ﰡ
ذكر في هذه الآية الكريمة أن الكفار إذا عرفوا حقيقة الأمر تمنوا أنهم كانوا في دار الدنيا مسلمين، وندموا على كفرهم، وبين هذا المعنى في مواضع أخرى كقوله ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٧ ] وقوله :﴿ حَتَّى إِذَا جَآءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ ﴾[ الأنعام : ٣١ ]، وقوله :﴿ وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٧ ] إلى غير ذلك من الآيات، وأقوال العلماء في هذه الآية راجعة إلى شيء واحد. لأن من يقول إن الكافر إذا احتضر وعاين الحقيقة تمنى أنه كان مسلماً، ومن يقول إنه إذا عاين النار ووقف عليها تمنى أنه كان مسلماً، ومن يقول إنهم إذا عاينوا إخراج الموحدين من النار تمنوا أنهم كانوا مسلمين، كل ذلك راجع إلى أن الكفار إذا عاينوا الحقيقة ندموا على الكفر وتمنوا أنهم كانوا مسلمين.
وقرأ نافع وعاصم ﴿ رُبَمَا ﴾ بتخفيف الباء، وقرأ الباقون بتشديدها، والتخفيف لغة أهل الحجاز، والتثقيل لغة تميم وقيس وربيعة، ومن الأول قول عدي بن الرعلاء الغساني :
ربّما ضربة بسيف صقيل | بين بصرى وطعنة نجلاه |
ألا ربما أهدت لك العين نظرة | قصاراك منها أنها عنك لا تجدي |
ألا ربما أهدت لك العين
البيت وقال بعض العلماء هي هنا للتقليل لأنهم قالوا ذلك في بعض المواضع لا في كلها لشغلهم بالعذاب. فإن قيل : ربما لا تدخل إلا على الماضي فما وجه دخولها على المضارع في هذا الموضع ؟ فالجواب أن الله تعالى لما وعد بوقوع ذلك صار ذلك الوعد للجزم بتحقيق وقوعه كالواقع بالفعل ونظيره قوله تعالى ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ ﴾ [ النحل : ١ ] الآية ونحوها من الآيات، فعبر بالماضي تنزيلاً لتحقيق الوقوع منزلة الوقوع بالفعل.
هدد الله تعالى الكفار في هذه الآية الكريمة بأمره نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتركهم يأكلون ويتمتعون، فسوف يعلمون حقيقة ما يؤول إليه الأمر من شدة تعذيبهم وإهانتهم. وهددهم هذا النوع من التهديد في مواضع أخر كقوله ﴿ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ ﴾ [ المرسلات : ٣٦ ] وقوله :﴿ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ﴾ [ الزمر : ٨ ] وقوله :﴿ فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٨٣ ] وقوله ﴿ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ﴾ [ الطور : ٤٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد تقرر في فن المعاني وفي مبحث الأمر عند الأصوليين أن من المعاني التي تأتي لها صيغة أفعل التهديد كما في الآية المذكورة وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ ذَرْهُمْ ﴾ يعني اتركهم، وهذا الفعل لم يستعمل منه إلا الأمر والمضارع، فماضيه ترك، ومصدره الترك، واسم الفاعل منه تارك، واسم المفعول منه متروك. وقال بعض العلماء : هذه الآية منسوخة بآيات السيف، والعلم عند الله تعالى. قال القرطبي :«والأمل الحرص على الدنيا والانكباب عليها والحب لها والإعراض عن الآخرة »، وعن الحسن رحمه الله أنه قال :«ما أطال عبد الأمل إلا أساء العمل »، وقد قدمنا علاج طول الأمل في سورة البقرة.
قد يقال في هذه الآية الكريمة كيف يقرون بأنه أنزل إليه الذكر وينسبونه للجنون مع ذلك والجواب أن قولهم يا أيها الذي نزل عليه الذكر يعنون في زعمه تهكماً منهم به، ويوضح هذا المعنى ورود مثله من الكفار متهكمين بالرسل عليهم صلوات الله وسلامه في مواضع أخر كقوله تعالى عن فرعون مع موسى قال :﴿ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ ﴾ [ الشعراء : ٢٧ ] وقوله عن قوم شعيب ﴿ إِنَّكَ لاّنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ [ هود : ٨٧ ].
﴿ لَّوْ مَا ﴾ في هذه الآية الكريمة للتحضيض وهو طلب الفعل طلباً حثيثاً. ومعنى الآية : أن الكفار طلبوا من النَّبي صلى الله عليه وسلم طلب تخصيص أن يأتيهم بالملائكة ليكون إتيان الملائكة معه دليلاً على صدقه أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبين طلب الكفار هذا في آيات أخر كقوله عن فرعون مع موسى :﴿ فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ﴾ [ الزخرف : ٥٣ ] وقوله :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً ﴾ [ الفرقان : ٢١ ]، وقوله :﴿ وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الأمْرُ ﴾ [ الأنعام : ٨ ] وقوله :﴿ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ﴾ [ الفرقان : ٧ ] وقوله ﴿ تَأْتِىَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٩٢ ] إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم أن لو تركب مع لا وما لمعنيين الأول منهما التحضيض ومثاله في لو ما في هذه الآية الكريمة ومثاله في لولا قول جرير :
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم | بني ضوطري لولا الكمي المقنعا |
تالله لولا الله ما اهتدينا | ولا تصدقنا ولا صلينا |
لو ما الحياء ولو ما الدين عبتكما | ببعض ما فيكما إذ عبتما عوري |
تنبيه
قد ترد أدوات التحضيض للتوبيخ والتنديم، فتختص بالماضي أو ما في تأويله نحو ﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ ﴾ [ يونس : ٩٨ ] وقوله :﴿ لَّوْلاَ جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ ﴾ [ النور : ١٣ ] الآية وقوله :﴿ فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ مِن دُونِ اللَّهِ قُرْبَاناً ءَالِهَةَ ﴾ [ الأحقاف : ٢٨ ]، وجعل بعضهم منه قول جرير :
تعدون عقر النيب... ، البيت المتقدم آنفا
قائلاً إن مراده توبيخهم على ترك عد الكمي المقنع في الماضي.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه ما ينزل الملائكة إلا بالحق أي بالوحي وقيل بالعذاب، وقال الزمخشري :«إلا تنزيلاً متلبساً بالحكمة والمصلحة ولا حكمة في أن تأتيكم الملائكة عياناً تشاهدونهم ويشهدون لكم بصدق النَّبي صلى الله عليه وسلم لأنكم حينئذ مصدقون عن اضطرار » قال :«ومثل هذا قوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ ﴾ [ الحجر : ٨٥ ] وبين تعالى في هذه الآية الكريمة أنهم لو نزلت عليهم الملائكة، ما كانوا منظرين وذلك في قوله :
﴿ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ ﴾ لأن التنوين في قوله إذاً عوض عن جملة، ففيه شرط وجزاء، وتقدير المعنى ولو نزلت عليهم الملائكة ما كانوا منظرين أي ممهلين بتأخير العذاب عنهم وقد بين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله :﴿ يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ ﴾ [ الفرقان : ٢ ] وقوله :﴿ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ﴾ [ الأنعام : ٨ ] إلى غير ذلك من الآيات. وقوله :﴿ مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ ﴾ قرأه حفص وحمزة والكسائي : ننزل بنونين، الأولى مضمومة والثانية مفتوحة مع كسر الزاي المشددة، والملائكة بالنصب مفعول به لننزل. وقرأ شعبة : ننزل بنون مضمومة ونون مفتوحة مع تشديد الزاي مفتوحة بالبناء للمفعول، والملائكة بالرفع نائب فاعل ننزل. وقرأ الباقون : تنزل بفتح التاء والنون والزاي المشددة أصله تتنزل فحذفت إحدى التاءين، والملائكة بالرفع فاعل تنزل كقوله :﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ ﴾ [ القدر : ٤ ] الآية.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي نزل القرآن العظيم وأنه حافظ له من أن يزاد فيه أو ينقص أو يتغير منه شيء أو يبدل، وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله :﴿ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [ فصلت : ٤٢ ] وقوله :﴿ لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ ﴾ [ القيامة : ١٦-١٧ ] إلى قوله :﴿ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ [ القيامة : ١٩ ] وهذا هو الصحيح في معنى هذه الآية أن الضمير في قوله :﴿ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ راجع إلى الذكر الذي هو القرآن. وقيل الضمير راجع إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم كقوله :﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [ المائدة : ٦٧ ] والأول هو الحق كما يتبادر من ظاهر السياق.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه جعل في السماء بروجاً ذكر هذا أيضاً في مواضع أخر كقوله :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ في السَّمَآءِ بُرُوجاً ﴾ [ الفرقان : ٦١ ] الآية وقوله تعالى :﴿ وَالسَّمَآءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ ﴾ [ البروج : ١ ] الآية، والبروج جمع برج.
