تفسير سورة يونس

لطائف الإشارات
تفسير سورة سورة يونس من كتاب تفسير القشيري المعروف بـلطائف الإشارات .
لمؤلفه القشيري . المتوفي سنة 465 هـ

جاءكم رسول يشاكلكم فى البشرية، فلما أفردناه به من الخصوصية ألبسناه لباس الرحمة عليكم، وأقمناه بشواهد العطف والشفقة على جملتكم، قد وكل هممه بشأنكم، وأكبر همّه إيمانكم.
قوله جل ذكره:
[سورة التوبة (٩) : آية ١٢٩]
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)
أمره أن يدعو الخلق إلى التوحيد، ثم قال: فإنّ أعرضوا عن الإجابة فكن بنا بنعت التجريد.
ويقال قال له: يا أيها النبي حسبك الله، ثم أمره بأن يقول حسبى الله....
وهذا عين الجمع، وقوله «فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ» فرق... بل هو جمع الجمع أي: قل، ولكنك بنا تقول، ونحن المتولى عنك وأنت مستهلك فى عين التوحيد فأنت بنا، ومحو عن غيرنا.
سورة يونس عليه السلام
بسم الله الرحمن الرحيم كلمة سماعها يوجب شفاء كلّ عابد، وضياء كلّ قاصد، وعزاء كلّ فاقد، وبلاء كلّ واجد، وهدوّ كلّ خائف، وسلوّ كل عارف. وأمان كل تائب، وبيان كلّ طالب.
قلوب العارفين لا تفرح إلا بسماع بسم الله، وكروب الخائفين لا تبرح إلا عند سماع بسم الله.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١)
الألف مفتاح اسم «الله»، واللام مفتاح اسم «اللطيف» والراء مفتاح اسم «الرحيم».
أقسم بهذه الأسماء إن هذا الكتاب هو الموعود لكم يوم الميثاق. والإشارة فيه أنا حققنا لكم الميعاد، وأطلنا لكم عنان الوداد وانقضى زمان الميعاد، فالعصاة ملقاة، والأيام بالسرور متلقّاة، فبادروا إلى شرب كاسات المحابّ، واستقيموا على نهج الأحباب.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٢]
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢)
تعجبوا من ثلاثة أشياء: من جواز البعث بعد الموت، ومن إرسال الرسل إلى الخلق، ثم من تخصيص محمد ﷺ بالرسالة من بين الخلق. ولو عرفوا كمال ملكه لم ينكروا جواز البعث، ولو علموا كمال ملكه لم يجحدوا إرسال الرّسل إلى الخلق، ولو عرفوا أنّ له أن يفعل ما يريد لم يتعجبوا من تخصيص محمد- صلى الله عليه وسلم- بالنبوة من بين الخلق، ولكن سدّت بصائرهم فتاهوا فى أودية الحيرة، وعثروا- من الضلالة- فى كل وهدة. وكان الأستاذ أبو على الدّقاق- رحمه الله-. يقول:
جوّزوا أن يكون المنحوت من الخشب والمعمول من الصخر «١» إلها معبودا، وتعجبوا أن يكون مثل محمد- صلى الله عليه وسلم- فى جلالة قدره رسولا..!! هذا هو الضلال البعيد.
قوله جلّ ذكره: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ.
وهو ما قدّموه لأنفسهم من طاعات أخلصوا فيها، وفنون عبادات صدقوا فى القيام بقضائها.
ويقال هو ما قدّم الحقّ لهم يوم القيامة من مقتضى العناية بشأنهم، وما حكم لهم من فنون إحسانه بهم، وصنوف ما أفردهم به من امتنانهم.
ويقال: «قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ» : هو ما رفعوه من أقدامهم فى بدايتهم فى زمان
(١) وردت (الصفر) بالفاء وهى خطأ فى النسخ.
إرادتهم، فإنّ لأقدام المريدين المرفوعة لأجل الله حرمة عند الله، ولأيامهم الخالية فى حال تردّدهم، ولياليهم الماضية فى طلبه وهم فى حرقة تحيّرهم.. مقادير عند الله. وقيل:
من ينس دارا قد تخونها ريب الزمان فإنى لست أنساكا
وقيل:
تلك العهود تشدّها لتحلّها عندى كما هى عقدها لم يحلل
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٣]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣)
لا يحتاج فعله إلى مدّة، وكيف ذلك ومن جملة أفعاله الزمان والمدة؟ فخلق السماوات والأرض فى ستة أيام، وتلك الأيام أيضا من جملة ما خلق الله سبحانه وتعالى.
«ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ» أي توحّد بجلال الكبرياء بوصف الملكوت. وملوكنا إذا أرادوا التجلّى والظهور للحشم والرعية برزوا لهم على سرير ملكهم فى ألوان مشاهدهم.
فأخبر الحقّ- سبحانه- بما يقرب من فهم الخلق ما ألقى إليهم من هذه الجملة: استوى على العرش، ومعناه اتصافه بعز «١» الصمدية وجلال الأحدية، وانفراده بنعت الجبروت وعلاء الربوبية، تقدّس الجبّار عن الأقطار، والمعبود عن الحدود.
«يُدَبِّرُ الْأَمْرَ» : أي الحادثات صادرة عن تقديره، وحاصلة بتدبيره، فلا شريك يعضده، وما قضى فلا أحد يردّه. «ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ» : هو الذي ينطق من يخاطبه، وهو الذي يخلق ما يشاء على من يشاء إذا التمس يطالبه.
«ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ» : تعريف وقوله: «فَاعْبُدُوهُ» : تكليف فحصول التعريف بتحقيقه، والوصول إلى ما ورد به التكليف بتوفيقه.
(١) وردت (بغير) الصمدية وهى خطأ فى النسخ.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٤]
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤)
الرجوع يقتضى ابتداء الأرواح قبل حصولها فى الأشباح، فإن لها فى مواطن التسبيح والتقديس إقامة، والغائب إذا رجع إلى وطنه من سفره فلقدومه أثر عند محبّيه وذويه، كما قيل:
أيا قادما من سفرة الهجر مرحبا أناديك لا أنساك ما هبّت الصّبا
ويقال المطيع إذا رجع إلى الله فله الزّلفى، والثواب والحسنى. والعاصي إذا رجع إلى ربّه فبنعت الإفلاس وخسران الطريق فيتلقى لباس الغفران، وحلّة الصفح والأمان، فرحمة مولاه خير له من نسكه وتقواه.
قوله: «وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا» : موعود المطيع الفراديس العلى، وموعود العاصي الرحمة والرّضى. والجنّة لطف الحقّ والرّحمة وصف الحق فاللّطف فعل لم يكن ثم حصل، والنّعت لم يزل «١».
قوله: «إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ» : من كان له فى جميع عمره نفس على وصف ما ابتدأ الحقّ سبحانه به ففى الإشارة: تكون لذلك إعادة، وأنشدوا:
كلّ نهر فيه ماء قد جرى فإليه الماء يوما سيعود قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٥]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥)
(١) يفرق القشيري في كتابه (التحبير فى التذكير) الذي قمنا بتحقيقه بين صفات الفعل وصفات الذات.
أنوار العقول نجوم وهى للشياطين رجوم، وللعلوم «١» أقمار وهى أنوار واستبصار، وللمعارف شموس ولها على أسرار العارفين طلوع، كما قيل:
إنّ شمس النهار تغرب بالليل وشمس القلوب ليست تغيب
وكما أن فى السماء كوكبين شمسا وقمرا الشمس أبدا بضيائها، والقمر فى الزيادة والنقصان يستر بمحاقه ثم يكمل حتى يصير بدرا بنعت إشراقه، ثم يأخذ فى النقص إلى أن لا يبقى شىء منه لتمام امتحاقه، ثم يعود جديدا، وكل ليلة يجد مزيدا، فإذا صار بدرا تماما، لم يجد أكثر من ليلة لكماله مقاما، ثم يأخذ فى النقصان إلى أن يخفى شخصه ويتمّ نقصه.
كذلك من النّاس من هو متردّد بين قبضه وبسطه، وصحوه ومحوه، وذهابه وإيابه لا فناء فيستريح، ولا بقاء له دوام صحيح، وقيل:
كلّما قلت قد دنا حلّ قيدى كبلّونى فأوثقوا المسمارا
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٦]
إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦)
اختصّ النهار بضيائه، وانفرد الليل بظلمائه، من غير استيجاب لذلك، ومن غير استحقاق عقاب لهذا، وفى هذا دليل على أنّ الردّ والقبول، والمنع والوصول، ليست معلولة بسبب، ولا حاصلة بأمر مكتسب كلّا.. إنها إرادة ومشيئة، وحكم وقضية.
