الحمد لله رافع منازل المتمسكين بالذكر المبين، وهادي المؤمنين المتقين، الذين يتلونه آناء الليل وأطراف النهار، ويتدبرون آياته للعمل والموعظة والادّكار، تكفل سبحانه بحفظه؛ فلم يغير صفاءه كدر التحريف، ولم تحم حوله أخطاء التصحيف، فنحن نقرؤه اليوم كما نزل به الروح الأمين على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
والصلاة والسلام الأتمان الأدومان الأكملان على من أرسله الله تعالى رحمة للعالمين، وسراجا منيرا للمخبتين، وعلى آله الطهر الميامين، وصحابته أجمعين.
فقد أرسل المولى سبحانه رسوله بالهدى ودين الحق، وأنزل عليه القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب، ليدّبّروا آياته وليتذكر أولو الألباب، كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم، فهو المعجزة الخالدة الذي فاق كل بيان، وأخرس كل لسان، وأبهر أهل الفصاحة من قحطان وعدنان، بل تحدّى الجن والإنس أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، فكان المعجزة الدائمة، والبرهان الصادق، على ما أتى به رسوله من حقائق.
دامت لدينا ففاقت كل معجزة | عن النبيين إذ جاءت ولم تدم |
1
من اتبع هداه.. فقد فاز برضاه، وكانت الجنة مأواه، وأما من خالفه وأباه.. فقد اتخذ إلهه هواه، لا يزيغ عنه إلا هالك، ولا يجحده إلا مكابر.
هذا؛ ولقد نزل القرآن الكريم بلغة العرب، وعلى نهج أساليبهم في الكلام، كما قال سبحانه:
﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾.
وكان الصحابة يفهمونه في جملته، ويعملون بمحكمه، ويؤمنون بمتشابهه، وكانوا يرجعون إلى المأمور بالبيان صلى الله عليه وسلم، لمعرفة التفاصيل والدقائق.
واشتهر عدد كبير من الصحابة بالتفسير، كالخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبيّ بن كعب، وغيرهم، فكانت مصادرهم القرآن نفسه؛ لأن كثيرا من آياته يفسر بعضها بعضا، وما أجمل في موضع.. قد يأتي تفصيله في مواضع أخرى، حتى إن بعض المفسرين ألّفوا كتبا خاصة في تفسير القرآن بالقرآن.
المصدر الثاني لتفسيرهم هو السنة النبوية، وهذا ما يطلق عليه التفسير بالسنة.
هذا؛ بالإضافة إلى لغتهم التي نزل بها القرآن، وقد كانوا من خلّص العرب، وهم أقعد بمعرفة اللغة ومناحيها وأساليبها، وعندهم ديوان العرب، الشعر الذي كانوا يستجلون منه غريب القرآن، وطرق الأساليب، وكانوا معتمدين في ذلك على الرواية في حفظها وتبليغها، وحين بدأ المسلمون بتدوين علومهم ولا سيما علم الحديث.. كان مندرجا ضمن السنة، ثم انفصل تدريجيا عنها.
وبدأت المرحلة الأولى للتأليف المستقل في تفسير القرآن العظيم، وقد
2
تمثلت في التأليف في غريب القرآن، التي اقتصرت فيه هذه المرحلة على تفسير الكلمات الغريبة التي تحتاج إلى بيان، وذلك ككتب الرؤاسي (ت ١٧٠ هـ)، والكسائي (ت ١٨٩ هـ)، والفرّاء (ت ٢٠٧ هـ).
ثم تلا ذلك المرحلة الثانية: وهي التفسير الكامل للقرآن الكريم، كتفاسير
«ابن ماجه» (ت ٢٧٣ هـ)، و
«ابن جرير الطبري» (ت ٣١٠ هـ)، و
«ابن المنذر» (ت ٣١٨ هـ)، و
«ابن أبي حاتم» (ت ٣٢٧ هـ)، فكانت هذه المؤلفات جامعة لتفسير الغريب، وما ورد من الآثار في معنى الآيات، وأسباب نزولها من الأحاديث وأقوال الصحابة والتابعين، وهذا ما يطلقون عليه: التفسير بالمأثور.
ولذا نجد هؤلاء يعتمدون في النقل على الأسانيد، وربما يذكرون عدة آراء في معنى الآية الواحدة، حتى صح أن يطلق على هذه التفاسير:
التفاسير الموسوعية، كتفسير ابن جرير الطبري. المسمى
«جامع البيان»، وهو مطبوع متداول، وقد حقق نحو نصفه العلّامة المحدث أحمد محمد شاكر، إلا أن المنية اخترمته قبل أن يتمه وأتمه أخوه العلامة محمود محمد شاكر رحمه الله وطبع في دار المعارف بمصر.
ثم تدرج التفسير في سلم التوسع، فدونت في أثناء التفسير العلوم العقلية أيضا، وكان من الطبعي أن يتضخم وتتسع أطرافه، لشحنه بالمعارف العامة والعلوم المتنوعة والآراء، بل والعقائد أيضا، فقد امتزج التفسير بذلك كله، وكثير من البارعين في فنون معينة من علوم اللغة وغيرها فسروا القرآن من زاوية تخصصهم؛ لأن عندهم من الملكات العلمية في تلك المجالات ما يستطيعون أن يبدعوا ويفيدوا، وبهذا تعددت الاتجاهات للمفسرين.
3
- فمنهم من عني بالتفسير اللغوي وما يتصل به، فكثر في منهجه التخريجات الإعرابية، والوجوه النحوية، وأكثر من الشواهد نظما ونثرا، ومنهم الزجاج، والواحدي في
«البسيط»، وأبو حيان في
«البحر المحيط».
- ومنهم من اتجه في تفسيره إلى مقارعة الفلاسفة، وذكر شبههم والرد عليها، والتوسع في هذا الميدان، كالفخر الرازي في تفسيره
«مفاتيح الغيب».
- ومنهم من عني باستنباط الأحكام الشرعية، وإيراد الفروع الفقهية، كل وفق مذهبه، مع الرد على من خالفه من أصحاب المذاهب الأخرى، كما فعل الجصاص الحنفي في
«أحكام القرآن»، والقرطبي المالكي في تفسيره
«الجامع لأحكام القرآن» (١).
- وهناك تفاسير أخرى لها اتجاهات أخرى، إما عقائدية ك
«تفسير القاضي عبد الجبار» و
«الزمخشري»، أو تاريخية عني مؤلفوها كثيرا بالقصص وأخبار الأمم السالفة، ك
«تفسير الثعلبي» و
«الخازن».
والخلاصة: أن القرآن العظيم لا زال علماء الدين وغيرهم يغترفون من مناهله الروية، ويستنبطون من نصوصه الإلهية، فيواكب كل مصر، ويتلاءم مع كل عصر، ويهتدون منه إلى ما يقيم الحجة على أهل الزيغ والعناد، وما يثبت أنه منزل من رب العباد.
وقد قام العلماء الأجلة في العصر الحديث بجهودهم في هذا الميدان، فكتبوا فيه تأسيا بالسلف، فتراهم بين مؤلف جامع لأشتات التفاسير وبين مهذب لمطولاتها، ومنقح لما ورد من الإسرائيليات والحشو فيها، فبعضهم كانت غايته التبسيط والتهذيب والبيان، وبعضهم زاد فأفاد وألف فأجاد،
4
فترى المكتبة الإسلامية الحديثة قد حوت أصنافا من المؤلفات المعاصرة في التفسير، منها على سبيل التذكير لا الحصر:
«تفسير الشيخ طنطاوي جوهري»،
«تفسير الشيخ محمد متولي الشعراوي»،
«التفسير المنير» للدكتور الزحيلي،
«صفوة التفاسير» للدكتور الصابوني،
«تفسير آيات الأحكام» للدكتور السايس،
«إعراب القرآن الكريم» لمحيي الدين درويش، وغيرها الكثير الكثير.
هذا؛ وإن من أجل كتب التفسير المعاصرة، وأوسعها وأنفسها كتاب
«حدائق الروح والريحان» فإنه جمع فيه ما تفرق في غيره، وأوعب فأحسن، وانتقى فوفّق وأجمل؛ فقد ضمن هذا التفسير من الفرائد والفوائد، والعلوم واللطائف والنفائس المستجادات، ما تقر به أعين أهل العلم، وتقيده أفكار المستفيدين من تفسير الكتاب المبين، فإن هذا التفسير أكبر دليل للمقولة الشائعة: (كم ترك الأول للآخر) فقد جمع فأوعى، وبسط القول فشفى، وبحث فاستوفى، وأدنى عويص المسائل؛ فإذا هي على طرف الثمام، وقرّب ما كان بعيد المنال؛ فإذا هو داني الجنى، وجمع شتيت المعارف، فنظمها في سلك واحد، واصطفى من الآراء أرجحها، ومن الأقوال أقواها، وأرسل أشعة البيان في كافة مناحي التفسير، فحشدها في صعيد واحد، وضم شمل المتفرق، في أسلوب الراسخ المحقق، وطريقة العلم المدقق.
والعلماء على اختلاف مشاربهم وتخصصاتهم سيجدون في هذا التفسير ما ينشدونه من علم، وما يميلون إليه من فن، الكلّ سيجد فيه بغيته، وسيرتوي من منهله الروي، ويقطف من ثمره الشهي، فهو تفسير يغني عن غيره، ولا يغني عنه غيره، إلا أن غيره من روافده.
- فمن كان يبحث عن تفسير آية بالمأثور، ويريد الوقوف على أقوال الصحابة والتابعين فيها.. فسيصادف مطلبه، إضافة إلى التفسير العام.
5
- ومن كان همه معرفة النواحي اللغوية، والوقوف على الوجوه النحوية، أو الإعراب التفصيلي.. فإن هذا التفسير من خير ما يعرض هذه المباحث.
- ومن كان مغرما بالبلاغة القرآنية، وإعجازه البياني.. فإن هذا التفسير قد جعل من منهجه التحدث عن هذا الفن بعد كل مجموعة من الآيات.
- ومن كان منقّبا عن القراءات ووجوهها، محاولا الإحاطة بها وبمن قرأ بها.. فإن هذا المبحث من جملة الفنون التي اعتنى بها هذا التفسير.
- ومن يريد التفقه في الدين، واستنباط الأحكام الشرعية من النصوص القرآنية، ومعرفة آراء الأئمة الفقهاء في ذلك.. فعليه أن يتصفح هذا الكتاب الجليل.
وهكذا.. نجد أن بروز مثل هذا الكتاب في عالمنا المعاصر يختصر لنا الطريق، ويمهد لنا لمعرفة كثير من الفنون، دون الحاجة إلى الرجوع إلى عدة مصادر قديمة يحتاج البحث فيها إلى جهد ووقت، وما أضيق أوقات المعاصرين.
وفي الختام: أتقدم بالشكر إلى اللجنة التي قامت بتصحيح ومراجعة الطبعة الأولى لهذا التفسير، والتي تشرفت برئاستها
ومتابعة أمورها، فلله الحمد والمنة.
وقد أكرمنا الله سبحانه وتعالى بأخذ إجازة من المؤلف متع الله بحياته في جميع مروياته وعلومه، وقد أشار علينا المؤلف بأن نكون أول من يتدارس هذا التفسير مع طلبة العلم، فجزاه الله خير الجزاء.
ويسرنا أن نبشر القراء بأنه قريبا سيصدر للمؤلف متع الله بحياته شرح واف ل
«صحيح الإمام مسلم» في ستة عشر مجلدا، والمسمى
«الكوكب الوهاج والروض البهاج على صحيح مسلم بن الحجاج».
6
نسأل الله أن ينفع بالمؤلف وعلومه، وأن يجعلنا خداما لكتابه وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يكتب الأجر والثواب لكل من ساهم ويساهم في إخراج وتحقيق ونشر التراث الإسلامي الخالد بحاله ومقاله وماله، فلله الحمد والمنة، والصلاة والسلام على صاحب القرآن والسنة، وعلى آله وصحبه والوارثين للعلم والحكمة.
وكتبه أ. د. هاشم محمد علي مهدي مستشار الدراسات والبحوث برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة في العشر الأواخر من رمضان سنة (١٤٢٥ هـ)
7
مقدمة التفسير
المسماة
«نزل كرام الضيفان في ساحة حدائق الروح والريحان»
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
ترجم للمؤلف وقدم له تلميذه
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
3
مقدمة التفسير
المسماة
«نزل كرام الضيفان في ساحة حدائق الروح والريحان»
4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ترجمة وتقديم
الحمد لله واهب النعم ودافع النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم، والصلاة والسلام على عبده الأكرم سيد العرب والعجم، وعلى آله وصحبه وكل عالم ومتعلّم.
أما بعد فقد أذن لي مؤلّف
«حدائق الروح والريحان» وهو العالم الجهبذ والعلّامة النحرير فريد عصره وأوانه متّع الله بحياته ونفع بعلومه؛ بأن أرتّب وأراجع وأحقّق سفره العظيم.. وأجازني كذلك في جميع مؤلفاته ومروياته من فنون العلم وصنوف المعرفة في هذا الدين التي نقلها العدول من هذه الأمة خير خلف عن خير سلف فلله الحمد والمنة.
وإنه ليشرّفني التعريف بهذا الحجة العلم والمقيم بأرض الحرم فأقول هو محمد أمين بن عبد الله بن يوسف بن حسن أبو ياسين الأرمي جنسا، العلوي قبيلة، الأثيوبي دولة، الهرري منطقة، الكري ناحية، البويطي قرية، السلفي مذهبا، السعودي إقامة نزيل مكة المكرمة جوار الحرم الشريف في المسفلة حارة الرشد.
5
مولده: ولد في الحبشة في منطقة الهرر في قرية بويطه في عصر يوم الجمعة أواخر شهر ذي الحجة، سنة ألف وثلاثمائة وثمان وأربعين من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلوات وأزكى التحيات.
نشأته: ترّبى بيد والده وهو يتيم عن أمه، ووضعه عند المعلّم وهو ابن أربع سنين، وتعلّم القرآن وختمه وهو ابن ست سنين، ثمّ حوّله إلى مدارس علوم التوحيد والفقه، وحفظ من توحيد الأشاعرة
«عقيدة العوام» للشيخ أحمد المرزوقي، و
«الصغرى»، و
«صغرى الصغرى»، و
«الكبرى»، و
«كبرى الكبرى» للشيخ محمد بن يوسف السنوسي؛ لأن أهل الحبشة كانوا وقتئذ من الأشاعرة، وحفظ من مختصرات فقه الشافعية كثيرا، ك
«مختصر بافضل الحضرمي»، و
«مختصر أبي شجاع» مع
«كفاية الأخيار»، و
«عمدة السالك» لأحمد بن النقيب،
«وزبد أحمد بن رسلان» وهي ألفية في فقه الشافعية، وقرأ
«المنهاج» للإمام النووي مع شرحه
«مغني المحتاج»، و
«المنهج» لشيخ الإسلام الأنصاري مع شرحه
«فتح الوهاب»، وقرأ كثيرا من مختصرات كتب الشافعية ومبسوطاتها على مشايخ عديدة من مشايخ بلدانه.
رحلته: ثم رحل إلى شيخه سيبويه زمانه، وفريد أوانه أبي محمد الشيخ موسى بن محمد الأدّيلي (١)، وبدأ عنده دراسة الفقه، بدأ بشرح جلال الدين المحلي على
«منهاج» النووي، ثم بعد ما
6
وصل إلى كتاب (السّلم) حوّله شيخه المذكور - رحمه الله تعالى - إلى دراسة النحو لما رأى فيه من النجابة والاجتهاد في العلم، وقرأ عليه مختصرات النحو، ك
«متن الأجرومية» وشروحها العديدة، و
«متن الأزهرية» و
«ملحة الإعراب» مع شرحه
«كشف النقاب» لعبد الله الفاكهي، و
«قطر الندى» مع شرحه
«مجيب النّدا» لعبد الله الفاكهي، وقرأ
«الألفية» لابن مالك مع شروحها العديدة، ك
«شرح ابن عقيل»، و
«شرح المكودي»، و
«شرح السيوطي»، ثم اشتغل بكتب الصرف والبلاغة والعروض والمنطق والمقولات والوضع، واجتهد فيها وحفظ
«ألفية ابن مالك» و
«ملحة الإعراب» و
«لامية الأفعال» و
«السلّم» في المنطق، و
«الجوهر المكنون» في البلاغة، وكان لا ينام كل ليلة حتى يختم القصائد المذكورة حفظا، وكان قليل النوم في صغره إلى كبره، حتى أنه كان لا ينام غالبا بعد ما كبر إلا أربع ساعات من أربع وعشرين ساعة لكثرة اجتهاده في مذاكرة العلم، وكان يدرّس هذه الفنون جنب حلقة شيخه، مع دراسته على الشيخ المذكور، ثم رحل من عنده بعد ما لازمه نحو سبع سنوات إلى شيخه خليل زمانه، وحبيب عصره وأوانه الشيخ محمد مديد الأدّيلي أيضا، وقرأ عنده مطولات كتب النحو ك
«مجيب الندا على قطر الندى»، و
«مغني اللبيب» كلاهما لابن هشام، و
«الفواكه الجنيّة على المتممة الآجرومية»، وغير ذلك من مطولات علم النحو، وكان يدرّس أيضا جنب حلقة شيخه، وقرأ عليه أيضا التفسير إلى سورة يس.
7
ثم رحل من عنده بعد ما لازمه ثلاث سنوات، إلى شيخه الشيخ الحاوي، المفسّر في زمانه، الشيخ إبراهيم بن يس الماجتي (١)، فقرأ عليه التفسير بتمامه والعروض من مختصراته ومطولاته ك
«حاشية الدمنهوري الكبير على متن الكافي»، و
«شرح شيخ الإسلام الأنصاري على المنظومة الخزرجية»، و
«شرح الصبان» على منظومته في العروض، وقرأ عليه أيضا مطولات المنطق والبلاغة ولازمه نحو: ثلاث سنوات.
ثم رحل من عنده إلى الشيخ الفقيه الشيخ يوسف بن عثمان الورقي (٢)، وقرأ عليه مطولات علم الفقه ك
«شرح الجلال المحلى على المنهاج»، و
«فتح الوهاب على المنهج» لشيخ الإسلام مع
«حاشيته» لسليمان البجيرمي، و
«حاشيته» لسليمان الجمل، و
«حاشية التوشيح على متن أبي شجاع»، و
«مغني المحتاج» للشيخ الخطيب إلى كتاب (الفرائض)، وقرأ عليه غير ذلك من كتب الفرائض ك
«حواشي الرّحبية» و
«الفرات الفائض في فن الفرائض» وهو كتاب جيد من مطولاتها، ولازمه نحو: أربع سنوات.
ثم رحل من عنده إلى الشيخ إبراهيم المجّي (٣) وقرأ عليه فتح الجواد لابن حجر الهيتميّ على متن الإرشاد لابن المقرىء الجزئين الأولين منه.
8
ثم رحل من عنده إلى شيخ المحدثين الشيخ الحافظ الفقيه الشيخ أحمد بن إبراهيم الكري، وقرأ عليه
«البخاري» بتمامه و
«صحيح الإمام مسلم» وبعض كتب الاصطلاح.
ثم رحل من عنده إلى مشايخ عديدة، وقرأ عليهم
«السنّن الأربعة»، و
«الموطأ» وغير ذلك من كتب الحديث مما يطول بذكره الكلام، ثم رحل من عندهم إلى شيخ عبد الله نورو القرسيّ (١)، فقرأ عليه مطولات كتب البلاغة ك
«شروح التلخيص» لسعد الدين التفتازاني وغيره، ومطولات كتب أصول الفقه ك
«شرح جمع الجوامع» لجلال الدين المحلي، وقرأ عليه من النحو
«حاشية الخضريّ على ابن عقيل».
وقرأ على غير هؤلاء المشايخ كتبا عديدة من فنون متنوعة مما يطول الكلام بذكره من كتب السيرة، وكتب الأمداح النبوية ك
«بانت سعاد» و
«همزية البوصيري» و
«بردته» و
«القصيدة الوترية» و
«الطرّاف والطرائف وإضاءة الدجنّة» ألفية في كتب الأشاعرة، وغير ذلك مما يطول الكلام بذكره، وكان يدرّس مع دراسته جنب حلقة مشايخه ما درس عليهم من أربع عشرة سنة من عمره.
ثم استجاز من مشايخه هؤلاء كلهم التدريس، استقلالا في ما درس عليهم فأجازوا له، فبدأ التدريس استقلالا في جميع الفنون، في أوائل سنة ألف وثلاثمائة وثلاث وسبعين، في اليوم
9
الثاني عشر من ربيع الأول ١٢/ ٣/ ١٣٧٣ من الهجرة النبوية، فاجتمع عنده خلق كثير من طلّاب كلّ الفنون زهاء ستمائة طالب، أو سبعمائة طالب وكان يدرس من صلاة الفجر إلى صلاة العشاء الآخرة نحو: سبع وعشرين حصة من حصص الفنون المتنوعة، وكان يحيي ليله دائما بكتابة التآليف وبما قدّر الله له من طاعته.
والله أعلم
* * *
10
ومؤلفاته كثيرة من كل الفنون حتى أوشكت إلى أن لا تحصى، والمطبوع المنتشر منها اثنا عشر كتابا:
[من النحو]
١ - «الباكورة الجنية في إعراب متن الآجرومية».
٢ - «الفتوحات القيومية في علل وضوابط متن الآجرومية».
٣ - «الدرر البهية في إعراب أمثلة الآجرومية».
٤ - «جواهر التعليمات شرح على التقريظات ومقدمة علم النحو».
٥ - «هدية أولي العلم والإنصاف في إعراب المنادى المضاف».
* ومن الصرف:
٦ - «مناهل الرجال على لامية الأفعال».
٧ - «تحنيك الأطفال على لامية الأفعال».
* ومن المصطلح:
٨ - «الباكورة الجنية على منظومة البيقونية».
٩ - «هداية الطالب المعدم على ديباجة صحيح مسلم».
١٠ - «خلاصة القول المفهم على تراجم رجال صحيح مسلم» مجلدان.
11
* ومن كتب الأسماء والصفات:
١١ - «هدية الأذكياء على طيبة الأسماء في توحيد الأسماء والصفات».
١٢ - «سلّم المعراج على خطبة المنهاج» للإمام النواوي.
وغير المطبوع منها من الفنون المتنوعة:
* من التفسير:
١٣ - «حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن» اثنان وثلاثون مجلدا جمع فيه سبعة فنون، بل ثمانية، بل تسعة لم يسبق له نظير من كتب التفسير وهو الذي ننشر مقدمته الآن.
* ومن النحو:
١٤ - «حاشية على كشف النقاب على ملحة الإعراب».
١٥ - «هدية الطلاب في إعراب ملحة الإعراب».
١٦ - «الصور العقلية على تراجم الألفية» لابن مالك.
١٧ - «التقريرات على حاشية الخضري على الألفية».
١٨ - «حاشية على الفواكه الجنية على متمّمة الآجرومية».
١٩ - «التقريرات على مجيب النّدا على قطر النّدى» كلاهما لعبد الله الفاكهي.
12
* ومن البلاغة:
٢٠ - «الدرّ المصون على الجوهر المكنون» لعبد الرحمن الأخضري.
٢١ - «التقريرات على مختصر سعد الدين، على التلخيص».
* ومن المنطق:
٢٢ - «الكنز المكتّم على متن السّلّم» للأخضري أيضا.
٢٣ - «التذهيب على متن التهذيب في المنطق».
* ومن العروض:
٢٤ - «الفتوحات الربانية على منظومة الخزرجية في العروض».
٢٥ - «التبيان على منظومة الصبان في العروض».
* ومن الحديث:
٢٦ - «النهر الجاري على تراجم البخاري ومشكلاته».
٢٧ - «رفع الصدود على سنن أبي داود» على الربع الأول منه لم يكمّل.
* ومن الأصول:
٢٨ - «التقريرات على شرح المحلي على جمع الجوامع في الأصول».
13
* ومن الفقه:
٢٩ - «التقريرات على شرح المحلي وحاشيتي القليوبي وعميرة عليه على المنهاج» في فقه الشافعية.
٣٠ - «حاشية على فتح الجواد على متن الإرشاد» في فقه الشافعية.
٣١ - «أضوأ المسالك على عمدة الناسك» لأحمد بن النقيب.
٣٢ - «التقريرات على التوشيح على غاية الاختصار».
٣٣ - «التقريرات على فتح الوهاب مع حاشيته التجريد» لسليمان البجيرمي.
٣٤ - «التقريرات على قصيدة زبد أحمد بن رسلان».
* ومن الأمداح النبوية والسيرة المرضية:
٣٥ - «نيل المراد على متن بانت سعاد» لكعب بن زهير الصحابي الجليل - رضي الله عنه -.
٣٦ - «البيان الصريح على بردة المديح» للبوصيري.
٣٧ - «البيان الظريف على العنوان الشريف».
٣٨ - «المقاصد السّنيّة على القصائد البرعية».
٣٩ - «التقريرات على همزية البوصيري».
14
* ومنها في المصطلح:
٤٠ - «جوهرة الدّرر على ألفية الأثر» لعبد الرحمن السيوطي.
٤١ - ومنها
«نزل كرام الضيفان مقدمة تفسير حدائق الروح والريحان» وهو هذا الكتاب الذي بين أيدينا الآن.
٤٢ - ومنها
«مجمع الأسانيد ومظفر المقاصد من أسانيد كل الفنون».
٤٣ - «فتح الملك العلام في عقائد أهل الإسلام على ضوء الكتاب والسنة».
- وكانت هجرته من الحبشة إلى هذه المملكة السعيدة في تاريخ سنة ثمان وتسعين بعد ألف وثلاثمائة كما أرّخه بقوله:
هاجرت في ثمان وتسعين | من بعد ألف وثلاث مئين |
وكان سبب هجرته؛ اتفاق الشيوعيّين على قتله، حين أسس في منطقته الجبهة الإسلامية الأرومية، وجاهد بهم وأوقع في الشيوعيين قتلا ذريعا، وحاصروه لقتله وخرج من بين أيديهم بعصمة الله تعالى، وكان بعد ما دخل هذه المملكة، وحصل على النظام مدرسا في دار الحديث الخيرية من بداية سنة ألف وأربعمائة، وكان أيضا مدرسا في المسجد الحرام ليلا نحو: ثمان سنوات، بإذن رئاسة شئون الحرمين حتى تقرر تكريس وقته لمزيد من التأليف. فتصدى لشرح صحيح مسلم في خمسة عشر جزءا مجلدا وله أسانيد عديدة من مشايخ كثيرين في
15
جميع الفنون خصوصًا في التفسير والأمهات الستة فسبحان المنفرد بالكمال.
والله سبحانه وتعالى أعلم
***
16
هذا وبعد التفصيل في ذكر سيرة هذا المفسّر الجليل يحسن بنا التمهيد لمقدمة هذا التفسير، بالثناء على الله الحميد المجيد، الفعّال لما يريد، الذي اختار صفوة العبيد، سيدنا ونبينا محمد صلّى الله عليه وسلم وبعثه بمكارم الأخلاق، ونشر فضله وذكره في جميع الآفاق، وأنزل عليه نورا هدى به من الضلالة، وأنقذ به من وفّق من الجهالة، وحكم بالفوز والفلاح لمن اتّبعه، وبالخسران لمن أعرض عنه، بعد ما سمعه، عجز الخلائق عن معاندته، ومعارضته، حين تحدّاهم على أن يأتو بسورة من مثله، في مقابلته، ثمّ سهّل على عباده المؤمنين مع إعجازه تلاوته، ويسّر على الألسن قراءته، ودراسته، أمر فيه، وزجر، وبشّر فيه، وأنذر، وذكر فيه المواعظ، ليتذكّر، وضرب فيه الأمثال، ليتدبّر، وقصّ فيه من أخبار الماضين؛ ليعتبر، ودلّ فيه على آيات التوحيد؛ ليتفّكر، ثمّ لم يرض منّا بسرد حروفه، دون حفظ حدوده، ولا بإقامة كلماته، دون العمل بمحكماته، ولا بتلاوته، دون تدبّر آياته، في قراءته، ولا بدراسته دون تعلم حقائقه، وتفهم دقائقه ولا حصول لهذه المقاصد منه، إلا بدراية تفسيره وأحكامه، ومعرفة حلاله وحرامه، وأسباب نزوله وأقسامه، والوقوف على ناسخه ومنسوخه، ومعرفة تناسب آياته، خاصّه وعامّه، ومطلقه ومجمله، فإنّه: أرسخ العلوم أصلا وأسبغها فرعا وفضلا، وأكرمها نتاجا، وأنورها سراجا، فلا شرف إلّا وهو السبيل
17
إليه، ولا خير إلّا وهو الدالّ عليه، وقد قيّض الله تعالى له رجالا موفّقين، وبالحقّ ناطقين، حتّى صنّفوا في سائر علومه المصنّفات، وجمعوا سائر فنونه المتفرّقات، كلّ على قدر فهمه، ومبلغ علمه، نظرا للخلف، واقتداء بالسّلف، فشكر الله سعيهم، ورحم كافّتهم، وأشهد أن لا إله إلا الله، الفرد الصمد، الواحد الأحد، الذي لم يكن له كفوا أحد، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، شهادة تشهد لي يوم الدين، بكامل الإيمان واليقين، فيا واجب الوجود، ويا فائض الجود، ويا غاية كلّ مقصود، صلّ وسلّم على حبيبك المحمود، صاحب اللّواء المعقود، وعلى آله وصحبه ذوي الكرم والجود، صلاة توازي غناءه وتجازي عناءه، وكلّ من أعانه، وقرّر بنيانه.
أمّا بعد: فلمّا فرغ واضع هذا التفسير
«حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن» منه، حبّذ له مقدمة وجيزة لتكون سفينة لمن أراد الخوض في بحاره، والمفتاح لمن أراد معالجة قفل أسراره، أسماها
«نزل كرام الضيفان في ساحة حدائق الروح والريحان» وقد أشتملت هذه المقدمة على ثلاثين فصلا.
هاك مقدمة طابت فرعا | وطابا أصلها أصلا أصلا |
* * *
ألا إنما القرآن تسعة أحرف | سأنبيكها في بيت شعر بلا خلل |
حلال حرام محكم متشابه | بشير نذير قصة عظة مثل |
* * *
18
ما حوى العلم جميعا أحد | لا ولو مارسه ألف سنه |
إنما العلم بعيد غوره | فخذو من كل علم أحسنه |
هذا وقد آن أوان شروع القارىء في تفحص هذا الكنز وإلقاء النظر على جواهره الثمينة والفريدة وبالله التوفيق والهداية لأقوم طريق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الدكتور/ هاشم بن محمد علي مهدي الأربعاء ٥/ ٥/ ١٤٢٠ هـ
19
الفصل الأول في فضل القرآن الكريم وتلاوته، وتعلّمه، وتعليمه (١)
فقد ورد في فضله، وتعلُّمه، وتعليمه أحاديث كثيرة:
فمنها: ما رواه الإمام مسلم - رحمه الله تعالى - في
«صحيحة» عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى: خمّا، بين مكّة والمدينة، فحمد الله، وأثنى عليه، ووعظ وذكّر، ثمّ قال:
«أمّا بعد: ألا أيّها النّاس! إنّما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب، وإنّي تارك فيكم ثقلين، أوّلهما كتاب الله، فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به»، فحثّ على كتاب الله، ورغّب فيه، ثمّ قال: وأهل بيتي، أذكّركم الله في أهل بيتي». زاد في رواية:
«كتاب الله فيه الهدى والنور، من استمسك به، وأخذ به كان على الهدى، ومن أخطأه ضلّ». وفي رواية:
«كتاب الله هو حبل الله من اتّبعه كان على الهدى، ومن تركه كان على ضلالة». وفي رواية الترمذي عنه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي»، أحدهما أعظم من الآخر: وهو كتاب الله؛ «حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل
20
بيتي، لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما».
ومنها: ما أخرجه مسلم أيضا: عن عمر بن الخطاب قال: أما إنّ نبيّكم صلّى الله عليه وسلم قال:
«إنّ الله تعالى يرفع بهذا الكتاب أقواما، ويضع به آخرين».
ومنها: ما روي عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«إنّ الرجل الذي ليس في جوفه شيء من القرآن، كالبيت الخرب». أخرجه الترمذيّ، وقال: حديث حسن صحيح.
ومنها: ما أخرجه البخاريّ، عن عثمان بن عفان - رضي الله عنه: عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال:
«خيركم من تعلّم القرآن، وعلّمه».
ومنها: ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«الماهر بالقرآن مع السّفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن، ويتعتع فيه وهو عليه شاقّ له أجران». متّفق عليه.
(الماهر): الحاذق الكامل الحفظ، الجيّد التلاوة. (يتعتع)؛ أي: يتردّد في تلاوته؛ لضعف حفظه. (له أجران) يعني: أجر بسبب القراءة، وأجر بسبب تعبه فيها والمشقّة فيها، وليس معناه: أنّ له أجرا أكثر من أجر الماهر، بل الماهر أفضل منه، وأكثر أجرا.
ومنها: ما روي عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن؛ كمثل الأترجّة طعمها طيّب، وريحها طيّب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن،
21
كمثل التمرة طعمها طيّب، ولا ريح له، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن، كمثل الريحانة ريحها طيّب، وطعمها مرّ، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن، كمثل الحنظلة طعمها مرّ، ولا ريح لها».
متّفق عليه. فيه دليل على فضيلة حفّاظ القرآن، ومشروعيّة ضرب الأمثال؛ لإيضاح المقاصد.
ومنها: ما روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«من قرأ حرفا من كتاب الله، فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: ﴿الم﴾ * حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف». أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
ومنها: ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رجل: يا رسول الله! أيّ الأعمال أحبّ إلى الله تعالى؟ قال:
«الحالّ المرتحل»، قال: وما الحال المرتحل؟ قال:
«الذي يضرب من أوّل القرآن إلى آخره، كلّما حلّ ارتحل». أخرجه الترمذي.
ومنها: ما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«يقال لصاحب القرآن: اقرأ، وارق، ورتّل كما كنت ترتّل في الدنيا، فإنّ منزلك عند الله آخر آية تقرؤها» أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
ومنها: ما روي عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «يجيء القرآن يوم القيامة، فيقول: يا ربّ! حلّه، فيلبس تاج الكرامة، ثمّ يقول: يا ربّ! زده، فيلبس حلّة الكرامة، ثمّ يقول: يا ربّ! ارض
22
عنه، فيرضى عنه، فيقال: اقرأ، وارق، ويزاد بكلّ آية حسنة».
أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن.
ومنها: ما روي عن سهل بن معاذ الجهنيّ، عن أبيه، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
«من قرأ القرآن وعمل به، ألبس والداه يوم القيامة تاجا، ضوءه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا لو كانت فيكم، فما ظنّكم بالذي عمل بهذا» أخرجه أبو داود.
ومنها: ما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«من قرأ القرآن فاستظهره، فأحلّ حلاله، وحرّم حرامه، أدخله الله الجنّة، وشفّعه في عشرة من أهل بيته، كلّهم قد وجبت لهم النار». أخرجه الترمذي، وقال: حديث غريب، وليس له إسناد صحيح.
ومنها: ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«ما أذن الله لشيء، كإذنه لنبيّ يتغنّى بالقرآن يجهر به» متّفق عليه. ما أذن الله، أي: استمع لمن يتغنّى بالقرآن، أي: يحسّن صوته به.
ومنها: ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن».
ومنها: ما روي عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
«الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسرّ بالقرآن كالمسرّ بالصدقة» أخرجه أبو داود، والنسائيّ، والدارميّ، والترمذي، وقال: حديث حسن غريب.
23
وفي
«مسند أبي داود الطيالسيّ: وهو أوّل مسند ألّف في الإسلام، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
قال: «من قام بعشر آيات، لم يكتب من الغافلين، ومن قام بمائة آية، كتب من القانتين، ومن قام بألف آية، كتب من المقنطرين». والآثار في معنى هذا الفصل كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية، والله الموفّق للهداية.
والله أعلم
* * *
24
الفصل الثاني في كيفية التلاوة لكتاب الله تعالى، وما يكره منها، وما يحرم، واختلاف الناس في ذلك (١)
روى البخاري، عن قتادة قال: سألت أنسا عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال: (يمدّ مدّا، إذ قرأ
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)﴾ (١)، يمدّ بسم الله ويمدّ بالرحمن ويمدّ بالرحيم).
وروى الترمذي، عن أمّ سلمة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقطّع قراءته، يقول:
«الحمد لله ربّ العالمين»، ثمّ يقف الرحمن الرحيم، ثمّ يقف، وكان يقرأ مالك يوم الدين. قال: حديث غريب. وأخرجه أبو داود بنحوه.
وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنّه قال:
«أحسن الناس صوتا؛ من إذا قرأ رأيته يخشى الله تعالى».
وروي عن زياد النّميري: «أنّه جاء مع القرّاء إلى أنس بن مالك، فقيل له: اقرأ، فرفع صوته وطرّب؛ وكان رفيع الصّوت، فكشف أنس عن وجهه، وكان على وجهه خرقة سوادء، فقال: (يا هذا ما هكذا يفعلون)، وكان إذا رأى شيئا ينكره، كشف عن وجهه الخرقة.
25
وروي عن قيس بن عبّاد أنّه قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكرهون رفع الصوت عند الذكر، وممّن روي عنه كراهة رفع الصوت عند قراءة القرآن: سعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير، والقاسم بن محمد، والحسن، وابن سيرين، والنّخعيّ وغيرهم، وكرهه مالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، كلّهم كره رفع الصوت بالقرآن، والتّطريب فيه.
وروي عن سعيد بن المسيب: أنّه سمع عمر بن عبد العزيز يؤمّ الناس، فطرّب في قراءته، فأرسل إليه سعيد يقول: أصلحك الله! إنّ الأمّة لا تقرأ هكذا، فترك عمر التّطريب بعد.
وروي عن القاسم بن محمد: أنّ رجلا قرأ في مسجد النبي صلّى الله عليه وسلم فطرّب، فأنكر ذلك القاسم وقال: يقول الله عزّ وجلّ:
﴿وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾ الآية.
وروي عن مالك: أنّه سئل عن النّبر في قراءة القرآن في الصلاة، فأنكر ذلك، وكرهه كراهة شديدة، وأنكر رفع الصوت به.
وروى ابن القاسم عنه: أنّه سئل عن الألحان في الصلاة؟ فقال: لا يعجبني، وقال: إنّما هو غناء يتغنّون به؛ ليأخذوا عليه الدّراهم. وأجازت طائفة رفع الصوت بالقرآن والتطريب به؛ لأنّه إذا حسن الصوت به، كان أوقع في النّفوس وأسمع في القلوب، واحتجّوا بقوله صلّى الله عليه وسلم:
«زيّنوا القرآن بأصواتكم» رواه البراء بن عازب. أخرجه أبو داود والنسائي. وبقوله صلّى الله عليه وسلم: «ليس منّا من لم
26
يتغنّ بالقرآن»، أخرجه مسلم. وبقول أبي موسى للنبي صلّى الله عليه وسلم: (لو أعلم أنّك تستمع قراءتي لحبّرته لك تحبيرا). وبما رواه عبد الله بن مغفّل، قال: قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عام الفتح في مسير له، (سورة الفتح) على راحلته، فرجّع في قراءته.
وممّن ذهب إلى هذا أبو حنيفة، وأصحابه، والشافعيّ، وابن المبارك، والنضر بن شميل، وهو اختيار أبي جعفر الطبري، وأبي الحسن بن بطّال، والقاضي أبي بكر بن العربي، وغيرهم. قلت:
القول (١) الأول أصحّ لما ذكرناه ويأتي، وأمّا ما احتجّوا به من الحديث الأوّل؛ فليس على ظاهره؛ وإنّما هو من المقلوب، أي: زيّنوا أصواتكم بالقرآن. قال الخطّابي، وكذا فسّره غير واحد من أئّمة الحديث. (زيّنوا أصواتكم بالقرآن) وقالوا: هو من المقلوب، كما قالوا: عرضت الحوض على الناقة؛ وإنّما هو عرضت الناقة على الحوض. قال: ورواه معمر، عن منصور، عن طلحة، فقدّم الأصوات على القرآن، وهو الصحيح. قلت: وهذا الخلاف ما لم يمنع فهم معنى القرآن بترديد الأصوات، وكثرة التّرجيعات، فإن زاد الأمر على ذلك حتى لا يفهم معناه، فذلك حرام باتفاق، كما يفعل القرّاء بالديار المصريّة، الذين يقرؤون أمام الملوك والجبابرة، ويأخذون على ذلك الأجور والجوائز، ضلّ سعيهم وخاب عملهم، فيستحلّون بذلك تغيير كتاب الله، ويهوّنون على أنفسهم الاجتراء على الله، بأن يزيدوا في تنزيله ما ليس فيه، جهلا
27
بدينهم، ومروقا عن سنّة نبيّهم، ورفضا لسير الصّالحين فيه من سلفهم، ونزوعا إلى ما يزيّن لهم الشيطان من أعمالهم، وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعهم، فهم في غيّهم يتردّدون، وبكتاب الله يتلاعبون، فإنا لله وإنّا إليه راجعون. لكن قد أخبر الصادق المصدوق: أنّ ذلك يكون، فكان كما أخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلم. ذكر الإمام الحافظ، أبو الحسن رزين، وأبو عبد الله، الترمذيّ الحكيم في
«نوادر الأصول»، من حديث حذيفة: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
«اقرأوا القرآن بلحون العرب، وأصواتها، وإيّاكم ولحون أهل الفسق، ولحون أهل الكتابين، وسيجيء بعدي قوم يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء، والنّوح لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم، وقلوب الذين يعجبهم شأنهم».
اللّحون: جمع لحن: وهو التّطريب، وترجيع الصوت، وتحسينه بالقراءة، والشعر، والغناء، قال علماؤنا: ويشبه أن يكون هذا الذي يفعله قرّاء زماننا بين يدي الوعّاظ، وفي المجالس من اللّحون الأعجميّة، الّتي يقرؤون بها، ما نهى عنه رسول الله صلّى الله
عليه وسلم.
