تفسير سورة البروج

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة البروج من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

يقسم تعالى بالسماء وبروجها وهي النجوم العظام، قال ابن عباس : البروج النجوم، وقال يحيى بن رافع : البروج قصور في السماء، وقال المنهال بن عمرو :﴿ والسمآء ذَاتِ البروج ﴾ الخلق الحسن، واختبار ابن جرير أنها منازل الشمس والقمر، وهي اثنتا عشر برجاً تسير الشمس في كل واحد منها شهراً، ويسير القمر في كل واحد منهما يومين وثلثا، فذلك ثمانية وعشرون منزلة ويستسر ليلتين، وقوله تعالى :﴿ واليوم الموعود * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾ اختلف المفسرون في ذلك فروي عن أبي هريرة مرفوعاً ﴿ واليوم الموعود ﴾ يوم القيامة، ﴿ وَشَاهِدٍ ﴾ يوم الجمعة، ﴿ وَمَشْهُودٍ ﴾ يوم عرفة. روى الإمام أحمد، عن أبي هريرة أنه قال في هذه الآية ﴿ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾ قال :« الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة، والموعود يوم القيامة » وعن سعيد بن المسيب أنه قال، قال رسول الله ﷺ :« إن سيد الأيام يوم الجمعة، وهو الشاهد، والمشهود يوم عرفة »، وروى ابن جرير عن ابن عباس قال : الشاهد هو محمد ﷺ، والمشهود يوم القيامة. ثم قرأ :﴿ ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ﴾ [ هود : ١٠٣ ]. وسأل رجل الحسن بن علي عن ﴿ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾ فقال : سألت أحداً قبلي؟ قال : نعم، سألت ابن عمر وابن الزبير فقالا : يوم الذبح ويوم الجمعة، فقال : لا، ولكن الشاهد محمد ﷺ، ثم قرأ :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً ﴾ [ النساء : ٤١ ] والمشهود يوم القايمة، ثم قرأ :﴿ ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ﴾ [ هود : ١٠٣ ] وهكذا قال الحسن البصري، وقال مجاهد والضحّاك : الشاهد ابن آدم، والمشهود يوم القيامة؛ وعن عكرمة : الشاهد محمد ﷺ، والمشهود يوم الجمعة، وقال ابن عباس : الشاهد الله، والمشهود يوم القيامة، وقال ابن أبي حاتم عن مجاهد عن ابن عباس ﴿ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾ قال : الشاهد الإنسان، والمشهود يوم الجمعة، وقال ابن جرير، عن ابن عباس :﴿ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ ﴾ الشاهد يوم عرفة، والمشهود يوم القيامة، قال ابن جرير : وقال آخرون :﴿ المشهود ﴾ يوم الجمعة، لحديث أبي الدرداء قال، قال رسول الله صلى الله ﷺ :« أكثروا من الصلاة يوم الجمعة، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة »، وعن سعيد بن جبير :« الشاهد الله، وتلا :﴿ وكفى بالله شَهِيداً ﴾ [ النساء : ٧٩، ١١٦، الفتح : ٢٨ ] والمشهود نحن، وقال الأكثرون على أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة.
وقوله تعالى :﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود ﴾ أي لعن أصحاب الأُخدود، وجمعه أخاديد وهي الحفر في الأرض، وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إلى ما عندهم من المؤمنين بالله عزَّ وجلَّ فقهروهم، وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم فأبوا ع ليهم، فحفروا لهم في الأرض أُخدوداً، وأججوا فيه ناراً، وأعدوا لها وقوداً يسعرونها به، ثم أرادوهم فلم يقبلوا منهم، فقذفوهم فيها، ولهذا قال تعالى :﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود * النار ذَاتِ الوقود * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ ﴾ أي مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين * قال الله تعالى :﴿ وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد ﴾ أي وما كان لهم عندهم ذنب إلاّ إيمانهم بالله ﴿ العزيز ﴾ الذي يضام من لاذ بجنابه، ﴿ الحميد ﴾ فلي جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره، ثم قال تعالى :﴿ الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض ﴾ من تمام الصفة أنه المالك لجميع السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، ﴿ والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ أي لا يغيب عنه شيء في جميع السماوات والأرض، ولا تخفى عليه خافية، وقد اختلف أهل التفسير في أهل هذه القصة من هم؟ فعن علي أنهم أهل فارس، حين أراد ملكهم تحليل تزويج المحارم فامتنع عليه علماؤهم، فعمد إلى حفر أُخدود، فقذف فيه من أنكر عليه منهم، واستمر فيهم تحليل المحارم إلى اليوم.