النهار وقت حضور أهل الغفلة فى أوطان كسبهم، ووقت أرباب القربة والوصلة لانفرادهم بشهود ربّهم، قال قائلهم:
هو الشمس، إلا أنّ للشمس غيبة وهذا الذي نعنيه ليس يغيب
والليل لأحد شخصين: أمّا للمحبّ قوقت النّجوى، وأمّا للعاصى فبثّ الشكوى.
(١) وردت (العموم) وهى خطأ فى النسخ إذ المقصود نوع من المقابلة بين (العلوم) والمعارف.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧ الى ٨]
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨)
أنكروا جواز الرؤية فلم يرجوها، والمؤمنون آمنوا «١» بجواز الرؤية فأمّلوها.
ويقال: لا يرجون لقاءه لأنهم لم يشتاقوا إليه، ولم يشتاقوا إليه لأنهم لم يحبّوه لأنهم لم يعرفوه، ولم يعرفوه لأنهم لم يطلبوه ولن يطلبوه لأنه أراد ألّا يطلبوه، قال تعالى: «وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى» «٢».
ويقال لو أراد أن يطلبوه لطلبوه، ولو طلبوا لعرفوا، ولو عرفوا لأحبّوا، ولو أحبّوا لاشتاقوا، ولو اشتاقوا لرجوا، ولو رجوا لأمّلوا لقاءه، قال تعالى: «وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها» «٣» قوله تعالى: «وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها» : أصحاب الدنيا رضوا بالحياة الدنيا فحرموا الجنة، والزّهّاد والعّباد ركنوا إلى الجنة ورضوا بها فبقوا عن الوصلة، وقد علم كلّ أناس مشربهم، ولكلّ أحد مقام.
ويقال إذا كانوا لا يرجون لقاءه فمأواهم العذاب والفرقة، فدليل الخطاب أن الذي يرجو لقاءه رآه، ومآله ومنتهاه الوصلة واللقاء والزّلفة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٩]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩)
كما هداهم اليوم إلى معرفته من غير ذريعة يهديهم غدا إلى جنته ومثوبته من غير نصير من المخلوقين ولا وسيلة.
(١) من هذا لفهم أن القشيري يؤمن بجواز رؤية الله فى الآخرة، أما رؤيته فى الدنيا فإنه يقول فى الرسالة ص ١٧٥: (الأقوى أنه لا تجوز رؤية الله بالأبصار في الدنيا- وقد حصل الإجماع فى ذلك). [.....]
(٢) آية ٤٢ سورة النجم.
(٣) آية ١٣ سورة السجدة.
ويقال أمّا المطيعون فنورهم يسعى بين أيديهم وهم على مراكب طاعاتهم، والملائكة تتلقّاهم والحقّ، قال تعالى: «يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً» «١» نحشرهم، والعاصون يبقون منفردين متفرقين، لا يقف لهم العابدون، ويتطوحون فى مطاحات «٢» القيامة.
والحقّ- سبحانه- يقول لهم: عبادى، إنّ أصحاب الجنة- اليوم- فى شغل عنكم، إنهم فى الثواب لا يتفرّغون إليكم، وأصحاب النار من شدة العذاب لا يرقبون لكم معاشر المساكين.
كيف أنتم إن كان أشكالكم وأصحابكم سبقوكم؟ وواحد منهم لأيهديكم فأنا أهديكم.
لأنى إن عاملتكم بما تستوجبون فأين الكرم بحقنا إذا كنا فى الجفاء مثلهم وهجرناكم كما هجروكم؟
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠]
دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)
قالتهم الثناء على الله، وذلك فى حال لقائهم. وَتَحِيَّتُهُمْ فى تلك الحالة من الله:
«سَلامٌ» عليكم «وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» : والحمد هاهنا بمعنى المدح والثناء، فيثنون عليه ويحمدونه بحمد أبدىّ سرمدىّ، والحقّ- سبحانه- يحييّهم بسلام أزلىّ وكلام أبدى، وهو عزيز صمدى ومجيد أحدى.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١١]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١)
أي لو أجبناهم إذا دعوا على أنفسهم عند غيظهم وضجرهم لعجّلنا إهلاكهم، ولكن
(١) آية ٨٥ سورة مريم.
(٢) المطاح والمطاحة: اسما مكان من طاح، وهو المسلك الوعر المهلك.
تحمّلنا ألا نجيبهم، وبرحمتنا عليهم لا نسمع منهم دعاءهم. وربما يشكو العبد بأن الربّ لا يجيب دعاءه، ولو علم أنه ترك إجابته لطفا منه وأنّ فى ذلك بلاء لو أجابه، كما قيل:
أناس أعرضوا عنّا... بلا جرم ولا معنى
أساءوا ظنّهم فينا... فهلّا أحسنوا الظّنا
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٢]
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢)
إذا امتحن العبد وأصابه الضّرّ أزعجته الحال إلى أن يروم التخلّص مما ناله، فيعلم أنّ غير الله لا ينجيه، فتحمله الضرورة على صدق الالتجاء إلى الله، فإذا كشف الله عنه ما يدعو لأجله شغلته راحة الخلاص عن تلك الحالة، وزايله ذلك الالتياع، وصار كأنه لم يكن فى بلاء قط:
كأنّ الفتى لم يعر يوما إذ اكتسى... ولم يك صعلوكا إذا ما تموّلّا
ويقال بلاء يلجئك إلى الانتصاب بين يدى معبودك أجدى لك من عطاء ينسيك ويكفيك عنه.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٣]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣)
أخبر الحقّ سبحانه بإهلاك الظالمين، كما فى الخبر: «لو كان الظلم بيتا فى الجنّة لسلّط الله عليه الخراب». والظلم وضع الشيء فى غير موضعه، فإذا وضع العبد قصده- عند حوائجه- فى المخلوقين، وتعلّق قلبه بهم فى الاستعانة، وطلب المأمول فقد وضع الشيء فى غير موضعه،
وهو ظلم فعقوبة هذا الظلم خراب القلب، وهو انسداد طريق رجوع ذلك القلب إلى الله لأنه لو رجع إلى الله لأعانة وكفاه، ولكنه يصرّ على تعليق قلبه بالمخلوق فيبقى عن الله، ولا ترتفع حاجته من غيره، وكان من فقره وحاجته فى مصرّة. فإن صار إلى مضرة المذلة والحاجة إلى اللئيم فتلك محنة عظيمة.
وعلى هذا القياس إذا أحبّ مخلوقا فقد وضع محبته فى غير موضعها، وهذا ظلم وعقوبته خراب روحه لعدم صفاء ودّه ومحبته لله، وذهاب ما كان يجده من الأنس بالله، إذا بقي عن الله يذيقه الحقّ طعم المخلوقين، فلا له مع الخلق سلوة، ولا من الحقّ إلا الجفوة، وعدم الصفوة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٤]
ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)
عرّفناكم بسرّ من قبلكم، وما أصابهم بسبب ذنوبهم، فإذا اعتبرتم بهم نجوتم، ومن لم يعتبر بما سمعه اعتبر به من تبعه.
ويقال أحللنا بهم من العقوبة ما يعتريكم، ومن لم يعتبر بمن سبقه اعتبر به من لحقه.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٥]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)
إذا اقترحوا عليك بأن تأتيهم بما لم نأمرك به، أو تريّهم ما لم نظهر عليك من الآيات..
فأخبرهم أنّك غير مستقل بك، ولا موكول إليك فنحن القائم عليك، المصرّف لك، وأنت المتّبع لما نجريه عليك غير مبتدع لما يحصل منك.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٦]
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦)
قد عشت فيكم زمانا، وعرفتم أحوالى فيما تطلبون منى عليه برهانا «١»، فما ألفيتمونى (... ) «٢» بل وجدتمونى فى السداد مستقيما، وللرشاد مستديما، فلولا أنّ الله تعالى أرسلنى، ولما حمّلني من تكليفه أهّلني لما كنت بهذا الشرع آتيا ولا لهذا الكتاب تاليا.
«أَفَلا تَعْقِلُونَ» ما لكم تعترضون؟ ولا لأنفسكم تنظرون؟
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٧]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧)
الكذب فى الشرع قبيح، وإذا كان على الله فهو أقبح.
ومن المفترين على الله: الذين يظهرون من الأحوال ما ليسوا فيه صادقين، وجزاؤهم أن يحرموا ذلك أبدا، فلا يصلون إلى شىء.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٨]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)
ذمّهم على عبادة ما ليس منه ضرّ ولا نفع.
فدليل الخطاب يقتضى أن يكون المعبود منه الضّرّ والنفع، ومن فرط غباوتهم أنهم
(١) أي لماذا تطلبون الآن منى برهانا على شىء أنتم عرفتموه عنى من قبل وهو صدقى؟
(٢) مشتبهة.
انتظروا فى المآل الشفاعة ممن لا يوجد منه الضّرّ والنّفع فى الحال. ثم أخبر أنهم يخبرون عما ليس على الوجه الذي قالوا معلوما، ولو كان كما قالوا لعلموا أنه سبحانه لا يعزب عن علمه «١» معلوم.