والترجيع في القراءة: ترديد الحروف، كقراءة النصارى.
والترتيل في القراءة: هو التّأنيّ فيها، والتمهّل، وتبيين الحروف، والحركات؛ تشبيها بالثغر المرتّل، وهو المشبه بنور الأقحوان، وهو المطلوب في قراءة القرآن، قال تعالى:
﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾. وسئلت أمّ سلمة؛ عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلم وصلاته؟ فقالت: (ما لكم وصلاته)، ثمّ نعتت قراءته، فإذا هي تنعت قراءة
28
مفسّرة حرفا حرفا. أخرجه النسائي، وأبو داود، والترمذي، وقال هذا حديث صحيح غريب.
والله أعلم
* * *
29
الفصل الثالث في تحذير أهل القرآن والعلم من الرياء، وغيره
قال الله تعالى:
﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾، وقال تعالى:
﴿فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾.
روى مسلم، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «إنّ أوّل الناس يقضى عليه يوم القيامة؛ رجل استشهد فأتي به، فعرّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟
قال: قاتلت فيك حتّى استشهدت، قال: كذبت، ولكنّك قاتلت ليقال: جرىء، فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل تعلّم العلم، وعلّمه، وقرأ القرآن. فأتي به، فعرّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلّمت العلم وعلّمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنّك تعلّمت العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارىء، فقد قيل، ثمّ أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار، ورجل وسّع الله عليه، وأعطاه من أصناف المال كلّه، فأتي به، فعرّفه نعمه، فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت فيها من سبيل تحبّ أن ينفق فيها، إلّا أنفقت فيها لك، قال: كذبت، ولكنّك فعلت ليقال: هو
30
جواد، فقد قيل،
«ثمّ أمر به فسحب على وجهه، حتى ألقي في النار». وقال الترمذيّ في هذا الحديث: ثمّ ضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلم على ركبتي، فقال:
«يا أبا هريرة! أولئك الثلاثة أوّل خلق الله، تسعّر بهم النار يوم القيامة». قال ابن عبد البرّ: وهذا الحديث، فيمن لم يرد بعمله، وعلمه وجه الله تعالى.
وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال:
«من طلب العلم لغير الله، أو أراد به غير الله، فليتبوّأ مقعده من النار».
وأخرج ابن المبارك في
«رقائقه» عن العباس بن عبد المطلّب. قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«يظهر هذا الدين حتى يجاوز البحار، وحتى تخاض البحار، بالخيل في سبيل الله تبارك وتعالى، ثمّ يأتي أقوام يقرءون القرآن، فإذا قرءوه قالوا»: من أقرأ منّا، من أعلم منّا؟ ثم التفت إلى أصحابه، فقال:
«هل ترون في أولئكم من خير؟» قالوا: لا، قال:
«أولئك منكم، أولئك من هذه الأمّة، وأولئك هم وقود النّار».
وروى أبو داود، والترمذي، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«من تعلّم علما ممّا يبتغى به وجه الله، لا
يتعلّمه؛ إلّا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنّة يوم القيامة».
يعني: ريحها. قال الترمذي: حديث حسن.
وروى الترمذي أيضا: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«تعوّذوا بالله من جبّ الحزن»، قالوا: يا رسول الله! وما جبّ الحزن؟ قال: «واد في جهنّم، تتعوّذ منه جهنّم في كلّ يوم
31
مائة مرّة»، قيل: يا رسول الله! ومن يدخله؟ قال:
«القرّاء المراءون بأعمالهم»، وقال هذا حديث غريب.
وفي كتاب أسد بن موسى: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال:
«إنّ في جهنّم واديا، إنّ جهنّم تتعوّذ من شرّ ذلك الوادي، كلّ يوم سبع مرّات، وإنّ في ذلك الوادي لجبّا، إنّ جهنّم، وذلك الوادي؛ ليتعوّذان بالله من شرّ ذلك الجبّ، وإنّ في الجبّ لحيّة، وإنّ جهنّم والوادي والجبّ؛ ليتعوّذون بالله من شر تلك الحيّة سبع مرات، أعدّها الله تعالى للأشقياء من حملة القرآن، الذين يعصون الله». فيجب على حامل القرآن، وطالب العلم أن يتّقي الله في نفسه، ويخلص العمل لله، فإن كان تقدّم له شيء ممّا يكره؛ فليبادر التّوبة والإنابة، وليبتدىء الإخلاص في التوبة وعمله، فالذي يلزم حامل القرآن من التحفّظ، أكثر ممّا يلزم غيره، كما أنّ له من الأجر ما ليس لغيره.
وأخرج الطبريّ في كتاب
«آداب النفوس» قال: حدّثنا أبو كريب، محمد بن العلاء، حدثنا المحاربيّ، عن عمرو بن عامر البجليّ، عن ابن صدقة، عن رجل من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، أو عمّن حدّثه، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«لا تخادع الله؛ فإنّه من يخادع الله يخدعه الله، ونفسه يخدع لو يشعر» قالوا يا رسول الله. وكيف يخادع الله؟ قال: «تعمل بما أمرك الله به، وتطلب به غيره، واتقوا الرياء، فإنّه الشرك، وإنّ المرائي يدعى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد بأربعة أسماء، ينسب إليها: يا كافر! يا فاجر! يا غادر! يا
32
خاسر! ضل عملك، وبطل أجرك، فلا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له، يا مخادع.
وروى علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: (كيف أنتم، إذا لبستكم فتنة يربوا فيها الصغير، ويهرم الكبير، وتتّخذ سنة مبتدعة، يجري عليها الناس؟ فإذا غيّر منها شيء)، قيل: قد غيرت السّنة، قيل: متى ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: «إذا كثر قرّاؤكم، وقلّ فقهاؤكم، وكثر أمراؤكم، وقلّ أمناؤكم، والتمست الدنيا بعمل الآخرة، وتفقّه لغير الدّين). وقال سفيان بن عيينة: بلغنا عن ابن عباس أنّه قال: (لو أنّ حملة القرآن أخذوه بحقّه، وما ينبغي؛ لأحبّهم الله، ولكن طلبوا به الدنيا، فأبغضهم الله، وهانوا على الناس).
وروي عن أبي جعفر، محمد بن علي في قول الله تعالى:
﴿فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ﴾ (٩٤)، قال: قوم وصفوا الحقّ والعدل بألسنتهم، وخالفوه إلى غيره.
والله أعلم
* * *
33
الفصل الرابع في ذكر ما ينبغي لصاحب القرآن أن يلزم نفسه به، ولا يغفل عنه
فأوّل ذلك أن يخلص في طلبه لله عزّ وجلّ، كما ذكرنا، وأن يأخذ نفسه بقراءة القرآن، في ليله، ونهاره، في الصلاة، أو في غير الصلاة؛ لئلّا ينساه.
روى مسلم، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
«إنّما مثل صاحب القرآن، كمثل صاحب الإبل المعقلة، إن عاهد عليها أمسكها، وإن أطلقها ذهبت، وإذا قام صاحب القرآن، فقرأه بالليل والنهار؛ ذكره، وإن لم يقم به؛ نسيه».
وينبغي له: أن يكون لله حامدا، ولنعمه شاكرا، وله ذاكرا، وعليه متوكّلا، وبه مستعينا، وإليه راغبا، وبه معتصما، وللموت ذاكرا، وله مستعدّا.
وينبغي له: أن يكون خائفا من ذنبه، راجيا عفو ربّه، ويكون الخوف في صحّته أغلب عليه، إذ لا يعلم بم يختم له، ويكون الرّجاء عند حضور أجله، أقوى في نفسه؛ لحسن الظنّ بالله تعالى.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«لا يموتنّ أحدكم إلّا وهو محسّن بالله الظنّ» أي: أنّه يرحمه، ويغفر له.
34
وينبغي له: أن يكون عالما بأهل زمانه، متحفّظا من سلطانه، ساعيا في خلاص نفسه، ونجاة مهجته، مقدّما بين يديه ما يقدر عليه من عرض دنياه، مجاهدا لنفسه في ذلك ما استطاع.
وينبغي له: أن يكون أهمّ أموره عنده الورع في دينه، واستعمال تقوى الله، ومراقبته فيما أمره به، ونهاه عنه. وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: (ينبغي لقارىء القرآن: أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مستيقظون، وببكائه إذا النّاس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون).
وقال عبد الله بن عمرو: (لا ينبغي لحامل القرآن أن يخوض مع من يخوض، ولا يجهل مع من يجهل، ولكن يعفو، ويصفح لحقّ القرآن؛ لأنّ في جوفه كلام الله تعالى).
وينبغي له: أن يأخذ نفسه بالتّصاون من طرق الشّبهات، ويقلّل الضحك، والكلام في مجالس القرآن، وغيرها بما لا فائدة فيه، ويأخذ نفسه بالحلم والوقار.
وينبغي له: أن يتواضع للفقراء، ويتجنّب التّكبّر والإعجاب، ويتجافى عن الدنيا وأبنائها، إن خاف على نفسه الفتنة، ويترك الجدال والمراء، ويأخذ نفسه بالرفق والأدب.
وينبغي له: أن يكون ممّن يؤمن شرّه، ويرجى خيره، ويسلم من ضرّه، وأن لا يسمع ممّن نمّ عنده، ويصاحب من يعاونه على الخير، ويدلّه على الصدق، ومكارم الأخلاق، ويزينه ولا يشينه.
35
وينبغي له: أن يتعلّم أحكام القرآن، فيفهم عن الله مراده، وما فرض عليه، فينتفع بما يقرأ، ويعمل بما يتلوه، فما أقبح لحامل القرآن، أن يتلو فرائضه، وأحكامه عن ظهر قلب، وهو لا يفهم ما يتلوه! فكيف يعمل بما لا يفهم معناه؟ وما أقبح أن يسأل عن فقه ما يتلوه، ولا يدريه! فما مثل من هذه حالته، إلّا كمثل الحمار يحمل أسفارا.
وينبغي له: أن يعرف المكّيّ من المدني؛ ليفرّق بذلك بين ما خاطب الله به عباده في أوّل الإسلام، وما ندبهم إليه في آخر الإسلام، وما افترض الله في أوّل الإسلام، وما زاد عليهم من الفرائض في آخره، فالمدنيّ: هو الناسخ للمكّي في أكثر القرآن، ولا يمكن أن ينسخ المكيّ المدني؛ لأنّ المنسوخ هو المتقدّم في النزول قبل الناسخ له.
ومن كماله: أن يعرف الإعراب والغريب، فذلك ممّا يسهّل عليه معرفة ما يقرأ، ويزيل عنه الشكّ فيما يتلو. وقد قال أبو جعفر الطبريّ: سمعت الجرميّ يقول: أنا منذ ثلاثين سنة، أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه. قال محمد بن يزيد: وذلك أنّ أبا عمر الجرميّ، كان صاحب حديث، فلمّا علم كتاب سيبويه، تفقّه في الحديث، إذ كان كتاب سيبويه يتعلّم منه النّظر، والتفسير، ثمّ ينظر
في السّنن المأثورة، الثابتة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فبها يصل الطالب إلى مراد الله عزّ وجلّ في كتابه، وهي تفتح له أحكام القرآن فتحا. وقد قال الضحاك في قوله تعالى: {وَلكِنْ كُونُوا
36
رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ} قال: (حقٌّ على من تعلّم القرآن، أن يكون فقيها، وذكر ابن أبي الحواريّ قال: أتينا فضيل بن عياض، سنة خمس وثمانين ومائة، ونحن جماعة، فوقفنا على الباب، فلم يأذن لنا بالدّخول، فقال بعض القوم: إن كان خارجا لشيء، فسيخرج لتلاوة القرآن، فأمرنا قارئا فقرأ، فاطّلع علينا من كوّة فقلنا: السلام عليك ورحمة الله، فقال: وعليكم السلام، فقلنا: كيف أنت يا أبا عليّ؟ كيف حالك؟ فقال: أنا من الله في عافية، ومنكم في أذى، وإنّ ما أنتم فيه حدث في الإسلام، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، ما هكذا كنّا نطلب العلم، ولكنّا كنّا نأتي المشيخة، فلا نرى أنفسنا أهلا للجلوس معهم، فنجلس دونهم ونسترق السّمع، فإذا مرّ الحديث سألناهم إعادته وقيّدناه، وأنتم تطلبون العلم بالجهل، وقد ضيّعتم كتاب الله، ولو طلبتم كتاب الله لوجدتم فيه شفاء لما تريدون، قال: قلنا قد تعلّمنا القرآن، قال: إنّ في تعلّمكم القرآن، شغلا لأعماركم، وأعمار أولادكم، قلنا: كيف يا أبا عليّ؟ قال: لن تعلموا القرآن، حتى تعرفوا إعرابه، ومحكمه من متشابهه، وناسخه من منسوخه، فإذا عرفتم ذلك استغنيتم عن كلام فضيل، وابن عيينة، ثمّ قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم:
﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)﴾.
قلت: فإذا حصلت هذه المراتب لقارىء القرآن، كان ماهرا
37
بالقرآن، وعالما بالفرقان، وهو قريب على من قرّبه الله عليه، ولا ينتفع بشيء ممّا ذكرنا؛ حتى يخلص النيّة فيه لله عزّ وجلّ عند طلبه، أو بعد طلبه، كما تقدّم. فقد يبتدىء الطالب للعلم، يريد به المباهاة، والشرف في الدنيا، فلا يزال به فهم العلم، حتى يتبيّن له أنّه على خطأ في اعتقاده، فيتوب من ذلك، ويخلص النيّة لله تعالى، فينتفع بذلك ويحسّن حاله.
قال الحسن: كنّا نطلب العلم للدنيا، فجرّنا إلى الآخرة.
قاله سفيان الثوري. وقال حبيب بن أبي ثابت: طلبنا هذا الأمر، وليس لنا فيه النية، ثمّ جاءت النيّة بعد.
والله أعلم
* * *
38
الفصل الخامس في ما جاء في إعراب القرآن، وتعليمه، والحثّ عليه، وثواب من قرأ القرآن معربا
قال أبو بكر الأنباريّ: جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وعن أصحابه، وتابعيهم - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - من تفصيل إعراب القرآن، والحضّ على تعليمه، وذمّ اللّحن وكراهيته، ما وجب به على قرّاء القرآن، أن يأخذوا أنفسهم بالاجتهاد في تعلّمه.
من ذلك: ما حدّثنا يحيى بن سليمان، الضبّيّ، قال: حدّثنا محمد يعني: ابن سعيد، قال: حدّثنا أبو معاوية، عن عبد الله بن سعيد المقبريّ، عن أبيه، عن جدّه، عن أبي هريرة: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم قال:
«أعربوا القرآن، والتمسوا غرائبه». حدّثني أبي، قال: حدّثنا إبراهيم بن الهيثم، قال: حدّثنا آدم يعني: ابن أبي إياس. قال:
حدّثنا أبو الطيب المروزيّ قال: حدّثنا عبد العزيز بن أبي روّاد، عن نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«من قرأ القرآن فلم يعربه، وكّل به ملك يكتب له، كما أنزل بكل حرف عشر حسنات فإن أعرب بعضه، وكل به ملكان يكتبان له بكلّ حرف عشرين حسنة، فإن أعربه، وكّل به أربعة أملاك يكتبون له بكلّ حرف سبعين حسنة».
39
وروى جويبر عن الضحاك قال: قال عبد الله بن مسعود:
(جوّدوا القرآن، وزيّنوه بأحسن الأصوات، وأعربوه، فإنّه عربيّ، والله يحبّ أن يعرب به).
وعن مجاهد، عن ابن عمر قال: (أعربوا القرآن). وعن محمد بن عبد الرحمن بن زيد قال: قال أبو بكر، وعمر - رضي الله عنهما -: (إعراب القرآن، أحبّ إلينا من حفظ حروفه). وعن الشّعبيّ قال: قال عمر - رضي الله عنه: (من قرأ القرآن فأعربه، كان له عند الله أجر شهيد). وقال مكحول: بلغني أنّ من قرأ بإعراب، كان له من الأجر ضعفان ممّن قرأ بغير إعراب.
وروى ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«أحبّ العرب لثلاث، لأنّي عربيّ، والقرآن عربيّ، وكلام أهل الجنّة عربيّ».
وروى سفيان، عن أبي حمزة قال: قيل للحسن في قوم يتعلّمون العربية، قال: (أحسنوا)، يتعلّمون لغة نبيّهم صلّى الله عليه وسلم. وقيل للحسن: إنّ لنا إماما يلحن، قال: (أخّروه). وعن ابن أبي مليكة قال: قدم أعرابيّ في زمان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: من يقرئني ممّا أنزل الله على محمد صلّى الله عليه وسلم؟ قال: فأقرأه رجل (براءة) فقال: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ بالجرّ، فقال الأعرابيّ: أو قد برىء الله من رسوله؟ فإن يكن الله برىء من رسوله، فأنا أبرأ منه، فبلغ عمر مقالة الأعرابي فدعاه، فقال: يا أعرابيّ! أتبرأ من رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إنّي
40
قدمت المدينة، ولا علم لي بالقرآن، فسألت: من يقرئني؟ فأقرأني هذا (سورة براءة)، فقال: إنّ الله بريء من المشركين ورسوله، فقلت: أو قد برىء الله من رسوله؟ إن يكن الله برىء من رسوله، فأنا أبرأ منه، فقال عمر: ليس هكذا يا أعرابيّ! قال: فكيف هي يا أمير المؤمنين؟ قال:
﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾، فقال الأعرابيّ: وأنا والله أبرأ ممّا برىء الله ورسوله منه، فأمر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن لا يقرىء الناس إلا عالم باللّغة، وأمر أبا الأسود فوضع النّحو.
وعن عليّ بن الجعد، قال: سمعت شعبة يقول: مثل صاحب الحديث الذي لا يعرف العربية؛ مثل الحمار عليه مخلاة لا علف فيها. وقال حماد بن سلمة: من طلب الحديث، ولم يتعلّم النّحو، أو قال العربية - فهو كمثل الحمار، تعلّق عليه مخلاة ليس فيها شعير. قال ابن عطيّة: إعراب القرآن أصل في الشريعة؛ لأنّ بذلك تقوم معانيه التي هي الشّرع. قال ابن الأنباري: وجاء عن أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم، وتابعيهم - رضوان الله تعالى عليهم - من الاحتجاج على غريب القرآن، ومشكله باللغة والشعر، ما بيّن صحّة مذهب النحويين في ذلك، وأوضح فساد مذاهب من أنكر ذلك عليهم.
من ذلك: ما حدّثنا عبيد بن عبد الواحد بن الشريف البزّاز، قال: حدّثنا ابن أبي مريم، قال: أنبأنا ابن فرّوخ، قال: أخبرني أسامة، قال: أخبرني عكرمة أنّ ابن عباس قال: (إذا سألتموني
41
عن غريب القرآن، فالتمسوه في الشعر؛ فإنّ الشعر ديوان العرب).
وحدّثنا إدريس بن عبد الكريم، قال: حدّثنا خلف، قال: حدّثنا حمّاد بن زيد، عن عليّ بن زيد بن جدعان، قال: سمعت سعيد بن جبير، ويوسف بن مهران يقولان: سمعنا ابن عباس يسأل عن الشيء فيقول فيه: (هكذا وهكذ، أما سمعتم الشاعر يقول: كذا، وكذا). وعن عكرمة، عن ابن عباس، وسأله رجل عن قول الله عزّ وجلّ:
﴿وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ﴾ (٤) قال: (لا تلبس ثيابك على غَدْرٍ) وتمثّل بقول غيلان الثقفيّ:
فإنّي بحمد الله لا ثوب غادر | لبست ولا من سوءة أتقنّع |
وسأل رجل عكرمة عن الزّنيم، قال: هو ولد الزنا، وتمثّل ببيت شعر:
زنيم ليس يعرف من أبوه | بغيّ الأمّ ذو حسب لئيم |
وعنه أيضا: الزّنيم: الدّعيّ الفاحش اللئيم، ثمّ قال:
زنيم تداعاه الرجال زيادة | كما زيد في عرض الأديم أكارعه |
وعنه في قوله تعالى:
﴿ذَواتا أَفْنانٍ﴾ (٤٨) قال: (ذواتا) ظلّ وأغصان، ألم تسمع إلى قول الشاعر:
ما هاج شوقك من هديل حمامة | تدعو على فنن الغصون حماما |
تدعو أيا فرخين صادف طائرا | ذا مخلبين من الصّقور قطاما |
وعن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِذا هُمْ
42
بِالسَّاهِرَةِ} قال: (الأرض). وقال أميّة بن أبي الصلت: عندهم لحم بحر، ولحم ساهرة، قال ابن الأنباري: والرّواة يروون هذا البيت:
وفيها لحم ساهرة وبحر | وما فاهوا به لهم مقيم |
وقال نافع بن الأزرق لابن عباس: أخبرني عن قول الله جلّ وعزّ:
﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾ ما السنة؟ قال: (النّعاس) قال زهير بن سلمى:
لا سِنَةٌ في طُوال اللّيل تأخذه | ولا ينام ولا في أمره فند |
والله أعلم
* * *
43
الفصل السادس فيما جاء في فضل تفسير القرآن، وأهله
قال علماؤنا - رحمهم الله تعالى -: وأمّا ما جاء في فضل التفسير عن الصحابة، والتابعين.
فمن ذلك: أنّ عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - ذكر جابر بن عبد الله، ووصفه بالعلم، فقال له رجل: جعلت فداءك، تصف جابرا بالعلم، وأنت أنت، فقال: (إنّه كان يعرف تفسير قوله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ﴾). وقال مجاهد أحبّ الخلق إلى الله تعالى، أعلمهم بما أنزل. وقال الحسن (والله ما أنزل الله آية، إلّا أحبّ أن يعلم فيما أنزلت، وما يعنى بها). وقال الشعبي: رحل مسروق إلى البصرة في تفسير آية، فقيل له: إنّ الّذي يفسّرها رحل إلى الشام، فتجهّز ورحل إلى الشام، حتى علم تفسيرها. وقال عكرمة في قوله جلّ وعزّ:
﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ طلبت اسم هذا الرجل أربع عشرة سنة، حتى وجدته. وقال ابن عبد البر: هو ضمرة بن حبيب، وسيأتي. وقال ابن عباس: (مكثت سنتين، أريد أن أسأل عمر، عن المرأتين اللّتين تظاهرتا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ما يمنعني إلّا مهابته، فسألته، فقال: هما حفصة، وعائشة). وقال إياس بن
44
معاوية: مثل الذين يقرؤون القرآن، وهم لا يعلمون تفسيره، كمثل قوم جاءهم كتاب من ملكهم ليلا، وليس عندهم مصباح، فتداخلهم روعة، ولا يدرون ما في الكتاب، ومثل الذي يعرف التفسير، كمثل رجل جاءهم بمصباح، فقرؤوا ما في الكتاب.
والله أعلم
* * *
45
الفصل السابع في بيان مبدأ التفسير، ووضعه
وأوّل ما بدئت دراسات القرآن وتفسيره، زمن الرسول صلّى الله عليه وسلم، ففي عهده نرى أعرابيا يسأله عن معنى بعض ألفاظ القرآن في مثل قوله تعالى:
﴿وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ قائلا: وأيّنا لم يظلم نفسه، وفسّره النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالشرك، واستشهد عليه بقوله تعالى:
﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾، وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم في كتب الحديث، كالبخاري، ومسلم، وغيرهما، كثير من الأحاديث التي تتعلّق بتفسير القرآن، وبعضها ينحصر في ذكر فضائله، وتفسير بعض كلماته تفسيرا مختصرا، يبيّن وجه التشريع، أو الموعظة في الآية.
وروي عن أبي هريرة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
«وإنّه ليأتي الرجل العظيم، السمين، يوم القيامة، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم: ﴿فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْنًا﴾» على أنّه قد لا يوضع الاعتبار، كلّ ما جاء من الحديث في التفسير، فأحمد ابن حنبل في القرن الثالث الهجري يقول: ثلاثة أشياء لا أصل لها: التفسير، والملاحم، والمغازي، ولعلّه يقصد بالتفسير الذي خلّط فيه الناس بين الصحيح، وغير الصحيح من الحديث.
46
على أنّ الصحابة وقفوا في صدر الإسلام موقفين:
قسم: متحرّج من القول في القرآن، ومن هؤلاء: أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمر، وغيرهم، وكان عبد الله بن عمر يأخذ على ابن عباس تفسيره القرآن بالشعر.
والقسم الثاني: الذين لم يتحرّجوا، وفسّروا القرآن حسب ما فهموا من الرسول صلّى الله عليه وسلم، أو حسب فهمهم الخاصّ، بالمقارنة إلى الشعر العربيّ، وكلام العرب، ومن هؤلاء القسم: عليّ بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، وابن مسعود، وأبيّ بن كعب وغيرهم، وتبعهم: الحسن البصريّ، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعكرمة، وقتادة والسدّيّ وغيرهم ممّن لا يحصون.
والله أعلم
* * *
47
الفصل الثامن فيما جاء من الوعيد في تفسير القرآن بالرّأي، والجرأة على ذلك، وبيان مراتب المفسّرين
فمن ذلك: ما روي عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: (ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يفسّر من كتاب الله، إلّا آيا بعدد ما علّمه إيّاهنّ جبريل). قال ابن عطيّة: ومعنى هذا الحديث في مغيّبات القرآن، وتفسير مجمله، ونحو هذا، ممّا لا سبيل إليه إلّا بتوفيق من الله تعالى، ومن جملة مغيباته ما لم يعلم الله به؛ كوقت قيام الساعة، ونحوها، ممّا يقرأ من ألفاظه، كعدد النّفخات في الصّور، وكرتبة خلق السموات والأرض.
ومنه ما روى الترمذي، عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال:
«اتّقوا الحديث عليّ إلا ما علمتم، فمن كذب عليّ متعمّدا، فليتبوّأ مقعده من النار. ومن قال في القرآن برأيه، فليتبوّأ مقعده من النار».
وروى أيضا: عن جندب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ». وقال: هذا حديث غريب، وأخرجه أبو داود، وتكلّم في أحد رواته. وزاد رزين
«ومن قال برأيه فأخطأ فقد كفر». قال أبو بكر، محمد بن القاسم بن بشار بن
48
محمد الأنباريّ، النحويّ، اللغويّ، في كتاب
«الردّ»؛ فسّر حديث ابن عباس بتفسيرين:
أحدهما: من قال في مشكل القرآن، بما لا يعرف من مذاهب الأوائل من الصحابة، والتابعين؛ فهو متعرّض لسخط الله.
والجواب الآخر: وهو أثبت القولين، وأصحّهما معنى: من قال في القرآن قولا، يعلم أنّ الحقّ غيره؛ فليتبوّأ مقعده من النار.
ومعنى يتبوّأ: ينزل ويحلل. وقال في حديث جندب: فحمل بعض أهل العلم هذا الحديث: على أنّ الرّأي معنيّ به الهوى، أي: من قال في القرآن قولا يوافق هواه، لم يأخذه عن أئمّة السلف، ولا اقتضته قوانين العلم، كالنحو، والأصول، فأصاب؛ فقد أخطأ؛ لحكمه على القرآن برأيه، وليس يدخل في هذا الحديث، أن يفسّر اللغويون لغته، والنحويون نحوه، والفقهاء معانيه، ويقول كلّ واحد باجتهاده المبني على قوانين علم، ونظر، فإنّ القائل على هذه الصفة، ليس قائلا لمجرّد رأيه.
قلت: هذا صحيح وهو الذي اختاره غير واحد من العلماء، فإنّ من قال فيه بما سنح في وهمه، وخطر على باله من غير استدلال عليه بالأصول فهو مخطىء، وإنّ من استنبط معناه، بحمله على الأصول المحكمة، المتّفق على معناها فهو ممدوح.
وقال بعض العلماء: إنّ التفسير موقوف على السماع؛ لقوله تعالى:
﴿فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ وهذا قول فاسد؛ لأنّ النّهي عن تفسير القرآن لا يخلو: إمّا أن يكون المراد به
49
الاقتصار على النقلي، والمسموع، وترك الاستنباط، أو المراد به: أمرا آخر، وباطل أن يكون المراد به أن لا يتكلّم أحد في القرآن إلّا بما سمعه، فإنّ الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - قد قرؤوا القرآن، واختلفوا في تفسيره على وجوه، وليس كل ما قالوه سمعوه من النبي صلّى الله عليه وسلم، فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم دعا لابن عباس، وقال:
«اللهمّ فقّهه في الدين، وعلّمه التأويل»، فإن كان التأويل مسموعا، كالتنزيل، فما فائدة تخصيصه بذلك، وهذا بيّن لا إشكال فيه؛ وإنّما النهي يحمل على وجهين:
أحدهما: أن يكون له في الشيء رأي، وإليه ميل من طبعه وهواه، فيتأوّل القرآن على وفق رأيه، وهواه، ليحتّج على تصحيح غرضه، ولو لم يكن له ذلك الرأي، والهوى، لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى، وهذا النوع يكون تارة مع العلم، كالذي يحتجّ ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته، وهو يعلم أن ليس المراد بالآية ذلك، ولكن مقصوده أن يلبّس على خصمه، وتارة يكون مع الجهل، وذلك: إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه، ويرجّح ذلك الجانب برأيه وهواه، فيكون قد فسّر برأيه أي رأيه حمله على ذلك التفسير، ولولا رأيه لما كان يترجّح عنده ذلك. ذكره القرطبي.
والثاني: وقال ابن عطيّة: وكان جملة من السّلف - كثير عددهم - يفسّرون القرآن، وهم أبقوا على المسلمين ذلك - رضي الله عنهم - فأمّا صدر المفسّرين والمؤيّد فيهم، فعليّ بن أبي طالب
50
- رضي الله عنه
- ويتلوه عبد الله بن عباس، وهو بحر فيه، وتبعه العلماء عليه، كمجاهد، وسعيد بن جبير، وغيرهما. والمحفوظ عنه في ذلك، أكثر من المحفوظ عن عليّ. وقال ابن عباس: (ما أخذت من تفسير القرآن، فمن عليّ بن أبي طالب). وكان عليّ
- رضي الله عنه
- يثني على تفسير ابن عباس، ويحضّ على الأخذ عنه. قال ابن عطيّة: وكان جملة من السلف، كسعيد بن المسيب، وعامر الشعبي، وغيرهما، يعظّمون تفسير القرآن؛ ويتوقّفون عنه؛ تورّعا واحتياطا لأنفسهم مع إدراكهم، وتقدّمهم. قال أبو بكر الأنباريّ: وقد كان الأئمّة من السلف الماضي، يتورّعون عن تفسير المشكل من القرآن، فبعض يقدّر أنّ الذي يفسّره لا يوافق مراد الله جلّ وعزّ، فيحجم عن القول، وبعض يشفق من أن يجعل في التفسير إماما يبنى على مذهبه، ويقتفى طريقه، فلعلّ متأخرا أن يفسّر حرفا برأيه، ويخطىء فيه، ويقول: إمامي في تفسير القرآن بالرأي، فلان الإمام من السلف.
وعن ابن أبي مليكة قال: سئل أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عن تفسير حرف من القرآن، فقال: (أيّ سماء تظلّني، وأيّ أرض تقلّني، وأين أذهب وكيف أصنع إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد تبارك وتعالى بما لا يعرف أصله، ولا يقف على مذاهب أهل الأثر، والنّقل فيه). وقال ابن عطية: ومعنى هذا: أن يسأل الرجل عن معنى من كتاب الله جلّ وعزّ، فيتسوّر عليه برأيه، دون نظر فيما قال العلماء عنه. وكان ابن مسعود يقول:
51
(نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس). وقال عنه علي - رضي الله عنه -: (ابن عباس: كأنّما ينظر إلى الغيب من ستر رقيق). ويتلوه عبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمرو بن العاص.
وكلّ ما أخذ من الصحابة فحسن مقدّم؛ لشهودهم التنزيل، ونزوله بلغتهم. وعن عامر بن واثلة قال: (شهدت عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - يخطب، فسمعته يقول في خطبته: سلوني، فو الله، لا تسألوني عن شيء يكون إلى يوم القيامة، إلّا حدّثتكم به، سلوني عن كتاب الله، فو الله ما من آية إلّا أنا أعلم أبليل نزلت، أم بنهار، أم في سهل نزلت، أم في جبل، فقام إليه ابن الكوّاء، فقال: يا أمير المؤمنين! ما الذاريات ذروا؟) وذكر الحديث. وعن المنهال بن عمرو قال: قال عبد الله بن مسعود:
(لو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله منّي تبلغه المطيّ، لأتيته، فقال له رجل: أما لقيت عليّ ابن أبي طالب؟ فقال: بلى قد لقيته). وعن مسروق قال: وجدت أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم مثل الإخاذ يروي الواحد، والإخاذ يروي الاثنين، والإخاذ لو ورد عليه الناس أجمعون لأصدرهم، وإنّ عبد الله بن مسعود من تلك الإخاذ. ذكر هذه المناقب: أبو بكر الأنباريّ في كتاب
«الردّ»، وقال: الإخاذ عند العرب: الموضع الذي يحبس الماء كالغدير.
قال أبو بكر: حدّثنا أحمد بن الهيثم بن خالد، حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، حدثنا سلّام، عن زيد العميّ، عن
52
أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أرحم أمّتي بها أبو بكر، وأقواهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم عليّ، وأفرضهم زيد، وأقرؤهم لكتاب الله جلّ وعزّ أبيّ بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجرّاح، وأبو هريرة وعاء من العلم، وسلمان بحر من علم لا يدرك، وما أظلّت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء - أو قال البطحاء - من ذي لهجة، أصدق من أبي ذرّ - رضي الله عنهم - قال ابن عطية: ومن المبرّزين في التابعين: الحسن البصريّ، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعلقمة. قرأ مجاهد على ابن عباس قراءة تفهّم، ووقوف عند كلّ آية. ويتلوهم: عكرمة، والضحّاك، وإن كان لم يلق ابن عباس، وإنّما أخذ عن ابن جبير، وأمّا السدّيّ: فكان عامر الشعبيّ يطعن عليه، وعلى أبي صالح؛ لأنّه كان يراهما مقصّرين في النّظر.
قلت: وقال يحيى بن معين: الكلبيّ ليس بشيء. وعن يحيى بن سعيد القطّان، عن سفيان قال: قال الكلبيّ: قال أبو صالح: كلّ ما حدّثتك كذب، وقال حبيب بن أبي ثابت: كنّا نسمّيه: الذّروغزن يعني: أبا صالح مولى أمّ هانىء، والذّروغزن: هو الكذّاب بلغة الفرس.
ثمّ حمل تفسير كتاب الله تعالى: عدول كلّ خلف، كما قال صلّى الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه
53
تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين». خرّجه أبو عمر وغيره. قال الخطيب أبو بكر، أحمد بن علي البغداديّ: وهذه شهادة من رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأنّهم أعلام الدين، وأئمّة المسلمين؛ لحفظهم الشّريعة من التحريف والانتحال للباطل، وردّ تأويل الأبله الجاهل، وأنّه يجب الرجوع إليهم، والمعوّل في أمر الدين عليهم - رحمهم الله تعالى -. قال ابن عطية: وألّف الناس فيه، كعبد الرزاق، والمفضّل، وعليّ بن أبي طلحة، والبخاريّ، وغيرهم، ثمّ إنّ محمد بن جرير - رحمه الله تعالى - جمع على الناس أشتات التفسير، وقرّب البعيد منها، وشفى في الإسناد، ومن المبرّزين من المتأخّرين: أبو إسحاق الزجّاج، وأبو علي الفارسيّ، وأمّا أبو بكر النقاش، وأبو جعفر النحّاس: فكثيرا ما استدرك الناس عليهما، وعلى سننهما، مكيّ بن أبي طالب - رحمه الله -، وأبو العباس المهدويّ متقن التأليف، وكلّهم مجتهد مأجور - رحمهم الله تعالى - ونضّر وجوههم.
تتمّة في بيان الفرق بين التفسير، والتأويل
والتفسير لغة: الكشف والإبانة.
والتأويل لغة: الرجوع والكشف.
والتفسير اصطلاحا: علم يبحث فيه، عن أحوال القرآن المجيد من حيث دلالته، على مراد الله - تعالى بحسب الطاقة البشريّة، ثمّ هذا العلم قسمان:
54
تفسير: وهو ما لا يدرك إلّا بالنقل، كأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ.
وتأويل: وهو ما يمكن إدراكه بالقواعد العربية، ويسمّى الأول رواية، وهذا دراية. والسرّ في جواز التأويل بالرّأي بشروطه، كما تقدّم دون التفسير: أنّ التفسير كشهادة على الله، وقطع بأنّه عنى بهذا اللفظ هذا المعنى، ولا يجوز إلّا بتوقيف، ولذا جزم الحاكم أنّ تفسير الصحابيّ مطلقا في حكم المرفوع، والتأويل: ترجيح لأحد المحتملات بلا قطع فاغتفر.
والله أعلم
* * *
55
الفصل التاسع في بيان ما جاء في حامل القرآن، ومن هو، وفيمن عاداه
قال أبو عمر: روي من وجوه فيها لين: عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنّه قال:
«ومن تعظيم جلال الله إكرام ثلاثة، الإمام المقسط، وذي الشّيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، ولا الجافي عنه».
وقال أبو عمر: وحملة القرآن: هم عالمون بأحكامه، وحلاله، وحرامه، والعاملون بما فيه.
وروى أنس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: «القرآن أفضل من كلّ شيء، فمن وقّر القرآن، فقد وقّر الله، ومن استخفّ بالقرآن، استخفّ بحقّ الله تعالى، حملة القرآن: هم المحفوفون برحمة الله، المعظّمون كلام الله، الملبسون نور الله، فمن والاهم فقد والى الله، ومن عاداهم، فقد استخفّ بحقّ الله تعالى.
والله أعلم
* * *
56
الفصل العاشر في بيان ما يلزم قارىء القرآن، وحامله من تعظيم القرآن وحرمته
قال الترمذي الحكيم، أبو عبد الله في
«نوادر الأصول»: فمن حرمة القرآن: أن لا يمسّه إلّا طاهرا.
ومن حرمته: أن يقرأه وهو على طهارة.
ومن حرمته: أن يستاك، ويتخلّل، فيطيّب فاه إذ هو طريقه.
قال يزيد بن أبي مالك: إنّ أفواهكم طرق من طرق القرآن، فطهّروها، ونظّفوها ما استطعتم.
ومن حرمته: أن يتلبّس كما يتلبّس للدخول على الأمير؛ لأنّه مناج.
ومن حرمته: أن يستقبل القبلة لقراءته، وكان أبو العالية: إذا قرأ اعتمّ، ولبس، وارتدى، واستقبل القبلة.
ومن حرمته: أن يتمضمض كلّما تنخّع. روى شعبة عن أبي حمزة، عن ابن عباس: أنّه كان يكون بين يديه تور، إذا تنخّع مضمض، ثمّ أخذ في الذكر، وكان كلّما تنخّع مضمض.
ومن حرمته: إذا تثاءب، أن يمسك عن القراءة؛ لأنّه إذا قرأ فهو مخاطب ربّه، ومناج، والتّثاؤب من الشيطان. قال مجاهد:
57
إذا تثاءبت، وأنت تقرأ القرآن، فأمسك عن القرآن تعظيما، حتى يذهب تثاؤبك. قال عكرمة: يريد أنّ في ذلك الفعل إجلالا للقرآن.
ومن حرمته: أن يستعيذ بالله عند ابتدائه للقراءة من الشيطان الرجيم، ويقرأ
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)﴾ إن كان ابتداء قراءته من أوّل السورة، أو من حيث بلغ.
ومن حرمته: إذا أخذ في القراءة لم يقطعها ساعة فساعة بكلام الآدميّين من غير ضرورة.
ومن حرمته: أن يخلو بقراءته، حتّى لا يقطع عليه أحد بكلام، فيخلطه بجوابه؛ لأنّه إذا فعل ذلك، زال عنه سلطان الاستعاذة الذي استعاذ في البدء.
ومن حرمته: أن يقرأ على تؤدة، وترسيل، وترتيل.
ومن حرمته: أن يستعمل فيه ذهنه، وفهمه، حتى يعقل ما يخاطب به.
ومن حرمته: أن يقف على آية الوعد، فيرغب إلى الله تعالى، ويسأله من فضله، وأن يقف على آية الوعيد، فيستجير بالله منه.
ومن حرمته: أن يقف على أمثاله، فيتمثّلها.
ومن حرمته: أن يلتمس غرائبه.
ومن حرمته: أن يؤدّي لكل حرف حقّه من الأداء، حتى يبرز الكلام باللفظ تماما، فإنّ له بكلّ حرف عشر حسنات.
58
ومن حرمته: إذا انتهت قراءته، أن يصدّق ربّه، ويشهد بالبلاغ لرسوله صلّى الله عليه وسلم، ويشهد على ذلك أنّه حقّ، فيقول: صدقت ربّنا، وبلّغ رسولك إلينا ونحن على ذلك من الشاهدين، اللهمّ! اجعلنا من شهداء الحقّ القائمين بالقسط، ثمّ يدعو بدعوات.
ومن حرمته: إذا قرأه أن لا يلتقط الآي من كلّ سورة فيقرأ؛ فإنّه روي لنا: عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنّه مرّ ببلال وهو يقرأ من كل سورة شيئا، فأمره أن يقرأ على السّور، أو كما قال.
ومن حرمته: إذا وضع الصحيفة أن لا يتركه منشورا، وأن لا يضع فوقه شيئا من الكتب، حتى يكون أبدا عاليا، لسائر الكتب علما
كان، أو غيره.
ومن حرمته: أن يضعه في حجره إذا قرأه، وعلى شيء بين يديه، ولا يضعه بالأرض.
ومن حرمته: أن لا يمحوه من اللّوح بالبصاق ولكن يغسله بالماء.
ومن حرمته: إذا غسله بالماء، أن يتوقّى النجاسات من المواضع التي توطأ، فإنّ لتلك الغسالة حرمة، وكان من قبلنا من السلف منهم: من يستشفى بغسالته.
ومن حرمته: أن لا يتّخذ الصحيفة إذا بليت ودرست، وقاية للكتب، فإنّ ذلك جفاء عظيم، ولكن يمحوها بالماء.