واختلف العلماء في المراد بالبروج في الآيات المذكورة فقال بعضهم : البروج الكواكب، وممن روي عنه هذا القول مجاهد وقتادة. وعن أبي صالح : أنها الكواكب العظام، وقيل : هي قصور في السماء عليها الحرس. وممن قال به : عطية، وقيل : هي منازل الشمس والقمر قاله ابن عباس. وأسماء هذه البروج الحمل والثور والجوزاء والسرطان والأسد والسنبلة والميزان والعقرب والقوس والجدي والدلو والحوت.
قال مقيده عفا الله عنه : أطلق تعالى في سورة النساء البروج على القصور الحصينة في قوله :﴿ أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِى بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ﴾ [ النساء : ٧٨ ] ومرجع الأقوال كلها إلى شيء واحد. لأن أصل البروج في اللغة الظهور ومنه تبرج المرأة بإظهار زينتها فالكواكب ظاهرة والقصور ظاهرة ومنازل القمر والشمس كالقصور بجامع أن الكل محل ينزل فيه، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ﴾ [ ١٦ ].
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه زين السماء للناظرين وبين في مواضع أخر أنه زينها بالنجوم، وأنها السماء الدنيا كقوله :﴿ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ ﴾ [ الملك : ٥ ] الآية، وقوله :﴿ إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ ﴾ [ الصافات : ٦ ].
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة أنه حفظ السماء من كل شيطان رجيم وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله :﴿ وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ ﴾ [ الصافات : ٧ ] وقوله :﴿ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ ﴾ الملك : ٥ ] وقوله :﴿ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ وقوله :﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴾ وقوله :﴿ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ ﴾ [ الطور : ٣٨ ] إلى غير ذلك من الآيات. والاستثناء في هذه الآية الكريمة في قوله :﴿ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ ﴾ [ الحجر : ١٨ ]. قال بعض العلماء هو استثناء منقطع وجزم به الفخر الرازي أي لكن من استرق السمع أي الخطفة اليسيرة فإنه يتبعه شهاب فيحرقه كقوله تعالى :﴿ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾ [ الصافات : ٨-١٠ ] وقيل : الاستثناء متصل أي حفظنا السماء من الشياطين أن تسمع شيئاً من الوحي وغيره إلا من استرق السمع فإنا لم نحفظها من أن تسمع لخبر من أخبار السماء سوى الوحي، فأما الوحي فلا تسمع منه شيئاً لقوله تعالى :﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴾ [ الشعراء : ٢١٢ ] قاله القرطبي، ونظيره ﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ﴾ [ الصافات : ١٠ ] الآية فإن استثناء من الواو في قوله تعالى :﴿ لاَّ يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ ﴾ [ الصافات : ٨ ] الآية.
تنبيه
يؤخذ من هذه الآيات التي ذكرنا أن كل ما يتمشدق به أصحاب الأقمار الصناعية من أنهم سيصلون إلى السماء ويبنون على القمر، كله كذب وشقشقة لا طائل تحتها ومن اليقين الذي لا شك فيه أنهم سيقفون عند حدهم ويرجعون خاسئين أذلاء عاجزين ﴿ ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾ [ الملك : ٤ ] ووجه دلالة الآيات المذكورة على ذلك أن اللسان العربي الذي نزل به القرآن يطلق اسم الشيطان على كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب ومنه قوله تعالى :﴿ وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ ﴾ [ البقرة : ١٤ ]، وقوله :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِىٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ﴾ [ الأنعام : ١١٢ ] ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :«الكلب الأسود شيطان » وقول جرير :
أيام يدعونني الشيطان من غزلي | وكن يهوينني إذ كنت شيطانا |
وصرح بأن من أراد استراق السمع أتبعه شهاب راصد له في مواضع أخر كقوله :﴿ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً ﴾ [ الجن : ٩ ] وقوله :﴿ إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ ﴾ [ الحجر : ١٨ ] وقوله :﴿ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ ﴾ [ الصافات : ١٠ ] وقال :﴿ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ ﴾ [ الشعراء : ٢١٢ ] وقال :﴿ أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الطور : ٣٨ ] وهو تعجيز دال على عجز البشر عن ذلك عجزاً مطلقاً، وقال :﴿ أَمْ لَهُم مٌّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيَنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ في الأسْبَابِ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحَزَابِ ﴾ [ ص : ١٠-١١ ] فقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ فَلْيَرْتَقُواْ في الأسْبَابِ ﴾، أي فليصعدوا في أسباب السموات التي توصل إليها. وصيغة الأمر في قوله :﴿ فَلْيَرْتَقُواْ ﴾ للتعجيز وإيرادها للتعجيز دليل على عجز البشر عن ذلك عجزاً مطلقاً. وقوله جل وعلا بعد ذلك التعجيز :﴿ جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مّن الأحَزَابِ ﴾ يفهم منه أنه لو تنطع جند من الأحزاب للارتقاء في أسباب السماء أنه يرجع مهزوماً صاغراً داحراً ذليلاً، ومما يدل على أن الآية الكريمة يشار فيها إلى شيء ما كان يظنه الناس وقت نزولها إبهامه جل وعلا لذلك الجند بلفظة ما في قوله :﴿ جند ما ﴾ وإشارته إلى مكان ذلك الجند أو مكان انهزامه إشارة البعيد في قوله :﴿ هُنَالِكَ ﴾ ولم يتقدم في الآية ما يظهر رجوع الإشارة إليه إلا الارتقاء في أسباب السموات.
فالآية الكريمة يفهم منها ما ذكرنا، ومعلوم أنها لم يفسرها بذلك أحد من العلماء، بل عبارات المفسرين تدور على أن الجند المذكور الكفار الذين كذبوه صلى الله عليه وسلم، وأنه صلى الله عليه وسلم سوف يهزمهم، وأن ذلك تحقق يوم بدر أو يوم فتح مكة، ولكن كتاب الله لا تزال تظهر غرائبه وعجائبه متجددة على مر الليالي والأيام، ففي كل حين تفهم منه أشياء لم تكن مفهومة من قبل، ويدل لذلك حديث أبي جحيفة الثابت في الصحيح أنه لما سأل علياً رضي الله عنه هل خصهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ؟ قال له علي رضي الله عنه : لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلاً في كتاب الله وما في الصحيفة الحديث فقوله رضي الله عنه : إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في كتاب الله يدل على أن فهم كتاب الله تتجدد به العلوم والمعارف التي لم تكن عند عامة الناس، ولا مانع من حمل الآية على ما حملها عليه المفسرون.
وما ذكرنا أيضاً أنه يفهم منها لما تقرر عند العلماء من أن الآية إن كانت تحتمل معاني كلها صحيحة تعين حملها على الجميع كما حققه بأدلته الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية رحمه الله في رسالته في علوم القرآن.
وصرح تعالى بأن القمر في السبع الطباق في قوله :﴿ أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ﴾ [ نوح : ١٥-١٦ ] فعلم من الآيات أن القمر في السبع الطباق، وأن الله حفظها من كل شيطان رجيم، فلم يبق شك ولا لبس في أن الشياطين أصحاب الأقمار الصناعية سيرجعون داحرين صاغرين عاجزين عن الوصول إلى القمر والوصول إلى السماء، ولم يبق لبس في أن السماء التي فيها القمر ليس يراد بها مطلق ما علاك، وإن كان لفظ السماء قد يطلق لغة على كل ما علاك، كسقف البيت، ومنه قوله تعالى :﴿ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَآءِ ﴾ [ الحج : ١٥ ] الآية. وقد قال الشاعر :
وقد يسمى سماء كل مرتفع | وإنما الفضل حيث الشمس والقمر |
ومن أصرح أدلته : قراءة حمزة والكسائي ﴿ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ [ البقرة : ١٩١ ] من القتل في الفعلين ؛ لأن من قتل بالبناء للمفعول لا يمكن أن يؤمر بعد موته بأن يقتل قاتله، ولكن المراد : فإن قتلوا بعضكم فليقتلهم بعضكم الآخر، كما هو ظاهر. وقال أبو حيان في البحر المحيط في تفسير قوله تعالى ﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ﴾ ؛ وصح كون السموات ظرفاً للقمر ؛ لأنه لا يلزم من الظرف أن يملأه المظروف. تقول : زيد في المدينة، وهو في جزء منها.
