقبة الحسنى والفوز النهائي من الفريقين، ولن يصيب الظالمون نجاحا ولا فوزا.
وظاهر أن الآيات استمرار في التعقيب على ما سبق من الآيات وإنذار قوي بأسلوب رصين نافذ إلى العقول والقلوب معا. ومن شأنه بث البشرى والطمأنينة والوثوق في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بأنهم على الحق وأنهم المفلحون في العاقبة، وقد تحقق ذلك فعلا فكان فيها معجزة باهرة.
وقد جاءت الآيات في الوقت نفسه خاتمة قوية ثانية لمواقف المناظرة واللجاج القائمة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار والتي ما فتئت الفصول التي جاءت بعد سلسلة قصص الأنبياء تحكي صورها المتنوعة استئنافا لمثلها قبل هذه السلسلة.

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٣٣:﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ( ١٣٣ ) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ( ١٣٤ ) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( ١٣٥ ) ﴾ [ ١٣٣ – ١٣٥ ].
وجه الخطاب في الآيتين الأولى والثانية إلى الكفار حيث قرر فيهما أن الله تعالى هو غني عن الناس، وهو متصف بالرحمة أيضا، وأنه يستطيع إذا شاء أن يهلكهم ويستخلف من بعدهم ما يشاء، كما استطاع أن ينشئكم من ذرية قوم قبلهم. وأنه إذا لم يفعل ذلك فورا فلأن رحمته قد وسعت الجميع وحكمته قد اقتضت التأجيل، وأن ما يوعدون به آت لا ريب فيه وهم غير معجزين لله وغير خارجين عن نطاق قدرته وجبروته. أما الآية الثالثة فقد احتوت أمرا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ليقول للذين وقفوا منه موقف الجحود والعناد بأسلوب فيه تحد ويقين سيروا وابقوا على ما أنتم عليه، وأنا سائر وثابت على ما أنا عليه والمستقبل بيننا حيث يعرف الذي تكون له العاقبة الحسنى والفوز النهائي من الفريقين، ولن يصيب الظالمون نجاحا ولا فوزا.
وظاهر أن الآيات استمرار في التعقيب على ما سبق من الآيات وإنذار قوي بأسلوب رصين نافذ إلى العقول والقلوب معا. ومن شأنه بث البشرى والطمأنينة والوثوق في قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بأنهم على الحق وأنهم المفلحون في العاقبة، وقد تحقق ذلك فعلا فكان فيها معجزة باهرة.
وقد جاءت الآيات في الوقت نفسه خاتمة قوية ثانية لمواقف المناظرة واللجاج القائمة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والكفار والتي ما فتئت الفصول التي جاءت بعد سلسلة قصص الأنبياء تحكي صورها المتنوعة استئنافا لمثلها قبل هذه السلسلة.

ذرأ : خلق.
الحرث : الزروع وغلاتها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وجعلوا لله مما ذرأ ( ١ ) من الحرث ( ٢ ) والأنعام نصيبا فقالوا هذه لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ( ١٣٦ ) وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم ( ٣ ) وليلبسوا عليهم ( ٤ ) دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون ( ١٣٧ ) وقالوا هذه أنعام وحرث ( ٥ ) حجر لا يطعمها ( ٦ ) إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون ( ١٣٨ ) وقالوا ما في بطون هذه الأنعام ( ٧ ) خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم( ١٣٩ ) قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها ( ٨ ) بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين( ١٤٠ ) ﴾. [ ١٣٦ – ١٤٠ ].
في الآيات إشارة تنديدية إلى بعض عادات وتقاليد كان العرب يمارسونها ويصبغونها بصبغة دينية، فقد كانوا ينذرون شيئا من أنعامهم وزروعهم لله تعالى وشيئا للشركاء الذين كانوا يدعونهم ويعبدونهم معه. وكانوا يحابون بين قسم الله وقسم الشركاء. فإذا ظهر أن الأول أكثر نتاجا أو غلة بدلوا في التقسيم ليكون هذا من قسم الشركاء ولا يفعلون العكس. وكان بعضهم يقتل أولاده بوسوسة الشياطين وتزيينهم. وكانوا ينذرون تحريم أكل بعض الأنعام وغلات الزرع على أناس دون أناس. وينذرون تحريم ركوب بعض الأنعام وتحميلها ولا يذكرون اسم الله على ما يذبحونه منها. وكانوا ينذرون بعض ما في بطون أنعامهم للذكور دون الإناث إذا ولد حيا ويشركون الإناث فيما يولد ميتا. وكانوا يفعلون كل هذا على اعتبار أنها تقاليد دينية مقدسة، ويظنون أنهم في ممارستهم لها إنما يتقربون إلى الله تعالى ليحقق لهم مطالبهم ورغباتهم التي ينذرون نذورهم من أجلها.
وقد نعت الآيات هذه التقاليد والعادات الباطلة، وقررت أن الذين يمارسونها يسيرون وراء وسوسة الشياطين وتزييناتهم وأنهم في نسبتها إلى الله سبحانه يفترون الكذب عليه، وأن كل من يقتل ولده ويحرم ما رزقه الله وينسب ذلك إلى أصل ديني إلهي جهلا أو كذبا هو ضال وليس على حق وهدى.
تعليق على
( تقاليد المشركين في الأنعام والحرث وحجرهما وقتل الأولاد نذرا لله أو لمعبوداتهم )
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة خاصة لنزول الآيات التي تبدو فصلا ذا موضوع جديد. وعطفها على ما سبقها وإضمار الفعل في ( وجعلوا ) الذي يعود كما هو واضح إلى أناس كانوا موضوع الحديث في الآيات المعطوف عليها وهم المشركون يجعل الصلة قائمة بينها وبين ما سبقها كما هو المتبادر، بحيث يسوغ القول : إن الآيات جاءت استطرادية للتنديد بالمشركين بسبب ما كانوا يمارسونه من عادات وتقاليد سخيفة يصبغونها بصبغة دينية وينسبونها إلى الله سبحانه افتراء وجهلا في حين أنها من وساوس الشياطين.
وقتل الأولاد المذكورة في الآية الثانية ليس هو كما يتبادر لنا من روحها وأد البنات الذي أشير إليه في سورة التكوير التي سبق تفسيرها، ولا قتل الأولاد خشية الإملاق الذي نهي عنه في سورة الإسراء التي سبق تفسيرها أيضا، وإنما هو تقليد من التقاليد الجاهلية الدينية كان يمارسه العرب على سبيل النذر ؛ حيث كانوا إذا ما اشتد على أحدهم خطب أو كان له مطلب عظيم نذر بتقريب أحد أولاده قربانا لله أو للشركاء. وقد روت الروايات ١ أن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم نذر مثل هذا النذر. وأن امرأة بدوية نذرت أن تنحر ابنها عند الكعبة إن فعلت شيئا عينته ففعلته فأرادت أن تفي بنذرها بعد الإسلام فقيل لها : إن الله قد حرم ذلك فأفدت كما فدى عبد المطلب ابنه ٢.
ومهما قيل في هذه الروايات، فإن ورود الإشارة إلى هذا التقليد في القرآن دليل على أن العرب كانوا يمارسونه.
ولقد ورد في سورة الصافات آيات تذكر أن إبراهيم عليه السلام أمر في منامه بذبح ابنه قربانا لله كما ترى في هذه الآية :﴿ فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت إفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ( ١٠٢ ) ﴾ وهذه القصة واردة في سفر التكوين أيضا٣. فلا يبعد أن يكون التقليد الجاهلي مقتبسا من هذا التقليد أو متصلا به، ولاسيما أن العرب كانوا كما قلنا في مناسبات سابقة يتداولون صلة بنوتهم بإبراهيم وسيرهم في تقاليدهم وفق تقاليد إبراهيم وملته.
أما التقاليد الأخرى فالمستفاد مما رواه المفسرون٤ أنها من حيث أساسها كانت تهدف إلى التقرب إلى الله والشركاء بقصد تكثير النسل والغلات أو الشكر إذا كثر النسل والغلات أو إذا تحقق للمشركين مطلب. ويبدو من الآية الأولى أنهم كانوا يحابون شركاءهم ويحولون نصيب الله إليهم إن كان هو الأفضل انسياقا وراء مفهوم مألوف في معاملات الناس وصلاتهم ببعضهم حيث يرون أنهم لا بد لهم من شفعاء لدى الله لتحقيق مطالبهم، وأن الحصول على رضاء هؤلاء الشفعاء هو المهم في نظرهم ؛ لأن شفاعتهم مقبولة لدى الله حتما في تصورهم.
ومما رواه المفسرون من تفصيل في سياق هذه الآيات أنهم كانوا يجعلون ما لله للضيوف وما للشركاء لسدنة الأوثان الرامزة إلى الشركاء. وأنه كان إذا نزل الماء في أرض منذورة لله دون المنذورة للشركاء أو إذا كانت غلة الأرض أو نتاج الأنعام المنذورة لله أحسن من المنذور للشركاء حولوها للشركاء. وإذا سقط شيء مما هو منذور لله في نصيب المنذور للشركاء أبقوه فيه وإذا سقط شيء مما هو للشركاء في نصيب الله ردوه إلى نصيب الشركاء وإذا أصابهم جوع أكلوا مما نذروه لله دون المنذور للشركاء، وقالوا : إن الله غني عن نصيبه دون الشركاء. والغالب أن هذا كان يجري بإيعاز من السدنة ؛ لأنهم أصحاب الحظ والمصلحة.
ولم يذكر المفسرون شيئا واضحا في صدد جملة :﴿ وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم ﴾ [ ١٣٨ ] والمتبادر أنهم كانوا ينذرون بعض الأنعام والزروع لأناس ويحرمونها على أناس. ويعتبرون نذرهم هذا إلزاما دينيا لهم ولم يرووا شيئا واضحا كذلك في صدد الآية [ ١٣٩ ] وإنما قالوا قولين في تفسير جملة :﴿ ما في بطون هذه الأنعام ﴾ أحدهما : أنها تعني اللبن وثانيهما : أنها تعني الجنين. والقول الثاني هو الأوجه بقرينة جملة ﴿ وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ﴾ التي وردت في نفس الآية. والمتبادر أنهم كانوا ينذرون الأجنة قبل ولادتها للذكور فإذا جاءت حية اعتبروا ذلك علامة رضاء الله والشركاء فحرموا أكلها على الإناث وإذا جاءت ميتة اعتبروا أن الله والشركاء لم يرضوا عن نذرهم فأكلوا الميتة هم ونساؤهم معا.
أما ما جاء في الآية [ ١٣٩ ] من الإشارة إلى تحريم ظهور بعض الأنعام فقد كان بسبب اعتبارات ونذور معينة. وكان يطلق على الأنعام نتيجة لها اصطلاحات خاصة. وقد ذكرت هذه الاصطلاحات في آية سورة المائدة هذه :﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ﴾ [ ١٠٣ ] وروى المفسرون أنهم كانوا يشقون أذن الناقة التي تنتج خمسة بطون ويخلون سبيلها شكرا لله فلا يركبونها ولا يحلبونها ولا يجزون وبرها ولا يمنعونها من كلأ وماء ويسمونها ( بحيرة ) اشتقاقا من ( بحر ) بمعنى شق الأذن. وكانوا إذا مرض لهم مريض أو كانت لهم أمنية أو طال عليهم غياب غائب نذروا أن يعتقوا ناقة يعينونها فإذا شفي المريض أو تحققت الأمنية أو عاد الغائب ( سابوا ) الناقة المذكورة وسموها ( سائبة ) وصار له من المزايا ما ذكرناه في صدد البحيرة، وكانوا إذا أنتج الفحل عشرة بطون أعتقوه وسموه ( حاميا ) أي حمى نفسه وصار له نفس المزايا. وكانوا إذا ولدت الشاة لأول مرة أنثى كانت لهم فلا يصح عليها ذبح ولا قربان. وإذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وهو الذي يذبح ويقرب فإذا ولدت ذكرا وأنثى في بطن واحد كانت حالة الذكر كحالة الأنثى فلا يصح أن يقرب أو يذبح لله وقالوا : إن الأخت وصلت أخاها أي صانت دمه وسموها ( وصيلة ) ونص آية سورة المائدة صريح بأنهم كانوا يفعلون ذلك كنذر ملزم دينيا. والمتبادر أن الإشارة المنطوية في آية الأنعام [ ١٣٩ ] التي نحن في صددها هي في صدد الحالات النذرية الثلاث الأولى.
وقد روى المفسرون أن القصد من جملة ﴿ لا يذكرون اسم الله عليها ﴾ هو أن المشركين كانوا يذكرون على قرابينهم وأضاحيهم المنذورة أسماء شركائهم دون اسم الله عند ذبحها. وهذا متصل بالاعتبارات التي ذكرناها في صدد شرح سبب محاباتهم للشركاء.
هذا، والآية الرابعة تعطينا صورة لما كان يلحق بالمرأة العربية قبل الإسلام من تهضم واستهانة شأن. مما تعددت صوره في القرآن على ما سوف يأتي بيانه في مناسباته وقد يكون فيها دليل على أن العرب كانوا يأكلون ما يموت من الأنعام حتف أنفه أو ما يخرج من أرحامها من أجنة ميتة.

ليردوهم : ليوقعوهم في هوة الضلال والإثم.
ليلبسوا عليهم دينهم : ليخلطوا ويشوشوا عليهم في دينهم وعقائدهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وجعلوا لله مما ذرأ ( ١ ) من الحرث ( ٢ ) والأنعام نصيبا فقالوا هذه لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ( ١٣٦ ) وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم ( ٣ ) وليلبسوا عليهم ( ٤ ) دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون ( ١٣٧ ) وقالوا هذه أنعام وحرث ( ٥ ) حجر لا يطعمها ( ٦ ) إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون ( ١٣٨ ) وقالوا ما في بطون هذه الأنعام ( ٧ ) خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم( ١٣٩ ) قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها ( ٨ ) بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين( ١٤٠ ) ﴾. [ ١٣٦ – ١٤٠ ].
في الآيات إشارة تنديدية إلى بعض عادات وتقاليد كان العرب يمارسونها ويصبغونها بصبغة دينية، فقد كانوا ينذرون شيئا من أنعامهم وزروعهم لله تعالى وشيئا للشركاء الذين كانوا يدعونهم ويعبدونهم معه. وكانوا يحابون بين قسم الله وقسم الشركاء. فإذا ظهر أن الأول أكثر نتاجا أو غلة بدلوا في التقسيم ليكون هذا من قسم الشركاء ولا يفعلون العكس. وكان بعضهم يقتل أولاده بوسوسة الشياطين وتزيينهم. وكانوا ينذرون تحريم أكل بعض الأنعام وغلات الزرع على أناس دون أناس. وينذرون تحريم ركوب بعض الأنعام وتحميلها ولا يذكرون اسم الله على ما يذبحونه منها. وكانوا ينذرون بعض ما في بطون أنعامهم للذكور دون الإناث إذا ولد حيا ويشركون الإناث فيما يولد ميتا. وكانوا يفعلون كل هذا على اعتبار أنها تقاليد دينية مقدسة، ويظنون أنهم في ممارستهم لها إنما يتقربون إلى الله تعالى ليحقق لهم مطالبهم ورغباتهم التي ينذرون نذورهم من أجلها.
وقد نعت الآيات هذه التقاليد والعادات الباطلة، وقررت أن الذين يمارسونها يسيرون وراء وسوسة الشياطين وتزييناتهم وأنهم في نسبتها إلى الله سبحانه يفترون الكذب عليه، وأن كل من يقتل ولده ويحرم ما رزقه الله وينسب ذلك إلى أصل ديني إلهي جهلا أو كذبا هو ضال وليس على حق وهدى.
تعليق على
( تقاليد المشركين في الأنعام والحرث وحجرهما وقتل الأولاد نذرا لله أو لمعبوداتهم )
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة خاصة لنزول الآيات التي تبدو فصلا ذا موضوع جديد. وعطفها على ما سبقها وإضمار الفعل في ( وجعلوا ) الذي يعود كما هو واضح إلى أناس كانوا موضوع الحديث في الآيات المعطوف عليها وهم المشركون يجعل الصلة قائمة بينها وبين ما سبقها كما هو المتبادر، بحيث يسوغ القول : إن الآيات جاءت استطرادية للتنديد بالمشركين بسبب ما كانوا يمارسونه من عادات وتقاليد سخيفة يصبغونها بصبغة دينية وينسبونها إلى الله سبحانه افتراء وجهلا في حين أنها من وساوس الشياطين.
وقتل الأولاد المذكورة في الآية الثانية ليس هو كما يتبادر لنا من روحها وأد البنات الذي أشير إليه في سورة التكوير التي سبق تفسيرها، ولا قتل الأولاد خشية الإملاق الذي نهي عنه في سورة الإسراء التي سبق تفسيرها أيضا، وإنما هو تقليد من التقاليد الجاهلية الدينية كان يمارسه العرب على سبيل النذر ؛ حيث كانوا إذا ما اشتد على أحدهم خطب أو كان له مطلب عظيم نذر بتقريب أحد أولاده قربانا لله أو للشركاء. وقد روت الروايات ١ أن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم نذر مثل هذا النذر. وأن امرأة بدوية نذرت أن تنحر ابنها عند الكعبة إن فعلت شيئا عينته ففعلته فأرادت أن تفي بنذرها بعد الإسلام فقيل لها : إن الله قد حرم ذلك فأفدت كما فدى عبد المطلب ابنه ٢.
ومهما قيل في هذه الروايات، فإن ورود الإشارة إلى هذا التقليد في القرآن دليل على أن العرب كانوا يمارسونه.
ولقد ورد في سورة الصافات آيات تذكر أن إبراهيم عليه السلام أمر في منامه بذبح ابنه قربانا لله كما ترى في هذه الآية :﴿ فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت إفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ( ١٠٢ ) ﴾ وهذه القصة واردة في سفر التكوين أيضا٣. فلا يبعد أن يكون التقليد الجاهلي مقتبسا من هذا التقليد أو متصلا به، ولاسيما أن العرب كانوا كما قلنا في مناسبات سابقة يتداولون صلة بنوتهم بإبراهيم وسيرهم في تقاليدهم وفق تقاليد إبراهيم وملته.
أما التقاليد الأخرى فالمستفاد مما رواه المفسرون٤ أنها من حيث أساسها كانت تهدف إلى التقرب إلى الله والشركاء بقصد تكثير النسل والغلات أو الشكر إذا كثر النسل والغلات أو إذا تحقق للمشركين مطلب. ويبدو من الآية الأولى أنهم كانوا يحابون شركاءهم ويحولون نصيب الله إليهم إن كان هو الأفضل انسياقا وراء مفهوم مألوف في معاملات الناس وصلاتهم ببعضهم حيث يرون أنهم لا بد لهم من شفعاء لدى الله لتحقيق مطالبهم، وأن الحصول على رضاء هؤلاء الشفعاء هو المهم في نظرهم ؛ لأن شفاعتهم مقبولة لدى الله حتما في تصورهم.
ومما رواه المفسرون من تفصيل في سياق هذه الآيات أنهم كانوا يجعلون ما لله للضيوف وما للشركاء لسدنة الأوثان الرامزة إلى الشركاء. وأنه كان إذا نزل الماء في أرض منذورة لله دون المنذورة للشركاء أو إذا كانت غلة الأرض أو نتاج الأنعام المنذورة لله أحسن من المنذور للشركاء حولوها للشركاء. وإذا سقط شيء مما هو منذور لله في نصيب المنذور للشركاء أبقوه فيه وإذا سقط شيء مما هو للشركاء في نصيب الله ردوه إلى نصيب الشركاء وإذا أصابهم جوع أكلوا مما نذروه لله دون المنذور للشركاء، وقالوا : إن الله غني عن نصيبه دون الشركاء. والغالب أن هذا كان يجري بإيعاز من السدنة ؛ لأنهم أصحاب الحظ والمصلحة.
ولم يذكر المفسرون شيئا واضحا في صدد جملة :﴿ وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم ﴾ [ ١٣٨ ] والمتبادر أنهم كانوا ينذرون بعض الأنعام والزروع لأناس ويحرمونها على أناس. ويعتبرون نذرهم هذا إلزاما دينيا لهم ولم يرووا شيئا واضحا كذلك في صدد الآية [ ١٣٩ ] وإنما قالوا قولين في تفسير جملة :﴿ ما في بطون هذه الأنعام ﴾ أحدهما : أنها تعني اللبن وثانيهما : أنها تعني الجنين. والقول الثاني هو الأوجه بقرينة جملة ﴿ وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ﴾ التي وردت في نفس الآية. والمتبادر أنهم كانوا ينذرون الأجنة قبل ولادتها للذكور فإذا جاءت حية اعتبروا ذلك علامة رضاء الله والشركاء فحرموا أكلها على الإناث وإذا جاءت ميتة اعتبروا أن الله والشركاء لم يرضوا عن نذرهم فأكلوا الميتة هم ونساؤهم معا.
أما ما جاء في الآية [ ١٣٩ ] من الإشارة إلى تحريم ظهور بعض الأنعام فقد كان بسبب اعتبارات ونذور معينة. وكان يطلق على الأنعام نتيجة لها اصطلاحات خاصة. وقد ذكرت هذه الاصطلاحات في آية سورة المائدة هذه :﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ﴾ [ ١٠٣ ] وروى المفسرون أنهم كانوا يشقون أذن الناقة التي تنتج خمسة بطون ويخلون سبيلها شكرا لله فلا يركبونها ولا يحلبونها ولا يجزون وبرها ولا يمنعونها من كلأ وماء ويسمونها ( بحيرة ) اشتقاقا من ( بحر ) بمعنى شق الأذن. وكانوا إذا مرض لهم مريض أو كانت لهم أمنية أو طال عليهم غياب غائب نذروا أن يعتقوا ناقة يعينونها فإذا شفي المريض أو تحققت الأمنية أو عاد الغائب ( سابوا ) الناقة المذكورة وسموها ( سائبة ) وصار له من المزايا ما ذكرناه في صدد البحيرة، وكانوا إذا أنتج الفحل عشرة بطون أعتقوه وسموه ( حاميا ) أي حمى نفسه وصار له نفس المزايا. وكانوا إذا ولدت الشاة لأول مرة أنثى كانت لهم فلا يصح عليها ذبح ولا قربان. وإذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وهو الذي يذبح ويقرب فإذا ولدت ذكرا وأنثى في بطن واحد كانت حالة الذكر كحالة الأنثى فلا يصح أن يقرب أو يذبح لله وقالوا : إن الأخت وصلت أخاها أي صانت دمه وسموها ( وصيلة ) ونص آية سورة المائدة صريح بأنهم كانوا يفعلون ذلك كنذر ملزم دينيا. والمتبادر أن الإشارة المنطوية في آية الأنعام [ ١٣٩ ] التي نحن في صددها هي في صدد الحالات النذرية الثلاث الأولى.
وقد روى المفسرون أن القصد من جملة ﴿ لا يذكرون اسم الله عليها ﴾ هو أن المشركين كانوا يذكرون على قرابينهم وأضاحيهم المنذورة أسماء شركائهم دون اسم الله عند ذبحها. وهذا متصل بالاعتبارات التي ذكرناها في صدد شرح سبب محاباتهم للشركاء.
هذا، والآية الرابعة تعطينا صورة لما كان يلحق بالمرأة العربية قبل الإسلام من تهضم واستهانة شأن. مما تعددت صوره في القرآن على ما سوف يأتي بيانه في مناسباته وقد يكون فيها دليل على أن العرب كانوا يأكلون ما يموت من الأنعام حتف أنفه أو ما يخرج من أرحامها من أجنة ميتة.

حجر : محجورة أو موقوفة أو ممنوعة.
لا يطعمها : لا يأكل منها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وجعلوا لله مما ذرأ ( ١ ) من الحرث ( ٢ ) والأنعام نصيبا فقالوا هذه لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ( ١٣٦ ) وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم ( ٣ ) وليلبسوا عليهم ( ٤ ) دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون ( ١٣٧ ) وقالوا هذه أنعام وحرث ( ٥ ) حجر لا يطعمها ( ٦ ) إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون ( ١٣٨ ) وقالوا ما في بطون هذه الأنعام ( ٧ ) خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم( ١٣٩ ) قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها ( ٨ ) بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين( ١٤٠ ) ﴾. [ ١٣٦ – ١٤٠ ].
في الآيات إشارة تنديدية إلى بعض عادات وتقاليد كان العرب يمارسونها ويصبغونها بصبغة دينية، فقد كانوا ينذرون شيئا من أنعامهم وزروعهم لله تعالى وشيئا للشركاء الذين كانوا يدعونهم ويعبدونهم معه. وكانوا يحابون بين قسم الله وقسم الشركاء. فإذا ظهر أن الأول أكثر نتاجا أو غلة بدلوا في التقسيم ليكون هذا من قسم الشركاء ولا يفعلون العكس. وكان بعضهم يقتل أولاده بوسوسة الشياطين وتزيينهم. وكانوا ينذرون تحريم أكل بعض الأنعام وغلات الزرع على أناس دون أناس. وينذرون تحريم ركوب بعض الأنعام وتحميلها ولا يذكرون اسم الله على ما يذبحونه منها. وكانوا ينذرون بعض ما في بطون أنعامهم للذكور دون الإناث إذا ولد حيا ويشركون الإناث فيما يولد ميتا. وكانوا يفعلون كل هذا على اعتبار أنها تقاليد دينية مقدسة، ويظنون أنهم في ممارستهم لها إنما يتقربون إلى الله تعالى ليحقق لهم مطالبهم ورغباتهم التي ينذرون نذورهم من أجلها.
وقد نعت الآيات هذه التقاليد والعادات الباطلة، وقررت أن الذين يمارسونها يسيرون وراء وسوسة الشياطين وتزييناتهم وأنهم في نسبتها إلى الله سبحانه يفترون الكذب عليه، وأن كل من يقتل ولده ويحرم ما رزقه الله وينسب ذلك إلى أصل ديني إلهي جهلا أو كذبا هو ضال وليس على حق وهدى.
تعليق على
( تقاليد المشركين في الأنعام والحرث وحجرهما وقتل الأولاد نذرا لله أو لمعبوداتهم )
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة خاصة لنزول الآيات التي تبدو فصلا ذا موضوع جديد. وعطفها على ما سبقها وإضمار الفعل في ( وجعلوا ) الذي يعود كما هو واضح إلى أناس كانوا موضوع الحديث في الآيات المعطوف عليها وهم المشركون يجعل الصلة قائمة بينها وبين ما سبقها كما هو المتبادر، بحيث يسوغ القول : إن الآيات جاءت استطرادية للتنديد بالمشركين بسبب ما كانوا يمارسونه من عادات وتقاليد سخيفة يصبغونها بصبغة دينية وينسبونها إلى الله سبحانه افتراء وجهلا في حين أنها من وساوس الشياطين.
وقتل الأولاد المذكورة في الآية الثانية ليس هو كما يتبادر لنا من روحها وأد البنات الذي أشير إليه في سورة التكوير التي سبق تفسيرها، ولا قتل الأولاد خشية الإملاق الذي نهي عنه في سورة الإسراء التي سبق تفسيرها أيضا، وإنما هو تقليد من التقاليد الجاهلية الدينية كان يمارسه العرب على سبيل النذر ؛ حيث كانوا إذا ما اشتد على أحدهم خطب أو كان له مطلب عظيم نذر بتقريب أحد أولاده قربانا لله أو للشركاء. وقد روت الروايات ١ أن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم نذر مثل هذا النذر. وأن امرأة بدوية نذرت أن تنحر ابنها عند الكعبة إن فعلت شيئا عينته ففعلته فأرادت أن تفي بنذرها بعد الإسلام فقيل لها : إن الله قد حرم ذلك فأفدت كما فدى عبد المطلب ابنه ٢.
ومهما قيل في هذه الروايات، فإن ورود الإشارة إلى هذا التقليد في القرآن دليل على أن العرب كانوا يمارسونه.
ولقد ورد في سورة الصافات آيات تذكر أن إبراهيم عليه السلام أمر في منامه بذبح ابنه قربانا لله كما ترى في هذه الآية :﴿ فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت إفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ( ١٠٢ ) ﴾ وهذه القصة واردة في سفر التكوين أيضا٣. فلا يبعد أن يكون التقليد الجاهلي مقتبسا من هذا التقليد أو متصلا به، ولاسيما أن العرب كانوا كما قلنا في مناسبات سابقة يتداولون صلة بنوتهم بإبراهيم وسيرهم في تقاليدهم وفق تقاليد إبراهيم وملته.
أما التقاليد الأخرى فالمستفاد مما رواه المفسرون٤ أنها من حيث أساسها كانت تهدف إلى التقرب إلى الله والشركاء بقصد تكثير النسل والغلات أو الشكر إذا كثر النسل والغلات أو إذا تحقق للمشركين مطلب. ويبدو من الآية الأولى أنهم كانوا يحابون شركاءهم ويحولون نصيب الله إليهم إن كان هو الأفضل انسياقا وراء مفهوم مألوف في معاملات الناس وصلاتهم ببعضهم حيث يرون أنهم لا بد لهم من شفعاء لدى الله لتحقيق مطالبهم، وأن الحصول على رضاء هؤلاء الشفعاء هو المهم في نظرهم ؛ لأن شفاعتهم مقبولة لدى الله حتما في تصورهم.
ومما رواه المفسرون من تفصيل في سياق هذه الآيات أنهم كانوا يجعلون ما لله للضيوف وما للشركاء لسدنة الأوثان الرامزة إلى الشركاء. وأنه كان إذا نزل الماء في أرض منذورة لله دون المنذورة للشركاء أو إذا كانت غلة الأرض أو نتاج الأنعام المنذورة لله أحسن من المنذور للشركاء حولوها للشركاء. وإذا سقط شيء مما هو منذور لله في نصيب المنذور للشركاء أبقوه فيه وإذا سقط شيء مما هو للشركاء في نصيب الله ردوه إلى نصيب الشركاء وإذا أصابهم جوع أكلوا مما نذروه لله دون المنذور للشركاء، وقالوا : إن الله غني عن نصيبه دون الشركاء. والغالب أن هذا كان يجري بإيعاز من السدنة ؛ لأنهم أصحاب الحظ والمصلحة.
ولم يذكر المفسرون شيئا واضحا في صدد جملة :﴿ وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم ﴾ [ ١٣٨ ] والمتبادر أنهم كانوا ينذرون بعض الأنعام والزروع لأناس ويحرمونها على أناس. ويعتبرون نذرهم هذا إلزاما دينيا لهم ولم يرووا شيئا واضحا كذلك في صدد الآية [ ١٣٩ ] وإنما قالوا قولين في تفسير جملة :﴿ ما في بطون هذه الأنعام ﴾ أحدهما : أنها تعني اللبن وثانيهما : أنها تعني الجنين. والقول الثاني هو الأوجه بقرينة جملة ﴿ وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ﴾ التي وردت في نفس الآية. والمتبادر أنهم كانوا ينذرون الأجنة قبل ولادتها للذكور فإذا جاءت حية اعتبروا ذلك علامة رضاء الله والشركاء فحرموا أكلها على الإناث وإذا جاءت ميتة اعتبروا أن الله والشركاء لم يرضوا عن نذرهم فأكلوا الميتة هم ونساؤهم معا.
أما ما جاء في الآية [ ١٣٩ ] من الإشارة إلى تحريم ظهور بعض الأنعام فقد كان بسبب اعتبارات ونذور معينة. وكان يطلق على الأنعام نتيجة لها اصطلاحات خاصة. وقد ذكرت هذه الاصطلاحات في آية سورة المائدة هذه :﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ﴾ [ ١٠٣ ] وروى المفسرون أنهم كانوا يشقون أذن الناقة التي تنتج خمسة بطون ويخلون سبيلها شكرا لله فلا يركبونها ولا يحلبونها ولا يجزون وبرها ولا يمنعونها من كلأ وماء ويسمونها ( بحيرة ) اشتقاقا من ( بحر ) بمعنى شق الأذن. وكانوا إذا مرض لهم مريض أو كانت لهم أمنية أو طال عليهم غياب غائب نذروا أن يعتقوا ناقة يعينونها فإذا شفي المريض أو تحققت الأمنية أو عاد الغائب ( سابوا ) الناقة المذكورة وسموها ( سائبة ) وصار له من المزايا ما ذكرناه في صدد البحيرة، وكانوا إذا أنتج الفحل عشرة بطون أعتقوه وسموه ( حاميا ) أي حمى نفسه وصار له نفس المزايا. وكانوا إذا ولدت الشاة لأول مرة أنثى كانت لهم فلا يصح عليها ذبح ولا قربان. وإذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وهو الذي يذبح ويقرب فإذا ولدت ذكرا وأنثى في بطن واحد كانت حالة الذكر كحالة الأنثى فلا يصح أن يقرب أو يذبح لله وقالوا : إن الأخت وصلت أخاها أي صانت دمه وسموها ( وصيلة ) ونص آية سورة المائدة صريح بأنهم كانوا يفعلون ذلك كنذر ملزم دينيا. والمتبادر أن الإشارة المنطوية في آية الأنعام [ ١٣٩ ] التي نحن في صددها هي في صدد الحالات النذرية الثلاث الأولى.
وقد روى المفسرون أن القصد من جملة ﴿ لا يذكرون اسم الله عليها ﴾ هو أن المشركين كانوا يذكرون على قرابينهم وأضاحيهم المنذورة أسماء شركائهم دون اسم الله عند ذبحها. وهذا متصل بالاعتبارات التي ذكرناها في صدد شرح سبب محاباتهم للشركاء.
هذا، والآية الرابعة تعطينا صورة لما كان يلحق بالمرأة العربية قبل الإسلام من تهضم واستهانة شأن. مما تعددت صوره في القرآن على ما سوف يأتي بيانه في مناسباته وقد يكون فيها دليل على أن العرب كانوا يأكلون ما يموت من الأنعام حتف أنفه أو ما يخرج من أرحامها من أجنة ميتة.