2689
وعن ابن عباس قال : نتاس من بني إسرائيل خدو أُخدوداً في الأرض، ثم أوقدوا فيه ناراً، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجلاً ونساء، فعرضوا عليها، وزعموا أنه دانيال وأصحابه، وقيل غير ذلك.
وقد روى الإمام أحمد : حدثنا عفان، حدثنا بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب الرومي « أن رسول الله ﷺ قال :» كان فيمن كان قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر الساحر قال للملك : إني قد كبر سني وحضر أجلي، فادفع إليّ غلاماً لأعلمه السحر، فدفع إليه غلاماً كان يعلمه السحر، وكان بين الساحر وبين الملك راهب، فأتى الغلام على الراهب، فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه، وكان إذا أتى الساحر ضربه، وقال : ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه، وقالوا ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب، فقال : إذا أراد الساحر أن يضربك فقل : حبسني أهلي، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل : حبسني الساحر، قال : فبينما هو ذات يوم إذا أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا، فاقل : اليوم أعلم : أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر؟ قال : فأخذ حجراً، فقال : الله مإن كان أمر الراهب أحب وأرضى من أمر الساحر فاقتل الدابة حتى يجوز الناس، ورماها فقتلها، ومضى الناس، فأخبر الراهب بذلك، فقال : أي بني أنت أفضل مني، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدلّ عليّ، فكان الغلام يبرىء الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم، وكان للملك جليس، فعمي، فسمع به، فأتاه بهدايا كثيرة فقال : اشفني ولك ما هاهنا أجمع، فقال : ما أنا أشفي أحداً، إنما يشفي الله عزَّ وجلَّ، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك، فآمن فدعا لله فشفاه، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس، فقال الملك : يا فلان من رد عليك بصرك؟ فقال : ربي؟ فقال : أنا! قال : لا، ربي وربك الله، قال : ولك رب غيري؟ قال : نعم، ربي وربك الله، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام، فبعث إليه فقال : أي بني بلغ من سحرك أن تبرىء الأكمه والأبرص وهذه الأدواء؟ قال : ما أشفي أحداً إنما يشفي الله عزَّ وجلَّ. قال : أنا؟ قال : لا، قال : أولك رب غرير؟ ق ال : ربي وربك الله، فأخذه أيضاً بالعذاب، فلم يزل به حتى دل على الراهب، فأتى بالراهب، فقال : ارجع عن دينك، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه، وقال الأعمى : ارجع عن دينك فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه، حتى وقع شقاه إلى الأرض، وقال للغلام : ارجع عن دينك فأبى، فبعث به مع نفس إلى جبل كذا وكذا، وقال : إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلاّ فدهدهوه، فذهبوا به فلما عدلوا به الجبل قال : اللهم أكفنيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل، فدهدهوا أجمعون، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملكم، فقال : ما فعل أصحابك؟ فقال : كفانيهم الله تعالى : فبعث به مع نفسر في قرقور، فقال : إذا لججتم به البحر، فإن رجع عن دينه وإلاّ فغرقوه في البحر، فلججوا به البحر، فقال الغلام : اللهم اكفنيهم بما شئت فغرقوا أجمعون، وجاء الغلام حتى دخل الملك، فقال : ما فعل أصحابك؟ فقال : كفانيهم الله تعالى، ثم قال الملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي، قال : وما هو، قال : تجمع الناس في صعيد واحد، ثم تصلبني على جذع، وتأخذ سهماً من كنانتي، ثم قال : باسم الله رب الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني، ففعل ووضع السهم في كبد قوسه، ثم رماه وقال : باسم الله رب الغلام، فوقع السهم في صدغه فوضع الغلام يده على موضع السهم، ومات، فقال الناس : آمنا برب الغلام. فقيل للملك : أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك؛ قد أمن الناس كلهم، فأمر بأفواه السكك فخدت فيها الأخاديد، وأضرمت فيها النيران، وقال : من رجع عن دينه فدعوه وإلاّ فأقحموه فيها، قال : فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون امرأة بابن لها ترضعه، فكأنها تقاعست أن تقع في النار، فقال الصبي : اصبري يا أُماه فإنك على الحق «.