ومن حرمته: أن لا يخلّي يوما من أيّامه من النظر في
59
المصحف مرّة، وكان أبو موسى يقول: (إنّي لأستحيي أن لا أنظر كلّ يوم في عهد ربّي مرّة).
ومن حرمته: أن يعطي عينيه حظّهما منه، فإنّ العين تؤدّي إلى النّفس، وبين النّفس والصدر حجاب، والقرآن في الصّدر، فإذا قرأه عن ظهر القلب، فإنّما يسمع أذنه فتؤدّي إلى النّفس، فإذا نظر في الخطّ، كانت العين، والأذن قد اشتركتا في الأداء، وذلك أوفر للأداء، وكان قد أخذت العين حظّها كالأذن. روى زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«أعطوا أعينكم حظّها من العبادة»، قالوا يا رسول الله: وما حظّها من العبادة؟ قال:
«النّظر في المصحف، والتّفكّر فيه، والاعتبار عند عجائبه». وروى مكحول، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«أفضل عبادة أمّتي قراءة القرآن نظرا».
ومن حرمته: أن لا يتأوّله عند ما يعرض له شيء من أمر الدنيا. حدّثنا عمر بن زياد الحنظليّ قال: حدثنا هشيم بن بشير، عن المغيرة عن إبراهيم قال: كان يكره أن يتأوّل شيء من القرآن، [عند ما] يعرض له شيء من أمر الدنيا، والتأويل مثل قولك للرجل: إذا جاءك، جئت على قدر يا موسى.
ومثل قوله تعالى:
﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤)﴾ هذا عند حضور الطعام، وأشباه هذا.
ومن حرمته: أن لا يقال سورة كذا.
60
كقولك: سورة النحل وسورة البقرة وسورة النساء، ولكن يقال: السورة الّتي يذكر فيها كذا.
قلت: هذا يعارضه قوله صلّى الله عليه وسلم:
«الآيتان من آخر سورة البقرة، من قرأ بهما في ليلة كفتاه» أخرجه البخاريّ، ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود.
ومن حرمته: أن لا يتلى منكوسا، كفعل معلّمي الصبيان، يلتمس أحدهم بذلك أن يري الحذق من نفسه، والعبارة، فإنّ تلك مخالفة.
ومن حرمته: أن لا يقعّر في قراءته كفعل هؤلاء المهمزين، المبتدعين، المتنطّعين، في إبراز الكلام من تلك الأفواه المنتنة تكلّفا، فإنّ ذلك محدث ألقاه إليهم الشّيطان، فقبلوه منه.
ومن حرمته: أن لا يقرأه بألحان الغناء، كلحون أهل الفسق، ولا بترجيع النّصارى، ولا بنوح الرّهبانيّة، فإنّ ذلك كلّه زيغ كما تقدّم.
ومن حرمته: أن يجلل تخطيطه إذا خطّه، وعن أبي حكيمة: أنّه كان يكتب المصاحف بالكوفة، فمرّ عليّ - رضي الله عنه - فنظر إلى كتابه فقال له: (أجلّ قلمك)، فأخذت القلم، فقططته من طرفه قطّا، ثمّ كتبت وعليّ - رضي الله عنه - قائم ينظر إلى كتابتي فقال: (هكذا نوّره كما نوّره الله جلّ وعزّ).
ومن حرمته: أن لا يجهر بعض على بعض في القراءة فيفسد
61
عليه، حتى يبغض إليه ما يسمع، ويكون كهيئة المغالبة.
ومن حرمته: أن لا يماري، ولا يجادل فيه في القراءات، ولا يقول لصاحبه: ليس هكذا هو، ولعلّه أن تكون تلك القراءة صحيحة جائزة من القرآن، فيكون قد جحد كتاب الله.
ومن حرمته: أن لا يقرأ في الأسواق، ولا في مواطن اللّغط، واللّغو، ومجمع السّفهاء.
ومن حرمته: أن لا يتوسّد المصحف، ولا يعتمد عليه، ولا يرمي به إلى صاحبه إذا أراد أن يناوله.
ومن حرمته: أن لا يصغّر المصحف. روى الأعمش، عن إبراهيم، عن عليّ - رضي الله عنه - قال: (لا يصغّر المصحف).
قلت: وروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أنّه رأى مصحفا صغيرا في يد رجل فقال: (من كتبه) قال: أنا، فضربه بالدّرّة، وقال: (عظّموا القرآن). وروي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أنّه نهى أن يقال: مسيجد، أو مصيحف.
ومن حرمته: أن لا يخلط فيه ما ليس منه.
ومن حرمته: أن لا يحلّى بالذهب، ولا يكتب بالذهب أو يعلّم عند رؤوس الآي، أو يصفر.
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«إذا زخرفتم مساجدكم، وحلّيتم مصاحفكم فالدّمار عليكم». وقال ابن عباس، ورأى مصحفا قد زيّن بفضة: (تغرون به السّارق، وزينته في جوفه).
62
ومن حرمته: أن لا يكتب على الأرض، ولا على حائط، كما يفعل بهذه المساجد المحدثة. حدّثنا محمد بن عليّ الشّقيفيّ، عن أبيه، عن عبد الله بن المبارك، عن سفيان، عن محمد بن الزبير قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يحدّث قال: مرّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم بكتاب في أرض، فقال لشابّ من هذيل: ما هذا؟ قال: من كتاب الله كتبه يهوديّ، فقال:
«لعن الله من فعل هذا، لا تضعوا كتاب الله إلّا موضعه». قال محمد بن الزبير: رأى عمر بن عبد العزيز ابنا له يكتب القرآن على حائط، فضربه.
ومن حرمته: أنّه إذا اغتسل بكتابته مستشفيا من سقم، أن لا يصبّه على كناسة، ولا في موضع نجاسة، وعلى موضع يوطأ، ولكن ناحية من الأرض في بقعة لا يطؤه الناس، أو يحفر حفيرة في موضع طاهر، حتى ينصبّ من جسده في تلك الحفيرة، ثمّ يكبسها، أو في نهر كبير يختلط بمائه فيجري.
ومن حرمته: أن يفتتحه كلّما ختمه، حتى لا يكون كهيئة المهجور، ولذلك كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذا ختم، يقرأ من أوّل القرآن قدر خمس آيات، لئلّا يكون في هيئة المهجور.
وروى ابن عباس قال: (جاء رجل، فقال يا رسول الله! أيّ العمل أفضل؟ قال:
«عليك بالحالّ المرتحل» قال: وما الحالّ المرتحل؟ قال:
«صاحب القرآن يضرب من أوّله، حتى يبلغ آخره، ثمّ يضرب من أوّله كلّما حلّ ارتحل». قلت:
«ويستحبّ له إذا ختم القرآن أن يجمع أهله». ذكر أبو بكر الأنباريّ، أنبأنا
63
إدريس، حدّثنا خلف، حدّثنا وكيع عن مسعر، عن قتادة أنّ أنس بن مالك: كان إذا ختم القرآن جمع أهله ودعا. وأخبرنا إدريس، حدّثنا خلف، حدّثنا جرير عن منصور، عن الحكم قال: كان مجاهد، وعبدة بن أبي لبابة، وقوم يعرضون المصاحف، فإذا أرادوا أن يختموا، وجّهوا إلينا أحضرونا، فإنّ الرحمة تنزل عند ختم القرآن: وأخبرنا إدريس، حدثنا خلف، حدثنا إبراهيم عن التّيمي، قال: من ختم القرآن أوّل النهار، صلّت عليه الملائكة حتى يمسي، ومن ختم أوّل الليل، صلّت عليه الملائكة حتى يصبح قال: فكانوا يستحبّون أن يختموا أوّل الليل، وأوّل النهار.
ومن حرمته: أن لا يكتب التعاويذ منه، ثمّ يدخل به الخلاء، إلّا أن يكون في غلاف من أدم، أو فضّة، أو غيره، فيكون كأنّه في صدرك.
ومن حرمته: إذا كتبه، وشربه سمّى الله على كل نفس، وعظّم النية فيه، فإنّ الله يؤتيه على قدر نيّته. روى ليث، عن مجاهد: لا بأس أن تكتب القرآن، ثمّ تسقيه المريض. وعن أبي جعفر قال: من وجد في قلبه قساوة، فليكتب يس في جام بزعفران، ثمّ يشربه.
قلت: ومن حرمته: أن لا يقال سورة صغيرة، وكرهه أبو العالية أن يقال: سورة صغيرة، أو كبيرة، وقال لمن سمعه قالها: أنت أصغر منها، وأمّا القرآن فكلّه عظيم. ذكره مكيّ - رحمه الله -. قلت: وقد روى أبو داود ما يعارض هذا، من حديث عمرو بن
64
شعيب، عن أبيه، عن جدّه أنّه قال: (ما من المفصّل سورة صغيرة، ولا كبيرة، إلّا قد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يؤم بها الناس في الصلاة).
والله أعلم
* * *
65
الفصل الحادي عشر في بيان الكتاب بالسّنّة
واعلم: أنّ بيانه صلّى الله عليه وسلم، الكتاب بالسّنة على ضربين:
الأوّل: بيان ما أجمل في الكتاب، كبيانه للصلوات الخمس مواقيتها، وسجودها، وركوعها، وسائر أحكامها، وكبيانه لمقدار الزكاة، ووقتها، وما الذي تؤخذ منه من الأموال، وبيانه لمناسك الحج، وقد قال صلّى الله عليه وسلم إذ حجّ بالناس:
«خذوا عنّي مناسككم» وقال:
«صلّوا كما رأيتموني أصلّي» أخرجه البخاري.
وروى ابن المبارك، عن عمران بن حصين أنّه قال لرجل: إنّك رجل أحمق، أتجد الظّهر في كتاب الله أربعا لا يجهر فيها بالقراءة؟ ثمّ عدّد عليه الصلاة، والزكاة، ونحو هذا، ثمّ قال: أتجد هذا في كتاب الله تعالى مفسّرا؟ إنّ كتاب الله تعالى أبهم هذا، وإنّ السّنّة فسّرته، وبيّنته. وروى الأوزاعيّ، عن حسّان بن عطية قال: كان الوحي ينزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويحضره جبريل بالسّنة التي تفسّر ذلك.
وروى سعيد بن منصور، حدّثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن مكحول قال: القرآن أحوج إلى السّنة من السّنة إلى القرآن. وبه عن الأوزاعي قال: قال يحيى بن أبي كثير: السّنة
66
قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاض على السّنة. قال الفضل بن زياد: سمعت أبا عبد الله يعني: أحمد بن حنبل، وسئل عن هذا الحديث الذي روي أنّ السّنة قاضية على الكتاب فقال: ما أجسر على هذا أن أقوله، ولكنّي أقول: إنّ السّنّة تفسّر الكتاب، وتبيّنه.
والثاني: بيان الزيادة على حكم الكتاب، كتحريم نكاح المرأة على عمّتها، وخالتها، وتحريم الحمر الأهليّة، وكلّ ذي ناب من السباع، والقضاء باليمين مع الشاهد، وغير ذلك.
وروى أبو داود، عن المقدام بن معد يكرب، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنّه قال: «ألا وإنّي أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه، ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهليّ، ولا كلّ ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد، إلّا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقّبهم بمثل قراه) أي: له أنّ يعاقبهم ويغلبهم؛ بأن يأخذ من أموالهم بقدر قراه، ويعقّبهم يروى مشدّدا، ومخفّفا.
والله أعلم
* * *
67
الفصل الثاني عشر في بيان كيفية التعلّم، والفقه لكتاب الله، وسنة رسوله صلّى الله عليه وسلم. وما جاء أنّه يسهل على من تقدّم العمل به، دون حفظه
ذكر أبو عمرو الدانيّ في كتاب
«البيان» له بإسناده عن عثمان، وابن مسعود، وأبيّ - أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم: كان يقرئهم العشر آيات فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى، حتى يتعلّموا ما فيها من العمل، فيعلّمنا القرآن، والعمل جميعا: وذكر عبد الرزّاق، عن معمر، عن عطاء بن السّائب، عن أبي عبد الرحمن السّلميّ قال: كنّا إذا تعلّمنا عشر آيات من القرآن، لم نتعلّم العشر الّتي بعدها، حتى نعرف حلالها، وحرامها، وأمرها، ونهيها.
وفي
«الموطّأ» للإمام مالك: أنّه بلغه أنّ عبد الله بن عمر، مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلّمها. وذكر أبو بكر، أحمد بن علي بن ثابت الحافظ في كتابه المسمّى:
«ذكر أسماء من روى عن مالك»؛ عن مرداس بن محمد بن بلال الأشعري، قال: حدّثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر، قال: (تعلّم عمر البقرة في اثنتي عشرة سنة، فلمّا ختمها نحر جزورا). وذكر أبو بكر الأنباريّ: حدّثني محمد بن شهرباز، حدّثنا حسين بن الأسود، حدّثنا عبد الله بن موسى، عن زياد بن أبي مسلم أبي عمرو، عن زياد بن مخراق قال: قال عبد الله بن مسعود: (إنّا يصعب علينا
68
حفظ لفظ القرآن، ويسهل علينا العمل به، وإنّ من بعدنا يسهل عليهم حفظ ألفاظ القرآن، ويصعب عليهم العمل به). حدّثنا إبراهيم بن موسى، حدّثنا يوسف بن موسى، حدّثنا الفضل بن دكين، حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم بن المهاجر، عن أبيه، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: (كان الفاضل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم في صدر هذه الأمّة، لا يحفظ من القرآن إلّا السورة، أو نحوها، ورزقوا العمل بالقرآن، وإنّ آخر هذه الأمّة، يقرؤون القرآن منهم الصبيّ، والأعمى، ولا يرزقون العمل به). حدّثني حسن بن عبد الوهاب؛ أبو محمد بن أبي العنبريّ، حدّثنا أبو بكر بن حمّاد المقرىء قال: سمعت خلف بن هشام البزّاريّ يقول: ما أظنّ القرآن إلّا عاريّة في أيدينا، وذلك إنّا روينا: أنّ عمر بن الخطاب حفظ البقرة في بضع عشر سنة، فلمّا حفظها نحر جزورا؛ شكرا لله سبحانه، وإنّ الغلام في دهرنا هذا، يجلس بين يديّ، فيقرأ ثلث القرآن لا يسقط منه حرفا، فما أحسب القرآن، إلّا عارية في أيدينا.
وقال أهل العلم بالحديث: لا ينبغي لطالب الحديث أن يقتصر على سماع الحديث وكتبه، دون معرفته، وفهمه، فيكون قد أتعب نفسه من غير أن يظفر بطائل، وليكن تحفّظه للحديث على التّدريج قليلا قليلا، مع اللّيالي، والأيّام، وممّن ورد عنه ذلك من حفّاظ الحديث: شعبة، وابن عليّة ومعمر، قال معمر: سمعت الزهريّ يقول: من طلب العلم جملة فاته جملة، وإنّما يدرك العلم
69
حديثا وحديثين، والله أعلم. وقال معاذ بن جبل: (اعلموا ما شئتم أن تعلموا، فلن يأجركم الله بعلمه حتى تعملوا). قال ابن عبد البرّ: وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلم: مثل قول معاذ من رواية عباد بن عبد الصمد، وفيه زيادة: أنّ العلماء همّتهم الدراية: وأنّ السفهاء همّتهم الرواية، وروي موقوفا، وهو أولى من رواية من رواه مرفوعا، وعبّاد بن عبد الصمد: ليس ممّن يحتجّ به. ولقد أحسن القائل في نظمه في فضل العلم، وشرف الكتاب العزيز والسّنّة الغرّاء:
إنّ العلوم وإن جلّت محاسنها | فتاجها ما به الإيمان قد وجبا |
هو الكتاب العزيز الله يحفظه | وبعد ذلك علم فرّج الكربا |
فذاك فاعلم حديث المصطفى فبه | نور النّبوّة سنّ الشّرع والأدبا |
وبعد هذا علوم لا انتهاء لها | فاختر لنفسك يا من آثر الطّلبا |
والعلم كنز تجده في معادنه | يا أيها الطّالب ابحث وانظر الكتبا |
واتل بفهم كتاب الله فيه أتت | كلّ العلوم تدبّره تر العجبا |
واقرأ هديت حديث المصطفى وسل | مولاك ما تشتهي يقضي لك الأربا |
من ذاق طعما لعلم الدّين سرّ به | إذا تزيّد منه قال واطربا |
والله أعلم
* * *
70
الفصل الثالث عشر في معنى قول النبي صلّى الله عليه وسلم:
«إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسّر منه»
روى مسلم، عن أبيّ بن كعب: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم كان عند إضاة بني غفار، فأتاه جبريل عليه السلام. فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرىء أمّتك القرآن على حرف. فقال:
«أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنّ أمّتي لا تطيق ذلك». ثمّ أتاه الثانية. فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرىء أمّتك القرآن على حرفين. فقال:
«أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنّ أمّتي لا تطيق ذلك. ثمّ جاءه الثالثة. فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرىء أمّتك القرآن على ثلاثة أحرف. فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإنّ أمّتي لا تطيق ذلك» ثمّ جاءه الرابعة. فقال: إنّ الله يأمرك أن تقرىء أمّتك القرآن على سبعة أحرف، فأيّما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا.
وروى الترمذيّ عنه قال: لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم جبريل. فقال:
«يا جبريل! إني بعثت إلى أمّة أميّة، منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لا يقرأ كتابا قطّ، فقال لي: يا محمد! إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف». وقال: هذا حديث حسن صحيح. وثبت في الأمّهات البخاري، ومسلم،
71
«والموطّأ»، وأبي داود، والنسائي، وغيرها من المصنّفات، والمسندات، قصّة عمر مع هشام بن حكيم، وسيأتي بكماله مفصلا إن شاء الله تعالى.
وقد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة على خمسة وثلاثين قولا، ذكرها أبو حاتم، محمد بن حيّان البستيّ، نذكر منها هنا خمسة أقوال:
الأوّل: وهو الذي عليه أكثر أهل العلم، كسفيان بن عيينة، وعبد الله بن وهب، والطبري، والطحاوي، وغيرهم، أنّ المراد بها: سبعة أوجه من المعاني المتقاربة، بألفاظ مختلفة، نحو:
أقبل، وتعال، وهلمّ. قال الطحاوي: وأبين ما ذكر في ذلك حديث أبي بكرة قال: جاء جبريل إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، فقال: اقرأ على حرف. فقال ميكائيل: استزده. فقال: اقرأ على حرفين. فقال ميكائيل: استزده حتى بلغ إلى سبعة أحرف. فقال: اقرأ فكلّ شاف كاف، إلّا أن تخلط آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة على نحو: هلمّ، وتعال، وأقبل، واذهب، وأسرع، وعجّل، وبادر.
وروى ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب: أنّه كان يقرأ
﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا﴾ (للذين آمنوا أمهلونا) (للذين آمنوا أخّرونا)، وبهذا الإسناد عن أبيّ: كان يقرأ
﴿كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ﴾ (مرّوا فيه) (سعوا فيه). وفي البخاريّ، ومسلم قال الزهريّ: إنّما هذه الأحرف في
72
الأمر الواحد ليس يختلف في حلال، ولا حرام. قال الطحاويّ: إنّما كانت السبعة للناس في الحروف؛ لعجزهم عن أخذ القرآن على غير لغاتهم؛ لأنّهم كانوا أمّيّين لا يكتب إلّا القليل منهم، فلمّا كان يشقّ على كلّ ذي لغة أن يتحوّل إلى غيرها من اللّغات - ولو رام ذلك لم يتهيّأ له إلّا بمشقّة عظيمة - وسّع لهم في اختلاف الألفاظ، إذا كان المعنى متّفقا، فكانوا كذلك حتى كثر منهم من يكتب، وعادت لغاتهم إلى لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقدروا بذلك على تحفّظ ألفاظه، فلم يسعهم حينئذ أن يقرءوا بخلافها. قال ابن عبد البرّ: فبان بهذا أنّ تلك السبعة الأحرف، إنّما كان في وقت خاصّ لضرورة دعت إلى ذلك، ثمّ ارتفعت تلك الضرورة، فارتفع حكم هذه السبعة الأحرف، وعاد ما يقرأ به القرآن على حرف واحد.
روى أبو داود، عن أبيّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«يا أبيّ! إنّي أقرئت القرآن فقيل لي: على حرف أو حرفين، فقال الملك الذي معي: قل على حرفين، فقيل لي: على حرفين أو ثلاثة، فقال الملك الذي معي: قل على ثلاثة، حتى بلغ سبعة أحرف»، ثمّ قال: ليس منها إلّا شاف كاف، إن قلت سميعا عليما، عزيزا حكيما، ما لم تخلط آية عذاب برحمة، أو آية رحمة بعذاب.
وأسند ثابت بن قاسم نحو هذا الحديث، عن أبي هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم. وذكر من كلام ابن مسعود نحوه. قال القاضي ابن الطيّب: وإذا ثبتت هذه الرواية - يريد حديث أبيّ - حمل على أنّ
73
هذا كان مطلقا، ثمّ نسخ، فلا يجوز للنّاس أن يبدّلوا اسما لله تعالى في موضع بغيره، ممّا يوافق معناه، أو يخالف.
القول الثاني: قال قوم: هي سبع لغات في القرآن على لغات العرب كلها، يمنها ونزارها؛ لأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم لم يجهل شيئا منها، وكان قد أوتي جوامع الكلم، وليس معناه: أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه، ولكن هذه اللّغات السبع متفرّقة في القرآن، فبعضه بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة هوازن، وبعضه بلغة اليمن. قال الخطّابيّ: على أنّ في القرآن ما قد قرىء بسبعة أوجه وهو قوله:
﴿وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ﴾ وقوله:
﴿أَرْسِلْهُ مَعَنا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ﴾ وذكر وجوها، كأنّه يذهب إلى أنّ بعضه أنزل على سبعة أحرف لا كلّه. وإلى هذا القول: بأنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف على سبع لغات، ذهب أبو عبيد، القاسم بن سلّام، واختاره ابن عطيّة، قال أبو عبيد، وبعض الأحياء أسعد بها، وأكثر حظا فيها من بعض، وذكر حديث ابن شهاب، عن أنس: أنّ عثمان قال لهم حين أمرهم أن يكتبوا المصاحف:
«ما اختلفتم أنتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش، فإنّه نزل بلغتهم». ذكره البخاريّ. وذكر حديث ابن عباس قال: (نزل القرآن بلغة الكعبين: كعب قريش، وكعب خزاعة، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأنّ الدّار واحدة). قال أبو عبيدة يعني: أنّ خزاعة جيران قريش، فأخذوا بلغتهم.
قال القاضي ابن الطيّب - رحمه الله تعالى -: معنى قول
74
عثمان، فإنّه نزل بلغة قريش: يريد معظمه، وأكثره، ولم تقم دلالة قاطعة على أنّ القرآن بأسره منزّل بلغة قريش فقط، إذ فيه كلمات، وحروف هي خلاف لغة قريش، وقد قال الله تعالى:
﴿إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا﴾ ولم يقل قرشيّا، وهذا يدلّ على أنّه منّزل بجميع لغات العرب، وليس لأحد أن يقول إنّه أراد قريشا من العرب دون غيرها، كما أنّه ليس له أن يقول أراد لغة عدنان دون قحطان، أو ربيعة دون مضر؛ لأنّ اسم العرب يتناول جميع هذه القبائل تناولا واحدا.
وقال ابن عبد البرّ: قول من قال: إنّ القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي: في الأغلب، والله سبحانه أعلم؛ لأنّ غير لغة قريش موجود في صحيح القراءات، من تحقيق الهمزات، ونحوها، وقريش لا تهمز. وقال ابن عطيّة: معنى قول النبي صلّى الله عليه وسلم:
«أنزل القرآن على سبعة أحرف». أي: فيه عبارة سبع قبائل بلغة جملتها نزل القرآن، فيعبّر عن المعنى في مرّة بعبارة قريش، ومرّة بعبارة هذيل، ومرّة بغير ذلك بحسب الأفصح. الأوجز في اللفظ، ألا ترى أنّ (فطر) معناه عند غير قريش: ابتدأ، فجاءت في القرآن، فلم تتّجه لابن عباس، حتى اختصم إليه أعرابيان في بئر، فقال أحدهما:
أنا فطرتها، قال ابن عباس: (ففهمت حينئذ موقع قوله تعالى):
﴿فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ﴾ وقال أيضا: (ما كنت أدري معنى قوله تعالى):
﴿رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ﴾ (حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أي: أحاكمك): وكذلك قال
75
عمر بن الخطاب. وكان لا يفهم معنى قوله تعالى:
﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ﴾ أي: على تنقّص لهم. وكذلك اتّفق لقطبة بن مالك، إذ سمع النبيّ صلّى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة:
﴿وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ﴾. ذكره مسلم في باب القراءة في صلاة الفجر، إلى غير ذلك من الأمثلة.
القول الثالث: إنّ هذه اللغات السبع إنّما تكون في مضر، قاله قوم، واحتجّوا بقول عثمان: نزل القرآن بلغة مضر، وقالوا: جائز أن يكون منها لقريش، ومنها لكنانة، ومنها لأسد، ومنها لهذيل، ومنها لتميم، ومنها لضبّة، ومنها لقيس، قالوا: فهذه قبائل مضر تستوعب سبع لغات على هذه المراتب، وقد كان ابن مسعود، يحبّ أن يكون الذين يكتبون المصاحف من مضر، وأنكر آخرون أن تكون كلّها في مضر، وقالوا: في مضر شواذّ لا يجوز أن يقرأ القرآن بها، مثل: كشكشة قيس، وتمتمة تميم فأمّا كشكشة قيس: فإنّهم يجعلون كاف المؤنث شينا، فيقولون في:
﴿جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ جعل ربّش تحتش سريّا، وأمّا تمتمة تميم، فيقولون في الناس: النّات، وفي أكياس: أكيات، قالوا: وهذه لغات يرغب عن القرآن بها، ولا يحفظ عن السلف فيها شيء.
وقال آخرون: أمّا إبدال الهمزة عينا، وإبدال حروف الحلق بعضها من بعض، فمشهور عن الفصحاء، وقد قرأ بها الجلّة، واحتجّوا بقراءة ابن مسعود:
﴿لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾ ذكرها أبو داود.
وبقول ذي الرمّة:فعيناك عيناها وجيدك جيدها | ولونك إلّا أنّها غير طائل |
76
القول الرابع: ما حكاه صاحب
«الدلائل» عن بعض العلماء، وحكى نحوه القاضي ابن الطيب قال: تدبّرت وجوه الاختلاف في القراءة فوجدتها سبعا:
منها: ما تتغيّر حركته، ولا يزول معناه، ولا صورته، مثل:
﴿هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ﴾ وأطهر
﴿وَيَضِيقُ صَدْرِي﴾ ويضيّق.
ومنها: ما لا تتغيّر صورته، ويتغيّر معناه بالإعراب، مثل:
﴿رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا﴾ و
﴿باعِدْ﴾.
ومنها: ما تبقى صورته ويتغيّر معناه باختلاف الحروف، مثل قوله:
﴿نُنْشِزُها﴾ و
﴿ننشرها﴾.
ومنها: ما تتغيّر صورته ويبقى معناه
﴿كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ﴾ و (كالصّوف المنفوش).
ومنها: ما تتغيّر صورته ومعناه، مثل:
﴿وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ﴾ و
﴿طَلْعٌ نَضِيدٌ﴾.
ومنها: التقديم والتأخير، كقوله:
﴿وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾ و (جاءت سكرة الحق بالموت).
ومنها: الزيادة والنقصان، مثل قوله: (تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أنثى) وقوله: (وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ كافرًا، وكان أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ)، وقوله: (فإنّ الله من بعد إكراههنّ لهنّ غفور رحيم).
القول الخامس: إنّ المراد بالأحرف السبعة معاني كتاب الله تعالى، وهي أمر، ونهي، ووعد، ووعيد، وقصص، ومجادلة،
77
وأمثال. قال ابن عطيّة: وهذا ضعيف؛ لأنّ هذا لا يسمّى أحرفا. وأيضا: فالإجماع على أنّ التوسعة لم تقع في تحليل حلال، ولا في تغيير شيء من المعاني. وذكر القاضي ابن الطيب في هذا المعنى حديثا، عن النبي صلّى الله عليه وسلم، ثمّ قال: ولكن ليست هذه هي الّتي أجاز لهم القراءة بها؛ وإنّما الحرف في هذه بمعنى الجهة، والطريقة، ومنه قوله تعالى:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ﴾ فكذلك معنى هذا الحديث على سبع طرائق من تحليل، وتحريم، وغير ذلك. وقد قيل: إنّ المراد بقوله صلّى الله عليه وسلم:
«أنزل القرآن على سبعة أحرف» القراءات السبع التي قرأ بها القرّاء السبعة؛ لأنّها كلّها صحّت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهذا ليس بشيء؛ لظهور بطلانه على ما يأتي.
تنبيهان: الأوّل: قال كثير من علمائنا كالدّاوديّ، وابن أبي صفرة، وغيرهما: هذه القراءات الّتي تنسب لهؤلاء القرّاء السبعة، ليست هي الأحرف السبعة التي اتّسعت الصحابة في القراءة بها؛ وإنّما هي راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة، وهو الذي جمع عليه عثمان المصحف. ذكره ابن النحّاس، وغيره. وهذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الأئمة القراء، وذلك أنّ كلّ واحد منهم اختار فيما روى، وعلم وجهه من القراءات ما هو الأحسن عنده، والأولى فالتزمه طريقة، ورواه، وأقرأ به، واشتهر عنه، وعرف به، ونسب إليه. فقيل: حرف نافع، وحرف ابن كثير، ولم يمنع واحد منهم اختيار الآخر، ولا أنكره، بل سوّغه،
78
وجوّزه، وكلّ واحد من هؤلاء السبعة روي عنه اختياران، أو أكثر، وكلّ صحيح، وقد أجمع المسلمون في هذه الأعصار، على الاعتماد على ما صحّ من هؤلاء الأئمّة ممّا رووه، ورأوه من القراءات، وكتبوا في ذلك مصنّفات، فاستمرّ الإجماع على الصواب. وحصل ما وعد الله به من حفظ الكتاب. وعلى هذه، الأئمة المتقدّمون، والفضلاء المحقّقون، كالقاضي أبي بكر بن الطيّب، والطبريّ، وغيرهما.
قال ابن عطيّة: ومضت الأعصار، والأمصار على قراءة السبعة، وبها يصلّى؛ لأنّها ثبتت بالإجماع وأمّا شاذ القراءات فلا يصلّى به؛ لأنّه لم يجمع الناس عليه، أمّا إنّ المرويّ منه عن الصحابة - رضي الله عنهم -، وعن علماء التابعين فلا نعتقد فيه، إلّا أنّهم رووه، وأمّا ما يؤثر عن أبي السّماك؛ ومن قارنه؛ فلأنّه لا يوثق به. وقال غيره: أمّا شاذّ القراءة عن المصاحف المتواترة، فليست بقرآن، ولا يعمل بها على أنّها منه، وأحسن محامله: أن تكون بيان تأويل مذهب من نسبت إليه، كقراءة ابن مسعود (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ متتابعات)، فأمّا لو صرّح الرّاوي بسماعها، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ فاختلف العلماء في العمل بذلك على قولين: النّفي، والإثبات.
ووجه النفي: أنّ الراوي لم يرو في معرض الخبر، بل في معرض القرآن، ولم يثبت، فلا يثبت.
والوجه الثّاني: أنّه وإن لم يثبت كونه قرآنا، فقد ثبت كونه
79
سنّة، وذلك يوجب العمل، كسائر أخبار الآحاد.
والثاني: في ذكر معنى حديث عمر، وهشام، قال ابن عطيّة: أباح الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلم هذه الحروف السبعة، وعارضه بها جبريل عليه السلام في عرضاته على الوجه الذي فيه الإعجاز، وجودة الرّصف، ولم تقع الإباحة في قوله صلّى الله عليه وسلم:
«فاقرءوا ما تيسّر منه»، بأن يكون كلّ واحد من الصحابة، إذا أراد أن يبدّل اللّفظة من بعض هذه اللّغات.. جعلها من تلقاء نفسه، ولو كان هذا لذهب إعجاز القرآن، وكان معرّضا أن يبدّل هذا وهذا، حتّى يكون غير الّذي نزل من عند الله تعالى؛ وإنّما وقعت الإباحة في الحروف السبعة، للنبي صلّى الله عليه وسلم؛ ليوسّع بها على أمّته، فأقرأ مرّة لأبّيّ بما عارضه به جبريل، ومرّة لابن مسعود بما عارضه به أيضا.
وعلى هذا تجيء قراءة عمر بن الخطاب لسورة الفرقان، وقراءة هشام بن حكيم لها، وإلّا فكيف يستقيم أن يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلم في كلّ قراءة منهما، وقد اختلفتا: «هكذا أقرأني جبريل. هل ذلك إلّا أنّه أقرىء مرّة بهذه، ومرّة بهذه، وعلى هذا يحمل قول أنس حين قرأ: (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وأصوب قيلا) فقيل له: إنّما يقرأ: (وَأَقْوَمُ قِيلًا)، فقال أنس: (وأصوب قيلا) (وَأَقْوَمُ قِيلًا)، وأهيأ، واحد؛ فإنّما معنى هذا أنّها مرويّة عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وإلّا فلو كان هذا لأحد من الناس أن يضعه؛ لبطل معنى قوله تعالى:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ﴾.
روى البخاريّ، ومسلم، وغيرهما، عن عمر بن الخطاب
80
قال: سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه، ثمّ أمهلته حتى انصرف، ثم لببته بردائه، فجئت به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إنّي سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«أرسله، إقرأ» فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
«هكذا أنزلت» ثمّ قال لي:
اقرأ، فقرأت فقال:
«هكذا أنزلت، إنّ هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسّر منه».
قلت: وفي معنى حديث عمر هذا ما رواه مسلم، عن أبيّ بن كعب قال: كنت في المسجد، فدخل رجل يصلّي، فقرأ قراءة أنكرتها عليه، ثمّ دخل آخر، فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه، فلمّا قضينا الصلاة دخلنا جميعا على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقلت: إنّ هذا قرأ قراءة أنكرتها عليه، ودخل آخر، فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأمرهما النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فقرآ، فحسّن النبيّ صلّى الله عليه وسلم شأنهما، فسقط في نفسي من التكذيب، ولا إذ كنت في الجاهليّة، فلمّا رأى النبيّ صلّى الله عليه وسلم ما قد غشيني، ضرب في صدري، ففضت عرقا، وكأنّي أنظر إلى الله تعالى فرقا، فقال:
«يا أبيّ! أرسل إليّ أن أقرأ على حرف، فرددت عليه: أن هوّن على أمّتي»، فردّ إليّ الثانية أن أقرأ على حرفين
«فرددت إليه أن هوّن على أمّتي» فردّ إليّ الثالثة أن أقرأ على سبعة أحرف، ولك بكل ردّة رددتكها مسألة تسألنيها، فقلت: «اللهمّ اغفر لأمّتي، وأخّرت الثالثة ليوم يرغب إليّ فيه الخلق
81
كلّهم حتى إبراهيم عليه السلام».
قوله: (فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهليّة). معناه: وسوس إليّ الشيطان تكذيبا للنبوّة أشدّ ما كنت عليه في الجاهليّة؛ لأنّه كان في الجاهلية غافلا، ومشكّكا، فوسوس إليه الشيطان الجزم بالتكذيب. وقيل معناه: إنّه اعترته حيرة، ودهشة، ونزع الشيطان في قلبه تكذيبا لم يعتقده، وهذه الخواطر إذا لم يستمرّ عليها الإنسان لا يؤاخذ بها. (وكأنّما أنظر إلى الله تعالى فرقا) الفرق بالتحريك: الخوف، والخشية.
والمعنى: أنّه غشيه من الهيبة، والخوف، والعظمة حين ضربه، (ما أزال عنه ذلك الخاطر) يعني: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلم: لمّا رأى ما أصابه من ذلك الخاطر، نبّهه بأن ضربه في صدره، فأعقب ذلك بأن انشرح صدره، وتنوّر باطنه حتى آل به الكشف، والشّرح إلى حالة المعاينة، ولمّا ظهر له قبح ذلك الخاطر، خاف من الله تعالى، وفاض بالعرق استحياء من الله تعالى، وكان هذا الخاطر من قبيل ما قال فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلم حين سألوه: إنّا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلّم به. قال:
«وقد وجدتموه» قالوا: نعم. قال:
«ذلك صريح الإيمان». أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة. والله أعلم
* * *
82
الفصل الرابع عشر في ذكر جمع القرآن، وسبب كتب عثمان المصاحف، وإحراقه ما سواه، وذكر من حفظ القرآن من الصحابة - رضي الله عنهم - في زمن النبي صلّى الله عليه وسلم
كان القرآن في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم متفرّقا في صدور الرجال، وقد كتب الناس منه في صحف، وفي جريد، وفي لخاف، وظرر، وفي خزف، وغير ذلك. قال الأصمعيّ: اللّخاف حجارة بيض رقاق، واحدتها لخفة. والظّرر: حجر له حدّ كحدّ السكّين، والجمع ظرار، مثل: رطب، ورطاب، وربع، ورباع، فلمّا استحرّ القتل بالقرّاء يوم اليمامة في زمن الصديق - رضي الله عنه، - وقتل منهم في ذلك اليوم فيما قيل: سبعمائة. أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق - رضي الله عنهما - بجمع القرآن مخافة أن يموت أشياخ القرّاء، كأبيّ، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، فندبا زيد بن ثابت إلى ذلك، فجمعه غير مرتّب السّور بعد تعب شديد - رضي الله عنه.
روى البخاري، عن زيد بن ثابت قال: (أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، وعنده عمر، فقال أبو بكر: إنّ عمر أتاني فقال: إنّ القتال قد استحرّ يوم اليمامة بالنّاس، وإنّي أخشى أن
83
يستحرّ القتل بالقرّاء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن إلّا أن تجمعوه، وإنّي لأرى أن تجمع القرآن. قال أبو بكر: فقلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد: وعنده عمر جالس لا يتكلّم، فقال لي أبو بكر: إنّك رجل شابّ عاقل، ولا نتّهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتتبّع القرآن، فاجمعه، فو الله، لو كلّفني نقل جبل من الجبال، ما كان أثقل عليّ ممّا أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه، حتى شرح الله صدري للّذي شرح له صدر أبي بكر، وعمر، فقمت فتتبّعت القرآن أجمعه من الرقاع، والأكتاف، والعسب، وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع أبي خزيمة بن أوس بن زيد الأنصاريّ، لم أجدهما مع غيره
﴿لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ...﴾ إلى آخرها. فكانت الصّحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفّاه الله، ثمّ عند عمر حتى توفّاه الله، ثمّ عند حفصة بنت عمر).
وقال اللّيث: حدّثني عبد الرحمن بن غالب، عن ابن شهاب، وقال: مع أبي خزيمة الأنصاري. وقال أبو ثابت: حدّثنا إبراهيم، وقال: مع خزيمة، أو أبي خزيمة، وهو الصّواب.
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)﴾. وقال الترمذيّ في حديثه عنه: فوجدت آخر (سورة براءة) مع خزيمة بن ثابت. {لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ
84
ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩)} وقال حديث حسن صحيح. وفي
«البخاريّ»، عن زيد بن ثابت قال: (لمّا نسخنا الصّحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرؤها، لم أجدها مع أحد، إلّا مع خزيمة بن ثابت الأنصاريّ، الّذي جعل رسول الله صلّى الله عليه وسلم شهادته بشهادة رجلين)
﴿رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾. وقال الترمذي عنه: فقدت آية من سورة الأحزاب، كنت أسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقرؤها:
﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ﴾، فالتمستها، فوجدتها عند خزيمة بن ثابت، أو أبي خزيمة، والأوّل هو الصّواب، فألحقتها في سورتها.
قلت: فسقطت الآية الأولى من آخر (براءة) في الجمع الأوّل على ما قاله البخاري، والترمذي، وفي الجمع الثاني فقدت آية من سورة الأحزاب.
وحكى الطبريّ: أنّ آية (براءة) سقطت في الجمع الأخير، والأوّل أصحّ، والله أعلم. فإن قيل: فما وجه جمع عثمان الناس على مصحفه، وقد سبقه أبو بكر إلى ذلك، وفرغ منه. قيل له: إنّ عثمان - رضي الله عنه - لم يقصد بما صنع جمع الناس على تأليف المصحف، ألا ترى كيف أرسل إلى حفصة أن (أرسلي إلينا بالصّحف ننسخها في المصاحف، ثمّ نردّها إليك) على ما يأتي، وإنّما فعل عثمان ذلك؛ لأنّ النّاس اختلفوا في القراءات؛ بسبب
85
تفرّق الصحابة في البلدان، واشتدّ الأمر في ذلك، وعظم اختلافهم، وتشبّههم، ووقع بين أهل الشام، والعراق، ما ذكره حذيفة - رضي الله عنه - وذلك: أنّهم اجتمعوا في غزوة أرمينية، فقرأت كلّ طائفة بما روي لها، فاختلفوا، وتنازعوا، وأظهر بعضهم إكفار بعض، والبراءة منه، وتلاعنوا، فأشفق ممّا رأى منهم، فلمّا قدم حذيفة المدينة فيما ذكر البخاريّ، والترمذيّ، دخل إلى عثمان قبل أن يدخل إلى بيته فقال: (أدرك هذه الأمّة قبل أن تهلك قال: فيما ذا؟ قال: في كتاب الله. إنّي حضرت هذه الغزوة، وجمعت ناسا من العراق، والشّام، والحجاز، فوصف له ما تقدّم، وقال: إنّي أخشى عليهم، أن يختلفوا في كتابهم، كما اختلف اليهود والنصارى).
قلت: وهذا أدلّ دليل على بطلان قول من قال: إنّ المراد بالأحرف السبعة قراءات القرّاء السبعة؛ لأنّ الحقّ لا يختلف فيه.