ومعنى قوله: «لا يَعْلَمُ» : خلافه. ومن تعلّق قلبه بالمخلوقين فى استدفاع المضارّ واستجلاب المسارّ فكالسالك سبيل من عبد الأصنام إذ المنشئ والموجد للشىء من العدم هو الله- سبحانه.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٩]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩)
وذلك من زمان آدم عليه السلام إلى أن تحاربوا، والحق- سبحانه- سبق قضاؤه بتأخير حسابهم إلى الآخرة، ولذلك لا يجيبهم إلى ما يستعجلونه من قيام القيامة.
وإنما اختلفوا لأنّ الله خصّ قوما بعنايته وقبوله، وآخرين بإهانته وإبعاده، ولولا ذلك لما كانت بينهم هذه المخالفة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٠]
وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠)
أخبر أنه- عليه السلام- فى ستر الغيبة وخفاء الأمر عليه فى الجملة لتقاصر علمه عما سيحدث، فهو فى ذلك بمنزلتهم، إلا فى مواطن التخصيص بأنوار التعريف، فكما أنهم فى الانتظار لما يحدث فى المستأنف فهو أيضا فى انتظار ما يوجد- سبحانه- من المقادير.
والفرق بينه- عليه السلام- وبينهم أنه يشهد ما يحصل به- سبحانه- ومنه، وهم متطوّحون فى أودية الجهالة يحيلون الأمر مرة على الدّهر، ومرة على النجم «٢»، ومرّة على الطبع..
وكلّ ذلك حيرة وعمى.
(١) وردت (عمله) وهى خطأ فى النسخ.
(٢) المقصود بالنجم هنا الطالع والحظ من نحس وسعود.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٢١]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١)
يعنى إذا أصابهم ضرّ ومحنة فرحمناهم وكشفنا عنهم، أحالوا الأمر على غيرنا، وتوهموه مما هو سوانا مثل قولهم: مطرنا بنوء كذا، ومثل قولهم إن هذه سعادة نجم أو مساعدة دولة أو تأثير فلك أو خيرات دهر.
فهذا كان مكرهم أما مكر الله- سبحانه- بهم فهو جزاؤهم على مكرهم. والإشارة فى هذا أنه ربما يكون للمريد أو للطالب حجبة أو فترة.. فإذا جاء الحقّ بكشف أو تجلّ أو إقبال فمن حقّهم ألا يلاحظوها فضلا عن أن يساكنوها «١»، لأنهم إذا لم يرتقوا عن ملاحظة أحوالهم إلى الغيبة بشهود الحقّ مكر الله بهم بأن شتّتهم فى تلك الأحوال من غير ترقّ عنها أو وجود زيادة عليها، وهذا مكره بخواصّهم.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٢]
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢)
يريد أنهم يصبحون فى النّعم يجرّون أذيالهم، ثم يمسون يبكون لياليهم. وقد يبيتون والبهجة ملكتهم ثم يصبحون وخفايا التقدير أهلكتهم، وأنشدوا:
(١) نفهم من هذا أن (الملاحظة) أخف من (المساكنة) وكلتاهما من آفات الطريق، يلح القشيري دائما على التحذير منهما، وقد بالغ أهل الملامة فى توضيح أضرارهما- كما تشهد بذلك النصوص التي رواها عنهم فى (رسالته).
أقمت زمانا والعيون قريرة وأصبحت يوما والجفون سوافك
فإذا رجعوا إلى الله بإخلاص الدعاء يجود عليهم بكشف البلاء.
فلمّا أنجاهم بالإجابة لدعائهم إذا هم إلى غيره «١» يرجعون، وعلى مناهجهم- فى تمردهم يسلكون.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٣]
فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)
«يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ» معناه: نمتّعكم أياما قلائل، ثم تلقون «٢» غبّ ذلك وتبدأون تقاسون عذابا طويلا.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٤]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤)
شبّه الحياة الدنيا بالماء المنزّل من السماء ينبت به النبات وتخضرّ الأرض وتظهر الثمار، ويوطّن أربابها عليها نفوسهم، فتصيبهم جائحة سماوية بغتة، وتصير كأن لم تكن.
كذلك الإنسان بعد كمال سنّه وتمام قوّته واستجماع الخصال المحمودة فيه تخترمه المنيّة، وكذلك أموره المنتظمة تبطل وتختلّ بوفاته، كما قيل:
(١) وردت (غيرهم) والأكثر ملاءمة للسياق أن تكون (غيره).
(٢) وردت (يلقون) وهى خطأ فى النسخ لعدم اتفاقها مع أسلوب الخطاب.
88
فقدناه لمّا تمّ واختمّ بالعلى كذاك كسوف البدر عند تمامه
ومن وجوه تشبيه الأحوال الدنيوية بالماء المنزّل من السماء أن المطر لا ينزل بالحيلة، كذلك الدنيا لا تساعدها إلا القسمة.
ثم إن المطر إن كان لا يجىء إلا بالتقدير فقد يستسقى.. كذلك الرزق- وإن كان بالقسمة- فقد يلتمس من الله ويستعطى.
ومنها أن الماء فى موضعه سبب حياة الناس، وفى غير موضعه سبب خراب الموضع، كذلك المال لمستحقه سبب سلامته، وانتفاع المتصلين به، وعند من لا يستحقه سبب طغيانه، وسبب بلاء من هو متصل به، كما قيل: نعم الله لا تعاب ولكنه ربما استعجم على إنسان، وكما قيل:
يا دولة ليس فيها من المعالي شظيّة زولى فما أنت إلا على الكرام بليّة
ومنها أن الماء إذا كان بمقدار كان سبب الصلاح، وإذا جاوز الحدّ كان سبب الخراب..
كذلك المال إذا كان بقدر الكفاية والكفاف فصاحبه منعّم، وإذا زاد وجاوز الحدّ أوجب الكفران والطغيان.
ومنها أن الماء ما دام جاريا كان طيبا، فإذا طال مكثه تغيّر.. كذلك المال إذا أنفقه صاحبه كان محمودا، فإذا ادّخره وأمسكه كان معلولا مذموما.
ومنها أن الماء إذا كان طاهرا كان حلالا يصلح للشرب ويصلح للطهور ولإزالة الأذى، وإذا كان غير طاهر فبالعكس.. كذلك المال إذا كان حلالا، وبعكسه لو كان حراما.
ويقال كما أن الربيع تنورد أشجاره، وتظهر أنواره، وتخضرّ رباعه، وتتزين بالنبات وهاده وتلاعه، لا يؤمن أن تصيبه آفة من غير ارتقاب، وينقلب الحال بما لم يكن فى الحساب. كذلك من الناس من تكون له أحوال صافية، وأعمال بشرط الخلوص زاكية غصون أنسه متدلّيه، ورياض قربه مونقه.. ثم تصيبه عين فيذبل عود وصاله، وتنسدّ أبواب عوائد إقباله، كما قيل:
89
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٥]
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)
دعاهم إلى دار السلام، وفى الحقيقة دعاهم إلى ما يوجب لهم الوصول إلى دار السلام وهو اعتناق أوامره والانتهاء عن زواجره. والدعاء من حيث التكليف، وتخصيص الهداية لأهلها من حيث التشريف.
ويقال الدعاء تكليف والهداية تعريف فالتكليف على العموم والتعريف على الخصوص.
ويقال التكلف بحقّ سلطانه، والتعريف بحكم إحسانه.
ويقال الدعاء قوله والهداية طوله دخل الكلّ تحت قوله، وانفرد الأولياء بتخصيص طوله. دار السلام دار السلام لأن السلام اسم من أسمائه.
ويكون السلام بمعنى السلامة فهى دار السلامة أي أهلها سالمون فيها سالمون من الحرقة وسالمون من الفرقة سلموا من الحرقة فحصلوا على لذة عطائه، وسلموا من الفرقة فوصلوا إلى عزيز لقائه.
ويقال لا يصل إلى دار السلام إلا من سلمت نفسه عن السجود للصنم، وسلم قلبه عن الشّرك والظلم.
ويقال تلك الدار درجات والذي سلم قلبه عن محبة الأغيار درجته أعلى من درجة من سلمت نفسه من الذنوب والأوضار.
ويقال قوم سلمت صدورهم من الغلّ والحسد والحقد وسلم الخلق منهم فليس بينهم وبين أحد محاسبة، وليس لهم على أحد شىء فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمحسن من سلم الخلق بأجمعهم من قلبه.
«الصراط المستقيم» : طريق المسلمين، فهذا للعوام بشرط علم اليقين، ثم طريق المؤمنين وهو طريق الخواص بشرط عين اليقين، ثم طريق المحسنين وهو طريق خاص الخاص بشرط حق اليقين فهؤلاء بنور العقل أصحاب البرهان، وهؤلاء بكشف العلم أصحاب
البيان، وهؤلاء بضياء المعرفة بالوصف «١» كالعيان، وهم الذين قال ﷺ فيهم:
«الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه».