الأنعام : الكلمة تشمل الغنم ( الضأن والمعز ) والإبل والبقر.
سفها : جهلا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وجعلوا لله مما ذرأ ( ١ ) من الحرث ( ٢ ) والأنعام نصيبا فقالوا هذه لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ( ١٣٦ ) وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم ( ٣ ) وليلبسوا عليهم ( ٤ ) دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون ( ١٣٧ ) وقالوا هذه أنعام وحرث ( ٥ ) حجر لا يطعمها ( ٦ ) إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون ( ١٣٨ ) وقالوا ما في بطون هذه الأنعام ( ٧ ) خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم( ١٣٩ ) قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها ( ٨ ) بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين( ١٤٠ ) ﴾. [ ١٣٦ – ١٤٠ ].
في الآيات إشارة تنديدية إلى بعض عادات وتقاليد كان العرب يمارسونها ويصبغونها بصبغة دينية، فقد كانوا ينذرون شيئا من أنعامهم وزروعهم لله تعالى وشيئا للشركاء الذين كانوا يدعونهم ويعبدونهم معه. وكانوا يحابون بين قسم الله وقسم الشركاء. فإذا ظهر أن الأول أكثر نتاجا أو غلة بدلوا في التقسيم ليكون هذا من قسم الشركاء ولا يفعلون العكس. وكان بعضهم يقتل أولاده بوسوسة الشياطين وتزيينهم. وكانوا ينذرون تحريم أكل بعض الأنعام وغلات الزرع على أناس دون أناس. وينذرون تحريم ركوب بعض الأنعام وتحميلها ولا يذكرون اسم الله على ما يذبحونه منها. وكانوا ينذرون بعض ما في بطون أنعامهم للذكور دون الإناث إذا ولد حيا ويشركون الإناث فيما يولد ميتا. وكانوا يفعلون كل هذا على اعتبار أنها تقاليد دينية مقدسة، ويظنون أنهم في ممارستهم لها إنما يتقربون إلى الله تعالى ليحقق لهم مطالبهم ورغباتهم التي ينذرون نذورهم من أجلها.
وقد نعت الآيات هذه التقاليد والعادات الباطلة، وقررت أن الذين يمارسونها يسيرون وراء وسوسة الشياطين وتزييناتهم وأنهم في نسبتها إلى الله سبحانه يفترون الكذب عليه، وأن كل من يقتل ولده ويحرم ما رزقه الله وينسب ذلك إلى أصل ديني إلهي جهلا أو كذبا هو ضال وليس على حق وهدى.
تعليق على
( تقاليد المشركين في الأنعام والحرث وحجرهما وقتل الأولاد نذرا لله أو لمعبوداتهم )
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة خاصة لنزول الآيات التي تبدو فصلا ذا موضوع جديد. وعطفها على ما سبقها وإضمار الفعل في ( وجعلوا ) الذي يعود كما هو واضح إلى أناس كانوا موضوع الحديث في الآيات المعطوف عليها وهم المشركون يجعل الصلة قائمة بينها وبين ما سبقها كما هو المتبادر، بحيث يسوغ القول : إن الآيات جاءت استطرادية للتنديد بالمشركين بسبب ما كانوا يمارسونه من عادات وتقاليد سخيفة يصبغونها بصبغة دينية وينسبونها إلى الله سبحانه افتراء وجهلا في حين أنها من وساوس الشياطين.
وقتل الأولاد المذكورة في الآية الثانية ليس هو كما يتبادر لنا من روحها وأد البنات الذي أشير إليه في سورة التكوير التي سبق تفسيرها، ولا قتل الأولاد خشية الإملاق الذي نهي عنه في سورة الإسراء التي سبق تفسيرها أيضا، وإنما هو تقليد من التقاليد الجاهلية الدينية كان يمارسه العرب على سبيل النذر ؛ حيث كانوا إذا ما اشتد على أحدهم خطب أو كان له مطلب عظيم نذر بتقريب أحد أولاده قربانا لله أو للشركاء. وقد روت الروايات ١ أن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم نذر مثل هذا النذر. وأن امرأة بدوية نذرت أن تنحر ابنها عند الكعبة إن فعلت شيئا عينته ففعلته فأرادت أن تفي بنذرها بعد الإسلام فقيل لها : إن الله قد حرم ذلك فأفدت كما فدى عبد المطلب ابنه ٢.
ومهما قيل في هذه الروايات، فإن ورود الإشارة إلى هذا التقليد في القرآن دليل على أن العرب كانوا يمارسونه.
ولقد ورد في سورة الصافات آيات تذكر أن إبراهيم عليه السلام أمر في منامه بذبح ابنه قربانا لله كما ترى في هذه الآية :﴿ فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت إفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ( ١٠٢ ) ﴾ وهذه القصة واردة في سفر التكوين أيضا٣. فلا يبعد أن يكون التقليد الجاهلي مقتبسا من هذا التقليد أو متصلا به، ولاسيما أن العرب كانوا كما قلنا في مناسبات سابقة يتداولون صلة بنوتهم بإبراهيم وسيرهم في تقاليدهم وفق تقاليد إبراهيم وملته.
أما التقاليد الأخرى فالمستفاد مما رواه المفسرون٤ أنها من حيث أساسها كانت تهدف إلى التقرب إلى الله والشركاء بقصد تكثير النسل والغلات أو الشكر إذا كثر النسل والغلات أو إذا تحقق للمشركين مطلب. ويبدو من الآية الأولى أنهم كانوا يحابون شركاءهم ويحولون نصيب الله إليهم إن كان هو الأفضل انسياقا وراء مفهوم مألوف في معاملات الناس وصلاتهم ببعضهم حيث يرون أنهم لا بد لهم من شفعاء لدى الله لتحقيق مطالبهم، وأن الحصول على رضاء هؤلاء الشفعاء هو المهم في نظرهم ؛ لأن شفاعتهم مقبولة لدى الله حتما في تصورهم.
ومما رواه المفسرون من تفصيل في سياق هذه الآيات أنهم كانوا يجعلون ما لله للضيوف وما للشركاء لسدنة الأوثان الرامزة إلى الشركاء. وأنه كان إذا نزل الماء في أرض منذورة لله دون المنذورة للشركاء أو إذا كانت غلة الأرض أو نتاج الأنعام المنذورة لله أحسن من المنذور للشركاء حولوها للشركاء. وإذا سقط شيء مما هو منذور لله في نصيب المنذور للشركاء أبقوه فيه وإذا سقط شيء مما هو للشركاء في نصيب الله ردوه إلى نصيب الشركاء وإذا أصابهم جوع أكلوا مما نذروه لله دون المنذور للشركاء، وقالوا : إن الله غني عن نصيبه دون الشركاء. والغالب أن هذا كان يجري بإيعاز من السدنة ؛ لأنهم أصحاب الحظ والمصلحة.
ولم يذكر المفسرون شيئا واضحا في صدد جملة :﴿ وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم ﴾ [ ١٣٨ ] والمتبادر أنهم كانوا ينذرون بعض الأنعام والزروع لأناس ويحرمونها على أناس. ويعتبرون نذرهم هذا إلزاما دينيا لهم ولم يرووا شيئا واضحا كذلك في صدد الآية [ ١٣٩ ] وإنما قالوا قولين في تفسير جملة :﴿ ما في بطون هذه الأنعام ﴾ أحدهما : أنها تعني اللبن وثانيهما : أنها تعني الجنين. والقول الثاني هو الأوجه بقرينة جملة ﴿ وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ﴾ التي وردت في نفس الآية. والمتبادر أنهم كانوا ينذرون الأجنة قبل ولادتها للذكور فإذا جاءت حية اعتبروا ذلك علامة رضاء الله والشركاء فحرموا أكلها على الإناث وإذا جاءت ميتة اعتبروا أن الله والشركاء لم يرضوا عن نذرهم فأكلوا الميتة هم ونساؤهم معا.
أما ما جاء في الآية [ ١٣٩ ] من الإشارة إلى تحريم ظهور بعض الأنعام فقد كان بسبب اعتبارات ونذور معينة. وكان يطلق على الأنعام نتيجة لها اصطلاحات خاصة. وقد ذكرت هذه الاصطلاحات في آية سورة المائدة هذه :﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ﴾ [ ١٠٣ ] وروى المفسرون أنهم كانوا يشقون أذن الناقة التي تنتج خمسة بطون ويخلون سبيلها شكرا لله فلا يركبونها ولا يحلبونها ولا يجزون وبرها ولا يمنعونها من كلأ وماء ويسمونها ( بحيرة ) اشتقاقا من ( بحر ) بمعنى شق الأذن. وكانوا إذا مرض لهم مريض أو كانت لهم أمنية أو طال عليهم غياب غائب نذروا أن يعتقوا ناقة يعينونها فإذا شفي المريض أو تحققت الأمنية أو عاد الغائب ( سابوا ) الناقة المذكورة وسموها ( سائبة ) وصار له من المزايا ما ذكرناه في صدد البحيرة، وكانوا إذا أنتج الفحل عشرة بطون أعتقوه وسموه ( حاميا ) أي حمى نفسه وصار له نفس المزايا. وكانوا إذا ولدت الشاة لأول مرة أنثى كانت لهم فلا يصح عليها ذبح ولا قربان. وإذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وهو الذي يذبح ويقرب فإذا ولدت ذكرا وأنثى في بطن واحد كانت حالة الذكر كحالة الأنثى فلا يصح أن يقرب أو يذبح لله وقالوا : إن الأخت وصلت أخاها أي صانت دمه وسموها ( وصيلة ) ونص آية سورة المائدة صريح بأنهم كانوا يفعلون ذلك كنذر ملزم دينيا. والمتبادر أن الإشارة المنطوية في آية الأنعام [ ١٣٩ ] التي نحن في صددها هي في صدد الحالات النذرية الثلاث الأولى.
وقد روى المفسرون أن القصد من جملة ﴿ لا يذكرون اسم الله عليها ﴾ هو أن المشركين كانوا يذكرون على قرابينهم وأضاحيهم المنذورة أسماء شركائهم دون اسم الله عند ذبحها. وهذا متصل بالاعتبارات التي ذكرناها في صدد شرح سبب محاباتهم للشركاء.
هذا، والآية الرابعة تعطينا صورة لما كان يلحق بالمرأة العربية قبل الإسلام من تهضم واستهانة شأن. مما تعددت صوره في القرآن على ما سوف يأتي بيانه في مناسباته وقد يكون فيها دليل على أن العرب كانوا يأكلون ما يموت من الأنعام حتف أنفه أو ما يخرج من أرحامها من أجنة ميتة.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وجعلوا لله مما ذرأ ( ١ ) من الحرث ( ٢ ) والأنعام نصيبا فقالوا هذه لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون ( ١٣٦ ) وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم ( ٣ ) وليلبسوا عليهم ( ٤ ) دينهم ولو شاء الله ما فعلوه فذرهم وما يفترون ( ١٣٧ ) وقالوا هذه أنعام وحرث ( ٥ ) حجر لا يطعمها ( ٦ ) إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه سيجزيهم بما كانوا يفترون ( ١٣٨ ) وقالوا ما في بطون هذه الأنعام ( ٧ ) خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم( ١٣٩ ) قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها ( ٨ ) بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين( ١٤٠ ) ﴾. [ ١٣٦ – ١٤٠ ].
في الآيات إشارة تنديدية إلى بعض عادات وتقاليد كان العرب يمارسونها ويصبغونها بصبغة دينية، فقد كانوا ينذرون شيئا من أنعامهم وزروعهم لله تعالى وشيئا للشركاء الذين كانوا يدعونهم ويعبدونهم معه. وكانوا يحابون بين قسم الله وقسم الشركاء. فإذا ظهر أن الأول أكثر نتاجا أو غلة بدلوا في التقسيم ليكون هذا من قسم الشركاء ولا يفعلون العكس. وكان بعضهم يقتل أولاده بوسوسة الشياطين وتزيينهم. وكانوا ينذرون تحريم أكل بعض الأنعام وغلات الزرع على أناس دون أناس. وينذرون تحريم ركوب بعض الأنعام وتحميلها ولا يذكرون اسم الله على ما يذبحونه منها. وكانوا ينذرون بعض ما في بطون أنعامهم للذكور دون الإناث إذا ولد حيا ويشركون الإناث فيما يولد ميتا. وكانوا يفعلون كل هذا على اعتبار أنها تقاليد دينية مقدسة، ويظنون أنهم في ممارستهم لها إنما يتقربون إلى الله تعالى ليحقق لهم مطالبهم ورغباتهم التي ينذرون نذورهم من أجلها.
وقد نعت الآيات هذه التقاليد والعادات الباطلة، وقررت أن الذين يمارسونها يسيرون وراء وسوسة الشياطين وتزييناتهم وأنهم في نسبتها إلى الله سبحانه يفترون الكذب عليه، وأن كل من يقتل ولده ويحرم ما رزقه الله وينسب ذلك إلى أصل ديني إلهي جهلا أو كذبا هو ضال وليس على حق وهدى.
تعليق على
( تقاليد المشركين في الأنعام والحرث وحجرهما وقتل الأولاد نذرا لله أو لمعبوداتهم )
ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه مناسبة خاصة لنزول الآيات التي تبدو فصلا ذا موضوع جديد. وعطفها على ما سبقها وإضمار الفعل في ( وجعلوا ) الذي يعود كما هو واضح إلى أناس كانوا موضوع الحديث في الآيات المعطوف عليها وهم المشركون يجعل الصلة قائمة بينها وبين ما سبقها كما هو المتبادر، بحيث يسوغ القول : إن الآيات جاءت استطرادية للتنديد بالمشركين بسبب ما كانوا يمارسونه من عادات وتقاليد سخيفة يصبغونها بصبغة دينية وينسبونها إلى الله سبحانه افتراء وجهلا في حين أنها من وساوس الشياطين.
وقتل الأولاد المذكورة في الآية الثانية ليس هو كما يتبادر لنا من روحها وأد البنات الذي أشير إليه في سورة التكوير التي سبق تفسيرها، ولا قتل الأولاد خشية الإملاق الذي نهي عنه في سورة الإسراء التي سبق تفسيرها أيضا، وإنما هو تقليد من التقاليد الجاهلية الدينية كان يمارسه العرب على سبيل النذر ؛ حيث كانوا إذا ما اشتد على أحدهم خطب أو كان له مطلب عظيم نذر بتقريب أحد أولاده قربانا لله أو للشركاء. وقد روت الروايات ١ أن عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وآله وسلم نذر مثل هذا النذر. وأن امرأة بدوية نذرت أن تنحر ابنها عند الكعبة إن فعلت شيئا عينته ففعلته فأرادت أن تفي بنذرها بعد الإسلام فقيل لها : إن الله قد حرم ذلك فأفدت كما فدى عبد المطلب ابنه ٢.
ومهما قيل في هذه الروايات، فإن ورود الإشارة إلى هذا التقليد في القرآن دليل على أن العرب كانوا يمارسونه.
ولقد ورد في سورة الصافات آيات تذكر أن إبراهيم عليه السلام أمر في منامه بذبح ابنه قربانا لله كما ترى في هذه الآية :﴿ فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت إفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين ( ١٠٢ ) ﴾ وهذه القصة واردة في سفر التكوين أيضا٣. فلا يبعد أن يكون التقليد الجاهلي مقتبسا من هذا التقليد أو متصلا به، ولاسيما أن العرب كانوا كما قلنا في مناسبات سابقة يتداولون صلة بنوتهم بإبراهيم وسيرهم في تقاليدهم وفق تقاليد إبراهيم وملته.
أما التقاليد الأخرى فالمستفاد مما رواه المفسرون٤ أنها من حيث أساسها كانت تهدف إلى التقرب إلى الله والشركاء بقصد تكثير النسل والغلات أو الشكر إذا كثر النسل والغلات أو إذا تحقق للمشركين مطلب. ويبدو من الآية الأولى أنهم كانوا يحابون شركاءهم ويحولون نصيب الله إليهم إن كان هو الأفضل انسياقا وراء مفهوم مألوف في معاملات الناس وصلاتهم ببعضهم حيث يرون أنهم لا بد لهم من شفعاء لدى الله لتحقيق مطالبهم، وأن الحصول على رضاء هؤلاء الشفعاء هو المهم في نظرهم ؛ لأن شفاعتهم مقبولة لدى الله حتما في تصورهم.
ومما رواه المفسرون من تفصيل في سياق هذه الآيات أنهم كانوا يجعلون ما لله للضيوف وما للشركاء لسدنة الأوثان الرامزة إلى الشركاء. وأنه كان إذا نزل الماء في أرض منذورة لله دون المنذورة للشركاء أو إذا كانت غلة الأرض أو نتاج الأنعام المنذورة لله أحسن من المنذور للشركاء حولوها للشركاء. وإذا سقط شيء مما هو منذور لله في نصيب المنذور للشركاء أبقوه فيه وإذا سقط شيء مما هو للشركاء في نصيب الله ردوه إلى نصيب الشركاء وإذا أصابهم جوع أكلوا مما نذروه لله دون المنذور للشركاء، وقالوا : إن الله غني عن نصيبه دون الشركاء. والغالب أن هذا كان يجري بإيعاز من السدنة ؛ لأنهم أصحاب الحظ والمصلحة.
ولم يذكر المفسرون شيئا واضحا في صدد جملة :﴿ وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم ﴾ [ ١٣٨ ] والمتبادر أنهم كانوا ينذرون بعض الأنعام والزروع لأناس ويحرمونها على أناس. ويعتبرون نذرهم هذا إلزاما دينيا لهم ولم يرووا شيئا واضحا كذلك في صدد الآية [ ١٣٩ ] وإنما قالوا قولين في تفسير جملة :﴿ ما في بطون هذه الأنعام ﴾ أحدهما : أنها تعني اللبن وثانيهما : أنها تعني الجنين. والقول الثاني هو الأوجه بقرينة جملة ﴿ وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء ﴾ التي وردت في نفس الآية. والمتبادر أنهم كانوا ينذرون الأجنة قبل ولادتها للذكور فإذا جاءت حية اعتبروا ذلك علامة رضاء الله والشركاء فحرموا أكلها على الإناث وإذا جاءت ميتة اعتبروا أن الله والشركاء لم يرضوا عن نذرهم فأكلوا الميتة هم ونساؤهم معا.
أما ما جاء في الآية [ ١٣٩ ] من الإشارة إلى تحريم ظهور بعض الأنعام فقد كان بسبب اعتبارات ونذور معينة. وكان يطلق على الأنعام نتيجة لها اصطلاحات خاصة. وقد ذكرت هذه الاصطلاحات في آية سورة المائدة هذه :﴿ ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ﴾ [ ١٠٣ ] وروى المفسرون أنهم كانوا يشقون أذن الناقة التي تنتج خمسة بطون ويخلون سبيلها شكرا لله فلا يركبونها ولا يحلبونها ولا يجزون وبرها ولا يمنعونها من كلأ وماء ويسمونها ( بحيرة ) اشتقاقا من ( بحر ) بمعنى شق الأذن. وكانوا إذا مرض لهم مريض أو كانت لهم أمنية أو طال عليهم غياب غائب نذروا أن يعتقوا ناقة يعينونها فإذا شفي المريض أو تحققت الأمنية أو عاد الغائب ( سابوا ) الناقة المذكورة وسموها ( سائبة ) وصار له من المزايا ما ذكرناه في صدد البحيرة، وكانوا إذا أنتج الفحل عشرة بطون أعتقوه وسموه ( حاميا ) أي حمى نفسه وصار له نفس المزايا. وكانوا إذا ولدت الشاة لأول مرة أنثى كانت لهم فلا يصح عليها ذبح ولا قربان. وإذا ولدت ذكرا كان لآلهتهم وهو الذي يذبح ويقرب فإذا ولدت ذكرا وأنثى في بطن واحد كانت حالة الذكر كحالة الأنثى فلا يصح أن يقرب أو يذبح لله وقالوا : إن الأخت وصلت أخاها أي صانت دمه وسموها ( وصيلة ) ونص آية سورة المائدة صريح بأنهم كانوا يفعلون ذلك كنذر ملزم دينيا. والمتبادر أن الإشارة المنطوية في آية الأنعام [ ١٣٩ ] التي نحن في صددها هي في صدد الحالات النذرية الثلاث الأولى.
وقد روى المفسرون أن القصد من جملة ﴿ لا يذكرون اسم الله عليها ﴾ هو أن المشركين كانوا يذكرون على قرابينهم وأضاحيهم المنذورة أسماء شركائهم دون اسم الله عند ذبحها. وهذا متصل بالاعتبارات التي ذكرناها في صدد شرح سبب محاباتهم للشركاء.
هذا، والآية الرابعة تعطينا صورة لما كان يلحق بالمرأة العربية قبل الإسلام من تهضم واستهانة شأن. مما تعددت صوره في القرآن على ما سوف يأتي بيانه في مناسباته وقد يكون فيها دليل على أن العرب كانوا يأكلون ما يموت من الأنعام حتف أنفه أو ما يخرج من أرحامها من أجنة ميتة.

معروشات : أوجه الأقوال فيها أنها الأشجار المتعرشة، والأرجح أنها تعني أشجار العنب.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وهو الذي أنشأ جنات معروشات( ١ ) وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ( ١٤١ ) ومن الأنعام حمولة( ٢ ) وفرشا( ٣ ) كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ( ١٤٢ ) ﴾ [ ١٤١ – ١٤٢ ].
معاني الآيات واضحة وفيها تنويه بما خلق الله للناس ويسر منافعه لهم من الأنعام والزروع والأشجار على اختلاف أنواعها، وإهابة بهم إلى التزام حدود الاعتدال وتجنب الإسراف في الانتفاع بها وأداء حقه منها، وعدم إتباع خطوات الشيطان ووساوسه ؛ لأنه شديد العداوة لهم.
والمتبادر أن الآيات جاءت معقبة على سابقاتها، وقد انطوى فيها إفحام وإلزام للكفار، فالله سبحانه وحده الذي خلق كل شيء وليس لأي كائن علاقة أو دخل في ذلك. وقد أباح للناس ما خلق أكلا وانتفاعا. وتحريم ما أحل إنما هو من وساوس الشيطان المضللة. وواضح أن الإلزام والإفحام في الآيات مستمدان من عقيدة الكفار بالله وكونه هو الخالق البارئ المطلق التصرف في كونه ومخلوقاته، وهو ما قررته آيات عديدة أوردناها في مناسبات سابقة.
تعليق على الآية
﴿ وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ﴾.
والآية التالية لها
ومع أن للآيات خصوصية زمنية وجدلية فإنها انطوت على مبدأ من المبادئ القرآنية العامة المستمرة المدى تكرر في مناسبات متعددة، وهو إباحة الاستمتاع بكل طيب حلال مما خلقه الله من ماشية وزرع وشجر في حدود الاعتدال وعدم الإسراف. ومع أداء حق الفقراء منه وعدم التحليل والتحريم وفقا لتقاليد وعادات واعتبارات لا تستند إلى شرع إلهي ومحاربة كل تقليد وعادة واعتبار من شأنه أن يخل بذلك في تلك الحدود.
ومع أن جملة ﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ﴾ تفيد بقوة الأمر بإفراز الزكاة من غلة الأشجار والزروع وتوزيعها على مستحقيها. فإن الطبري وغيره يروون عن بعض أهل التأويل أن هذه الجملة لا تعني الزكاة لأن الزكاة فرضت في المدينة، وإنما عنت الأمر بالتصدق من ثمار الأرض، وأنها نسخت حين فرضت الزكاة. ويلحظ أنه ليس في السور المدنية ما يفيد بصراحة أن الزكاة إنما فرضت في العهد المدني وكل ما فيه بصراحة آية في سورة التوبة فيها تعيين لمصارف الزكاة. وبقية الآيات تأمر بإتيان الزكاة مع الصلاة إطلاقا.
ولقد علقنا على موضوع الزكاة تعليقا مسهبا في سورة المزمل رجحنا فيه أن الزكاة فرضت على المسلمين ومورست وعينت مقاديرها في العهد المكي. وأوردنا ما لمحناه في قرائن على ذلك في الآيات المكية ومن ذلك كلمة ﴿ حقه ﴾ في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها. ومن ذلك آيات سورة المعارج هذه :﴿ والذين في أموالهم حق معلوم ( ٢٤ ) للسائل والمحروم ( ٢٥ ) ﴾ وآية سورة الذاريات هذه :﴿ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ( ١٩ ) ﴾ ففي كل ذلك قرائن قوية على ذلك. وآيات المعارج والذاريات تذكر ( أموالهم ) مطلقا وآية الأنعام التي نحن في صددها تفيد أن غلات الأرض مما كان قد أوجب أداء زكاته أيضا.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية الأولى مدنية، وروى البغوي أنها نزلت في ثابت بن قيس الذي صرم خمسمائة نخلة في يوم واحد وقسمها على الفقراء ولم يترك لأهله شيئا فنهبت الآية على أن للفقراء حق ولكن ليست لهم جميع الغلة. والرواية غير واردة في الصحاح، ولعل رواية مدنيتها متصلة بذلك. والآية منسجمة كل الانسجام مع السياق والرواية غريبة في فحواها وتطبيقها. وهذا يسوغ التوقف فيها، والله أعلم.
هذا، وفي الآية دليل شرعي أن زكاة غلات الأرض تؤدى في موسم الحصاد، ولا تتبع لقاعدة حول الحول عليها المقررة لزكاة الأموال والعروض التجارية إذا ما كانت هذه الغلات قد كانت النصاب المقرر في السنة وزيادة. وسنزيد هذا الأمر شرحا في مناسبة آتية.

حمولة : للحمل.
فرشا : قيل إنها بمعنى الذبح وقيل إنها بمعنى الأثاث الذي يصنع من أوبار الأنعام وأصوافها وأشعارها.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وهو الذي أنشأ جنات معروشات( ١ ) وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ( ١٤١ ) ومن الأنعام حمولة( ٢ ) وفرشا( ٣ ) كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين ( ١٤٢ ) ﴾ [ ١٤١ – ١٤٢ ].
معاني الآيات واضحة وفيها تنويه بما خلق الله للناس ويسر منافعه لهم من الأنعام والزروع والأشجار على اختلاف أنواعها، وإهابة بهم إلى التزام حدود الاعتدال وتجنب الإسراف في الانتفاع بها وأداء حقه منها، وعدم إتباع خطوات الشيطان ووساوسه ؛ لأنه شديد العداوة لهم.
والمتبادر أن الآيات جاءت معقبة على سابقاتها، وقد انطوى فيها إفحام وإلزام للكفار، فالله سبحانه وحده الذي خلق كل شيء وليس لأي كائن علاقة أو دخل في ذلك. وقد أباح للناس ما خلق أكلا وانتفاعا. وتحريم ما أحل إنما هو من وساوس الشيطان المضللة. وواضح أن الإلزام والإفحام في الآيات مستمدان من عقيدة الكفار بالله وكونه هو الخالق البارئ المطلق التصرف في كونه ومخلوقاته، وهو ما قررته آيات عديدة أوردناها في مناسبات سابقة.
تعليق على الآية
﴿ وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ﴾.
والآية التالية لها
ومع أن للآيات خصوصية زمنية وجدلية فإنها انطوت على مبدأ من المبادئ القرآنية العامة المستمرة المدى تكرر في مناسبات متعددة، وهو إباحة الاستمتاع بكل طيب حلال مما خلقه الله من ماشية وزرع وشجر في حدود الاعتدال وعدم الإسراف. ومع أداء حق الفقراء منه وعدم التحليل والتحريم وفقا لتقاليد وعادات واعتبارات لا تستند إلى شرع إلهي ومحاربة كل تقليد وعادة واعتبار من شأنه أن يخل بذلك في تلك الحدود.
ومع أن جملة ﴿ وآتوا حقه يوم حصاده ﴾ تفيد بقوة الأمر بإفراز الزكاة من غلة الأشجار والزروع وتوزيعها على مستحقيها. فإن الطبري وغيره يروون عن بعض أهل التأويل أن هذه الجملة لا تعني الزكاة لأن الزكاة فرضت في المدينة، وإنما عنت الأمر بالتصدق من ثمار الأرض، وأنها نسخت حين فرضت الزكاة. ويلحظ أنه ليس في السور المدنية ما يفيد بصراحة أن الزكاة إنما فرضت في العهد المدني وكل ما فيه بصراحة آية في سورة التوبة فيها تعيين لمصارف الزكاة. وبقية الآيات تأمر بإتيان الزكاة مع الصلاة إطلاقا.
ولقد علقنا على موضوع الزكاة تعليقا مسهبا في سورة المزمل رجحنا فيه أن الزكاة فرضت على المسلمين ومورست وعينت مقاديرها في العهد المكي. وأوردنا ما لمحناه في قرائن على ذلك في الآيات المكية ومن ذلك كلمة ﴿ حقه ﴾ في الآية الأولى من الآيات التي نحن في صددها. ومن ذلك آيات سورة المعارج هذه :﴿ والذين في أموالهم حق معلوم ( ٢٤ ) للسائل والمحروم ( ٢٥ ) ﴾ وآية سورة الذاريات هذه :﴿ وفي أموالهم حق للسائل والمحروم ( ١٩ ) ﴾ ففي كل ذلك قرائن قوية على ذلك. وآيات المعارج والذاريات تذكر ( أموالهم ) مطلقا وآية الأنعام التي نحن في صددها تفيد أن غلات الأرض مما كان قد أوجب أداء زكاته أيضا.
ولقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أن الآية الأولى مدنية، وروى البغوي أنها نزلت في ثابت بن قيس الذي صرم خمسمائة نخلة في يوم واحد وقسمها على الفقراء ولم يترك لأهله شيئا فنهبت الآية على أن للفقراء حق ولكن ليست لهم جميع الغلة. والرواية غير واردة في الصحاح، ولعل رواية مدنيتها متصلة بذلك. والآية منسجمة كل الانسجام مع السياق والرواية غريبة في فحواها وتطبيقها. وهذا يسوغ التوقف فيها، والله أعلم.
هذا، وفي الآية دليل شرعي أن زكاة غلات الأرض تؤدى في موسم الحصاد، ولا تتبع لقاعدة حول الحول عليها المقررة لزكاة الأموال والعروض التجارية إذا ما كانت هذه الغلات قد كانت النصاب المقرر في السنة وزيادة. وسنزيد هذا الأمر شرحا في مناسبة آتية.