واعلم أن لفظ الآية صريح في أن نفس القمر في السبع الطباق ؛ لأن لفظة ﴿ جَعَلَ ﴾ في الآية هي التي بمعنى صير، وهي تنصب المبتدأ والخبر، والمعبر عنه بالمبتدأ هو المعبر عنه بالخبر بعينه لا شيء آخر، فقولك : جعلت الطين خزفاً، والحديد خاتماً، لا يخفى فيه أن الطين هو الخزف بعينه، والحديد هو الخاتم، وكذلك قوله :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ﴾ فالنور المجعول فيهن هو القمر بعينه، فلا يفهم من الآية بحسب الوضع اللغوي احتمال خروج نفس القمر عن السبع الطباق، وكون المجعول فيها مطلق نوره ؛ لأنه لو أريد ذلك لقيل : وجعل نور القمر فيهن أما قوله :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ﴾ فهو صريح في أن النور المجعول فيهن هو عين القمر، ولا يجوز صرف القرآن عن معناه المتبادر بلا دليل يجب الرجوع إليه، ويوضح ذلك أنه تعالى صرح في سورة الفرقان بأن القمر في خصوص السماء ذات البروج بقوله :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ في السَّمَآءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً ﴾ الفرقان : ٦١ ] وصرح في سورة الحجر بأن ذات البروج المنصوص على أن القمر فيها هي بعينها المحفوظة من كل شيطان رجيم بقوله :﴿ وَلَقَدْ جَعَلْنَا في السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾ [ الحجر : ١٧ ] وما يزعمه بعض الناس من أنه جل وعلا أشار إلى الاتصال بين أهل السماء والأرض في قوله :﴿ وَمِنْ ءَايَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ ﴾ [ الشورى : ٢٩ ] يقال فيه : إن المراد جمعهم يوم القيامة في المحشر، كما أطبق عليه المفسرون. ويدل له قوله تعالى :﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ في الأرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ مِن شَيءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ [ الأنعام : ٣٨ ].
ويوضح ذلك تسمية يوم القيامة يوم الجمع في قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ ﴾ [ التغابن : ٩ ] الآية. وكثرة الآيات الدالة على أن جمع جميع الخلائق كائن يوم القيامة، كقوله :﴿ إِنَّ في ذالِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذالِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَالِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ﴾[ هود : ١٠٣ ] وقوله :﴿ قُلْ إِنَّ الأوَّلِينَ وَالآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾ [ الواقعةك٤٩-٥٠ ] وقوله :﴿ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ [ النساء : ٨٧ ] وقوله :﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَآءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٢٥ ] وقوله ﴿ وَجَآءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ﴾ [ الفجر : ٢٢ ] وقوله ﴿ وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً ﴾ [ الكهف : ٤٧ ].
مع أن بعض العلماء قال : المراد ما بث من الدواب في الأرض فقط، فيكون من إطلاق المجموع مراداً بعضه، وهو كثير من القرآن وفي لسان العرب، وبعضهم قال : المراد بدواب السماء الملائك
اللواقح لاقح وأصل اللاقح التي قبلت اللقاح فحملت الجنين، ومنه قول ذي الرمة :
إذا قلت عاج أو تفتيت أبرقت | بمثل الخوافي لاقحاً أو تلقح |
أحدهما : أن المراد النسبة فقوله لواقح أي ذوات لقاح كما يقال سائف ورامح أي ذو سيف ورمح ومن هذا قول الشاعر :
وغررتني وزعمت أنك لابن في الحي تامر
أي ذو لبن وتمر، وعلى هذا فمعنى لواقح أي ذوات لقاح لأنها تلقح السحاب والشجر.
الوجه الثاني : أن لواقح بمعنى ملاقح جمع ملقحة وملقح اسم فاعل ألقحت السحاب والشجر كما يلقح الفحل الأنثى وغاية ما في هذا القول إطلاق لواقح وإرادة ملاقح ونظيره قول ضرار بن نهشل يرثي أخاه يزيد أو غيره :
لبيك يزيد ضارع لخصومة | ومختبط مما تطيح الطوائح |
هذا حاصل معنى كلام العلماء في الرياح اللواقح وقد قدمنا قول من قال إن اللواقح هي حوامل المطر وأن ذلك القول يدل له قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً ﴾ [ الأعراف : ٥٧ ] أي حملتها وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يكون للشيء أوصاف فيذكر بعضها في موضع فإنا نبين بقية تلك الأوصاف المذكورة في مواضع أخر ومثلنا لذلك بظل أهل الجنة فإنه تعالى وصفه في سورة النساء بأنه ظليل في قوله :﴿ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً ﴾ [ النساء : ٥٧ ] وقد وصفه بأوصاف أخر في مواضع أخر وقد بينا صفات ظل أهل الجنة المذكورة في غير ذلك الموضع كقوله :﴿ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا ﴾ [ الرعد : ٣٥ ] وقوله :﴿ وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ ﴾ [ الواقعة : ٣٠ ] إلى غير ذلك من أوصافه وإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى وصف الرياح في هذه الآية بكونها لواقح وقد بينا معنى ذلك آنفاً ووصفها في مواضع أخر بأوصاف أخر من ذلك وصفه لها بأنها تبشر بالسحاب في قوله :﴿ وَمِنْ ءَايَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ ﴾ [ الروم : ٤٦ ] وقوله :﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرىً بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ ﴾ [ الأعراف : ٥٧ ] على قراءة من قرأها بالباء ومن ذلك وصفه لها بإثارة السحاب كقوله :﴿ اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً ﴾ [ الروم : ٤٨ ] الآية وقال صاحب الدر المنثور وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة عن عبيد بن عمير قال «يبعث الله المثيرة فتقم الأرض قماً ثم يبعث المبشرة فتثير السحاب فيجعله كسفاً ثم يبعث المؤلفة فتؤلف بينه فيجعله ركاماً ثم يبعث اللواقح فتلقحه فيمطر » وأخرج ابن المنذر عن عبيد بن عمير قال :«الأرواح أربعة ريح تقم وريح تثير تجعله كسفاً وريح تجعله ركاماً وريح تمطر » اه.
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى : أخذ مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة أن لقاح القمح أن يحبب ويسنبل. قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : روى ابن وهب وابن القاسم وأشهب وابن عبد الحكم عن مالك واللفظ لأشهب. قال مالك : قال الله تعالى ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ﴾ فلقاح القمح عندي أن يحبب ويسنبل ولا أدري ما ييبس في أكمامه ولكن يحبب حتى يكون لو يبس لم يكن فساداً لا خير فيه ولقاح الشجر كلها أن تثمر ثم يسقط منها ما يسقط ويثبت منها ما يثبت وليس ذلك بأن تورد. قال ابن العربي : إنما عول مالك في هذا التفسير على تشبيه لقاح الشجر بلقاح الحمل وأن الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه الروح كان بمنزلة تحبب الثمر وتسنبله لأنه سمي باسم مشترك فيه كل حاملة وعليه جاء الحديث :«نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحب حتى يشتد » اه من القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه : استنباط الإمام مالك المذكور من هذه الآية، لأن لقاح القمح أن يحبب ويسنبل، واستدلال ابن العربي له بالحديث المذكور ليس بظاهر عندي كل الظهور.
* * *
المسألة الثانية : اعلم أن تلقيح الثمار هو إبارها، وهو أن يؤخذ شيء من طلع ذكور النخل فيدخل بين ظهراني طلع الإناث، ومعنى ذلك سائر الثمار طلوع الثمار من التين وغيره حتى تكون الثمرة مرئية منظوراً إليها. والمعتبر عند مالك وأصحابه فيما يذكر من الثمار التذكير، وفيما لا يذكر أن يثبت من نواره ما يثبت ويسقط ما يسقط، وحد ذلك في الزرع ظهوره من الأرض، قاله مالك. وقد روي عنه أن إباره أن يحبب اه، قاله القرطبي. وقال أيضاً : لم يختلف العلماء أن الحائط إذا انشق طلع إناثه فأخر إباره وقد أبر غيره مما حاله مثل حاله أن حكمة حكم ما أبر، فإن أبر بعض الحائط كان ما لم يؤبر تبعاً له، كما أن الحائط إذا بدا صلاح بعضه كان سائر الحائط تبعاً لذلك الصلاح في جواز بيعه اه. وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح.