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٦]
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦)
«أَحْسَنُوا» : أي عملوا وأحسنوا إذ كانت أفعالهم على مقتضى الإذن.
ويقال «أَحْسَنُوا» : لم يقصّروا فى الواجبات، ولم يخلّوا بالمندوبات.
ويقال «أَحْسَنُوا» : أي لم يبق عليهم حقّ إلا قاموا به إن كان حقّ الحقّ فمن غير تقصير و، إن كان من حقّ الخلق فاذا من غير تأخير.
ويقال «أَحْسَنُوا» : فى المال كما أحسنوا فى الحال فاستداموا بما فيه واستقاموا، والحسنى التي لهم هى الجنة وما فيها من صنوف النّعم.
ويقال الحسنى فى الدنيا توفيق بدوام «٢»، وتحقيق بتمام، وفى الآخرة غفران معجّل، وعيان على التأبيد «٣» محصّل.
قوله: «وَزِيادَةٌ» : فعلى موجب الخبر وإجماع السلف النظر إلى الله. ويحتمل أن تكون «الْحُسْنى» : الرّؤية، «والزيادة». دوامها. ويحتمل أن تكون «الْحُسْنى» : اللقاء، «والزيادة» : البقاء فى حال اللقاء.
ويقال الحسنى عنهم لا مقطوعة ولا ممنوعة، والزيادة لهم لا عنهم محجوبة ولا مسلوبة.
قوله جل ذكره: وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ.
لا يقع عليهم غبار الحجاب، وبعكسه حديث الكفار حيث قال: «وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ».
(١) (المعرفة بالوصف) احتراز هام جدا، حتى لا يظن أن (العيان) يستشرف من (الذات) الصمدية، وإنما يقتصر الأمر على (عرفان الأوصاف) الإلهية كالجلال والجمال والكرم.. إلى آخره.
(٢) قال صلى الله عليه وسلم: «خير العمل أدومه وإن قل».
(٣) (التأبيد) معناه إلى الأبد فهم فى الجنة خالدون أبدا، وستأتى لفظة (التأبيد) فى العقوبة أيضا بعد قليل. [.....]
«والذّلة» التي لا تصيبهم أي لا يردّوا من غير شهود إلى رؤية غيره، فهم فيها خالدون فى فنون أفضالهم، وفى جميع أحوالهم.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٧]
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧)
والذين كسبوا السيئات وعملوا الزّلات لهم جزاء سيئة مثلها، والباء فى «بِمِثْلِها» :
صلة أي للواحد واحد.
«وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ» : هو تأبيد العقوبة.
«ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ» أي ما لهم من عذابه من عاصم، سيموا ذلّ الحجاب، ومنوا بتأبيد العذاب، وأصابهم هو ان البعاد. وآثار الحجاب على وجوههم لائحة فإنّ الأسرّة تدلّ على السريرة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩)
يجمع بين الكفار والأصنام التي عبدوها من دون الله، فتقول الأصنام: ما أمرناكم بعبادتنا. فيدعون على الشياطين التي أطاعوها، وعلى الأصنام التي أمرتهم أن يعبدوها، وتقول الأصنام: كفى بالله شهيدا، على أنّا لم نأمركم بذلك إذ كنّا جمادا. وذلك لأنّ الله يحييها يوم القيامة وينطقها.
وفى الجملة... يتبرّأ بعضهم من بعض، ويذوق كلّ وبال فعله.
وفائدة هذا التعريف أنه ما ليس لله فهو وبال عليهم فاشتغالهم- اليوم- بذلك محال «١»، ولهم فى المآل- من ذلك- وبال.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٣٠]
هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)
إنما يقفون على خسرانهم إذا ذاقوا طعم هوانهم فإذا ردّوا إلى الله لم يجدوا إلا البعد عن الله، والطرد من قبل الله، وذلك جزاء من آثر على الله غير الله. قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٣١]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١)
كما توحّد الحقّ- سبحانه- بكونه خالقا تفرّد بكونه رازقا، وكما لا خالق سواه فلا رازق سواه.
ثم الرزق على أقسام: فللأشباح رزق: وهو لقوم توفيق الطاعات، ولآخرين خذلان الزّلات. وللأرواح رزق: وهو لقوم حقائق الوصلة، ولآخرين- فى الدنيا- الغفلة وفى الآخرة العذاب والمهلة.
«أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ» : فيكمل بعض الأبصار بالتوحيد، وبعضها يعميها عن التحقيق.
(١) المحال هنا معناها ما عدل به عن وجهه (أنظر هذا المعنى فى الوسيط).
«وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ» : يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن.
«فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ» : ولكن ظنّا... لا عن بصيرة، ونطقا... لا عن تصديق سريرة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٣٢]
فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢)
ما يكون من موضوعات الحق، ومتعلقات الإرادة، ومتناولات المشيئة، ومجنّسات التقدير، ومصرّفات القدرة- فهى أشباح خاوية، وأحكام التقدير عليها جارية.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٣٣]
كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣)
سبق لهم الحكم، وصدق فيهم القول فلا لحكمه تحويل ولا لقوله تبديل، فإنّ العلل «١» لا تغيّر الأزل.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٣٤]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤)
كشف قبيح ما انطوت عليه عقائدهم من عبادتهم ما لا يصحّ منه الخلق والإعادة، وأثبت أن المعبود من منه الخلق والإعادة.
قوم جعلوا له فى الإيجاد شركاء بدعوى القدر، وقوم منعوا جواز قدرته على الإعادة.
وكل هذا جنوح إلى الكفر وذهاب عن الدّين.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٣٥]
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥)
(١) أي- حسب مذهب القشيري- أحكام الله السابقة لا تخضع لعلة، غير أننا لا نستبعد أنها (الحيل) جمع حيلة، فليس بتدبير الإنسان يتغير الحكم السابق فى الأزل.
الحقّ اسم من أسمائه سبحانه، ومعناه أنه موجود، وأنه ذو الحق، وأنه محق الحقّ.
والحقّ من أوصاف الخلق ما حسن فعله وصحّ اعتقاده وجاز النطق به.
«والله يهدى للحق» : أي إلى الحق هدايته. وهداه له وهداه إليه بمعني فمن هداه الحقّ للحقّ وقفه على الحقّ، وعزيز من هداه الحقّ إلى الحقّ للحقّ، فماله نصيب وما له حظ.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٣٦]
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦)
الظّنّ ينافى اليقين، فإنه ترجيح أحد طرفى الحكم على الآخر من غير قطع.
وأرباب الحقائق على بصيرة وقطع فالظنّ فى أوصاف الحقّ معلول، والقطع- فى أوصاف النّفس- لكل أحد معلول. والعبد يجب أن يكون فى الحال خاليا عن الظن إذ لا يعرف أحد غيب نفسه فى مآله.
وفى صفة الحقّ يجب أن يكون العبد على قطع وبصيرة فالظنّ فى الله معلول، والظن فيما من الله غير محمود. ولا يجوز بوجه من الوجوه أن يكون أهل المعرفة به سبحانه- فيما يعود إلى صفته- على الظن، كيف وقد قال الله تعالى فيما أمر نبيّه- عليه السلام- أن يقول: «أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي» «١» ؟ وكما قلنا «٢» :
عين أصابتك إن العين صائبة والعين تسرع أحيانا إلى الحسد
طلع الصباح فلات حين سراج وأتى اليقين فلات حين حجاج
حصل الذي كنّا نؤمّل نيله من عقد ألوية وحلّ رتاج
(١) آية ١٠٨ سورة يوسف.
(٢) الشعر هنا للقشيرى نفسه كما يستفاد من عبارته.
والبعد قوّض بالدّنو خيامه والوصل وكّد سجله بعناج «١»
قد حان عهد للسرور فحيهلا لهواجم الأحزان بالإزعاج
قوله جل ذكره.
[سورة يونس (١٠) : آية ٣٧]
وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧)
انسدّت بصائرهم فلا يزدادون بكثرة سماع القرآن إلا عمّى على عمى، كما أن أهل الحقيقة ما ازدادوا إلا هدى على هدى، فسبحان من جعل سماع خطابه لقوم سبب تحيّرهم، ولآخرين موجب تبصّرهم قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٣٨]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨)
كلّت القرائح، وخمدت نيران الفصاحة، واعترف كلّ خطيب مصقع بالعجز عن معارضة هذا الكتاب، فلم يتعرّض لمعارضته إلا من افتضح فى قالته.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٣٩]
بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩)
قابلوا الحقّ بالتكذيب لتقاصر علومهم عن التحقيق، فالتحقيق من شرط التصديق، وإنما يؤمن بالغيب من لوّح- سبحانه- لقلبه حقائق البرهان، وصرف عنه دواعى الرّيب.