2690
وروى ابن أبي حاتم، عن الربيع بن أنس في قوله تعالى :﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود ﴾ قال : سمعنا أنهم كانوا قوماً في زمان الفترة، فلما رأوا ما وقع في الناس من الفتنة والشر، وصاروا أحزاباً كل حزب لما لديهم فرحون، اعتزلوا إلى قرية سكنوها وأقاموا على عبادة الله مخلصين له الدين، فكان هذا أمرهم حتى سمع بهم جبار من الجبارين وحدث حديثهم فأرسل إليهم، فأمرهم أن يعبدوا الأوثان التي اتخذوا وأنهم أبو عليه كلهم، وقالوا : لا نعبد إلاّ الله وحده لا شريك له، فقال لهم : إن لم تعبدوا هذه الآلهة التي عبدت فإني قاتلكم، فأبوا عليه، فخد أخدوداً من نار، وقال لهم الجبار بعد أن وقفهم عليها، اختاروا هذه أو الذي نحن فيه، فقالوا : هذه أحب إلينا وفيهم نساء وذرية، ففزعت الذرية، فقالوا لهم - أي آباؤهم : لا نار من بعد اليوم، فوقعوا فيها، فقبضت أرواحهم، من قبل أن يمسهم حرها، وخرجت النار من مكانها فأحاطت بالجبارين، فأحرقهم الله بها، ففي ذلك أنزل الله عزَّ وجلَّ :﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود * النار ذَاتِ الوقود * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد * الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾، وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ﴾ أي حرقوا، قاله ابن عباس ومجاهد ﴿ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ ﴾ أي لم يقلعوا عما فعلوا ويندموا على ما أسلفوا ﴿ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق ﴾ وذلك أن الجزاء من جنس العمل، قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة.
2691
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين أن ﴿ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ﴾ بخلاف ما أعد لأعدائه من الحرق والجحيم. ولهذا قال :﴿ ذَلِكَ الفوز الكبير ﴾، ثم قال تعالى :﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾ أي إن بطشه وانتقامه من أعدائه، الذين كذبوا رسله وخالفوا أمره، لشديد عظيم قوي، فإنه تعالى ذو القوة المتين، ولهذا قال تعالى :﴿ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ ﴾ أي من قوته وقدرته التامة، يبدىء الخلق ويعيده، كما بدأه بلا ممانع ولا مدافع ﴿ وَهُوَ الغفور الودود ﴾ أي يغفر ذنب من تاب إليه وخضع لديه، و ﴿ الودود ﴾ قال ابن عباس : هو الحبيب ﴿ ذُو العرش ﴾ أي صاحب العرش العظيم العالي على جميع الخلائق، و ﴿ المجيد ﴾ فيه قراءتان : الرفع على أنه صفة للرب عزَّ وجلَّ، والجر على أنه صفة للعرض، وكلاهما معنى صحيح، ﴿ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴾ أي مهما أراد فعله لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقهره وعدله، كما روينا على أبي بكر الصدّيق أنه قيل له وهو في مرض الموت : هل نظر إليك الطبيب، قال : نعم، قالوا : فما قال لك؟ قال لي : إني فعال لما أريد، وقوله تعالى :﴿ هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ ﴾ أي هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس، وأنزل عليهم من النقمة التي لم يردها عنهم أحد؟ وهذا تقرير لقوله تعالى :﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾ أي إذا أخذ الظالم أخذه أخذاً أليماً شديداً أخذ عزيز مقتدر، عن عمرو بن ميمون قال :« مرَّ النبي ﷺ على امرأة تقرأ :﴿ هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود ﴾ فقام يستمع فقال :» نعم قد جاءني « » وقوله تعالى :﴿ بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ ﴾ أي هم في شك وريب وكفر وعناد، ﴿ والله مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ ﴾ أي هو قادر عليهم قاهر لا يفوتونه ولا يعجزونه، ﴿ بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ ﴾ أي عظيم كريم، ﴿ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ ﴾ أي في الملأ الأعلى، محفوظ من الزيادة والنقص، والتحريف والتبديل، روى ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن سلمان قال :« ما من شيء قضى الله، القرآن فما قبله وما بعده، إلاّ وهو في اللوح المحفوظ، واللوح المحفوظ بين عيني إسرافيل لا يؤذن له بالنظر فيه » وقال الحسن البصري : إن هذا القرآن المجيد عند الله في لوح محفوظ، ينزل منه ما يشاء على من يشاء من خلقه، وقد روى البغوي عن ابن عباس قال :« إن في صدر اللوح : لا إله إلاّ الله وحده، دينه الإسلام، ومحد عبده ورسوله، فمن آمن وصدق بوعده و اتبع رسله أدخله الجنة » وعن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال :« إن الله تعالى خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، لله فيه في كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة، يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل ويفعل ما يشاء ».
Icon