أزواج : حينما يكون الفرد لحدته يكون فردا وحينما يكون معه واحد آخر من نوعه ومن غير رحم أخرى يسمى كل منهما زوجا. وتعبير الزوجين يقصد به ذكر واحد وأنثى واحدة من نوع واحد. ومنه الآية ﴿ خلق الزوجين الذكر والأنثى ﴾ النجم :[ ٤٥ ] ومن الضأن اثنين أي زوجين ذكر وأنثى. وهكذا صار الجميع ثمانية أزواج ؛ لأنها أربعة أنواع كل نوع زوجان ذكر وأنثى.
نبئوني بعلم : بينوا لي وأخبروني بما عندكم من الدليل العلمي عن الله في ذلك.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ ثمانية أزواج ( ١ ) من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل ءالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم ( ٢ ) إن كنتم صادقين ( ١٤٣ ) ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء( ٣ ) إذ وصاكم الله بهـذا فمن أظلم( ٤ ) ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ( ١٤٤ ) قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه( ٥ ) إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا( ٦ ) أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل( ٧ ) لغير الله به فمن اضطر غير باغ( ٨ ) ولا عاد( ٩ ) فإن ربك غفور رحيم ( ١٤٥ ) ﴾ [ ١٤٣ – ١٤٥ ].
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمحاججة المشركين في صدد ما يحلونه ويحرمونه من الأنعام ومطالبتهم بما عندهم من برهان وعلم على أن الله تعالى هو الذي حرم ما يحرمون وأحل ما يحلون. وتنديد استطرادي بالذين يفترون على الله الكذب في ذلك. ليضلوا به الناس وإيذان بأن الله لا يمكن أن يسعد ويوفق الظالمين الذين يفعلون ذلك وتقرير بأنه ليس فيما أوحى الله شيء محرم على الآكلين إلا أربعة : وهي الميت حتف أنفه والدم السائل ولحم الخنزير وما ذبح باسم غير الله. مستثنى من ذلك حالة الاضطرار التي يغفرها الله على شرط عدم تجاوز الضرورة وعدم التوسع في الاستباحة ظلما وعدوانا على حدود الله المرسومة، ومعللا بكون تحريم الثلاثة الأولى ناشئا من نجاستها وخبثها، وتحريم الرابعة ناشئا مما انطوى فيه من الفسق أي الشرك مع الله وذكر اسم الشركاء على الذبيحة.
وأسلوب الآيات الأولى أسلوب تقريع وتحد وإنكار من جهة، وفيه إلزام وإفحام من جهة أخرى، فالذكور والإناث من الأزواج الثمانية مشتركة في إنتاج النسل من ذكر وأنثى، وهذا النسل لا يلبث أن يشترك في إنتاج نسل آخر من ذكر وأنثى، فكيف يمكن أن يكون نتاج ما هو حل محرما أو نتاج ما هو محرم حلالا، أو كيف يمكن أن يكون بعض نتاج ما هو حل محرما وبعضه حلالا أو بعض نتاج ما هو محرم حلالا، وبعضه محرما ؟
وصيغة الآيات وأسلوبها يدلان على أنها في صدد حكاية موقف من مواقف الجدل والمناظرة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين في مواضيع تقاليدهم الجاهلية. ويتبادر لنا أن هذه الحكاية لا تنحصر في هذه الآيات بل تشمل الآيات السابقة لها أيضا ابتداء من الآية [ ١٣٦ ] لما بين موضوعها وموضوع هذه الآيات من ارتباط وثيق.
ومضمون الآيات هنا يدل أيضا على أن العرب كانوا يعتبرون هذه التقاليد التحليلية التحريمية تقاليد دينية أولا، وأنها من شرائع الله الأعظم ثانيا. وقد قررت كذبهم وافتراءهم على الله ونددت بهم أشد تنديد لأنهم يقولون ويفعلون بغير علم ولا برهان.
تعليق على الآية
﴿ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ﴾
هذه الآية وإن كانت متصلة بالموضوع الخامس الذي دار الكلام عليه في الآيات فإن إطلاقها يجعل ما فيها تنديدا وإنذارا عاما مستمر التلقين. ولقد جاء في الآية [ ١١٩ ] من هذه السورة جملة فيها بعض المشابهة وعلقنا عليها بما تبادر لنا أنه المتوافق مع ما يلهمه فحواها ومقامها غير أنه يلحظ فرق بين فحوى الآيتين ؛ حيث جاءت الآية [ ١١٩ ] كإخبار وإنذار وجاءت هذه كتنديد وإنذار. وحيث تتحمل الأولى أن تكون تصدت من يضل متأثرا بهواه أو يضل غيره بهواه. وجاءت هذه صريحة ضد الذين يضلون غيرهم ووصفهم بالظالمين، ومع ذلك فإن ما نبهنا عليه وبخاصة ضد الذين يضلون بأهوائهم وافترائهم على الله بدون علم وبرهان ينطوي في هذه الآية أيضا.
ولقد حرمت الشريعة الموسوية التي تعتبر شريعة مسيحية أيضا من الوجهة النظرية والتي حكتها الأسفار المتداولة عزوا إلى توراة موسى المفقودة وإلى الروايات عنها هذه المحرمات الأربعة، غير أنها حرمت أشياء كثيرة أخرى من المأكولات غير محرمة في الشريعة الإسلامية بدون تعليل برجس أو فسق على ما سوف نذكره بعد. كما أنها لم تذكر حالة الاضطرار التي ذكرها القرآن وعفا عنها في نطاق الضرورة حيث يكون في هذا مصداق لما ذكرته آية الأعراف [ ١٥٧ ] من مهمة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من تحليل الطيبات وتحريم الخبائث ورفع الإصر والأغلال والتكاليف الشديدة التي كانت على اليهود والنصارى وبالتالي يكون في ذلك توكيد لذلك الترشيح.
تعليق على الآية
﴿ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ﴾ واستطراد إلى أسلوب التشريع النبوي
في تعليل المحرمات الأربعة في الآية بالرجس والفسق وحصر التحريم فيها ونفي تحريم أي شيء غيرها من المأكولات مبدأ من المبادئ القرآنية المحكمة بحل كل ما هو طيب وليس فيه معصية ولا خبيث ولا نجاسة من المأكولات عامة.
ومثل هذا يقال بالنسبة إلى استثناء حالة الاضطرار التي يسمح فيها للمضطر عدم الالتزام بذلك، وشرط أن لا يكون في ذلك تحايل ولا تجاوز للضرورة. وفي كل هذا ما فيه من ترشيح الشريعة الإسلامية للخلود والشمول، وهذه المبادئ مما تكرر تقريره في القرآن في مناسبات عديدة مر بعضها في السور التي سبق تفسيرها وبخاصة في سورة الأعراف.
ويلحظ أن الآية وصفت الدم المحرم بالمسفوح أي السائل بحيث يقال : إن هذا هو الأمر المستقر. ولقد روى البغوي عن ابن عباس وغيره أن المسلمين في الصدر الأول كانوا يرون الدم العالق باللحم والمخ والعظم والعروق خارجا عن نطاق التحريم ؛ لأنه غير سائل ويرون التحريم منحصرا في ما خرج من الأوداج سائلا في حالة حياة الحيوان، حيث كان العرب يفصدون الحيوان، وهو حي ويطبخون دمه. ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة في صدد حالة الاضطرار المذكورة في الآية، منها حديث رواه الطبري بطرقه عن أبي واقد الليثي قال :( قلنا : يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا فيها مخمصة فما يصلح لنا من الميتة ؟ قال : إذا لم تصطبحوا أو تغتدوا أو تحتفؤوا بقلا فشأنكم بها ). وروى حديثا آخر عن الحسن جاء فيه :( سأل رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى متى يحل لي الحرام ؟ قال : إلى أن يروي أهلك من اللبن أو تجئ ميرتهم ). وروى حديثا ثالثا عن مروة جاء فيه :( سأل رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الذي حرم الله عليه وأحله له. فقال : يحل لك الطيبات ويحرم عليك الخبائث. إلا أن تفتقر إلى طعام فتأكل منه حتى تستغني عنه. فقال رجل : وما فقري الذي يحل لي وما غناي الذي يغنيني عنه ؟ فقال : إذا كنت لا ترجو غناء تطلبه فتبلغ من ذلك شيئا فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه. فقال أعرابي : وما غناي الذي أدعه إذا وجدته فقال : إذا أرويت أهلك غبوقا من الليل فاجتنب ما حرم الله ).
ولقد أورد ابن كثير هذه الأحاديث في السياق نفسه وعزا أولها إلى الإمام أحمد وأورد بالإضافة إليها حديثا رواه إلى أبي داود جاء فيه :( إن ناقة ضلت لرجل فوجدها آخر فمرضت عنده. فقالت له امرأته : انحرها، فأبى فنفقت، فقالت له : اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها، فنأكله فقال : لا حتى أسأل رسول الله فأتاه، فسأله فقال : هل عندك غنى يغنيك ؟ قال : لا، قال : كلوها ). والأحاديث وإن لم ترد في الصحاح فإن فيها توافقا لروح الأحاديث فقال إن تناول المحرمات واجب إذا خاف المسلم على نفسه ولم يجد غيرها، وأورد حديثا أخرجه الإمام أحمد وابن حبان عن ابن عمر مرفوعا قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته ). وحديثا آخر أخرجه الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبل عرفة ). والحديثان وإن لم يردا في الصحاح فإن ما فيهما متسق مع فكرة الرخصة القرآنية كما هو المتبادر. ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الحكم وابن مردويه عن ابن عباس جاء فيه :( كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء، ويتركون أشياء تعذرا فبعث الله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو. وقرأ آية الأنعام التي نحن في صددها ). وهناك حديث رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه أيضا جاء فيه :( سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال : الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه )١.
وينطوي في الحديث حصر التحريم والتحليل في المأكولات في كتاب الله واعتبار ما سكت عن ذكره القرآن مباحا. غير أن هناك أحاديث عديدة تبدوا لأول وهلة أنها مناقضة للمبدأ الذي قرره هذا الحديث، وإخلال لنطاق التحريم الذي حددته الآية التي نحن في صددها.
منها حديث رواه أبو داود والترمذي عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله قال :( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن، عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا القطة إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه )٢. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه جاء فيه :( سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الذئب فقال ويأكل الذئب أحد فيه خير )٣. وحديث رواه ابن ماجه جاء فيه :( قيل يا رسول الله ما تقول في الثعلب ؟ قال : ومن أكل الثعلب )٤. وحديث رواه الخمسة عن أبي ثعلبة :( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع ). وحديث رواه مسلم وأبو داود عن ابن عباس قال :( نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطيور )٥. وحديث رواه الخمسة إلا البخاري عن جابر قال :( نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أكل الهر وعن أكل ثمنه )٦. وحديث رواه أبو داود وأحمد جاء فيه :( ذكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم القنفذ، فقال خبيثة من الخبائث )٧. وحديث رواه أبو مسلم عن جابر قال :( نهانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم خبير عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل )٨. وحديث رواه ابن ماجه والحاكم وصححه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال )٩. وحديث رواه الخمسة عن ابن أبي أوفى قال :( غزونا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبع غزوات أو ستا كنا نأكل معه الجراد )١٠. وحديث رواه الخمسة كذلك عن خالد بن الوليد جاء فيه :( إنه دخل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيت ميمونة، فأتى بضب محنوذ، فأهوى النبي يده إليه فقال بعض النسوة : أخبروا النبي بما يريد أن يأكل فقالوا : هو ضب يا رسول الله. فرفع يده فقلت : أحرام هو يا رسول الله ؟ قال : لا لكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه قال خالد : فاجتررته فأكلته والنبي ينظر )١١. ومع ذلك فإن رشيد رضا أورد حديثا قال : إنه أخرجه أبو داود عن عبد الله بن شبل :( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن أكل الضب ). وهذا الحديث لم يرد في التاج الذي جمع مؤلفه فيه أحاديث الخمسة البخاري ومسلم وأبو دا

شهداء : بمعنى حاضرين وشاهدين.
فمن أظلم : فمن أشد جرما وضلالا.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ ثمانية أزواج ( ١ ) من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل ءالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم ( ٢ ) إن كنتم صادقين ( ١٤٣ ) ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء( ٣ ) إذ وصاكم الله بهـذا فمن أظلم( ٤ ) ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ( ١٤٤ ) قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه( ٥ ) إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا( ٦ ) أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل( ٧ ) لغير الله به فمن اضطر غير باغ( ٨ ) ولا عاد( ٩ ) فإن ربك غفور رحيم ( ١٤٥ ) ﴾ [ ١٤٣ – ١٤٥ ].
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمحاججة المشركين في صدد ما يحلونه ويحرمونه من الأنعام ومطالبتهم بما عندهم من برهان وعلم على أن الله تعالى هو الذي حرم ما يحرمون وأحل ما يحلون. وتنديد استطرادي بالذين يفترون على الله الكذب في ذلك. ليضلوا به الناس وإيذان بأن الله لا يمكن أن يسعد ويوفق الظالمين الذين يفعلون ذلك وتقرير بأنه ليس فيما أوحى الله شيء محرم على الآكلين إلا أربعة : وهي الميت حتف أنفه والدم السائل ولحم الخنزير وما ذبح باسم غير الله. مستثنى من ذلك حالة الاضطرار التي يغفرها الله على شرط عدم تجاوز الضرورة وعدم التوسع في الاستباحة ظلما وعدوانا على حدود الله المرسومة، ومعللا بكون تحريم الثلاثة الأولى ناشئا من نجاستها وخبثها، وتحريم الرابعة ناشئا مما انطوى فيه من الفسق أي الشرك مع الله وذكر اسم الشركاء على الذبيحة.
وأسلوب الآيات الأولى أسلوب تقريع وتحد وإنكار من جهة، وفيه إلزام وإفحام من جهة أخرى، فالذكور والإناث من الأزواج الثمانية مشتركة في إنتاج النسل من ذكر وأنثى، وهذا النسل لا يلبث أن يشترك في إنتاج نسل آخر من ذكر وأنثى، فكيف يمكن أن يكون نتاج ما هو حل محرما أو نتاج ما هو محرم حلالا، أو كيف يمكن أن يكون بعض نتاج ما هو حل محرما وبعضه حلالا أو بعض نتاج ما هو محرم حلالا، وبعضه محرما ؟
وصيغة الآيات وأسلوبها يدلان على أنها في صدد حكاية موقف من مواقف الجدل والمناظرة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين في مواضيع تقاليدهم الجاهلية. ويتبادر لنا أن هذه الحكاية لا تنحصر في هذه الآيات بل تشمل الآيات السابقة لها أيضا ابتداء من الآية [ ١٣٦ ] لما بين موضوعها وموضوع هذه الآيات من ارتباط وثيق.
ومضمون الآيات هنا يدل أيضا على أن العرب كانوا يعتبرون هذه التقاليد التحليلية التحريمية تقاليد دينية أولا، وأنها من شرائع الله الأعظم ثانيا. وقد قررت كذبهم وافتراءهم على الله ونددت بهم أشد تنديد لأنهم يقولون ويفعلون بغير علم ولا برهان.
تعليق على الآية
﴿ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ﴾
هذه الآية وإن كانت متصلة بالموضوع الخامس الذي دار الكلام عليه في الآيات فإن إطلاقها يجعل ما فيها تنديدا وإنذارا عاما مستمر التلقين. ولقد جاء في الآية [ ١١٩ ] من هذه السورة جملة فيها بعض المشابهة وعلقنا عليها بما تبادر لنا أنه المتوافق مع ما يلهمه فحواها ومقامها غير أنه يلحظ فرق بين فحوى الآيتين ؛ حيث جاءت الآية [ ١١٩ ] كإخبار وإنذار وجاءت هذه كتنديد وإنذار. وحيث تتحمل الأولى أن تكون تصدت من يضل متأثرا بهواه أو يضل غيره بهواه. وجاءت هذه صريحة ضد الذين يضلون غيرهم ووصفهم بالظالمين، ومع ذلك فإن ما نبهنا عليه وبخاصة ضد الذين يضلون بأهوائهم وافترائهم على الله بدون علم وبرهان ينطوي في هذه الآية أيضا.
ولقد حرمت الشريعة الموسوية التي تعتبر شريعة مسيحية أيضا من الوجهة النظرية والتي حكتها الأسفار المتداولة عزوا إلى توراة موسى المفقودة وإلى الروايات عنها هذه المحرمات الأربعة، غير أنها حرمت أشياء كثيرة أخرى من المأكولات غير محرمة في الشريعة الإسلامية بدون تعليل برجس أو فسق على ما سوف نذكره بعد. كما أنها لم تذكر حالة الاضطرار التي ذكرها القرآن وعفا عنها في نطاق الضرورة حيث يكون في هذا مصداق لما ذكرته آية الأعراف [ ١٥٧ ] من مهمة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من تحليل الطيبات وتحريم الخبائث ورفع الإصر والأغلال والتكاليف الشديدة التي كانت على اليهود والنصارى وبالتالي يكون في ذلك توكيد لذلك الترشيح.
تعليق على الآية
﴿ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ﴾ واستطراد إلى أسلوب التشريع النبوي
في تعليل المحرمات الأربعة في الآية بالرجس والفسق وحصر التحريم فيها ونفي تحريم أي شيء غيرها من المأكولات مبدأ من المبادئ القرآنية المحكمة بحل كل ما هو طيب وليس فيه معصية ولا خبيث ولا نجاسة من المأكولات عامة.
ومثل هذا يقال بالنسبة إلى استثناء حالة الاضطرار التي يسمح فيها للمضطر عدم الالتزام بذلك، وشرط أن لا يكون في ذلك تحايل ولا تجاوز للضرورة. وفي كل هذا ما فيه من ترشيح الشريعة الإسلامية للخلود والشمول، وهذه المبادئ مما تكرر تقريره في القرآن في مناسبات عديدة مر بعضها في السور التي سبق تفسيرها وبخاصة في سورة الأعراف.
ويلحظ أن الآية وصفت الدم المحرم بالمسفوح أي السائل بحيث يقال : إن هذا هو الأمر المستقر. ولقد روى البغوي عن ابن عباس وغيره أن المسلمين في الصدر الأول كانوا يرون الدم العالق باللحم والمخ والعظم والعروق خارجا عن نطاق التحريم ؛ لأنه غير سائل ويرون التحريم منحصرا في ما خرج من الأوداج سائلا في حالة حياة الحيوان، حيث كان العرب يفصدون الحيوان، وهو حي ويطبخون دمه. ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة في صدد حالة الاضطرار المذكورة في الآية، منها حديث رواه الطبري بطرقه عن أبي واقد الليثي قال :( قلنا : يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا فيها مخمصة فما يصلح لنا من الميتة ؟ قال : إذا لم تصطبحوا أو تغتدوا أو تحتفؤوا بقلا فشأنكم بها ). وروى حديثا آخر عن الحسن جاء فيه :( سأل رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى متى يحل لي الحرام ؟ قال : إلى أن يروي أهلك من اللبن أو تجئ ميرتهم ). وروى حديثا ثالثا عن مروة جاء فيه :( سأل رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الذي حرم الله عليه وأحله له. فقال : يحل لك الطيبات ويحرم عليك الخبائث. إلا أن تفتقر إلى طعام فتأكل منه حتى تستغني عنه. فقال رجل : وما فقري الذي يحل لي وما غناي الذي يغنيني عنه ؟ فقال : إذا كنت لا ترجو غناء تطلبه فتبلغ من ذلك شيئا فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه. فقال أعرابي : وما غناي الذي أدعه إذا وجدته فقال : إذا أرويت أهلك غبوقا من الليل فاجتنب ما حرم الله ).
ولقد أورد ابن كثير هذه الأحاديث في السياق نفسه وعزا أولها إلى الإمام أحمد وأورد بالإضافة إليها حديثا رواه إلى أبي داود جاء فيه :( إن ناقة ضلت لرجل فوجدها آخر فمرضت عنده. فقالت له امرأته : انحرها، فأبى فنفقت، فقالت له : اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها، فنأكله فقال : لا حتى أسأل رسول الله فأتاه، فسأله فقال : هل عندك غنى يغنيك ؟ قال : لا، قال : كلوها ). والأحاديث وإن لم ترد في الصحاح فإن فيها توافقا لروح الأحاديث فقال إن تناول المحرمات واجب إذا خاف المسلم على نفسه ولم يجد غيرها، وأورد حديثا أخرجه الإمام أحمد وابن حبان عن ابن عمر مرفوعا قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته ). وحديثا آخر أخرجه الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبل عرفة ). والحديثان وإن لم يردا في الصحاح فإن ما فيهما متسق مع فكرة الرخصة القرآنية كما هو المتبادر. ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الحكم وابن مردويه عن ابن عباس جاء فيه :( كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء، ويتركون أشياء تعذرا فبعث الله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو. وقرأ آية الأنعام التي نحن في صددها ). وهناك حديث رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه أيضا جاء فيه :( سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال : الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه )١.
وينطوي في الحديث حصر التحريم والتحليل في المأكولات في كتاب الله واعتبار ما سكت عن ذكره القرآن مباحا. غير أن هناك أحاديث عديدة تبدوا لأول وهلة أنها مناقضة للمبدأ الذي قرره هذا الحديث، وإخلال لنطاق التحريم الذي حددته الآية التي نحن في صددها.
منها حديث رواه أبو داود والترمذي عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله قال :( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن، عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا القطة إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه )٢. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه جاء فيه :( سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الذئب فقال ويأكل الذئب أحد فيه خير )٣. وحديث رواه ابن ماجه جاء فيه :( قيل يا رسول الله ما تقول في الثعلب ؟ قال : ومن أكل الثعلب )٤. وحديث رواه الخمسة عن أبي ثعلبة :( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع ). وحديث رواه مسلم وأبو داود عن ابن عباس قال :( نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطيور )٥. وحديث رواه الخمسة إلا البخاري عن جابر قال :( نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أكل الهر وعن أكل ثمنه )٦. وحديث رواه أبو داود وأحمد جاء فيه :( ذكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم القنفذ، فقال خبيثة من الخبائث )٧. وحديث رواه أبو مسلم عن جابر قال :( نهانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم خبير عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل )٨. وحديث رواه ابن ماجه والحاكم وصححه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال )٩. وحديث رواه الخمسة عن ابن أبي أوفى قال :( غزونا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبع غزوات أو ستا كنا نأكل معه الجراد )١٠. وحديث رواه الخمسة كذلك عن خالد بن الوليد جاء فيه :( إنه دخل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيت ميمونة، فأتى بضب محنوذ، فأهوى النبي يده إليه فقال بعض النسوة : أخبروا النبي بما يريد أن يأكل فقالوا : هو ضب يا رسول الله. فرفع يده فقلت : أحرام هو يا رسول الله ؟ قال : لا لكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه قال خالد : فاجتررته فأكلته والنبي ينظر )١١. ومع ذلك فإن رشيد رضا أورد حديثا قال : إنه أخرجه أبو داود عن عبد الله بن شبل :( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن أكل الضب ). وهذا الحديث لم يرد في التاج الذي جمع مؤلفه فيه أحاديث الخمسة البخاري ومسلم وأبو دا

طاعم يطعمه : مأكول يأكله الناس.
دما مسفوحا : دما سائلا.
أهل : ذبح.
باغ : من البغي وهو تجاوز الحد المرسوم.
عاد : من العدوان.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ ثمانية أزواج ( ١ ) من الضأن اثنين ومن المعز اثنين قل ءالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم ( ٢ ) إن كنتم صادقين ( ١٤٣ ) ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين قل ءالذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين أم كنتم شهداء( ٣ ) إذ وصاكم الله بهـذا فمن أظلم( ٤ ) ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ( ١٤٤ ) قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه( ٥ ) إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا( ٦ ) أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل( ٧ ) لغير الله به فمن اضطر غير باغ( ٨ ) ولا عاد( ٩ ) فإن ربك غفور رحيم ( ١٤٥ ) ﴾ [ ١٤٣ – ١٤٥ ].
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمحاججة المشركين في صدد ما يحلونه ويحرمونه من الأنعام ومطالبتهم بما عندهم من برهان وعلم على أن الله تعالى هو الذي حرم ما يحرمون وأحل ما يحلون. وتنديد استطرادي بالذين يفترون على الله الكذب في ذلك. ليضلوا به الناس وإيذان بأن الله لا يمكن أن يسعد ويوفق الظالمين الذين يفعلون ذلك وتقرير بأنه ليس فيما أوحى الله شيء محرم على الآكلين إلا أربعة : وهي الميت حتف أنفه والدم السائل ولحم الخنزير وما ذبح باسم غير الله. مستثنى من ذلك حالة الاضطرار التي يغفرها الله على شرط عدم تجاوز الضرورة وعدم التوسع في الاستباحة ظلما وعدوانا على حدود الله المرسومة، ومعللا بكون تحريم الثلاثة الأولى ناشئا من نجاستها وخبثها، وتحريم الرابعة ناشئا مما انطوى فيه من الفسق أي الشرك مع الله وذكر اسم الشركاء على الذبيحة.
وأسلوب الآيات الأولى أسلوب تقريع وتحد وإنكار من جهة، وفيه إلزام وإفحام من جهة أخرى، فالذكور والإناث من الأزواج الثمانية مشتركة في إنتاج النسل من ذكر وأنثى، وهذا النسل لا يلبث أن يشترك في إنتاج نسل آخر من ذكر وأنثى، فكيف يمكن أن يكون نتاج ما هو حل محرما أو نتاج ما هو محرم حلالا، أو كيف يمكن أن يكون بعض نتاج ما هو حل محرما وبعضه حلالا أو بعض نتاج ما هو محرم حلالا، وبعضه محرما ؟
وصيغة الآيات وأسلوبها يدلان على أنها في صدد حكاية موقف من مواقف الجدل والمناظرة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين في مواضيع تقاليدهم الجاهلية. ويتبادر لنا أن هذه الحكاية لا تنحصر في هذه الآيات بل تشمل الآيات السابقة لها أيضا ابتداء من الآية [ ١٣٦ ] لما بين موضوعها وموضوع هذه الآيات من ارتباط وثيق.
ومضمون الآيات هنا يدل أيضا على أن العرب كانوا يعتبرون هذه التقاليد التحليلية التحريمية تقاليد دينية أولا، وأنها من شرائع الله الأعظم ثانيا. وقد قررت كذبهم وافتراءهم على الله ونددت بهم أشد تنديد لأنهم يقولون ويفعلون بغير علم ولا برهان.
تعليق على الآية
﴿ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ﴾
هذه الآية وإن كانت متصلة بالموضوع الخامس الذي دار الكلام عليه في الآيات فإن إطلاقها يجعل ما فيها تنديدا وإنذارا عاما مستمر التلقين. ولقد جاء في الآية [ ١١٩ ] من هذه السورة جملة فيها بعض المشابهة وعلقنا عليها بما تبادر لنا أنه المتوافق مع ما يلهمه فحواها ومقامها غير أنه يلحظ فرق بين فحوى الآيتين ؛ حيث جاءت الآية [ ١١٩ ] كإخبار وإنذار وجاءت هذه كتنديد وإنذار. وحيث تتحمل الأولى أن تكون تصدت من يضل متأثرا بهواه أو يضل غيره بهواه. وجاءت هذه صريحة ضد الذين يضلون غيرهم ووصفهم بالظالمين، ومع ذلك فإن ما نبهنا عليه وبخاصة ضد الذين يضلون بأهوائهم وافترائهم على الله بدون علم وبرهان ينطوي في هذه الآية أيضا.
ولقد حرمت الشريعة الموسوية التي تعتبر شريعة مسيحية أيضا من الوجهة النظرية والتي حكتها الأسفار المتداولة عزوا إلى توراة موسى المفقودة وإلى الروايات عنها هذه المحرمات الأربعة، غير أنها حرمت أشياء كثيرة أخرى من المأكولات غير محرمة في الشريعة الإسلامية بدون تعليل برجس أو فسق على ما سوف نذكره بعد. كما أنها لم تذكر حالة الاضطرار التي ذكرها القرآن وعفا عنها في نطاق الضرورة حيث يكون في هذا مصداق لما ذكرته آية الأعراف [ ١٥٧ ] من مهمة رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم من تحليل الطيبات وتحريم الخبائث ورفع الإصر والأغلال والتكاليف الشديدة التي كانت على اليهود والنصارى وبالتالي يكون في ذلك توكيد لذلك الترشيح.
تعليق على الآية
﴿ قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ﴾ واستطراد إلى أسلوب التشريع النبوي
في تعليل المحرمات الأربعة في الآية بالرجس والفسق وحصر التحريم فيها ونفي تحريم أي شيء غيرها من المأكولات مبدأ من المبادئ القرآنية المحكمة بحل كل ما هو طيب وليس فيه معصية ولا خبيث ولا نجاسة من المأكولات عامة.
ومثل هذا يقال بالنسبة إلى استثناء حالة الاضطرار التي يسمح فيها للمضطر عدم الالتزام بذلك، وشرط أن لا يكون في ذلك تحايل ولا تجاوز للضرورة. وفي كل هذا ما فيه من ترشيح الشريعة الإسلامية للخلود والشمول، وهذه المبادئ مما تكرر تقريره في القرآن في مناسبات عديدة مر بعضها في السور التي سبق تفسيرها وبخاصة في سورة الأعراف.
ويلحظ أن الآية وصفت الدم المحرم بالمسفوح أي السائل بحيث يقال : إن هذا هو الأمر المستقر. ولقد روى البغوي عن ابن عباس وغيره أن المسلمين في الصدر الأول كانوا يرون الدم العالق باللحم والمخ والعظم والعروق خارجا عن نطاق التحريم ؛ لأنه غير سائل ويرون التحريم منحصرا في ما خرج من الأوداج سائلا في حالة حياة الحيوان، حيث كان العرب يفصدون الحيوان، وهو حي ويطبخون دمه. ولقد أورد المفسرون أحاديث نبوية عديدة في صدد حالة الاضطرار المذكورة في الآية، منها حديث رواه الطبري بطرقه عن أبي واقد الليثي قال :( قلنا : يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا فيها مخمصة فما يصلح لنا من الميتة ؟ قال : إذا لم تصطبحوا أو تغتدوا أو تحتفؤوا بقلا فشأنكم بها ). وروى حديثا آخر عن الحسن جاء فيه :( سأل رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى متى يحل لي الحرام ؟ قال : إلى أن يروي أهلك من اللبن أو تجئ ميرتهم ). وروى حديثا ثالثا عن مروة جاء فيه :( سأل رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الذي حرم الله عليه وأحله له. فقال : يحل لك الطيبات ويحرم عليك الخبائث. إلا أن تفتقر إلى طعام فتأكل منه حتى تستغني عنه. فقال رجل : وما فقري الذي يحل لي وما غناي الذي يغنيني عنه ؟ فقال : إذا كنت لا ترجو غناء تطلبه فتبلغ من ذلك شيئا فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه. فقال أعرابي : وما غناي الذي أدعه إذا وجدته فقال : إذا أرويت أهلك غبوقا من الليل فاجتنب ما حرم الله ).
ولقد أورد ابن كثير هذه الأحاديث في السياق نفسه وعزا أولها إلى الإمام أحمد وأورد بالإضافة إليها حديثا رواه إلى أبي داود جاء فيه :( إن ناقة ضلت لرجل فوجدها آخر فمرضت عنده. فقالت له امرأته : انحرها، فأبى فنفقت، فقالت له : اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها، فنأكله فقال : لا حتى أسأل رسول الله فأتاه، فسأله فقال : هل عندك غنى يغنيك ؟ قال : لا، قال : كلوها ). والأحاديث وإن لم ترد في الصحاح فإن فيها توافقا لروح الأحاديث فقال إن تناول المحرمات واجب إذا خاف المسلم على نفسه ولم يجد غيرها، وأورد حديثا أخرجه الإمام أحمد وابن حبان عن ابن عمر مرفوعا قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته ). وحديثا آخر أخرجه الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبل عرفة ). والحديثان وإن لم يردا في الصحاح فإن ما فيهما متسق مع فكرة الرخصة القرآنية كما هو المتبادر. ولقد أورد ابن كثير حديثا رواه الحكم وابن مردويه عن ابن عباس جاء فيه :( كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء، ويتركون أشياء تعذرا فبعث الله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو. وقرأ آية الأنعام التي نحن في صددها ). وهناك حديث رواه أبو داود والترمذي والحاكم وصححه أيضا جاء فيه :( سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال : الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا عنه )١.
وينطوي في الحديث حصر التحريم والتحليل في المأكولات في كتاب الله واعتبار ما سكت عن ذكره القرآن مباحا. غير أن هناك أحاديث عديدة تبدوا لأول وهلة أنها مناقضة للمبدأ الذي قرره هذا الحديث، وإخلال لنطاق التحريم الذي حددته الآية التي نحن في صددها.
منها حديث رواه أبو داود والترمذي عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله قال :( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول عليكم بهذا القرآن، عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السبع ولا القطة إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه )٢. وحديث رواه الترمذي وابن ماجه جاء فيه :( سئل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الذئب فقال ويأكل الذئب أحد فيه خير )٣. وحديث رواه ابن ماجه جاء فيه :( قيل يا رسول الله ما تقول في الثعلب ؟ قال : ومن أكل الثعلب )٤. وحديث رواه الخمسة عن أبي ثعلبة :( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع ). وحديث رواه مسلم وأبو داود عن ابن عباس قال :( نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطيور )٥. وحديث رواه الخمسة إلا البخاري عن جابر قال :( نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن أكل الهر وعن أكل ثمنه )٦. وحديث رواه أبو داود وأحمد جاء فيه :( ذكر عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم القنفذ، فقال خبيثة من الخبائث )٧. وحديث رواه أبو مسلم عن جابر قال :( نهانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم خبير عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل )٨. وحديث رواه ابن ماجه والحاكم وصححه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال )٩. وحديث رواه الخمسة عن ابن أبي أوفى قال :( غزونا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبع غزوات أو ستا كنا نأكل معه الجراد )١٠. وحديث رواه الخمسة كذلك عن خالد بن الوليد جاء فيه :( إنه دخل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيت ميمونة، فأتى بضب محنوذ، فأهوى النبي يده إليه فقال بعض النسوة : أخبروا النبي بما يريد أن يأكل فقالوا : هو ضب يا رسول الله. فرفع يده فقلت : أحرام هو يا رسول الله ؟ قال : لا لكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه قال خالد : فاجتررته فأكلته والنبي ينظر )١١. ومع ذلك فإن رشيد رضا أورد حديثا قال : إنه أخرجه أبو داود عن عبد الله بن شبل :( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهى عن أكل الضب ). وهذا الحديث لم يرد في التاج الذي جمع مؤلفه فيه أحاديث الخمسة البخاري ومسلم وأبو دا