(١) السجل- الدلو العظيمة، والعناج- حبل يشد فى أسفل الدلو العظيمة (المنجد).
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٤٠]
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠)
فأمّا الذين آمنوا فهم الذين كحل الحقّ أبصار قلوبهم بنور اليقين، والذين لم يؤمنوا فهم الذين وسم قلوبهم بالعمى فزلّوا- بالضلالة- عن الهدى.. تلك سنّة الله فى الطائفتين، ولن تجد لسنّة الله تحويلا.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٤١]
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١)
برح الخفاء، واستبانت الحقائق، وامتاز «١» الطريقان، فلا المحسن بجرم المسيء معاقب، ولا المسيء بجرم المحسن معاتب، كلّ على حدة بما يعمله وعلى ما يفعله محاسب.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٤٢]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢)
من استمع بتكلفه ازداد فى تخلّفه بزيادة تصرفه، ومن استمع الحقّ بتفضّله- سبحانه- استغنى فى إدراكه عن تعمّله. والحقّ- سبحانه- يسمع أولياءه ما يناجيهم به فى أسرارهم، فإذا سمعوا دعاء الواسطة «٢» قابلوه بالقبول لما سبق لهم من استماع الحقّ.
ومن عدم استماع الحقّ إياه من حيث التفهيم لم يزده سماع الخلق إلا جحدا على جحد، ولم يحظ به إلا بعدا على بعد.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٤٣]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣)
من سدّت بصيرته بالغفلة والغيبة لم يزده إدراك البصر إلا حجبة على حجية، ومن
(١) (امتاز) هنا معناها اتضح الفرق بينهما.
(٢) المقصود بالواسطة النبي عليه الصلاة والسلام.
لم ينظر إلى الله بالله، ولم يسمع من الله بالله، فقصاراه العمى والصمم، «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» «١» وقال عليه السلام فيما أخبر عن الله: «فى يسمع وبى يبصر» «٢».
وأنشد قائلهم:
تأمّل بعين الحقّ إن كنت ناظرا إلى منظر منه إليه يعود
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٤٤]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤)
نفى عن نفسه ما يستحيل تقديره فى نعته، وكيف يوصف بالظلم وكلّ ما يتوّهم أن لو فعله كان له ذلك؟ إذ الحقّ حقّه والملك ملكه. ومن لا يصحّ تقدير قبيح منه- أنّى يوصف بالظلم جوازا أو وجوبا؟! قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٤٥]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥)
الأيام والشهور، والأعوام والدهور بعد مضيها فى حكم اللحظة لمن تفكّر فيها، ومتى يكون لها أثر بعد تقضيها؟ والآتي من الوقت قريب، وكأنّ قدر الماضي من الدهر لم يعهد.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٤٦]
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦).
(١) آية ٤٦ سورة الحج.
(٢) «حتى أحبه فإذا أحببته كنت عينه التي يبصر بها وسمعه الذي يسمع به، ويده التي يبطش بها.
- حديث قدسى رواه البخاري عن أبى هريرة، وأحمد عن عائشه.
معناه أن خبره صدق، ووعده ووعيده حق و، بعد النّشرح حشر، وفى ذلك الوقت مطالبة وحساب، ثم على الأعمال ثواب وعقاب، وما أسرع ما يكون المعلوم مشاهدا موجودا! قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٤٧]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧)
لم يخل زمانا من شرع، ولم يخل شرعا من حكم، ولم يخل حكما مما يعقبه من ثواب وعقاب.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٤٨]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨)
الاستعجال بهجوم الموعود من أمارات أصحاب التكذيب، فأمّا أهل التحقيق فليس لهم لوارد يرد عليهم اشتغال قبل وجوده، أو استعجال على حين كونه، ولا إذا ورد استقبال لما تضمنه حكمه فهم مطروحون فى أسر الحكم، لا يتحرك منهم- باختيارهم- عرق.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٤٩]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩)
المملوك متى يكون له ملك؟! وإذا كان سيّد البرايا- عليه الصلاة والسلام- لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا..
فمن نزلت رتبته، وتقاصرت حالته متى يملك ذرة أو تكون باختياره وإيثاره شمة؟
طاح الذي لم يكن «١» - فى التحقيق، وتفرّد الجبار بنعت الملكوت.
(١) (الذي لم يكن) يقصد بها الحادث من إنسان وحيوان وعين وأثر.. إلخ.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٥٠]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠)
من عرف كمال القدرة لم يأمن فجأة الأخذ بالشدة، ومن خاف البيات لم يستلذ السّبات.
ويقال من توسّد الغفلة أيقظته فجاءة العقوبة، ومن استوطن مركب الزّلّه عثر فى وهدة المحنة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٥١]
أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١)
بعد انتهاك ستر الغيب لا يقبل تضرع المعاذير.
ويقال لا حجّة بعد إزاحة العلة، ولا عذر بعد وضوح الحجة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٥٢]
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢)
لا تكلف نفس إلا تجرع ما منه سقت، ولا يحصد زارع غلّة إلا ما منه زرع، وفى معناه قالوا:
سننت فينا سننا... قذف البلايا عقبه
يصبر على أهوالها... من برّ يوما ربّه «١»
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٥٣]
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣)
صرّح بالإخبار عند استخبارهم، وأعلم بما يزيل الشّبهة عمّا التبس على جهّالهم، وأكّد إخبارك بما تذكره من القسم واليمين، مضافا ذلك إلى ما تسلفه من التّبيين. على أنه لا ينفعهم
(١) الشطر الثاني من هذا البيت مطموس غير واضح، ولكننا أكملناه حسبما ورد النص فى موضع سبق.
نصحك، ولا يؤثّر فيهم وعظك.. كيف لا؟ وقد جرّعوا شراب الحجبة، ووسموا بكىّ الفرقة فلا بصيرة لهم ولا (... ) «١» ولا فهم ولا حصافة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٥٤]
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤)
لا يقبل منهم عدل ولا سرف «٢»، ولا يحصل فيما سبق لهم من الوعيد خلف.
ولا ندامة تنفعهم وإن صدقوها، ولا كرامة تنالهم وإن طلبوها، ولا ظلم يجرى عليهم ولا حيف، كلا... بل هو الله العدل فى قضائه، الفرد فى علائه بنعت كبريائه.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٥٥]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥)
الحادثات بأسرها لله ملكا، وبه ظهورا، ومنه ابتداء، وإليه انتهاء فقوله حقّ، ووعده صدق، وأمره حتم، وقضاؤه بات. وهو العلىّ، وعلى ما يشاء قوى.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٥٦]
هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)
يحيى القلوب بأنوار المشاهدة، ويميت النفوس بأنواع المجاهدة، فنفوس العابدين تلفها فنون المجاهدات، وقلوب العارفين شرفها عيون المشاهدات.
ويقال يحيى من أقبل عليه، ويميت من أعرض عنه.
ويقال يحيى قلوب قوم بجميل الرجاء، ويميت قلوب قوم بوسم القنوط.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٥٧]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧)
(١) مشتبهة.
(٢) السرف هنا معناها مجاوزة الحد.
الموعظة للكافة.. ولكنها لا تنجع في أقوام، وتنفع فى آخرين فمن أصغى إليها بسمع سرّه اتضح نور التحقيق فى قلبه، ومن استمع إليها بنعت غيبته ما اتصف إلا بدوام حجبته.
ويقال الموعظة لأرباب الغيبة ليئوبوا، والشّفاء لأصحاب الحضور ليطيبوا.
ويقال «الموعظة» : للعوام، «والشفاء» : للخواص، «والهدى» لخاص الخاص، «والرحمة» لجميعهم، وبرحمته وصلوا إلى ذلك.
ويقال شفاء كلّ أحد على حسب دائه، فشفاء المذنبين بوجود الرحمة، وشفاء المطيعين بوجود النعمة «١»، وشفاء العارفين بوجود القربة، وشفاء الواجدين بشهود الحقيقة.
ويقال شفاء العاصين بوجود النجاة، وشفاء المطيعين بوجود الدرجات، وشفاء العارفين بالقرب والمناجاة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٥٨]
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)
«الفضل» : الإحسان الذي ليس بواجب على فاعله، «والرحمة» إرادة النعمة وقيل هى النعمة.
والإحسان على أقسام وكذلك النعمة، ونعم الله أكثر من أن تحصى.
ويقال الفضل ما أتاح لهم من الخيرات، والرحمة ما أزاح عنهم من الآفات.
ويقال فضل الله ما أكرمهم من إجراء الطاعات، ورحمته ما عصمهم به من ارتكاب الزّلات. ويقال فضل الله دوام التوفيق ورحمته تمام التحقيق.