وقد روى سويد بن غفلة، عن علي بن أبي طالب: أنّ عثمان قال: (ما ترون في المصاحف، فإنّ الناس قد اختلفوا في القراءة، حتى إنّ الرجل ليقول: إنّ قراءتي خير من قراءتك، وقراءتي أفضل من قراءتك، وهذا شبيه بالكفر). قلنا: ما الرّأي عندك؟ يا أمير المؤمنين قال: (الرّأي عندي: أن يجتمع الناس على قراءة، فإنّكم إذا اختلفتم اليوم، كان من بعدكم أشدّ اختلافا. قلنا: الرّأي رأيك يا أمير المؤمنين!) فأرسل عثمان إلى حفصة (أنّ أرسلي إلينا بالصّحف، ننسخها في المصاحف، ثمّ نردّها إليك) فأرسلت بها
86
إليه، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشييّن: (إذا اختلفتم أنتم، وزيد بن ثابت في شيء من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش؛ فإنّما نزل بلسانهم) ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصّحف في المصاحف، ردّ عثمان الصّحف إلى حفصة، وأرسل إلى كلّ أفق بمصحف ممّا نسخوا، وأمر بما سوى ذلك من القرآن في كلّ صحيفة، أو مصحف أن يحرّق، وكان هذا من عثمان - رضي الله عنه - بعد أن جمع المهاجرين، والأنصار، وجلّة أهل الإسلام، وشاورهم في ذلك فاتّفقوا على جمعه بما صحّ، وثبت من القراءات المشهورة عن النبي صلّى الله عليه وسلم، واطّراح ما سواها، واستصوبوا رأيه، وكان رأيا سديدا - رحمة الله عليه وعليهم أجمعين -. وقال الطبري فيما روى: أنّ عثمان قرن بزيد، أبان بن سعيد بن العاص وحده، وهذا ضعيف.
وما ذكره البخاريّ، والترمذي، وغيرهما أصحّ.
وقال الطبريّ أيضا: إنّ الصّحف التي كانت عند حفصة، جعلت إماما في هذا الجمع الأخير، وهذا صحيح. قال ابن شهاب: وأخبرني عبيد الله بن عبد الله أنّ عبد الله بن مسعود، كره لزيد بن ثابت نسخ المصاحف، وقال: (يا معشر المسلمين، أعزل عن نسخ المصاحف، ويتولّاه رجل، والله لقد أسلمت، وإنّه لفي صلب رجل كافر - يريد زيد بن ثابت - ولذلك قال عبد الله بن مسعود: (يا أهل العراق: اكتموا المصاحف التي عندكم وغلّوها،
87
فإنّ الله عزّ وجلّ يقول:
﴿وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ فالقوا الله بالمصاحف) أخرجه الترمذي.
قال أبو بكر الأنباري: ولم يكن الاختيار لزيد من جهة أبي بكر، وعمر، وعثمان على عبد الله بن مسعود في جمع القرآن، وعبد الله بن مسعود أفضل من زيد، وأقدم في الإسلام، وأكثر سوابق، وأعظم فضائل؛ إلّا لأنّ زيدا كان أحفظ للقرآن من عبد الله، إذ وعاه كلّه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم حيّ، والذي حفظ منه عبد الله في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، نيّف وسبعون سورة، ثمّ تعلّم الباقي بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فالذي ختم، وحفظه، ورسول الله صلّى الله عليه وسلم حيّ، أولى بجمع المصحف، وأحقّ بالإيثار، والاختيار، ولا ينبغي أن يظنّ جاهل، أنّ في هذا طعنا على عبد الله بن مسعود؛ لأنّ زيدا إذا كان أحفظ للقرآن منه، فليس ذلك موجبا لتقدمته عليه؛ لأنّ أبا بكر، وعمر - رضي الله عنهما - كان زيد أحفظ منهما للقرآن، وليس هو خيرا منهما، ولا مساويا لهما في الفضائل، والمناقب.
قال أبو بكر الأنباري: وما بدا من عبد الله بن مسعود من نكير ذلك؛ فشيء نتجه الغضب، ولا يعمل به، ولا يؤخذ به، ولا يشكّ في أنّه - رضي الله عنه - قد عرف بعد زوال الغضب عنه، حسن اختيار عثمان، ومن معه من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وبقي على موافقتهم، وترك الخلاف لهم، فالشّائع، الذّائع المتعالم عند أهل الرواية، والنّقل، أنّ عبد الله بن مسعود تعلّم بقيّة القرآن بعد
88
وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقد قال بعض الأئمة: مات عبد الله بن مسعود قبل أن يختم القرآن. قال زيد بن هارون: المعوّذتان بمنزلة البقرة وآل عمران ومن زعم أنّهما ليستا من القرآن، فهو كافر بالله العظيم. فقيل له: فقول عبد الله بن مسعود فيهما، فقال: لا خلاف بين المسلمين، في أنّ عبد الله بن مسعود مات وهو لا يحفظ القرآن كلّه. وقد قال بعض أهل العلم: مات عبد الله بن مسعود قبل أن يتعلّم المعوّذتين فلهذه العلّة لم توجدا في مصحفه. وقيل غير هذا على ما يأتي بيانه آخر الكتاب عند ذكر المعوّذتين إن شاء الله تعالى.
وروى إسماعيل بن إسحاق، وغيره، قال حمّاد: أظنّه عن أنس بن مالك قال: (كانوا يختلفون في الآية فيقولون: أقرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلم فلان بن فلان، فعسى أن يكون على ثلاث مراحل من المدينة، فيرسل إليه، فيجاء به، فيقال: كيف أقرأك رسول الله صلّى الله عليه وسلم آية، كذا وكذا؟ فيكتبون كما قال. قال ابن شهاب: واختلفوا يومئذ في التابوت، فقال زيد: التابوه، وقال ابن الزبير، وسعيد بن العاص: التابوت، فرفع اختلافهم إلى عثمان، فقال: (أكتبوه بالتاء، فإنّه نزل بلسان قريش). أخرجه البخاري، والترمذي. قال ابن عطية: قرأه زيد بالهاء، والقرشيّون بالتاء، فأثبتوه بالتاء، وكتبت المصاحف على ما هو عليه غابر الدّهر، ونسخ منها عثمان نسخا. قال غيره: قيل سبعة، وقيل: أربعة، وهو الأكثر، ووجّه بها إلى الآفاق؛ فوجّه للعراق، والشام، ومصر
89
بأمّهات، فاتخذها قرّاء الأمصار معتمد اختياراتهم، ولم يخالف أحد منهم مصحفه على النّحو الذي بلغه، وما وجد بين هؤلاء القرّاء السبعة من الاختلاف في حروف يزيدها بعضهم، وينقصها بعضهم، فذلك؛ لأنّ كلّا منهم على ما بلغه في مصحفه، ورواه، إذ قد كان عثمان كتب تلك المواضع في بعض المواضع، ولم يكتبها في بعض؛ إشعارا بأنّ كلّ ذلك صحيح، وأنّ القراءة بكل منها جائزة.
قال ابن عطيّة: ثمّ إنّ عثمان أمر بما سواها من المصاحف أن تحرق، أو تخرق، (تروى بالحاء غير منقوطة، وتروى بالخاء على معنى)، ثمّ تدفن، ورواية الحاء منقوطة أحسن. وذكر أبو بكر الأنباريّ في كتاب
«الردّ» عن سويد بن غفلة قال: سمعت عليّ بن أبي طالب - كرّم الله وجهه - يقول: (يا معشر الناس اتقوا الله وإيّاكم والغلوّ في عثمان، وقولكم حرّاق المصاحف، فو الله، ما حرّقها إلّا عن ملأ منّا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلم). وعن عمر بن سعيد قال: قال عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (لو كنت الوالي وقت عثمان؛ لفعلت في المصاحف مثل الذي فعل عثمان) قال أبو الحسن بن بطّال: وفي أمر عثمان بتحريق المصاحف، والصّحف حين جمع القرآن، جواز تحريق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى، وأنّ ذلك إكرام لها، وصيانة عن الوطء بالأقدام، وطرحها في ضياع من الأرض.
روى معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه: أنّه كان يحرق
90
الصّحف، إذا اجتمعت عنده الرسائل فيها
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)﴾. وحرّق عروة بن الزبير، كتب نفسه كانت عنده يوم الحرّة، وكره إبراهيم أن تحرق الصحف، إذا كان فيها ذكر الله تعالى. وقول من حرقها أولى بالصّواب، وقد فعله عثمان. وقد قال القاضي أبو بكر: لسان الأمة: جائز للإمام تحريق الصّحف الّتي فيها القرآن، إذا أدّاه الاجتهاد إلى ذلك.
والله أعلم
* * *
91
الفصل الخامس عشر في ما جاء في ترتيب سور القرآن، وآياته
واعلم أنّ الله تعالى، أنزل القرآن المجيد من اللوح المحفوظ جملة واحدة، إلى سماء الدنيا في مكان يقال له: بيت العزّة، في شهر رمضان، في ليلة القدر، ثمّ كان ينزّله مفرّقا على لسان جبريل عليه السلام، إلى النبي صلّى الله عليه وسلم مدّة رسالته نجوما عند الحاجة، وبحدوث ما يحدث على حسب ما شاء الله سبحانه وتعالى. وترتيب نزول القرآن، غير ترتيبه في التلاوة، والمصحف، وهو قسمان:
إمّا مكيّ: وهو خمس وثمانون سورة.
وإمّا مدنيّ: وهو: ثمان وعشرون سورة.
فترتيب السور المكيّة في النزول هكذا، يعني: أوّل ما نزل بمكة من القرآن: (١) اقرأ (٢) ن (٣) المزّمل (٤) المدّثر (٥) تبّت (٦) الشمس (٧) الأعلى (٨) الليل (٩) الفجر (١٠) الضحى (١١) ألم نشرح (١٢) العصر (١٣) العاديات (١٤) الكوثر (١٥) التكاثر (١٦) الماعون (١٧) الكافرون (١٨) الفيل (١٩) الفلق (٢٠) الناس (٢١) الإخلاص (٢٢) النجم (٢٣) عبس (٢٤) القدر (٢٥) الضحى (٢٦) البروج (٢٧) التين (٢٨) قريش (٢٩) القارعة (٣٠)
92
القيامة (٣١) الهمزة (٣٢) المرسلات (٣٣) ق (٣٤) البلد (٣٥) الطارق (٣٦) الساعة (٣٧) ص (٣٨) الأعراف (٣٩) الجنّ (٤٠) يس (٤١) الفرقان (٤٢) الملائكة (فاطر) (٤٣) مريم (٤٤) طه (٤٥) الواقعة (٤٦) الشعراء (٤٧) النمل (٤٨) القصص (٤٩) بني إسرائيل (٥٠) يونس (٥١) هود (٥٢) يوسف (٥٣) الحجر (٥٤) الأنعام (٥٥) الصافات (٥٦) لقمان (٥٧) سبإ (٥٨) الزمر (٥٩) المؤمنون (٦٠) السجدة (٦١) الشورى (٦٢) الزخرف (٦٣) الدخان (٦٤) الجاثية (٦٥) الأحقاف (٦٦) الذاريات (٦٧) الغاشية (٦٨) الكهف (٦٩) النحل (٧٠) نوح (٧١) إبراهيم (٧٢) الأنبياء (٧٣) المؤمنون (٧٤) السجدة (٧٥) الطور (٧٦) تبارك (٧٧) الحاقة (٧٨) المعارج (٧٩) النبأ (٨٠) النازعات (٨١) الانفطار (٨٢) الانشقاق (٨٣) الروم (٨٤) العنكبوت (٨٥) المطفّفين.
السور المدنية
(٨٦) البقرة (٨٧) الأنفال (٨٨) آل عمران (٨٩) الأحزاب (٩٠) الممتحنة (٩١) النساء (٩٢) الزلزلة (٩٣) الحديد (٩٤) القتال (محمد صلّى الله عليه وسلم) (٩٥) الرعد (٩٦) الرحمن (٩٧) الإنسان (٩٨) الطلاق (٩٩) البيّنة (١٠٠) الحشر (١٠١) النصر (١٠٢) النور (١٠٣) الحج (١٠٤) المنافقون (١٠٥) المجادلة (١٠٦) الحجرات (١٠٧) التحريم (١٠٨) الجمعة (١٠٩) التغابن (١١٠) الصف (١١١) الفتح (١١٢) المائدة (١١٣) براءة.
وفي
«الفتوحات»: بعد ما ذكر السور التي نزلت بمكة ما
93
نصه: واختلفوا في آخر ما نزل بمكة فقال ابن عباس: العنكبوت، وقال الضحّاك، وعطاء: (المؤمنون)، وقال مجاهد:
﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١)﴾ فهذا ترتيب ما نزل بمكة، فذلك ثلاث وثمانون سورة على ما استقرت عليه روايات الثقات. وأما ما نزل بالمدينة، فأولها:
البقرة ثم الأنفال... إلخ، إلى أن قال، ثم التوبة ثم المائدة.
ومنهم من يقدم المائدة على التوبة فهذا ترتيب ما نزل من القرآن بالمدينة.
وأمّا الفاتحة: فقيل نزلت مرتين: مرة بمكة، ومرة بالمدينة، واختلفوا في سور قليلة، فقيل: نزلت بمكة، وقيل نزلت بالمدينة، وسنذكر ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى. اه.
«خازن».
أما ترتيب المصحف، فقال السيوطي: الإجماع، والنصوص على أنّ ترتيب الآيات توقيفيّ لا شبهة في ذلك، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم: كان يدل على مكان كل آية في سورتها، ويؤيد هذا الرأي، قول عثمان بن العاص: كنت جالسا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذ شخص ببصره، ثم صوبه، ثم قال: «أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من هذه السورة:
﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى...﴾ إلى آخرها. وقد التزم عثمان في تدوين المصحف، ما علم أنه رأي رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ترتيب الآيات.
وأمّا ترتيب السور: فهو متروك لاجتهاد المسلمين، ولكنا نثبت رواية عن ابن عباس. روى ابن عباس قال: قلت لعثمان: ما
94
حملكم إلى أن عدتم الأنفال وهي من المثاني إلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)﴾، ووضعتموها في السبع الطوال؟! فقال عثمان: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم تنزل عليه السورة ذات العدد، فكان إذا أنزل عليه الشيء، دعا بعض من كان يكتب، فيقول:
«ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا». وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم ولم يبيّن لنا أنّها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب سطر
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)﴾ ووضعتها في السبع الطوال. اه.
وفي
«القرطبي»: وقال قوم من أهل العلم: إنّ تأليف سور القرآن على ما هو عليه الآن في مصحفنا، كان عن توقيف من النبي صلّى الله عليه وسلم، وأمّا ما روي من اختلاف مصحف أبيّ، وعليّ، وعبد الله؛ فإنّما كان قبل العرض الأخير، وأنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم رتّب لهم تأليف السور، بعد أن لم يكن فعل ذلك. روى يونس، عن ابن وهب قال: سمعت مالكا يقول: (إنّما ألّف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلّى الله عليه وسلم). وذكر أبو بكر الأنباري: في كتاب
«الرد»: أن الله تعالى أنزل القرآن جملة إلى سماء الدنيا، ثم فرّق على النبي صلّى الله عليه وسلم في عشرين سنة، وكانت السورة تنزل؛ في أمر يحدث، والآية؛ جوابا لمستخبر يسأل، ويوقف جبريل النبي صلّى الله عليه وسلم
95
على موضع السورة، والآية، فاتساق السور، كاتساق الآيات، والحروف، فكله كان من محمد صلّى الله عليه وسلم خاتم النبيين، عن رب العالمين.
فمن أخّر سورة مقدّمة، أو قدّم أخرى مؤخّرة، فهو كمن أفسد نظم الآيات، وغيّر الحروف والكلمات، ولا حجة على أهل الحق في تقديم البقرة على الأنعام، والأنعام قد نزلت قبل البقرة؛ لأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أخذ عنه هذا الترتيب، وهو كان يقول:
«ضعوا هذه السورة موضع كذا وكذا من القرآن»، وكان جبريل عليه السلام يقفه على مكان الآيات.
والحقّ: أن ترتيب السور، والآيات، والحروف على ما هو في المصحف الآن، كان من ربّ العالمين، بتعليم جبريل عليه السلام، لمحمد صلّى الله عليه وسلم.
حدثنا حسن بن الحباب، حدثنا أبو هشام، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: (آخر ما نزل من القرآن):
﴿يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ﴾. وقال أبو بكر بن عياش: وأخطأ أبو إسحاق؛ لأنّ محمد بن السائب، حدثنا عن أبي السائب، عن ابن عباس قال: (آخر ما نزل من القرآن:
﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١)﴾، فقال جبريل للنبي صلّى الله عليه وسلم: يا محمد! ضعها في رأس ثمانين ومائتين من البقرة. قال أبو الحسن بن بطال: ومن قال بهذا القول، لا يقول: إن تلاوة القرآن في الصلاة، والدرس، يجب أن
96
تكون مرتبة على حسب الترتيب الموقف عليه في الصلاة، وفي قراءة القرآن، ودرسه، وإنه لا يحل لأحد أن يتلقن الكهف قبل البقرة، ولا الحج قبل الكهف، ألا ترى قول عائشة - رضي الله عنها - للذي سألها: (لا يضرك آية قرأت قبل، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلم يقرأ في الصلاة السورة في ركعة، ثم يقرأ في ركعة أخرى بغير السورة التي تليها).
وأمّا ما روي عن ابن مسعود، وابن عمر، أنّهما كرها أن يقرأ القرآن منكوسا، وقالا: ذلك منكوس القلب؛ فإنّما عنيا بذلك من يقرأ السورة منكوسة، ويبدأ من آخرها إلى أوّلها؛ لأنّ ذلك حرام محظور، ومن الناس من يتعاطى هذا في القرآن، والشعر، ليذلّل لسانه بذلك، ويقدر على الحفظ، وهذا حظره الله، ومنعه في القرآن؛ لأنّه إفساد لسوره، ومخالفة لما قصد بها من الإعجاز، ومما يدل على أنّه لا يجب إثباته في المصاحف على تاريخ نزوله؛ ما صح، وثبت: أن الآيات كانت تنزل بالمدينة، فتوضع في السورة المكية، ألا ترى قول عائشة - رضي الله عنها - (وما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عنده صلّى الله عليه وسلم). تعني: بالمدينة، وقد قدمتا في المصحف على ما نزل قبلها من القرآن بمكة، ولو ألّفوه على تاريخ النزول، لوجب أن ينتقض آيات السور، وقد قدمنا لك بيان جملة ما نزل بمكة، وجملة ما نزل بالمدينة.
قال أبو بكر: فمن عمل على ترك الأثر، والإعراض عن الإجماع، ونظم السور على منازلها بمكة، والمدينة، لم يدر أين
97
تقع الفاتحة لاختلاف الناس في موضع نزولها، ويضطر إلى تأخير الآية التي في رأس خمس وثلاثين ومائتين من البقرة، إلى رأس الأربعين، ومن أفسد نظم القرآن، فقد كفر به، ورد على محمد صلّى الله عليه وسلم ما حكاه عن ربه سبحانه وتعالى.
وقد قيل: إنّ علة تقديم المدني على المكي؛ هو أنّ الله تعالى، خاطب العرب بلغتها، وما يعرف من أفانين خطابها، ومحاورتها، فلما كان فنّ من كلامهم مبنيا على تقديم المؤخر، وتأخير المقدّم، خوطبوا بهذا المعنى في كتاب الله تعالى، الذي لو فقدوا من القرآن لقالوا: ما باله عرى من هذا الباب الموجود في كلامنا المستحلى من نظامنا.
والله أعلم
* * *
98
الفصل السادس عشر في عدد آي القرآن، وكلماته، وحروفه
وأمّا عدد آي القرآن في المدني الأوّل: فقال محمد بن عيسى: جميع عدد آي القرآن في المدنيّ الأول: ستة آلاف. قال أبو عمرو: وهو العدد الذي رواه أهل الكوفة عن أهل المدينة، ولم يسمّوا في ذلك أحدا يسندونه إليه. وأمّا المدنيّ الأخير: فهو في قول إسماعيل بن جعفر: ستة آلاف آية، ومائتا آية، وأربع عشرة آية. وقال الفضل: عدد آي القرآن في قول المكيّين ستة آلاف آية، ومائتان وتسع عشرة آية. وقال محمد بن عيسى: وجميع عدد آي القرآن في قول الكوفيين: ستة آلاف آية ومئتا آية، وستّ وثلاثون آية. وهو العدد الذي رواه مسلم، والكسائي، عن حمزة، وأسنده الكسائي إلى عليّ - رضي الله عنه. قال محمد: وجميع آي القرآن في عدد البصريين: ستّة آلاف ومائتا آية، وأربع آيات، وهو العدد الذي مضى عليه سلفهم حتى الآن. وأمّا عدد أهل الشام: فقال يحيى بن الحارث الذّمّاريّ: ستة آلاف، ومائتان، وست وعشرون آية، وفي رواية: ستة آلاف، ومائتان، وخمس وعشرون. نقص آية. قال ابن ذكوان: فظننت أن يحيى لم يعد:
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١)﴾ قال أبو عمرو: فهذه الأعداد التي يتداولها الناس تأليفا، ويعدون بها في سائر الآفاق قديما،
99
وحديثا. وأمّا كلماته: فقال الفضل بن شاذان: جميع كلمات القرآن في قول عطاء بن يسار: سبعة وسبعون ألفا، وأربعمائة، وثلاثون كلمة، وأمّا حروفه: فأربعمائة ألف، وثلاثة وعشرون ألفا، وخمسة عشر حرفا، وهذا يخالف ما ذكر عن الحمّاني فيما سيأتي، من أنّ جميع حروف القرآن: ثلاثمائة ألف حرف، وأربعون ألف حرف، وسبعمائة حرف، وأربعون حرفا. وقال عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: هذا ما أحصينا من القرآن وهو: ثلاثمائة ألف حرف، وأحد وعشرون ألف حرف، ومائة وثمانون حرفا، وهذا أيضا يخالف ما ذكر، عن الحماني في عدّ حروفه.
والله أعلم
* * *
100
الفصل السابع عشر في أجزائه، وأحزابه، وأرباعه، وأنصافه، وأثلاثه، وأسباعه
روي: أنّ القرّاء، لما قسّموا القرآن في زمن الحجّاج إلى ثلاثين جزءا، قسموه أيضا إلى نصفين، فقال لهم الحجّاج: أخبروني إلى أيّ حرف ينتهي نصف القرآن؟ فإذا هو في الكهف
﴿وَلْيَتَلَطَّفْ﴾ في الفاء. قال فأخبروني بأثلاثه؟ فإذا الثلث الأول: رأس مائة من براءة والثلث الثاني: رأس مائة وإحدى وعشرين من
﴿طسم (١)﴾ الشعراء، والثلث الثالث: ما بقي من القرآن. قال فأخبروني بأسباعه على الحروف؟ فإذا أول سبع: في النساء
﴿فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ﴾ في الدال، والسبع الثاني: في الأعراف
﴿فَأُولئِكَ حَبِطَتْ﴾ في التاء، والسبع الثالث في الرعد
﴿أُكُلُها دائِمٌ﴾ في الألف من آخر أكلها، والسبع الرابع في الحج
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكًا﴾ في الألف، والسبع الخامس: في الأحزاب
﴿وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ﴾ في الهاء، والسبع السادس: في الفتح
﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ﴾ في الواو، والسبع السابع: ما بقي من القرآن.
قال سلام، أبو محمد الحماني: أمرني الحجاجّ بهذه التقسيمات، فعملناها في أربعة أشهر، وكان الحجاج يقرأ كل ليلة
101
ربعا؛ فأول ربعه: خاتمة الأنعام، والربع الثاني: في الكهف
﴿وَلْيَتَلَطَّفْ﴾ والربع الثالث: خاتمة الزمر، والربع الرابع: ما بقي من القرآن، وفي هذه الجملة خلاف مذكور في كتاب
«البيان» لأبي عمرو الداني، من أراد الوقوف عليه وجده هناك. وعن السلف الصالحين. من ختم القرآن على هذا الترتيب الذي نذكره، ثم دعا تقبل حاجته، وهو الترتيب الذي كان يفعله عثمان - رضي الله عنه - يقرأ يوم الجمعة من أوله إلى سورة الأنعام، ويوم السبت من سورة الأنعام إلى سورة يونس، ويوم الأحد من سورة يونس إلى سورة طه، ويوم الاثنين من سورة طه إلى سورة العنكبوت، ويوم الثلاثاء من سورة العنكبوت إلى سورة الزمر، ويوم الأربعاء من سورة الزمر إلى سورة الواقعة، ويوم الخميس من سورة الواقعة إلى آخر القرآن.
وقيل: أحزاب القرآن سبعة:
الحزب الأوّل: ثلاث سور.
والثاني: خمس سور.
والثالث: سبع سور.
والرابع: تسع سور.
والخامس: إحدى عشرة سورة.
والسادس: ثلاث عشرة سورة.
والسابع: المفصّل من ق. وفي
«فتح الرحمن»: وأحزاب
102
القرآن ستون حزبا. وعلى هذا الحزب نصف الجزء، وعلى هذا العمل الآن في المصاحف.
والله أعلم
* * *
103
الفصل الثامن عشر في تعشيره وتخميسه، والكتابة في فواتح السّور، أو خواتمها، ووضع النقط في منتهى الآية، وغير ذلك
وأمّا وضع الأعشار: فقال ابن عطية، مرّ بي في بعض التواريخ: أن المأمون العباسي، أمر بذلك. وقيل إن الحجّاج فعل ذلك؛ أي: جزّأ الحجّاج القرآن عشرة أجزاء، وكتب عند أول كل عشر بهامش المصحف (عشر) بضم العين، وكذلك كتب الأسباع. وذكر أبو عمرو الداني في كتاب
«البيان» له، عن عبد الله: أنه كره التعشير في المصحف، وأنه كان يحكّه. وعن مجاهد: أنه كره التعشير، والطيب في المصحف. وقال أشهب: سمعت مالكا، وسئل عن العشور التي تكون في المصحف بالحمرة، وغيرها من الألوان؟ فكره ذلك، وقال: (تعشير القرآن لا بأس به).
وسئل عن المصحف؛ يكتب فيها خواتم السور في كل سورة ما فيها من آية؟ قال: إني أكره ذلك في أمهات المصاحف، أن يكتب فيها شيء، أو يشكّل، فأما ما يتعلم فيها الغلمان من المصاحف؛ فلا أرى بذلك بأسا. قال أشهب: ثم أخرج إلينا مصحفا لجدّه كتبه: إذ كتب عثمان المصاحف، فرأينا خواتمه من حبر على عمل السلسلة في طول السطر، ورأيته معجوم الآي
104
بالحبر. وقال قتادة: بدؤوا فنقّطوا، ثم خمّسوا، ثم عشّروا. وقال يحيى بن أبي كثير: كان القرآن مجرّدا في المصاحف، فأول ما أحدثوا فيه: النقطة على الباء، والتاء، والثاء، وقالوا: لا بأس به هو نور له، ثم أحدثوا نقطا عند منتهى الآي، ثم أحدثوا الفواتح، والخواتم.
وعن أبي جمرة: رأى إبراهيم النخعي في مصحفي فاتحة سورة كذا وكذا، فقال لي: أمحه، فإن عبد الله بن مسعود قال: (لا تخلطوا في كتاب الله ما ليس فيه). وعن أبي بكر السراج قال: قلت لأبي رزين: أأكتب في مصحفي سورة كذا وكذا؟ قال: إني أخاف أن ينشأ قوم لا يعرفونه، فيظنونه من القرآن. قال الداني - رحمه الله تعالى -: وهذه الأخبار كلها، تؤذن بأن التعشير والتخميس، والتّثمين، وفواتح السور، ورؤوس الآي من عمل الصحابة - رضي الله عنهم أجمعين - فأدّاهم إلى عمله الاجتهاد، وأرى: أن من كره ذلك منهم، ومن غيرهم؛ إنما كره أن يعمل بالألوان، كالحمرة، والصّفرة، وغيرهما، على أن المسلمين في سائر الآفاق قد أطبقوا على جواز ذلك، واستعماله في الأمهات، وغيرها. والحرج، والخطأ مرتفعان عنهم فيما أطبقوا عليه إن شاء الله تعالى.
والله أعلم
* * *
105
الفصل التاسع عشر في بيان أوّل من وضع النّقط، والشّكل، والشّدّة، والمدّة، والهمزة، وعلامة الغنّة في المصاحف، وأوّل من وضع النّحو، وجعل الإعراب فيها
وكانت المصاحف العثمانية مجرّدة من النقط، والشكل، والشدّة، والمدّة، وعلامة الإعراب، فلم يكن فيها إعراب، وسبب ترك الإعراب فيها، والله أعلم؛ استغناؤهم عنه، فإن القوم كانوا عربا لا يعرفون اللحن، ولم يكن في زمنهم نحو.
وأوّل من وضع النحو، وجعل الإعراب في المصاحف: أبو الأسود الدّؤليّ، التابعيّ، البصريّ.
حكى أنه سمع قارئا يقرأ:
﴿أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ بكسر اللام (في رسوله)، فأعظمه ذلك، وقال: عزّ وجه الله أن يبرأ من رسوله، ثم جعل الإعراب في المصاحف. وكان علامته:
نقطا بالحمرة غير لون المداد، فكانت علامة الفتحة: نقطة فوق الحرف وعلامة الضمة: نقطة في نفس الحرف، وعلامة الكسرة: نقطة تحت الحرف، وعلامة الغنة: نقطتين، ثم أحدث الخليل بن أحمد الفراهيدي بعد هذا، هذه الصور: الشدّة، والمدّة، والهمزة، وعلامة السكون، وعلامة الوصل، ونقل الإعراب من صورة النقطة
106
إلى ما هو عليه الآن. وأما النقط المميزة بين الحروف، فأوّل من وضعها في المصحف: نصر بن عاصم الليثيّ، بأمر الحجاج بن يوسف، أمير العراق، وخراسان، وسببه: أنّ الناس كانوا يقرأون في مصحف عثمان، نيّفا وأربعين سنة إلى يوم عبد الله بن مروان، ثم كثر التصحيف، وانتشر بالعراق، فأمر الحجاج أن يضعوا لهذه الأحرف المشتبهة علامات، فقام بذلك نصر المذكور، فوضع النّقطة أفرادا، وأزواجا، وخالف بين أماكنها، وكان يقال له نصر الحروف. وأوّل ما أحدثوا النقطة على الباء، والتاء، وقالوا: لا بأس به هو نور له، ثم أحدثوا نقطا عند منتهى الآي، ثم أحدثوا الفواتح، والخواتم. فأبو الأسود هو السابق إلى إعرابه، والمبتدىء به، ثم نصر بن عاصم، وضع النقط بعده، ثم الخليل بن أحمد نقل الإعراب إلى هذه الصّورة، وكان مع استعمال النّقط، والشكل يقع التصحيف، فالتمسوا حيلة، فلم يروا فيها إلا على الأخذ من أفواه الرجال بالتلقين، فانتدب جهابذة علماء الأمة، وصناديد الأئمّة، وبالغوا في الاجتهاد، وجمعوا الحروف، والقراءات، حتى بيّنوا الصواب، وأزالوا الإشكال - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.
وأوّل من خطّ بالعربية: يعرب بن قحطان، وكان يتكلم بالعربية، والسريانية.
وأوّل من استخرج الخط المعروف بالنسخ: ابن مقلة وزير المقتدر بالله، ثم القاهر بالله، فإنّه أوّل من نقل الخطّ الكوفي إلى
107
طريقة العربية، ثم جاء ابن البوّاب، وزاد في تعريب الخط، وهذّب طريقة بن مقلة، وكساها بهجة، وحسنا، ثم ياقوت المستعصي الخطّاط، وختم فنّ الخطّ، وأكمله، ثم جاء الشيخ:
حمد الله الأماسيويّ، فأجاد الخطّ بحيث لا مزيد عليه إلى الآن، ولله در القائل:
خطّ حسين جمال مرأى... إن كان لعالم فأحسن
الدّرّ من النّبات أحلى... والدّرّ مع النّبات أزين
والله أعلم
* * *
108
الفصل العشرون في تفصيل حروف القرآن، كم فيه من الحروف الفلانية
ذكرها الإمام النّسفيّ في كتابه:
«مجمع العلوم ومطلع النّجوم». الألف: ثمانية وأربعون ألفا وسبعمائة وأربعون. الباء: أحد عشر ألفا وأربعمائة وعشرون، التاء: ألف وأربعمائة وأربعة، الثاء: عشرة آلاف وأربعمائة وثمانون، الجيم: ثلاثة آلاف وثلاثمائة واثنان وعشرون. الحاء: أربعة آلاف ومائة وثمانية وثلاثون، الخاء: ألفان وخمسمائة وثلاثة، الدال: خمسة آلاف وتسعمائة وثمانية وتسعون، الذال: أربعة آلاف وتسعمائة، وأربعة وثلاثون. الراء: ألفان ومائتان وستّة، الزاي: ألف وستّمائة وثمانون، السين: خمسة آلاف وسبعمائة وتسعة وتسعون، الشين: ألفان ومائة وخمسة عشر، الصاد: ألفان وسبعمائة وثمانون، الضاد: ألف وثمانمائة واثنان وثمانون، الطاء: ألف ومائتان وأربعة، الظاء: ثمانمائة واثنان وأربعون، العين: تسعة آلاف وأربعمائة وسبعون، الغين: ألف ومئتان وتسعة وعشرون، الفاء:
تسعة آلاف وثمانمائة وثلاثة عشر، القاف: ثمانية آلاف وتسعة وتسعون الكاف: ثمانية آلاف واثنان وعشرون، اللام: ثلاثة وثلاثون ألفا وتسعمائة واثنان وعشرون. الميم: ثمانية وعشرون ألفا وتسعمائة واثنان وعشرون، النون: سبعة عشر ألفا. الهاء:
109
ستّة وعشرون ألفا وتسعمائة وخمسة وعشرون، الواو: خمسة وعشرون ألفا وخمسمائة وستّة لام ألف: أربعة عشر ألفا وسبعمائة وسبعة. الياء: خمسة وعشرون ألفا وسبعمائة وسبعة عشر. اه.
وأمّا جملة حروفه فهي: ألف ألف، وسبعة وعشرون ألفا، بإدخال حروف الآيات المنسوخة. ونصفه الأول باعتبار حروفه: ينتهي بالنون من قوله: في سورة (الكهف):
﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا﴾ والكاف أوّل النصف الثاني. وعدد درجات الجنة بعدد حروف القرآن، وبين كل درجتين قدر ما بين السماء، والأرض. وأما جملة عدد آياته فهي: ستّة آلاف، وخمسمائة. نصفها الأول: ينتهي بقوله في سورة (الشعراء):
﴿فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥)﴾ وعدد جلالات القرآن: ألفان، وستمائة، وأربعة وستون. اه.
والله أعلم
* * *
110
الفصل الحادي والعشرون في بيان معنى القرآن، ومعنى السّورة، والكلمة، والحرف
والقرآن لغة: الشيء المجموع من قرأه إذا جمعه.
واصطلاحا: هو اللفظ المنزّل على محمد صلّى الله عليه وسلم للإعجاز بأقصر سورة منه، المتعبّد بتلاوته. ووصفه بالكريم: من حيث ما فيه من الخيرات الكثيرة، والمنافع الغزيرة.
والسورة لغة: الحائط المرتفع.
واصطلاحا: طائفة من القرآن لها أوّل، وآخر، وترجمة باسم خاصّ بها، بتوقيف من النبي صلّى الله عليه وسلم كما سبق: أنّ الراجح كون ترتيب الآيات، والسّور، وتسميتها توقيفا: مأخوذة من سور البلد، لارتفاع رتبتها، كارتفاعه. وفي القرطبي معنى السورة في كلام العرب: الإبانة لها من أخرى، وانفصالها عنها، وسميت السورة القرآنية بذلك، لأنّه يرتفع فيها من منزلة إلى منزلة، قال النابغة:
ألم تر أنّ الله أعطاك سورة | ترى كلّ ملك دونها يتذبذب |
أي: منزلة شرف ارتفعت إليها عن منزلة الملوك.
وقيل: سمّيت بذلك؛ لشرفها، وارتفاعها، كما يقال: لما ارتفع من الأرض سورة.
111
وقيل: سميت بذلك؛ لأن قارئها يشرف على ما لم يكن عنده، كسور البناء. (كله بغير همز).
وقيل: سميت بذلك؛ لأنها قطعت من القرآن على حدة من قول العرب للبقية سؤرة، وجاء في أسار الناس؛ أي: بقاياهم، فعلى هذا يكون الأصل سؤرة بالهمز، ثم خففت فأبدلت واوا؛ لانضمام ما قبلها.
وقيل: سميت بذلك، لتمامها، وكمالها من قول العرب للناقة التامة: سورة، وجمع سورة: سور بفتح الواو. وقال الشاعر:
سود المحاجر لا يقرنّ بالسّور
ويجوز أن يجمع على: سورات وسورات.
وأمّا الآية فهي لغة: العلامة.
واصطلاحا: قطعة من السورة، لها أوّل وآخر، سميت بذلك؛ لأنها علامة على انقطاع الكلام الذي قبلها من الذي بعدها، وانفصاله عنه؛ أي: هي بائنة من أختها، ومنفردة، وتقول العرب: بيني وبين فلان آية؛ أي: علامة. ومن ذلك قوله تعالى:
﴿إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ﴾، وقال النّابغة:
توهّمت آيات لها فعرفتها | لستّة أعوام وذا العام سابع |
وقيل: سمّيت آية؛ لأنّها جماعة حروف من القرآن، وطائفة منه، كما يقال: خرج القوم بآيتهم، بجماعتهم. قال زجّ بن مسهر الطائيّ:
112
خرجنا من النّقبين لا حىّ مثلنا | بآيتنا نزجي اللّقاح المطا فلا |
وقيل: سميت آية؛ لأنها عجب يعجز البشر عن التكلم بمثلها.
واختلف النحويون في أصل آية:
فقال سيبويه: أيية على وزن فعلة، مثل: أكمة، وشجرة، فلمّا تحرّكت الياء، وانفتح ما قبلها، انقلبت ألفا، فصارت آية بهمزة بعدها مدة.
وقال الكسائيّ: أصلها آيية بوزن فاعلة، مثل: آمنة، فقلبت الياء ألفا، لتحركها، وانفتاح ما قبلها، ثم حذفت؛ لالتباسها بالجمع.
وقيل أصلها: آئية بوزن قائلة، فحذفت الهمزة للتخفيف.
وقال الفرّاء: أصلها أيّية بتشديد الياء الأولى، فقلبت ألفا؛ كراهة التشديد، فصارت آية، وجمعها: آي، وآياء، وآيات. وأنشد أبو زيد:
لم يبق هذا الدهر من آيائه | غير أثافيه وأرمدائه |
وأمّا الكلمة فهي: الصورة القائمة بجمع ما يختلط بها من الشبهات؛ أي: الحروف. وأطول الكلم في كتاب الله عزّ وجل: ما بلغ عشرة أحرف، نحو قوله:
﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ﴾، و
﴿أَنُلْزِمُكُمُوها﴾ وشبههما؛ فأما قوله:
﴿فَأَسْقَيْناكُمُوهُ﴾: فهو عشرة أحرف في الرسم، وأحد عشر في اللفظ.
113
وأقصرهن: ما كان على حرفين، نحو: ما، ولا، ولك، وله، وما أشبه ذلك.
ومن حروف المعاني: ما هو على كلمة واحدة، كهمزة الاستفهام، وواو العطف، إلا أنه لا ينطق به مفردا، وقد تكون الكلمة وحدها آية تامّة، نحو قوله تعالى:
﴿وَالْفَجْرِ (١)﴾ ﴿وَالضُّحى (١)﴾ ﴿وَالْعَصْرِ (١)﴾، وكذلك
﴿الم * (١)﴾ و
﴿المص (١)﴾ و
﴿طه (١)﴾ و
﴿حم * (١)﴾ في قول الكوفيين، وذلك في فواتح السور، فأمّا في حشوهن: فلا. قال أبو عمرو الدّانيّ: ولا أعلم كلمة، هي وحدها اية، إلّا قوله في الرحمن:
﴿مُدْهامَّتانِ (٦٤)﴾ لا غير، وقد أتت كلمتان متصلتان، وهما آيتان، وذلك في قوله: حم عسق على قول الكوفيين لا غير، وقد تكون الكلمة في غير هذا الآية التامّة، والكلام القائم بنفسه، وإن كان أكثر، أو أقل. قال الله عز وجل:
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا﴾ قيل: إنما يعني بالكلمة ههنا: قوله تبارك وتعالى:
﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ...﴾ إلى آخر الآيتين. وقال عزّ وجل:
﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى﴾ قال مجاهد: هي لا إله إلا الله.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). وقد تسمّي العرب القصيدة بأسرها، والقصة كلها كلمة، فيقولون: قال قس في كلمته كذا؛ أي: في خطبته. وقال زهير: في كلمته كذا أي: في قصيدته وقال فلان في كلمته؛ يعني: في
114
رسالته، فتسمى جملة الكلام، إذ كانت الكلمة منها على عادتهم في تسميتهم الشيء باسم ما هو منه، وما قاربه، وما جاوره، وكان بسبب منه مجازا، واتساعا.
وأما الحرف فهو: الشبهة القائمة وحدها من الكلمة، وقد يسمى الحرف كلمة، والكلمة حرفا على ما بيناه من الاتساع، والمجاز. قال أبو عمرو الدانيّ: فإن قيل: فكيف يسمى ما جاء من حروف الهجاء في الفواتح على حرف واحد، نحو:
﴿ص﴾ و
﴿ق﴾ و
﴿ن﴾ حرفًا، أو كلمةً؟.
قلت: كلمة لا حرفا؛ وذلك من جهة: أنّ الحرف لا يسكن عليه، ولا ينفرد وحده في الصورة، ولا ينفصل مما يختلط به، وهذه الحروف مسكون عليها، منفصلة، كانفراد الكلم، وانفصالها، فلذلك سميت كلمات لا حروفا. قال أبو عمر: وقد يكون الحرف في غير هذا، المذهب والوجه. قال الله عزّ وجلّ:
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ﴾ أي: على وجه، ومذهب. ومن ذلك قول النبي صلّى الله عليه وسلم:
«أنزل القرآن على سبعة أحرف» أي: سبعة أوجه من اللغات، والله أعلم.