الحوايا : ذكر الطبري : أن الكلمة في أصلها تعني ما يحتويه البطن وما اجتمع واستدار، وأنها تطلق على بنات اللبن والمباعر والمرابض والأمعاء.
أو ما اختلط بعظم : قال المفسرون : إن ذلك عنى عظم العصعص في الإلية، وقالوا : إن ما اختلط بهذا العظم من الشحم هو المستثنى دون الإلية.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا( ١ ) أو ما اختلط بعظم( ٢ ) ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ( ١٤٦ ) فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ( ١٤٧ ) ﴾ [ ١٤٦ -١٣٧ ].
في الآية الأولى إشارة إلى ما حرم الله تعالى على اليهود من لحوم كل ذي ظفر ومن شحوم البقر والغنم، وإلى أن هذا التحريم إنما كان قصاصا على ما بدا منهم من بغي وانحراف، وفيها توكيد بأن هذا الصدق لا يتحمل ريبا. أما الآية الثانية فقد وجه الخطاب فيها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. بإنذار المشركين إذا كذبوه بأن المجرمين لن ينجوا من عذاب الله القاصم على ما اتصف به من الرحمة الواسعة، وقد انطوى في هذا أن المجرمين بإجرامهم قد حرموا من رحمة الله.
ولم ير المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآيتين والمتبادر أنهما استمرار للمناظرة القائمة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين وفصل من فصولها. بالرغم مما يبدو لأول وهلة من غرابة بسبب ذكر اليهود فإن إمعان النظر يؤدي إلى لمس الصلة ووحدة الموضوع بين الآيتين والآيات السابقة.
تعليق على آية
﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ﴾
ويتبادر أن هناك ثلاثة احتمالات لقيام تلك الصلة : الأول قصد الاستدراك في صدد التحريمات. فالآيات السابقة أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول : إنه لم يجد فيما أوحي إليه من المحرمات إلا الأربعة المذكورة، فأتبعت بالآيتين للإشارة إلى ما حرمه الله على اليهود خاصة إضافة إلى الأربعة المذكورة. وهو لحم كل ذي ظفر وشحم الغنم والبقر. وبذلك تبدو الصلة بين الآيتين وسابقاتهما واضحة من حيث إن التحريم الرباني على اليهود هو وحي رباني. والثاني : أن المناظرين الذين كانوا يعرفون على الأرجح أن عند اليهود محرمات أخرى احتجوا في سياق المناظرة بتحريم التوراة لحم كل ذي ظفر وشحم والغنم والبقر بقصد إفحام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يعلن إيمانه بالتوراة وكونها منزلة من الله، وكون القرآن قد جاء مصدقا لما بين يديه من الكتب المنزلة، ثم بقصد تبرير تقاليدهم على اعتبار أنهم ليسوا بدعا في نسبة ما هم عليه من تقاليد التحريم والتحليل إلى الله تعالى، وفي دعوى كون ذلك متوارثا بينهم جيلا بعد جيل. وبهذا أيضا تكون الصلة بين الآيتين وسابقاتها قائمة. والاحتمال الثالث : هو أن الآيتين استمرار لما سبقهما في صدد بيان ما حرم الله، فالله قد حرم الأربعة المذكورة في الآية السابقة لهما مباشرة وحرم كذلك على اليهود ما ذكرته الآية الأولى من الآيتين بالإضافة إلى الأربعة، وبذلك تبدو الصلة قوية أيضا.
وعلى فرض وجاهة الاحتمال الثاني تكون الآيتان ردا على المشركين حيث احتوت أولاهما تعليلا، لما احتجوا به من تحريم محرمات أخرى عند اليهود فقررت أن ذلك إنما كان عقوبة لليهود، وليس للسبب الأصيل الجوهري للتحريم وهو الرجس والفسق. وقد يرد أنه لا يوجد في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم ما يفيد أن ذلك كان عقوبة. وهذا لا يمنع أن يكون قد ورد في أسفار وقراطيس مفقودة. والمفروض أن يكون التحريم في أصله في التوراة التي أوحيت إلى موسى وكتبها في سفر خاص وهي مفقودة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأعراف، ولقد أشير إلى كون ذلك عقوبة من الله في آيات أخرى مكية ومدنية مثل آية النحل هذه :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( ١١٨ ) ﴾ وآية سورة النساء هذه :﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ( ١٢٠ ) ﴾ وكانت تتلى على مسمع اليهود.
وفي سورة آل عمران آية تحدت اليهود بالإتيان بالتوراة وتلاوتها حيث كانوا يحاججون في مسائل المحرمات بما لا يتطابق مع التوراة على ما تلهمه الآية هي :﴿ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ( ٩٣ ) ﴾ والذي نرجحه أن اليهود أدخلوا على هذه المسألة تحريفا في الأسفار المتداولة اليوم ؛ لأنها تسجل عليهم قصاصا ربانيا.
ولقد صرف بعض المفسرين ضمير الجمع الغائب في ﴿ كذبوك ﴾ إلى اليهود، ومنهم من صرفه إلى المشركين١. ويلحظ أن المناظرة والحديث هما في صدد تقاليد المشركين وبين هؤلاء وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والآيات مكية، ولم يرو خبر أي احتكاك ومناظرة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم واليهود في العهد المكي، وهذا ما يجعلنا نرجح القول الثاني، ونقول إن ذكر اليهود قد جاء في سياق المجادلة والمناظرة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين. وفي الآيات التالية تأييد لذلك حيث يستمر الكلام عن المشركين.
هذا، وفي سفر الأحبار المسمى أيضا باللاويين ثالث أسفار العهد القديم المتداولة اليوم بيان بما أمر الله موسى وهارون تبليغه إلى بني إسرائيل مما يحل لهم ويحرم عليهم من الحيوانات على اختلافها ومن الشحوم بشيء من التفصيل، بحيث يقال : إن الآية الأولى احتوت ما رأت حكمة التنزيل ذكره كافيا من ذلك.
وهناك توافق من جهة وتخالف من جهة أخرى في أمر الشحوم. ففي الإصحاح الثالث من السفر المذكور حرم أكل شحم القرابين الذي على المعي والكليتين والخاصرتين وجعله وقيدة للرب. ومع ذلك ففي آخر الإصحاح هذه العبارة ( كل شحم هو للرب برسم الدهر على ممر أجيالكم في جميع مساكنكم. كل شحم وكل دم لا تأكلوها ) وهذا كذلك في حين أن الآية استثنت الشحوم التي تحملها ظهور البقر والغنم فقط أو حواياهما أو ما اختلط بعظم. ومهما يكن من أمر فالذي نعتقده أن ما جاء في الآية كان واردا في قراطيس يهودية ومتداولا بين اليهود.
أما ذوات الظفر فقد ذكر في الإصحاح الحادي عشر من السفر المذكور أن المحرم منها هو ما كان ذا ظفر غي مشقوقة سواء أكان مجترا أم غير مجتر مثل الجمل والوبر والأرنب والنعام التي هي من المجترات وذوات أظفار غير مشقوقة، ومثل الخنزير الذي هو مجتر، ولكنه من ذوات الأظفار غير المشقوقة. وظاهر أنه ليس هناك تخالف بين هذا وبين مدى الآية. ولقد روى الطبري وغيره عن علماء الصدر الأول أن جملة ﴿ كل ذي ظفر ﴾ تعني كل ما لم يكن مشقوق الأصابع أو منفرج الأصابع من الأنعام والطير كالأيل والنعام. وهكذا يتفق المؤولون القدماء في فهم مدى الجملة مع ما كان متداولا عند اليهود وواردا في أسفارهم التي وصلت إلينا.
وواضح من هذا أن من المحرمات اليهودية ما هو غير محرم في الشريعة الإسلامية كالإبل والأرنب والنعام والدم المتجمد غير المسفوح. وفي سفر الأحبار محرمات أخرى غير محرمة في الشريعة الإسلامية مثل : حيوانات الماء من بحار وأنهار التي ليس لها زعانف في حين أن الله قد أحل للمسلمين صيد البحر مطلقا بدون تفريق كما جاء في آية سورة المائدة هذه :﴿ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ﴾ [ ٩٦ ] وفي ما حل للمسلمين وحرم على اليهود في شريعتهم مصداق لما قلناه من تخفيف رباني في الشريعة الإسلامية يرشحها للخلود والعموم.
وفي كتب التفسير بعض الأحاديث في صدد الشحوم ؛ حيث روى البغوي بطرقه عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله يقول عام الفتح المكي :( إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام قيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستضيء الناس بها فقال : لا هو حرام ثم قال : قاتل الله اليهود إن الله عز وجل لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه ). حيث يفيد هذا أن شحم الميتة حرام أكلا واستعمالا دون شحم ما يذبح ذبحا. والحديث لم يرد في كتب الصحاح والذي ورد في هذه الكتب مماثل للشطر الثاني منه حيث روى البخاري عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاتل الله اليهود لما حرم الله عليهم شحومها جملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنها )٢. حيث يفيد هذا أن الشطر الأول لم يثبت عند البخاري، وليس في الشطر الثاني تحريم، وإنما فيه تحذير المسلمين من الاحتيال على شرائع الله كما فعل اليهود والله تعالى أعلم.

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا( ١ ) أو ما اختلط بعظم( ٢ ) ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ( ١٤٦ ) فإن كذبوك فقل ربكم ذو رحمة واسعة ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين ( ١٤٧ ) ﴾ [ ١٤٦ -١٣٧ ].
في الآية الأولى إشارة إلى ما حرم الله تعالى على اليهود من لحوم كل ذي ظفر ومن شحوم البقر والغنم، وإلى أن هذا التحريم إنما كان قصاصا على ما بدا منهم من بغي وانحراف، وفيها توكيد بأن هذا الصدق لا يتحمل ريبا. أما الآية الثانية فقد وجه الخطاب فيها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. بإنذار المشركين إذا كذبوه بأن المجرمين لن ينجوا من عذاب الله القاصم على ما اتصف به من الرحمة الواسعة، وقد انطوى في هذا أن المجرمين بإجرامهم قد حرموا من رحمة الله.
ولم ير المفسرون مناسبة خاصة لنزول الآيتين والمتبادر أنهما استمرار للمناظرة القائمة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين وفصل من فصولها. بالرغم مما يبدو لأول وهلة من غرابة بسبب ذكر اليهود فإن إمعان النظر يؤدي إلى لمس الصلة ووحدة الموضوع بين الآيتين والآيات السابقة.
تعليق على آية
﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ﴾
ويتبادر أن هناك ثلاثة احتمالات لقيام تلك الصلة : الأول قصد الاستدراك في صدد التحريمات. فالآيات السابقة أمرت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول : إنه لم يجد فيما أوحي إليه من المحرمات إلا الأربعة المذكورة، فأتبعت بالآيتين للإشارة إلى ما حرمه الله على اليهود خاصة إضافة إلى الأربعة المذكورة. وهو لحم كل ذي ظفر وشحم الغنم والبقر. وبذلك تبدو الصلة بين الآيتين وسابقاتهما واضحة من حيث إن التحريم الرباني على اليهود هو وحي رباني. والثاني : أن المناظرين الذين كانوا يعرفون على الأرجح أن عند اليهود محرمات أخرى احتجوا في سياق المناظرة بتحريم التوراة لحم كل ذي ظفر وشحم والغنم والبقر بقصد إفحام النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي كان يعلن إيمانه بالتوراة وكونها منزلة من الله، وكون القرآن قد جاء مصدقا لما بين يديه من الكتب المنزلة، ثم بقصد تبرير تقاليدهم على اعتبار أنهم ليسوا بدعا في نسبة ما هم عليه من تقاليد التحريم والتحليل إلى الله تعالى، وفي دعوى كون ذلك متوارثا بينهم جيلا بعد جيل. وبهذا أيضا تكون الصلة بين الآيتين وسابقاتها قائمة. والاحتمال الثالث : هو أن الآيتين استمرار لما سبقهما في صدد بيان ما حرم الله، فالله قد حرم الأربعة المذكورة في الآية السابقة لهما مباشرة وحرم كذلك على اليهود ما ذكرته الآية الأولى من الآيتين بالإضافة إلى الأربعة، وبذلك تبدو الصلة قوية أيضا.
وعلى فرض وجاهة الاحتمال الثاني تكون الآيتان ردا على المشركين حيث احتوت أولاهما تعليلا، لما احتجوا به من تحريم محرمات أخرى عند اليهود فقررت أن ذلك إنما كان عقوبة لليهود، وليس للسبب الأصيل الجوهري للتحريم وهو الرجس والفسق. وقد يرد أنه لا يوجد في أسفار العهد القديم المتداولة اليوم ما يفيد أن ذلك كان عقوبة. وهذا لا يمنع أن يكون قد ورد في أسفار وقراطيس مفقودة. والمفروض أن يكون التحريم في أصله في التوراة التي أوحيت إلى موسى وكتبها في سفر خاص وهي مفقودة على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الأعراف، ولقد أشير إلى كون ذلك عقوبة من الله في آيات أخرى مكية ومدنية مثل آية النحل هذه :﴿ وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ( ١١٨ ) ﴾ وآية سورة النساء هذه :﴿ فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ( ١٢٠ ) ﴾ وكانت تتلى على مسمع اليهود.
وفي سورة آل عمران آية تحدت اليهود بالإتيان بالتوراة وتلاوتها حيث كانوا يحاججون في مسائل المحرمات بما لا يتطابق مع التوراة على ما تلهمه الآية هي :﴿ كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين ( ٩٣ ) ﴾ والذي نرجحه أن اليهود أدخلوا على هذه المسألة تحريفا في الأسفار المتداولة اليوم ؛ لأنها تسجل عليهم قصاصا ربانيا.
ولقد صرف بعض المفسرين ضمير الجمع الغائب في ﴿ كذبوك ﴾ إلى اليهود، ومنهم من صرفه إلى المشركين١. ويلحظ أن المناظرة والحديث هما في صدد تقاليد المشركين وبين هؤلاء وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم. والآيات مكية، ولم يرو خبر أي احتكاك ومناظرة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم واليهود في العهد المكي، وهذا ما يجعلنا نرجح القول الثاني، ونقول إن ذكر اليهود قد جاء في سياق المجادلة والمناظرة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين. وفي الآيات التالية تأييد لذلك حيث يستمر الكلام عن المشركين.
هذا، وفي سفر الأحبار المسمى أيضا باللاويين ثالث أسفار العهد القديم المتداولة اليوم بيان بما أمر الله موسى وهارون تبليغه إلى بني إسرائيل مما يحل لهم ويحرم عليهم من الحيوانات على اختلافها ومن الشحوم بشيء من التفصيل، بحيث يقال : إن الآية الأولى احتوت ما رأت حكمة التنزيل ذكره كافيا من ذلك.
وهناك توافق من جهة وتخالف من جهة أخرى في أمر الشحوم. ففي الإصحاح الثالث من السفر المذكور حرم أكل شحم القرابين الذي على المعي والكليتين والخاصرتين وجعله وقيدة للرب. ومع ذلك ففي آخر الإصحاح هذه العبارة ( كل شحم هو للرب برسم الدهر على ممر أجيالكم في جميع مساكنكم. كل شحم وكل دم لا تأكلوها ) وهذا كذلك في حين أن الآية استثنت الشحوم التي تحملها ظهور البقر والغنم فقط أو حواياهما أو ما اختلط بعظم. ومهما يكن من أمر فالذي نعتقده أن ما جاء في الآية كان واردا في قراطيس يهودية ومتداولا بين اليهود.
أما ذوات الظفر فقد ذكر في الإصحاح الحادي عشر من السفر المذكور أن المحرم منها هو ما كان ذا ظفر غي مشقوقة سواء أكان مجترا أم غير مجتر مثل الجمل والوبر والأرنب والنعام التي هي من المجترات وذوات أظفار غير مشقوقة، ومثل الخنزير الذي هو مجتر، ولكنه من ذوات الأظفار غير المشقوقة. وظاهر أنه ليس هناك تخالف بين هذا وبين مدى الآية. ولقد روى الطبري وغيره عن علماء الصدر الأول أن جملة ﴿ كل ذي ظفر ﴾ تعني كل ما لم يكن مشقوق الأصابع أو منفرج الأصابع من الأنعام والطير كالأيل والنعام. وهكذا يتفق المؤولون القدماء في فهم مدى الجملة مع ما كان متداولا عند اليهود وواردا في أسفارهم التي وصلت إلينا.
وواضح من هذا أن من المحرمات اليهودية ما هو غير محرم في الشريعة الإسلامية كالإبل والأرنب والنعام والدم المتجمد غير المسفوح. وفي سفر الأحبار محرمات أخرى غير محرمة في الشريعة الإسلامية مثل : حيوانات الماء من بحار وأنهار التي ليس لها زعانف في حين أن الله قد أحل للمسلمين صيد البحر مطلقا بدون تفريق كما جاء في آية سورة المائدة هذه :﴿ أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة ﴾ [ ٩٦ ] وفي ما حل للمسلمين وحرم على اليهود في شريعتهم مصداق لما قلناه من تخفيف رباني في الشريعة الإسلامية يرشحها للخلود والعموم.
وفي كتب التفسير بعض الأحاديث في صدد الشحوم ؛ حيث روى البغوي بطرقه عن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله يقول عام الفتح المكي :( إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام قيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستضيء الناس بها فقال : لا هو حرام ثم قال : قاتل الله اليهود إن الله عز وجل لما حرم عليهم شحومها جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه ). حيث يفيد هذا أن شحم الميتة حرام أكلا واستعمالا دون شحم ما يذبح ذبحا. والحديث لم يرد في كتب الصحاح والذي ورد في هذه الكتب مماثل للشطر الثاني منه حيث روى البخاري عن جابر قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم قاتل الله اليهود لما حرم الله عليهم شحومها جملوها ثم باعوها فأكلوا ثمنها )٢. حيث يفيد هذا أن الشطر الأول لم يثبت عند البخاري، وليس في الشطر الثاني تحريم، وإنما فيه تحذير المسلمين من الاحتيال على شرائع الله كما فعل اليهود والله تعالى أعلم.

﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ( ١٤٨ ) قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ( ١٤٩ ) قل هلم شهداءكم( ١ ) الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون( ٢ ) ( ١٥٠ ) ﴾ [ ١٤٨ – ١٥٠ ].
في الآيات حكاية لما يمكن أن يقوله المشركون أمام الحقائق التي يقررها القرآن والحجج الدامغة التي يفحمهم بها حيث يعمدون إلى المداولة والمماراة فيقولون : إن الله لو شاء لما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا شيئا مما جرينا على تحريمه. ورد على أقوالهم هذه بأن أمثالهم من قبلهم كانوا يعمدون إلى مثل مداورتهم ومماراتهم في مواقف الجحود والمكابرة والتكذيب التي كانوا يقفونها من أنبيائهم فأدى ذلك إلى وقوع بأس الله وعذابه فيهم. وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمطالبتهم بإظهار ما عندهم من علم أو برهان على صحة تقاليدهم وصدق نسبتها إلى الله.
وبأن يقرر لهم بأنهم لا يتبعون إلا الظن والتخمين. وبأن يعلن أن لله الحجة البالغة وأنه لو شاء لهدى الناس جميعا. وبأن يتحدى المشركين بالإتيان بشهدائهم الذين يشهدون أن الله حرم ما يحرمون. وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم إتباع أهواء وأوهام المكذبين الذين لا يؤمنون بالآخرة ويجعلون لله شركاء وأندادا معادلين له إذا ما جاءوا فعلا بشهدائهم وشهدوا بما يؤيد مزاعمهم وبعدم التسليم بصحة شهادتهم وتصديقهم فيها.
وواضح أن الآيات متصلة بالآيات السابقة، وفصل من فصول المناظرة القائمة بين المشركين والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في صدد تقاليد التحريم والتحليل.
وبدء الآية الأولى يتضمن أن القول الذي حكي عن المشركين هو ما يتوقع صدوره منهم. وهذا الأسلوب مألوف في المناظرات كما لا يخفى. ولا يبعد أن يكون قد وقع منهم في موقف مماثل فتوقع أن يقولوه في هذا الموقف. وفي آية في سورة النحل سجل صدور ذلك منهم فعلا وهي هذه :﴿ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ( ٣٥ ) ﴾.
والمتبادر أن المشركين قصدوا إفحام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم إنما يفعلون ما يفعلون بمشيئة الله وأنه لو لم يشأ لما فعلوه. فردت عليهم الآيات ردين أشارت في أولهما إلى وحدة أخلاق وطبيعة الجاحدين المكذبين دائما في نزوعهم إلى المراوغة واللعب بالألفاظ. وأكدت في ثانيهما أن الله لو شاء لهدى الناس جميعا، حيث انطوى فيه تقرير حكمة الله سبحانه التي اقتضت أن يكون للناس حرية الاختيار والسلوك لتكون له عليهم الحجة الدامغة البالغة.
تعليق على الآية
﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ﴾
والآيتين التاليتين لها
ولقد كانت هذه الآيات موضوع بحث وجدل في بعض كتب التفسير بين أصحاب المذاهب الكلامية المختلفة منهم، الذين يقول فريق منهم : إن الإنسان خالق أفعاله، وإن الله يقدرها عليه من الأزل تقريرا لا حيلة فيه. والذين يقولون : إنه خالق كل شيء ومقدره ومن ذلك أفعال العباد.
والآيات في أصلها حكاية لقول المشركين ورد عليهم وتكذيب لهم. ومع ذلك فنحن نرى فيها على ضوء الشرح الذي شرحناه بها، والذي نرجو أن يكون الصواب ردا مستمر التلقين على كل من يريد أن يقرر أن القرآن يؤيد فكرة التحتيم الجبري الأزلي على الناس في تصرفاتهم وأفعالهم. وعلى كل من يحاول التنصل من مسؤولية ما يقترفه من آثام بحجة أن هذا مكتوب عليه وأن الله لو لم يشأ فإنه لا يكون. وفي الآية الأولى نصا وروحا قرينة على أننا على صواب إن شاء الله ؛ حيث حكت حجة المشركين التي عمدوا إليها بأسلوب تنديدي وتسفيهي وأنكرتها إنكارا شديدا وأرجعتها إلى الروح الخبيثة التي يصدر عنها المشركون المكابرون المكذبون في كل ظرف ومكان وهي روح التعطيل والمراوغة والجدل والمكابرة.
وفي الآية نكتة لاذعة، فالمشركون حاولوا أن يقيموا الحجة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم لو شاء الله ما أشركنا والقرآن يرد عليهم ويقول : إن الحجة البالغة لله تعالى فهو لو شاء لهداهم ولكنه تركهم لاختيارهم لتكون حجته هي الدامغة وتدحض بذلك حجتهم. فالله لا يمكن أن يشاء لهم الشرك وإنما يدعوهم إلى الإيمان فإذا كانوا اختاروا الشرك وتقاليده فذلك من حثهم وعدم ارعوائهم لدعوة الحق.
ومن تحصيل الحاصل أن نقول : إن في كل ما تقدم تقبيحا قرآنيا مستمرا لهذه الروح ودعوة للمسلمين إلى النفرة منها. ولقد تكرر هذا في القرآن كثيرا ومرت أمثلة منه في سور سبق تفسيرها. ولا نرى هذا متنافيا مع واجب الإيمان بما قرره القرآن بأساليب متنوعة بأن مشيئة الله هي النافذة في كونه وخلقه وعباده. ولقد قلنا في مناسبة سابقة بأنه جعل الاختيار والكسب للناس لتحميلهم مسؤولية أعمالهم في الأصل من مشيئة الله أيضا وأن الله لا يمكن أن يشاء لعباده الكفر والكذب والتكذيب لآياته ورسله وقد رتب عليهم الجزاء الذي يستحقه ذلك وهذا مما يصح أن يورد في هذا المقام أيضا. والله أعلم.
تعليق على جملة
﴿ قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ﴾
لم نطلع في كتب التفسير التي اطلعنا عليها على بيان لمدى كلمة الشهداء في مقامها. وروح الآية تلهم أنهم أشخاص أحياء يمكن أن يستشهد بهم وأن يشهدوا، وتلهم أن لهم صفة دينية ما تسوغ لهم الشهادة في الأمور والتقاليد الدينية والفصل في مشاكلها ويستشهد بهم فيها. والذي يتبادر لنا أنهم إما أن يكونوا من اليهود في معرض الاستشهاد على ما عندهم. وقد قلنا قبل قليل في سياق تفسير الآيتين السابقتين : إن من المحتمل أن يكون المشركون قد احتجوا بهم. ولقد كان في مكة بعض أفراد من الإسرائيليين على ما تفيده آية وردت في سورة الأحقاف وهي هذه :﴿ قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ( ١٠ ) ﴾ وإما أن يكونوا سدنة الأصنام أو سدنة الكعبة أو أناسا كان لهم صفة أو مركز ديني عند العرب يرجع إليهم في الشؤون والمشاكل الدينية مما هو مألوف في كل ملة ونحلة.
ولقد ذكرت الروايات١ أنه كان في مكة طبقة خاصة تسمى الأحماس يعترف العرب لها بالامتياز وكانت تسن بعض السنن والعادات فيسير الناس عليها. ونحن نميل إلى أن الآية قد عنت هذه الطبقة أكثر مما عنت اليهود. وفي الآية قرينة على هذا الترجيح حيث انطوى فيها توقع شهادة الشهداء بما يؤيد مزاعم المشركين وتقاليدهم والله أعلم.
١ انظر تفسير الآيات في كشاف الزمخشري والجزء الخامس من تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ص ٢٢٤ – ٢٢٨ وكتابنا عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيئته قبل البعثة ص ١٩٤ – ١٩٥..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٨:﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ( ١٤٨ ) قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ( ١٤٩ ) قل هلم شهداءكم( ١ ) الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون( ٢ ) ( ١٥٠ ) ﴾ [ ١٤٨ – ١٥٠ ].
في الآيات حكاية لما يمكن أن يقوله المشركون أمام الحقائق التي يقررها القرآن والحجج الدامغة التي يفحمهم بها حيث يعمدون إلى المداولة والمماراة فيقولون : إن الله لو شاء لما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا شيئا مما جرينا على تحريمه. ورد على أقوالهم هذه بأن أمثالهم من قبلهم كانوا يعمدون إلى مثل مداورتهم ومماراتهم في مواقف الجحود والمكابرة والتكذيب التي كانوا يقفونها من أنبيائهم فأدى ذلك إلى وقوع بأس الله وعذابه فيهم. وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمطالبتهم بإظهار ما عندهم من علم أو برهان على صحة تقاليدهم وصدق نسبتها إلى الله.
وبأن يقرر لهم بأنهم لا يتبعون إلا الظن والتخمين. وبأن يعلن أن لله الحجة البالغة وأنه لو شاء لهدى الناس جميعا. وبأن يتحدى المشركين بالإتيان بشهدائهم الذين يشهدون أن الله حرم ما يحرمون. وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم إتباع أهواء وأوهام المكذبين الذين لا يؤمنون بالآخرة ويجعلون لله شركاء وأندادا معادلين له إذا ما جاءوا فعلا بشهدائهم وشهدوا بما يؤيد مزاعمهم وبعدم التسليم بصحة شهادتهم وتصديقهم فيها.
وواضح أن الآيات متصلة بالآيات السابقة، وفصل من فصول المناظرة القائمة بين المشركين والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في صدد تقاليد التحريم والتحليل.
وبدء الآية الأولى يتضمن أن القول الذي حكي عن المشركين هو ما يتوقع صدوره منهم. وهذا الأسلوب مألوف في المناظرات كما لا يخفى. ولا يبعد أن يكون قد وقع منهم في موقف مماثل فتوقع أن يقولوه في هذا الموقف. وفي آية في سورة النحل سجل صدور ذلك منهم فعلا وهي هذه :﴿ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ( ٣٥ ) ﴾.
والمتبادر أن المشركين قصدوا إفحام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم إنما يفعلون ما يفعلون بمشيئة الله وأنه لو لم يشأ لما فعلوه. فردت عليهم الآيات ردين أشارت في أولهما إلى وحدة أخلاق وطبيعة الجاحدين المكذبين دائما في نزوعهم إلى المراوغة واللعب بالألفاظ. وأكدت في ثانيهما أن الله لو شاء لهدى الناس جميعا، حيث انطوى فيه تقرير حكمة الله سبحانه التي اقتضت أن يكون للناس حرية الاختيار والسلوك لتكون له عليهم الحجة الدامغة البالغة.
تعليق على الآية
﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ﴾
والآيتين التاليتين لها
ولقد كانت هذه الآيات موضوع بحث وجدل في بعض كتب التفسير بين أصحاب المذاهب الكلامية المختلفة منهم، الذين يقول فريق منهم : إن الإنسان خالق أفعاله، وإن الله يقدرها عليه من الأزل تقريرا لا حيلة فيه. والذين يقولون : إنه خالق كل شيء ومقدره ومن ذلك أفعال العباد.
والآيات في أصلها حكاية لقول المشركين ورد عليهم وتكذيب لهم. ومع ذلك فنحن نرى فيها على ضوء الشرح الذي شرحناه بها، والذي نرجو أن يكون الصواب ردا مستمر التلقين على كل من يريد أن يقرر أن القرآن يؤيد فكرة التحتيم الجبري الأزلي على الناس في تصرفاتهم وأفعالهم. وعلى كل من يحاول التنصل من مسؤولية ما يقترفه من آثام بحجة أن هذا مكتوب عليه وأن الله لو لم يشأ فإنه لا يكون. وفي الآية الأولى نصا وروحا قرينة على أننا على صواب إن شاء الله ؛ حيث حكت حجة المشركين التي عمدوا إليها بأسلوب تنديدي وتسفيهي وأنكرتها إنكارا شديدا وأرجعتها إلى الروح الخبيثة التي يصدر عنها المشركون المكابرون المكذبون في كل ظرف ومكان وهي روح التعطيل والمراوغة والجدل والمكابرة.
وفي الآية نكتة لاذعة، فالمشركون حاولوا أن يقيموا الحجة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم لو شاء الله ما أشركنا والقرآن يرد عليهم ويقول : إن الحجة البالغة لله تعالى فهو لو شاء لهداهم ولكنه تركهم لاختيارهم لتكون حجته هي الدامغة وتدحض بذلك حجتهم. فالله لا يمكن أن يشاء لهم الشرك وإنما يدعوهم إلى الإيمان فإذا كانوا اختاروا الشرك وتقاليده فذلك من حثهم وعدم ارعوائهم لدعوة الحق.
ومن تحصيل الحاصل أن نقول : إن في كل ما تقدم تقبيحا قرآنيا مستمرا لهذه الروح ودعوة للمسلمين إلى النفرة منها. ولقد تكرر هذا في القرآن كثيرا ومرت أمثلة منه في سور سبق تفسيرها. ولا نرى هذا متنافيا مع واجب الإيمان بما قرره القرآن بأساليب متنوعة بأن مشيئة الله هي النافذة في كونه وخلقه وعباده. ولقد قلنا في مناسبة سابقة بأنه جعل الاختيار والكسب للناس لتحميلهم مسؤولية أعمالهم في الأصل من مشيئة الله أيضا وأن الله لا يمكن أن يشاء لعباده الكفر والكذب والتكذيب لآياته ورسله وقد رتب عليهم الجزاء الذي يستحقه ذلك وهذا مما يصح أن يورد في هذا المقام أيضا. والله أعلم.
تعليق على جملة
﴿ قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ﴾
لم نطلع في كتب التفسير التي اطلعنا عليها على بيان لمدى كلمة الشهداء في مقامها. وروح الآية تلهم أنهم أشخاص أحياء يمكن أن يستشهد بهم وأن يشهدوا، وتلهم أن لهم صفة دينية ما تسوغ لهم الشهادة في الأمور والتقاليد الدينية والفصل في مشاكلها ويستشهد بهم فيها. والذي يتبادر لنا أنهم إما أن يكونوا من اليهود في معرض الاستشهاد على ما عندهم. وقد قلنا قبل قليل في سياق تفسير الآيتين السابقتين : إن من المحتمل أن يكون المشركون قد احتجوا بهم. ولقد كان في مكة بعض أفراد من الإسرائيليين على ما تفيده آية وردت في سورة الأحقاف وهي هذه :﴿ قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ( ١٠ ) ﴾ وإما أن يكونوا سدنة الأصنام أو سدنة الكعبة أو أناسا كان لهم صفة أو مركز ديني عند العرب يرجع إليهم في الشؤون والمشاكل الدينية مما هو مألوف في كل ملة ونحلة.
ولقد ذكرت الروايات١ أنه كان في مكة طبقة خاصة تسمى الأحماس يعترف العرب لها بالامتياز وكانت تسن بعض السنن والعادات فيسير الناس عليها. ونحن نميل إلى أن الآية قد عنت هذه الطبقة أكثر مما عنت اليهود. وفي الآية قرينة على هذا الترجيح حيث انطوى فيها توقع شهادة الشهداء بما يؤيد مزاعم المشركين وتقاليدهم والله أعلم.
١ انظر تفسير الآيات في كشاف الزمخشري والجزء الخامس من تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ص ٢٢٤ – ٢٢٨ وكتابنا عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيئته قبل البعثة ص ١٩٤ – ١٩٥..