* * *
المسألة الثالثة : إذا بيع حائط نخل بعد أن أبر فثمرته للبائع إلا أن يشترطها المبتاع، فإن اشترطها المبتاع فهي له، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع الذي باعها إلا أن يشترطها المبتاع » متفق عليه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما. فإن بيعت النخل قبل التأبير فالثمرة للمشتري، واختلف في استثناء البائع لها، فمشهور مذهب مالك أنها كالجنين لا يجوز للبائع اشتراطها ولا استثناؤها بناء على أن المستثني مشتري خلافاً لتصحيح اللخمي جواز استثناء البائع لها بناء على أن المستثنى مبقى وجواز استثنائها هو مذهب الشافعي وأحمد وأبي حنيفة رحمهم الله تعالى.
قال مقيده عفا الله عنه : وهو أظهر عندي لأن كون المستثني مبقي أظهر من كونه مشتري لأنه كان مملوكاً للبائع، ولم يزل على ملكه لأن البيع لم يتناوله لاستثنائه من جملة المبيع كما ترى. وهذا الذي ذكرنا في هذه المسألة هو الحق إن شاء الله تعالى، فما أبر فهو للبائع إلا بشرط، وما لم يؤبر فهو للمشتري إلا بشرط خلافاً لابن أبي ليلى القائل : هي للمشتري في الحالين لأنها متصلة بالأصل اتصال خلقة فكانت تابعة له كالأغصان. وهذا الاستدلال فاسد الاعتبار لمخالفته لحديث ابن عمر المتفق عليه المذكور آنفاً، فقد صرح فيه النَّبي صلى الله عليه وسلم بأن البيع إن كان وقع بعد التأبير فالثمرة للبائع، وخلافاً للإمام أبي حنيفة والأوزاعي رحمهما الله تعالى في قولهما : إنها للبائع في الحالين. والحديث المذكور يرد عليهما بدليل خطابه أعني مفهوم مخالفته لأن قوله صلى الله عليه وسلم «من ابتاع نخلاً قد أبرت » الحديث يفهم منه أنها إن كانت غير مؤبرة فليس الحكم كذلك وإلا كان قوله «قد أبرت » وقوله «بعد أن تؤبر » في بعض الروايات لغواً لا فائدة فيه فيتعين أن ذكر وصف التأبير ليحترز به عن غيره، ومعلوم أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله لا يقول بحجته مفهوم المخالفة، فالجاري على أصوله أن النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المذكور نص على حكم الثمرة المؤبرة وسكت عن غير المؤبرة فلم يتعرض لها أصلاً. وإن أبر بعض الثمرة التي بيعت أصولها وبعضها الآخر لم يؤبر فمذهب مالك أنه إن كان أحدهما أكثر فالأقل تابع له، وإن استويا فلكل حكمه، فالمؤبر للبائع وغيره للمشتري. ومذهب الإمام أحمد أن لكل واحد من المؤبر وغيره حكمه، وأبو حنيفة لا فرق عنده بين المؤبر وغيره فالجميع عنده للبائع إلا إذا اشترطه المبتاع، ومذهب الشافعي رحمه الله الصحيح من الخلاف أن ما لم يؤبر تبع للمؤبر فيبقى الجميع للبائع دفعاً لضرر اختلاف الأيدي. واعلم أن استثناء بعض الثمرة دون بعض يجوز في قول جمهور العلماء وفاقاً لأشهب من أصحاب مالك وخالف بن القاسم فقال : لا يجوز استثناء بعض المؤبرة. وحجة الجمهور أن ما جاز استثناء جميعه جاز استثناء بعضه، وحجة ابن القاسم أن النص إنما ورد في اشتراط الجميع.
واعلم أن أكثر العلماء على أن الثمرة المؤبرة التي هي للبائع إن لم يستثنها المشتري فإنها تبقى إلى وقت الانتفاع المعتاد بها ولا يكلفه المشتري بقطعها في الحال، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد. وخالف في ذلك
بين في هذه الآية الكريمة أنه هو الذي يحيي ويميت وأوضح ذلك في آيات كثيرة كقوله :﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ ﴾ [ ق : ٤٣ ] : وقوله تعالى :﴿ رَبِّيَ الَّذِي يُحْي وَيُمِيتُ ﴾ [ البقرة : ٢٥٨ ] وقوله ﴿ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءَابَآئِكُمُ الأوَّلِينَ ﴾ [ الدخان : ٨ ] وبين في مواضع أخر أنه أحياهم مرتين وأماتهم مرتين كقوله :﴿ قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى ﴾ [ غافر : ١١ ] الآية والإماتة الأولى هي كونهم نطفاً وعلقاً ومضغاً والإماتة الثانية هي موتهم عند انقضاء آجالهم في الدنيا والإحياءة الأولى نفخ الروح فيهم وإخراجهم أحياء من بطون أمهاتهم والإحياءة الثانية بعثهم من قبورهم أحياء يوم القيامة وسيأتي له إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح.
قوله تعالى :﴿ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ ﴾ [ ٢٣ ].
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه الوارث ولم يبين الشيء الذي يرثه وبين في مواضع أخر أنه يرث الأرض ومن عليها كقوله :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ﴾ [ مريم : ٤٠ ] وقوله :﴿ وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً ﴾ [ مريم : ٨٠ ] ومعنى ما يقول أي نرثه الذي يقول إنه يؤتاه يوم القيامة من المال والولد كما ذكره الله عنه في قوله :﴿ أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً ﴾ [ مريم : ٧٧ ] ومعنى كونه يرث الأرض ومن عليها أنه يبقى بعد فناء خلقه متصفاً بصفات الكمال والجلال يفعل ما يشاء كيف يشاء.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه خلق أبانا آدم من صلصال من حمإ مسنون والصلصال الطين اليابس الذي يصل أي يصوت من يبسه إذا ضربه شيء ما دام لم تمسه النار فإذا مسته النار فهو حينئذ فخار، وأصل الصليل والصلصلة واحد، والفرق بينهما أنك إذا توهمت في الصوت مداً فهو صليل، وإذا توهمت فيه ترجيعاً فهو صلصلة، والحمأ : الطين الأسود المتغير والمسنون. قيل : المصور من سنة الوجه وهي صورته، ومنه قول ذي الرمة :
تريك سنة وجه غير مقرفة | ملساء ليس بها خال ولا ندب |
أغر كأن البدر سنة وجهه | جلا الغيم عنه ضوءه فتبددا |
ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء | تمشي في مرمر مسنون |
بين في هذه الآية الكريمة أن إبليس أبى أن يسجد لآدم وبين في مواضع أخر أنه تكبر عن امتثال أمر ربه كقوله في البقرة :﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ ﴾ [ البقرة : ٣٤ ] الآية وقوله في ص ﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [ ص : ٧٤ ] وأشار إلى ذلك هنا بقوله :﴿ قَالَ لَمْ أَكُن لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ﴾ [ الحجر : ٣٣ ]. كما تقدمت الإشارة إليه.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه سأل إبليس سؤال توبيخ وتقريع عن الموجب لامتناعه من السجود لآدم الذي أمره به ربه جل وعلا وبين أيضاً في الأعراف وص أنه وبخه أيضاً بهذا السؤال قال في الأعراف ﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ﴾ [ الأعراف : ١٢ ] وقال في ص :﴿ قَالَ يا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ ﴾ [ ص : ٧٥ ] الآية وناداه باسمه إبليس في الحجر وص ولم يناده به في الأعراف.
هذا القول الذي ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن إبليس لعنه الله أنه لم يكن ليسجد لبشر مخلوق من الطين مقصوده به أنه خير من آدم لأن آدم خلق من الطين وهو خلق من النار كما يوضحه قوله تعالى :﴿ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ [ الأعراف : ١٢ ].
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه أمر إبليس بالخروج من الجنة مؤكداً أنه رجيم وبين في الأعراف أنه خروج هبوط وأنه يخرج متصفاً بالصغار والذل والهوان بقوله :﴿ قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٣ ].
بين في هذه الآية الكريمة أن اللعنة على إبليس إلى يوم الدين وصرح في ص بأن لعنته جل وعلا في إبليس إلى يوم الدين بقوله :﴿ وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ﴾ وقد قدمنا في الفاتحة بيان يوم الدين.