(١) نعلم من مذهب القشيري أن (الرحمة) من أوصاف الذات، و (النعمة) من أوصاف الفعل..
فتامل كيف يرتبط مصير (المذنبين) بوصف من أوصاف ذاته، ولاحظ كيف يفتح الصوفية بذلك أبواب الأمل أمام التائبين. [.....]
ويقال فضل الله ما يخصّ به أهل الطاعات من صنوف إحسانه، ورحمته ما يخصّ به أهل الزلّات من وجوه غفرانه.
ويقال فضل الله الرؤية، ورحمته إبقاؤهم فى حالة الرؤية.
ويقال فضل الله المعرفة فى البداية، ورحمته المغفرة فى النهاية.
ويقال فضل الله أن أقامك بشهود الطلب، ورحمته أن أشهدك حقّه بحكم البيان إلى أن تراه غدا بكشف العيان.
قوله: «فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا» أي بما أهّلهم له، لا بما يتكلّفون من حركاتهم وسكناتهم، أو يصلون إليه بنوع من تكلفهم وتعملهم. «هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ» : أي ما تتحفون به من الأحوال الزاكية خير ممّا تجمعون من الأموال الوافية.
ويقال الذي لك منه- فى سابق القسمة- خير مما تتكلّفه من صنوف الطاعة والخدمة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٥٩]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩)
يعنّفهم ويقرّعهم «١» على ما ابتدعوه من التحليل والتحريم، ويظهر كذبهم فيما تقوّلوه من نسبتهم ذلك إلى إذن وشرع.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٦٠]
وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠)
هذا على جهة التهويل والتعظيم لما أسلفوه من الكذب.
(١) قرع فلانا أي أوجعه باللوم والعتاب (المحيط)
ثم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ» فى إمهال من أجرم، والعصمة لمن لم يجرم.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٦١]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١)
خوّفهم بما عرفهم من اطلاعه عليهم فى جميع أحوالهم، ورؤية ما سيفعلونه من فنون أعمالهم. والعلم بأنه يراهم يوجب استحياءهم منه، وهذه حال المراقبة، والعبد إذا علم أن مولاه يراه استحيى منه، وترك متابعة هواه، ولا يحوّم حول ما نهاه، وفى معناه أنشدوا:
كأنّ رقيبا منك حال بمهجتي إذا رمت تسهيلا علىّ تصعّبا
وأنشدوا:
أعاتب عنك النّفس فى كلّ خصلة تعاتبنى فيها وأنت مقيم
«وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ» : وكيف يخفى ذلك عليه، أو يتقاصر علمه عنه، وهو منشئه وموجده؟ وبعض أحكامه الجائزة مخصصة، وإنما قال: «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» :
ردّهم إلى كتابته ذلك عليهم- لعدم اكتفائهم فى الامتناع عمّا نهوا عنه- برؤيته وعلمه.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٦٢]
أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)
الولىّ على وزن فعيل مبالغة من الفاعل، وهو من توالت طاعاته، من غير أن يتخللها عصيان.
ويجوز أن يكون فعيل بمعنى مفعول كجريح وقتيل بمعنى مجروح ومقتول فيكون الولىّ من يتوالى عليه إحسان الله وأفضاله، ويكون بمعنى كونه محفوظا فى عامة أحواله من المحن.
وأشدّ المحن ارتكاب المعاصي فيعصمه الحقّ- سبحانه- على دوام أوقاته من الزّلّات.
وكما أن النبيّ لا يكون إلا معصوما فالولىّ لا يكون إلا محفوظا.
والفرق بين المحفوظ والمعصوم أن المعصوم لا يلمّ بذنب البتّة، والمحفوظ قد تحصل منه هنات، وقد يكون له- فى الندرة- زلّات، ولكن لا يكون له إصرار: «أولئك الذين يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ» «١».
قوله جل ذكره: لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
حسن ما قيل إنه «لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» : فى الدنيا، «وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» : فى العاقبة.
ولكن الأولى أن يقال إنّ الخواص منهم لا خوف عليهم فى الحال- لأنّ حقيقة الخوف توقّع محذور فى المستقبل، أو ترقّب محبوب يزول فى المستأنف.. وهم بحكم الوقت ليس لهم تطلّع إلى المستقبل. والحزن هو أن تنالهم حزونة فى الحال، وهم فى روح الرضا بكلّ ما يجرى فلا تكون لهم حزونة الوقت. فالولىّ لا خوف عليه فى الوقت، ولا له حزن بحال، فهو بحكم الوقت.
ولا يكون وليّا إلا إذا كان موفّقا لجميع ما يلزمه من الطاعات، معصوما بكل وجه عن جميع الزلات. وكلّ خصلة حميدة يمكن أن يعتبر بها فيقال هى صفة الأولياء. ويقال الولىّ من فيه هذه الخصلة.
ويقال الولىّ من لا يقصّر فى حقّ الحق، ولا يؤخرّ القيام بحق الخلق يطيع لا لخوف عقاب، ولا على ملاحظة حسن مآب، أو تطلع لعاجل اقتراب، ويقضى لكلّ أحد حقا يراه واجبا، ولا يقتضى من أحد حقّا له، ولا ينتقم، ولا ينتصف «٢» ولا يشمت ولا يحقد، ولا يقلد أحدا منة، ولا يرى لنفسه ولا لما يعمله قدرا ولا قيمة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٦٣]
الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣)
هذه صفة الأولياء آمنوا فى الحال، واتقوا الشرك فى المآل. ويقال «آمَنُوا» أي قاموا
(١) آية ١٧ سورة النساء.
(٢) أي إذا أساء إليه أحد لم يطلب من مخلوق إنصافا، وإنما عفا وتساهل، تاركا الأمر لله.
بقلوبهم من حيث المعارف. «وَكانُوا يَتَّقُونَ» : استقاموا بنفوسهم بأداء الوظائف.
ويقال «آمَنُوا» بتلقى التعريف. «واتقوا» : بالتقوى عن المحرمات بالتكليف.
قوله جلّ ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٦٤]
لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤)
القيام بالأمر يدل على الصحة فإذا قاموا بما أمروا به، واستقاموا بترك ما زجروا عنه بشّرتهم الشريعة بالخروج عن عهدة الإلزام، وبشّرتهم الحقيقة باستيجاب الإكرام، بما كوشفوا به من الإعلام.. وهذه هى البشرى فى عاجلهم. وأما البشرى فى آجلهم: فالحقّ- سبحانه- يتولّى ذلك التعريف، قال تعالى: «يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ» «١» ويقال البشارة العظمى ما يجدون فى قلوبهم من ظفرهم بنفوسهم بسقوط مآربهم، وأىّ ملك أتمّ من سقوط المآرب، والرضا بالكائن «٢» ؟ هذه هى النعمة العظمى، ووجدان هذه الحالة هو البشرى الكبرى.
ويقال الفرق بين هذه البشارة التي لهم وبين البشارة التي لخلق أنّ التي للخلق عدّة «٣» بالجميل، والذي لهم نقد ومحصول.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٦٥]
وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥)
العبد ما دام متفرقا يضيق صدره ويستوحش قلبه بما يسمع ويشهد من الأغيار والكفار ما تتقدّس عنه صفة الحقّ، فإن صار عارفا زالت عنه تلك الصفة لتحققه بأنّ الحقّ سبحانه وراء كلّ طاعة وزلّة، فلا له- سبحانه- من هذا استيحاش، ولا بذلك استئناس.
(١) آية ٢١ سورة التوبة.
(٢) الكائن هنا معناها الواقع، فلا يتطلعون إلى زيادة أو تغيير.
(٣) عدة- وعد، وتذكر ما قلناه فى هامش سابق عن الوعد والنقد.
ثم يتحقق العارف بأنّ المجرى لطاعة أرباب الوفاق- الله، والمنشئ لأحوال أهل الشّقاق- الله. لا يبالى الحقّ بما يجرى ولا يبالى العبد بشهود ما يجرى، كما قيل:
بنو حقّ قضوا بالحقّ صرفا... فنعت الخلق فيهم مستعار
قوله جل ذكره
[سورة يونس (١٠) : آية ٦٦]
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦)
لله من فى السماوات ومن فى الأرض ملكا، ويبدى عليهم ما يريد حكما جزما فلا لقبوله علّة، ولا موجب لردّه زلّة، كلا... إنها أحكام سابقة، لم توجبها أجرام لاحقة، ولا طاعات وعبادت صادقة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٦٧]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧)
الليل لأهل الغفلة بعد وغيبة، ولأهل الندم «١» توبة وأوبة، وللمحبين زلفة وقربة فالليل بصورته غير مؤنس، لكنه وقت القربة لأهل الوصلة كما قيل:
وكم لظلام الليل عندى من يد «٢» تخبّر أن المانوية تكذب قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦٨ الى ٦٩]
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩)
(١) وردت (القوم) وهى خطأ فى النسخ إذ لا معني لها هنا والمناسب (الندم).