شهداؤكم : تكرر ورود هذه الكلمة وكلمة شهداء أيضا وجاءت في معان متنوعة، منها الشركاء ومنها سدنة الأصنام ورجال الدين عند المشركين. ومنها : جمع للشهيد الذي يشهد على ما يقع بين الناس من أفعال ومعاملات. ومنها : جمع للشهيد الذي يحصي على الناس أعمالهم من الملائكة، ويشهد عليهم ويشهد محاسبتهم يوم القيامة. ومنها : جمع للشهيد الذي يموت شهيدا في الجهاد وفي غير الجهاد. والكلمة هنا رجال دين المشركين على ما يفيده فحوى العبارة.
وهم بربهم يعدلون : يجعلون لربهم معادلين وأندادا.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤٨:﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ( ١٤٨ ) قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ( ١٤٩ ) قل هلم شهداءكم( ١ ) الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون( ٢ ) ( ١٥٠ ) ﴾ [ ١٤٨ – ١٥٠ ].
في الآيات حكاية لما يمكن أن يقوله المشركون أمام الحقائق التي يقررها القرآن والحجج الدامغة التي يفحمهم بها حيث يعمدون إلى المداولة والمماراة فيقولون : إن الله لو شاء لما أشركنا نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا شيئا مما جرينا على تحريمه. ورد على أقوالهم هذه بأن أمثالهم من قبلهم كانوا يعمدون إلى مثل مداورتهم ومماراتهم في مواقف الجحود والمكابرة والتكذيب التي كانوا يقفونها من أنبيائهم فأدى ذلك إلى وقوع بأس الله وعذابه فيهم. وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بمطالبتهم بإظهار ما عندهم من علم أو برهان على صحة تقاليدهم وصدق نسبتها إلى الله.
وبأن يقرر لهم بأنهم لا يتبعون إلا الظن والتخمين. وبأن يعلن أن لله الحجة البالغة وأنه لو شاء لهدى الناس جميعا. وبأن يتحدى المشركين بالإتيان بشهدائهم الذين يشهدون أن الله حرم ما يحرمون. وأمر آخر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بعدم إتباع أهواء وأوهام المكذبين الذين لا يؤمنون بالآخرة ويجعلون لله شركاء وأندادا معادلين له إذا ما جاءوا فعلا بشهدائهم وشهدوا بما يؤيد مزاعمهم وبعدم التسليم بصحة شهادتهم وتصديقهم فيها.
وواضح أن الآيات متصلة بالآيات السابقة، وفصل من فصول المناظرة القائمة بين المشركين والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في صدد تقاليد التحريم والتحليل.
وبدء الآية الأولى يتضمن أن القول الذي حكي عن المشركين هو ما يتوقع صدوره منهم. وهذا الأسلوب مألوف في المناظرات كما لا يخفى. ولا يبعد أن يكون قد وقع منهم في موقف مماثل فتوقع أن يقولوه في هذا الموقف. وفي آية في سورة النحل سجل صدور ذلك منهم فعلا وهي هذه :﴿ وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين ( ٣٥ ) ﴾.
والمتبادر أن المشركين قصدوا إفحام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم إنما يفعلون ما يفعلون بمشيئة الله وأنه لو لم يشأ لما فعلوه. فردت عليهم الآيات ردين أشارت في أولهما إلى وحدة أخلاق وطبيعة الجاحدين المكذبين دائما في نزوعهم إلى المراوغة واللعب بالألفاظ. وأكدت في ثانيهما أن الله لو شاء لهدى الناس جميعا، حيث انطوى فيه تقرير حكمة الله سبحانه التي اقتضت أن يكون للناس حرية الاختيار والسلوك لتكون له عليهم الحجة الدامغة البالغة.
تعليق على الآية
﴿ سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون ﴾
والآيتين التاليتين لها
ولقد كانت هذه الآيات موضوع بحث وجدل في بعض كتب التفسير بين أصحاب المذاهب الكلامية المختلفة منهم، الذين يقول فريق منهم : إن الإنسان خالق أفعاله، وإن الله يقدرها عليه من الأزل تقريرا لا حيلة فيه. والذين يقولون : إنه خالق كل شيء ومقدره ومن ذلك أفعال العباد.
والآيات في أصلها حكاية لقول المشركين ورد عليهم وتكذيب لهم. ومع ذلك فنحن نرى فيها على ضوء الشرح الذي شرحناه بها، والذي نرجو أن يكون الصواب ردا مستمر التلقين على كل من يريد أن يقرر أن القرآن يؤيد فكرة التحتيم الجبري الأزلي على الناس في تصرفاتهم وأفعالهم. وعلى كل من يحاول التنصل من مسؤولية ما يقترفه من آثام بحجة أن هذا مكتوب عليه وأن الله لو لم يشأ فإنه لا يكون. وفي الآية الأولى نصا وروحا قرينة على أننا على صواب إن شاء الله ؛ حيث حكت حجة المشركين التي عمدوا إليها بأسلوب تنديدي وتسفيهي وأنكرتها إنكارا شديدا وأرجعتها إلى الروح الخبيثة التي يصدر عنها المشركون المكابرون المكذبون في كل ظرف ومكان وهي روح التعطيل والمراوغة والجدل والمكابرة.
وفي الآية نكتة لاذعة، فالمشركون حاولوا أن يقيموا الحجة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم لو شاء الله ما أشركنا والقرآن يرد عليهم ويقول : إن الحجة البالغة لله تعالى فهو لو شاء لهداهم ولكنه تركهم لاختيارهم لتكون حجته هي الدامغة وتدحض بذلك حجتهم. فالله لا يمكن أن يشاء لهم الشرك وإنما يدعوهم إلى الإيمان فإذا كانوا اختاروا الشرك وتقاليده فذلك من حثهم وعدم ارعوائهم لدعوة الحق.
ومن تحصيل الحاصل أن نقول : إن في كل ما تقدم تقبيحا قرآنيا مستمرا لهذه الروح ودعوة للمسلمين إلى النفرة منها. ولقد تكرر هذا في القرآن كثيرا ومرت أمثلة منه في سور سبق تفسيرها. ولا نرى هذا متنافيا مع واجب الإيمان بما قرره القرآن بأساليب متنوعة بأن مشيئة الله هي النافذة في كونه وخلقه وعباده. ولقد قلنا في مناسبة سابقة بأنه جعل الاختيار والكسب للناس لتحميلهم مسؤولية أعمالهم في الأصل من مشيئة الله أيضا وأن الله لا يمكن أن يشاء لعباده الكفر والكذب والتكذيب لآياته ورسله وقد رتب عليهم الجزاء الذي يستحقه ذلك وهذا مما يصح أن يورد في هذا المقام أيضا. والله أعلم.
تعليق على جملة
﴿ قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ﴾
لم نطلع في كتب التفسير التي اطلعنا عليها على بيان لمدى كلمة الشهداء في مقامها. وروح الآية تلهم أنهم أشخاص أحياء يمكن أن يستشهد بهم وأن يشهدوا، وتلهم أن لهم صفة دينية ما تسوغ لهم الشهادة في الأمور والتقاليد الدينية والفصل في مشاكلها ويستشهد بهم فيها. والذي يتبادر لنا أنهم إما أن يكونوا من اليهود في معرض الاستشهاد على ما عندهم. وقد قلنا قبل قليل في سياق تفسير الآيتين السابقتين : إن من المحتمل أن يكون المشركون قد احتجوا بهم. ولقد كان في مكة بعض أفراد من الإسرائيليين على ما تفيده آية وردت في سورة الأحقاف وهي هذه :﴿ قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ( ١٠ ) ﴾ وإما أن يكونوا سدنة الأصنام أو سدنة الكعبة أو أناسا كان لهم صفة أو مركز ديني عند العرب يرجع إليهم في الشؤون والمشاكل الدينية مما هو مألوف في كل ملة ونحلة.
ولقد ذكرت الروايات١ أنه كان في مكة طبقة خاصة تسمى الأحماس يعترف العرب لها بالامتياز وكانت تسن بعض السنن والعادات فيسير الناس عليها. ونحن نميل إلى أن الآية قد عنت هذه الطبقة أكثر مما عنت اليهود. وفي الآية قرينة على هذا الترجيح حيث انطوى فيها توقع شهادة الشهداء بما يؤيد مزاعم المشركين وتقاليدهم والله أعلم.
١ انظر تفسير الآيات في كشاف الزمخشري والجزء الخامس من تاريخ العرب قبل الإسلام لجواد علي ص ٢٢٤ – ٢٢٨ وكتابنا عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبيئته قبل البعثة ص ١٩٤ – ١٩٥..

﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ( ١٥١ ) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ( ١٥٢ ) وأن هذا صراطي مستقيما( ١ ) فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله( ٢ ) ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون( ١٥٣ ) ﴾ [ ١٥١ – ١٥٣ ].
الآيات واضحة العبارة، والمتبادر أنها متصلة بمواقف المناظرة والمحاججة الذي حكته الآيات السابقة لها وتعقيب عليها. وأنها موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين الذين هم الطرف الثاني في المناظرة.
تعليق على آية
﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾
والآيتين التاليتين لها
ومع ما في توجيه الخطاب في الآيات من خصوصية زمنية وجدلية فإنها في حد ذاتها من جوامع الآيات القرآنية المشتملة على الأوامر والنواهي الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية العامة التي يمكن توجيهها لجميع الناس ولجميع المسلمين في كل زمن ومكان.
ولقد تكرر في القرآن هذا النوع من الجوامع، وقد مرت اثنتان غير هذه، واحدة في سورة الفرقان وأخرى في سورة الإسراء. ويلحظ أن كلا من المجموعات الثلاث جاء بأسلوب خاص. مجموعة الفرقان جاءت وصفا لأخلاق وسيرة عباد الله المخلصين المؤمنين ومجموعة الإسراء جاءت كوصايا ربانية مباشرة. وهذه المجموعة جاءت كبيان موجه إلى السامعين بما حرم الله وأمر في سياق مناظرة قائمة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين مما فيه صور من النظم القرآني وتنوعه. وهذه المجموعة أكثر تشابها وتساوقا مع مجموعة الإسراء، وقد علقنا على هذه المجموعة بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الإسراء، وجل ما قلناه ينسحب على هذه المجموعة فلا نرى حاجة إلى تكراره، غير أن في هذه المجموعة مبدأين لم يردا في تلك.
أولهما : النهي عن محاباة ذوي القربى، وقول الحق والعدل دون غيرهما.
وثانيهما : إيجاب التزام سبيل الله الواضح الواحد الذي لا يتعدد وعدم التفرق مذاهب وشيعا.
والمبدأ الأول ينطوي على وجوب التزام المرء الحق والعدل والإنصاف في كل ظرف، وتجاه أي مؤثر داخلي وخارجي. وفي هذا من السمو والقوة ما هو ظاهر ولاسيما إن عصبية القرابة من الأمور الراسخة في النفوس.
أما المبدأ الثاني : فهو مزدوج المدى من حيث إن الآيات موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين تعقيبا على المناظرة وينطوي في ذلك تنبيه إلى أن سبيل الله واحدة لا تعدد فيها وواضحة لا عماء فيها وأن على المشركين الذين يعترفون بالله ويتحججون بمشيئته في ما هم عليه من تقاليد أن يلتزموا هذه السبيل ويدعوا المراوغة والأهواء التي تبعدهم عنها إذا كانوا حقا راغبين في الهدى ودين الله. ومن حيث شمول الخطاب للمسلمين في كل زمان ومكان.
والمتبادر أنه ينطوي في هذا بالنسبة للمسلمين تقرير كون سبيل الله واحدة وواضحة فيما يقرره القرآن والرسول من المبادئ المحكمة وإيجاب التزام ذلك وعدم الحيدان عنه ؛ لأن في هذا الضلال عن سبيل الله.
وخواتم الآيات الثلاث جديرة بالتنويه من حيت انطواؤها على التنبيه إلى أن هذه الآيات المتضمنة لوصايا الله وبيان ما حرمه إنما تتلى على الناس ليتدبروها ويعقلوها ويتفكروا بواجباتهم فيما يفعلون، وليراقبوا الله ويتقوه في أعمالهم. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه السلسلة أحاديث عديدة منها ما أورده في صدد المجموعة جملة، ومنها ما أورده في صدد مفرداتها.
فما أورده في صدد المجموعة جملة حديث رواه الحاكم في مسنده عن عبادة بن الصامت قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيكم يبايعني على ثلاث ؟ ثم تلا الآيات، ثم قال : فمن وفى فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه )، حيث ينطوي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر هذه المجموعة جامعة لأمهات الأمور. ومن ذلك حديث أخرجه الأودي عن ابن مسعود قال :( من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات ). وحديث رواه الحاكم عن ابن عباس قال :( في الأنعام آيات هن أم الكتاب، وقرأ هذه الآيات ).
ولقد أوردنا بعض ما أورده في المفردات في سياق سلسلة الإسراء ونورد بعض ما لم نورده. فمن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي ذر الغفاري قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاني جبريل فبشرني أنه من مات من أمتك ولم يشرك بالله شيئا دخل الجنة ) قلت :( الكلام لأبي ذر ) وإن زنى وإن سرق قال : وإن زنى وإن سرق وكرر السؤال فكرر النبي الجواب، وفي الرابعة قال : على رغم أنف أبي ذر )١.
ومن ذلك حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا أحد أغير من الله. من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ). ومن ذلك حديث أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحاب الكيل والميزان إنكم وليتم أمرا هلكت فيه الأمم السابقة قبلكم ). ومن ذلك حديث رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود قال :( خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطا بيده، ثم قال : هذا سبيل الله مستقيما، وخط عن يمينه وعن شماله ثم قال : هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ ﴿ هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ [ ١٥٣ ].
هذا، ويلفت النظر إلى قيد قتل الأولاد خشية الإملاق ؛ حيث يجعل هذا القيد الفرق واضحا بين هذا العمل وقتل الأولاد المذكور في الآية [ ١٣٧ ] من هذه السورة من حيث إن ما ذكر في الآية [ ١٣٧ ] كان تقليدا دينيا على ما شرحناه في مناسبتها في حين أن ما ذكر في الآية [ ١٥١ ] التي نحن في صددها عمل ناتج عن أسباب اقتصادية.
هذا والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن الآيات الثلاث مدنية، ولم نر ما يؤيد ذلك في كتب أخرى. ويلحظ أن الانسجام قوي بينهما وبين الآيات السابقة لها حتى لتكاد تكون جزءاغير قابل للانفصال عن المناظرة القائمة في صدد التحليل والتحريم. وأسلوبها أكثر انطباقا على أسلوب الآيات المكية من حيث هو أسلوب حث وتشويق ووصية. وأكثر من واحد من المفسرين٢ قالوا : إن الآيات موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين ؛ ولهذا فإننا نتوقف في هذه الرواية.
ولعل الحديث الذي رواه الحاكم عن عبادة بن الصامت وأوردناه قبل قليل أوهم بعض الرواة أنها نزلت في المدينة ولم يتنبه إلى الصلة الشديدة بينهما وبين الآيات السابقة. والله أعلم.
تعليق على جملة
﴿ لا نكلف نفسا إلا وسعها ﴾
ومما يحسن لفت النظر إليه بخاصة تعبير ﴿ لا نكلف نفسا إلا وسعها ﴾ في صدد توفية الوزن والكيل حيث يكون من المألوف شيء من النقص والزيادة فيهما لا يمكن تجنبه. والتعبير يلهم تقرير كون المرء إنما يؤخذ إذا تعمد الغش. أما إذا انتفت نية ذلك فلا محل للتشديد إلى درجة الوسواس. ويكفي المرء أن يبذل جهده. ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال :( قال رسول الله : من أوفى على يده في الكيل والميزان والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما لم يؤاخذ ). والحديث لم يرد في الصحاح، ولكنه متساوق مع روح الآية والمبدأ بإطلاقه أي ﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾ البقرة :[ ٢٨٦ ] من المبادئ القرآنية المحكمة، وقد ورد مثل هذا التعبير في الآية [ ٤٢ ] من سورة الأعراف وعلقنا عليه بما فيه الكفاية.
١ التاج جـ ١ ص ٢٦، ولقد أورد مؤلف التاج بعد هذا الحديث حديثا آخر رواه الشيخان والترمذي أيضا عن أنس (ص ٢٧) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان) حيث يمكن أن يقال إن الله تعالى إذا لم يغفر للزاني والسارق اللذين يموتان ولا يشركان به شيئا فإنه يعذبهما ما شاء ثم يخرجهما من النار ويدخلهما الجنة. وبعبارة أخرى يكون في هذا الحديث توضيح لمدى الحديث الأول والله أعلم.
٢ انظر تفسيرها في الخازن والبغوي وابن كثير..
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥١:﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ( ١٥١ ) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ( ١٥٢ ) وأن هذا صراطي مستقيما( ١ ) فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله( ٢ ) ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون( ١٥٣ ) ﴾ [ ١٥١ – ١٥٣ ].
الآيات واضحة العبارة، والمتبادر أنها متصلة بمواقف المناظرة والمحاججة الذي حكته الآيات السابقة لها وتعقيب عليها. وأنها موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين الذين هم الطرف الثاني في المناظرة.
تعليق على آية
﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾
والآيتين التاليتين لها
ومع ما في توجيه الخطاب في الآيات من خصوصية زمنية وجدلية فإنها في حد ذاتها من جوامع الآيات القرآنية المشتملة على الأوامر والنواهي الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية العامة التي يمكن توجيهها لجميع الناس ولجميع المسلمين في كل زمن ومكان.
ولقد تكرر في القرآن هذا النوع من الجوامع، وقد مرت اثنتان غير هذه، واحدة في سورة الفرقان وأخرى في سورة الإسراء. ويلحظ أن كلا من المجموعات الثلاث جاء بأسلوب خاص. مجموعة الفرقان جاءت وصفا لأخلاق وسيرة عباد الله المخلصين المؤمنين ومجموعة الإسراء جاءت كوصايا ربانية مباشرة. وهذه المجموعة جاءت كبيان موجه إلى السامعين بما حرم الله وأمر في سياق مناظرة قائمة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين مما فيه صور من النظم القرآني وتنوعه. وهذه المجموعة أكثر تشابها وتساوقا مع مجموعة الإسراء، وقد علقنا على هذه المجموعة بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الإسراء، وجل ما قلناه ينسحب على هذه المجموعة فلا نرى حاجة إلى تكراره، غير أن في هذه المجموعة مبدأين لم يردا في تلك.
أولهما : النهي عن محاباة ذوي القربى، وقول الحق والعدل دون غيرهما.
وثانيهما : إيجاب التزام سبيل الله الواضح الواحد الذي لا يتعدد وعدم التفرق مذاهب وشيعا.
والمبدأ الأول ينطوي على وجوب التزام المرء الحق والعدل والإنصاف في كل ظرف، وتجاه أي مؤثر داخلي وخارجي. وفي هذا من السمو والقوة ما هو ظاهر ولاسيما إن عصبية القرابة من الأمور الراسخة في النفوس.
أما المبدأ الثاني : فهو مزدوج المدى من حيث إن الآيات موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين تعقيبا على المناظرة وينطوي في ذلك تنبيه إلى أن سبيل الله واحدة لا تعدد فيها وواضحة لا عماء فيها وأن على المشركين الذين يعترفون بالله ويتحججون بمشيئته في ما هم عليه من تقاليد أن يلتزموا هذه السبيل ويدعوا المراوغة والأهواء التي تبعدهم عنها إذا كانوا حقا راغبين في الهدى ودين الله. ومن حيث شمول الخطاب للمسلمين في كل زمان ومكان.
والمتبادر أنه ينطوي في هذا بالنسبة للمسلمين تقرير كون سبيل الله واحدة وواضحة فيما يقرره القرآن والرسول من المبادئ المحكمة وإيجاب التزام ذلك وعدم الحيدان عنه ؛ لأن في هذا الضلال عن سبيل الله.
وخواتم الآيات الثلاث جديرة بالتنويه من حيت انطواؤها على التنبيه إلى أن هذه الآيات المتضمنة لوصايا الله وبيان ما حرمه إنما تتلى على الناس ليتدبروها ويعقلوها ويتفكروا بواجباتهم فيما يفعلون، وليراقبوا الله ويتقوه في أعمالهم. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه السلسلة أحاديث عديدة منها ما أورده في صدد المجموعة جملة، ومنها ما أورده في صدد مفرداتها.
فما أورده في صدد المجموعة جملة حديث رواه الحاكم في مسنده عن عبادة بن الصامت قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيكم يبايعني على ثلاث ؟ ثم تلا الآيات، ثم قال : فمن وفى فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه )، حيث ينطوي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر هذه المجموعة جامعة لأمهات الأمور. ومن ذلك حديث أخرجه الأودي عن ابن مسعود قال :( من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات ). وحديث رواه الحاكم عن ابن عباس قال :( في الأنعام آيات هن أم الكتاب، وقرأ هذه الآيات ).
ولقد أوردنا بعض ما أورده في المفردات في سياق سلسلة الإسراء ونورد بعض ما لم نورده. فمن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي ذر الغفاري قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاني جبريل فبشرني أنه من مات من أمتك ولم يشرك بالله شيئا دخل الجنة ) قلت :( الكلام لأبي ذر ) وإن زنى وإن سرق قال : وإن زنى وإن سرق وكرر السؤال فكرر النبي الجواب، وفي الرابعة قال : على رغم أنف أبي ذر )١.
ومن ذلك حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا أحد أغير من الله. من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ). ومن ذلك حديث أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحاب الكيل والميزان إنكم وليتم أمرا هلكت فيه الأمم السابقة قبلكم ). ومن ذلك حديث رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود قال :( خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطا بيده، ثم قال : هذا سبيل الله مستقيما، وخط عن يمينه وعن شماله ثم قال : هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ ﴿ هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ [ ١٥٣ ].
هذا، ويلفت النظر إلى قيد قتل الأولاد خشية الإملاق ؛ حيث يجعل هذا القيد الفرق واضحا بين هذا العمل وقتل الأولاد المذكور في الآية [ ١٣٧ ] من هذه السورة من حيث إن ما ذكر في الآية [ ١٣٧ ] كان تقليدا دينيا على ما شرحناه في مناسبتها في حين أن ما ذكر في الآية [ ١٥١ ] التي نحن في صددها عمل ناتج عن أسباب اقتصادية.
هذا والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن الآيات الثلاث مدنية، ولم نر ما يؤيد ذلك في كتب أخرى. ويلحظ أن الانسجام قوي بينهما وبين الآيات السابقة لها حتى لتكاد تكون جزءاغير قابل للانفصال عن المناظرة القائمة في صدد التحليل والتحريم. وأسلوبها أكثر انطباقا على أسلوب الآيات المكية من حيث هو أسلوب حث وتشويق ووصية. وأكثر من واحد من المفسرين٢ قالوا : إن الآيات موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين ؛ ولهذا فإننا نتوقف في هذه الرواية.
ولعل الحديث الذي رواه الحاكم عن عبادة بن الصامت وأوردناه قبل قليل أوهم بعض الرواة أنها نزلت في المدينة ولم يتنبه إلى الصلة الشديدة بينهما وبين الآيات السابقة. والله أعلم.
تعليق على جملة
﴿ لا نكلف نفسا إلا وسعها ﴾
ومما يحسن لفت النظر إليه بخاصة تعبير ﴿ لا نكلف نفسا إلا وسعها ﴾ في صدد توفية الوزن والكيل حيث يكون من المألوف شيء من النقص والزيادة فيهما لا يمكن تجنبه. والتعبير يلهم تقرير كون المرء إنما يؤخذ إذا تعمد الغش. أما إذا انتفت نية ذلك فلا محل للتشديد إلى درجة الوسواس. ويكفي المرء أن يبذل جهده. ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال :( قال رسول الله : من أوفى على يده في الكيل والميزان والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما لم يؤاخذ ). والحديث لم يرد في الصحاح، ولكنه متساوق مع روح الآية والمبدأ بإطلاقه أي ﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾ البقرة :[ ٢٨٦ ] من المبادئ القرآنية المحكمة، وقد ورد مثل هذا التعبير في الآية [ ٤٢ ] من سورة الأعراف وعلقنا عليه بما فيه الكفاية.
١ التاج جـ ١ ص ٢٦، ولقد أورد مؤلف التاج بعد هذا الحديث حديثا آخر رواه الشيخان والترمذي أيضا عن أنس (ص ٢٧) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان) حيث يمكن أن يقال إن الله تعالى إذا لم يغفر للزاني والسارق اللذين يموتان ولا يشركان به شيئا فإنه يعذبهما ما شاء ثم يخرجهما من النار ويدخلهما الجنة. وبعبارة أخرى يكون في هذا الحديث توضيح لمدى الحديث الأول والله أعلم.
٢ انظر تفسيرها في الخازن والبغوي وابن كثير..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥١:﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ( ١٥١ ) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ( ١٥٢ ) وأن هذا صراطي مستقيما( ١ ) فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله( ٢ ) ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون( ١٥٣ ) ﴾ [ ١٥١ – ١٥٣ ].
الآيات واضحة العبارة، والمتبادر أنها متصلة بمواقف المناظرة والمحاججة الذي حكته الآيات السابقة لها وتعقيب عليها. وأنها موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين الذين هم الطرف الثاني في المناظرة.
تعليق على آية
﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾
والآيتين التاليتين لها
ومع ما في توجيه الخطاب في الآيات من خصوصية زمنية وجدلية فإنها في حد ذاتها من جوامع الآيات القرآنية المشتملة على الأوامر والنواهي الإيمانية والأخلاقية والاجتماعية العامة التي يمكن توجيهها لجميع الناس ولجميع المسلمين في كل زمن ومكان.
ولقد تكرر في القرآن هذا النوع من الجوامع، وقد مرت اثنتان غير هذه، واحدة في سورة الفرقان وأخرى في سورة الإسراء. ويلحظ أن كلا من المجموعات الثلاث جاء بأسلوب خاص. مجموعة الفرقان جاءت وصفا لأخلاق وسيرة عباد الله المخلصين المؤمنين ومجموعة الإسراء جاءت كوصايا ربانية مباشرة. وهذه المجموعة جاءت كبيان موجه إلى السامعين بما حرم الله وأمر في سياق مناظرة قائمة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين مما فيه صور من النظم القرآني وتنوعه. وهذه المجموعة أكثر تشابها وتساوقا مع مجموعة الإسراء، وقد علقنا على هذه المجموعة بما فيه الكفاية في سياق تفسير سورة الإسراء، وجل ما قلناه ينسحب على هذه المجموعة فلا نرى حاجة إلى تكراره، غير أن في هذه المجموعة مبدأين لم يردا في تلك.
أولهما : النهي عن محاباة ذوي القربى، وقول الحق والعدل دون غيرهما.
وثانيهما : إيجاب التزام سبيل الله الواضح الواحد الذي لا يتعدد وعدم التفرق مذاهب وشيعا.
والمبدأ الأول ينطوي على وجوب التزام المرء الحق والعدل والإنصاف في كل ظرف، وتجاه أي مؤثر داخلي وخارجي. وفي هذا من السمو والقوة ما هو ظاهر ولاسيما إن عصبية القرابة من الأمور الراسخة في النفوس.
أما المبدأ الثاني : فهو مزدوج المدى من حيث إن الآيات موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين تعقيبا على المناظرة وينطوي في ذلك تنبيه إلى أن سبيل الله واحدة لا تعدد فيها وواضحة لا عماء فيها وأن على المشركين الذين يعترفون بالله ويتحججون بمشيئته في ما هم عليه من تقاليد أن يلتزموا هذه السبيل ويدعوا المراوغة والأهواء التي تبعدهم عنها إذا كانوا حقا راغبين في الهدى ودين الله. ومن حيث شمول الخطاب للمسلمين في كل زمان ومكان.
والمتبادر أنه ينطوي في هذا بالنسبة للمسلمين تقرير كون سبيل الله واحدة وواضحة فيما يقرره القرآن والرسول من المبادئ المحكمة وإيجاب التزام ذلك وعدم الحيدان عنه ؛ لأن في هذا الضلال عن سبيل الله.
وخواتم الآيات الثلاث جديرة بالتنويه من حيت انطواؤها على التنبيه إلى أن هذه الآيات المتضمنة لوصايا الله وبيان ما حرمه إنما تتلى على الناس ليتدبروها ويعقلوها ويتفكروا بواجباتهم فيما يفعلون، وليراقبوا الله ويتقوه في أعمالهم. ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه السلسلة أحاديث عديدة منها ما أورده في صدد المجموعة جملة، ومنها ما أورده في صدد مفرداتها.
فما أورده في صدد المجموعة جملة حديث رواه الحاكم في مسنده عن عبادة بن الصامت قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيكم يبايعني على ثلاث ؟ ثم تلا الآيات، ثم قال : فمن وفى فأجره على الله، ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه )، حيث ينطوي في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتبر هذه المجموعة جامعة لأمهات الأمور. ومن ذلك حديث أخرجه الأودي عن ابن مسعود قال :( من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله التي عليها خاتمه فليقرأ هذه الآيات ). وحديث رواه الحاكم عن ابن عباس قال :( في الأنعام آيات هن أم الكتاب، وقرأ هذه الآيات ).
ولقد أوردنا بعض ما أورده في المفردات في سياق سلسلة الإسراء ونورد بعض ما لم نورده. فمن ذلك حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي ذر الغفاري قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاني جبريل فبشرني أنه من مات من أمتك ولم يشرك بالله شيئا دخل الجنة ) قلت :( الكلام لأبي ذر ) وإن زنى وإن سرق قال : وإن زنى وإن سرق وكرر السؤال فكرر النبي الجواب، وفي الرابعة قال : على رغم أنف أبي ذر )١.
ومن ذلك حديث رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا أحد أغير من الله. من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ). ومن ذلك حديث أخرجه الترمذي عن ابن عباس قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحاب الكيل والميزان إنكم وليتم أمرا هلكت فيه الأمم السابقة قبلكم ). ومن ذلك حديث رواه الإمام أحمد عن ابن مسعود قال :( خط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطا بيده، ثم قال : هذا سبيل الله مستقيما، وخط عن يمينه وعن شماله ثم قال : هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ ﴿ هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ﴾ [ ١٥٣ ].
هذا، ويلفت النظر إلى قيد قتل الأولاد خشية الإملاق ؛ حيث يجعل هذا القيد الفرق واضحا بين هذا العمل وقتل الأولاد المذكور في الآية [ ١٣٧ ] من هذه السورة من حيث إن ما ذكر في الآية [ ١٣٧ ] كان تقليدا دينيا على ما شرحناه في مناسبتها في حين أن ما ذكر في الآية [ ١٥١ ] التي نحن في صددها عمل ناتج عن أسباب اقتصادية.
هذا والمصحف الذي اعتمدناه يذكر أن الآيات الثلاث مدنية، ولم نر ما يؤيد ذلك في كتب أخرى. ويلحظ أن الانسجام قوي بينهما وبين الآيات السابقة لها حتى لتكاد تكون جزءاغير قابل للانفصال عن المناظرة القائمة في صدد التحليل والتحريم. وأسلوبها أكثر انطباقا على أسلوب الآيات المكية من حيث هو أسلوب حث وتشويق ووصية. وأكثر من واحد من المفسرين٢ قالوا : إن الآيات موجهة في الدرجة الأولى إلى المشركين ؛ ولهذا فإننا نتوقف في هذه الرواية.
ولعل الحديث الذي رواه الحاكم عن عبادة بن الصامت وأوردناه قبل قليل أوهم بعض الرواة أنها نزلت في المدينة ولم يتنبه إلى الصلة الشديدة بينهما وبين الآيات السابقة. والله أعلم.
تعليق على جملة
﴿ لا نكلف نفسا إلا وسعها ﴾
ومما يحسن لفت النظر إليه بخاصة تعبير ﴿ لا نكلف نفسا إلا وسعها ﴾ في صدد توفية الوزن والكيل حيث يكون من المألوف شيء من النقص والزيادة فيهما لا يمكن تجنبه. والتعبير يلهم تقرير كون المرء إنما يؤخذ إذا تعمد الغش. أما إذا انتفت نية ذلك فلا محل للتشديد إلى درجة الوسواس. ويكفي المرء أن يبذل جهده. ولقد أورد ابن كثير حديثا أخرجه ابن مردويه عن سعيد بن المسيب قال :( قال رسول الله : من أوفى على يده في الكيل والميزان والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما لم يؤاخذ ). والحديث لم يرد في الصحاح، ولكنه متساوق مع روح الآية والمبدأ بإطلاقه أي ﴿ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ﴾ البقرة :[ ٢٨٦ ] من المبادئ القرآنية المحكمة، وقد ورد مثل هذا التعبير في الآية [ ٤٢ ] من سورة الأعراف وعلقنا عليه بما فيه الكفاية.
١ التاج جـ ١ ص ٢٦، ولقد أورد مؤلف التاج بعد هذا الحديث حديثا آخر رواه الشيخان والترمذي أيضا عن أنس (ص ٢٧) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وفي قلبه وزن شعيرة من إيمان) حيث يمكن أن يقال إن الله تعالى إذا لم يغفر للزاني والسارق اللذين يموتان ولا يشركان به شيئا فإنه يعذبهما ما شاء ثم يخرجهما من النار ويدخلهما الجنة. وبعبارة أخرى يكون في هذا الحديث توضيح لمدى الحديث الأول والله أعلم.
٢ انظر تفسيرها في الخازن والبغوي وابن كثير..