* * *
115
الفصل الثاني والعشرون في بيان معنى النّسخ الذي هو فرد من أفراد تنزيل الوحي، وأقسامه، وشرائطه، والرّدّ على من أنكره، وبيان معنى الناسخ، والمنسوخ، وغير ذلك
أمّا النّسخ لغة: فله معنيان: الإزالة، والنّقل. يقال: نسخت الشمس الظل؛ إذا أزالته، وحلت محله، ونسخت الكتاب؛ إذا نقلته إلى كتاب آخر. وعبارة ابن حزم هنا: واعلم أن النسخ له اشتقاق عند أرباب اللسان، وحدّ عند أصحاب المعاني، وشرائط عند العالمين بالأحكام. أما أصله: فالنسخ في اللغة: عبارة عن إبطال الشيء، وإقامة آخر مقامه. وقال أبو حاتم: الأصل في النسخ: هو أن يحول العسل في خلية، والنحل في أخرى، ومنه نسخ الكتاب؛ إذا نقلته. وفي الحديث: (ما من نبوّة إلا وتنسخها فترة)، ثم إن النسخ في اللغة، موضوع بأزاء معنيين:
أحدهما: الإزالة على جهة الانعدام.
والثاني: الإزالة على جهة الانتقال؛ أمّا النسخ بمعنى الإزالة فهو: أيضا ينقسم إلى:
نسخٍ إلى بدلٍ، نحو: قولهم: نسخ الشّيب الشباب، ونسخت الشمس الظل؛ أي: أذهبته، وحلّت محله، وإلى:
116
نسخ إلى غير بدل؛ بمعنى: رفع الحكم، وإبطاله من غير أن يقيم له بدلا. يقال: نسخت الريح الديار؛ أي: أبطلتها، وأزالتها. وأمّا النسخ بمعنى النقل فهو: من قولك: نسخت الكتاب ما فيه؛ إذا نقلته من غير إبطال للأول، وليس المراد به إعدام ما فيه، ومنه قوله تعالى:
﴿إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ يريد نقله إلى الصحف، أو من الصحف إلى غيرها، غير أن المعروف من النسخ في القرآن هو: إبطال الحكم مع إثبات الخطّ، وكذلك هو في السنة، أو في الكتاب: أن تكون الآية الناسخة، والمنسوخة ثابتتين في التلاوة، إلا أن المنسوخة لا يعمل بها، مثل: عدة المتوفى عنها زوجها كانت سنة؛ لقوله:
﴿يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا﴾.
وأمّا حدّه: فمنهم من قال: إنه بيان انتهاء مدة العبادة.
وقيل: انقضاء العبادة التي ظاهرها الدوام. وقال بعضهم: رفع الحكم بعد ثبوته. ونسخ الآية: بيان انتهاء التعبّد بتلاوتها، أو بالحكم المستفاد منها، أو بهما جميعا؛ لمصلحة تقتضي ذلك.
والنسخ أقسامه ثلاثة: إمّا نسخ التلاوة والحكم معا، كقوله: (عشر رضعات يحرمن) نسخ لفظه وحكمه، بخمس رضعات، وكما روي عن أنس بن مالك قال: (كنّا نقرأ سورة تعدل (سورة التوبة)، ما أحفظ منها إلا هذه الآية: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لا بتغى إليهما ثالثا ولو أن له ثالثا لابتغى إليه رابعا ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب).
117
والثاني: نسخ التلاوة دون الحكم كقوله: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة. نكالا من الله والله عزيز حكيم) معناه: المحصن والمحصنة، نسخت تلاوته دون حكمه.
والثالث: نسخ الحكم دون التلاوة، كآية الحول في العدّة، نسخ حكمه بآية العدة بأربعة أشهر وعشرة أيام.
وأمّا شرائطه فأربعة:
الأول: أن يكون النسخ بخطاب؛ لأنّه بموت المكلّف ينقطع الحكم، والموت مزيل للحكم لا ناسخ له.
والثاني: أن يكون المنسوخ حكما شرعيا؛ لأن الأمور العقلية التي مسندها البراءة الأصليّة، لم تنسخ؛ وإنما ارتفعت بإيجاب العبادات.
والثالث: أن لا يكون الحكم السابق مقيّدا بزمان مخصوص، نحو قوله صلّى الله عليه وسلم: «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس، فإن الوقت الذي يجوز فيه أداء النوافل، التي لا سبب لها مؤقت، فلا يكون نهيه عن هذه النوافل في الوقت المخصوص ناسخا لما قبل ذلك من الجواز؛ لأن التوقيت يمنع النسخ.
والرابع: أن يكون الناسخ متراخيا عن المنسوخ، وبيان النسخ منتهى الحكم؛ لتبدّل المصلحة على اختلاف الأزمنة، كالطبيب ينهى عن الشيء في الصيف، ثم يأمر به في الشتاء،
118
وذلك كالتوجه إلى بيت المقدس بمكة، وهو اختيار اليهود، وكإيجاب التصدق بالفضل عن الحاجة في الابتداء؛ لنشاط القوم في الصفاء، والوفاء، وكتقدير الواجب بربع العشر الفاضل إلى الانتهاء، تيسيرا للأداء، وصيانة لأهل النسخ من الآباء.
وقد أنكرت طوائف من المنتمين للإسلام المتأخّرين جواز النسخ، وهم محجوجون بإجماع السلف السابق على وقوعه في الشريعة. وأنكرته أيضا: طوائف من اليهود، وهم محجوجون أيضا بما جاء في توراتهم، بزعمهم أن الله تعالى، قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة: (إني جعلت كل دابة مأكلا لك، ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم، كنبات العشب ما خلا الدم، فلا تأكلوه)، ثم قد حرم على موسى، وعلى بني إسرائيل كثيرا من الحيوان، وبما كان آدم عليه السلام يزوج، الأخ من الأخت، وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام، وعلى غيره، وبأنّ إبراهيم الخليل أمر بذبح ابنه، ثم قال له: (لا تذبح)، وبأنّ موسى أمر بني إسرائيل، أن يقتلوا من عبد منهم العجل، ثم أمرهم برفع السيف عنهم، وبأن نبوته غير متعبّد بها قبل بعثه، ثم تعبّد بها بعد ذلك على غير ذلك. وليس هذا من باب البداء الذي هو ظهور المصلحة بعد خفائها؛ بل هو من نقل العباد من عبادة إلى عبادة، وحكم إلى حكم؛ لضرب من المصلحة، وإظهارا لحكمته، وكمال مملكته. ولا خلاف بين العقلاء: أن شرائع الأنبياء قصد بها مصالح الخلق الدينيّة، والدنيويّة؛ وإنما كان يلزم البداء لو لم يكن
119
عالما بمآل الأمور، وأما العالم ذلك؛ فإنما تتبدّل خطاباته بحسب تبدّل المصالح، كالطبيب المراعي أحوال العليل فراعى ذلك في خليقته بمشيئته وإرادته، لا إله إلا هو، فخطابه يتبدّل، وعلمه، وإرادته لا تتغيّر، فإن ذلك محال في حقّه تعالى. وجعلت اليهود النسخ، والبداء شيئا واحدا، ولذلك لم يجوّزوه فضلّوا.
قال النحّاس: والفرق بين النسخ، والبداء: أن النسخ تحويل العباد من شيء إلى شيء، قد كان حلالا، فيحرم، أو كان حراما، فيحلل، وأما البداء فهو ترك ما عزم عليه، لظهور المصلحة في الترك، كقولك: امض إلى فلان اليوم، ثم تقول لا تمض إليه، فيبدو لك العدول عن القول الأول، وهذا يلحق بالبشر، لنقصانهم. وكذلك إن قلت: إزرع كذا في هذه السنة، ثم قلت: لا تفعل، فهذا هو البداء. واعلم أنّه لا يمنع جواز النسخ عقلا لوجهين:
أحدهما: أنّ للآمر أن يأمر بما شاء.
وثانيهما: أنّ النفس إذا مرنت على أمر ألفته، فإذا نقلت عنه إلى غيره شقّ عليها؛ لمكان الاعتياد المألوف، فظهر منها بإذعان الانقياد لطاعة الأمر. وقد وقع النسخ شرعا؛ لأنه ثبت أنّ من دين آدم عليه السلام في طائفة من أولاده، جواز نكاح الأخوات، وذوات المحارم، والعمل في يوم السبت، ثم نسخ في شريعة الإسلام، كما مرّ آنفا.
واعلم: أنّ الناسخ في الحقيقة: هو الله سبحانه وتعالى،
120
ويسمى الخطاب الشرعيّ: ناسخا تجوّزا، إذ به يقع النسخ، كما قد يتجوز، فيسمى المحكوم فيه: ناسخا. فيقال: صوم رمضان ناسخ لصوم عاشوراء، فالمنسوخ: هو المزال، والمنسوخ عنه: هو المتعبّد بالعبادة المزالة، وهو المكلّف. والمحقّقون على أنّ القرآن ينسخ بالسّنة، وذلك موجود في قوله صلّى الله عليه وسلم:
«لا وصية لوارث»، وهو ظاهر مسائل مالك، وأبى ذلك الشافعيّ، وأبو الفرج المالكيّ، والأوّل أصحّ، بدليل: أن الكلّ حكم الله تعالى، ومن عنده، وإن اختلفت في الأسماء. وأيضا: فإن الجلد ساقط في حدّ الزنا عن الثيب الذي يرجم، ولا مسقط لذلك. إلا السنة فعل النبي صلّى الله عليه وسلم - وهذا بيّن. والمحققون أيضا: على أنّ السنة تنسخ بالقرآن، وذلك موجود في القبلة، فإن الصلاة إلى الشام لم تكن في كتاب الله تعالى، وفي قوله تعالى:
﴿فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ﴾ فإنّ رجوعهن إليهم؛ إنما كان بصلح النبي صلّى الله عليه وسلم لقريش، وهذا كله في حياة النبي صلّى الله عليه وسلم، وأمّا بعد مماته، واستقرار الشريعة: فأجمعت الأمة على أنه لا نسخ، ولهذا كان الإجماع لا ينسخ، ولا ينسخ به، إذ انعقاده بعد انقطاع الوحي، فإذا وجدنا إجماعا يخالف نصّا، فيعلم أن الإجماع استند إلى نصّ ناسخ لا نعلمه نحن، وأن ذلك النص المخالف متروك العمل به، وأن مقتضاه نسخ، وبقي يقرأ، ويروى، كما أنّ عدّة السنة في القرآن تتلى، فتأمل هذا فإنه نفيس، والذي عليه المحققون: أنّ من لم يبلغه الناسخ، فهو متعبد بالحكم الأول، كما يأتي بيانه في تحويل القبلة، والمحقّقون أيضا: على جواز نسخ الحكم قبل فعله، وهو موجود في قصة
121
الذبيح، وفي فرض خمسين صلاة قبل فعلها بخمس، على ما يأتي بيانه في الإسراء إن شاء الله تعالى.
واعلم أن لمعرفة الناسخ طرقا:
منها: أن يكون في اللفظ ما يدل عليه، كقوله صلّى الله عليه وسلم:
«كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ونهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم، فأشربوا في كل وعاء غير أن لا تشربوا مسكرا» ونحوه.
ومنها: أن يذكر الراوي التاريخ مثل: أن يقول سمعت عام الخندق، وكان المنسوخ معلوما قبله، أو يقول: نسخ حكم كذا وكذا.
ومنها: أن تجمع الأمة على حكم أنه منسوخ، وأن ناسخه متقدم، وهذا الباب مبسوط في أصول الفقه، نبّهنا منه على ما فيه لمن اقتصر كفاية، والله الموفّق للهداية.
والله أعلم
* * *
122
الفصل الثالث والعشرون في تقسيم السور باعتبار الناسخ، والمنسوخ
واعلم: أنّ السّور باعتبار الناسخ، والمنسوخ أربعة أقسام:
قسم: ليس فيه منسوخ، ولا ناسخ وهو: ثلاث وأربعون سورة: (١) الفاتحة (٢) يوسف (٣) يس (٤) الحجرات (٥) الرحمن (٦) الحديد (٧) الصف (٨) الجمعة (٩) التحريم (١٠) الملك (١١) الحاقة (١٢) نوح (١٣) الجنّ (١٤) المرسلات (١٥) النبأ (١٦) النازعات (١٧) الانفطار (١٨) المطفّفين (١٩) الانشقاق (٢٠) البروج (٢١) الفجر (٢٢) البلد (٢٣) الشمس (٢٤) والليل (٢٥) والضحى (٢٦) ألم نشرح (٢٧) والقلم (٢٨) القدر (٢٩) القيامة (٣٠) الزلزلة (٣١) والعاديات (٣٢) القارعة (٣٣) التكاثر (٣٤) الهمزة (٣٥) الفيل (٣٦) قريش (٣٧) أرأيت (٣٨) الكوثر (٣٩) النصر (٤٠) تبت (٤١) الإخلاص (٤٢) الفلق (٤٣) الناس.
وقسمٌ: فيه ناسخ، ومنسوخ وهو: خمس وعشرون سورة: (١) البقرة (٢) آل عمران (٣) النساء (٤) المائدة (٥) الأنفال، (٦) التوبة (٧) إبراهيم (٨) مريم (٩) الأنبياء (١٠) الحج (١١) النور (١٢) الفرقان (١٣) الشعراء (١٤) الأحزاب (١٥) سبإ (١٦)
123
المؤمن (١٧) الشورى (١٨) والذاريات (١٩) الطّور (٢٠) المجادلة (٢١) الواقعة (٢٢) المزّمل (٢٣) المدّثر (٢٤) التكوير (٢٥) والعصر.
وقسم: فيه منسوخ فقط وهو: أربعون: (١) الأنعام (٢) الأعراف (٣) يونس (٤) هود (٥) الرعد (٦) الحجر (٧) النحل (٨) الإسراء (٩) الكهف (١٠) طه (١١) المؤمنون (١٢) النمل (١٣) القصص (١٤) العنكبوت (١٥) الروم (١٦) لقمان (١٧) ألم السجدة (١٨) فاطر (١٩) والصافات (٢٠) ص (٢١) الزمر (٢٢) حم سجدة (٢٣) الزخرف (٢٤) الدخان (٢٥) الجاثية (٢٦) الأحقاف (٢٧) محمد (٢٨) ق (٢٩) والنجم (٣٠) القمر (٣١) الامتحان (٣٢) المعارج (٣٣) القيامة (٣٤) الإنسان (٣٥) عبس (٣٦) الطارق (٣٧) الغاشية (٣٨) والتين (٣٩) الكافرون (٤٠) ن.
وقسم: فيه ناسخ فقط وهو ستّة: (١) الفتح (٢) الحشر (٣) المنافقون (٤) التغابن (٥) الطلاق (٦) الأعلى. اه. من أسباب النزول.
والله أعلم
* * *
124
الفصل الرابع والعشرون في ذكر جملة الإعراض عن المشركين المنسوخ بآية السيف
واعلم: أنه ذكر الإعراض عن المشركين، في مائة وأربع عشرة آية: (١١٤) هنّ في سبع وأربعين: (٤٧) سورة:
(١) البقرة
﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ نسخ عمومها
﴿لَنا أَعْمالُنا﴾ ﴿فَإِنِ انْتَهَوْا﴾ نسخ معنى؛ لأنّ تحته الأمر بالصفح قُلْ قِتالٌ
﴿لا إِكْراهَ﴾.
(٢) آل عمران
﴿فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ﴾،
﴿مِنْهُمْ تُقاةً﴾.
(٣) النساء
﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ في موضعين
﴿فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ ﴿لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ﴾ ﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ﴾.
(٤) المائدة
﴿وَلَا آمِّينَ﴾ ﴿عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ﴾ ﴿عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ﴾ ﴿إِذَا اهْتَدَيْتُمْ﴾ أي: أمرتم ونهيتم.
(٥) الأنعام
﴿قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾ ﴿ثُمَّ ذَرْهُمْ﴾ ﴿وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ و
﴿أَعْرِضْ﴾ ﴿فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ ﴿وَلا تَسُبُّوا﴾ ﴿فَذَرْهُمْ﴾ في موضعين
﴿يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ﴾ ﴿قُلِ انْتَظِرُوا﴾ ﴿لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾.
(٦) الأعراف
﴿أَعْرِضْ﴾ وَ
﴿أُمْلِي﴾.
125
(٧) الأنفال
﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ﴾ يعني: المعاهدين.
(٨) التوبة
﴿فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾.
(٩) يونس
﴿فَانْتَظِرُوا﴾ ﴿فَقُلْ لِي عَمَلِي﴾ ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ﴾ ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ﴾ ﴿فَمَنِ اهْتَدى﴾ لأنّ معناه: الإمهال، والصبر.
(١٠) هود
﴿إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ﴾ معناه: أي: أنت تنذر
﴿وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ﴾ ﴿وَانْتَظِرُوا﴾.
(١١) الرعد
﴿عَلَيْكَ الْبَلاغُ﴾.
(١٢) الحجر
﴿ذَرْهُمْ﴾ ﴿فَاصْفَحِ﴾ ﴿وَلا تَمُدَّنَّ﴾.
﴿أَنَا النَّذِيرُ﴾ ﴿وأَعْرِضْ﴾.
(١٣) النحل
﴿فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ﴾ ﴿وَجادِلْهُمْ﴾ ﴿وَاصْبِرْ﴾ مختلف فيه.
(١٤) الإسراء
﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾.
(١٥) مريم
﴿وَأَنْذِرْهُمْ﴾ معنى:
﴿فَلْيَمْدُدْ﴾ ﴿فَلا تَعْجَلْ﴾.
(١٦) طه
﴿فَاصْبِرْ﴾ ﴿قُلْ كُلٌّ﴾.
(١٧) الحج
﴿وَإِنْ جادَلُوكَ﴾.
(١٨) المؤمنون
﴿فَذَرْهُمْ﴾ ﴿ادْفَعْ﴾.
(١٩) النّور
﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾.
(٢٠) النمل
﴿فَمَنِ اهْتَدى﴾ معنى.
(٢١) القصص
﴿لَنا أَعْمالُنا﴾.
126
(٢٢) العنكبوت
﴿وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ﴾ معنى.
(٢٣) الروم
﴿فَاصْبِرْ﴾.
(٢٤) لقمان
﴿وَمَنْ كَفَرَ﴾.
(٢٥) السجدة
﴿وَانْتَظِرْ﴾.
(٢٦) الأحزاب
﴿وَدَعْ أَذاهُمْ﴾.
(٢٧) سبإ
﴿قُلْ لا تُسْئَلُونَ﴾.
(٢٨) فاطر
﴿إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (٢٣)﴾.
(٢٩) يس
﴿فَلا يَحْزُنْكَ﴾ مختلف فيه.
(٣٠) الصافات
﴿فَتَوَلَّ﴾ و
﴿تَوَلَّ﴾ وما بينهما.
(٣١) ص
﴿فَاصْبِرْ﴾ ﴿إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ﴾ معنى.
(٣٢) الزمر
﴿إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ﴾ معنى،
﴿فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ﴾ ﴿يا قَوْمِ اعْمَلُوا﴾ ﴿مَنْ يَأْتِيهِ﴾ ﴿فَمَنِ اهْتَدى﴾ معنى
﴿أَنْتَ تَحْكُمُ﴾ معنى؛ لأنّه تفويض.
(٣٣) غافر
﴿فَاصْبِرْ﴾ في موضعين.
(٣٤) حم السجدة
﴿ادْفَعْ﴾.
(٣٥) الشّورى
﴿وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ ﴿لَنا أَعْمالُنا﴾ ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا﴾.
(٣٦) الزخرف
﴿فَذَرْهُمْ﴾ ﴿فَاصْفَحِ﴾.
127
(٣٧) الدّخان
﴿فَارْتَقِبْ﴾.
(٣٨) الجاثية
﴿يَغْفِرُوا﴾.
(٣٩) الأحقاف
﴿فَاصْبِرْ﴾.
(٤٠) محمد صلّى الله عليه وسلم
﴿فَإِمَّا مَنًّا﴾.
(٤١) ق
﴿فَاصْبِرْ﴾ ﴿فَذَكِّرْ﴾.
(٤٢) المزّمل
﴿وَاهْجُرْهُمْ﴾ ﴿وَذَرْنِي﴾.
(٤٣) الإنسان
﴿فَاصْبِرْ﴾.
(٤٤) الطارق
﴿فَمَهِّلِ﴾.
(٤٥) الغاشية
﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢)﴾.
(٤٦) والتين
﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨)﴾ معنى.
(٤٧) الكافرون
﴿لَكُمْ دِينَكُمْ﴾ نسخ بقوله عزّ وجلّ:
﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ في سورة التوبة.
والله أعلم
* * *
128
الفصل الخامس والعشرون في بيان قواعد أصوليّة لأسباب النزول
والبحث عن قواعدها ينحصر في خمسة مطالب:
الأوّل: تعريف النزول: وهو منحصر في أمرين:
أحدهما: أن تحدث حادثة، فينزل القرآن بشأنها، كما في سبب نزول:
﴿تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ﴾ كما سيأتي في محلّه.
وثانيها: أن يسأل الرسول صلّى الله عليه وسلم عن شيء، فينزل القرآن ببيان الحكم فيه، كما في سبب نزول آية اللّعان.
والثاني: طريق معرفته، أمّا طريق معرفته: فالعلماء يعتمدون في معرفة سبب النزول، على صحة الرواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أو عن الصحابيّ، فإن إخبار الصحابي عن مثل هذا له حكم الرفع. قال ابن الصلاح في كتابه
«علوم الحديث»: وما قيل: إنّ تفسير الصحابي حديث مسند، فإنما ذلك في تفسير يتعلّق بسبب نزول الآية يخبر به الصحابيّ، كقول جابر - رضي الله عنه: كانت اليهود تقول: من أتى امرأته من دبرها في قبلها جاء الولد أحول، فأنزل الله عزّ وجلّ:
﴿نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ﴾ الآية، فأمّا سائر تفاسير الصحابة التي لا تشتمل على إضافة الشيء، إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فمعدود في الموقوفات. اه. ص (٤٦).
وأمّا قول التابعيّ نزلت في كذا: فهو مرسل، فإن تعدّدت
129
طرقه قبل، وإلا فلا على الراجح عند المحدّثين.
والثالث: (٣): العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والدليل على ذلك: أن الأنصاري الذي قبّل الأجنبية، ونزلت فيه:
﴿إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ﴾ الآية، قال للنبي صلّى الله عليه وسلم: ألي هذا وحدي يا رسول الله!. ومعنى هذا: هل حكم هذه الآية يختصّ بي، لأني سبب نزولها؟ فأفتاه النبي صلّى الله عليه وسلم: بأنّ العبرة بعموم اللفظ، فقال: (بل لأمتي كلهم). أما صورة السبب: فجمهور أهل الأصول أنها قطعية الدخول في العام، فلا يجوز إخراجها منه بمخصص، وهو التحقيق. وروي عن مالك: أنها ظنية الدخول، كغيرها من أفراد العامّ.
والرابع: قد تتعدّد الأسباب، والنازل واحد، كما في آية اللعان، وغيرها من الآيات، كما ستجده إن شاء الله تعالى في مواضعه، وكذا قد تتعدّد الآيات النازلة، والسبب واحد، كما في حديث المسيب - رضي الله عنه -: في شأن وفاة أبي طالب، وقول النبي صلّى الله عليه وسلم:
«لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنه» فأنزل الله سبحانه:
﴿ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١١٣)﴾ ونزل في أبي طالب أيضا: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، ستمرّ بك إن شاء الله تعالى في مواضعها.
والخامس: صيغة سبب النزول: إمّا أن تكون صريحة في السببية، وإمّا أن تكون محتملة فتكون نصّا صريحا، إذا قال
130
الراوي: سبب نزول هذه الآية كذا، أو إذا أتى بفاء التعقيب داخلة على مادّة النزول، بعد ذكر الحادثة، أو السؤال، كما إذا قال: حدث كذا، أو سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلم عن كذا فنزلت.
فهاتان صيغتان صريحتان في السببيّة، وسيأتي لهما أمثلة إن شاء الله تعالى، وتكون الآية محتملة للسببيّة، ولما تضمّنته الآية من الأحكام إذا قال الراوي: نزلت هذه الآية في كذا، فذلك يراد به تارة: أنه سبب النزول، وتارة: أنه داخل في معنى الآية. وكذا إذا قال: أحسب هذه الآية نزلت في كذا، أو ما أحسب هذه الآية إلا نزلت في كذا، فإن الراوي بهذه الصيغة لا يقطع بالسبب، فهاتان صيغتان تحتملان السببية، وغيرها، وسيأتي لهما أمثلة إن شاء الله تعالى. اه. مختصر من كتاب
«مباحث في علوم القرآن» لمنّاع القطّان.
واعلم: أنّ من القرآن ما نزل لسبب، ومنه: ما نزل ابتداء بعقائد الإيمان، وشرائع الإسلام، وليس لكل آية، أو لكل حديث سبب، بل منهما ما له سبب خاصّ، ومنهما ما ليس له سبب، فانتبه لهذه المسألة.
والله أعلم
* * *
131
الفصل السادس والعشرون في التنبيه على أحاديث وضعت في فضائل سور القرآن، وغيره، لا التفات لما وضعه الواضعون، واختلقه المختلقون من الأحاديث الكاذبة، والأخبار الباطلة في فضل سور القرآن، وغير ذلك من فضائل الأعمال، وقد ارتكبها جماعة كثيرة اختلفت أغراضهم، ومقاصدهم في ارتكابها
فمنهم: من الزنادقة، مثل: المغيرة بن سعيد الكوفي، ومحمد بن سعيد الشاميّ المصلوب في الزندقة، وغيرهما. وضعوا أحاديث، وحدّثوا بها؛ ليوقعوا بذلك الشك في قلوب الناس. فما رواه محمد بن سعيد، عن أنس بن مالك في قوله صلّى الله عليه وسلم:
«أنا خاتم الأنبياء، لا نبيّ بعدي إلّا ما شاء الله» فزاد هذا الاستثناء، لما كان يدعو إليه من الإلحاد، والزندقة.
قلت: وقد ذكره ابن عبد البر في كتاب
«التمهيد» ولم يتكلم عليه، بل تأوّل الاستثناء على الرؤيا، فالله أعلم.
ومنهم: قوم وضعوا الحديث، لهوى يدعون الناس إليه. قال شيخ من شيوخ الخوارج بعد أن تاب: إنّ هذه الأحاديث دين، فانظروا ممن تأخذون دينكم، فإنّا كنّا إذا هوينا صيرناه حديثا.
ومنهم: جماعة وضعوا الأحاديث حسبة، كما زعموا، يدعون الناس إلى فضائل الأعمال، كما روي عن أبي عصمة، نوح بن أبي
132
مريم المروزيّ، ومحمد بن عكّاشة الكرمانيّ، وأحمد بن عبد الله الجويباريّ، وغيرهم. قيل لأبي عصمة: من أين لك عن عكرمة، عن ابن عباس في فضل سور القرآن سورة سورة، فقال: إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي محمد بن إسحاق؛ فوضعت هذا الحديث حسبة.
قال أبو عمرو عثمان بن الصلاح، في كتاب
«علوم الحديث» له: وهكذا الحديث الطويل الذي يروى عن أبيّ بن كعب، عن النبي صلّى الله عليه وسلم في فضل القرآن سورة سورة، وقد بحث باحث عن مخرجه حتى انتهى، إلى من اعترف بأنه، وجماعة وضعوه، وأن أثر الوضع عليه لبيّن. وقد أخطأ الواحديّ المفسّر، ومن ذكره من المفسرين في إيداعه تفاسيرهم.
قلت: وأنا قد وضعتها في تفسيري، في فضائل بعض السور نقلا عن البيضاويّ، وغيره استئناسا بها، ولكن قد بيّنت وضعها في مواضعها.
ومنهم: قوم من السّؤّال والمكدّين، يقفون في الأسواق، والمساجد، فيضعون على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أحاديث بأسانيد صحاح قد حفظوها، فيذكرون الموضوعات بتلك الأسانيد. قال جعفر بن محمد الطيالسيّ صلى أحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين في مسجد الرصافة، فقام بين أيديهما قاصّ. قال: حدثنا أحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين قالا: أنبأنا عبد الرزاق، قال: أنبأنا معمر، عن قتادة، عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «من قال لا إله إلا الله،
133
يخلق من كل كلمة منها طائر منقاره من ذهب، وريشه مرجان»، وأخذ في قصة نحو من عشرين ورقة، فجعل أحمد ينظر إلى يحيى ويحيى ينظر إلى أحمد، فقال: أنت حدثته بهذا! فقال: والله ما سمعت به إلّا هذه الساعة. قال: فسكتا جميعا حتى فرغ من قصصه، فقال له يحيى: من حدّثك بهذا الحديث؟ فقال: أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، فقال: أنا ابن معين، وهذا أحمد بن حنبل، ما سمعنا بهذا قط في حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلم! فإن كان ولا بد من الكذب فعلى غيرنا. فقال: له أنت يحيى بن معين؟ قال: نعم. قال: لم أزل أسمع أنّ يحيى بن معين أحمق، وما علمته إلا هذه الساعة، فقال له يحيى: وكيف علمت أني أحمق؟ قال: كأنه ليس في الدنيا يحيى بن معين، وأحمد ابن حنبل غيركما، كتبت عن سبعة عشر أحمد بن حنبل غير هذا، قال: فوضع أحمد كمّه على
وجهه، وقال: دعه يقوم، فقام كالمستهزىء بهما، فهؤلاء الطوائف كذبة على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومن يجري مجراهم.
ويذكر: أن المهدي كان يعجبه الحمام، واللهو به، فأهدي إليه حمام، وعنده أبو البحتريّ القاصّ، فقال: روى أبو هريرة، عن النبي صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «لا سبق إلا في خفّ، أو حافر، أو جناح فزاده: أو جناح، وهي: لفظة وضعها للمهدي، فأعطاه جائزة. فلمّا خرج قال المهدي: والله، لقد علمت أنه كذاب، وأمر بالحمام أن يذبح، فقيل له: وما ذنب الحمام؟ قال: من أجله كذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فترك العلماء حديثه ذلك، وغيره من
134
موضوعاته، فلا يكتب العلماء حديثه بحال.
قلت: فلو اقتصر الناس على ما ثبت في الصحاح، والمسانيد، وغيرهما من المصنّفات التي تداولها العلماء، ورواها الأئمة الفقهاء، لكان لهم في ذلك غنية. وخرجوا عن تحذيره صلّى الله عليه وسلم حيث قال:
«اتقوا الحديث عليّ إلّا ما علمتم فمن كذب عليّ متعمّدا فليتبوأ مقعده من النار». الحديث، فتخويفه صلّى الله عليه وسلم أمّته على الكذب، دليل على أنّه كان يعلم أنّه سيكذب عليه، فحذار مما وضعه أعداء الدين، وزنادقة المسلمين في باب الترغيب، والترهيب، وغير ذلك، وأعظمهم ضررا؛ أقوام من المنسوبين إلى الزهد، وضعوا الأحاديث حسبة فيما زعموا، فيقبل الناس موضوعاتهم ثقة منهم بهم، وركونا إليهم فضلّوا، وأضلّوا.
والله أعلم
* * *
135
الفصل السابع والعشرون في بيان ما جاء من الحجة، في الردّ على من طعن في القرآن، وخالف مصحف عثمان بالزيادة، والنقصان
واعلم: أنه لا خلاف بين الأمّة، ولا بين الأئمّة أهل السنة أنّ القرآن اسم لكلام الله تعالى، الذي جاء به محمد صلّى الله عليه وسلم، معجزة له على ما سيأتي، وأنّه محفوظ في الصّدور، مقروء بالألسنة، مكتوب في المصاحف، معلومة على الاضطرار سوره وآياته، مبرأة من الزيادة والنقصان حروفه وكلماته، فلا يحتاج في تعريفه بحدّ، ولا في حصره بعدّ، فمن ادعى زيادة عليه، أو نقصانا منه، فقد أبطل الإجماع وبهت الناس، وردّ ما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلم من القرآن المنزّل عليه، وردّ قوله تعالى:
﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨)﴾ وأبطل آية رسوله صلّى الله عليه وسلم؛ لأنّه إذ ذاك يصير القرآن مقدورا عليه حين شيب بالباطل، ولمّا قدر عليه لم يكن حجة، ولا آية، وخرج أن يكون معجزا.
فالقائل: بأن القرآن فيه زيادة، ونقصان ردّ لكتاب الله، ولما جاء به الرسول، وكان كمن قال: الصلوات المفروضات خمسون صلاة، وتزوّج تسع من النساء حلال، وفرض الله أياما مع شهر
136
رمضان، إلى غير ذلك مما لم يثبت في الدين، فإذا ردّ هذا بالإجماع، كان الإجماع على القرآن أثبت وآكد.
قال الإمام أبو بكر، محمد بن القاسم، بن بشار، بن محمد الأنباري: ولم يزل أهل الفضل، والعقل يعرفون من شرف القرآن، وعلوّ منزلته، ما يوجبه الحقّ، والإنصاف والديانة، وينفون عنه قول المبطلين، وتمويه الملحدين، وتحريف الزائفين، حتى نبع في زماننا هذا، زائغ زاغ عن الملّة، وهجم على الأمة بما يحاول به إبطال الشريعة التي لا يزال الله يؤيدها، ويثبت أسّها، وينمي فرعها، ويحرسها من معايب أولي الحيف، والجور، ومكايد أهل العداوة، والكفر، فزعم: أن المصحف الذي جمعه عثمان - رضي الله عنه - باتفاق أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، على تصويبه فيما فعل، لا يشتمل على جميع القرآن، إذ كان قد سقط منه خمسمائة حرف، قد قرأت بعضها، وسأقرأ بقيتها.
فمنها: (والعصر ونوائب الدّهر) فقد سقط من القرآن على جماعة المسلمين، (ونوائب الدهر).
ومنها: (حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهارًا فَجَعَلْناها حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ وما كان الله ليهلكهم إلّا بذنوب أهلها) فادّعى هذا الإنسان، أنّه سقط على أهل الإسلام من القرآن وما كان الله ليهلكهم إلّا بذنوب أهلها وذكر مما يدّعي حروفا كثيرة.
وادعى: أن عثمان، والصحابة - رضي الله عنهم - زادوا في
137
القرآن ما ليس فيه، فقرأ في صلاة الفرض، والناس يسمعون:
الله الواحد الصمد فأسقط من القرآن:
﴿قُلْ هُوَ﴾، وغير لفظ أحد، وادعى أنّ هذا هو الصواب، والذي عليه الناس هو الباطل، والمحال. وقرأ في صلاة الفرض (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) وطعن على قراءة المسلمين. وادّعى: أنّ المصحف الذي في أيدينا اشتمل على تصحيف حروف مفسدة مغيّرة.
منها:
﴿إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١١٨)﴾ فادّعى: أنّ الحكمة، والعزّة لا يشاكلان المغفرة، وأن الصواب (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الغفور الرحيم) وترامى به الغيّ في هذا، وأشكاله، حتى ادّعى: أنّ المسلمين يصحّفون
﴿وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا﴾ والصواب الذي لم يغيّر عنده: (وكان عبد الله وجيها) وحتى قرأ في صلاة مفترضة، على ما أخبرنا جماعة سمعوه، وشهدوه: (لا تحرّك به لسانك إنّ علينا جمعه - وقراءته فإذا قرأناه فاتبع قراءته ثم إن علينا نبأ به). وحكى لنا آخرون عن آخرين: أنهم سمعوه يقرأ: (ولقد نصركم ببدر بسيف عليّ وأنتم أذلّة) وروى هؤلاء أيضا لنا عنه، قال:
﴿هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ﴾ وأخبرونا أنّه: أدخل في آية من القرآن، ما لا يضاهي فصاحة رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولا يدخل في لسان قومه، الذين قال الله عزّ وجلّ فيهم:
﴿وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ﴾ فقرأ: (أليس قلت للناس) في موضع
﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ﴾ وهذا لا يعرف في نحو المعربين، ولا يحمل على مذاهب النحويّين؛ لأنّ
138
العرب لم تقل: ليس قمت، فأمّا: ألست قمت؟ بالتاء، فشاذّ، قبيح، خبيث، رديء، لأنّ ليس لا تجحد الماضي، ولم يوجد مثل هذا إلّا في قولهم: أليس قد خلق الله مثلهم؟ وهو لغة شاذّة، لا يحمل كتاب الله عليها.
وادّعى: أنّ عثمان - رضي الله عنه -: لمّا أسند جمع القرآن إلى زيد بن ثابت لم يصب؛ لأنّ عبد الله بن مسعود، وأبيّ بن كعب، كانا أولى بذلك من زيد؛ لقول النبي صلّى الله عليه وسلم:
«اقرأ أمتي أبيّ بن كعب». ولقوله صلّى الله عليه وسلم:
«من سرّه أن يقرأ القرآن غضّا كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن أمّ عبد». وقال هذا القائل: لي أن أخالف مصحف عثمان، كما خالفه أبو عمرو بن العلاء، فقرأ (إنّ هذين) (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُون) (بَشِّرْ عِبادِيَ الذين) بفتح الياء (فَما آتانِيَ اللَّهُ) بفتح الياء، والذي في المصحف:
﴿إِنْ هذانِ﴾ بالألف
﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ﴾ بغير واو
﴿فَبَشِّرْ عِبادِ﴾ ﴿فَما آتان اللَّهُ﴾ بغير ياءين في الموضعين، وكما خالف ابن كثير، ونافع، وحمزة، والكسائيّ مصحف عثمان فقرؤوا: (كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ) بإثبات نونين، يفتح الثانية بعضهم، ويسكّنها بعضهم، وفي المصحف نون واحدة، وكما خالف حمزة المصحف، فقرأ:
﴿أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ﴾ بنون واحدة، ووقف على الياء، وفي المصحف نونان، ولا ياء بعدهما، وكما خالف حمزة أيضا المصحف، فقرأ: (أَلا إِنَّ ثَمُودًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ) بغير تنوين، وإثبات الألف يوجب التنوين، وكلّ هذا الذي شنّع به على القرّاء ما يلزمهم به خلاف المصحف. قال أبو
139
بكر: وذكر هذا الإنسان: أنّ أبيّ بن كعب هو الذي قرأ: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ وما كان الله ليهلكها إلّا بذنوب أهلها) وذلك باطل؛ لأنّ عبد الله بن كثير قرأ على مجاهد، ومجاهد قرأ على ابن عباس، وابن عباس قرأ القرآن على أبيّ بن كعب
﴿حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ﴾ في رواية، وقرأ أبيّ القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهذا الإسناد متّصل بالرسول صلّى الله عليه وسلم، نقله أهل العدالة، والصيانة، وإذا صح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر، لم يؤخذ بحديث يخالفه. وقال يحيى بن المبارك: قرأت القرآن على أبي عمرو بن العلاء، وقرأ أبو عمرو على مجاهد، وقرأ مجاهد على ابن عباس، وقرأ ابن عباس على أبيّ بن كعب، وقرأ أبيّ بن كعب على رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وليس فيها، (وما كان الله ليهلكها إلّا بذنوب أهلها) فمن جحد أنّ هذه الزيادة أنزلها الله تعالى على نبيّه صلّى الله عليه وسلم، فليس بكافر، ولا آثم. ومثل هذه الزيادة: ما رووا عن ابن عباس أنّه قرأ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ في مواسم الحج). وما حكوه عن عمر بن الخطاب أنّه قرأ: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ، وغير الضالين) فهذه الزيادات، ونظائرها، لو جحدها جاحد، أنّها من القرآن لم يكن كافرا. والقرآن الذي جمعه عثمان بموافقة الصحابة له، لو أنكر بعضه منكر كان كافرا، حكمه حكم المرتد، يستتاب، فإن تاب، وإلا ضربت عنقه.
وقال أبو عبيد: لم يزل صنيع عثمان - رضي الله عنه - في جمعه القرآن يعتدّ له؛ بأنه من مناقبه العظام. وقد طعن عليه فيه
140
بعض أهل الزيغ، فانكشف عواره، ووضحت فضائحه. وقال أبو عبيد: وقد حدثت عن يزيد بن زريع، عن عمران بن جرير، عن أبي مجلز قال: طعن قوم على عثمان - رضي الله عنه - بحمقهم جمع القرآن، ثم قرؤوا ما نسخ. قال أبو عبيد: يذهب أبو مجلز إلى أن عثمان أسقط الذي أسقط بعلم، كما أثبت الذي أثبت بعلم. قال أبو بكر: وفي قوله تعالى:
﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩)﴾ دلالة على: كفر هذا الإنسان؛ لأن الله عزّ وجلّ، قد حفظ القرآن من التغيير، والتبديل، والزيادة، والنقصان، فإذا قرأ قارىء (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وقد تب ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ سَيَصْلى نارًا ذاتَ لَهَبٍ ومُرَيَّتُه حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ ليفٍ) فقد كذب على الله جلّ وعلا، وقوّله ما لم يقل، وبدّل كتابه، وحرّفه، وحاول ما قد حفظه منه، ومنع عن اختلاطه به، وفي هذا الذي أتاه؛ توطئة الطريق لأهل الإلحاد؛ ليدخلوا في القرآن ما يحلون به عرى الإسلام، وينسبونه إلى قوم، كهؤلاء القوم، الذين أحال هذا الإنسان بالأباطيل عليهم، وفيه إبطال الإجماع الذي به يحرس الإسلام، وبثباته تقام الصلوات، وتؤدّى الزكوات، وتتحرّى المتعبدات. وفي قول الله تعالى:
﴿الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ﴾ دلالة على: بدعة هذا الإنسان، وخروجه إلى الكفر، لأن معنى أحكمت آياته: منع الخلق من القدرة على أن يزيدوا فيها، أو ينقصوا منها، أو يعارضو بمثلها. وقد وجدنا هذا الإنسان زاد فيها: (وكفى الله المؤمنين القتال بعليّ وكان الله قويا عزيزا) فقال في القرآن: هجرا. وذكر عليّا في مكان، لو سمعه
141
يذكره فيه، لأمضى عليه الحدّ، وحكم عليه بالقتل، وأسقط من كلام الله
﴿قُلْ هُوَ﴾ وغيّر أحد، فقرأ: (الله الواحد الصمد) وإسقاط ما أسقطه نفي، وكفر به، ومن كفر بحرف من القرآن، فقد كفر به، إلى آخر ما أطال به القرطبيّ رحمه الله تعالى.