(٢) وردت (مزيد) وهى خطأ في النسخ.
الولد بعض الوالد، والصمدية تجلّ عن البعضية، فنزّه الله نفسه عن ذلك بقوله «سُبْحانَهُ».
ثم إنه لم يعجّل لهم العقوبة- مع قبيح قالتهم ومع قدرته على ذلك- تنبيها على طريق الحكمة لعباده.
ولا تجوز فى وصفه الولادة لتوحّده، فلا قسيم له، ولا يجوز فى نعته التبنّي أيضا لتفرّده وأنه لا شبيه له.
قوله: «هُوَ الْغَنِيُّ» : الغني نفى الحاجة، وشهوة المباشرة حاجة، ويتعالى عنها سبحانه.
قوله جل ذكره
[سورة يونس (١٠) : آية ٧٠]
مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
ليس لهم بما هم فيه استمتاع، إنما هى أيام قليلة ثم تتبعها آلام طويلة، فلا قدم لهم بعد ذلك ترفع، ولا ندم ينفع.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٧١]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١)
أنزل الله هذه الآية على وجه التسلية لنبيّه- صلى الله عليه وسلم- لما كان يمسّه من مقاساة الشّدّة من قومه، فإنّ أيام نوح- وإن طالت- فما لبثت كثيرا إلا وقد زالت، كما قيل:
وأحسن شىء في النوائب أنها إذا هى نابت لم تكن خلدا
ثم بيّن أنه كان يتوكل على ربّه مهما فعلوا. ولم يحتشم عبد- ما وثق بربّه- من كلّ ما نزل به ثم إن نوحا- عليه السلام- قال: إنى توكلت على الله، وهذا عين التفرقة،
وقال لنبيّه صلى الله عليه وسلم: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ» «١» وهذا عين الجمع فبانت المزية وظهرت الخصوصية.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٧٢]
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢)
إذا كان عمله لله لم يطلب الأجر عليه من غير الله، وهكذا سنّته فى جميع أولياء الله.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٧٣]
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣)
أغرق قومه بأمواج القطرة، وفى الحقيقة أغرقهم بأمواج الأحكام والقدرة، وحفظ نوحا- عليه السلام- وقومه فى السفينة، وفى الحقيقة نجّاهم فى سفينة السلامة. كان نوح فى سابق حكمه من المحروسين، وكان قومه فى قديم قضائه من جملة المغرقين، فجرت الأحوال على ما جرت به القسمة فى الأزل.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥)
(١) آية ٦٤ سورة الأنفال
قصّ عليه- صلوات الله عليه وسلامه- أنباء الأولين، وشرح له جميع أحوال الغابرين، ثم فضّله على كافتهم أجمعين، فكانوا نجوما وهو البدر، وكانوا أنهارا وهو البحر، ثم به انتظم عقدهم، وبنوره أشرق نهارهم، وبظهوره ختم عددهم «١»، كما قيل:
يوم وحسب الدهر من أجله... حيّا غد والتفت الأمس
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٧٦]
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦)
ما زادهم الحقّ سبحانه بيانا إلا ازدادوا طغيانا، وذلك أنه تعالى أجرى سنّته فى المردودين عن معرفته أنه لا يزيد فى الحجج هدى إلا ويزيد فى قلوبهم عمّى، ثم خفى عليهم قصود النبيين صلوات الله عليهم أجمعين.
«يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ» : نظروا من حيث كانوا لم يعرفوا طعما غير ما ذاقوا، وكذا صفة من أقصته السوابق، وردّته المشيئة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٧٨]
قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨)
ركنوا إلى تقليد آبائهم فيما عليه كانوا، واستحبّوا استدامة ما عليه كانوا... فلحقهم شؤم العقيدة وسوء الطريقة حتى توهموا أن الأنبياء عليهم السلام إنما دعوهم إلى الله لتكون لهم الكبرياء على عباد الله، ولم يعلموا أنهم إنما دعوهم إلى الله بأمر الله.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٧٩]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩)
لما استعان فى استدفاع ما استقبله بغير الله لم يلبث إلا يسيرا حتى تبرّأ منهم وتوعّدهم
(١) قارن ذلك بما يقوله الحلاج فى طواسينه وبما يقوله أصحاب «نظرية الإنسان الكامل» عن الحقيقة المحمدية لتلحظ مدى اعتدال هذا الامام السنى المتحفظ فى نظرته لشخصية الرسول عليه صلاة الله وسلامه.
بقوله: لأفعلنّ ولأصنعنّ، وكذلك قصارى كل حجة وولاية إذا كانت فى غير الله فإنها تئول إلى العداوة والبغضة، قال تعالى: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ» «١».
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١)
أمرهم أمرا يظهر به بطلانهم ليدخل الحقّ على ما أتوا به من التمويه، فلذلك قال موسى عليه السلام: «إن الله سيبطله» فلمّا التقمت عصا موسى- جميع ما جاءوا به من حبالهم وعصيّهم- حين قلبها الله حيّة.. علموا أنّ الله أبطل تلك الأعيان وأفناها.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٨٢]
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)
من جملة ما أحقّه أن السّحرة كان عندهم أنهم ينصرون فرعون ويجيبونه فكانوا يقسمون بعزّته حيث قالوا «بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ» وقال الحقّ اغض سبحانه.
بعزتي إنكم لمغلوبون، فكان على ما قال تعالى دون ما قالوه، وفى معناه قالوا:
كم رمتني بأسهم صائبات وتعمّدتها بسهم فطاشا
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٨٣]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣)
أهل الحقيقة فى كل وقت قليل عددهم، كبير عند الله خطرهم.
(١) آية ٦٧ سورة الزخرف.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٨٤]
وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤)
بيّن أن الإيمان ليس من حيث الأقوال.. بل لا بد فيه من صدق الأحوال قصدا.
وحقيقة التوكل توسّل تقديمه متّصل، ثم يعلم أنه بفضله- سبحانه- تحصل نجاته، لا بما يأتى به من التكلّف- هذه هى حقيقة التوكل «١».
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٥ الى ٨٦]
فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦)
تبرأنا مما منّا من الحول والمنّة، وتحققنا بما منك من الطول والمنّة.
فلا تجعلنا عرضة لسهام أحكامك فى عقوبتك بانتقامك، وارحمنا بلطفك وإكرامك، ونجّنا ممّن غضبت عليهم فأذللتهم، وبكىّ فراقك وسمتهم قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٨٧]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧)
مهّد إليهم لعبادتنا محالّ وهى نفوسهم، ولمعارفنا منازل وهى قلوبهم، ولمحبتنا مواضع وهى أرواحهم، ولمشاهدتنا معاهد وهى أسرارهم فنفوس العابدين بيوت الخدمة، وقلوب العارفين أوطان الحشمة، وأرواح المهيمين مشاهد المحبة، وأسرار الموحدين منازل الهيبة «٢» قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٨٨]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨)
(١) أي يفنى عن التوكل برؤية الوكيل.. كما يقول إبراهيم الخواص (ت ٢٩١)
(٢) هذه الفقرة هامة فى توضيح الملكات الباطنية وترتيبها ووظائفها فى المعراج الروحي- فى مذهب هذا الصوفي.
لما يئس من إجابتهم حين دعاهم إلى الله دعا عليهم بإنزال السّخطة وإذاقة الفرقة. ومن المعلوم أنّ الأنبياء- عليهم السلام- من حقهم العصمة، فإذا دعا موسى عليهم بمثل هذه الجملة لم يكن ذلك إلا بإذن من قبل الله تعالى فى الحقيقة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٨٩]
قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩)
الاستقامة فى الدعاء ترك الاستعجال فى حصول المقصود، ولا يسقط الاستعجال من القلب إلا بوجدان السكينة فيه، ولا تكون تلك السكينة إلا بحسن الرضاء بجميع ما يبدو من الغيب ويقال ينبغى للعبد أن يسقلّ بالله «١» ما أمكنه، فعند هذا يقلّ دعاؤه. ثم إذا دعاه بإشارة من الغيب- فى جوازه- فالواجب ألا يستعجل، وأن يكون ساكن الجأش.
ويقال من شرط الدعاء صدق الافتقار فى الابتداء، ثم حسن الانتظار فى الانتهاء، وكمال هذا الرضاء بجريان الأقدار بما يبدو من المسار والمضار.
ويقال الاستقامة فى الدعاء سقوط التقاضي «٢» على الغيب، والخمود عن الاستعجال بحسن الثقة، وجميل الظّن.
ويقال فى الآية تنبيه على أنّ للأمور آجالا معلومة، فإذا جاء الوقت فلا تأخير للمقسوم فى الوقت المعلوم.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٩٠]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠)
(١) الاستقلال بالله الاكتفاء به وعدم النظر إلى النفس أو الأغيار. [.....]