قال بعض العلماء هذا قسم من إبليس بإغواء الله له على أنه يغوي بني آدم إلا عباد الله المخلصين ويدل له أنه أقسم بعزته تعالى على ذلك في قوله ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ وقيل الباء في قوله ﴿ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي ﴾ سببية.
قوله تعالى :﴿ لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ في الأرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾[ ٣٩ ].
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن إبليس أخبر أنه سيبذل جهده في إضلال بني آدم حتى يضل أكثرهم وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله :﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٦-١٧ ] وقوله :﴿ وَقَالَ لاّتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً ﴾ [ النساء : ١١٨ ] الآية وقوله :﴿ قَالَ أَرَءَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَىَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٦٢ ] وهذا قاله إبليس قبل أن يقع ظناً منه أنه يتمكن من إضلال أكثر بني آدم، وقد بين تعالى أنه صدق ظنه هذا بقوله ﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ سبأ : ٢٠ ] وكل آية فيها ذكر إضلال إبليس لبني آدم بين فيها أن إبليس وجميع من تبعه كلهم في النار كما قال هنا ﴿ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ ﴾ [ الحجر : ٤٣-٤٤ ]، وقال في الأعراف :﴿ قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٧ ] وقال في سورة بني إسرائيل :﴿ قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوفُورًا ﴾ [ الإسراء : ٦٣ ] وقال في ص :﴿ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لأمْلاّنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ ص : ٨٤-٨٥ ].
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الشيطان لما أوعد بأنه سيضل أكثر بني آدم استثنى من ذلك عباد الله المخلصين معترفاً بأنه لا قدرة له على إضلالهم ونظيره قوله في ص أيضاً ﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ﴾ [ ص : ٨٢-٨٤ ] وعباد الله المخلصون هم المرادون بالاستثناء في قوله في بني إسرائيل ﴿ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٦٢ ] وقوله في سبأ ﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ سبأ : ٢٠ ] وهم الذين احترز منهم بقوله ﴿ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٧ ] وبين تعالى في مواضع أخر أن الشيطان لا سلطان له على أولئك المخلصين كقوله ﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾ [ الحجر : ٤٢ ] الآية وقوله :﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ﴾ [ الصف : ٩٩-١٠٠ ] وقوله ﴿ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا في شَكٍّ ﴾ [ سبأ : ٢١ ]. وقوله :﴿ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لي ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ] وقوله :﴿ الْمُخْلَصِينَ ﴾ قرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو بكسر اللام اسم فاعل وقرأه نافع والكوفيون بفتح اللام بصيغة اسم المفعول.
بين فيه هذه الآية الكريمة أن المتقين يوم القيامة في جنات وعيون، ويقال لهم يوم القيامة :﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءَامِنِينَ ﴾ [ الحجر : ٤٦ ] وذكر في مواضع أخر صفات ثوابهم وربما بين بعض تقواهم التي نالوا بها هذا الثواب الجزيل كقوله في الذاريات :﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ [ الحجر : ١٥-١٩ ] وقوله في الدخان :﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ في مَقَامٍ أَمِينٍ٥١ في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ٥٢يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِين٥٣ َكَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ٥٤ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ ( ٥٥ ) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( ٥٦ ) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ٥٧ )[ الدخان : ٥١-٥٧ ] وقوله في الطور :{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيم ِكُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ﴾ [ الطور : ١٧-٢٠ ] وقوله في القمر :﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ﴾ [ القمر : ٥٤-٥٥ ] وقوله في المرسلات :﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ في ظِلَالٍ وَعُيُون ٍوَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ المرسلات : ٤١-٤٢ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن الشيء الذي له أوصاف متعددة في القرآن نبين أوصافه عند ذكر بعضها كما تقدم مثاله مراراً وكما هنا.
والمتقي اسم فاعل الاتقاء وأصل مادة الاتقاء ( و ق ي ) لفيف مفروق فاؤه واو وعينه قاف ولامه ياء فدخله تاء الافتعال فصارت وقي أو تقي فأبدلت الواو التي هي فاء الكلمة تاء للقاعدة المقررة في التصريف أن كل واو هي فاء الكلمة إذا دخلت عليها تاء الافتعال يجب إبدالها أعني الواو تاء وإدغامها في تاء الافتعال نحو اتصل من الوصل واتزن من الوزن واتحد من الوحدة واتقى من الوقاية وعقد هذه القاعدة ابن مالك في الخلاصة بقوله :
ذو اللين فاتا في افتعال أبدلا | وشذ في ذي الهمز نحو ائتكلا |
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه | فتناولته واتقتنا باليد |
فألقت قناعاً دونه الشمس واتقت | بأحسن موصولين كف ومعصم |
بين فيه هذه الآية الكريمة أن المتقين يوم القيامة في جنات وعيون، ويقال لهم يوم القيامة :﴿ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ءَامِنِينَ ﴾ [ الحجر : ٤٦ ] وذكر في مواضع أخر صفات ثوابهم وربما بين بعض تقواهم التي نالوا بها هذا الثواب الجزيل كقوله في الذاريات :﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ءَاخِذِينَ مَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾ [ الحجر : ١٥-١٩ ] وقوله في الدخان :﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ في مَقَامٍ أَمِينٍ٥١ في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ٥٢يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَقَابِلِين٥٣ َكَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ٥٤ يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ ( ٥٥ ) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ( ٥٦ ) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ( ٥٧ )[ الدخان : ٥١-٥٧ ] وقوله في الطور :{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ بِمَآ ءَاتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيم ِكُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ ﴾ [ الطور : ١٧-٢٠ ] وقوله في القمر :﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ ﴾ [ القمر : ٥٤-٥٥ ] وقوله في المرسلات :﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ في ظِلَالٍ وَعُيُون ٍوَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ هَنِيئاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ المرسلات : ٤١-٤٢ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد بينا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن من أنواع البيان التي تضمنها أن الشيء الذي له أوصاف متعددة في القرآن نبين أوصافه عند ذكر بعضها كما تقدم مثاله مراراً وكما هنا.
والمتقي اسم فاعل الاتقاء وأصل مادة الاتقاء ( و ق ي ) لفيف مفروق فاؤه واو وعينه قاف ولامه ياء فدخله تاء الافتعال فصارت وقي أو تقي فأبدلت الواو التي هي فاء الكلمة تاء للقاعدة المقررة في التصريف أن كل واو هي فاء الكلمة إذا دخلت عليها تاء الافتعال يجب إبدالها أعني الواو تاء وإدغامها في تاء الافتعال نحو اتصل من الوصل واتزن من الوزن واتحد من الوحدة واتقى من الوقاية وعقد هذه القاعدة ابن مالك في الخلاصة بقوله :
ذو اللين فاتا في افتعال أبدلا | وشذ في ذي الهمز نحو ائتكلا |
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه | فتناولته واتقتنا باليد |
فألقت قناعاً دونه الشمس واتقت | بأحسن موصولين كف ومعصم |
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه نزع ما في صدور أهل الجنة من الغل في حال كونهم إخواناً وبين هذا المعنى في الأعراف وزاد أنهم تجري من تحتهم الأنهار في نعيم الجنة وذلك في قوله :﴿ وَنَزَعْنَا مَا في صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا ﴾ [ الأعراف : ٤٣ ] الآية.
قوله تعالى :﴿ عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ﴾ [ ٤٧ ].
بين في هذه الآية الكريمة أن المتقين الذين هم أهل الجنة يوم القيامة يكونون على سرر وأنهم متقابلون ينظر بعضهم إلى وجه بعض ووصف سررهم بصفات جميلة في غير هذا الموضع منها أنها منسوجة بقضبان الذهب وهي الموضوعة قال في الواقعة :﴿ ثُلَّةٌ مِّنَ الأوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخِرِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ﴾ [ الواقعة : ١٣-١٦ ] وقيل الموضوعة المصفوفة كقوله :﴿ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ ﴾ [ الطور : ٢٠ ] الآية ومنها أنها مرفوعة كقوله في الغاشية :﴿ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ ﴾ [ الغاشية : ١٣ ] الآية وقوله في الواقعة :﴿ وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ ﴾ [ الواقعة : ٣٤ ]، وقوله :﴿ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِىٍّ حِسَانٍ ﴾ [ الرحمن : ٧٦ ] إلى غير ذلك من الآيات.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة لا يمسهم فيها نصب وهو التعب والإعياء وقوله نصب نكرة في سياق النفي فتعم كل نصب فتدل الآية على سلامة أهل الجنة من جميع أنواع التعب والمشقة وأكد هذا المعنى في قوله تعالى :﴿ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ﴾ [ فاطر : ٣٥ ] لأن اللغوب هو التعب والإعياء أيضاً وقد صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :«إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب ».