والله أعلم
* * *
142
الفصل الثامن والعشرون في بيان هل ورد في القرآن كلمات خارجة عن لغات العرب، أم لا؟
واعلم: أنه لا خلاف بين الأمّة: أنه ليس في القرآن كلام مركّب على أساليب غير العرب، وأنّ فيه أسماء أعلاما لمن لسانه غير لسان العرب، كإسرائيل، وجبرائيل، وعمران، ونوح، ولوط، واختلفوا: هل وقع فيه ألفاظ غير أعلام مفردة من غير كلام العرب؟ فذهب القاضي أبو بكر بن الطيّب، والطبريّ، وغيرهما: إلى أنّ ذلك لا يوجد فيه، وأنّ القرآن عربيّ صريح، وما وجد فيه من الألفاظ التي تنسب إلى سائر اللغات؛ إنّما اتّفق فيها أن تواردت اللغات عليها، فتكلّمت بها العرب، والفرس، والحبشة، وغيرهم، وذهب بعضهم: إلى وجودها فيه، وأن تلك الألفاظ لقلّتها، لا تخرج القرآن عن كونه عربيا مبينا، ولا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، عن كونه متكلّما بلسان قومه. فالمشكاة: الكوّة، ونشأ: قام من الليل ومنه
﴿إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ﴾ و
﴿يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ﴾ أي: ضعفين، و
﴿فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (٥١)﴾ أي: الأسد كله بلسان الحبشة، والغسّاق: البارد المنتن بلسان الترك، والقسطاس: الميزان بلغة الروم، والسجّيل: الحجارة، والطين بلسان الفرس، والطّود: الجبل، واليمّ: البحر بالسريانية والتنور: وجه الأرض بالعجميّة.
143
قال ابن عطيّة: فحقيقة العبارة عند هذه الألفاظ؛ أنها في الأصل أعجمية، لكن استعملتها العرب وعربتها، فهي عربية بهذا الوجه، وقد كان للعرب العاربة، التي نزل القرآن بلسانها، بعض مخالطة لسائر الألسنة بتجارات، وبرحلتي قريش، وبغيرهما، كسفر مسافر بن أبي عمرو إلى الشام، وكسفر عمر بن الخطّاب، وكسفر عمرو بن العاص، وعمارة بن الوليد إلى أرض الحبشة، وكسفر الأعشى إلى الحيرة، وصحبته لنصاراها مع كونه حجة في اللغة، فعلّقت العرب بهذا كلّه ألفاظا أعجمية غيرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة، واستعملتها في أشعارها، ومحاوراتها، حتى جرت مجرى العربي الصحيح، ووقع بها البيان، وعلى هذا الحدّ نزل بها القرآن، فإن جهلها عربيّ ما؛ فكجهله الصريح بما في لغة غيره، كما لم يعرف ابن عباس، معنى فاطر، إلى غير ذلك. قال ابن عطيّة: وما ذهب إليه الطبريّ - رحمه الله تعالى - من أنّ اللغتين اتفقتا في لفظة لفظة فذلك بعيد، بل إحداهما أصل، والأخرى فرع، لا أنا ندفع أيضا جواز الاتفاق قليلا شاذّا. قال غيره: والأوّل أصح. وقوله هي: أصل في كلام غيرهم، دخيلة في كلامهم، ليس بأولى من العكس، فإن العرب لا يخلو أن تكون تخاطبت بها أوّلا، فإن كان الأوّل، فهي من كلامهم، إذ لا معنى للغتهم، وكلامهم إلا ما كان كذلك عندهم، ولا يبعد أن يكون غيرهم قد وافقهم على بعض كلماتهم، وقد قال ذلك الإمام الكبير أبو عبيدة.
144
فإن قيل: هذه الكلمات ليست على أوزان كلام العرب، فلا تكون منه.
قلنا: ومن سلّم لكم أنكم حصرتم أوزانهم، حتى تخرجوا هذه منها؟ فقد بحث القاضي عن أصول أوزان كلام العرب، ورد هذه الأسماء إليها على الطريقة النحويّة، وأما إن لم تكن العرب تخاطبت بها، ولا عرفتها، استحال أن يخاطبهم الله تعالى بما لا يعرفون، وحينئذ لا يكون القرآن عربيا مبينا، ولا يكون الرسول مخاطبا لقومه بلسانهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
145
الفصل التاسع والعشرون في بيان بعض نكات في إعجاز القرآن، وشرائط المعجزة، وحقيقتها
المعجزة: واحدة معجزات الأنبياء الدالّة على صدقهم - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - وسمّيت معجزة؛ لأنّ البشر يعجزون عن الإتيان بمثلها.
وشرائطها: خمسة: فإن اختلّ منها شرط لا تكون معجزة.
فالشرط الأوّل: من شروطها: أن تكون مما لا يقدر عليها إلّا الله تعالى، وإنما وجب حصول هذا الشرط للمعجزة؛ لأنّه لو أتى آت في زمان مجيء الرّسل، وادّعى الرسالة، وجعل معجزته أن يتحرّك، ويسكن، ويقوم، ويقعد، لم يكن هذا الذي ادّعاه معجزة له، ولا دالّا على صدقه؛ لقدرة الخلق على مثله، وإنما يجب أن تكون المعجزات مما لا يقدر عليه البشر، كفلق البحر، وانشقاق القمر.
والشرط الثاني: أن تخرق العادة، وإنما وجب اشتراط. ذلك؛ لأنّه لو قال المدعي للرسالة: آيتي مجيء الليل بعد النهار، وطلوع الشمس من مشرقها، لم يكن فيه ادعاء معجزة؟ لأن هذه الأفعال وإن كان لا يقدر عليها إلّا الله، فلم تفعل من أجله، وقد
146
كانت قبل دعواه على ما هي عليه في حين دعواه، ودعواه في دلالتها على نبوّته كدعوى غيره، فبان أنّه لا وجه له يدلّ على صدقه، والذي يستشهد به الرسول عليه السلام، له وجه يدلّ على صدقه، وذلك أن يقول: الدليل على صدقي: أن يخرق الله تعالى العادة من أجل دعواي عليه الرسالة، فيقلب هذه العصا ثعبانا، ويشقّ الحجر، ويخرج من وسطه ناقة، أو ينبع الماء من بين أصابعي، كما ينبعه من العين، أو ما سوى ذلك من الآيات الخارقة للعادة، التي ينفرد بها جبار الأرض، والسموات، فتقوم له هذه العلامات، مقام قول الربّ سبحانه، لو أسمعنا كلامه العزيز، وقال: صدق أنا بعثته. ومثال هذه المسألة، ولله، ولرسوله المثل الأعلى: ما لو كانت جماعة بحضرة ملك من ملوك الأرض، وقال أحد رجاله وهو بمرأى، ومسمع منه، والملك يسمعه: الملك يأمركم أيها الجماعة! بكذا وكذا، ودليل ذلك: أنّ الملك يصدقني بفعل من أفعاله، وهو أن يخرج خاتمه من يده قاصدا بذلك تصديقي، فإذا سمع الملك كلامه لهم، ودعواه فيهم، ثم عمل ما استشهد به على صدقه، قام ذلك مقام قوله، لو قال: صدق فيما ادّعاه عليّ، فكذلك إذا عمل الله عملا لا يقدر عليه إلّا هو، وخرق به العادة على يدي الرسول، قام ذلك الفعل مقام كلامه تعالى، لو أسمعناه، وقال: صدق عبدي في دعوى الرسالة، وأنا أرسلته إليكم، فاسمعوا له وأطيعوا.
والشرط الثالث: هو أن يستشهد بها مدّعي الرسالة على الله
147
عزّ وجلّ، فيقول: آيتي أن يقلب الله سبحانه هذا الماء زيتا، أو يحرّك الأرض عند قولي لها: تزلزلي، فإذا فعل الله سبحانه ذلك، حصل المتحدّى به.
والشرط الرابع: هو أن يقع على وفق دعوى المتحدّي بها، المستشهد بكونها معجزة له، وإنّما وجب اشتراط هذا الشرط؛ لأنّه لو قال: المدعي للرسالة: آية نبوّتي، ودليل حجّتي: أن تنطق يدي، أو هذه الدابة، فنطقت يده، أو الدابة بأن قالت: كذب، وليس هو بنبيّ فإنّ هذا الكلام الذي خلق الله تعالى، دالّ على كذب ذلك المدعي للرسالة؛ لأنّ ما فعله الله لم يقع على وفق دعواه، وكذلك ما يروى: أنّ مسيلمة الكذاب لعنه الله تعالى، تفل في بئر؛ ليكثر ماؤها، فغارت البئر، وذهب ما كان فيها من الماء، فما فعله الله سبحانه من هذا، كان من الآيات المكذّبة لمن ظهرت على يديه، لأنّها وقعت على خلاف ما أراده المتنبىء الكذّاب.
والشرط الخامس: من شروط المعجزة: أن لا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدّي على وجه المعارضة. فإن تمّ الأمر المتحدّى به، المستشهد به على النبوّة، على هذا الشرط مع الشروط المتقدمة، فهي: معجزة دالّة على نبوّة من ظهرت على يده، فإن أقام الله تعالى من يعارضه، حتى يأتي بمثل ما أتى به، ويعمل مثل ما عمل بطل كونه نبيّا، وخرج عن كونه معجزا، ولم يدلّ على صدقه، ولهذا قال المولى سبحانه:
﴿فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤)﴾ وقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ
148
مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ} كأنّه يقول: إن ادعيتم أنّ هذا القرآن من نظم محمد صلّى الله عليه وسلم وعمله، فاعملوا عشر سور من جنس نظمه، فإن عجزتم بأسركم عن ذلك، فاعلموا أنه ليس من نظمه، ولا من عمله. لا يقال: إن المعجزات المقيّدة بالشروط الخمسة، لا تظهر إلا على أيدي الصادقين. وهذا المسيح الدجّال فيما رويتم عن نبيكم صلّى الله عليه وسلم يظهر على يديه من الآيات العظام، والأمور الجسام، ما هو معروف مشهور، فإنّا نقول ذاك، يدّعي الرسالة، وهذا الدجّال يدّعي الرّبوبية، وبينهما من الفرقان ما بين البصراء، والعميان. وقد قام الدليل العقليّ: على أنّ بعثة بعض الخلق إلى بعض، غير ممتنعة، ولا مستحيلة، فلم يبعد أن يقيم الله تعالى الأدلة على صدق مخلوق أتى عنه بالشرع، والملّة. ودلت الأدلة العقلية أيضا: على أنّ المسيح الدجال فيه التصوير، والتغيير من حال إلى حال، وثبت أنّ هذه الصفات لا تليق إلا بالمحدثات. تعالى رب البريات، عن أن يشبه شيئا، أو يشبهه شيء.
﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾.
والله أعلم
* * *
149
الفصل الثلاثون في تقسيم المعجزات
إذا ثبت هذا، فاعلم: أنّ المعجزات على ضربين:
الأول: ما اشتهر نقله، وانقرض عصره بموت النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
والثاني: ما تواترت الأخبار بصحّته، وحصوله، واستفاضت بثبوته، ووجوده، ووقع لسامعها العلم بذلك ضرورة.
ومن شرطه: أن يكون الناقلون خلقا كثيرا، وجمّا غفيرا، وأن يكونوا عالمين بما نقلوه علما ضروريّا، وأن يستوي في النقل، أوّلهم، وآخرهم، ووسطهم في كثرة العدد، حتى يستحيل عليهم التواطؤ على الكذب، وهذه صفة نقل القرآن، ونقل وجود النبي صلّى الله عليه وسلم؛ لأنّ الأمّة - رضي الله عنها - لم تزل تنقل القرآن خلفا عن سلف، والسلف عن سلفه، إلى أن يتصل ذلك بالنبي صلّى الله عليه وسلم، المعلوم وجوده بالضرورة، وصدقه بالأدلّة المعجزات، والرسول أخذه عن جبريل عليه السلام، وجبريل عن ربّه جلّ وعزّ، فنقل القرآن في الأصل رسولان معصومان من الزيادة، والنقصان، ونقله إلينا بعدهم أهل التواتر، الذين لا يجوز عليهم الكذب فيما ينقلونه، ويسمعونه؛ لكثرة العدد، ولذلك وقع لنا العلم الضروريّ بصدقهم، فيما نقلوه من وجود محمد صلّى الله عليه وسلم، ومن ظهور القرآن على
150
يديه وتحدّيه به، ونظير ذلك من علم الدنيا، علم الإنسان ما نقل إليه من وجود البلدان، كالبصرة والشام، والعراق، وخراسان، والمدينة، ومكة، وأشباه ذلك من الأخبار الكثيرة، الظاهرة، المتواترة. فالقرآن: معجزة نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلم، الباقية بعده إلى يوم القيامة، ومعجزة كلّ نبيّ انقرضت بانقراضه، أو دخلها التبديل، والتغيير، كالتوارة، والإنجيل.
ووجوه إعجاز القرآن الكريم عشرة:
منها: النّظم البديع المخالف لكل نظم معهود في لسان العرب، وفي غيرها؛ لأنّ نظمه ليس من نظم الشيء في شيء، وكذلك قال ربّ العزّة الذي تولّى نظمه:
﴿وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ﴾. وفي
«صحيح مسلم»: أن أنيسا أخا أبي ذرّ قال لأبي ذرّ: لقيت رجلا بمكة على دينك يزعم أن الله تعالى أرسله، قلت: فما يقول الناس قال: يقولون شاعر كاهن ساحر، وكان أنيس أحد الشعراء. قال أنيس: لقد سمعت قول الكهنة، فما هو بقولهم، ولقد وضعت قوله على أفراء الشعر، فلم يلتئم على لسان أحد بعدي أنّه شعر. والله، إنّه لصادق، وإنّهم لكاذبون، وكذلك أقرّ عتبة بن ربيعة، أنّه ليس بسحر، ولا شعر، لمّا قرأ عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (حم فُصِّلت) على ما يأتي بيانه هناك، فإذا اعترف عتبة على موضعه من اللسان، وموضعه من الفصاحة، والبلاغة، بأنّه ما سمع مثل هذا القرآن قطّ، كان في هذا القول مقرًّا له، ولضربائه من المتحققين بالفصاحة، والقدرة على التكلم بجميع أجناس
151
القول، وأنواعه.
ومنها: الأسلوب المخالف أساليب العرب.
ومنها: الجزالة التي لا تصحّ من مخلوق بحال، وتأمّل ذلك في سورة:
﴿ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١)﴾ إلى آخرها، وقوله سبحانه:
﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ إلى آخر السورة، وكذلك قوله:
﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ﴾ إلى آخر السورة. قال ابن الحصار فمن علم أنّ الله سبحانه وتعالى هو الحقّ، علم أنّ مثل هذه الجزالة لا تصحّ في خطاب غيره، ولا يصح من أعظم ملوك الدنيا أن يقول:
﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾، ولا أن يقول:
﴿وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ﴾.
قال ابن الحصار: وهذه الثلاثة من النظم، والأسلوب، والجزالة، لازمة كلّ سورة، بل هي لازمة كل آية، وبمجموع هذه الثلاثة يتميّز مسموع كلّ آية، وكلّ سورة عن سائر كلام البشر، وبها وقع التحدّي، والتعجيز، ومع هذا، فكل سورة تنفرد بهذه الثلاثة من غير أن ينضاف إليها أمر آخر من الوجوه العشرة، فهذه سورة الكوثر ثلاث آيات قصار، وهي أقصر سورة في القرآن، وقد تضمنت الإخبار عن مغيبين.
أحدهما: الإخبار عن الكوثر، وعظمه، وسعته، وكثرة أوانيه، وذلك يدل على أنّ المصدّقين به أكثر من أتباع سائر الرسل.
والثاني: الإخبار عن الوليد بن المغيرة، وقد كان عند نزول
152
الآية ذا مال، وولد على ما يقتضيه قوله الحقّ:
﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُودًا (١٢) وَبَنِينَ شُهُودًا (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (١٤)﴾ ثمّ أهلك الله سبحانه ماله، وولده، وانقطع نسله.
ومنها: التصرّف في لسان العرب على وجه لا يستقلّ به عربيّ، حتى يقع منهم الاتفاق من جميعهم على إصابته في وضع كل كلمة وحرف موضعه.
ومنها: الإخبار عن الأمور التي تقدّمت في أول الدنيا إلى وقت نزوله، من أمّيّ ما كان يتلو من قبله من كتاب، ولا يخطه بيمينه، فأخبر بما كان من قصص الأنبياء مع أممها، والقرون الخالية في دهرها، وذكر ما سأله أهل الكتاب عنه، وتحدّوه به من قصة أهل الكهف، وشأن موسى والخضر عليهما السلام، وحال ذي القرنين، فجاءهم وهو أميّ من أمّة أميّة ليس لها بذلك علم بما عرفوا، من الكتب السالفة صحّته، فتحقّقوا صدقه. قال القاضي ابن الطيب: ونحن نعلم ضرورة أنّ هذا ممّا لا سبيل إليه إلّا عن تعلّم، وإذا كان معروفا أنّه لم يكن ملابسا لأهل الآثار، وحملة الأخبار، ولا متردّدا إلى المعلّم منهم، ولا كان ممّن يقرأ، فيجوز أن يقع إليه كتاب فيأخذ منه، علم أنّه لا يصل إلى علم ذلك، إلّا بتأييد من جهة الوحي.
ومنها: الوفاء بالوعد المدرك بالحسّ في العيان، في كل ما وعد الله سبحانه، وينقسم إلى أخباره المطلقة، كوعده بنصر رسوله صلّى الله عليه وسلم، وإخراج الذين أخرجوه من وطنه، وإلى وعد مقيّد،
153
بشرط قوله سبحانه:
﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا﴾ ﴿وإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ وشبه ذلك.
ومنها: الإخبار عن المغيّبات في المستقبل التي لا يطّلع عليها إلا بالوحي، فمن ذلك: ما وعد الله سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلم، أنّه سيظهر دينه على الأديان بقوله تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ الآية، ففعل ذلك، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - إذا أغزى جيوشه عرّفهم ما وعدهم الله تعالى في إظهار دينه، ليثقوا بالنصر، وليستيقنوا بالنجح، وكان عمر يفعل ذلك، فلم يزل الفتح يتوالى شرقا، وغربا، برّا، وبحرا. قال الله تعالى:
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ وقال:
﴿لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ وقال:
﴿وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ﴾ وقال:
﴿الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣)﴾ فهذه كلّها أخبار عن الغيوب التي لا يقف عليها إلّا ربّ العالمين، أو من أوقفه عليها ربّ العالمين، فدلّ على أنّ الله تعالى قد أوقف عليها رسوله؛ لتكون دلالة على صدقه.
ومنها: ما تضمنه القرآن من العلم الذي هو قوام جميع الأنام في الحلال والحرام وفي سائر الأحكام.
ومنها: الحكم البالغة التي لم تجر العادة بأن تصدر في
154
كثرتها، وشرفها من آدميّ.
ومنها: التناسب في جميع ما تضمنه ظاهرا، وباطنا من غير اختلاف. قال الله تعالى:
﴿وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾.
قلت: فهذه عشرة أوجه ذكرها علماؤنا - رحمهم الله تعالى -، وزاد النظام، وبعض القدرية حادي عشرها، وهو: أنّ وجه الإعجاز: هو المنع من معارضته، والصّرفة عند التحدّي بمثله، وأنّ المنع، والصرفة هو المعجزة دون ذات القرآن، وذلك أنّ الله تعالى صرف هممهم عن معارضته، مع تحديهم بأن يأتوا بسورة من مثله، وهذا فاسد؛ لأنّ إجماع الأمة قبل حدوث المخالف، على أنّ القرآن هو المعجز. فلو قلنا: إن المنع، والصرفة هو المعجز، لخرج القرآن عن أن يكون معجزا، وذلك خلاف الإجماع، وإذا كان كذلك، علم أنّ نفس القرآن هو المعجز؛ لأن فصاحته، وبلاغته أمر خارق للعادة، إذ لم يوجد قطّ كلام على هذا الوجه، فلمّا لم يكن ذلك الكلام مألوفا معتادا منهم، دلّ على أنّ المنع، والصرفة لم يكن معجزا. واختلف من قال بهذه الصرفة على قولين:
أحدهما: أنّهم صرفوا عن القدرة، ولو تعرضوا له لعجزوا عنه.
الثاني: أنّهم صرفوا عن التعرّض له مع كونه في مقدورهم، ولو تعرضوا له لجاز أن يقدروا عليه. قال: ابن عطيّة: وجه
155
التحدّي في القرآن، إنّما هو بنظمه، وصحة معانيه، وتوالي فصاحة ألفاظه. ووجه إعجازه: أن الله تعالى قد أحاط بكل شيء علما، وأحاط بالكلام كلّه علما، فعلم بإحاطته أيّ لفظة تصلح أن تلي الأولى، وتبيّن المعنى بعد المعنى، ثم كذلك من أوّل القرآن إلى آخره، والبشر معهم الجهل، والنسيان، والذهول. ومعلوم ضرورة: أنّ بشرا لم يكن محيطا قطّ، فبهذا جاء نظم القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، وبهذا النظر يبطل قول من قال: أن العرب كان في قدرتها، أن تأتي بمثل القرآن في الغاية القصوى من الفصاحة، فلمّا جاء محمد صلّى الله عليه وسلم صرفوا عن ذلك، وعجزوا عنه.
والصحيح: أنّ الإتيان بمثل القرآن، لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين، ويظهر لك قصور البشر، في أنّ الفصيح منهم يضع خطبة، أو قصيدة يستفرغ فيها جهده، ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا، ثم تعطى لآخر بعده، فيأخذها بقريحة جامّة، فيبدل فيها وينقح، ثم لا تزال بعد ذلك فيها مواضع للنظر، والبدل. وكتاب الله تعالى، لو نزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب، أن يوجد أحسن منها لم يوجد. ومن فصاحة القرآن: أنّ الله جلّ ذكره، وثناؤه، ذكر في آية واحدة: أمرين، ونهيين، وخبرين، وبشارتين، وهو قوله تعالى:
﴿وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ الآية، وكذلك فاتحة سورة المائدة أمر بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلّل تحليلا عامّا، ثم استنثى استثناء بعد استثناء ثمّ أخبر عن حكمته، وقدرته، وذلك مما لا يقدر عليه إلّا الله سبحانه وتعالى. وأنبأ سبحانه: عن الموت، وحسرة الفوت، والدار الآخرة، وثوابها، وعقابها، وفوز
156
الفائزين، وتردّي المجرمين، والتحذير عن الاغترار بالدنيا، ووصفها بالقلّة، بالإضافة إلى دار البقاء، بقوله تعالى:
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ﴾ الآية، وأنبأ أيضا:
عن قصص الأوّلين، والآخرين، ومآل المفترين، وعواقب المهلكين في شطر آية، وذلك في قوله تعالى:
﴿فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا﴾ وأنبأ جلّ وعزّ: عن أمر السفينة، وإجرائها، وإهلاك الكفرة، واستقرار السفينة، واستوائها، وتوجيه أوامر التسخير إلى الأرض، والسماء بقوله عزّ وجلّ:
﴿وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها﴾ إلى قوله:
﴿وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ إلى غير ذلك، فلمّا عجزت قريش عن الإتيان بمثله، وقالت: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلم تقوّله، أنزل الله تعالى:
﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤)﴾ ثم أنزل تعجيزا أبلغ من ذلك، فقال:
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ﴾ فلما عجزوا، حطّهم عن هذا المقدار إلى مثل سورة من السور القصار، فقال جلّ ذكره:
﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ﴾ فأفحموا عن الجواب، وتقطّعت بهم الأسباب، وعدلوا إلى الحروب، والعناد، وآثروا سبي الحريم، والأولاد، ولو قدروا على المعارضة لكان أهون كثيرا، وأبلغ في الحجة، وأشدّ تأثيرا، هذا مع كونهم أرباب البلاغة، واللّحن، وعنهم تؤخذ الفصاحة، واللّسن، فبلاغة القرآن في أعلى طبقات الإحسان، وأرفع درجات الإيجاز، والبيان، بل تجاوزت حدّ الإحسان،
157
والإجادة إلى حيز الإرباء، والزيادة. هذا رسول الله صلّى الله عليه وسلم مع ما أوتي من جوامع الكلم، واختصّ به من غرائب الحكم، إذا تأملت قوله صلّى الله عليه وسلم في صفة الجنان، وإن كان في نهاية الإحسان، وجدته منحطّا عن رتبة القرآن، وذلك في قوله عليه السلام:
«فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» فأين ذلك من قوله عزّ وجل:
﴿وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ﴾ وقوله:
﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾. هذا أعدل وزنا، وأحسن تركيبا، وأعذب لفظا، وأقلّ حروفا، على أنه لا يعتبر إلّا في مقدار سورة، أو أطول آية؛ لأنّ الكلام كلّما طال اتسع فيه مجال المتصرّف، وضاق المقال على القاصر المتكلّف، وبهذا قامت الحجة على العرب، إذ كانوا أرباب الفصاحة، ومظنة المعارضة، كما قامت الحجة في معجزة عيسى عليه السلام على الأطباء، ومعجزة موسى عليه السلام على السحرة، فإنّ الله سبحانه؛ إنّما جعل معجزات الأنبياء عليهم السلام بالوجه الشهير، أبرع ما يكون في زمان النبيّ، الذي أراد إظهاره، فكان السحر في زمان موسى عليه السلام قد انتهى إلى غايته، وكذلك الطبّ في زمان عيسى عليه السّلام، والفصاحة في زمان محمد صلّى الله عليه وسلم.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع، والمآب، ومنه نرتجي قبول المتاب، عن كل ما وقع في السّطور، والكتاب، والحمد لله على ما حبانا، والشكر له على ما أولانا، وأسأله أن يديم نفعه بين عباده، ويردّ عنه جدل منكره، وجاحده،
158
ويطمس عنه عين كائده، وحاسده، والمرجو ممّن اطّلع عليه، وصرف وجهه إليه، بعين القبول، والرغبة لديه، أن يصلح خطأه، وسقطته، ويزيل زلله، وهفوته، بعد التأمّل، والإمعان، لا بمجرّد النظر، والعيان؛ لأنّ الإنسان مركز الجهل، والنسيان، لا سيما حليف البلاهة والتوان؛ ليكون ممن يدفع السيئة بالحسنة، لا ممنّ يجازي الحسنة بالسيّئة، علّمنا الله وإيّاكم علوم السالفين، وجنّبنا وإيّاكم بدع الخالفين، وأدّبنا وإيّاكم بآداب الأخيار، وأذاقنا وإيّاكم كؤوس المعارف والأسرار.
اللهمّ ربّنا! يا ربّنا! تقبّل منّا أعمالنا، وأصلح أقوالنا وأفعالنا إنّك أنت السميع العليم! وتب علينا يا مولانا إنّك أنت التوّاب الرحيم! وجد علينا ببحار فيضك إنّك أنت الجواد الكريم! وصلى الله وسلّم على سيّدنا ومولانا، محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين (١).
159
شعرٌ
وما من كاتبٍ إلّا سيفنى | ويبقى الدهر ما كتبت يداه |
فلا تكتب بكفّك غير شيء | يسرّك في القيامة أن تراه |
آخر
أجلّ ما كسبت يد الفتى قلم | وخير ما جمعت يداه الكتب |
إلى هنا جفّت الأقلام، وكلّت اللّجام بيد الفقير إلى رحمة ربه القدير، سُمّي محمد الأمين، الهرري، نزيل مكة المكرّمة، جوار الحرم الشريف، أدام الله سبحانه شرفها، وشرّف من شرّفها، من جميع الخدم، والزائرين، آمين يا ربّ العالمين.
* * *
160
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
تأليف
الشيخ العلامة محمد الأمين بن عبد الله الأرمي العلوي الهرري الشافعي
المدرس بدار الحديث الخيرية في مكة المكرمة
إشراف ومراجعة
الدكتور هاشم محمد علي بن حسين مهدي
خبير الدراسات برابطة العالم الإسلامي - مكة المكرمة
«المجلد الأول»
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الأولى
١٤٢١ هـ - ٢٠٠١ م
دار طوق النجاة
بيروت - لبنان
2
تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن
[١]
3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
4
شعر
بورك حدائق الرّوح والريحان | كما بورك جنا الزّيتون والرمّان |
كتاب حوى من جنا التّفسير أفنانا | فالحمد للمولى على ما قد حبانا |
كتاب لو يباع بوزنه ذهبا | لقد كان البائع فيه المغبونا |
آخر
بلاد الله واسعة فضاء | ورزق الله في الدّنيا فسيح |
فقل للقاعدين على هوان | إذا ضاقت بكم الأرض فسيحوا |
آخر
سافر تجد عوضا عمن تفارقه | وانصب فإن اكتساب المجد في النصب |
فالأسد لولا فراق الخيس ما افترست | والسّهم لولا فراق القوس لم يصب |
آخر
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة | وأهلي وإن ضنّوا عليّ كرام |
المجلد الأول، من تفسير حدائق الروح والريحان، على الحزب الأول من القرآن الكريم ولعل مؤلفه قصد أوّلا: أن يخص كل حزب من الأحزاب الستين بمجلد، فيكون الكتاب إحدى وستين جلدة مع المقدمة.
فائدة: قال مؤلفه وكان التاريخ الشروعى لتفسيرنا هذا مع التوائق والمعائق بتاريخ ٢/ ١/ ١٤٠٦ هـ وكان التاريخ الانتهائي منه مع المقدمة بتاريخ ١/ ١٠/ ١٤١٧ هـ
فلله الحمد ما أسدى وأولى | ونعم المولي ونعم المولى |
5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
نحمدك يا فارق الفرقان، ومنزل القرآن بالحكمة والبيان، على عبده محمد صلّى الله عليه وسلّم ليكون للعالمين نذيرا، ولطريق الحق سراجا منيرا، كتابا كافلا ببيان الأحكام، متوشّحا ببيان الحلال من الحرام، قاطعا للخصام، شافيا لصنوف السقام، مرهما مجربا لكل الأوهام، العروة الوثقى لمن تمسك بها، والجادة الواضحة لمن سلكها، فأي كلام يستحق من التعظيم، ما يستحقه كلام الرب الحكيم، كتاب أعجز الفصحاء، وأفحم عن دركه البلغاء، فإن فصاحتهم وإن طالت ذيولها، وبلاغتهم وإن سالت سيولها، فإنها تتقاصر عن درك أوصافه، وبلوغ أدنى أطرافه، فالاعتراف بالعجز عن القيام بما يستحقّه من التقدير والإعظام، أولى وأحرى لجميع الأنام، وأوفق بما يقتضيه الحال والمقام، وكيف لا، فإنه كلام من لا تدركه الأوهام، ولا تحيط بوصفه الأفهام.
ولقد صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حيث قال: فيما أخرجه الترمذي، وحسّنه من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«فضل كلام الله على سائر الكلام، كفضل الله على خلقه» فإنه كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
أمر فيه وزجر، وبشر فيه وأنذر، ذكر فيه المواعظ لمن يتذكر، وضرب الأمثال لمن يتدبر، وقص فيه القصص لمن يعتبر، وذكر فيه دلائل التوحيد لمن يتفكر، ثم لم يرض منا بسرد حروفه، بدون حفظ حدوده، ولا بتجويد كلماته،
7
بدون العمل بمحكماته، ولا بتلاوته بلا تدبر قراءته، ولا بمجرد دراسته، بلا تعلم حقائقه، وتفهم دقائقه، ولا وصول إلى هذه المقاصد منه، إلا بدراية تفسيره وأحكامه، ومعرفة حلاله وحرامه، وتناسق آياته، وأسباب نزوله وأقسامه، والوقوف على ناسخه ومنسوخه، والتطلّع على خاصه وعامّه، فإنه أرسخ العلوم أصلا، وأسبغها فرعا وفصلا، وأكرمها نتاجا، وأنورها سراجا، فلا شرف إلا وهو السبيل إليه، ولا خير إلا وهو الدالّ عليه، وقد قيض الله سبحانه وتعالى له رجالا موفقين، وبالحق ناطقين، وللبدع قامعين، وللسنن ناشرين، وللتفسير متقنين، حتى صنفوا في سائر علمه المصنفات، وجمعوا شوارد فنونه المتفرقات، كلّ على قدر فهمه، ومبلغ علمه فشكر الله تعالى سعيهم، ورحم أسلافهم وأخلافهم، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة من أقر بربوبيته، وصمم بوحدانيته، وصدق بكتابه، واقتدى بمحكمه، وآمن بمتشابهه، وقال بما قال الراسخون منا، آمنا به كل من عند ربنا.
وأشهد أن سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم عبده ورسوله، وصفيه وخليله. أرسله رحمة للعالمين، ومبيدا للعدا والكافرين، أنزل عليه الكتاب المستبين، والفرقان المبين، نورا هدى به من الضلالة، وأنقذ به من الجهالة، حكم بالرضوان لمن اتبعه، وبالخسران لمن أعرض عنه بعد ما سمعه، عجز الخلائق عن معارضته، حين تحداهم على أن يأتوا بسورة من مثله.
اللهم يا ذا الجود والإنعام، ويا ذا الجلال والإكرام، صلّ وسلم أفضل الصلاة وأزكى السلام، على سيدنا ومولانا محمد من أرسلته رحمة للأنام، وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته وأهل بيته السادات الكرام، صلاة وسلاما أرقى بهما مراقي الإخلاص،
وأنال بهما غاية الخلاص، دائمين بدوامك، باقيين ببقائك، عدد ما أحاط به علمك، وجرى به قلمك.
أما بعد: فإن علم التفسير، لما كان أعظم العلوم مقدارا، وأرفعها شرفا ومنارا، ورئيس العلوم الدينية ورأسها، ومبنى قواعد الشرع وأساسها، عالي القصور والبنيان، وسيع الرحب والميدان، طالما رغبت في الدخول من أبوابه،
8
متطفلا للقعود في محرابه، لأكون متشبها بالفرسان من أحزابه، وممتصّا من بقية شرابه، وإن لم أكن من فرسان ميدانه، متمثلا بما قال الأول:
إن لم تكونوا مثلهم فتشبّهوا... إن التشبّه بالكرام فلاح
ومتسرّقا بما قال الآخر:
تطالبني بخدمة القرآن نفسي... وفيها قرّتا بصري وسمعي
فقلت لها: التفاسير ليس تحصى... وما رمتيه يقصر عنه وسعي
على أنه لا يليق لتعاطيه، والتصدّي للتكلم فيه، إلا من برع في العلوم الدينية كلها، أصولها وفروعها، وفاق في الصناعات العربية، والفنون الأدبية، بأنواعها وأسرها، فتردّدت في ذلك زمانا طويلا خوفا من الدخول في قوله صلّى الله عليه وسلّم:
«من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار» وفي رواية:
«من قال في القرآن برأيه» أخرجه الترمذي.
وفي قوله صلّى الله عليه وسلّم:
«من قال في كتاب الله عز وجل برأيه فأصاب فقد أخطأ» أخرجه أبو داود والترمذي. فلما اشتد عزمي، وغلب سهري على نومي، ناداني منادي القلم، شاربا من مداد الكرم، أما تسمح أيها المهين، ويا سمي محمد الأمين، بخدمة كتاب ربك المتين، بما عندك من قطرات الفنون، فأجبته بالشروع فيها مشمّرا عن ساق الجد والاجتهاد، راجيا من الله سبحانه وتعالى المعونة والإمداد، من الفتوحات الإلهية، والفيضات الربانية، والمعارف الصمدانية، فتصديت لها بشرح يذكر تناسبه، وينقل أسبابه، ويفك تراكيبه، ويحل معانيه، ويعرّف مبانيه، ويبيّن تصاريفه، ويفصح بلاغته وفصاحته، ويكشف محاسنه وبداعته، وسميته
«حدائق الرّوح والرّيحان، في روابي علوم القرآن».
والله الكريم أسأل طوله وفضله، والتوفيق لما هو المعنى عنده، وأن يجعل في عمري البركة إلى أن أكمّله، لأنه قد مضى منه معظمه، ونونه وواوه، فلم يبق منه إلا درديّه وعلله، ويصرف عني العوائق والمعائق إلى أن أتممه، إنه وليّ التوفيق، والهادي إلى أصوب الطريق.
9
والمرجو ممن اطلع عليه، وصرف وجهه إليه، أن يصلح خلله، ويزيل زلله، بعد التأمل والإمعان، بقلم الإنصاف والإحسان؛ لأن الإنسان مركز الجهل والنسيان، لا سيما حليف البله والبلاهة والتوان، وأسأل الله الكريم، أن ينفع به النفع العميم، لكل من تلقاه بقلب سليم، وأن يفتح على آخذه، وقاصده، باب فيضه وإمداده، وأن يطمس عنه عين حاسده، ويخرس عنه لسان كائده، إنه هو المولى الرقيب، والرب القريب المجيب، والمنعم الجواد الكريم، والبر الرحمن الرحيم، ولنبدأ قبل الشروع في المقصود، بذكر مبادىء الفن والحدود، ليكون الطالب بها بصيرا، وفيما بصدده خبيرا، وها أنا أستمد من الله التوفيق، والهداية لأقوم الطريق، في كتابة هذا الشرح والتعليق، فأقول وقولي هذا: هذه مقدّمة، رب أكرمني بالنهاية كما وفقتني بالبداية.
والله أعلم
* * *
10
مقدمة في مبادىء فن التفسير
ينبغي لكل شارع في فن، أن يعرف المبادىء العشرة ليكون على بصيرة فيه، وإلا صار كمن ركب متن عمياء، وخبط خبط ناقة عشواء، وتلك العشرة هي المجموعة في قول بعضهم:
إنّ مبادىء كلّ فن عشره | الحدّ والموضوع ثمّ الثمره |
وفضله ونسبة والواضع | والاسم الاستمداد حكم الشارع |
مسائل والبعض بالبعض اكتفى | ومن درى الجميع حاز الشرفا |
فالآن نشرع في فنّ التفسير فنقول:
١ - حدّه لغة: الكشف والبيان، واصطلاحا: علم يعرف به معاني كلام الله بحسب الطاقة البشرية.
٢ - وموضوعه: آيات القرآن من حيث فهم معانيها.
٣ - وثمرته: أي فائدته: معرفة معاني كلام الله تعالى على الوجه الأكمل.
٤ - وفضله: فوقانه على سائر العلوم؛ لأنه أصل العلوم الشرعيّة.
٥ - ونسبته: تباينه لسائر العلوم.
٦ - وواضعه: الراسخون في العلم، من عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الآن على التحقيق، كما شهد الله بذلك بقوله:
﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ﴾ الآية.
٧ - واسمه: علم التفسير.
٨ - واستمداده: من الكتاب والسنة والآثار وكلام الفصحاء من العرب العرباء.
٩ - وحكمه: الوجوب الكفائيّ.
11
١٠ - ومسائله: قضاياه من حيث الأمر والنهي والموعظة إلى غير ذلك.
١١ - وغايته: الفوز بسعادة الدارين، أمّا في الدنيا: فبامتثال الأوامر واجتناب النواهي، وأما في الآخرة: فبالجنة ونعيمها، ولذلك يقال له:
«اقرأ وارق» كما في الحديث.
والله أعلم
* * *
12
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
فصل في مباحث الاستعاذة
في الاستعاذة مباحث:
الأول في لفظها: فالمختار في لفظها عند الجمهور (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) لموافقة قوله تعالى:
﴿فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾.
وبه قال أبو حنيفة والشافعي، وقال أحمد: الأولى أن يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم) جمعا بين هذه الآية وبين قوله تعالى:
﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾. وقال الثوري والأوزاعي: الأولى أن يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إنّ الله هو السميع). ويؤيّد قول الجمهور: ما روي (١) عن ابن مسعود أنه قال: قلت: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال لي النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«يا ابن أمّ عبد (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، هكذا أقرأني جبريل عن اللوح عن القلم».
والثاني في حكمها: وأمّا حكمها: فقد (٢) اتفق الجمهور على أنّ الاستعاذة سنّة في الصلاة، فلو تركها لم تبطل صلاته، سواء تركها عمدا أو سهوا، ويستحبّ لقارىء القرآن خارج الصلاة أن يتعوذ أيضا. وفي
«القرطبي»: وحكى النقاش، عن عطاء: أنّ الاستعاذة واجبة في صدر كلّ قراءة في الصلاة وغيرها، واختلفوا في الاستعاذة في الصلاة، وكان ابن سيرين والنخعيّ وقوم يتعوّذون في الصلاة في كلّ ركعة، ويمتثلون أمر الله في الاستعاذة على العموم، وأبو حنيفة والشافعيّ يتعوذّان في الركعة الأولى من الصلاة، ويريان قراءة الصلاة كلها كقراءة
13
واحدة، ومالك لا يرى التعوّذ في الصلاة المفروضة، ويراه في قيام رمضان بعد القراءة. انتهى. وفي
«الخازن» دليل الوجوب ظاهر قوله تعالى:
﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾، والأمر للوجوب، وأنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم واظب على التعوذ فيكون واجبا. ودليل الجمهور: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يعلّم الأعرابيّ الاستعاذة في جملة أعمال الصلاة، وتأخير البيان عن وقته غير جائز. وأجابوا عن قوله تعالى:
﴿فَاسْتَعِذْ﴾ بأنّ معناه عند جماهير العلماء: إذا أردت القراءة فاستعذ، كقوله:
﴿إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا﴾ معناه: إذا أردتم القيام إلى الصلاة. وأجابوا أيضا، عن مواظبة النبي صلّى الله عليه وسلّم: بأنّه صلّى الله عليه وسلّم واظب على أشياء كثيرة من أفعال الصلاة ليست بواجبة، كتكبيرات الانتقالات والتسبيحات في الصلاة، فكان التعوّذ مثلها، وأجمع العلماء قاطبة على أنّ التعوذ ليس من القرآن ولا آية منه.