(٢) التقاضي على الغيب معناه النظر إلى ما يأتى من الغيب بعين التقليل أو التكثير، البطء أو السرعة..
ففى ذلك إقحام لحظوظ النفس فى حقوق الحق.
حملت العزّة فرعون على تقحم البحر على إثرهم، فلمّا تحقّق الهلاك حملته ضرورة الحيلة على الاستعاذة، فلم ينفعه ذلك لفوات وقت الاختيار.
ويقال لما شهد صولة التقدير أفاق من سكر الغلطة «١»، لكن: «بعد شهود البأس لا ينفع التخاشع والابتئاس».
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٩١]
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١)
... أبعد طول الإمهال، والإصرار على ذميم الأفعال، والرّكض فى ميدان الاغترار، وانقضاء وقت الاعتذار؟! هيهات! لقد استوجبت أن تردّ فى وجهك، فلا لعذرك قبول، ولا لك إلى ما ترومه وصول.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٩٢]
فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢)
لنشهرنّ تعذيبك، ونظهرنّ- لمن استبصر- تأديبك، لتكون لمن خلفك عبرة، وتزداد حين أفقت أسفا وحسرة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٩٣]
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣)
(١) تصح أن تكون كذلك، وتصح أن تكون (الغلظة) بالظاء، وهى قسوة القلب من الكفر والعناد، ولا نستبعد أيضا أن تكون: أفاق من سكر (الغفلة).
أذللنا لهم الأيام، وأكثرنا لديهم الإنعام، وأكرمنا لهم المقام، وأتحنا لهم فنون الحسنات، وأدمنا لهم جميع الخيرات... فلمّا قابلوا النعمة بالكفران، وأصرّوا على البغي والعدوان أذقناهم سوء العذاب، وسددنا عليهم أبواب ما فتحنا لهم من التكريم والإيجاب، وذلك جزاء من حاد عن طريق الوفاق، وجنح إلى جانب الشّقاق.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٩٤]
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤)
ما شكّ- صلى الله عليه وسلم- فيما عليه أنزل، ولا عن أحد منهم ساءل، وإنما هذا الخطاب على جهة التهويل، والمقصود منه تنبيه القوم على ملازمة نهج السبيل.
ويقال صفة أهل الخصوص ملاحظة أنفسهم وأحوالهم بعين الاستصغار.
ويقال فإن تنزّلت منزلة أهل الأدب فى ترك الملاحظات فسل عمّن أرسلنا قبلك فهل بلّغنا أحدا منزلتك؟ وهل خصصنا أحدا بمثل تخصيصك؟
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٩٥]
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥)
ما كان منهيا عنه، وكان قبيحا فبالشرع كان قبيحا، فلا بد من ورود الأمر به حتى تكون منه طاعة وعبادة. وإنما لم يجز فى صفته- صلى الله عليه وسلم- التكذيب بآيات الله لأنه نهى عنه لا لكونه قبيحا بالعقل «١» حتى يقال كيف نهى عنه وكان ذلك بعيدا منه؟
(١) يغمز القشيري هنا بقول المعتزلة: إن القبيح ما رآه العقل قبيحا والحسن ما رآه العقل حسنا، ويرى القشيري التعويل على الشرع فى هذا الخصوص- كما هو واضح من إشارته.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٦ الى ٩٧]
إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧)
فالأعداء حقّت عليهم كلمة بالعقاب، والأولياء حقت عليهم كلمة بالثواب فالكلمة أزليّة، والأحكام سابقة، والأفعال فى المستأنف على ممر الأوقات على موجب القضية لاحقة، فالذين نصيبهم من القسمة الشقوة لا يؤمنون وإن شاهدوا كل دلالة، وعاينوا كل معجزة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٩٨]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨)
قوم يونس تداركتهم الرحمة الأزلية فيما أجرى عليهم من توفيق التضرع، فكشف عنهم العذاب، وصرف عنهم ما أظلّ عليهم من العقوبة بعد ما عاينوا من تلك الأبواب فبرحمته وصلوا إلى تضرعهم، لا بتضرعهم وصلوا إلى رحمته «١».
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ٩٩]
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩)
كيف يتعصى عليه سبحانه مراد- والذي يبقى شىء عن مراده ساه أو مغلوب؟ والذي يستحق جلال العزّة لا يفوته مطلوب.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠٠]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠).
(١) أي أن عمل الإنسان لا يكفى وحده للوصول إلا إذا ارتبط بتوفيق الله وفضله.
لا يمكن حمل «١» الإذن فى هذه الآية إلا على معنى المشيئة لأنه للكافة بالإيمان، والذي هو مأمور بالشيء لا يقال إنه غير مأذون فيه. ولا يجوز حمل هذه الآية على معنى أنه لا يؤمن أحد إلا إذا ألجأه الحقّ إلى الإيمان واضطره- لأنّ موجب ذلك ألا يكون أحد فى العالم مؤمنا بالاختبار، وذلك خطأ، فدلّ على أنه أراد به إلا أن يشاء الله أن يؤمن هو طوعا. ولا يجوز بمقتضى هذا أنه يريد من أحد أن يؤمن طوعا ثم لا يؤمن لأنه يبطل فائدة الآية، فصحّ قول أهل السّنّة بأنّ ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن «٢».
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠١]
قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١)
الأدلة- وإن كانت ظاهرة- فما تغنى إذا كانت البصائر مسدودة، كما أن الشموس- وإن كانت طالعة- فما تغنى إذا كانت الأبصار عن الإدراك بالعمى مردودة، كما قيل:
وما انتفاع أخى الدنيا بمقلته إذا استوت عنده الأنوار والظّلم؟
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠٢]
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢)
تمنّي ألطاف أنوار الحقيقة تعنّ فى تسويل، واستناد إلى غير تحصيل، وتماد فى تضليل.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠٣]
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)
حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض فقوله تعالى: «عَلَيْنا» هاهنا معناها «منا»،
(١) وردت (حول) وهى خطا فى النسخ.
(٢) هذا نموذج طيب لموقف القشيري متكلما سنيا- بالنسبة لقضية اختيار الإنسان.
فلا شىء يجب على الله لكونه إلها ملكا، فيجب الشيء من الله- لصدقه- ولا يجب عليه- لعزّته «١».
وكما لا يجوز أن يدخل نبى من الأنبياء- عليهم السلام- فى النار لا يجوز أن يخلّد واحد من المؤمنين فى النار لأنه أخبر أنه ينّجى الرسل والمؤمنين جميعا.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠٤]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤)
إن كنتم فى غطاء الرّيب فأنا فى ضياء من الغيب، إن كنتم فى ظلمة الجهل فأنا فى شموس الوصل، إن كنتم فى سدفة الضّلالة فأنا فى خلعة الرسالة وعلى أنوار الدلالة.
ويقال قد تميزنا على مفرق الطريق: فأنتم وقعتم فى وهدة العوج، وأنا ثابت على سواء «٢» النّهج.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠٥]
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥)
أي أخلص قلبك للدّين، وجرّد قلبك عن إثبات كلّ ما لحقه قهر التكوين، وكن مائلا عن الزيغ والبدع، داخلا فى جملة من أخلص فى الحقيقة.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠٦]
وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦)
(١) تأمل هذا التخريج حتى ينسجم مذهبه الكلامى مع ظاهر النص القرآنى.
(٢) وردت (سوء) وهى خطأ فى النسخ.
لا تعبد ما لا تنفعك عبادته ولا تضرّك عبادته، وتلك صفة كل ما يعبد من دون الله.
واستعانة الخلق بالخلق تمحيق للوقت بلا طائل فمن لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا كيف يستعين به من هو فى مثل حاله؟ وإذا انضاف الضعيف إلى الضعيف ازداد الضعف.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠٧]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧)
كما تفرّد بإبداع الضرّ واختراعه فلا شريك يعضّده.. كذلك توحّد بكشف الضرّ وصرفه فلا نصير ينجده.
ويقال هوّن على المؤمن الضرّ بقوله: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ» حيث أضافه إلى نفسه، والحنظل يستلذّ من كفّ من تحبه.
وفرّق بين الضرّ والخير بإضافة الضرّ إليه فقال: وإن يمسسك الله بضرّ، ولم يقل:
وإن يردك بضر- وإن كان ذلك الضرّ صادرا عن إرادته- وفى ذلك من حيث اللفظ دقّة.
ويقال: عذب الضرّ حيث كان نفعه فلمّا أوجب مقاساة الضّرّ من الحرب أبدل مكانه السرور والطّرب.
قوله جل ذكره:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٠٨]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨)
من استبصر ربح رشد نفسه، ومن ضلّ فقد زاغ عن قصده فهذا بلاء اكتسب، وذلك ضياء وشفاء اجتلب.
Icon