قوله تعالى :﴿ وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ ﴾ [ ٤٨ ].
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن أهل الجنة لا يخرجون منها وأكد نفي إخراجهم منها بالباء في قوله ﴿ بِمُخْرَجِينَ ﴾ فيهم دائمون في نعيمها أبداً بلا انقطاع. وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً ﴾ [ الكهف : ١٠٧-١٠٨ ]
وقوله :﴿ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا ﴾ [ الكهف : ٢-٣ ] وقوله :﴿ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [ هود : ١٠٨ ] وقوله :﴿ إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ﴾ [ ص : ٥٤ ] إلى غير ذلك من الآيات.
بين في مواضع أخر أن ضيف إبراهيم المذكورين في هذه الآية أنهم ملائكة كقوله في هود :﴿ وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾ [ هود : ٦٩ ] كما تقدم وقوله :﴿ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ ﴾ [ الحجر : ٥٧-٥٨ ] إلى غير ذلك من الآيات.
لم يبين تعالى في هذه الآية الكريمة هل رد إبراهيم السلام على الملائكة أو لا لأنه لم يذكر هنا رده السلام عليهم وإنما قال عنه إنه قال لهم إنا منكم وجلون وبين في هود والذاريات أنه رد عليهم السلام بقوله في هود ﴿ قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ﴾[ هود : ٦٩ ] وقوله في الذاريات :﴿ قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُون َفَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ﴾ [ الذاريات : ٢٥-٢٦ ] وبين أن الوجل المذكور هنا هو الخوف لقوله في القصة بعينها في هود :﴿ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ ﴾ [ هود : ٧٠ ] وقوله في الذاريات :﴿ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ ﴾ [ الذاريات : ٢٨ ]. وقد قدمنا أن من أنواع البيان في هذا الكتاب بيان اللفظ بمرادف له أشهر منه كما هنا لأن الخوف يرادف الوجل وهو أشهر منه، وبين أن سبب خوفه هو عدم أكلهم بقوله :﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾ [ هود : ٧٠ ].
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أولئك الضيف الكرام الذين هم ملائكة بشروا إبراهيم بغلاف موصوف بالعلم ونظير ذلك قوله تعالى أيضاً في الذاريات :﴿ قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلَيمٍ ﴾ [ الحجر : ٢٨ ] وهذا الغلام بين تعالى أنه هو إسحاق كما يوضح ذلك قوله في الذاريات ﴿ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلَيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ في صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ﴾ [ الحجر : ٢٨-٣٠ ] لأن كونها أقبلت في صرة أي صيحة وضجة وصكت وجهها أي لطمته قائلة إنها عجوز عقيم يدل على أن الولد المذكور هي أمه كما لا يخفى ويزيده إيضاحاً تصريحه تعالى ببشارتها هي بأنها تلده مصرحاً باسمه واسم ولده يعقوب وذلك في قوله تعالى في هود في القصة بعينها :﴿ وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يا وَيْلَتَا ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ عَجِيبٌ ﴾ [ هود : ٧١-٧٢ ] وأما الغلام الذي بشر به إبراهيم الموصوف بالحلم المذكور في الصافات في قوله تعالى :﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لي مِنَ الصَّالِحِين ِفَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيم ٍفَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يا بُنَىَّ إِنِّي أَرَى في الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ ﴾ [ الصافات : ٩٩-١٠٢ ] فهو إسماعيل وسترى إن شاء الله تعالى في سورة الصافات دلالة الآيات القرآنية على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق على وجه قاطع للنزاع، والغلام يطلق في لغة العرب على العبد وعلى الصغير الذي لم يبلغ وعلى الرجل البالغ ومن إطلاقه على البالغ قول علي رضي الله يوم النهروان :
أنا الغلام القرشي المؤتمن *** أبو حسين فاعلمن والحسن
وقول صفوان بن المعطل السلمي لحسان رضي الله عنهما :
تلق ذباب السيف عني فإنني *** غلام إذا هوجيت لست بشاعر
وقول ليلى الأخيلية تمدح الحجاج بن يوسف :
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة *** تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء العضال الذي بها *** غلام إذا هز القناة سقاها
وربما قالوا للأنثى غلامة ومنه قول أوس بن غلفاء الهجيمي يصف فرساً :
ومركضة صريحي أبوها *** يهان لها الغلامة والغلام
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال : إنه وقت البشرى بإسحاق مسه الكبر. وصرح في هود بأن امرأته أيضاً قالت إنه شيخ كبير في قوله عنها :﴿ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا ﴾ [ هود : ٧٢ ] كما صرح عنها هي أنها وقت البشرى عجوز كبيرة السن وذلك كقوله في هود :﴿ قَالَتْ يا وَيْلَتَا ءَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ ﴾ [ هود : ٧٢ ] الآية، وقوله في موضع آخر :﴿ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ﴾. وبين في موضع آخر عن نبيه إبراهيم أنه وقت هبة الله له ولده إسماعيل أنه كبير السن أيضاً وذلك قوله تعالى :﴿ الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي وَهَبَ لي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَآءِ ﴾ [ إبراهيم : ٣٩ ].
قوله تعالى :﴿ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾.
الظاهر أن استفهام نبي الله إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام للملائكة بقوله ﴿ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ استفهام تعجب من كمال قدرة الله تعالى ويدل لذلك أنه تعالى ذكر أن ما وقع له وقع نظيره لامرأته حيث قالت ﴿ وَأَنَاْ عَجُوزٌ ﴾ وقد بين تعالى أن ذلك الاستفهام لعجبها من ذلك الأمر الخارق للعادة في قوله :﴿ قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [ هود : ٧٣ ] الآية ويدل له أيضاً وقوع مثله من نبي الله زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لأنه لما قال :﴿ رَبِّ هَبْ لي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ﴾ [ آل عمران : ٣٨ ] الآية ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّى في الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى ﴾ [ آل عمران : ١٠ ] عجب من كمال قدرة الله تعالى فقال :﴿ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ﴾ [ آل عمران : ٤٠ ] الآية وقوله ﴿ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ قرأه ابن عامر وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بفتح النون مخففة وهي نون الرفع وقرأه نافع بكسر النون مخففة وهي نون الوقاية مع حذف ياء المتكلم لدلالة الكسرة عليها وقرأه ابن كثير بالنون المكسورة المشددة مع المد فعلى قراءة ابن كثير لم يحذف نون الرفع ولا المفعول به بل نون الرفع مدغمة في نون الوقاية وياء المتكلم هي المفعول به وعلى قراءة الجمهور فنون الرفع ثابتة والمفعول به محذوف على حد قول ابن مالك.
وحذف فضلة أجز إن لم يضر | كحذف ما سيق جوابا أو حصر |
تنبيه
حذف نون الرفع له خمس حالات ثلاث منها يجب فيها حذفها وواحدة يجوز فيها حذفها وإثباتها وواحدة يقصر فيها حذفها على السماع، أما الثلاث التي يجب فيها الحذف فالأولى منها إذا دخل على الفعل عامل جزم والثانية إذا دخل عليه عامل نصب والثالثة إذا أكد الفعل بنون التوكيد الثقيلة نحو لتبلون وأما الحالة التي يجوز فيها الإثبات والحذف فهي ما إذا اجتمعت مع نون الرفع نون الوقاية لكون المفعول ياء المتكلم فيجوز الحذف والإثبات ومن الحذف قراءة نافع في هذه الآية ﴿ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ﴾ بالكسر وكذلك قوله تعالى :﴿ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي في اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِي وَلاَ أَخَافُ مَا ﴾ [ الأنعام : ٨٠ ]. وقوله تعالى :﴿ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِىَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ﴾ بكسر النون مع التخفيف في الجميع أيضاً وقوله ﴿ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ ﴾ [ الزمر : ٦٤ ] الآية بالكسر مع التخفيف أيضاً وكلها قرأها بعض القراء بالتشديد لإثبات نون الرفع وإدغامها في نون الوقاية وأما الحالة الخامسة المقصورة على السماع فهي حذفها لغير واحد من الأسباب الأربعة المذكورة كقول الراجز :
أبيت أسري وتبيت تدلكي | وجهك بالعنبر والمسك الذكي |
لولا فوارس من نعم وأسرتهم | يوم الصليفاء لم يوفون بالجار |
أن تقرأن على أسماء ويحكما | مني السلام وألا تشعرا أحدا |
وبعضهم أهمل أن حملا على | ما أختها حيث استحقت عملا |
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال للملائكة إنه لا يقنط من رحمة الله جل وعلا إلا الضالون عن طريق الحق وبين أن هذا المعنى قاله أيضاً يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم لبنيه في قوله :﴿ يا بَنِىَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [ يوسف : ٨٧ ] قال أبو حيان في البحر المحيط في تفسير قوله تعالى :﴿ إِنَّهُ لاَ يَيْأسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ ﴾ الآية وروح الله رحمته وفرجه وتنفيسه.