﴿ ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ( ١٥٤ ) وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ( ١٥٥ ) أن تقولوا( ١ ) إنما أنزل الكتاب على طآئفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم( ٢ ) لغافلين ( ١٥٦ ) أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف( ٣ ) عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون( ١٥٧ ) ﴾ [ ١٥٤ – ١٥٧ ].
في الآيات أولا : تقرير رباني بأن الله تعالى قد آتى موسى الكتاب تماما على الذي أحسن ومفصلا لكل ما يحتاج إليه قومه ليكون لهم فيه الهدى والرحمة فيؤمنوا بالله ولقائه وإشارة تنويهية إلى القرآن، وتقرير كونه مباركا ودعوة العرب إلى إتباعه وتقوى الله في أعمالهم لعلهم يكونون بذلك مظهر رحمة الله أيضا.
ثانيا : تنبيه إلى أن الله قد أراد بإنزال القرآن دفع كل حجة يمكن أن يحتج بها العرب، فلا يقولوا إن الكتب السماوية إنما نزلت على طائفتين بلسانهما وهم غافلون عن هذه الكتب ولغتها ودراستها ؛ ولئلا يقولوا كذلك إننا لو أنزل إلينا كتاب من الله بلساننا كما أنزل إليهم لكنا أهدى منهم.
ثالثا : رد على الحجج التي فرض أن العرب يتحججون بها بأنه قد جاءهم القرآن بلسانهم وفيه بينة من ربهم وهدى ورحمة. وقد زالت أسباب الاحتجاج بالغفلة عن الكتب السابقة وعدم دراستها ومعرفة لسانها. وأنه ليس بعد هذا من أحد أشد جرما وإثما ممن كذب بآيات الله وانصرف عنها، وأن كل من يفعل ذلك سيناله من الله شديد العذاب.
وضمائر الجمع المخاطب في الآيات الثانية والثالثة والرابعة وإن كانت مطلقة فإنها عائدة على ما هو المتبادر إلى المشركين في الدرجة الأولى الذين وجه إليهم الكلام السابق. والآيات والحالة هذه متصلة بموقف المناظرة واستمرار له أو فصل من فصوله.
تعليق على الآية
﴿ ثم آتينا موسى الكتاب ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
ولقد تعددت أقوال المفسرين١ في محل ﴿ ثم آتينا موسى الكتاب ﴾ فقيل : إنها معطوفة على ﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾ وقيل : إنها معطوفة على جملة ﴿ ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ﴾ وقيل : إن هناك محذوفا مقدرا وهو ( ثم اتل عليهم أو ثم أخبرهم ) والإشارة إلى القرآن بعد كتاب موسى مما تكرر في أكثر من سورة، ومن ذلك ما جاء في آيات سورة الأنعام [ ٩٠ – ٩١ ] وما جاء في آية سورة هود [ ١٧ ] التي سبق تفسيرها.
ولقد قيلت أقوال عديدة كذلك٢ في تأويل جملة ﴿ تماما على الذي أحسن ﴾ فمنها : أنها بمعنى ( تام على أحسن الوجوه ) ومنها : أنها بمعنى ( تماما على الذي أحسنه موسى من العلم والشرائع ) ومنها : أنها بمعنى ( إتماما لما أحسن الله إلى موسى من نبوة وتكريم وتكليم ) والمعنى الأخير هو الأوجه على ما يتبادر لنا. وقد تبادر لنا معنى آخر وهو ( إتماما لإحسانه الذي حسنه على بني إسرائيل بالنجاة من فرعون وقومه ). ولعل ضمير الجمع الغائب العائد إلى بني إسرائيل في الآية مما يوجه هذا المعنى.
ولقد قلنا في سياق شرح الآية ﴿ أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين ( ١٥٦ ) ﴾ أنها لإزالة سبب احتجاج العرب بأن لغة الكتب المنزلة بغير لغتهم. وهذا مستلهم من آية سورة الأحقاف هذه :﴿ ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ( ١٢ ) ﴾ وآية سورة فصلت هذه :﴿ ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ( ٤٤ ) ﴾ ومن آيات سورة الشعراء [ ١<٩٢ – ١٩٩ ] التي مر تفسيرها.
وفي الآية [ ١٥٧ ] ينطوي على ما هو المتبادر صورة لموقف العرب من أهل الكتب السماوية وكتبهم. وهو أنهم كانوا ينقدون أهل الكتاب على ما هم فيه من خلاف ونزاع وقتال، ويقولون لو جاءنا كتاب لكنا أهدى منهم. والآية إن حكت هذا عنهم كشيء متوقع فإن آية سورة فاطر [ ٤٢ ] التي مر تفسيرها قد حكته عنهم كشيء واقع حيث حكت أنهم كانوا يحلفون بالله لو جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم مع فرق هو أن آية فاطر حكت تمنيهم مجيء نذير وهذه الآية توقعت تمنيهم نزول كتاب.
ونظن أننا في غنى عن التنبيه إلى أن الآية [ ١٥٦ ] ليس من شأنها نقض ما قررناه مرارا من أن العرب قد عرفوا كثيرا من المعارف الدينية وغير الدنية من طريق أهل الكتاب وأن كثيرا مما عرفوه وارد في أسفار العهد القديم والجديد. فالمحكي المفروض هو عدم إطلاعهم ودراستهم وفهمهم هذه الأسفار مباشرة على اعتبار أن الهداية لا تتم إلا بذلك.
تعليق على موضوع
ترجمة الكتب السماوية السابقة
وقد تفيد الآية [ ١٥٦ ] أنه لم يكن للكتب التي كانت في أيدي أهل الكتاب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة عربية. وهناك حديث رواه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه :( كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم ) حيث يفيد الحديث نفس الشيء.
ومن الأمور اليقينية أنه كان كتل كبيرة عربية في بلاد الشام وجزيرة الفرات والعراق العربي في عهد دولتي الغساسنة والمناذرة يدينون بالنصرانية. والمستبعد أن لا يكون في أيديهم ترجمة لما كان يتداوله أهل النصرانية من كتب دينية من جملتها التوراة وأسفار العهد القديم التي كان فيها الشرائع التي يلتزمون بها ؛ لأن رسالة عيسى عليه السلام لم تنسخ من الشرائع الموسوية إلا القليل كما يفيد ذلك آية سورة المائدة هذه :﴿ وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وأتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ( ٤٦ ) ﴾ وآية سورة آل عمران هذه حكاية عن لسان عيسى :﴿ ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ﴾ [ ٥٠ ] وهو الأمر المستمر إلى اليوم حيث يعتبر النصارى أسفار العهد القديم كتابا مقدسا لهم.
وإزاء ذلك يمكن القول إن ما ينطوي في الآية [ ١٥٦ ] وحديث البخاري كان لتسجيل الواقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ومهبط وحيه الذي كان معظم النصارى فيه ( وهم قلائل ) ومعظم اليهود وهم كتلة كبيرة غير عرب. وفي الحديث الذي رواه الشيخان عن عائشة في صدد بدء نزول الوحي لأول مرة على النبي صلى الله عليه وسلم خبر عن ورقة بن نوفل يذكر أن ورقة كان قد تنصر وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ما يفيد أن بعض الذين تنصروا أو تهودوا من العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أفراد تعلموا لغة الكتب الدينية التي يدينون بها.
ولقد استمر هذا إلى ما بعد النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعوهم يسألون علماء اليهود الذين أسلموا عن بعض الأمور فيجيبونهم بإجابات يعزونها إلى التوراة فيتقبلون ذلك منهم. وكان من هذه الإجابات ما لا يمكن أن يكون في التوراة. من ذلك مثلا : إن أبا هريرة اختلف مع رفيق له على الساعة التي يستجيب الله فيها دعاء سائليه يوم الجمعة على ما إذا كانت في السنة أو في كل جمعة فسألا كعب الأحبار فقال : إنها مرة في السنة فأصر أبو هريرة أنها مرة في كل جمعة فرجع كعب إلى التوراة ثم عاد فقال : إنها كما قال أبو هريرة٣. حيث يفيد هذا المثل أنه لو صار في أيدي أصحاب رسول الله بعد النبي ترجمة للتوراة لما جرأ كعب على أن يعزو إلى التوراة ما لا يمكن أن يكون فيها.
ومن الجدير بالذكر أن النتف التي يذكرها الطبري عزوا إلى التوراة والإنجيل وكتاب تفسيره من أقدم وأطول ما وصل إلينا من كتب التفسير تدل على أنه لم يكن مطلعا على ترجمة لهما ؛ لأن فيهما مفارقة وأخطاء كثيرة. وقد تدل بالتالي على أن الترجمة التي رجحنا أنها كانت في أيدي نصارى العرب قبل الإسلام في الشام والعراق وجزيرة الفرات والتي من المحتمل جدا أنها ظلت في أيدي من بقي على نصرانيته منهم بعد الفتح الإسلامي إلى بضع عشرات السنين لم تكن منتشرة أو لم تكن تامة. ولقد تبدل الحال بعد ذلك. ففي تفسير البغوي والطبرسي والخازن وابن كثير مثلا وهم من أهل القرون الخامس والسادس والسابع ما يمكن أن يفيد أنهم كانوا مطلعين على ترجمة عربية لأسفار العهد القديم والعهد الجديد أو لبعضها وبخاصة لبعض الأناجيل المتداولة. ؟ والله تعالى أعلم.
١ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن والزمخشري..
٢ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن والزمخشري.
٣ انظر هذه الرواية في تفسير سورة الجمعة في تفسير البغوي..
أن تقولوا : لئلا تقولوا.
عن دراستهم : عن كتبهم أو لغتهم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٤:﴿ ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ( ١٥٤ ) وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ( ١٥٥ ) أن تقولوا( ١ ) إنما أنزل الكتاب على طآئفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم( ٢ ) لغافلين ( ١٥٦ ) أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف( ٣ ) عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون( ١٥٧ ) ﴾ [ ١٥٤ – ١٥٧ ].
في الآيات أولا : تقرير رباني بأن الله تعالى قد آتى موسى الكتاب تماما على الذي أحسن ومفصلا لكل ما يحتاج إليه قومه ليكون لهم فيه الهدى والرحمة فيؤمنوا بالله ولقائه وإشارة تنويهية إلى القرآن، وتقرير كونه مباركا ودعوة العرب إلى إتباعه وتقوى الله في أعمالهم لعلهم يكونون بذلك مظهر رحمة الله أيضا.
ثانيا : تنبيه إلى أن الله قد أراد بإنزال القرآن دفع كل حجة يمكن أن يحتج بها العرب، فلا يقولوا إن الكتب السماوية إنما نزلت على طائفتين بلسانهما وهم غافلون عن هذه الكتب ولغتها ودراستها ؛ ولئلا يقولوا كذلك إننا لو أنزل إلينا كتاب من الله بلساننا كما أنزل إليهم لكنا أهدى منهم.
ثالثا : رد على الحجج التي فرض أن العرب يتحججون بها بأنه قد جاءهم القرآن بلسانهم وفيه بينة من ربهم وهدى ورحمة. وقد زالت أسباب الاحتجاج بالغفلة عن الكتب السابقة وعدم دراستها ومعرفة لسانها. وأنه ليس بعد هذا من أحد أشد جرما وإثما ممن كذب بآيات الله وانصرف عنها، وأن كل من يفعل ذلك سيناله من الله شديد العذاب.
وضمائر الجمع المخاطب في الآيات الثانية والثالثة والرابعة وإن كانت مطلقة فإنها عائدة على ما هو المتبادر إلى المشركين في الدرجة الأولى الذين وجه إليهم الكلام السابق. والآيات والحالة هذه متصلة بموقف المناظرة واستمرار له أو فصل من فصوله.
تعليق على الآية
﴿ ثم آتينا موسى الكتاب ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
ولقد تعددت أقوال المفسرين١ في محل ﴿ ثم آتينا موسى الكتاب ﴾ فقيل : إنها معطوفة على ﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾ وقيل : إنها معطوفة على جملة ﴿ ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ﴾ وقيل : إن هناك محذوفا مقدرا وهو ( ثم اتل عليهم أو ثم أخبرهم ) والإشارة إلى القرآن بعد كتاب موسى مما تكرر في أكثر من سورة، ومن ذلك ما جاء في آيات سورة الأنعام [ ٩٠ – ٩١ ] وما جاء في آية سورة هود [ ١٧ ] التي سبق تفسيرها.
ولقد قيلت أقوال عديدة كذلك٢ في تأويل جملة ﴿ تماما على الذي أحسن ﴾ فمنها : أنها بمعنى ( تام على أحسن الوجوه ) ومنها : أنها بمعنى ( تماما على الذي أحسنه موسى من العلم والشرائع ) ومنها : أنها بمعنى ( إتماما لما أحسن الله إلى موسى من نبوة وتكريم وتكليم ) والمعنى الأخير هو الأوجه على ما يتبادر لنا. وقد تبادر لنا معنى آخر وهو ( إتماما لإحسانه الذي حسنه على بني إسرائيل بالنجاة من فرعون وقومه ). ولعل ضمير الجمع الغائب العائد إلى بني إسرائيل في الآية مما يوجه هذا المعنى.
ولقد قلنا في سياق شرح الآية ﴿ أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين ( ١٥٦ ) ﴾ أنها لإزالة سبب احتجاج العرب بأن لغة الكتب المنزلة بغير لغتهم. وهذا مستلهم من آية سورة الأحقاف هذه :﴿ ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ( ١٢ ) ﴾ وآية سورة فصلت هذه :﴿ ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ( ٤٤ ) ﴾ ومن آيات سورة الشعراء [ ١<٩٢ – ١٩٩ ] التي مر تفسيرها.
وفي الآية [ ١٥٧ ] ينطوي على ما هو المتبادر صورة لموقف العرب من أهل الكتب السماوية وكتبهم. وهو أنهم كانوا ينقدون أهل الكتاب على ما هم فيه من خلاف ونزاع وقتال، ويقولون لو جاءنا كتاب لكنا أهدى منهم. والآية إن حكت هذا عنهم كشيء متوقع فإن آية سورة فاطر [ ٤٢ ] التي مر تفسيرها قد حكته عنهم كشيء واقع حيث حكت أنهم كانوا يحلفون بالله لو جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم مع فرق هو أن آية فاطر حكت تمنيهم مجيء نذير وهذه الآية توقعت تمنيهم نزول كتاب.
ونظن أننا في غنى عن التنبيه إلى أن الآية [ ١٥٦ ] ليس من شأنها نقض ما قررناه مرارا من أن العرب قد عرفوا كثيرا من المعارف الدينية وغير الدنية من طريق أهل الكتاب وأن كثيرا مما عرفوه وارد في أسفار العهد القديم والجديد. فالمحكي المفروض هو عدم إطلاعهم ودراستهم وفهمهم هذه الأسفار مباشرة على اعتبار أن الهداية لا تتم إلا بذلك.
تعليق على موضوع
ترجمة الكتب السماوية السابقة
وقد تفيد الآية [ ١٥٦ ] أنه لم يكن للكتب التي كانت في أيدي أهل الكتاب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة عربية. وهناك حديث رواه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه :( كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم ) حيث يفيد الحديث نفس الشيء.
ومن الأمور اليقينية أنه كان كتل كبيرة عربية في بلاد الشام وجزيرة الفرات والعراق العربي في عهد دولتي الغساسنة والمناذرة يدينون بالنصرانية. والمستبعد أن لا يكون في أيديهم ترجمة لما كان يتداوله أهل النصرانية من كتب دينية من جملتها التوراة وأسفار العهد القديم التي كان فيها الشرائع التي يلتزمون بها ؛ لأن رسالة عيسى عليه السلام لم تنسخ من الشرائع الموسوية إلا القليل كما يفيد ذلك آية سورة المائدة هذه :﴿ وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وأتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ( ٤٦ ) ﴾ وآية سورة آل عمران هذه حكاية عن لسان عيسى :﴿ ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ﴾ [ ٥٠ ] وهو الأمر المستمر إلى اليوم حيث يعتبر النصارى أسفار العهد القديم كتابا مقدسا لهم.
وإزاء ذلك يمكن القول إن ما ينطوي في الآية [ ١٥٦ ] وحديث البخاري كان لتسجيل الواقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ومهبط وحيه الذي كان معظم النصارى فيه ( وهم قلائل ) ومعظم اليهود وهم كتلة كبيرة غير عرب. وفي الحديث الذي رواه الشيخان عن عائشة في صدد بدء نزول الوحي لأول مرة على النبي صلى الله عليه وسلم خبر عن ورقة بن نوفل يذكر أن ورقة كان قد تنصر وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ما يفيد أن بعض الذين تنصروا أو تهودوا من العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أفراد تعلموا لغة الكتب الدينية التي يدينون بها.
ولقد استمر هذا إلى ما بعد النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعوهم يسألون علماء اليهود الذين أسلموا عن بعض الأمور فيجيبونهم بإجابات يعزونها إلى التوراة فيتقبلون ذلك منهم. وكان من هذه الإجابات ما لا يمكن أن يكون في التوراة. من ذلك مثلا : إن أبا هريرة اختلف مع رفيق له على الساعة التي يستجيب الله فيها دعاء سائليه يوم الجمعة على ما إذا كانت في السنة أو في كل جمعة فسألا كعب الأحبار فقال : إنها مرة في السنة فأصر أبو هريرة أنها مرة في كل جمعة فرجع كعب إلى التوراة ثم عاد فقال : إنها كما قال أبو هريرة٣. حيث يفيد هذا المثل أنه لو صار في أيدي أصحاب رسول الله بعد النبي ترجمة للتوراة لما جرأ كعب على أن يعزو إلى التوراة ما لا يمكن أن يكون فيها.
ومن الجدير بالذكر أن النتف التي يذكرها الطبري عزوا إلى التوراة والإنجيل وكتاب تفسيره من أقدم وأطول ما وصل إلينا من كتب التفسير تدل على أنه لم يكن مطلعا على ترجمة لهما ؛ لأن فيهما مفارقة وأخطاء كثيرة. وقد تدل بالتالي على أن الترجمة التي رجحنا أنها كانت في أيدي نصارى العرب قبل الإسلام في الشام والعراق وجزيرة الفرات والتي من المحتمل جدا أنها ظلت في أيدي من بقي على نصرانيته منهم بعد الفتح الإسلامي إلى بضع عشرات السنين لم تكن منتشرة أو لم تكن تامة. ولقد تبدل الحال بعد ذلك. ففي تفسير البغوي والطبرسي والخازن وابن كثير مثلا وهم من أهل القرون الخامس والسادس والسابع ما يمكن أن يفيد أنهم كانوا مطلعين على ترجمة عربية لأسفار العهد القديم والعهد الجديد أو لبعضها وبخاصة لبعض الأناجيل المتداولة. ؟ والله تعالى أعلم.
١ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن والزمخشري..
٢ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن والزمخشري.
٣ انظر هذه الرواية في تفسير سورة الجمعة في تفسير البغوي..

نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٤:﴿ ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ( ١٥٤ ) وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ( ١٥٥ ) أن تقولوا( ١ ) إنما أنزل الكتاب على طآئفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم( ٢ ) لغافلين ( ١٥٦ ) أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف( ٣ ) عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون( ١٥٧ ) ﴾ [ ١٥٤ – ١٥٧ ].
في الآيات أولا : تقرير رباني بأن الله تعالى قد آتى موسى الكتاب تماما على الذي أحسن ومفصلا لكل ما يحتاج إليه قومه ليكون لهم فيه الهدى والرحمة فيؤمنوا بالله ولقائه وإشارة تنويهية إلى القرآن، وتقرير كونه مباركا ودعوة العرب إلى إتباعه وتقوى الله في أعمالهم لعلهم يكونون بذلك مظهر رحمة الله أيضا.
ثانيا : تنبيه إلى أن الله قد أراد بإنزال القرآن دفع كل حجة يمكن أن يحتج بها العرب، فلا يقولوا إن الكتب السماوية إنما نزلت على طائفتين بلسانهما وهم غافلون عن هذه الكتب ولغتها ودراستها ؛ ولئلا يقولوا كذلك إننا لو أنزل إلينا كتاب من الله بلساننا كما أنزل إليهم لكنا أهدى منهم.
ثالثا : رد على الحجج التي فرض أن العرب يتحججون بها بأنه قد جاءهم القرآن بلسانهم وفيه بينة من ربهم وهدى ورحمة. وقد زالت أسباب الاحتجاج بالغفلة عن الكتب السابقة وعدم دراستها ومعرفة لسانها. وأنه ليس بعد هذا من أحد أشد جرما وإثما ممن كذب بآيات الله وانصرف عنها، وأن كل من يفعل ذلك سيناله من الله شديد العذاب.
وضمائر الجمع المخاطب في الآيات الثانية والثالثة والرابعة وإن كانت مطلقة فإنها عائدة على ما هو المتبادر إلى المشركين في الدرجة الأولى الذين وجه إليهم الكلام السابق. والآيات والحالة هذه متصلة بموقف المناظرة واستمرار له أو فصل من فصوله.
تعليق على الآية
﴿ ثم آتينا موسى الكتاب ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
ولقد تعددت أقوال المفسرين١ في محل ﴿ ثم آتينا موسى الكتاب ﴾ فقيل : إنها معطوفة على ﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾ وقيل : إنها معطوفة على جملة ﴿ ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ﴾ وقيل : إن هناك محذوفا مقدرا وهو ( ثم اتل عليهم أو ثم أخبرهم ) والإشارة إلى القرآن بعد كتاب موسى مما تكرر في أكثر من سورة، ومن ذلك ما جاء في آيات سورة الأنعام [ ٩٠ – ٩١ ] وما جاء في آية سورة هود [ ١٧ ] التي سبق تفسيرها.
ولقد قيلت أقوال عديدة كذلك٢ في تأويل جملة ﴿ تماما على الذي أحسن ﴾ فمنها : أنها بمعنى ( تام على أحسن الوجوه ) ومنها : أنها بمعنى ( تماما على الذي أحسنه موسى من العلم والشرائع ) ومنها : أنها بمعنى ( إتماما لما أحسن الله إلى موسى من نبوة وتكريم وتكليم ) والمعنى الأخير هو الأوجه على ما يتبادر لنا. وقد تبادر لنا معنى آخر وهو ( إتماما لإحسانه الذي حسنه على بني إسرائيل بالنجاة من فرعون وقومه ). ولعل ضمير الجمع الغائب العائد إلى بني إسرائيل في الآية مما يوجه هذا المعنى.
ولقد قلنا في سياق شرح الآية ﴿ أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين ( ١٥٦ ) ﴾ أنها لإزالة سبب احتجاج العرب بأن لغة الكتب المنزلة بغير لغتهم. وهذا مستلهم من آية سورة الأحقاف هذه :﴿ ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ( ١٢ ) ﴾ وآية سورة فصلت هذه :﴿ ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ( ٤٤ ) ﴾ ومن آيات سورة الشعراء [ ١<٩٢ – ١٩٩ ] التي مر تفسيرها.
وفي الآية [ ١٥٧ ] ينطوي على ما هو المتبادر صورة لموقف العرب من أهل الكتب السماوية وكتبهم. وهو أنهم كانوا ينقدون أهل الكتاب على ما هم فيه من خلاف ونزاع وقتال، ويقولون لو جاءنا كتاب لكنا أهدى منهم. والآية إن حكت هذا عنهم كشيء متوقع فإن آية سورة فاطر [ ٤٢ ] التي مر تفسيرها قد حكته عنهم كشيء واقع حيث حكت أنهم كانوا يحلفون بالله لو جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم مع فرق هو أن آية فاطر حكت تمنيهم مجيء نذير وهذه الآية توقعت تمنيهم نزول كتاب.
ونظن أننا في غنى عن التنبيه إلى أن الآية [ ١٥٦ ] ليس من شأنها نقض ما قررناه مرارا من أن العرب قد عرفوا كثيرا من المعارف الدينية وغير الدنية من طريق أهل الكتاب وأن كثيرا مما عرفوه وارد في أسفار العهد القديم والجديد. فالمحكي المفروض هو عدم إطلاعهم ودراستهم وفهمهم هذه الأسفار مباشرة على اعتبار أن الهداية لا تتم إلا بذلك.
تعليق على موضوع
ترجمة الكتب السماوية السابقة
وقد تفيد الآية [ ١٥٦ ] أنه لم يكن للكتب التي كانت في أيدي أهل الكتاب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة عربية. وهناك حديث رواه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه :( كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم ) حيث يفيد الحديث نفس الشيء.
ومن الأمور اليقينية أنه كان كتل كبيرة عربية في بلاد الشام وجزيرة الفرات والعراق العربي في عهد دولتي الغساسنة والمناذرة يدينون بالنصرانية. والمستبعد أن لا يكون في أيديهم ترجمة لما كان يتداوله أهل النصرانية من كتب دينية من جملتها التوراة وأسفار العهد القديم التي كان فيها الشرائع التي يلتزمون بها ؛ لأن رسالة عيسى عليه السلام لم تنسخ من الشرائع الموسوية إلا القليل كما يفيد ذلك آية سورة المائدة هذه :﴿ وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وأتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ( ٤٦ ) ﴾ وآية سورة آل عمران هذه حكاية عن لسان عيسى :﴿ ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ﴾ [ ٥٠ ] وهو الأمر المستمر إلى اليوم حيث يعتبر النصارى أسفار العهد القديم كتابا مقدسا لهم.
وإزاء ذلك يمكن القول إن ما ينطوي في الآية [ ١٥٦ ] وحديث البخاري كان لتسجيل الواقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ومهبط وحيه الذي كان معظم النصارى فيه ( وهم قلائل ) ومعظم اليهود وهم كتلة كبيرة غير عرب. وفي الحديث الذي رواه الشيخان عن عائشة في صدد بدء نزول الوحي لأول مرة على النبي صلى الله عليه وسلم خبر عن ورقة بن نوفل يذكر أن ورقة كان قد تنصر وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ما يفيد أن بعض الذين تنصروا أو تهودوا من العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أفراد تعلموا لغة الكتب الدينية التي يدينون بها.
ولقد استمر هذا إلى ما بعد النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعوهم يسألون علماء اليهود الذين أسلموا عن بعض الأمور فيجيبونهم بإجابات يعزونها إلى التوراة فيتقبلون ذلك منهم. وكان من هذه الإجابات ما لا يمكن أن يكون في التوراة. من ذلك مثلا : إن أبا هريرة اختلف مع رفيق له على الساعة التي يستجيب الله فيها دعاء سائليه يوم الجمعة على ما إذا كانت في السنة أو في كل جمعة فسألا كعب الأحبار فقال : إنها مرة في السنة فأصر أبو هريرة أنها مرة في كل جمعة فرجع كعب إلى التوراة ثم عاد فقال : إنها كما قال أبو هريرة٣. حيث يفيد هذا المثل أنه لو صار في أيدي أصحاب رسول الله بعد النبي ترجمة للتوراة لما جرأ كعب على أن يعزو إلى التوراة ما لا يمكن أن يكون فيها.
ومن الجدير بالذكر أن النتف التي يذكرها الطبري عزوا إلى التوراة والإنجيل وكتاب تفسيره من أقدم وأطول ما وصل إلينا من كتب التفسير تدل على أنه لم يكن مطلعا على ترجمة لهما ؛ لأن فيهما مفارقة وأخطاء كثيرة. وقد تدل بالتالي على أن الترجمة التي رجحنا أنها كانت في أيدي نصارى العرب قبل الإسلام في الشام والعراق وجزيرة الفرات والتي من المحتمل جدا أنها ظلت في أيدي من بقي على نصرانيته منهم بعد الفتح الإسلامي إلى بضع عشرات السنين لم تكن منتشرة أو لم تكن تامة. ولقد تبدل الحال بعد ذلك. ففي تفسير البغوي والطبرسي والخازن وابن كثير مثلا وهم من أهل القرون الخامس والسادس والسابع ما يمكن أن يفيد أنهم كانوا مطلعين على ترجمة عربية لأسفار العهد القديم والعهد الجديد أو لبعضها وبخاصة لبعض الأناجيل المتداولة. ؟ والله تعالى أعلم.
١ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن والزمخشري..
٢ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن والزمخشري.
٣ انظر هذه الرواية في تفسير سورة الجمعة في تفسير البغوي..

صدف : أعرض أو انحرف أو انصرف.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٥٤:﴿ ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون ( ١٥٤ ) وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون ( ١٥٥ ) أن تقولوا( ١ ) إنما أنزل الكتاب على طآئفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم( ٢ ) لغافلين ( ١٥٦ ) أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاءكم بينة من ربكم وهدى ورحمة فمن أظلم ممن كذب بآيات الله وصدف( ٣ ) عنها سنجزي الذين يصدفون عن آياتنا سوء العذاب بما كانوا يصدفون( ١٥٧ ) ﴾ [ ١٥٤ – ١٥٧ ].
في الآيات أولا : تقرير رباني بأن الله تعالى قد آتى موسى الكتاب تماما على الذي أحسن ومفصلا لكل ما يحتاج إليه قومه ليكون لهم فيه الهدى والرحمة فيؤمنوا بالله ولقائه وإشارة تنويهية إلى القرآن، وتقرير كونه مباركا ودعوة العرب إلى إتباعه وتقوى الله في أعمالهم لعلهم يكونون بذلك مظهر رحمة الله أيضا.
ثانيا : تنبيه إلى أن الله قد أراد بإنزال القرآن دفع كل حجة يمكن أن يحتج بها العرب، فلا يقولوا إن الكتب السماوية إنما نزلت على طائفتين بلسانهما وهم غافلون عن هذه الكتب ولغتها ودراستها ؛ ولئلا يقولوا كذلك إننا لو أنزل إلينا كتاب من الله بلساننا كما أنزل إليهم لكنا أهدى منهم.
ثالثا : رد على الحجج التي فرض أن العرب يتحججون بها بأنه قد جاءهم القرآن بلسانهم وفيه بينة من ربهم وهدى ورحمة. وقد زالت أسباب الاحتجاج بالغفلة عن الكتب السابقة وعدم دراستها ومعرفة لسانها. وأنه ليس بعد هذا من أحد أشد جرما وإثما ممن كذب بآيات الله وانصرف عنها، وأن كل من يفعل ذلك سيناله من الله شديد العذاب.
وضمائر الجمع المخاطب في الآيات الثانية والثالثة والرابعة وإن كانت مطلقة فإنها عائدة على ما هو المتبادر إلى المشركين في الدرجة الأولى الذين وجه إليهم الكلام السابق. والآيات والحالة هذه متصلة بموقف المناظرة واستمرار له أو فصل من فصوله.
تعليق على الآية
﴿ ثم آتينا موسى الكتاب ﴾
والآيات الثلاث التالية لها
ولقد تعددت أقوال المفسرين١ في محل ﴿ ثم آتينا موسى الكتاب ﴾ فقيل : إنها معطوفة على ﴿ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ﴾ وقيل : إنها معطوفة على جملة ﴿ ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ﴾ وقيل : إن هناك محذوفا مقدرا وهو ( ثم اتل عليهم أو ثم أخبرهم ) والإشارة إلى القرآن بعد كتاب موسى مما تكرر في أكثر من سورة، ومن ذلك ما جاء في آيات سورة الأنعام [ ٩٠ – ٩١ ] وما جاء في آية سورة هود [ ١٧ ] التي سبق تفسيرها.
ولقد قيلت أقوال عديدة كذلك٢ في تأويل جملة ﴿ تماما على الذي أحسن ﴾ فمنها : أنها بمعنى ( تام على أحسن الوجوه ) ومنها : أنها بمعنى ( تماما على الذي أحسنه موسى من العلم والشرائع ) ومنها : أنها بمعنى ( إتماما لما أحسن الله إلى موسى من نبوة وتكريم وتكليم ) والمعنى الأخير هو الأوجه على ما يتبادر لنا. وقد تبادر لنا معنى آخر وهو ( إتماما لإحسانه الذي حسنه على بني إسرائيل بالنجاة من فرعون وقومه ). ولعل ضمير الجمع الغائب العائد إلى بني إسرائيل في الآية مما يوجه هذا المعنى.
ولقد قلنا في سياق شرح الآية ﴿ أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين ( ١٥٦ ) ﴾ أنها لإزالة سبب احتجاج العرب بأن لغة الكتب المنزلة بغير لغتهم. وهذا مستلهم من آية سورة الأحقاف هذه :﴿ ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين ( ١٢ ) ﴾ وآية سورة فصلت هذه :﴿ ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ( ٤٤ ) ﴾ ومن آيات سورة الشعراء [ ١<٩٢ – ١٩٩ ] التي مر تفسيرها.
وفي الآية [ ١٥٧ ] ينطوي على ما هو المتبادر صورة لموقف العرب من أهل الكتب السماوية وكتبهم. وهو أنهم كانوا ينقدون أهل الكتاب على ما هم فيه من خلاف ونزاع وقتال، ويقولون لو جاءنا كتاب لكنا أهدى منهم. والآية إن حكت هذا عنهم كشيء متوقع فإن آية سورة فاطر [ ٤٢ ] التي مر تفسيرها قد حكته عنهم كشيء واقع حيث حكت أنهم كانوا يحلفون بالله لو جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم مع فرق هو أن آية فاطر حكت تمنيهم مجيء نذير وهذه الآية توقعت تمنيهم نزول كتاب.
ونظن أننا في غنى عن التنبيه إلى أن الآية [ ١٥٦ ] ليس من شأنها نقض ما قررناه مرارا من أن العرب قد عرفوا كثيرا من المعارف الدينية وغير الدنية من طريق أهل الكتاب وأن كثيرا مما عرفوه وارد في أسفار العهد القديم والجديد. فالمحكي المفروض هو عدم إطلاعهم ودراستهم وفهمهم هذه الأسفار مباشرة على اعتبار أن الهداية لا تتم إلا بذلك.
تعليق على موضوع
ترجمة الكتب السماوية السابقة
وقد تفيد الآية [ ١٥٦ ] أنه لم يكن للكتب التي كانت في أيدي أهل الكتاب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ترجمة عربية. وهناك حديث رواه البخاري عن أبي هريرة جاء فيه :( كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم ) حيث يفيد الحديث نفس الشيء.
ومن الأمور اليقينية أنه كان كتل كبيرة عربية في بلاد الشام وجزيرة الفرات والعراق العربي في عهد دولتي الغساسنة والمناذرة يدينون بالنصرانية. والمستبعد أن لا يكون في أيديهم ترجمة لما كان يتداوله أهل النصرانية من كتب دينية من جملتها التوراة وأسفار العهد القديم التي كان فيها الشرائع التي يلتزمون بها ؛ لأن رسالة عيسى عليه السلام لم تنسخ من الشرائع الموسوية إلا القليل كما يفيد ذلك آية سورة المائدة هذه :﴿ وقفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وأتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين ( ٤٦ ) ﴾ وآية سورة آل عمران هذه حكاية عن لسان عيسى :﴿ ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم ﴾ [ ٥٠ ] وهو الأمر المستمر إلى اليوم حيث يعتبر النصارى أسفار العهد القديم كتابا مقدسا لهم.
وإزاء ذلك يمكن القول إن ما ينطوي في الآية [ ١٥٦ ] وحديث البخاري كان لتسجيل الواقع في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم ومهبط وحيه الذي كان معظم النصارى فيه ( وهم قلائل ) ومعظم اليهود وهم كتلة كبيرة غير عرب. وفي الحديث الذي رواه الشيخان عن عائشة في صدد بدء نزول الوحي لأول مرة على النبي صلى الله عليه وسلم خبر عن ورقة بن نوفل يذكر أن ورقة كان قد تنصر وكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب ما يفيد أن بعض الذين تنصروا أو تهودوا من العرب في بيئة النبي صلى الله عليه وسلم وهم أفراد تعلموا لغة الكتب الدينية التي يدينون بها.
ولقد استمر هذا إلى ما بعد النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعوهم يسألون علماء اليهود الذين أسلموا عن بعض الأمور فيجيبونهم بإجابات يعزونها إلى التوراة فيتقبلون ذلك منهم. وكان من هذه الإجابات ما لا يمكن أن يكون في التوراة. من ذلك مثلا : إن أبا هريرة اختلف مع رفيق له على الساعة التي يستجيب الله فيها دعاء سائليه يوم الجمعة على ما إذا كانت في السنة أو في كل جمعة فسألا كعب الأحبار فقال : إنها مرة في السنة فأصر أبو هريرة أنها مرة في كل جمعة فرجع كعب إلى التوراة ثم عاد فقال : إنها كما قال أبو هريرة٣. حيث يفيد هذا المثل أنه لو صار في أيدي أصحاب رسول الله بعد النبي ترجمة للتوراة لما جرأ كعب على أن يعزو إلى التوراة ما لا يمكن أن يكون فيها.
ومن الجدير بالذكر أن النتف التي يذكرها الطبري عزوا إلى التوراة والإنجيل وكتاب تفسيره من أقدم وأطول ما وصل إلينا من كتب التفسير تدل على أنه لم يكن مطلعا على ترجمة لهما ؛ لأن فيهما مفارقة وأخطاء كثيرة. وقد تدل بالتالي على أن الترجمة التي رجحنا أنها كانت في أيدي نصارى العرب قبل الإسلام في الشام والعراق وجزيرة الفرات والتي من المحتمل جدا أنها ظلت في أيدي من بقي على نصرانيته منهم بعد الفتح الإسلامي إلى بضع عشرات السنين لم تكن منتشرة أو لم تكن تامة. ولقد تبدل الحال بعد ذلك. ففي تفسير البغوي والطبرسي والخازن وابن كثير مثلا وهم من أهل القرون الخامس والسادس والسابع ما يمكن أن يفيد أنهم كانوا مطلعين على ترجمة عربية لأسفار العهد القديم والعهد الجديد أو لبعضها وبخاصة لبعض الأناجيل المتداولة. ؟ والله تعالى أعلم.
١ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن والزمخشري..
٢ انظر تفسير الآيات في تفسير الطبري والطبرسي وابن كثير والخازن والزمخشري.
٣ انظر هذه الرواية في تفسير سورة الجمعة في تفسير البغوي..