والثالث في وقتها: وأمّا وقتها: فهو قبل القراءة عند الجمهور، سواء كان في الصلاة أو خارجها. وحكي عن النخعيّ: أنّه بعد القراءة؛ لظاهر قوله تعالى:
﴿فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾ أي: إذا فرغت من قراءة القرآن فاستعذ بالله، وهو قول داود وإحدى الروايتين عن ابن سيرين. حجة (١) الجمهور: ما روي عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قام إلى الصلاة بالليل كبّر ثمّ يقول:
«سبحانك اللهمّ وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدّك ولا إله غيرك»، ثمّ يقول:
«لا إله إلّا الله ثلاثا»، ثمّ يقول:
«الله أكبر كبيرا ثلاثا، أعوذ بالله السميع العليم؟
من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه». همزه: وسوسته. نفخه: كبره. نفثه:
شعره. رواه أبو داود. وهذا الحديث: نصّ في أنّ التعوذ قبل القراءة.
والرابع في معناها: وأما معناها: فالاستعاذة لغة: الالتجاء إلى الغير والاعتصام به، وشرعا: الالتجاء إلى الله والالتصاق بجانبه من شرّ كل ذي شرّ، انتهى من
«الخازن» و
«ابن كثير» بتصرف. وقال ابن كثير: ومعنى: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) أي: أستجير (٢) بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرّني في
14
ديني أو دنياي أو يصدّني عن فعل ما أمرت به أو يحثّني على فعل ما نهيت عنه، فإنّ الشيطان لا يكفّه عن الإنسان إلّا الله تعالى، انتهى منه. ومعنى: (أعوذ بالله) ألتجىء إليه، وأمتنع به مما أخشاه، أو أستجير، أو أستغيث، من شرّ الشيطان، أي: من ضرر الشخص المبعد من رحمة الله، (الرجيم) أي: المطرود الملعون عند الله والملائكة والناس أجمعين. وإنما (١) لم يقيّد المستعاذ منه بشيء من قبائحه ومضارّه، كالهمز، واللمز، واللمس، والوسوسة، والنزعة، وغيرها؛ لتذهب الهمّة كلّ مذهب ليستعاذ من شرّه عموما.
والخامس في إعرابها: وأما إعراب هذه الجملة فتقول فيه: (أعوذ): فعل مضارع مرفوع بالضمّة الظاهرة، وفاعله ضمير مستتر فيه وجوبا لإسناده إلى المتكلم، تقديره: أنا، يعود على المستجير، والجملة الفعلية مستأنفة استئنافا نحويّا، لا محلّ لها من الإعراب. (بالله): جار ومجرور، متعلّق بأعوذ، (من الشيطان): جار ومجرور، متعلّق بأعوذ أيضا، وجوّز ذلك: اختلاف لفظهما ومعناهما، (الرجيم): صفة ذمّ للشيطان، مجرور بالكسرة الظاهرة.
والسادس في مفرداتها وتصاريفها: وأمّا مفرداتها وتصاريفها فتقول في بيانهما: الاستعاذة مصدر قياسيّ لاستعوذ، معناه: الالتجاء والاعتصام، كما مرّ آنفا. يقال: استعاذ يستعيذ استعاذة إذا تحصّن بشيء من شيء. وأصل الاستعاذة استعواذ، نقلت حركة الواو إلى الساكن قبلها فقلبت الواو ألفا لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها الآن، فالتقى ساكنان، وهما: ألف عين الكلمة وألف الاستفعال فحذفت ألف الاستفعال لالتقاء الساكنين، وعوضوا عنها التاء فصار استعاذة بوزن استفعالة، وهو أجوف واويّ؛ لأنّه من عاذ، يعوذ، عوذا، كقال:
يقول، قولا. والعوذ (٢) والعياذ: مصدران كاللّوذ واللّياذ والصوم والصيام. وقول القائل: (أعوذ): إخبار عن فعله، وهو في التقدير سؤال الله عزّ وجلّ من فضله،
15
وفي العدول إلى لفظ الخبر فائدة التفاؤل بالوقوع، كأنّه وقع الإعاذة فيخبر عن مطاوعه. (بالله): مذهب أهل الحقائق في لفظ الجلالة عدم الاشتقاق؛ لأنه لا سبيل إلى كنه معرفته، ولذا قال السعد التفتازاني في حواشي الكشاف: اعلم أنّه كما تحيّرت الأوهام في ذاته وصفاته، فكذا في اللفظ الدالّ عليه من أنّه اسم أو صفة، مشتقّ أو غير مشتقّ، علم أو غير علم، إلى غير ذلك، وسيأتي بسط الكلام فيه في مبحث البسملة إن شاء الله تعالى. (من الشيطان) أي: (١) المبعد من رحمة الله تعالى، وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: لمّا عصى لعن وصار شيطانا، فدلّ على أنّه؛ إنّما سمّي بهذا الاسم، بعد لعن الله له. وأمّا قبله فاسمه: عزازيل أو نائل. والشيطان: من شطن إذا تباعد من الرحمة، وقيل: من شاط يشيط، إذا هلك واحترق غضبا، وهو اسم لكلّ عات متمرد من الجنّ والإنس.
وعبارة
«القرطبي» هنا (٢): الشياطين واحد الشيطان: على التكسير، والنون أصليّة؛ لأنّه من شطن إذا بعد عن الخير، وشطنت داره أي: بعدت. قال الشاعر:
نأت بسعاد عنك نوى شطون | فبانت والفؤاد بها رهين |
وبئر شطون أي: بعيدة القعر، والشطن: الحبل، سمّي به لبعد طرفيه وامتداده، وسمّي الشيطان شيطانا: لبعده عن الحقّ وتمردّه، وذلك أنّ كلّ عات متمرد من الجنّ والإنس والدّواب شيطان. قال جرير:
أيّام يدعونني الشّيطان في غزل | وهنّ يهوينني إذ كنت شيطانا |
وقيل: الشيطان مأخوذ من شاط يشيط إذا بطل، فالنون زائدة، وشاط إذا احترق، وشيّطت اللحم إذا دخنته، ولم تنضجه، واشتاط الرجل إذا احتدّ غضبا،
16
وناقة مشياط الّتي يطير فيها السمن، واشتاط إذا هلك. قال الأعشى:
قد نخضب العير من مكنون فائله | وقد يشيط على أرماحنا البطل |
أي: يهلك. ويردّ على صاحب هذا القول: أنّ سيبويه حكى أنّ العرب تقول: تشيطن فلان إذا فعل أفعال الشياطين، فهذا بيّن أنّه تفيعل من شطن، ولو كان من شاط لقالوا: تشيّط، ويردّ عليه أيضا بيت أمية بن أبي الصلت:
أيّما شاطن عصاه عكاه | ورماه في السجن والأغلال |
فهذا شاطن من شطن لا شكّ. والظاهر: أنّ المراد بالشيطان إبليس وأعوانه، وقيل: عام في كلّ متمرد عات مضلّ عن الجادّة المستقيمة من جنّ وإنس، كما قال تعالى:
﴿شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾.
(الرجيم)؛ أي (١): المرميّ من السموات بإلقاء الملائكة حين لعن. أي:
المرميّ بشهب السماء إذا قصدها، وهذه صفة للشيطان، وله في القرآن أسماء مشؤومة وصفات مذمومة، فأجمع مساويه هو الرجيم؛ لأنه جامع لجميع ما يقع عليه من العقوبات، فلذلك خصّ به الابتداء من بين تلك الأسماء والصفات.
وفي القرطبي: (الرجيم) أي: المبعد (٢) من الخير، المهان، وأصل الرجم:
الرمي بالحجارة، وقد رجمته أرجمه فهو رجيم ومرجوم، والرّجم: القتل واللّعن والطرد والشتم، وقد قيل: هذا كلّه في قوله تعالى:
﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ﴾ وقول أبي إبراهيم:
﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ﴾. وسيأتي إن شاء الله تعالى، انتهى. وعلى ما قاله القرطبي: يكون الرجيم صفة كاشفة للشيطان، ويحتمل كونه مؤسّسة، وعلى كلّ من هذه المعاني: فالرجيم فعيل إما بمعنى:
فاعل؛ لأنّه يرجم بالوسوسة والشرّ، أو بمعنى: مفعول أي: مرجوم بمعنى:
مطرود عن الرحمة وعن الخيرات وعن منازل الملأ الأعلى، أو مرجوم بالشّهب عند استراق السمع أو مرجوم بالعذاب.
17
والسابع في بلاغتها: ومن بلاغتها: العدول (١) من صيغة الإنشاء الذي هو المقصود من الكلام إلى صيغة الإخبار؛ لفائدة التفاؤل بالوقوع، كأنّه وقع الإعاذة، فيخبر عن مطاوعه؛ لأنّ مقتضى ظاهر السؤال أن يقال: أعذني يا ربّ من الشيطان الرجيم.
ومنها: الالتفات من الخطاب بقوله: أعوذ بك، إلى الغيبة بقوله: أعوذ بالله؛ لأنّ اسم الظاهر من قبيل الغيبة؛ لغرض التبرّك والتّلذّذ بلفظ الجلالة، ومنها: الإتيان بالصفة الكاشفة في قوله: (الرجيم)؛ لتأكيد معنى الموصوف.
والثامن في بيان لطيفة هذه الجملة: ومن (٢) لطائف الاستعاذة أنّ قوله:
(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) إقرار من العبد بالعجز والضعف، واعتراف من العبد بقدرة البارىء عزّ وجلّ، وأنّه هو الغنيّ القادر على دفع جميع المضرّات والآفات، واعتراف من العبد أيضا، بأنّ الشيطان عدوّ مبين، ففي الاستعاذة:
التجاء إلى الله تعالى القادر على دفع وسوسة الشيطان الغويّ الفاجر، وأنه لا يقدر على دفعه عن العبد إلّا الله تعالى. والله أعلم.
[فائدتان من الاستعاذه]
فائدتان:
الأولى: فإن قلت: ما الحكمة في الأمر بالاستعاذة عند قراءة القرآن، حيث قال تعالى في سورة النحل
﴿فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾؟.
قلت: الحكمة في الاستعاذة عندها الاستئذان، وقرع الباب؛ لأنّ من أتى باب ملك من الملوك لا يدخل إلا بإذنه، كذلك من أراد قراءة القرآن؛ إنّما يريد الدخول في المناجاة مع الحبيب، فيحتاج إلى طهارة اللسان؛ لأنّه قد تنجّس بفضول الكلام والبهتان، فيطهّره بالتعوذّ.
18
الثانية: في بيان حقيقة الشيطان، قال في (١) روضة الأخيار: الشياطين:
ذكور وإناث، يتوالدون ولا يموتون إلى النفخة الأولى، والجنّ: ذكور وإناث يتوالدون ويموتون، والملائكة: ليسوا بذكور ولا إناث، لا يموتون ولا يتوالدون، ولا يأكلون ولا يشربون، فثبت بهذا أنّ للشيطان، والجنّ حقيقة ووجودا، ولم ينكر وجود الجن إلّا شرذمة قليلة من جهّال الفلاسفة والأطبّاء ونحوهم.
حكي (٢): أنّ الإمام الغزاليّ محيي السنة كان مفتي الثقلين، فسألهم يوما عن الحوادث، قالوا: إنّ الزمخشري صنّف كتابا في التفسير وبلغ إلى النصف، فطلب منهم أن يأتوا به، فأتوه، فكتب جميع ما ألفه، ثمّ وضعوا النسخة في مكانها، فلمّا جاء الزمخشري إليه أراه إيّاه، فتعجّب الزمخشري وتحيّر وقال: إن قلت: هو لي وأنا خبّأته وما اطّلع عليه أحد غيري، فمن أين جاء هذا؟ وإن هو لغيري؛ فالتوارد في اللفظ والمعنى والوضع والترتيب في هذا القدر من الكتاب لا يقبله العقل، قال الإمام الغزالي: هو لك، وقد وصل إلينا من أيدي الجنّ، وكان الزمخشري ينكر الجن فاعترف في مجلسه.
ولا يلزم من هذا علم الجنّ بالغيب كما لا يخفى، قال تعالى:
﴿تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ﴾. ثمّ حقيقتهم عند من لم يقل بالمجردات: أجسام هوائية، وقيل: نارية قادرة على التشكّل بأشكال مختلفة، كصور الحيّات والعقارب والكلاب والإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير والطير وبني آدم، لها عقول وأفهام تقدم على الأعمال الشاقّة، كما كانوا يعملون لسليمان عليه السلام المحاريب والتماثيل والجفان والقدور. وعند من قال بالمجرّدات: فهم قسم من الملائكة، والمجرّدات: الموجودات الغير المتحيّزة، ولا الحالّة في المتحيز، والمراد بالشيطان هنا: إبليس وأعوانه كما مرّ.
ومما يدّل على تشكّلها (٣): ما روى الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله
19
قال، قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم عند الصفا وهو مقبل على شخص في صورة الفيل، وهو يلعنه، قلت: ومن هذا الذي تلعنه يا رسول الله؟ قال:
«هذا الشيطان الرجيم»، فقلت: يا عدوّ الله، والله لأقتلنّك ولأريحنّ الأمّة منك، قال: ما هذا جزائي منك، قلت: وما جزاؤك منّي يا عدوّ الله؟ قال: والله ما أبغضك أحد قطّ، إلّا شركت أباه في رحم أمّه.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - (١) قال: خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم من المسجد، فإذا هو بإبليس، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«ما الذي جاء بك إلى باب مسجدي؟» قال: يا محمد، جاء بي الله، قال:
«فلم ذا؟» قال: لتسألني عمّا شئت، فقال ابن عباس: فكان أوّل شيء سأله النبي صلّى الله عليه وسلّم الصلاة، فقال له:
«يا ملعون، لم تمنع أمتي عن الصلاة بالجماعة؟» قال: يا محمد، إذا خرجت أمّتك إلى الصلاة، تأخذني الحمّى الحارّة، فلا تندفع حتى يتفرّقوا،» وقال عليه السلام:
«لم تمنع أمّتي عن العلم والدعاء؟» قال: عند دعائهم يأخذني الصمم والعمى، فلا يندفع حتى يتفرّقوا، وقال عليه السلام:
«لم تمنع أمّتي عن القرآن»؟
قال: عند قراءتهم أذوب كالرصاص، قال:
«لم تمنع أمتي عن الجهاد»؟ قال: إذا خرجوا إلى الجهاد يوضع على قدمي قيد حتى يرجعوا، وإذا خرجوا إلى الحج أسلسل وأغلل حتى يرجعوا، وإذا همّوا بالصدقة توضع على رأسي المناشير فتنشرني كما ينشر الخشب.
وقال عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه: - (الفرق بين صلاتنا وصلاة أهل الكتاب: وسوسة الشيطان؛ لأنّه فرغ من عمل الكفار، لأنّهم وافقوه والمؤمنون يخالفونه ويحاربونه، والمحاربة تكون مع المخالفة). وقال الحسن: من استعاذ بالله على وجه الحقيقة وهو ما يكون بحضور القلب، جعل الله بينه وبين الشيطان ثلاثمائة حجاب، كلّ حجاب كما بين السماء والأرض.
وفي
«التفسير الكبير» للإمام الرازي: أنّ (أعوذ بالله): رجوع من الخلق إلى
20
الخالق، ومن الحاجة التّامّة لنفسه، إلى الغنى التام بالحق في تحصيل كلّ الخيرات ودفع كلّ الآفات، ففيه سرّ قوله تعالى:
﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾، وفيه دلالة:
على أن لا وسيلة إلى القرب من حضرة الربّ إلّا بالعجز. والعجز منتهى المقامات، انتهى.
فائدة: وفي الأثر: وأوّل ما نزل به جبريل عليه السلام، على النبي صلّى الله عليه وسلّم الاستعاذة، ثمّ البسملة، ثمّ قوله تعالى:
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾ الآيات، هكذا ذكره صاحب
«روح البيان».
والله أعلم
* * *
21
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
ولمّا فرغنا من مباحث الاستعاذة شرعنا في مباحث البسملة، وقلنا:
قال الله سبحانه جلّ وعلا:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. (١)
وحكمة تأخيرها عن الاستعاذة (١): الإشعار بأنّ باب التحلية (بالمهملة)، مؤخرّ عن باب التخلية (بالمعجمة)، وبأنّ الإقبال على الله سبحانه، والتوجه إليه، مؤخر عن الإعراض عمّا سوى الله تعالى، والأصحّ المقبول عند متأخري الحنفية: أنّ البسملة آية فذّة ليست جزءا من السورة، أنزلت للفصل بين السور والتبرّك بالابتداء بها، كما بدىء بذكرها في كلّ أمر ذي بال، وهي: مفتاح القرآن، وأول ما جرى به القلم في اللوح المحفوظ، وأول ما نزل على آدم عليه السلام.
وحكمة الابتداء بها (٢): أنّه كانت الكفّار يبدؤون بأسماء آلهتهم، فيقولون:
باسم اللات والعزّى، فوجب أن يقصد الموحّد معنى اختصاص اسم الله عزّ وجلّ بالابتداء، وذلك بتقديمه وتأخير الفعل، فلذلك قدّر المحذوف متأخرا؛ أي:
باسم الله أقرأ، أو أتلو، أو آكل، أو أشرب، أو غير ذلك مما جعلت التسمية مبدأ له.
22
فصل
وفي البسملة أبحاث:
[البحث الأول: في اختلاف العلماء في كون البسملة من (الفاتحة)، وغيرها]
الأول منها: في اختلاف العلماء في كون البسملة من (الفاتحة)، وغيرها، سوى (سورة براءة). فذهب أبو هريرة (١)، وعليّ، وابن عباس، وابن عمر، وبعض التابعين، كسعيد بن جبير، وعطاء، والزهري، وابن المبارك، وبعض فقهاء مكة، وقرّائها، ومنهم: ابن كثير، وبعض قرّاء الكوفة، وفقهائها، ومنهم:
عاصم، والكسائي، والشافعيّ، وأحمد، إلى أنّ البسملة آية من كلّ سورة من سور القرآن الكريم، ومن أدلّتهم على ذلك:
- إجماع الصحابة ومن بعدهم، على إثباتها في المصحف أوّل كل سورة عدا (سورة براءة)، مع الأمر بتجريد القرآن عن كلّ ما ليس منه، ومن ثمّ لم يكتبوا (آمين) في آخر (الفاتحة).
- وما ورد في ذلك من الأحاديث، فقد أخرج مسلم في
«صحيحه» عن أنس - رضي الله عنه - أنّه قال: بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم بين أظهرنا، إذا أغفى إغفاءة، ثمّ رفع رأسه متبسّما، فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله قال:
«نزلت عليّ آنفا سورة»، فقرأ:
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣)﴾، وذكر الحديث، وسيأتي بكماله في سورة الكوثر إن شاء الله تعالى. وروى أبو داود عن ابن عباس: (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان لا يعرف إنقضاء السورة حتى ينزل عليه
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾. وروى الدارقطنيّ عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«إذا قرأتم «الْحَمْدُ لِلَّهِ» فاقرؤوا
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾، فإنها أمّ القرآن وأمّ الكتاب والسبع المثاني، و
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ إحدى آياتها».
- وإجماع المسلمين على أنّ ما بين الدفّتين كلام الله تعالى، والبسملة
23
بينهما، فوجب جعلها منه.
- وقول أمّ سلمة رضي الله عنها: (قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (الفاتحة)، وعدّ
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ آية)، ومن أجل قولها اختلف في أنها آية برأسها، أم بما بعدها. وذهب مالك وغيره من علماء المدينة، والأوزاعي، وجماعة من علماء الشام، وأبو عمرو، ويعقوب من قرّاء البصرة - وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة - إلى أنّها آية مفردة من القرآن، أنزلت لبيان رؤوس السور والفصل بينها، فليست بآية من (الفاتحة) ولا من غيرها، ولم يختلفوا في أنها بعض آية في (سورة النمل). وذهب عبد الله بن مسعود أنها ليست من القرآن أصلا، وهو رأي بعض الحنفية، ومن أدلّتهم على ذلك: حديث أنس رضي الله عنه، قال: صلّيت خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وكانوا يستفتحون بالحمد لله ربّ العالمين، لا يذكرون
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ في أوّل قراءة، ولا في آخرها.
وعبارة الشوكاني هنا: اختلف أهل العلم، هل هي آية مستقلة في أول كلّ سورة كتبت في أولها؟ أو هي بعض آية من أول كلّ سورة، أو هي كذلك في (الفاتحة) دون غيرها، أو أنّها ليست بآية في الجميع، وإنّما كتبت للفصل، والأقوال وأدّلتها مبسوطة في موضع الكلام على ذلك.
وقد اتفقوا على أنّها بعض آية في (سورة النمل)، وقد جزم قرّاء مكة والكوفة بأنها آية من (الفاتحة)، ومن كلّ سورة، وخالفهم قرّاء المدينة، والبصرة، والشام، فلم يجعلوها آية لا من (الفاتحة)، ولا من غيرها من السور. قالوا: وإنّما كتبت للفصل، والتبرّك. وقد أخرج أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس: (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾، وأخرجه الحاكم في المستدرك. وأخرج ابن خزيمة في صحيحه عن أمّ سلمة: (أنّ رسول الله، قرأ البسملة في أول (الفاتحة) في الصلاة وغيرها آية)، وفي إسناده عمرو بن هارون البلخيّ، وفيه ضعف. وروى نحوه الدارقطنّي مرفوعا عن أبي هريرة.
24
وكما وقع الخلاف في إثباتها، وقع الخلاف في الجهر بها في الصلاة، وقد أخرج النسائي في
«سننه»، وابن خزيمة وابن حبان في
«صحيحيهما»، والحاكم في
«المستدرك»، عن أبي هريرة: (أنّه صلّى فجهر في قراءته بالبسملة، وقال بعد أن فرغ: إنّي لأشبهكم صلاة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم)، وصحّحه الدارقطني، والخطيب، والبيهقي، وغيرهم.
وروى أبو داود، والترمذي، عن ابن عباس: (أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان يفتح الصلاة ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، قال الترمذي: وليس إسناده بذاك، وقد أخرجه الحاكم في المستدرك، عن ابن عباس بلفظ، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثم قال: صحيح.
وأخرج البخاريّ في صحيحه، عن أنس، أنّه سئل عن قراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: (كانت قراءته مدّا، ثمّ قرأ
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ يمدّ
﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾، ويمدّ
﴿الرَّحْمنِ﴾، ويمدّ
﴿الرَّحِيمِ﴾.
وأخرج أحمد في
«المسند»، وأبو داود في
«السنن»، وابن خزيمة في
«صحيحه»، والحاكم في
«مستدركه» عن أمّ سلمة أنّها قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقطّع قراءته
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤)﴾، وقال الدارقطني: إسناده صحيح. واحتجّ من قال: بأنّه لا يجهر بالبسملة في الصلاة، بما في
«صحيح مسلم» عن عائشة قالت: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يفتتح الصلاة بالتكبير، والقراءة بالحمد لله رب العالمين).
وفي
«الصحيحين»، عن أنس قال: (صليت خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، فكانوا يستفتحون بالحمد لله ربّ العالمين)، ولمسلم لا يذكرون
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ في أوّل قراءة، ولا في آخرها.
وأخرج أهل السنن نحوه، عن عبد الله بن مغفّل، وإلى هذا ذهب الخلفاء الأربعة، وجماعة من الصحابة.
وأحاديث الترك وإن كانت أصحّ، ولكن الإثبات أرجح مع كونه خارجا من
25
مخرج صحيح، فالأخذ به أولى، ولا سيّما مع إمكان تأويل الترك، وهذا يقتضي الإثبات الذاتي، أعني: كونها قرآنا، والوصفي أعني: الجهر بها عند الجهر بقراءة ما يفتتح بها من السور في الصلاة. انتهى من الشوكاني.
والبحث الثاني في فضلها:
وورد في فضلها أحاديث.
منها: ما أخرجه سعيد بن منصور في سننه، وابن خزيمة في كتاب البسملة، والبيهقي، عن ابن عباس قال: (استرق الشيطان من الناس، أعظم آية من القرآن
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾).
وأخرج نحوه أبو عبيد، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان عنه أيضا.
وأخرج الدارقطني بسند ضعيف، عن ابن عمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
«كان جبريل إذا جاءني بالوحي، أوّل ما يلقي عليّ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.
وأخرج ابن أبي حاتم في «تفسيره»، والحاكم في
«المستدرك»، وصحّحه، والبيهقي في
«شعب الإيمان»، عن ابن عباس أنّ عثمان بن عفّان، سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم، عن
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾؟ فقال:
«هو اسم من أسماء الله تعالى، وما بينه وبين اسم الله الأكبر، إلّا كما بين سواد العين وبياضها من القرب».
ومنها: ما أخرجه ابن مردويه، والثعلبيّ، عن جابر قال: (لمّا نزلت
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ هرب الغيم إلى المشرق، وسكنت الريح، وهاج البحر، وأصغت البهائم بآذانها، ورجمت الشياطين من السماء، وحلف الله بعزّته، وجلاله أن لا تسمّى على شيء، إلّا بارك الله فيه).
ومنها: ما أخرجه أبو نعيم، والديلمي، عن عائشة قالت: لمّا نزلت
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ ضجّت الجبال، حتى سمع أهل مكة دويّها، فقالوا: سحر محمد الجبال، فبعث الله دخانا، حتى أظلّ على أهل مكة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«من قرأ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ موقنا، سبّحت معه الجبال، إلّا أنّه لا يسمع ذلك منها».
26
ومنها: ما أخرجه الديلميّ، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«من قرأ ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ كتب الله له بكلّ حرف أربعة آلاف حسنة، ومحا عنه أربعة آلاف سيئة، ورفع له أربعة آلاف درجة».
ومنها: ما أخرجه الخطيب في الجامع، عن أبي جعفر، محمد بن عليّ قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ مفتاح كلّ كتاب. اه. من
«الشوكاني».
ومنها: ما أخرجه ابن العربي بسنده، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: بالله العظيم، لقد حدّثني محمد المصطفى، وقال:
«بالله العظيم، لقد حدّثني جبريل»، وقال: بالله العظيم، لقد حدّثني إسرافيل، وقال: قال الله تعالى: يا إسرافيل! بعزّتي، وجلالي، وجودي، وكرمي، من قرأ
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾، متصلة بفاتحة الكتاب مرّة واحدة؛ فاشهدوا أنّي غفرت له، وقبلت منه الحسنات، وتجاوزت عنه السيئات، ولا أحرق لسانه في النار، وأجيره من عذاب القبر وعذاب النار والفزع الأكبر، ويلقاني قبل الأنبياء، والأولياء أجمعين. اه. من المناوي على
«الجامع الصغير».
وهذه الأحاديث ينبغي البحث عن أسانيدها، والكلام عليها، بما يتبيّن به حكمها بعد البحث عنها إن شاء الله تعالى. وقد شرعت التسمية في مواطن كثيرة قد بينها الشارع.
منها: عند الوضوء، وعند الذبح، وعند الأكل، والشرب، وعند الجماع، وغير ذلك.
وهذا كلّه مما يدلّ على فضلها، ومما ورد في فضلها أيضا.
حديث:
«من رفع قرطاسا من الأرض مكتوبا عليه ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ إجلالا له ولاسمه عن أن يدنّس، كان عند الله من الصديقين، وخفّف عن والديه وإن كانا مشركين».
ومما ورد في فضلها:
27
ما روي عن ابن مسعود قال: (من أراد أن ينجيه الله من الزبانية التسعة عشر؛ فليقرأ
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾؛ ليجعل الله له بكلّ حرف منها جنّة من كلّ واحد منهم، فالبسملة تسعة عشر حرفا على عدد ملائكة أهل النار، الذين قال الله فيهم: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ، وهم يقولون في كلّ أفعالهم: بِسْمِ اللَّهِ... إلخ. فمن هنالك قوتهم.
والبحث الثالث في تفسيرها ومعناها:
والأحسن أن يقدر متعلّق الباء هنا (قولوا): لأنّ هذا المقام مقام تعليم، وهذا كلام صادر عن حضرة الربّ تعالى. اه.
«جمل». وقال الطبري: إنّ الله سبحانه وتعالى، أدّب نبيه محمدا صلّى الله عليه وسلّم، بتعليمه ذكر أسمائه الحسنى أمام جميع أفعاله، وجعل
ذلك لجميع خلقه سنّة يستنّون بها، وسبيلا يتّبعونه عليها. اه.
فمعنى
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾؛ أي: اقرأ يا محمد أنت وأمّتك كتابي، حالة كونكم متبركين باسم الله الواجب الوجود، المستحقّ لجميع المحامد.
الرَّحْمنِ؛ أي: كثير الرحمة لعباده بجلائل النعم، كنعمتي الإيجاد والإيمان.
الرَّحِيمِ؛ أي: كثير الرحمة لعباده بدقائقها، كالزيادة في الجمال، والعلم، وقوّة السمع، وحدّة البصر. وقال البيضاوي: والرحمن الرحيم: اسمان بنيا للمبالغة، كالغضبان من غضب، والعليم من علم. والرحمة في اللغة: رقّة القلب، وانعطاف يقتضي التفضّل والإحسان، ومنه: الرحم لانعطافها على ما فيه.
والحكمة في تخصيص التسمية بهذه الأسماء الثلاثة؛ ليعلم العارف أنّ المستحق لأن يستعان به في جميع الأمور، هو المعبود الحقيقي الذي هو مولي النعم كلها عاجلها، وآجلها، جليلها، وحقيرها، فيتوجه بشراشره إلى جناب القدس، ويتمسّك بحبل التوفيق، ويشغل سرّه بذكره والاستغناء به عن غيره. اه. منه.
والبحث الرابع في حكم الجهر بها والإسرار:
إذا ثبت بما تقدم من الأدّلة؛ أنّ البسملة آية من (الفاتحة)، ومن غيرها من
28
السور، حيث كتبت، كان حكمها في الجهر، والإسرار حكم (الفاتحة)، فيجهر بها مع (الفاتحة) في الصلاة الجهريّة، ويسرّ بها مع الفاتحة في الصلاة السريّة.
وممن قال بالجهر بالبسملة من الصحابة: أبو هريرة، وابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، ومن التابعين فمن بعدهم: سعيد بن جبير، وأبو قلابة، والزهري، وعكرمة، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وعليّ بن الحسين، وسالم بن عبد الله، ومحمد بن كعب القرظي، وابن سيرين، وابن المنكدر، ونافع مولى ابن عمر، وزيد بن أسلم، ومكحول، وعمر بن عبد العزيز، وعمرو بن دينار، ومسلم بن خالد، وإليه ذهب الشافعي، وهو أحد قولي ابن وهب صاحب مالك، ويحكى أيضا عن ابن المبارك، وأبي ثور. وممن ذهب إلى الإسرار بها من الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وعمار بن ياسر، وابن مغفّل، وغيرهم، ومن التابعين فمن بعدهم: الحسن، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وقتادة، والأعمش، والثوري، وإليه ذهب مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وغيرهم.
وأما حجة من قال بالجهر: فقد روى جماعة من الصحابة منهم: أبو هريرة، وابن عباس، وأنس، وعلي بن أبي طالب، وسمرة بن جندب، وأمّ سلمة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، جهر بالبسملة، فمنهم من صرّح بذلك، ومنهم من فهم ذلك من عبارته.
ولم يرد في صريح الإسرار بها، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلّا روايتان:
إحداهما: ضعيفة، وهي رواية عبد الله بن مغفّل.
والأخرى: عن أنس، وهي في
«الصحيح»، وهي معلّلة بما أوجب سقوط الاحتجاج بها.
وروى نعيم بن عبد الله المجمر قال: صلّيت وراء أبي هريرة فقرأ
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾، ثمّ قرأ بأمّ القرآن، وذكر الحديث. وفيه ثم يقول إذا سلّم: (إنّي لأشبهكم صلاة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم)، أخرجه النسائي، وابن خزيمة في صحيحه. وقال: أما الجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، فقد ثبت وصحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
29
وروى الدارقطني بسنده، عن أبي هريرة. عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: (كان إذا قرأ وهو يؤمّ الناس، افتتح ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، وذكر الحديث. قال الدارقطني: إسناده كلّهم ثقات. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (كان النبي صلّى الله عليه وسلّم، يجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، أخرجه الدارقطني، وقال: ليس في رواته مجروح.
وأخرجه الحاكم، أبو عبد الله، وقال: إسناده صحيح، وليس له علّة. وفي رواية عن ابن عباس قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يفتتح الصلاة ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، أخرجه الدارقطني، وقال: صحيح ليس في إسناده مجروح. وأخرجه الترمذي وقال: ليس إسناده بذاك. قال الشيخ أبو شامة؛ أي: لا يماثل إسناده ما في الصحيح، ولكن إذا انضمّ إلى ما تقدم من الأدلة، رجح على ما في الصحيح.
وعن أنس قال: (كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يجهر بالقراءة ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)، أخرجه الدارقطني وقال: إسناده صحيح. وفيه عن محمد بن أبي السريّ العسقلاني قال: صلّيت خلف المعتمر بن سليمان، ما لا أحصي صلاة الصبح، وصلاة المغرب، فكان يجهر ببِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قبل فاتحة الكتاب، وبعدها، وسمعت المعتمر يقول: ما ألوي أن أقتدي، بصلاة أنس بن مالك، وقال أنس بن مالك: (ما ألوي أن أقتدي، بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم)، أخرجه الدارقطني وقال: كلهم ثقات. وأخرجه الحاكم، أبو عبد الله، وقال: رواة هذا الحديث عن آخرهم كلّهم ثقات.
قلت: وفي الباب أحاديث وأدلّة وإيرادات وأجوبة من الجانبين يطول ذكرها، وفي هذا القدر كفاية، وبالله التوفيق. اه. من
«الخازن».
البحث الخامس في مفرداتها، وتصاريفها:
فمنه البحث في الباء: فإن قلت (١): ما الحكمة والسر في أنّ الله تعالى جعل افتتاح كتابه بحرف الباء، واختارها على سائر الحروف لا سيّما على
30
الألف، فإنّه أسقط الألف من الاسم وأثبت مكانه الباء في
﴿بِسْمِ﴾؟.
فالجواب: إنّ الحكمة في افتتاح الله بالباء عشرة معان:
أحدها: أنّ في الألف ترفّعا وتكبّرا وتطاولا، وفي الباء انكسارا وتواضعا وتساقطا، فمن تواضع لله رفعه الله.
وثانيها: أنّ الباء مخصوصة بالإلصاق بخلاف أكثر الحروف خصوصا الألف من حروف القطع.
وثالثها: أنّ الباء مكسورة أبدا، فلمّا كانت فيها كسرة، وانكسار في الصورة، والمعنى: وجدت شرف العندية من الله تعالى، كما قال تعالى: (أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي).
ورابعها: أنّ في الباء تساقطا وتكسّرا في الظاهر، ولكن رفعة درجة، وعلوّ همة في الحقيقة، وهي من صفات الصدّيقين، وفي الألف ضدّها. أمّا رفعة درجتها: فبأنّها أعطيت نقطة، وليست للألف هذه الدرجة. وأمّا علوّ الهمة: فإنه لمّا عرضت عليها النقط ما قبلت إلّا واحدة؛ ليكون حالها كحال محبّ لا يقبل إلّا محبوبا واحدا.
وخامسها: أنّ في الباء صدقا في طلب قربة الحق؛ لأنها لما وجدت درجة حصول النقطة وضعتها تحت قدمها، وما تفاخرت بها، ولا يناقضه الجيم، والياء؛ لأنّ نقطتها في وضع الحروف ليست تحتهما؛ بل في وسطهما، وإنّما موضع النقط تحتهما عند اتصالهما بحرف آخر؛ لئلا يشتبها بالخاء، والتاء، بخلاف الباء؛ فإنّ نقطتها موضوعة تحتها سواء كانت مفردة، أو متصلة بحرف آخر.
سادسها: أنّ الألف حرف علّة بخلاف الباء.
وسابعها: أنّ الباء حرف تامّ متبوع في المعنى، وإن كان تابعا صورة، من حيث إنّ موضعه بعد الألف في وضع الحروف؛ وذلك لأنّ الألف في لفظ الباء يتبعه بخلاف لفظ الألف، فإنّ الباء لا يتبعه، والمتبوع في المعنى أقوى.
31
وثامنها: أنّ الباء حرف عامل ومتصرف في غيره، فظهر لها من هذا الوجه قدر وقدرة، فصلحت للابتداء بخلاف الألف؛ فإنّه ليس بعامل.
وتاسعها: أنّ الباء حرف كامل في صفات نفسه؛ بأنّه للإلصاق والاستعانة والإضافة، مكمّل لغيره؛ بأن يخفض الاسم التابع له، ويجعله مكسورا متصفا بصفات نفسه، وله علوّ وقدرة في تكميل الغير بالتوحيد والإرشاد، كما أشار إليه عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - بقوله: (أنا النقطة تحت الباء). فالباء له مرتبة الإرشاد والدلالة على التوحيد.
وعاشرها: أنّ الباء حرف شفوي، تنفتح الشفة به ما لا تنفتح بغيره من الحروف الشفوية؛ ولذلك كان أول انفتاح فم الذرة الإنسانية، في عهد
﴿أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ﴾ بالباء في جواب
﴿بَلى﴾، فلمّا كان الباء أول حرف نطق به الإنسان، وفتح به فمه، وكان مخصوصا بهذه المعاني، اقتضت الحكمة الإلهيّة اختياره من سائر الحروف، فاختارها ورفع قدرها، وأظهر برهانها، وجعلها مفتاح كتابه ومبتدأ لكلامه وخطابه تعالى وتقدس، كذا في التأويلات النجمية.
وأما الباء: فلا بحث فيها من جهة التصريف، كما قال ابن مالك في الخلاصة:
حرف وشبهه من الصّرف بري | وما سواهما بتصريف حري |
(اسم): اختلف علماء اللغة في اشتقاق الاسم، فذهب البصريون إلى أنّه من السموّ، وهو العلوّ؛ لأنه من سما يسمو سموا. وذهب الكوفيّون (١) إلى أنّه مشتق من السمة؛ لأنه من وسم يسم، وسما، وسمة، وهي العلامة؛ لأنه علامة على مسماه، وكلاهما صحيح من جهة المعنى. وفيه خمس لغات: اسم بكسر الهمزة، واسم بضمّها بوزن أفع، والذاهب من الواو لام الكلمة؛ لأنه من سموت، وجمعه: أسماء، وتصغيره: سميّ. قال الجوهري: وأسماء يكون جمعا
32
لهذا الوزن، وهو مثل: جذع، وأجذاع، وقفل، وأقفال. وسم بكسر السين، وسم بضمّها، وسمى بوزن هدى.
والاسم: هو واحد الأسماء العشرة التي بنوا أوائلها على السكون، فإذا نطقوا بها مبتدئين زادوا همزة توصّلا للابتداء بالساكن؛ لسلامة لغتهم من كلّ لكنة، وإذا وقعت في درج الكلام لم تفتقر إلى شيء.
وذهب أبو عبيدة، معمر بن المثنى؛ إلى أنّ لفظ (اسم) هنا صلة زائدة، واستشهدوا بقول لبيد:
إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما | ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر |
فذكر اسم زيادة؛ وإنّما أراد ثمّ السلام عليكما. واختلفوا في معنى زيادة (اسم) هنا، فقال قطرب: زيدت؛ لإجلال ذكره تعالى
وتعظيمه. وقال الأخفش:
زيدت؛ ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرّك؛ لأنّ أصل الكلام: بالله.
واختلفوا أيضا في معنى دخول الباء عليه: هل دخلت على معنى الأمر، والتقدير: ابدأ بسم الله؟ أو معنى الخبر، والتقدير: ابتدأت بسم الله، قولان:
الأول للفرّاء، والثاني للزّجّاج؛ فبسم في موضع نصب على التأويلين. وقيل:
المعنى ابتدائي بسم الله؛ فبسم في موضع رفع خبر الابتداء. وقيل: الخبر محذوف؛ أي: ابتدائي مستقر، أو ثابت بسم الله، وإذا قلت: بسم الله يكتب بغير ألف، استغناء عنها بباء الإلصاق في الخطّ واللفظ؛ لكثرة الاستعمال، بخلاف قوله:
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، فإنّها لم تحذف؛ لقلّة الاستعمال.
وعبارة البيضاوي هنا: والاسم عند أصحابنا البصريين، من الأسماء التي حذفت أعجازها؛ لكثرة استعمالها، وبنيت أوائلها على السكون، وأدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل؛ لأنّ من دأبهم أن يبتدؤا بالمتحرك، ويقفوا على الساكن، ويشهد له تصريفه على أسماء وأسامي وسمي، ومجيء سمى، كهدى لغة فيه، قال:
والله أسماك سمى مباركا | آثرك الله به إيثاركا |
33
والقلب بعيد غير مطرد، واشتقاقه من السمو عند البصريين؛ لأنّه رفعة للمسمّى وشعار له، ومن السمة عند الكوفيين، وأصله: وسم حذفت الواو، وعوضت عنها همزة الوصل؛ ليقلّ إعلاله، وردّ: بأنّ الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره في كلامهم، ومن لغاته: سم، وسم، قال:
بسم الّذي في كلّ سورة سمه
والاسم إن أريد به اللفظ؛ فغير المسمّى؛ لأنّه يتألّف من أصوات مقطّعة غير قارة، ويختلف باختلاف الأمم والأعصار، ويتعدّد تارة ويتحد أخرى، والمسمّى لا يكون كذلك. وإن أريد به ذات الشيء؛ فهو عين المسمّى، لكنّه لم يشتهر بهذا المعنى. وقوله تعالى:
﴿تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ﴾ و
﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ﴾ المراد به اللفظ؛ لأنّه كما يجب تنزيه ذاته سبحانه وتعالى، وصفاته عن النقائص، يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها، عن الرفث وسوء الأدب، أو الاسم مقحم، كما في قول الشاعر:
إلى الحول ثمّ اسم السلام عليكما
كما مرّ.
وإنما قال:
﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ ولم يقل: بالله؛ لأنّ التبرّك والاستعانة بذكر اسمه، أو للفرق بين اليمين والتيمّن، ولم تكتب الألف على ما هو وضع الخط؛ لكثرة الاستعمال، وطوّلت الباء عوضا عنها.