أشار في هذه الآية الكريمة إلى أن المراد بهؤلاء القوم المجرمين قوم لوط الذين أرسل إليهم فكذبوه ووجه إشارته تعالى لذلك استثناء لوط وأهله غير امرأته في قوله :﴿ إِلاَ ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ ﴾ [ الحجر : ٥٩-٦٠ ] وصرح بأنهم قوم لوط بقوله في هود في القصة بعينها :﴿ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ ﴾ [ هود : ٧٠ ] وصرح في الذاريات بأنهم أرسلوا إلى هؤلاء القوم المجرمين ليرسلوا عليهم حجارة من طين في قوله :﴿ قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ﴾ [ الذاريات : ٣٣ ] وصرح في العنكبوت أنهم قالوا إنهم مهلكوهم بسبب ظلمهم ومنزلون عليهم رجزاً من السماء بسبب فسقهم وذلك في قوله تعالى :﴿ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا ﴾ [ العنكبوت : ٣١-٣٢ ] الآية، وقوله :﴿ وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرينَ إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِّنَ السَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٣٣-٣٤ ] وقوله :﴿ إِلاَ ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ ٥٩ ] بين في هذه الآية الكريمة أنه استثنى آل لوط من ذلك العذاب النازل بقومه وأوضح هذا المعنى في آيات أخر كما تقدم في هود في قوله :﴿ قَالُواْ يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ ﴾ [ هود : ٨١ ] الآية وقوله في العنكبوت :﴿ وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ ﴾ [ العنكبوت : ٣٣ ] الآية وقوله ﴿ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ٨٣ ] وقوله :﴿ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عَجُوزاً في الْغَابِرِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٧٠-١٧١ ] الآية وقوله :﴿ فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [ النمل : ٥٧ ] إلى غير ذلك من الآيات. وما ذكر في هذه الآية الكريمة من استثناء امرأته من أهله الناجين في قوله :﴿ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [ الحجر : ٦٠ ]، أوضحه في هذه الآيات التي ذكرنا آنفاً ونحوها من الآيات، وبين في الذاريات أنه أنجى من كان في قوم لوط من المؤمنين وأنهم لم يكن فيهم من المسلمين إلا بيت واحد وهم آل لوط وذلك في قوله ﴿ فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [ الذاريات : ٣٥-٣٦ ].
تنبيه
في هذه الآية الكريمة دليل واضح لما حققه علماء الأصول من جواز الاستثناء من الاستثناء لأنه تعالى استثنى آل لوط من إهلاك المجرمين بقوله :﴿ إِلاَ ءَالَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ الحجر : ٥٩ ] ثم استثنى من هذا الاستثناء امرأة لوط بقوله :﴿ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [ الحجر : ٦٠ ] وبهذا تعلم أن قول ابن مالك في الخلاصة :
* وحكمها في القصد حكم الأول *
ليس صحيحاً على إطلاقه. وأوضح مسألة تعدد الاستثناء بأقسامها صاحب مراقي السعود في مبحث المخصص المتصل بقوله :
وذا تعدد بعطف حصل | بالاتفاق مسجلاً للأول |
إلا فكل للذي به اتصل | وكلها مع التساوي قد بطل |
إن كان غير الأول المستغرقا | فالكل للمخرج منه حققا |
وحيثما استغرق الأول قط | فألغ واعتبر بخلف في النمط |
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن لوطاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما جاءه الملائكة المرسلون لإهلاك قومه قال لهم إنكم قوم منكرون. وصرح في مواضع أخر أنه حصلت له مساءة بمجيئهم وأنه ضاق ذرعاً بذلك كقوله في هود :﴿ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ﴾ [ هود : ٧٧ ] وقوله في العنكبوت :﴿ وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ﴾ [ العنكبوت : ٣٣ ]، وذكر تعالى في الذاريات أن نبيه إبراهيم قال لهم أيضاً قوم منكرون كما ذكر عن لوط هنا وذلك في قوله :﴿ قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴾ [ الذاريات : ٢٥ ] وقوله ﴿ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴾ قيل معناه أنهم غير معروفين والنكرة ضد المعرفة وقيل إنه رآهم في صفة شباب حسان الوجوه فخاف أن يفعل بهم قومه فاحشة اللواط فقال :﴿ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴾ وقال الزمخشري في الكشاف : منكرون أي تنكركم نفسي وتفر منكم فأخاف أن تطرقوني بشر بدليل قوله :﴿ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُون َوَآتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ ﴾ [ الحجر : ٦٣-٦٤ ] الآية ويدل لهذا الوجه أنه بين في هود أن سبب إنكار إبراهيم لهم عدم أكلهم من لحم العجل الذي قدمه إليهم وذلك في قوله :﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾ [ هود : ٧٠ ] لأن من استضاف وامتنع من الأكل خيف منه الشر. وقوله تعالى في هذه الآيات :﴿ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ ﴾[ الحجر : ٥٩ ] قرأه حمزة والكسائي بإسكان النون بعد الميم المضمومة مخففاً اسم فاعل أنجى على وزن أفعل وقرأه غيرهما من القراء بفتح النون وتشديد الجيم اسم فاعل نجي على وزن فعل بالتضعيف والإنجاء والتنجية معناهما واحد وقوله :﴿ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [ الحجر : ٧٠ ] قرأه أبو بكر عن عاصم بتخفيف الدال وقرأه غيره بتشديدها وهما لغتان معناهما واحد وقوله :﴿ جَآءَ ءَالَ لُوطٍ ﴾ قرأه قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى وتحقيق الثانية مع القصر والمد وقرأه ورش بتحقيق الأولى وإبدال الثانية ألفاً مع القصر والمد وعن ورش أيضاً تحقيق الأولى وتسهيل الثانية مع القصر والتوسط والمد وقرأه قنبل مثل قراءة ورش إلا أنه ليس له مع التسهيل إلا القصر وقرأ الباقون بتحقيق الهمزتين وكل على أصله من المد وما ذكر من قراءة ورش وقنبل هو التحقيق عنهما وإن قيل غيره والعلم عند الله تعالى.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن لوطاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لما جاءه الملائكة المرسلون لإهلاك قومه قال لهم إنكم قوم منكرون. وصرح في مواضع أخر أنه حصلت له مساءة بمجيئهم وأنه ضاق ذرعاً بذلك كقوله في هود :﴿ وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ﴾ [ هود : ٧٧ ] وقوله في العنكبوت :﴿ وَلَمَّآ أَن جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ﴾ [ العنكبوت : ٣٣ ]، وذكر تعالى في الذاريات أن نبيه إبراهيم قال لهم أيضاً قوم منكرون كما ذكر عن لوط هنا وذلك في قوله :﴿ قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴾ [ الذاريات : ٢٥ ] وقوله ﴿ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴾ قيل معناه أنهم غير معروفين والنكرة ضد المعرفة وقيل إنه رآهم في صفة شباب حسان الوجوه فخاف أن يفعل بهم قومه فاحشة اللواط فقال :﴿ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ ﴾ وقال الزمخشري في الكشاف : منكرون أي تنكركم نفسي وتفر منكم فأخاف أن تطرقوني بشر بدليل قوله :﴿ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُون َوَآتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ ﴾ [ الحجر : ٦٣-٦٤ ] الآية ويدل لهذا الوجه أنه بين في هود أن سبب إنكار إبراهيم لهم عدم أكلهم من لحم العجل الذي قدمه إليهم وذلك في قوله :﴿ فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ﴾ [ هود : ٧٠ ] لأن من استضاف وامتنع من الأكل خيف منه الشر. وقوله تعالى في هذه الآيات :﴿ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ ﴾[ الحجر : ٥٩ ] قرأه حمزة والكسائي بإسكان النون بعد الميم المضمومة مخففاً اسم فاعل أنجى على وزن أفعل وقرأه غيرهما من القراء بفتح النون وتشديد الجيم اسم فاعل نجي على وزن فعل بالتضعيف والإنجاء والتنجية معناهما واحد وقوله :﴿ قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ ﴾ [ الحجر : ٧٠ ] قرأه أبو بكر عن عاصم بتخفيف الدال وقرأه غيره بتشديدها وهما لغتان معناهما واحد وقوله :﴿ جَآءَ ءَالَ لُوطٍ ﴾ قرأه قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى وتحقيق الثانية مع القصر والمد وقرأه ورش بتحقيق الأولى وإبدال الثانية ألفاً مع القصر والمد وعن ورش أيضاً تحقيق الأولى وتسهيل الثانية مع القصر والتوسط والمد وقرأه قنبل مثل قراءة ورش إلا أنه ليس له مع التسهيل إلا القصر وقرأ الباقون بتحقيق الهمزتين وكل على أصله من المد وما ذكر من قراءة ورش وقنبل هو التحقيق عنهما وإن قيل غيره والعلم عند الله تعالى.