ينظرون : ينتظرون.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ هل ينظرون( ١ ) إلا أن تأتيهم الملآئكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون ( ١٥٨ ) إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء( ٢ ) إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ( ١٥٩ ) من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ( ٣ ) ( ١٦٠ ) ﴾ [ ١٥٨ – ١٦٠ ].
في الآيات سؤال استنكاري عما ينتظره الكفار المشركون بعدما جاءتهم بينة الله وكتابه وهداه وتفصيل طريقه القويم، وهل ينتظرون أن تأتيهم الملائكة و يأتيهم الله أو تأتيهم بعض آيات الله حتى يؤمنوا ؟ وتقرير بأن بعض آيات الله سوف تأتيهم، ولكن الفرصة تكون حينئذ قد ضاعت منهم، ولم يعد الإيمان ينفع الذين لم يكونوا قد آمنوا وعملوا الصالحات والخيرات قبلهما، وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول لهم على سبيل الإنذار والإمهال انتظروا ذلك فنحن أيضا منتظرون. وخطاب له بأنه ليس مسؤولا عن الذين اتبعوا الأهواء في الدين وتفرقوا فيه شيعا، وأنه بريء منهم وأن أمرهم في يد الله ومرجعهم إليه حيث ينبئهم بما فعلوا ويجزيهم عليه بما استحقوا، ومن فعل الحسنة جوزي بعشر أمثالها ومن اقترف السيئة جوزي بمثلها دون ظلم ولا إجحاف.
والآيات متصلة بالسياق واستمرار له وتعقيب عليه كما هو المتبادر.
تعليق على الآية
﴿ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون ﴾
ولقد قال المفسرون : إن هذه الآية تعني ما يسمى بعلامات الساعة التي تسبق ختام الدنيا كما تضمنت أن باب التوبة والإيمان ينسد حينئذ فلا ينفع نفسا إيمانها وتوبتها. وأوردوا في صدد ذلك أحاديث عديدة منها ما ورد في الكتب الخمسة، ومنها ما لم يرد وكثير مما لم يرد في الكتب الخمسة مقارب لما ورد في هذه الكتب. فرأينا أن نكتفي بطائفة مما ورد في هذه الكتب ؛ لأنها الأوثق. فمن ذلك حديث رواه البخاري عن أبي هريرة في تفسير الآية قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها )١. وحديث رواه الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة قال :( قال النبي ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل : الدجال والدابة وطلوع الشمس من المغرب أو من مغربها ). ٢ وحديث رواه مسلم وأبو داود عن عبد الله بن عمرو قال :( حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثا لم أنسه بعد، سمعته يقول : إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى. وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا )٣. وحديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن حذيفة الغفاري قال :( اطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال ما تذكرون ؟ قالوا : نذكر الساعة، قال : إنها لن تقوم حتى ترو قبلها عشر آيات. فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم )٤. وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله قال :( لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر : يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود )٥.
وتعليقا على ما تقدم نقول أولا : إنه يلحظ أن الآية التي نحن في صددها جزء من التعقيب الذي احتوته الآيات التي قبلها وتضمنت إنذار الكفار السامعين والتنديد بهم. وإن الأولى أن تصرف في مقامها إليهم وبكلمة أخرى إلى أمر قريب متصل بظرفهم وأشخاصهم ؛ لأن هذا هو الذي يكون له التأثير والمعنى في إنذارهم وحملهم على الارعواء. في حين أن قيام الساعة كما جاء في الأحاديث بعيد جدا عنهم. وليس في الأحاديث إلى هذا صراحة بأن الآية قصدت ذلك وكل ما فيها هو تطبيق ما فيه على ما سوف يكون عند قيام الساعة. ولعل فيها إنذارا للكفار السامعين بغمرات الموت، أو بوقوع عذاب من الله عليهم بغتة – وهذا يندرج في معنى بعض آيات ربك – فيحول ذلك بينهم وبين تلافي أمرهم. ودعوة لهم إلى اغتنام فرصة العافية وسعة الوقت قبل فواته. وقد تكرر هذا المعنى في آيات عديدة مرت أمثلة منها.
ومع خصوصية هذا التوجيه الزمني فإن الآية في حد ذاتها عامة الشمول في إنذارها وتحذيرها بطبيعة الحال.
وثانيا : ما دام أن هناك أحاديث عديدة وردت في الكتب المعتبرة بطرق متعددة وعن أشخاص متعددين عن علامات الساعة بالإضافة إلى ما في القرآن من إشارات عديدة في هذا الصدد منها آيات سورة الأنبياء هذه :﴿ حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ( ٩٦ ) واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين ( ٩٧ ) ﴾ فالواجب على المسلم أن يؤمن بما احتوته من أخبار مغيبة أسوة بكل ما ورد في القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مثل هذه الأخبار مع الاستشفاف للحكمة المنطوية في الإخبار بذلك بالأسلوب الذي جاء به. ويستلهم من فحوى الأحاديث أن من هذه الحكمة تنبيه الناس وتحذيرهم وحملهم على الارعواء والاستعداد حتى لا يباغتوا ويضيعوا فرصة الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر والعمل الصالح. والله أعلم.
هذا، وفي الأحاديث ذكر لخروج يأجوج ومأجوج ونزول عيسى وظهور الدجال والدابة. ولقد علقنا على موضوع الدابة وأوردنا بعض ما ورد في صددها في سياق سورة النمل، وسنلم في مناسبات قريبة أكثر ملائمة بالأمور الأخرى وإن شاء الله.
تعليق على الآية
﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ﴾
وفي كتب التفسير أحاديث نبوية وروايات عن أهل التأويل في سياق هذه الآية ومدارها. وقد استوعب الطبري أكثرها، ومن ذلك أن عليا رضي الله عنه كان يقرأ ﴿ فرقوا ﴾ فارقوا وكأنه كان يذهب إلى أنها عنت من فارق دينه أو ارتد عنه – وهذا كلام الطبري – ومن ذلك أن جملة ﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ﴾ عنت اليهود والنصارى. ومن ذلك أنها عنت الخوارج أو أهل البدع والأهواء والضلالة عامة. وقد أورد الطبري حديثا عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة ). وهناك صيغ أخرى في الطبري والبغوي لهذا الحديث مروية عن عائشة أيضا. وروى الطبري في صدد جملة ﴿ لست منهم في شيء ﴾ قولين : واحد بأنها عنت اليهود والنصارى وأنها نسخت بآيات القتال : وواحد بأنها عنت الذين فرقوا دينهم من أمة محمد، وأنها محكمة ؛ لأن النسخ إنما يكون لأجل أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعديل موقفه. وحكم الآية هو بالنسبة لمن يكون بعده من أمته. ويكون مداها إعلانا مسبقا لبراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل البدع والأهواء والضلالة والشبهات من أمته.
والأحاديث التي تفسر الآية لم ترد في الكتب الخمسة، وإن كان في هذه الكتب أحاديث في التنديد بأهل البدع بدون عطف على الآية على ما سوف نورده بعده.
وروح الآية ومقامها وفحواها يلهم بقوة أنها جاءت مثل سابقتها معقبة على الموقف الحجاجي والجدي الذي وقفه المشركون في التحريم والتحليل ومزاعمهم الكاذبة بدون علم بأن ذلك من دين الله وأنها هي الأخرى بسبيل التنديد بمواقفهم ومزاعمهم وتقاليدهم. وفي الآية السابقة لها قرينة على ذلك لأنها تعني المشركين الذين سبق الكلام عنهم كما هو واضح بكل قوة. ومما يؤيد هذا آيات في سورة الروم آية فيها صراحة وهي :﴿ منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين ( ٣١ ) من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ( ٣٢ ) ﴾.
ويمكن أن يقال والحالة هذه أن ذكر تفرقة اليهود والنصارى شيعا وفرقا وذكر أهل الأهواء والبدع والضلالة والخوارج في معرض هذه الآية هو من قبيل التطبيق. ولقد ذكر اختلاف أهل الكتاب وتفرقهم في القرآن كثيرا مما مر منه أمثلة. ولقد ندد في القرآن بأهل البدع والأهواء أيضا. ولقد حذر المسلمون في القرآن من ذلك فكان هذا وذاك وسيلة إلى هذا التطبيق.
هذا من ناحية تفسير وشرح الآية في مقام ورودها وظرفها، غير أن إطلاق عبارتها يجعلها هي الأخرى كما هو المتبادر عامة الشمول مستمرة التلقين في إنذارها وتنديدها بكل من يشذ عن طريق الدين الواضح والذي لا يتحمل فرقة ولا انقساما على ما قررته الآية [ ١٥٣ ] التي سبقت هذه الآية، ويسير في سبيل الشقاق والفرقة والخلاف بدافع من الهوى والمآرب الخاصة. ثم في إعلانها المسبق ببراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممن يفعلون ذلك من أمته.
ولقد أورد الطبري والبغوي وابن كثير في سياق هذه الآية أحاديث نبوية عديدة بالتنديد وبالتفرق والاختلاف والبدع والضلالات. منها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما لم يرد وإن كان مقاربا لما ورد في هذه الكتب فنكتفي بإيراد بعض ما ورد في هذه الكتب. فمن ذلك حديث رواه الترمذي عن العرباض بن سارية قال :( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل : إن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله ؟ قال : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشي، فإنه من يعش منكم ير اختلافا كثيرا. وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ )٦. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة زاد في رواية اثنتان في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة )٧.
وحديث رواه الشيخان والنسائي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار )٨. وفي الأحاديث تنبيه وتحذير نبويان يؤيدان ما في عبارة الآية المطلقة من تلقين مستمر المدى للمسلمين في كل زمن ومكان.
ويحسن أن ننبه على أمر هام في هذا الصدد، فالذي يتبادر من روح الآيات والأحاديث أن البدعة والأمور المحدثة المندد بها والمنهي عنها هي ما كان مخالفا للتشريعات والأحكام والنصوص الصريحة في كتاب الله والتأثر في سنة رسوله القولية والفعلية. وكذلك لما في كتاب الله وسنته ورسوله من تنبيهات وتعليمات وتلقينات وخطوط ومبادئ عامة.
ومعلوم أن أئمة المذاهب المشهورة الذين تواترت الروايات عن حرصهم على إتباع كتاب الله وسنة رسوله ولم يكونوا من أهل البدع والأهواء ومن سار على دربهم من العلماء والمجتهدين يختلفون في أمور كثيرة في المعاملات والعبادات والاستنباطات والأحكام نتيجة لاختلاف التأويلات وتعدد الأحاديث وقوتها ومراتبها. فالمتبادر أنهم لا يدخ

لست منهم في شيء : لست مسؤولا عن عملهم أو أنت بريء منهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ هل ينظرون( ١ ) إلا أن تأتيهم الملآئكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون ( ١٥٨ ) إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء( ٢ ) إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ( ١٥٩ ) من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ( ٣ ) ( ١٦٠ ) ﴾ [ ١٥٨ – ١٦٠ ].
في الآيات سؤال استنكاري عما ينتظره الكفار المشركون بعدما جاءتهم بينة الله وكتابه وهداه وتفصيل طريقه القويم، وهل ينتظرون أن تأتيهم الملائكة و يأتيهم الله أو تأتيهم بعض آيات الله حتى يؤمنوا ؟ وتقرير بأن بعض آيات الله سوف تأتيهم، ولكن الفرصة تكون حينئذ قد ضاعت منهم، ولم يعد الإيمان ينفع الذين لم يكونوا قد آمنوا وعملوا الصالحات والخيرات قبلهما، وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول لهم على سبيل الإنذار والإمهال انتظروا ذلك فنحن أيضا منتظرون. وخطاب له بأنه ليس مسؤولا عن الذين اتبعوا الأهواء في الدين وتفرقوا فيه شيعا، وأنه بريء منهم وأن أمرهم في يد الله ومرجعهم إليه حيث ينبئهم بما فعلوا ويجزيهم عليه بما استحقوا، ومن فعل الحسنة جوزي بعشر أمثالها ومن اقترف السيئة جوزي بمثلها دون ظلم ولا إجحاف.
والآيات متصلة بالسياق واستمرار له وتعقيب عليه كما هو المتبادر.
تعليق على الآية
﴿ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون ﴾
ولقد قال المفسرون : إن هذه الآية تعني ما يسمى بعلامات الساعة التي تسبق ختام الدنيا كما تضمنت أن باب التوبة والإيمان ينسد حينئذ فلا ينفع نفسا إيمانها وتوبتها. وأوردوا في صدد ذلك أحاديث عديدة منها ما ورد في الكتب الخمسة، ومنها ما لم يرد وكثير مما لم يرد في الكتب الخمسة مقارب لما ورد في هذه الكتب. فرأينا أن نكتفي بطائفة مما ورد في هذه الكتب ؛ لأنها الأوثق. فمن ذلك حديث رواه البخاري عن أبي هريرة في تفسير الآية قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها )١. وحديث رواه الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة قال :( قال النبي ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل : الدجال والدابة وطلوع الشمس من المغرب أو من مغربها ). ٢ وحديث رواه مسلم وأبو داود عن عبد الله بن عمرو قال :( حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثا لم أنسه بعد، سمعته يقول : إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى. وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا )٣. وحديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن حذيفة الغفاري قال :( اطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال ما تذكرون ؟ قالوا : نذكر الساعة، قال : إنها لن تقوم حتى ترو قبلها عشر آيات. فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم )٤. وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله قال :( لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر : يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود )٥.
وتعليقا على ما تقدم نقول أولا : إنه يلحظ أن الآية التي نحن في صددها جزء من التعقيب الذي احتوته الآيات التي قبلها وتضمنت إنذار الكفار السامعين والتنديد بهم. وإن الأولى أن تصرف في مقامها إليهم وبكلمة أخرى إلى أمر قريب متصل بظرفهم وأشخاصهم ؛ لأن هذا هو الذي يكون له التأثير والمعنى في إنذارهم وحملهم على الارعواء. في حين أن قيام الساعة كما جاء في الأحاديث بعيد جدا عنهم. وليس في الأحاديث إلى هذا صراحة بأن الآية قصدت ذلك وكل ما فيها هو تطبيق ما فيه على ما سوف يكون عند قيام الساعة. ولعل فيها إنذارا للكفار السامعين بغمرات الموت، أو بوقوع عذاب من الله عليهم بغتة – وهذا يندرج في معنى بعض آيات ربك – فيحول ذلك بينهم وبين تلافي أمرهم. ودعوة لهم إلى اغتنام فرصة العافية وسعة الوقت قبل فواته. وقد تكرر هذا المعنى في آيات عديدة مرت أمثلة منها.
ومع خصوصية هذا التوجيه الزمني فإن الآية في حد ذاتها عامة الشمول في إنذارها وتحذيرها بطبيعة الحال.
وثانيا : ما دام أن هناك أحاديث عديدة وردت في الكتب المعتبرة بطرق متعددة وعن أشخاص متعددين عن علامات الساعة بالإضافة إلى ما في القرآن من إشارات عديدة في هذا الصدد منها آيات سورة الأنبياء هذه :﴿ حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ( ٩٦ ) واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين ( ٩٧ ) ﴾ فالواجب على المسلم أن يؤمن بما احتوته من أخبار مغيبة أسوة بكل ما ورد في القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مثل هذه الأخبار مع الاستشفاف للحكمة المنطوية في الإخبار بذلك بالأسلوب الذي جاء به. ويستلهم من فحوى الأحاديث أن من هذه الحكمة تنبيه الناس وتحذيرهم وحملهم على الارعواء والاستعداد حتى لا يباغتوا ويضيعوا فرصة الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر والعمل الصالح. والله أعلم.
هذا، وفي الأحاديث ذكر لخروج يأجوج ومأجوج ونزول عيسى وظهور الدجال والدابة. ولقد علقنا على موضوع الدابة وأوردنا بعض ما ورد في صددها في سياق سورة النمل، وسنلم في مناسبات قريبة أكثر ملائمة بالأمور الأخرى وإن شاء الله.
تعليق على الآية
﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ﴾
وفي كتب التفسير أحاديث نبوية وروايات عن أهل التأويل في سياق هذه الآية ومدارها. وقد استوعب الطبري أكثرها، ومن ذلك أن عليا رضي الله عنه كان يقرأ ﴿ فرقوا ﴾ فارقوا وكأنه كان يذهب إلى أنها عنت من فارق دينه أو ارتد عنه – وهذا كلام الطبري – ومن ذلك أن جملة ﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ﴾ عنت اليهود والنصارى. ومن ذلك أنها عنت الخوارج أو أهل البدع والأهواء والضلالة عامة. وقد أورد الطبري حديثا عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة ). وهناك صيغ أخرى في الطبري والبغوي لهذا الحديث مروية عن عائشة أيضا. وروى الطبري في صدد جملة ﴿ لست منهم في شيء ﴾ قولين : واحد بأنها عنت اليهود والنصارى وأنها نسخت بآيات القتال : وواحد بأنها عنت الذين فرقوا دينهم من أمة محمد، وأنها محكمة ؛ لأن النسخ إنما يكون لأجل أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعديل موقفه. وحكم الآية هو بالنسبة لمن يكون بعده من أمته. ويكون مداها إعلانا مسبقا لبراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل البدع والأهواء والضلالة والشبهات من أمته.
والأحاديث التي تفسر الآية لم ترد في الكتب الخمسة، وإن كان في هذه الكتب أحاديث في التنديد بأهل البدع بدون عطف على الآية على ما سوف نورده بعده.
وروح الآية ومقامها وفحواها يلهم بقوة أنها جاءت مثل سابقتها معقبة على الموقف الحجاجي والجدي الذي وقفه المشركون في التحريم والتحليل ومزاعمهم الكاذبة بدون علم بأن ذلك من دين الله وأنها هي الأخرى بسبيل التنديد بمواقفهم ومزاعمهم وتقاليدهم. وفي الآية السابقة لها قرينة على ذلك لأنها تعني المشركين الذين سبق الكلام عنهم كما هو واضح بكل قوة. ومما يؤيد هذا آيات في سورة الروم آية فيها صراحة وهي :﴿ منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين ( ٣١ ) من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ( ٣٢ ) ﴾.
ويمكن أن يقال والحالة هذه أن ذكر تفرقة اليهود والنصارى شيعا وفرقا وذكر أهل الأهواء والبدع والضلالة والخوارج في معرض هذه الآية هو من قبيل التطبيق. ولقد ذكر اختلاف أهل الكتاب وتفرقهم في القرآن كثيرا مما مر منه أمثلة. ولقد ندد في القرآن بأهل البدع والأهواء أيضا. ولقد حذر المسلمون في القرآن من ذلك فكان هذا وذاك وسيلة إلى هذا التطبيق.
هذا من ناحية تفسير وشرح الآية في مقام ورودها وظرفها، غير أن إطلاق عبارتها يجعلها هي الأخرى كما هو المتبادر عامة الشمول مستمرة التلقين في إنذارها وتنديدها بكل من يشذ عن طريق الدين الواضح والذي لا يتحمل فرقة ولا انقساما على ما قررته الآية [ ١٥٣ ] التي سبقت هذه الآية، ويسير في سبيل الشقاق والفرقة والخلاف بدافع من الهوى والمآرب الخاصة. ثم في إعلانها المسبق ببراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممن يفعلون ذلك من أمته.
ولقد أورد الطبري والبغوي وابن كثير في سياق هذه الآية أحاديث نبوية عديدة بالتنديد وبالتفرق والاختلاف والبدع والضلالات. منها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما لم يرد وإن كان مقاربا لما ورد في هذه الكتب فنكتفي بإيراد بعض ما ورد في هذه الكتب. فمن ذلك حديث رواه الترمذي عن العرباض بن سارية قال :( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل : إن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله ؟ قال : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشي، فإنه من يعش منكم ير اختلافا كثيرا. وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ )٦. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة زاد في رواية اثنتان في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة )٧.
وحديث رواه الشيخان والنسائي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار )٨. وفي الأحاديث تنبيه وتحذير نبويان يؤيدان ما في عبارة الآية المطلقة من تلقين مستمر المدى للمسلمين في كل زمن ومكان.
ويحسن أن ننبه على أمر هام في هذا الصدد، فالذي يتبادر من روح الآيات والأحاديث أن البدعة والأمور المحدثة المندد بها والمنهي عنها هي ما كان مخالفا للتشريعات والأحكام والنصوص الصريحة في كتاب الله والتأثر في سنة رسوله القولية والفعلية. وكذلك لما في كتاب الله وسنته ورسوله من تنبيهات وتعليمات وتلقينات وخطوط ومبادئ عامة.
ومعلوم أن أئمة المذاهب المشهورة الذين تواترت الروايات عن حرصهم على إتباع كتاب الله وسنة رسوله ولم يكونوا من أهل البدع والأهواء ومن سار على دربهم من العلماء والمجتهدين يختلفون في أمور كثيرة في المعاملات والعبادات والاستنباطات والأحكام نتيجة لاختلاف التأويلات وتعدد الأحاديث وقوتها ومراتبها. فالمتبادر أنهم لا يدخ

لا يظلمون : لا يكون عليهم حيف وجور إلا حسب استحقاقهم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ هل ينظرون( ١ ) إلا أن تأتيهم الملآئكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون ( ١٥٨ ) إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء( ٢ ) إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ( ١٥٩ ) من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ( ٣ ) ( ١٦٠ ) ﴾ [ ١٥٨ – ١٦٠ ].
في الآيات سؤال استنكاري عما ينتظره الكفار المشركون بعدما جاءتهم بينة الله وكتابه وهداه وتفصيل طريقه القويم، وهل ينتظرون أن تأتيهم الملائكة و يأتيهم الله أو تأتيهم بعض آيات الله حتى يؤمنوا ؟ وتقرير بأن بعض آيات الله سوف تأتيهم، ولكن الفرصة تكون حينئذ قد ضاعت منهم، ولم يعد الإيمان ينفع الذين لم يكونوا قد آمنوا وعملوا الصالحات والخيرات قبلهما، وأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول لهم على سبيل الإنذار والإمهال انتظروا ذلك فنحن أيضا منتظرون. وخطاب له بأنه ليس مسؤولا عن الذين اتبعوا الأهواء في الدين وتفرقوا فيه شيعا، وأنه بريء منهم وأن أمرهم في يد الله ومرجعهم إليه حيث ينبئهم بما فعلوا ويجزيهم عليه بما استحقوا، ومن فعل الحسنة جوزي بعشر أمثالها ومن اقترف السيئة جوزي بمثلها دون ظلم ولا إجحاف.
والآيات متصلة بالسياق واستمرار له وتعقيب عليه كما هو المتبادر.
تعليق على الآية
﴿ يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا قل انتظروا إنا منتظرون ﴾
ولقد قال المفسرون : إن هذه الآية تعني ما يسمى بعلامات الساعة التي تسبق ختام الدنيا كما تضمنت أن باب التوبة والإيمان ينسد حينئذ فلا ينفع نفسا إيمانها وتوبتها. وأوردوا في صدد ذلك أحاديث عديدة منها ما ورد في الكتب الخمسة، ومنها ما لم يرد وكثير مما لم يرد في الكتب الخمسة مقارب لما ورد في هذه الكتب. فرأينا أن نكتفي بطائفة مما ورد في هذه الكتب ؛ لأنها الأوثق. فمن ذلك حديث رواه البخاري عن أبي هريرة في تفسير الآية قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها )١. وحديث رواه الترمذي بسند حسن عن أبي هريرة قال :( قال النبي ثلاث إذا خرجن لم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل : الدجال والدابة وطلوع الشمس من المغرب أو من مغربها ). ٢ وحديث رواه مسلم وأبو داود عن عبد الله بن عمرو قال :( حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثا لم أنسه بعد، سمعته يقول : إن أول الآيات خروجا طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة على الناس ضحى. وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا )٣. وحديث رواه مسلم والترمذي وأبو داود عن حذيفة الغفاري قال :( اطلع النبي صلى الله عليه وآله وسلم علينا ونحن نتذاكر فقال ما تذكرون ؟ قالوا : نذكر الساعة، قال : إنها لن تقوم حتى ترو قبلها عشر آيات. فذكر الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى ابن مريم ويأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم )٤. وحديث رواه مسلم والترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله قال :( لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر : يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود )٥.
وتعليقا على ما تقدم نقول أولا : إنه يلحظ أن الآية التي نحن في صددها جزء من التعقيب الذي احتوته الآيات التي قبلها وتضمنت إنذار الكفار السامعين والتنديد بهم. وإن الأولى أن تصرف في مقامها إليهم وبكلمة أخرى إلى أمر قريب متصل بظرفهم وأشخاصهم ؛ لأن هذا هو الذي يكون له التأثير والمعنى في إنذارهم وحملهم على الارعواء. في حين أن قيام الساعة كما جاء في الأحاديث بعيد جدا عنهم. وليس في الأحاديث إلى هذا صراحة بأن الآية قصدت ذلك وكل ما فيها هو تطبيق ما فيه على ما سوف يكون عند قيام الساعة. ولعل فيها إنذارا للكفار السامعين بغمرات الموت، أو بوقوع عذاب من الله عليهم بغتة – وهذا يندرج في معنى بعض آيات ربك – فيحول ذلك بينهم وبين تلافي أمرهم. ودعوة لهم إلى اغتنام فرصة العافية وسعة الوقت قبل فواته. وقد تكرر هذا المعنى في آيات عديدة مرت أمثلة منها.
ومع خصوصية هذا التوجيه الزمني فإن الآية في حد ذاتها عامة الشمول في إنذارها وتحذيرها بطبيعة الحال.
وثانيا : ما دام أن هناك أحاديث عديدة وردت في الكتب المعتبرة بطرق متعددة وعن أشخاص متعددين عن علامات الساعة بالإضافة إلى ما في القرآن من إشارات عديدة في هذا الصدد منها آيات سورة الأنبياء هذه :﴿ حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ( ٩٦ ) واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا بل كنا ظالمين ( ٩٧ ) ﴾ فالواجب على المسلم أن يؤمن بما احتوته من أخبار مغيبة أسوة بكل ما ورد في القرآن وما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مثل هذه الأخبار مع الاستشفاف للحكمة المنطوية في الإخبار بذلك بالأسلوب الذي جاء به. ويستلهم من فحوى الأحاديث أن من هذه الحكمة تنبيه الناس وتحذيرهم وحملهم على الارعواء والاستعداد حتى لا يباغتوا ويضيعوا فرصة الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر والعمل الصالح. والله أعلم.
هذا، وفي الأحاديث ذكر لخروج يأجوج ومأجوج ونزول عيسى وظهور الدجال والدابة. ولقد علقنا على موضوع الدابة وأوردنا بعض ما ورد في صددها في سياق سورة النمل، وسنلم في مناسبات قريبة أكثر ملائمة بالأمور الأخرى وإن شاء الله.
تعليق على الآية
﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ﴾
وفي كتب التفسير أحاديث نبوية وروايات عن أهل التأويل في سياق هذه الآية ومدارها. وقد استوعب الطبري أكثرها، ومن ذلك أن عليا رضي الله عنه كان يقرأ ﴿ فرقوا ﴾ فارقوا وكأنه كان يذهب إلى أنها عنت من فارق دينه أو ارتد عنه – وهذا كلام الطبري – ومن ذلك أن جملة ﴿ إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ﴾ عنت اليهود والنصارى. ومن ذلك أنها عنت الخوارج أو أهل البدع والأهواء والضلالة عامة. وقد أورد الطبري حديثا عن أبي هريرة قال :( قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هم أهل البدع وأهل الشبهات وأهل الضلالة من هذه الأمة ). وهناك صيغ أخرى في الطبري والبغوي لهذا الحديث مروية عن عائشة أيضا. وروى الطبري في صدد جملة ﴿ لست منهم في شيء ﴾ قولين : واحد بأنها عنت اليهود والنصارى وأنها نسخت بآيات القتال : وواحد بأنها عنت الذين فرقوا دينهم من أمة محمد، وأنها محكمة ؛ لأن النسخ إنما يكون لأجل أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعديل موقفه. وحكم الآية هو بالنسبة لمن يكون بعده من أمته. ويكون مداها إعلانا مسبقا لبراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أهل البدع والأهواء والضلالة والشبهات من أمته.
والأحاديث التي تفسر الآية لم ترد في الكتب الخمسة، وإن كان في هذه الكتب أحاديث في التنديد بأهل البدع بدون عطف على الآية على ما سوف نورده بعده.
وروح الآية ومقامها وفحواها يلهم بقوة أنها جاءت مثل سابقتها معقبة على الموقف الحجاجي والجدي الذي وقفه المشركون في التحريم والتحليل ومزاعمهم الكاذبة بدون علم بأن ذلك من دين الله وأنها هي الأخرى بسبيل التنديد بمواقفهم ومزاعمهم وتقاليدهم. وفي الآية السابقة لها قرينة على ذلك لأنها تعني المشركين الذين سبق الكلام عنهم كما هو واضح بكل قوة. ومما يؤيد هذا آيات في سورة الروم آية فيها صراحة وهي :﴿ منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين ( ٣١ ) من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ( ٣٢ ) ﴾.
ويمكن أن يقال والحالة هذه أن ذكر تفرقة اليهود والنصارى شيعا وفرقا وذكر أهل الأهواء والبدع والضلالة والخوارج في معرض هذه الآية هو من قبيل التطبيق. ولقد ذكر اختلاف أهل الكتاب وتفرقهم في القرآن كثيرا مما مر منه أمثلة. ولقد ندد في القرآن بأهل البدع والأهواء أيضا. ولقد حذر المسلمون في القرآن من ذلك فكان هذا وذاك وسيلة إلى هذا التطبيق.
هذا من ناحية تفسير وشرح الآية في مقام ورودها وظرفها، غير أن إطلاق عبارتها يجعلها هي الأخرى كما هو المتبادر عامة الشمول مستمرة التلقين في إنذارها وتنديدها بكل من يشذ عن طريق الدين الواضح والذي لا يتحمل فرقة ولا انقساما على ما قررته الآية [ ١٥٣ ] التي سبقت هذه الآية، ويسير في سبيل الشقاق والفرقة والخلاف بدافع من الهوى والمآرب الخاصة. ثم في إعلانها المسبق ببراءة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممن يفعلون ذلك من أمته.
ولقد أورد الطبري والبغوي وابن كثير في سياق هذه الآية أحاديث نبوية عديدة بالتنديد وبالتفرق والاختلاف والبدع والضلالات. منها ما ورد في الكتب الخمسة ومنها ما لم يرد وإن كان مقاربا لما ورد في هذه الكتب فنكتفي بإيراد بعض ما ورد في هذه الكتب. فمن ذلك حديث رواه الترمذي عن العرباض بن سارية قال :( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما بعد صلاة الغداة موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب، فقال رجل : إن هذه موعظة مودع، فماذا تعهد إلينا يا رسول الله ؟ قال : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبد حبشي، فإنه من يعش منكم ير اختلافا كثيرا. وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ )٦. وحديث رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( افترقت اليهود على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتين وسبعين فرقة وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين فرقة زاد في رواية اثنتان في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة )٧.
وحديث رواه الشيخان والنسائي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار )٨. وفي الأحاديث تنبيه وتحذير نبويان يؤيدان ما في عبارة الآية المطلقة من تلقين مستمر المدى للمسلمين في كل زمن ومكان.
ويحسن أن ننبه على أمر هام في هذا الصدد، فالذي يتبادر من روح الآيات والأحاديث أن البدعة والأمور المحدثة المندد بها والمنهي عنها هي ما كان مخالفا للتشريعات والأحكام والنصوص الصريحة في كتاب الله والتأثر في سنة رسوله القولية والفعلية. وكذلك لما في كتاب الله وسنته ورسوله من تنبيهات وتعليمات وتلقينات وخطوط ومبادئ عامة.
ومعلوم أن أئمة المذاهب المشهورة الذين تواترت الروايات عن حرصهم على إتباع كتاب الله وسنة رسوله ولم يكونوا من أهل البدع والأهواء ومن سار على دربهم من العلماء والمجتهدين يختلفون في أمور كثيرة في المعاملات والعبادات والاستنباطات والأحكام نتيجة لاختلاف التأويلات وتعدد الأحاديث وقوتها ومراتبها. فالمتبادر أنهم لا يدخ