ولفظ
﴿اللَّهِ﴾ أصله: إله على وزن فعال، فحذفت الهمزة، وعوّض عنها الألف واللام؛ ولذلك قيل: يا آلله بالقطع، إلا أنّه يختص بالمعبود بالحق. والإله في أصله يطلق على كل معبود، سواء بحق، أم لا، ثم غلب على المعبود بالحق. واشتقاقه من أله الرجل إلهة، وألوهة، وألوهيّة بمعنى: عبد عبادة، ومنه تألّه، واستأله. وقيل: من أله إذا تحيّر؛ لأنّ العقول تتحير في معرفته، أو من ألهت إلى فلان؛ أي: سكنت إليه؛ لأن القلوب تطمئن بذكره، والأرواح تسكن إلى معرفته، أو من أله إذا فزع من أمر نزل عليه، وألهه غيره: أجاره، إذا العائذ يفزع إليه، وهو يجيره حقيقة، أو بزعمه، أو من أله الفصيل، إذا أولع بأمه، إذ
34
العباد يولعون بالتضرع إليه في الشدائد، أو من وله، إذا تحير وتخبط عقله، وكان أصله: ولاه، فقلبت الواو همزة؛ لاستثقال الكسرة عليها استثقال الضمة في وجوه، فقيل: إله كإعاء، وإشاح، وإسادة في وعاء، ووشاح، ووسادة، ويرده الجمع على آلهة دون أولهاء، وقيل؛ أصله لاه من لاه يليه ليها ولاها، إذا احتجب وارتفع؛ لأنّه سبحانه وتعالى محجوب عن إدراك الأبصار، ومرتفع عن كل شيء مما لا يليق به، ويشهد له قول الشاعر:
كحلفة من أبي رباح... يشهدها لاهه الكبّار
فكأنه سبحانه يسمى بذلك؛ لاستتاره، واحتجابه عن إدراك الأبصار، وما أجمل قول الشريف الرضي الشاعر: تاهت العقلاء في ذاته تعالى وصفاته، لاحتجابها بأنوار العظمة وتحيروا أيضا في لفظ الجلالة، كأنه انعكس إليه من تلك الأنوار أشعة بهر أعين المستبصرين، فاختلفوا: أسريانيّ هو أو عربي؟
أإسم، أو صفة؟ مشتق؟ وممّ اشتقاقه؟ وما أصله؟، أو غير مشتق؟ علم، أو غير علم؟.
وقيل: هو علم مرتجل غير مشتق عند الأكثرين، وإليه ذهب سيبويه في أحد قوليه، فهو علم لذاته خاصة؛ لأنه يوصف ولا يوصف به؛ ولأنه لا بد من اسم تجري عليه صفاته، ولا يصلح له مما يطلق عليه سواه؛ ولأنه لو كان وصفا لم يكن قول: لا إله إلّا الله توحيدا، مثل:
«لا إله إلا الرحمن»، فإنه لا يمنع الشركة.
والأظهر: أنه وصف في أصله، لكنه لما غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره، وصار له كالعلم، مثل: الثريا والصعق، أجري مجراه في إجراء الأوصاف عليه وامتناع الوصف به، وعدم تطرّق احتمال إليه؛ لأنّ ذاته من حيث هو بلا اعتبار أمر آخر حقيقي، أو غيره غير معقول للبشر، فلا يمكن أن يدل عليه بلفظ، ولأنه لو دل على مجرد ذاته المخصوص، لما أفاد ظاهر قوله سبحانه وتعالى:
﴿وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ﴾ معنى صحيحا؛ ولأنّ معنى الاشتقاق: هو كون أحد اللفظين مشاركا للآخر في المعنى والتركيب، وهو حاصل بينه وبين الأصول
35
المذكورة. وقيل: أصله: لاها بالسريانية، فعرّب بحذف الألف الأخيرة، وإدخال اللام عليه، وتفخيم لامه إذا انفتح ما قبله، أو انضم، وقيل: مطلقا. وحذف ألفه لحن تفسد به الصلاة، ولا ينعقد به صريح اليمين. وقد جاء لضرورة الشعر:
ألا لا بارك لاه في سهيل | إذا ما الله بارك في الرجال |
﴿الرَّحْمنِ﴾: صيغة فعلان في اللغة، تدل على وصف فعلي، فيه معنى المبالغة للصفات الطارئة، كعطشان، وغرثان.
﴿الرَّحِيمِ﴾: صيغة فعيل، تدلّ على وصف فعلي، فيه معنى المبالغة للصفات الدائمة الثابتة؛ ولهذا لا يستغني بأحد الوصفين عن الآخر.
والرحمن أبلغ من الرحيم؛ لأنّ زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى غالبا، كما في قطّع، وقطع، وكبّار، وكبار، وخرج بقولنا غالبا نحو: حذر، وحاذر، وتلك المبالغة تارة تؤخذ باعتبار الكميّة، وأخرى باعتبار الكيفية، فعلى الأول قيل: يا رحمن الدنيا؛ لأنّه يعم المؤمن والكافر، ورحيم الآخرة؛ لأنّه يخص المؤمن. وعلى الثاني قيل: يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الآخرة؛ لأن النعم الأخروية كلّها جسام، وأما النعم الدنيوية؛ فجليلة وحقيرة. وإنما قدم الرحمن، والقياس يقتضي الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، لتقدم رحمة الدنيا؛ ولأنّه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره تعالى؛ لأنّ معناه المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، وذلك لا يصدق على غيره تعالى، فإن من عداه فهو مستفيض بلطفه، وإنعامه، يريد به جزيل ثواب، أو جميل ثناء، أو يزيح رقة الجنسية، أو حب المال عن القلب، ثم إنه كالواسطة في ذلك؛ لأنّ ذات النعم، ووجودها، والقدرة على إيصالها، والداعية الباعثة عليه، والتمكن من الانتقام بها، والقوى التي بها يحصل الانتفاع، إلى غير ذلك من خلقه لا يقدر عليها أحد. أو لأنّ الرحمن
لما دل على جلائل النعم، وأصولها، ذكر الرحيم؛ ليتناول ما خرج منها، فيكون كالتتمة والرديف له، أو للمحافظة على رؤوس الآي.
وأمّا وصف أهل اليمامة مسيلمة الكذاب به مضافا، فقالوا: رحمن اليمامة، فمن تعنّتهم، قال شاعرهم يمدح مسيلمة الكذاب:
36
سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا | وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا |
وقد هجاه بعض المؤمنين فقال:سموت بالخبث يا ابن الأخبثين أبا | وأنت شرّ الورى لا زلت شيطانا |
والبحث السادس في بلاغتها:
فمن بلاغتها: مجاز بالحذف في متعلّق
﴿{بِسْمِ اللَّهِ﴾}، والأولى تقديره:
فعلا خاصّا مؤخرا على مذهب الكوفيين؛ لأنّ الأصل في العمل أن يكون للأفعال، ولوقوعه في القرآن، والحديث، كقوله تعالى:
﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ﴾، وكقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«باسم ربّي وضعت جنبي»، والتمسّك بالأصل أولى؛ ولأنه يفيد التجدد الاستمراري، وتقديره: اسما خاصا مؤخرا على مذهب البصريين، لأنّه يفيد الديموميّة والثبوت، كأنّما الابتداء باسم الله، حتم دائم في كل ما تمارسه من عمل، وتردّده من قول. وقد بسطنا الكلام على ذلك في كتابنا
«الباكورة الجنية في إعراب الآجرومية».
ومنها: الإيجاز بإضافة العام إلى الخاصّ في قوله:
﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾، ويسمى إيجاز قصر.
ومنها: الاستعارة المكنية التبعية، إذا جعلنا الباء للاستعانة؛ لتشبيهها بارتباط يحصل بين المستعين، والمستعان به، وإذا جعلنا الباء للإلصاق يكون في الكلام مجاز مرسل، علاقته المحليّة، نحو: مررت بزيد؛ أي: ألصقت مروري بمكان يقرب إلى زيد، لا بزيد نفسه.
والبحث السابع في إعرابها:
﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ الباء: حرف جرّ واستعانة، أو تبرّك، (اسم): مجرور بالباء، وعلامة جرّه كسرة ظاهرة في آخره. (اسم): مضاف، ولفظ الجلالة
﴿اللَّهِ﴾: مضاف إليه، مجرور على التعظيم، وعلامة جرّه كسرة ظاهرة في آخره.
﴿الرَّحْمنِ﴾: صفة أولى للجلالة، مجرور بكسرة ظاهرة في آخره.
﴿الرَّحِيمِ﴾:
37
صفة ثانية له، والجار والمجرور متعلّق بواجب الحذف؛ لشبهه بالمثل. قدّره البصريّون اسما خاصّا مؤخّرا، تقديره هنا:
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ قراءتكم كتابي، أي: حاصلة ببسم الله... الخ. وقدّره الكوفيون فعلا خاصّا مؤخرا، تقديره:
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ اقرؤوا كتابي وقد بسطنا الكلام في إعراب البسملة، وما يتعلّق به من العلل، والتقسيمات في كتابنا المذكور، فراجعه إن شئت الخوض فيه.
البحث الثامن في فوائد تتعلّق بالبسملة:
الأولى: يقال لمن قال:
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ مبسمل، وهو ضرب من النحت اللغوي.
وهو لغة: مطلق الاختصار.
واصطلاحا: أن يختصر حرف، أو حرفان، أو أكثر من كلمة، أو كلمتين، أو أكثر، ك: ح، من التحويل، و: اه، من انتهى، وإلخ: من إلى آخره.
وبسمل: من البسملة وغير ذلك مما سيأتي، وقد ورد ذلك في شعر لعمر بن أبي ربيعة، حيث قال:
لقد بسملت ليلى غداة لقيتها | فيا حبّذا ذاك الحبيب المبسمل |
قال الماورديّ: ويقال لمن قال:
﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ مبسمل، وهي لغة:
مولّدة (١). قلت: المشهور عن أهل اللغة: بسمل، قال يعقوب بن السكيت، والمطرّزي، والثعالبيّ، وغيرهم من أهل اللغة: بسمل الرجل إذا قال:
﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾. ويقال: قد أكثرت من البسملة؛ أي: من قول بسم الله، ومثله: حوقل الرجل إذا قال: لا حول ولا قوة إلّا بالله، وهلّل إذا قال: لا إله إلا الله، وسبحل إذا قال: سبحان الله، وحمدل إذا قال: الحمد لله، وحيصل إذا قال:
حيّ على الصلاة، وجعفل إذا قال: جعلت فداك، وطبقل إذا قال: أطال الله
38
بقاءك، ودمعز إذا قال: أدام الله عزك، وحيفل إذا قال: حيّ على الفلاح، ولم يذكر المطرّزيّ الحيصلة إذا قال: حيّ على الصلاة.
وهذا كله من النحت المولد، والنحت عند العرب خاصّ بالنسبة، أي:
إنّهم يأخذون اسمين، فينحتون منهما اسما واحدا فينسبون إليه، كقولهم:
حضرميّ، وعبقسيّ، وعبشسيّ: نسبة إلى حضرموت، وعبد القيس، وعبد شمس، على أنّ الفراء ذكر عن بعض العرب معنى: عشرة فأحدهنّ لي: صيّرهن لي أحد عشر. وقال الفرّاء: معنى اللهم: يا الله أمّنا بخير؛ أي: اقصدنا بخير، فكثرت في كلام العرب. ونحت العرب من اسمين، فقيل عن الصّلدم: إنه من الصّلد والصّدم، ومنه: بلحارث لبني الحارث، ولعلّ الحقلد: وهو السّيّء الخلق، والثقيل الروح منحوت من الحقد، والثقل. ونحتوا من اسم وحرف، فقالوا: من لا شيء: تلاشي، ونحتوا من حرفين، فقال الخليل: إنّ كلمة (لن) منحوتة من (لا) و (أن)، وإنها تضمنت بعد تركيبها، معنى لم يكن في أصليها مجتمعين.
وإنما أوردنا هذه الأقوال؛ لا لأنها قاطعة فهي موضع خلاف، كما رأيت، ولكننا استأنسنا بها؛ لتتوافر همّ المشتغلين باللغة على النحت، ففيه ثروة جديدة للغتنا، وتسهيل لكثير من التعابير الحديثة التي نفتقر إليها.
والثانية: كانت (١) قريش قبل البعثة تكتب في أوّل كتابها باسمك اللهمّ، وكان أميّة بن أبي الصلت، أوّل من كتب باسمك اللهمّ، إلى أن جاء الإسلام، ونزلت
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾. وروى محمد بن سعد في طبقاته: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ كان يكتب كما تكتب قريش باسمك اللهمّ، حتى نزل قوله تعالى:
﴿وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها﴾ فكتب باسم الله، حتى نزل قوله تعالى:
﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ﴾، فكتب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ، حتى نزل قوله تعالى:
﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾، فكتب
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾.
39
والثالثة: افتتح (١) الله سبحانه وتعالى كتابه الكريم بالبسملة؛ إرشادا لعباده أن يفتتحوا أعمالهم بها، وقد ورد في الحديث:
«كلّ أمر ذي بال لم يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر»؛ أي: مقطوع الذّنب ناقص. وقد كان العرب قبل الإسلام، يبدؤون أعمالهم بأسماء آلهتهم، فيقولون: باسم اللات، أو باسم العزّى، وكذلك كان يفعل غيرهم من الأمم، فإذا أراد امرؤ منهم أن يفعل أمرا؛ مرضاة لملك، أو أمير يقول: أعمله باسم فلان، إنّ ذلك العمل لا وجود له، لولا ذلك الملك، أو الأمير.
وإذا: فمعنى ابتدىء عملي باسم الله الرحمن الرحيم: أنني أعمله بأمر الله، ولله، لا لحظّ نفسي وشهواتها، ويمكن أن يكون المراد: أنّ القدرة التي أنشأت بها العمل هي من الله، ولولا ما أعطاني من القدرة لم أفعل شيئا، فأنا أبرأ من أن يكون عملي باسمي بل هو باسمه تعالى، لأنني أستمدّ القوة والعون منه، ولولا ذلك لم أقدر على عمله. وإذا فمعنى البسملة التي جاءت أول الكتاب الكريم: أنّ جميع ما في القرآن من الأحكام، والشرائع، والأخلاق، والآداب، والمواعظ هو لله، ومن الله، ليس لأحد غيره فيه شيء.
وكأنّه قال: اقرأ يا محمد! هذه السورة ب
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾؛ أي: اقرأها على أنّها من الله لا منك، فإنّه أنزلها عليك؛ لتهديهم بها إلى ما فيه خيرهم، وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وكذلك كان النبي صلّى الله عليه وسلّم، يقصد من تلاوتها على أمّته؛ أنه يقرأ عليهم هذه السورة باسم الله لا باسمه؛ أي: أنّها من الله لا منه، فإنّما هو مبلّغ عنه تبارك وتعالى، كما جاء في قوله:
﴿وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ﴾.
والرابعة: ندب (٢) الشرع إلى ذكر البسملة في أوّل كلّ فعل، كالأكل،
40
والشرب، والنحر، والجماع، والطهارة، وركوب البحر، إلى غير ذلك من الأفعال. قال الله تعالى:
﴿فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ﴾، وقال:
﴿ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها﴾. وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أغلق بابك، واذكر اسم الله، واطفىء مصباحك، واذكر اسم الله، وخمّر إناءك، واذكر اسم الله، وأوك سقاءك، واذكر اسم الله»، وقال:
«لو أنّ أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنا، فإنّه إن يقدّر بينهما ولد في ذلك لم يضرّه شيطان أبدا».
وقال لعمر بن أبي سلمة:
«يا غلام سمّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك»، وقال:
«إنّ الشيطان ليستحلّ الطعام إلّا أن يذكر اسم الله عليه»، وقال:
«من لم يذبح باسم الله». وشكا إليه عثمان بن أبي العاص وجعا يجده في جسده منذ أسلم، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«ضع يدك على الذي يألم من جسدك وقل: بسم الله ثلاثا، وقل سبع مرّات: أعوذ بعزّة الله وقدرته من شرّ ما أجد وأحاذر»، هذا كلّه ثابت في الصحيح.
وروى ابن ماجه، والترمذي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
«ستر ما بين ما أعين الجنّ وعورات بني آدم إذا دخل أحد الكنيف أن يقول: بسم الله». وروى الدارقطني عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إذا مسّ طهوره سمّى الله تعالى ثمّ يفرغ الماء على يديه».
الخامسة: روي عن عليّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه (١) -: أنه قال: في قوله:
﴿بِسْمِ اللَّهِ﴾ شفاء من كلّ داء، وعون على كلّ دواء، وأمّا الرحمن: فهو عون لكلّ من آمن به، وهو اسم لم يسمّ به غيره تعالى، وأمّا الرحيم: فهو لمن تاب، وآمن، وعمل صالحا.
وقد فسّره بعضهم على الحروف. فروي عن عثمان بن عفّان - رضي الله عنه -: أنّه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عن تفسير
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾؟ فقال:
41
أمّا الباء: فبلاء الله، وروحه، ونصره، وبهاؤه، وأمّا السين: فسناء الله، وأما الميم: فملك الله، وأمّا الله: فلا إله غيره. وأما الرحمن: فالعاطف على البرّ والفاجر من خلقه. وأمّا الرحيم: فالرفيق بالمؤمنين خاصّة. وروي عن كعب الأحبار: أنّه قال: الباء: بهاء الله، والسين: سناؤه، فلا شيء أعلى منه، والميم: ملكه، وهو على كلّ شيء قدير، فلا شيء يعازّه.
وقد قيل: إنّ كلّ حرف هو افتتاح اسم من أسمائه، فالباء: مفتاح اسمه بصير، والسين: مفتاح اسمه سميع، والميم: مفتاح اسمه مليك، والألف: مفتاح اسمه الله، واللام: مفتاح اسمه لطيف، والهاء: مفتاح اسمه هادي، والراء:
مفتاح اسمه رازق، والحاء: مفتاح اسمه حليم، والنون: مفتاح اسمه نور، ومعنى هذا كلّه: دعاء الله تعالى عند افتتاح كلّ شيء.
إلى هنا انتهى ما يتعلّق بالاستعاذة، والبسملة في تاريخ: ٢٨/ ٢/ ١٤١٧ هـ.
والآن نريد الشروع في تفسير (الفاتحة) بعون الله سبحانه، وتوفيقه، إن شاء الله تعالى، وصلّى الله وسلّم، على سيدّنا محمد، خاتم النبيين، وعلى آله، وصحبه أجمعين، والحمد لله ربّ العالمين. آمين.
والله أعلم
* * *
42
سورة الفاتحة
[نزولها]
سورة الفاتحة مكية، نزلت بعد المدّثّر، وهو قول أكثر العلماء، وقيل: نزلت بالمدينة، وهو قول مجاهد، وقيل: نزلت مرّتين: مرّة بمكة، ومرّة بالمدينة. وسبب تكرار نزولها؛ الدلالة على شرفها وفضلها. وقيل: نزل نصفها بمكة ونصفها بالمدينة، حكاه أبو الليث السمرقندي في تفسيره، والقول (١) الأول أصحّ؛ لقوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ﴾، وهذه الآية في سورة الحجر و (الحجر) مكية بالإجماع، ولا خلاف أنّ فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنّه كان في الإسلام قطّ صلاة بغير
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ يدلّ على هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم:
«لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب».
وهي سبع آيات، وسبع وعشرون كلمة، ومائة وأربعون حرفا. وقال القرطبي: أجمعت الأمّة على أنّ فاتحة الكتاب سبع آيات، إلّا ما روي عن حسين الجعفي: أنّها ستّ آيات، وهذا شاذّ، وإلّا ما روى عن عمرو بن عبيد:
أنّه جعل
﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ آية، وهي على هذا ثمان آيات، وهذا شاذ أيضا، ويردّ هذين القولين قوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثانِي﴾، وقوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يحكيه عن ربّه:
«قسمت الصلاة».
وأجمعت الأمة أيضا على أنّها من القرآن، فإن قيل: لو كانت من القرآن لأثبتها ابن مسعود في مصحفه، ولمّا لم يثبتها دلّ على أنّها ليست من القرآن كالمعوذتين عنده. فالجواب: ما ذكره أبو بكر الأنباري قال: حدثنا الحسن بن الحباب بسنده، عن إبراهيم قال: قيل لعبد الله بن مسعود: لم لم تكتب فاتحة الكتاب في مصحفك؟ قال: لو كتبتها لكتبتها مع كلّ سورة. قال أبو بكر: يعني:
43
أنّ كلّ ركعة سبيلها أن تفتح بأمّ القرآن قبل السورة المتلوّة بعدها، فقال: اختصرت بإسقاطها، ووثقت بحفظ المسلمين لها، ولم أثبتها في موضع فيلزمني أن أكتبها مع كلّ سورة، إذ كانت تتقدّمها في الصلاة.
أسماؤها:
ولها نحو عشرين اسما:
الأول: فاتحة الكتاب؛ لأنّها مفتتحه، ومبدؤه، فكأنّها أصله ومنشؤه؛ ولذلك تسمّى أساس القرآن؛ أو لأنّها تشتمل على ما فيه من الثناء على الله، والتعبّد بأمره، ونهيه، وبيان وعده، ووعيده.
والثاني: سورة الكنز؛ لأنها نزلت من كنز تحت العرش.
والثالث: الوافية.
والرابع: الكافية؛ لأنّها وافية كافية في صحة الصلاة عن غيرها، عند القدرة عليها، وقيل: سمّيت وافية؛ لأنها لا تقبل التنصيف؛ لأنّه لو قرأ من سائر السور نصفها في ركعة ونصفها الآخر في ركعة لأجزأ، ولو نصفت (الفاتحة) في ركعتين لم يجزىء.
والخامس: الشافية.
والسادس: سورة الشفاء؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«هي شفاء من كلّ داء».
والسابع: السبع المثاني؛ لأنها سبع آيات تثنّى في كلّ ركعة وتكرّر.
والثامن: أمّ القرآن.
والتاسع: سورة النور.
والعاشر: سورة الرّقية.
والحادي عشر: سورة الحمد والشكر.
والثاني عشر: سورة الدعاء.
44
والثالث عشر: سورة تعليم المسألة؛ لاشتمالها على ذلك.
والرابع عشر: سورة الدعاء، لاشتمالها عليه.
والخامس عشر: سورة المناجاة.
والسادس عشر: سورة التفويض.
والسابع عشر: أمّ القرآن.
والثامن عشر: أمّ الكتاب.
والتاسع عشر: سورة السؤال.
والعشرون: سورة الصلاة؛ لخبر:
«قسمت الصلاة - أي: الفاتحة - بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، يقول العبد:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾، يقول الله: حمدني عبدي» الحديث، وكثرة الأسماء يدلّ على فضلها وشرفها.
والسورة: طائفة من القرآن، مترجمة باسم مخصوص تتضمّن ثلاث آيات فأكثر، وفاتحة الشيء: أوّله، وهي مصدر بمعنى المفعول، أو صفة جعلت اسما للسورة، والتاء: للنقل كالذبيحة، وإضافة السورة إلى (الفاتحة)، أو إلى غيرها من إضافة العام إلى الخاص، كشجر الأراك، وعلم النحو وهي؛ أي: إضافة (الفاتحة) إلى الكتاب لاميّة؛ لأنّ المضاف إليه ليس ظرفا للمضاف ولا جنسا له، وهو؛ أي: القرآن يطلق على مجموع ما في المصحف، وعلى القدر المشترك بينه وبين أجزائه.
والله أعلم
* * *
45
فصل في ذكر فضائلها
فقد دلّ على فضلها أحاديث كثيرة.
فمنها: ما أخرجه البخاري، عن أبي سعيد بن المعلّى قال: كنت أصلّي في المسجد، فدعاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم أجبه ثمّ أتيته فقلت: يا رسول الله! إنّي كنت أصلّي، فقال:
«ألم يقل الله: ﴿اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ﴾؟ ثمّ قال لي:
لأعلّمنّك سورة هي أعظم السور في القرآن، قبل أن تخرج من المسجد، ثمّ أخذ بيدي»، فلمّا أراد أن يخرج قلت له: يا رسول الله! ألم تقل: لأعلّمنك سورة هي أعظم السور في القرآن؟ قال:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ هي السبع المثاني﴾، والقرآن العظيم الذي أوتيته». رواه مالك في الموطأ عنه، وقال فيه: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، نادى أبيّ بن كعب، وهو يصلّي، وذكر نحوه.
ومنها: ما روي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله:
«ما أنزل الله في التوراة، ولا في الإنجيل مثل أمّ القرآن، وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل»، أخرجه الترمذي، والنسائي.
ومنها: ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ أمّ القرآن، وأمّ الكتاب، والسبع المثاني»، أخرجه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
ومنها: ما روي عن ابن عباس قال:
«بينا جبريل قاعد عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، سمع نقيضا من فوقه، فرفع رأسه فقال: «هذا باب من السماء، فتح اليوم ولم يفتح قطّ إلّا اليوم، فنزل منه ملك، فقال: هذا ملك نزل إلى الأرض، لم ينزل قطّ إلّا اليوم، فسلّم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة» لن تقرأ بحرف منها إلّا أعطيته، أخرجه مسلم. قوله: (سمع نقيضا) بالقاف والضاد المعجمة؛ أي: صوتا كصوت فتح الباب.
ومنها: ما روي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن؛ فهي خداج، هي خداج، هي خداج غير تمام». قال:
46
فقلت: يا أبا هريرة! إنّا أحيانا نكون وراء الإمام، فغمز ذراعي وقال: اقرأ بها في نفسك يا فارسيّ، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول:
«قال الله تبارك وتعالى»:
(قسمت الصلاة بيني وبين عبدي) الحديث، أخرجه مسلم.
وقال ابن عبد البرّ: (١) الصحيح من القول: إلغاء تلك الركعة التي لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب، ويأتي بركعة بدلا منها، كمن أسقط سجدة سهوا، وهو اختيار ابن القاسم. وقال الحسن البصري: وأكثر أهل البصرة. والمغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني: إذا قرأ بأمّ القرآن مرّة واحدة في الصلاة أجزأه، ولم يكن عليه إعادة؛ لأنّها صلاة قد قرأ فيها بأمّ القرآن، وهي تامّة؛ لقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«لا صلاة لمن لم يقرأ بأمّ القرآن»، وهذا قد قرأ بها. قلت: ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في كلّ ركعة، وهو الصحيح، ويحتمل لا صلاة لمن لم يقرأ بها في أكثر عدد الركعات، وهذا هو سبب الخلاف. وقال أبو حنيفة والثوريّ، والأوزاعي: إن تركها عامدا في صلاته كلّها، وقرأ غيرها أجزأه، على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك. وقال أبو يوسف، ومحمد بن الحسن: أقلّه ثلاث آيات.
وجه تسميتها:
سمّيت بفاتحة الكتاب: إمّا لافتتاح المصاحف، والتعليم، وقراءة القرآن، والصلاة بها؛ وإمّا لأنّ الحمد فاتحة كلّ كلام؛ وإمّا لأنها أوّل سورة نزلت؛ وإمّا لأنّها أوّل ما كتبت في اللوح المحفوظ؛ وإمّا لأنّها فاتحة أبواب المقاصد في الدنيا وأبواب الجنان في العقبى، وقيل: غير ذلك.
وهذه السورة الكريمة كلّها محكم، لا ناسخ فيها ولا منسوخ.
والله أعلم
* * *
47
ومنه قوله تعالى:
﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥)﴾ يعني: النجوم لاختفائها بعد ظهورها كما تقدم، وقيل:
﴿الْخَنَّاسِ﴾ اسم إبليس، كما تقدم في الوسواس، فالخناس هو الذي إذا ذكر العبد ربه تأخر واختفى وتوارى عنه، وإذا غفل عن ذكر الله بالقلب، ولو كان ذاكرًا باللسان رجع إليه، فالذكر له كالقامع الذي يقمع المفسد، فهو شديد النفور منه، ولهذا كان شيطان المؤمن هزيلًا، وعن بعض السلف: إن المؤمن يفني شيطانه، كما يفني الرجل بعيره في السفر، قال قتادة: الخناس له خرطوم كخرطوم الكلب، وقيل: كخرطوم الخنزير في صدر الإنسان، فإذا ذكر العبد ربه خنس، وقيل: رأسه كرأس الحية واضع رأسه على ثمرة القلب يمسه ويحدثه، فإذا ذكر الله خنس وتأخر، وإذا غفل رجع، وهل المراد بما ذُكر الحقيقة؟ أو خرطوم الكلب والخنزير كناية عن قبحه وخبثه ونجاسته، ورأس الحية كناية عن شدة الأذية، ووضعه على الفؤاد كناية عن شدة التمكن؟ كل محتمل.
ويجوز أن يدخل الشيطان في الأجسام؛ لأنه جسم لطيف، وهو وإن كان مخلوقًا في الأصل من نار، لكنه ليس بمحرق؛ لأنه لما امتزج النار بالهواء صار تركيبه مزاجًا مخصوصًا كتركيب الإنسان، كما ورد في الحديث الصحيح أنه يجري من ابن آدم مجرى الدم.
والمعنى: أي (١) ألجأ إليك رب الخلق ومالكهم وإلههم ومعبودهم أن تنجينا من شر الشيطان الموسوس الكثير الخنوس والاختفاء؛ لإنه يأتي من ناحية الباطل، فلا يستطيع مقاومة الحق إذا صدمه، ولكنه يذهب بالنفس إلى أسوأ مصير إذا انجرَّت مع وسوسته، وانساقت معه إلى تحقيق ما خطر بالبال.
وهذه الأحاديث النفسية إذا سُلِّط عليها نظر العقل خفيت واضمحلت، وسكن الموسوس عند إلقائها، وحديث النفس بالفواحش وضروب الأذى للناس يذهب هباء إذا تنبهت النفس لأوامر الشرع، وهكذا إذا وسوس لك امرؤ، وبعثك على فعل السوء،
٥ - ثم ذكرته بأوامر الدين يخنس، ويمسك عن القول إلى أن تسنح له فرصة أخرى، وقد وصف الله سبحانه وتعالى هذا الوسواس الخناس بقوله:
﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ﴾ ويحدث حديثًا خفيًا لا يُسمع له صوت
﴿فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾؛ أي: في
477
قلوب (١) الناس والبشر إذا غفلوا بقلوبهم عن ذكر الله تعالى، ولو ذكروا بألسنتهم، ولذا قال في "التأويلات النجمية" في تفسير الناس؛ أي: الناسي عن ذكر الله بالقلب والروح والسر نظير قوله تعالى:
﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ﴾ بحذف الياء. انتهى.
وذلك لأن الوسوسة حالة في القلب (٢)، فلا يطردها إلا الذكر الحال في القطر، فمن كان من أهل الذكر فلا تسلط للشيطان عليه، قال تعالى:
﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ ولا يترك الإنسان الذكر اللساني إذا وجد الغفلة والوسواس في قلبه، بل يكثر الذكر ويديمه، فلعله يستيقظ قلبه ويتنور، قال بعض أهل المعرفة: الذكر اللساني كقدح الزناد، فإذا تكرر أصاب، قال بعضهم في ذلك:
اطْلُبْ وَلاَ تَضْجَرَنْ مِنْ مَطْلَبٍ | فَآفَةُ الطَّالِبِ أنْ يَضْجَرَا |
أَمَا تَرَى الْحَبْلَ لِتَكْرَارِهِ | فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ قَدْ أَثَّرَا |
ومحل الموصول الجر على الوصف (٣)، أو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أو النصب على الذم، فيحسن الوقف عليه، ذكر سبحانه وتعالى وسوسته أولًا، ثم ذكر محلها؛ وهو صدور الناس، تأمل السر والحكمة في قوله:
﴿يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ ولم يقل: في قلوب الناس، والصدر هو ساحة القلب وبيته، فمنه تدخل الواردات عليه، فتجتمع في الصدر، ثم تلج في القلب، فهو بمنزلة الدهليز، وهو بكسر أوله ما بين الباب والدار، ومن القلب تخرج الإرادت والأوامر إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود، فالشيطان يدخل ساحة القلب وبيته، فيُلقي ما يريد إلقاءه إلى القلب، فهو يوسوس في الصدور، ووسوسته واصلة إلى القلوب، وقال مقاتل: إن الشيطان في صورة خنزير يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه سلَّطه الله سبحانه على ذلك، ووسوسته هي الدعاء إلى طاعته بكلام خفي يصل إلى القلب من غير سماع صوت.
وقوله:
﴿فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾ يدل على أنه لا يوسوس في صدور الجن، قال في "آكام المرجان": لم يرد دليل على أن الجني يوسوس في صدور الجني، ويدخل فيه كما يدخل في الإنسي، ويجري منه مجراه من الإنسي. اهـ.
478
٦ - ثم بيَّن سبحانه الذي يوسوس بأنه ضربان جني وإنسي، فقال:
﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾ والجِنة - بالكسر - جماعة الجن، و
﴿مِنَ﴾ بيان للشيطان الموسوس على أنه ضربان جني وإنسي، كقوله تعالى:
﴿شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ﴾ والموسوس إليه نوع واحد، وهو الإنس، فكما أن شيطان الجن قد يوسوس تارة ويخنس أخرى، فشيطان الإنس يكون كذلك، وذلك لأنه يُلقي الأباطيل، ويُري نفسه في سورة الناصح المشفق، فإن زجره السامع يخنس ويترك الوسوسة، وإن قبل السامع كلامه بالغ فيه، و
﴿مِنَ﴾ على هذا بيانية مشوبة بتبعيض؛ أي: بعض الجنة وبعض الناس.
قال في "الأسئلة المقحمة": من دعا غيره إلى الباطل، فإن تصوره في قلبه كان ذلك وسوسةً، وقد قال تعالى:
﴿وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ فإذا جاز أن توسوس نفسه جاز أن يوسوسه غيره، فإن حقيقة الوسواس لا تختلف باختلاف الأشخاص.
ويجوز أن تكون
﴿مِنَ﴾ متعلقة بـ
﴿يُوَسْوِسُ﴾ وتكون لابتداء الغاية؛ أي: يوسوس في صدورهم من جهة الجن أنهم يعلمون الغيب ويضرون وينفعون، ومن جهة الناس كالكهان والمنجمين كذلك، ويجوز أن يكون قوله:
﴿مِنَ الْجِنَّةِ﴾ بيانًا للوسواس، و
﴿النَّاسِ﴾ عطف على
﴿الْوَسْوَاسِ﴾ فلفظ
﴿شَرِّ﴾ مسلط عليه، كأنه قال: من شر الوسواس الذي يوسوس؛ وهو الجنة، ومن شر الناس، وعليه فالناس لا يصدر منهم وسوسة، وقيل: يجوز أن يكون المراد أعوذ برب الناس من الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، ومن الجنة والناس بتقدير العاطف كأنه استعاذ بربه من ذلك الشيطان الواحد، ثم استعاذ بربه من جميع الجنة والناس، وقيل: المراد بالناس الناسي، وسقطت الياء كسقوطها في قوله:
﴿يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ﴾ ثم بيَّن بالجنة والناس؛ لأن كل فرد من أفراد الفريقين في الغالب مبتلى بالنسيان، وقيل: إن إبليس يوسوس في صدور الجن، كما يوسوس في صدور الإنس، وواحد الجنة: جني، كما أن واحد الإنس إنسي، وسيأتي بسط الكلام فيه، والقول الأول هو أرجح هذه الأقوال، وإن كان وسوسة الإنس في صدور الناس لا يكون إلا بالمعنى الذي قد قدمنا، ويكون هذا البيان يذكر الثقلين للإرشاد إلى أن من استعاذ منهما ارتفعت عنه محن الدنيا والآخرة، وفي ختم (١) القرآن بهذه السورة
479
إشارة حسنة، كأنه قيل: ما أنزلناه كاف، وما فرَّطنا في الكتاب من شيء فلا تطلب بعده شيئًا، بل اقتصر على العمل له واستعذ بالله من الشيطان والحاسد؛ لأن العبد إذا تمت نعمة الله عليه كثرت حساده إنسًا وجنًا، قال بعضهم: وفي بدء القرآن: بسم الله وختمه بالناس إشارة إلى أن الإنسان آخر المراتب الكونية؛ وذلك لأن ابتداء المراتب الكونية هو العقل الأول، وانتهاؤها هو الإنسان اهـ بتصرف.
قيل: عدد (١) حروف هذه السورة غير المكرر: ثلاث وعشرون حرفًا، وكذلك عدد الفاتحة بعدد السنين التي أُنزل فيها القرآن، وهو سر بديع، وأول القرآن باء البسملة، وآخره سين والناس، كأنه قيل: بس؛ أي: تم وكمل، أو حسب؛ أي: حسبك من الكونين ما أعطيناك بين الحرفين، وفي أسئلة (٢) عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - أخبرني يا محمد ما ابتداء القرآن وما ختمه؟ قال: "ابتداؤه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وختمه: صدق الله العظيم"، قال: صدقت، وفي "خريدة العجائب" يعني: ينبغي أن يقول القارىء ذلك عند الختم، وإلا فختم القرآن سورة الناس، وفي "قوت القلوب" للشيخ أبي طالب المكي - رحمه الله تعالى -: وليجعل العبد مفتاح درسه أن يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، رب أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن يحضرون، وليقرأ:
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١)...﴾ وسورة
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾، وليقل عند فراغه من كل سورة صدق الله تعالى، وبلَّغ رسوله - ﷺ -، اللهم انفعنا وبارك لنا فيه الحمد لله رب العالمين، واستغفر الله الحي القيوم.
الإعراب
﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلَهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعل مستتر تقديره: أنت يعود على محمد - ﷺ -، والجملة مستأنفة.
﴿أَعُوذُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير مستتر تقديره: أنا يعود على
480
محمد - ﷺ -، والجملة في محل النصب مقول
﴿قُلْ﴾.
﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ
﴿أَعُوذُ﴾.
﴿مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلَهِ النَّاسِ (٣)﴾: بدلان، أو وصفان، أو عطفا بيان لـ
﴿رَبِّ النَّاسِ﴾، وكرر المضاف إليه إظهارًا لشرفه كما مر.
﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ
﴿أَعُوذُ﴾.
﴿الْخَنَّاسِ﴾: صفة لـ
﴿الْوَسْوَاسِ﴾.
﴿الَّذِي﴾: صفة ثانية لـ
﴿الْوَسْوَاسِ﴾ قال في "الكشاف": يجوز فيه الحركات الثلاث، فالجر على الصفة والرفع والنصب على الذم.
﴿يُوَسْوِسُ﴾: فعل مضارع، وفاعل مستتر يعود على الموصول.
﴿فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ
﴿يُوَسْوِسُ﴾، والجملة صلة الموصول.
﴿مِنَ الْجِنَّةِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل
﴿يُوَسْوِسُ﴾.
﴿وَالنَّاسِ﴾: معطوف على
﴿الْجِنَّةِ﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿أَعُوذُ﴾ من عاذ إليه يعوذ - من باب قال - إذا التجأ إليه مما يخافه.
﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾ الناس أصله إما أناس، فحذفت الهمزة، فصار ناس، أو. نَوَس تحركت الواو وانفتح ما قبلها قُلبت ألفًا، مأخوذ إما من ناس إذا تحرك، خص بالبشر؛ لأنه المتحرك الحركة التامة الناشئة عن فكر واختيار، أو من الأنس ضد الوحشة؛ لأنه يؤنس به، أو من النسيان؛ لكونه مطبوعًا عليه.
﴿مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ﴾: وفي "السمين": قال الزمخشري: الوسواس اسم مصدر بمعنى الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة، وأما المصدر، فوسواس بالكسر كزلزال، والمراد به هنا الشيطان، سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه؛ لأنها صنعته وشغله، أو أريد ذو الوسواس اهـ.
وفي "المصباح": أنه يطلق أيضًا على ما يخطر بالقلب من الشر، وكل ما لا خير فيه، وفي "المختار": الوسوسة حديث النفس، يقال: وسوست إليه نفسه وسوسة ووسواسًا - بالكسر - ووسواسًا - بالفتح - كزلزال وزلزال.
﴿الْخَنَّاسِ﴾ صيغة مبالغة من خنس يخنس - من باب دخل - خنسًا - بالسكون - وخَنَسًا - بالتحريك - وخنوسًا، والخنس التأخر والتواري والاستتار، يقال: خنس عنه إذا تاخر وأخنسه غيره؛ أي: خلَّفه ومضى عنه، والخناس الشيطان؛ لأنه يخنس
481
إذا ذكر الله عز وجل، قال في "أساس البلاغة": وخنس الرجل من بين القوم خنوسًا إذا تأخر واختفى وخنسته أنا وأخنسته بأربع، وخنس إبهامه خفض، ومنه الخناس.
﴿مِنَ الْجِنَّةِ﴾ الجنة: اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالياء، فيقال: جن وجني كزنج وزنجي، وغالبًا يفرق بالتاء كتمر وتمرة، وزيدت التاء في الجنة لتأنيث الجماعة، سموا بذلك لاجتنانهم؛ أي: استتارهم عن العيون، وهم أجسام نارية هوائية يتشكلون بالصور الشريفة والخسيسة، وتحكم عليهم الصور، وتقدم ما فيهم اهـ من "الصاوي".
البلاغة
وقد تضمنت هذه السورة الكريمة ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإضافة لتشريف المضاف إليه وتعظيمه في قوله:
﴿بِرَبِّ النَّاسِ﴾ وفي الآيتين بعدها.
ومنها: تخصيص الناس بالذكر في المواضع الثلاثة مع كونه رب جميع المخلوقات وملكهم وإلههم تكريمًا لهم من بين المخلوقات حيث أخدمهم الملائكة، وأمدهم بالعقل والعلم وسائر أنواع الكرامات كما مر.
ومنها: تكرير لفظ الناس ثانيًا وثالثًا؛ لإظهار شرف الناس وتعظيمهم، وللاعتناء بشأنهم، ولو قال: ملكهم إلههم لما كان لهم هذا الشأن العظيم.
ومنها: جناس الاشتقاق بين
﴿يُوَسْوِسُ﴾ و
﴿الْوَسْوَاسِ﴾.
ومنها: الطباق بين
﴿الْجِنَّةِ﴾ و
﴿النَّاسِ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله:
﴿فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾؛ أي: في قلوبهم لعلاقة المحلية.
والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب (١)
* * *
482
...................