قيما : قرئت بكسر القاف وفتح الياء المخففة وقرئت بفتح القاف وكسر الياء المشددة والمعنى مقارب وهو المستقيم والثابت.
الملة : هي الطريقة الدينية، أو الشريعة الدينية، وقالوا في أصل الكلمة إنها من الإملاء كأن ما يأتي به الشرع ويورده الرسول يملى على أمته فيكون لهم ملة متبعة ١.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:{ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما( ١ ) ملة( ٢ ) إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ( ١٦١ ) قل إن صلاتي ونسكي( ٣ ) ومحياي ومماتي لله رب العالمين ( ١٦٢ ) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ( ١٦٣ ) قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى( ٤ ) ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ( ١٦٤ ) وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم( ٥ ) في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ( ١٦٥ ) [ ١٦٢ – ١٢٥ ].
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعلن أن الله قد هداه إلى طريق قويم، وهو الدين المستقيم طريق إبراهيم وملته الذي كان موحدا حنيفا ولم يكن مشركا. وبأن يعلن أيضا أن صلاته وخشوعه وعبادته ونسكه ومحياه ومماته وكل أمر من أموره هو لله رب العالمين لا شريك له، وأنه أمر بذلك وهو أول المسلمين أنفسهم لله. وبأن يتساءل تساءل المنكر عما إذا كان يصح أن يتخذ غير الله ربا له ورب كل شيء. وبأن يعلن أن كل امرئ إنما هو مسؤول عما يقترف ويكسب. ولا يتحمل أحد تبعة أحد وإثمه، ومرجع الجميع إلى الله الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويحاسبهم عليه من حيث إنه هو الذي خلقهم وجعلهم خلائق في الأرض ورفع بعضهم فوق بعض ليختبرهم فيما يسره لهم ومكنهم فيه، كلا بحسبه، ومن حيث هو سريع العقاب على الذين يستحقون عقابه، غفور رحيم للتائبين المؤمنين.
ولم نطلع في كتب التفسير على رواية خاصة بنزول الآيات. والمتبادر أنها استمرار للسياق ومتصلة به. وقد جاءت خاتمة قوية لفصول المناظرة القائمة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين، وخاتمة قوية للسورة في ذات الوقت. وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها بإعلان خصومه أن الطريق قد وضح والحجة قد قامت، وأنه على ملة إبراهيم المستقيمة التوحيدية وأول من يسلم نفسه لله وأن من يضيع الفرصة الآن فقد لا تواتيه في المستقبل ولن تنفعه إذا ما حل فيه أمر الله ولا يستطيع أحد أن يحمل إثمه ووزره.
تعليق على آية
﴿ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا ﴾
والآية التالية لها
وهذه هي المرة الأولى التي ذكر فيها أن الملة التي هدى الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها هي ملة إبراهيم. وقد ذكرت في آيات سابقة ملة إبراهيم بوصفه حنيفا غير مشرك في سياق الحديث عن إبراهيم نفسه ثم تكرر هذا وذاك في آيات أخرى مكية ومدنية.
ولقد ذكرت الروايات٢ أن فريقا من العرب كانوا يتحدثون عن ملة إبراهيم قبل البعثة ويصفونها بالحنيفية ويتعبدون عليها منهم زيد بن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة وأبو عامر الأوسي المشهور بالراهب ثم بالفاسق، ومها يكن من أمر الروايات فإن تكرر ذكر ملة إبراهيم في آيات مكية وإعلان كون الله قد هدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها في هذه الآية يمكن أن يسوغا القول بجزم إن ملة إبراهيم كانت تتردد على ألسنة العرب فجاءت هذه الآية وأمثالها لتقرر بصورة حاسمة أنها هي التوحيد المنافي للشرك ولترد على مزاعم المشركين الذين كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم، ويمارسون تقاليدهم باسمها في حين أنهم مشركون وأن تقاليدهم مشوبة بشوائب الشرك، ولتعلن أن هذه الملة هي التي هدى الله نبيه إليها، ولتهتف بمن يريد أن يتبعها حقا أن يتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويستجيب إلى دعوته، ولتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلان إسلامه إلى رب العالمين وحده بهذه الصيغة القوية النافذة.
تعليق على جملة
﴿ ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ﴾
هذا، وقد توهم جملة ﴿ ورفع بعضهم فوق بعض درجات ﴾ أنها بسبيل إقرار تفاضل الناس الطبقي. والذي يتبادر لنا أنها بسبيل تقرير واقع أمرهم في الدنيا وكونه ناموسا اجتماعيا عاما نشأ من طبيعة الاجتماع التي أودعها الله بني آدم ونتيجة لتفاوتهم في المواهب والنشاط والكسب وليست إقرارا للتفاضل بين الناس بدليل أن ذلك ليس مستقرا وإنما هو متقلب متداول بين جميع الناس حسب تقلب وتبدل الظروف والمواهب والأسباب. ثم بسبيل تنبيههم إلى أنهم معرضون في تفاوتهم إلى اختيار الله تعالى وواجبهم نحوه ونحو الناس، فمن آمن وأصلح واتقى وعرف حده وأدى واجبه له الرحمة والغفران، ومن كفر وأفسد وبغى فله العقاب الشديد. وفي هذا ما فيه من عظة وتلقين جليل مستمر المدى وهذا هو المتسق مع آيات القرآن الأخرى ومبادئه العامة التي لا تقر التفاضل إلا في التقوى والمكارم والإخلاص والعمل الصالح وتعتبر الناس والمسلمين بخاصة طبقة واحدة متساوية في الحقوق والواجبات نحو الله والناس.
وفي سورة الزخرف آية فيها نفس العبارة مع تعليل للناموس الاجتماعي الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري الذي منه ذلك المظهر الدنيوي الواقعي أي اختلاف الناس، وهو أن ذلك هو لتبادل المنافع والخدمات بين الناس وهذا نصها :﴿ أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ﴾ [ ٣٢ ].
وفي سورة الحجرات آية تقرر تساوي الناس في أصلهم وحياتهم وحصر الفضل بينهم بالتقوى :﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾ [ ١٣ ].
وفي السورة نفسها آية تقرر الأخوة العامة بين المسلمين ﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾ [ ١٠ ] حيث تمنع التفاضل الطبقي بين المسلمين. ومن الموانع القرآنية بالنسبة للمسلمين بخاصة الآيات [ ٥١- ٥٤ ] من هذه السورة التي مر شرحها بما يغني عن التكرار.
وهناك أحاديث عديدة في الكتب الخمسة وغيرها فيها توكيد على الأخوة الإسلامية. منها هذا الحديث الرائع الجامع الذي رواه الشيخان والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبغ بعضكم على بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه )٣


١ انظر تفسير الآيات في مجمع البيان للطبرسي..
نسكي : عبادتي. تأتي النسك كناية عن القربان الذي يتقرب به الإنسان إلى الله.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:{ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما( ١ ) ملة( ٢ ) إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ( ١٦١ ) قل إن صلاتي ونسكي( ٣ ) ومحياي ومماتي لله رب العالمين ( ١٦٢ ) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ( ١٦٣ ) قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى( ٤ ) ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ( ١٦٤ ) وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم( ٥ ) في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ( ١٦٥ ) [ ١٦٢ – ١٢٥ ].
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعلن أن الله قد هداه إلى طريق قويم، وهو الدين المستقيم طريق إبراهيم وملته الذي كان موحدا حنيفا ولم يكن مشركا. وبأن يعلن أيضا أن صلاته وخشوعه وعبادته ونسكه ومحياه ومماته وكل أمر من أموره هو لله رب العالمين لا شريك له، وأنه أمر بذلك وهو أول المسلمين أنفسهم لله. وبأن يتساءل تساءل المنكر عما إذا كان يصح أن يتخذ غير الله ربا له ورب كل شيء. وبأن يعلن أن كل امرئ إنما هو مسؤول عما يقترف ويكسب. ولا يتحمل أحد تبعة أحد وإثمه، ومرجع الجميع إلى الله الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويحاسبهم عليه من حيث إنه هو الذي خلقهم وجعلهم خلائق في الأرض ورفع بعضهم فوق بعض ليختبرهم فيما يسره لهم ومكنهم فيه، كلا بحسبه، ومن حيث هو سريع العقاب على الذين يستحقون عقابه، غفور رحيم للتائبين المؤمنين.
ولم نطلع في كتب التفسير على رواية خاصة بنزول الآيات. والمتبادر أنها استمرار للسياق ومتصلة به. وقد جاءت خاتمة قوية لفصول المناظرة القائمة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين، وخاتمة قوية للسورة في ذات الوقت. وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها بإعلان خصومه أن الطريق قد وضح والحجة قد قامت، وأنه على ملة إبراهيم المستقيمة التوحيدية وأول من يسلم نفسه لله وأن من يضيع الفرصة الآن فقد لا تواتيه في المستقبل ولن تنفعه إذا ما حل فيه أمر الله ولا يستطيع أحد أن يحمل إثمه ووزره.
تعليق على آية
﴿ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا ﴾
والآية التالية لها
وهذه هي المرة الأولى التي ذكر فيها أن الملة التي هدى الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها هي ملة إبراهيم. وقد ذكرت في آيات سابقة ملة إبراهيم بوصفه حنيفا غير مشرك في سياق الحديث عن إبراهيم نفسه ثم تكرر هذا وذاك في آيات أخرى مكية ومدنية.
ولقد ذكرت الروايات٢ أن فريقا من العرب كانوا يتحدثون عن ملة إبراهيم قبل البعثة ويصفونها بالحنيفية ويتعبدون عليها منهم زيد بن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة وأبو عامر الأوسي المشهور بالراهب ثم بالفاسق، ومها يكن من أمر الروايات فإن تكرر ذكر ملة إبراهيم في آيات مكية وإعلان كون الله قد هدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها في هذه الآية يمكن أن يسوغا القول بجزم إن ملة إبراهيم كانت تتردد على ألسنة العرب فجاءت هذه الآية وأمثالها لتقرر بصورة حاسمة أنها هي التوحيد المنافي للشرك ولترد على مزاعم المشركين الذين كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم، ويمارسون تقاليدهم باسمها في حين أنهم مشركون وأن تقاليدهم مشوبة بشوائب الشرك، ولتعلن أن هذه الملة هي التي هدى الله نبيه إليها، ولتهتف بمن يريد أن يتبعها حقا أن يتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويستجيب إلى دعوته، ولتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلان إسلامه إلى رب العالمين وحده بهذه الصيغة القوية النافذة.
تعليق على جملة
﴿ ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ﴾
هذا، وقد توهم جملة ﴿ ورفع بعضهم فوق بعض درجات ﴾ أنها بسبيل إقرار تفاضل الناس الطبقي. والذي يتبادر لنا أنها بسبيل تقرير واقع أمرهم في الدنيا وكونه ناموسا اجتماعيا عاما نشأ من طبيعة الاجتماع التي أودعها الله بني آدم ونتيجة لتفاوتهم في المواهب والنشاط والكسب وليست إقرارا للتفاضل بين الناس بدليل أن ذلك ليس مستقرا وإنما هو متقلب متداول بين جميع الناس حسب تقلب وتبدل الظروف والمواهب والأسباب. ثم بسبيل تنبيههم إلى أنهم معرضون في تفاوتهم إلى اختيار الله تعالى وواجبهم نحوه ونحو الناس، فمن آمن وأصلح واتقى وعرف حده وأدى واجبه له الرحمة والغفران، ومن كفر وأفسد وبغى فله العقاب الشديد. وفي هذا ما فيه من عظة وتلقين جليل مستمر المدى وهذا هو المتسق مع آيات القرآن الأخرى ومبادئه العامة التي لا تقر التفاضل إلا في التقوى والمكارم والإخلاص والعمل الصالح وتعتبر الناس والمسلمين بخاصة طبقة واحدة متساوية في الحقوق والواجبات نحو الله والناس.
وفي سورة الزخرف آية فيها نفس العبارة مع تعليل للناموس الاجتماعي الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري الذي منه ذلك المظهر الدنيوي الواقعي أي اختلاف الناس، وهو أن ذلك هو لتبادل المنافع والخدمات بين الناس وهذا نصها :﴿ أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ﴾ [ ٣٢ ].
وفي سورة الحجرات آية تقرر تساوي الناس في أصلهم وحياتهم وحصر الفضل بينهم بالتقوى :﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾ [ ١٣ ].
وفي السورة نفسها آية تقرر الأخوة العامة بين المسلمين ﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾ [ ١٠ ] حيث تمنع التفاضل الطبقي بين المسلمين. ومن الموانع القرآنية بالنسبة للمسلمين بخاصة الآيات [ ٥١- ٥٤ ] من هذه السورة التي مر شرحها بما يغني عن التكرار.
وهناك أحاديث عديدة في الكتب الخمسة وغيرها فيها توكيد على الأخوة الإسلامية. منها هذا الحديث الرائع الجامع الذي رواه الشيخان والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبغ بعضكم على بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه )٣

ولا تزر وازرة وزر أخرى : لا تحمل نفس حمل نفس أخرى.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:{ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما( ١ ) ملة( ٢ ) إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ( ١٦١ ) قل إن صلاتي ونسكي( ٣ ) ومحياي ومماتي لله رب العالمين ( ١٦٢ ) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ( ١٦٣ ) قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى( ٤ ) ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ( ١٦٤ ) وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم( ٥ ) في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ( ١٦٥ ) [ ١٦٢ – ١٢٥ ].
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعلن أن الله قد هداه إلى طريق قويم، وهو الدين المستقيم طريق إبراهيم وملته الذي كان موحدا حنيفا ولم يكن مشركا. وبأن يعلن أيضا أن صلاته وخشوعه وعبادته ونسكه ومحياه ومماته وكل أمر من أموره هو لله رب العالمين لا شريك له، وأنه أمر بذلك وهو أول المسلمين أنفسهم لله. وبأن يتساءل تساءل المنكر عما إذا كان يصح أن يتخذ غير الله ربا له ورب كل شيء. وبأن يعلن أن كل امرئ إنما هو مسؤول عما يقترف ويكسب. ولا يتحمل أحد تبعة أحد وإثمه، ومرجع الجميع إلى الله الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويحاسبهم عليه من حيث إنه هو الذي خلقهم وجعلهم خلائق في الأرض ورفع بعضهم فوق بعض ليختبرهم فيما يسره لهم ومكنهم فيه، كلا بحسبه، ومن حيث هو سريع العقاب على الذين يستحقون عقابه، غفور رحيم للتائبين المؤمنين.
ولم نطلع في كتب التفسير على رواية خاصة بنزول الآيات. والمتبادر أنها استمرار للسياق ومتصلة به. وقد جاءت خاتمة قوية لفصول المناظرة القائمة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين، وخاتمة قوية للسورة في ذات الوقت. وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها بإعلان خصومه أن الطريق قد وضح والحجة قد قامت، وأنه على ملة إبراهيم المستقيمة التوحيدية وأول من يسلم نفسه لله وأن من يضيع الفرصة الآن فقد لا تواتيه في المستقبل ولن تنفعه إذا ما حل فيه أمر الله ولا يستطيع أحد أن يحمل إثمه ووزره.
تعليق على آية
﴿ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا ﴾
والآية التالية لها
وهذه هي المرة الأولى التي ذكر فيها أن الملة التي هدى الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها هي ملة إبراهيم. وقد ذكرت في آيات سابقة ملة إبراهيم بوصفه حنيفا غير مشرك في سياق الحديث عن إبراهيم نفسه ثم تكرر هذا وذاك في آيات أخرى مكية ومدنية.
ولقد ذكرت الروايات٢ أن فريقا من العرب كانوا يتحدثون عن ملة إبراهيم قبل البعثة ويصفونها بالحنيفية ويتعبدون عليها منهم زيد بن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة وأبو عامر الأوسي المشهور بالراهب ثم بالفاسق، ومها يكن من أمر الروايات فإن تكرر ذكر ملة إبراهيم في آيات مكية وإعلان كون الله قد هدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها في هذه الآية يمكن أن يسوغا القول بجزم إن ملة إبراهيم كانت تتردد على ألسنة العرب فجاءت هذه الآية وأمثالها لتقرر بصورة حاسمة أنها هي التوحيد المنافي للشرك ولترد على مزاعم المشركين الذين كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم، ويمارسون تقاليدهم باسمها في حين أنهم مشركون وأن تقاليدهم مشوبة بشوائب الشرك، ولتعلن أن هذه الملة هي التي هدى الله نبيه إليها، ولتهتف بمن يريد أن يتبعها حقا أن يتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويستجيب إلى دعوته، ولتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلان إسلامه إلى رب العالمين وحده بهذه الصيغة القوية النافذة.
تعليق على جملة
﴿ ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ﴾
هذا، وقد توهم جملة ﴿ ورفع بعضهم فوق بعض درجات ﴾ أنها بسبيل إقرار تفاضل الناس الطبقي. والذي يتبادر لنا أنها بسبيل تقرير واقع أمرهم في الدنيا وكونه ناموسا اجتماعيا عاما نشأ من طبيعة الاجتماع التي أودعها الله بني آدم ونتيجة لتفاوتهم في المواهب والنشاط والكسب وليست إقرارا للتفاضل بين الناس بدليل أن ذلك ليس مستقرا وإنما هو متقلب متداول بين جميع الناس حسب تقلب وتبدل الظروف والمواهب والأسباب. ثم بسبيل تنبيههم إلى أنهم معرضون في تفاوتهم إلى اختيار الله تعالى وواجبهم نحوه ونحو الناس، فمن آمن وأصلح واتقى وعرف حده وأدى واجبه له الرحمة والغفران، ومن كفر وأفسد وبغى فله العقاب الشديد. وفي هذا ما فيه من عظة وتلقين جليل مستمر المدى وهذا هو المتسق مع آيات القرآن الأخرى ومبادئه العامة التي لا تقر التفاضل إلا في التقوى والمكارم والإخلاص والعمل الصالح وتعتبر الناس والمسلمين بخاصة طبقة واحدة متساوية في الحقوق والواجبات نحو الله والناس.
وفي سورة الزخرف آية فيها نفس العبارة مع تعليل للناموس الاجتماعي الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري الذي منه ذلك المظهر الدنيوي الواقعي أي اختلاف الناس، وهو أن ذلك هو لتبادل المنافع والخدمات بين الناس وهذا نصها :﴿ أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ﴾ [ ٣٢ ].
وفي سورة الحجرات آية تقرر تساوي الناس في أصلهم وحياتهم وحصر الفضل بينهم بالتقوى :﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾ [ ١٣ ].
وفي السورة نفسها آية تقرر الأخوة العامة بين المسلمين ﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾ [ ١٠ ] حيث تمنع التفاضل الطبقي بين المسلمين. ومن الموانع القرآنية بالنسبة للمسلمين بخاصة الآيات [ ٥١- ٥٤ ] من هذه السورة التي مر شرحها بما يغني عن التكرار.
وهناك أحاديث عديدة في الكتب الخمسة وغيرها فيها توكيد على الأخوة الإسلامية. منها هذا الحديث الرائع الجامع الذي رواه الشيخان والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبغ بعضكم على بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه )٣

جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:{ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما( ١ ) ملة( ٢ ) إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ( ١٦١ ) قل إن صلاتي ونسكي( ٣ ) ومحياي ومماتي لله رب العالمين ( ١٦٢ ) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ( ١٦٣ ) قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى( ٤ ) ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ( ١٦٤ ) وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم( ٥ ) في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ( ١٦٥ ) [ ١٦٢ – ١٢٥ ].
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعلن أن الله قد هداه إلى طريق قويم، وهو الدين المستقيم طريق إبراهيم وملته الذي كان موحدا حنيفا ولم يكن مشركا. وبأن يعلن أيضا أن صلاته وخشوعه وعبادته ونسكه ومحياه ومماته وكل أمر من أموره هو لله رب العالمين لا شريك له، وأنه أمر بذلك وهو أول المسلمين أنفسهم لله. وبأن يتساءل تساءل المنكر عما إذا كان يصح أن يتخذ غير الله ربا له ورب كل شيء. وبأن يعلن أن كل امرئ إنما هو مسؤول عما يقترف ويكسب. ولا يتحمل أحد تبعة أحد وإثمه، ومرجع الجميع إلى الله الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويحاسبهم عليه من حيث إنه هو الذي خلقهم وجعلهم خلائق في الأرض ورفع بعضهم فوق بعض ليختبرهم فيما يسره لهم ومكنهم فيه، كلا بحسبه، ومن حيث هو سريع العقاب على الذين يستحقون عقابه، غفور رحيم للتائبين المؤمنين.
ولم نطلع في كتب التفسير على رواية خاصة بنزول الآيات. والمتبادر أنها استمرار للسياق ومتصلة به. وقد جاءت خاتمة قوية لفصول المناظرة القائمة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين، وخاتمة قوية للسورة في ذات الوقت. وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها بإعلان خصومه أن الطريق قد وضح والحجة قد قامت، وأنه على ملة إبراهيم المستقيمة التوحيدية وأول من يسلم نفسه لله وأن من يضيع الفرصة الآن فقد لا تواتيه في المستقبل ولن تنفعه إذا ما حل فيه أمر الله ولا يستطيع أحد أن يحمل إثمه ووزره.
تعليق على آية
﴿ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا ﴾
والآية التالية لها
وهذه هي المرة الأولى التي ذكر فيها أن الملة التي هدى الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها هي ملة إبراهيم. وقد ذكرت في آيات سابقة ملة إبراهيم بوصفه حنيفا غير مشرك في سياق الحديث عن إبراهيم نفسه ثم تكرر هذا وذاك في آيات أخرى مكية ومدنية.
ولقد ذكرت الروايات٢ أن فريقا من العرب كانوا يتحدثون عن ملة إبراهيم قبل البعثة ويصفونها بالحنيفية ويتعبدون عليها منهم زيد بن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة وأبو عامر الأوسي المشهور بالراهب ثم بالفاسق، ومها يكن من أمر الروايات فإن تكرر ذكر ملة إبراهيم في آيات مكية وإعلان كون الله قد هدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها في هذه الآية يمكن أن يسوغا القول بجزم إن ملة إبراهيم كانت تتردد على ألسنة العرب فجاءت هذه الآية وأمثالها لتقرر بصورة حاسمة أنها هي التوحيد المنافي للشرك ولترد على مزاعم المشركين الذين كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم، ويمارسون تقاليدهم باسمها في حين أنهم مشركون وأن تقاليدهم مشوبة بشوائب الشرك، ولتعلن أن هذه الملة هي التي هدى الله نبيه إليها، ولتهتف بمن يريد أن يتبعها حقا أن يتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويستجيب إلى دعوته، ولتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلان إسلامه إلى رب العالمين وحده بهذه الصيغة القوية النافذة.
تعليق على جملة
﴿ ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ﴾
هذا، وقد توهم جملة ﴿ ورفع بعضهم فوق بعض درجات ﴾ أنها بسبيل إقرار تفاضل الناس الطبقي. والذي يتبادر لنا أنها بسبيل تقرير واقع أمرهم في الدنيا وكونه ناموسا اجتماعيا عاما نشأ من طبيعة الاجتماع التي أودعها الله بني آدم ونتيجة لتفاوتهم في المواهب والنشاط والكسب وليست إقرارا للتفاضل بين الناس بدليل أن ذلك ليس مستقرا وإنما هو متقلب متداول بين جميع الناس حسب تقلب وتبدل الظروف والمواهب والأسباب. ثم بسبيل تنبيههم إلى أنهم معرضون في تفاوتهم إلى اختيار الله تعالى وواجبهم نحوه ونحو الناس، فمن آمن وأصلح واتقى وعرف حده وأدى واجبه له الرحمة والغفران، ومن كفر وأفسد وبغى فله العقاب الشديد. وفي هذا ما فيه من عظة وتلقين جليل مستمر المدى وهذا هو المتسق مع آيات القرآن الأخرى ومبادئه العامة التي لا تقر التفاضل إلا في التقوى والمكارم والإخلاص والعمل الصالح وتعتبر الناس والمسلمين بخاصة طبقة واحدة متساوية في الحقوق والواجبات نحو الله والناس.
وفي سورة الزخرف آية فيها نفس العبارة مع تعليل للناموس الاجتماعي الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري الذي منه ذلك المظهر الدنيوي الواقعي أي اختلاف الناس، وهو أن ذلك هو لتبادل المنافع والخدمات بين الناس وهذا نصها :﴿ أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ﴾ [ ٣٢ ].
وفي سورة الحجرات آية تقرر تساوي الناس في أصلهم وحياتهم وحصر الفضل بينهم بالتقوى :﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾ [ ١٣ ].
وفي السورة نفسها آية تقرر الأخوة العامة بين المسلمين ﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾ [ ١٠ ] حيث تمنع التفاضل الطبقي بين المسلمين. ومن الموانع القرآنية بالنسبة للمسلمين بخاصة الآيات [ ٥١- ٥٤ ] من هذه السورة التي مر شرحها بما يغني عن التكرار.
وهناك أحاديث عديدة في الكتب الخمسة وغيرها فيها توكيد على الأخوة الإسلامية. منها هذا الحديث الرائع الجامع الذي رواه الشيخان والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبغ بعضكم على بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه )٣

ليبلوكم : ليختبركم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:{ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما( ١ ) ملة( ٢ ) إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ( ١٦١ ) قل إن صلاتي ونسكي( ٣ ) ومحياي ومماتي لله رب العالمين ( ١٦٢ ) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ( ١٦٣ ) قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى( ٤ ) ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ( ١٦٤ ) وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم( ٥ ) في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ( ١٦٥ ) [ ١٦٢ – ١٢٥ ].
في الآيات أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يعلن أن الله قد هداه إلى طريق قويم، وهو الدين المستقيم طريق إبراهيم وملته الذي كان موحدا حنيفا ولم يكن مشركا. وبأن يعلن أيضا أن صلاته وخشوعه وعبادته ونسكه ومحياه ومماته وكل أمر من أموره هو لله رب العالمين لا شريك له، وأنه أمر بذلك وهو أول المسلمين أنفسهم لله. وبأن يتساءل تساءل المنكر عما إذا كان يصح أن يتخذ غير الله ربا له ورب كل شيء. وبأن يعلن أن كل امرئ إنما هو مسؤول عما يقترف ويكسب. ولا يتحمل أحد تبعة أحد وإثمه، ومرجع الجميع إلى الله الذي يفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ويحاسبهم عليه من حيث إنه هو الذي خلقهم وجعلهم خلائق في الأرض ورفع بعضهم فوق بعض ليختبرهم فيما يسره لهم ومكنهم فيه، كلا بحسبه، ومن حيث هو سريع العقاب على الذين يستحقون عقابه، غفور رحيم للتائبين المؤمنين.
ولم نطلع في كتب التفسير على رواية خاصة بنزول الآيات. والمتبادر أنها استمرار للسياق ومتصلة به. وقد جاءت خاتمة قوية لفصول المناظرة القائمة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمشركين، وخاتمة قوية للسورة في ذات الوقت. وقد أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيها بإعلان خصومه أن الطريق قد وضح والحجة قد قامت، وأنه على ملة إبراهيم المستقيمة التوحيدية وأول من يسلم نفسه لله وأن من يضيع الفرصة الآن فقد لا تواتيه في المستقبل ولن تنفعه إذا ما حل فيه أمر الله ولا يستطيع أحد أن يحمل إثمه ووزره.
تعليق على آية
﴿ قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا ﴾
والآية التالية لها
وهذه هي المرة الأولى التي ذكر فيها أن الملة التي هدى الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها هي ملة إبراهيم. وقد ذكرت في آيات سابقة ملة إبراهيم بوصفه حنيفا غير مشرك في سياق الحديث عن إبراهيم نفسه ثم تكرر هذا وذاك في آيات أخرى مكية ومدنية.
ولقد ذكرت الروايات٢ أن فريقا من العرب كانوا يتحدثون عن ملة إبراهيم قبل البعثة ويصفونها بالحنيفية ويتعبدون عليها منهم زيد بن عمرو بن نفيل والد سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة وأبو عامر الأوسي المشهور بالراهب ثم بالفاسق، ومها يكن من أمر الروايات فإن تكرر ذكر ملة إبراهيم في آيات مكية وإعلان كون الله قد هدى النبي صلى الله عليه وآله وسلم إليها في هذه الآية يمكن أن يسوغا القول بجزم إن ملة إبراهيم كانت تتردد على ألسنة العرب فجاءت هذه الآية وأمثالها لتقرر بصورة حاسمة أنها هي التوحيد المنافي للشرك ولترد على مزاعم المشركين الذين كانوا يزعمون أنهم على ملة إبراهيم، ويمارسون تقاليدهم باسمها في حين أنهم مشركون وأن تقاليدهم مشوبة بشوائب الشرك، ولتعلن أن هذه الملة هي التي هدى الله نبيه إليها، ولتهتف بمن يريد أن يتبعها حقا أن يتبع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويستجيب إلى دعوته، ولتأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإعلان إسلامه إلى رب العالمين وحده بهذه الصيغة القوية النافذة.
تعليق على جملة
﴿ ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم ﴾
هذا، وقد توهم جملة ﴿ ورفع بعضهم فوق بعض درجات ﴾ أنها بسبيل إقرار تفاضل الناس الطبقي. والذي يتبادر لنا أنها بسبيل تقرير واقع أمرهم في الدنيا وكونه ناموسا اجتماعيا عاما نشأ من طبيعة الاجتماع التي أودعها الله بني آدم ونتيجة لتفاوتهم في المواهب والنشاط والكسب وليست إقرارا للتفاضل بين الناس بدليل أن ذلك ليس مستقرا وإنما هو متقلب متداول بين جميع الناس حسب تقلب وتبدل الظروف والمواهب والأسباب. ثم بسبيل تنبيههم إلى أنهم معرضون في تفاوتهم إلى اختيار الله تعالى وواجبهم نحوه ونحو الناس، فمن آمن وأصلح واتقى وعرف حده وأدى واجبه له الرحمة والغفران، ومن كفر وأفسد وبغى فله العقاب الشديد. وفي هذا ما فيه من عظة وتلقين جليل مستمر المدى وهذا هو المتسق مع آيات القرآن الأخرى ومبادئه العامة التي لا تقر التفاضل إلا في التقوى والمكارم والإخلاص والعمل الصالح وتعتبر الناس والمسلمين بخاصة طبقة واحدة متساوية في الحقوق والواجبات نحو الله والناس.
وفي سورة الزخرف آية فيها نفس العبارة مع تعليل للناموس الاجتماعي الذي أقام الله عليه الاجتماع البشري الذي منه ذلك المظهر الدنيوي الواقعي أي اختلاف الناس، وهو أن ذلك هو لتبادل المنافع والخدمات بين الناس وهذا نصها :﴿ أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ﴾ [ ٣٢ ].
وفي سورة الحجرات آية تقرر تساوي الناس في أصلهم وحياتهم وحصر الفضل بينهم بالتقوى :﴿ يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ﴾ [ ١٣ ].
وفي السورة نفسها آية تقرر الأخوة العامة بين المسلمين ﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾ [ ١٠ ] حيث تمنع التفاضل الطبقي بين المسلمين. ومن الموانع القرآنية بالنسبة للمسلمين بخاصة الآيات [ ٥١- ٥٤ ] من هذه السورة التي مر شرحها بما يغني عن التكرار.
وهناك أحاديث عديدة في الكتب الخمسة وغيرها فيها توكيد على الأخوة الإسلامية. منها هذا الحديث الرائع الجامع الذي رواه الشيخان والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبغ بعضكم على بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا، ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم. كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه )٣

Icon