سبب استبشار قوم لوط أنهم ظنوا الملائكة شباباً من بني آدم فحدثتهم أنفسهم بأن يفعلوا بهم فاحشة اللواط
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن فيما أوقع من النكال بقوم لوط آيات للمتأملين في ذلك تحصل لهم بها الموعظة والاعتبار والخوف من معصية الله أن ينزل بهم مثل ذلك العذاب الذي أنزل بقوم لوط لما عصوه وكذبوا رسوله. وبين هذا المعنى في مواضع أخر كقوله في العنكبوت :﴿ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٣٥ ] وقوله في الذاريات :﴿ وَتَرَكْنَا فِيهَآ ءَايَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ ﴾ [ الذاريات : ٣٧ ] وقوله هنا :﴿ إِنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ وقوله في الشعراء بعد ذكر قصة قوم لوط :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ٨ ] الآية، كما صرح بمثل ذلك في إهلاك قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم شعيب في الشعراء وقوله :﴿ لِلْمُتَوَسِّمِينَ ﴾ أصل التوسم تفعل من الوسم وهو العلامة التي يستدل بها على مطلوب غيرها. يقال توسمت فيه الخير إذا رأيت ميسمه فيه أي علامته التي تدل عليه، ومنه قول عبد الله بن رواحة رضي الله عنه في النَّبي صلى الله عليه وسلم :
إني توسمت فيك الخير أعرفه | والله يعلم أني ثابت النظر |
توسمته لما رأيت مهابة | عليه وقلت المرء من آل هاشم |
ولا يخفى أن الاعتبار والنظر والتفرس والتأمل معناها واحد، وكذلك قول ابن زيد ومقاتل للمتوسمين أي للمتفكرين، وقول أبي عبيدة للمتوسمين أي للمبتصرين، فمآل جميع الأقوال راجع إلى شيء واحد وهو أن ما وقع لقوم لوط فيه موعظة وعبرة لمن نظر في ذلك وتأمل فيه حق التأمل وإطلاق التوسم على التأمل والنظر، والاعتبار مشهور في كلام العرب ومنه قول زهير :
وفيهن ملهى للصديق ومنظر | أنيق لعين الناظر المتوسم |
أو كلما وردت عكاظ قبيلة | بعثوا إلى عريفهم يتوسم |
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن ديار قوم لوط وآثار تدمير الله لها بسبيل مقيم أي بطريق ثابت يسلكه الناس لم يندرس بعد، يمر بها أهل الحجاز في ذهابهم إلى الشام، والمراد أن آثار تدمير الله لهم التي تشاهدون في أسفاركم فيها لكم عبرة ومزدجر يوجب عليكم الحذر من أن تفعلوا كفعلهم لئلا ينزل الله بكم مثل ما أنزل بهم وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر كقوله :﴿ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وَبِالَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [ الصافات : ١٣٧-١٣٨ ] وقوله :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴾[ محمد صلى الله عليه وسلم : ١٠ ]. وقوله فيها وفي ديار أصحاب الأيكة :﴿ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ ﴾ [ الحجر : ١٥ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
ذكر جل وعلا في هذه الآية أن أصحاب الأيكة كانوا ظالمين وأنه جل وعلا انتقم منهم بسبب ظلمهم، وأوضح هذه القصة في مواضع أخر كقوله في الشعراء ﴿ كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِين َوَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيم ِوَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرْضِ مُفْسِدِينَ وَاتَّقُواْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأوَّلِينَ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ١٧٦-١٩٠ ] فبين في هذه الآية أن ظلمهم هو تكذيب رسولهم وتطفيفهم في الكيل وبخسهم الناس أشياءهم، وأن انتقامه منهم بعذاب يوم الظلة، وبين أن عذاب يوم عظيم، والظلة سحابة أظلتهم فأضرمها الله عليهم ناراً فأحرقتهم والعلم عند الله تعالى.
قرأ نافع وابن عامر وابن كثير «ليكة ». في «الشعراء » و «ص » بلام مفتوحة أول الكلمة وتاء مفتوحة آخرها من غير همز ولا تعريف على أنه اسم للقرية غير منصرف. وقرأ أبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي «الأيكة » بالتعريف والهمز وكسر التاء، وقرأ كذلك جميع القراء في «ق » و «الحجر ». قال أبو عبيدة : ليكة والأيكة اسم مدينتهم كمكة وبكة، والأيكة في لغة العرب الغيضة وهي جماعة الشجر والجمع الأيك، وإنما سموا أصحاب الأيكة لأنهم كانوا أصحاب غياض ورياض، ويروى أن شجرهم كان دوماً وهو المقل، ومن إطلاق الأيكة على الغيضة قول النابغة :
تجلو بقادمتي حمامة أيكة | برداً أسف لثانه بالإثمد |
الحجر : منازل ثمود بين الحجاز والشام عند وادي القرى. فمعنى الآية الكريمة :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ ﴾، وقد بين تعالى تكذيب ثمود لنبيه صالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام في مواضع أخر. كقوله :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ ﴾ [ الشعراء : ١٤١-١٤٢ ] وقوله :﴿ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا ﴾ [ الشمس : ١٤ ] وقوله :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُر ِفَقَالُواْ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾[ القمر : ٢٣-٢٤ ] وقوله :﴿ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الأعراف : ٧٧ ] إلى غير ذلك من الآيات. وإنما قال إنهم كذبوا المرسلين مع أن الذي كذبوه هو صالح وحده لأن دعوة جميع الرسل واحدة، وهي تحقيق معنى «لا إله إلا الله » كما بينه تعالى بأدلة عمومية وخصوصية ؛ قال معمماً لجميعهم :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [ الأنبياء : ٢٥ ] الآية. وقال :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ ﴾ [ النحل : ٣٦ ] وقال :﴿ وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَانِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٤٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقال في تخصيص الرسل بأسمائهم :﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي ﴾ [ الأعراف : ٥٩ ] وقال :﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيرُهُ ﴾ [ الأعراف : ٥٩ ] وقال :﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ﴾ [ الأعراف : ٨٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
فإذا حققت أن دعوة الرسل واحدة عرفت أن من كذب واحداً منهم فقد كذب جميعهم. ولذا صرح تعالى بأن من كفر ببعضهم فهو كافر حقاً. قال :﴿ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذالِكَ سَبِيلاً أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً ﴾ [ النساء : ١٥٠-١٥١ ] وبين أنه لا تصح التفرقة بينهم بقوله :﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ ﴾ [ البقرة : ١٣٦ ] وقوله :﴿ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٨٥ ] ووعد الأجر على عدم التفرقة بينهم في قوله :﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ ﴾ [ النساء : ١٥٢ ] الآية.
وقد بينا هذه المسألة في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ».
تنبيه
اعلم أنه صلى الله عليه وسلم مر بالحجر المذكور في هذه الآية في طريقه في غزوة تبوك، فقد أخرج البخاري في صحيحه في غزوة تبوك عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : لمَّا مرَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم بالحجر قال :«لا تدخلوا مساكن الَّذين ظلموا أنفسهم أن يصيبكم ما أصابهم، إلاَّ أن تكونوا باكين ثمَّ قنَّع رأسه وأسرع السَّير حتَّى أجاز الوادي ». وهذا لفظ البخاري. وأخرج البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا نزل الحجر في غزوة تبوك، «أمرهم ألا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها. فقالوا قد عجنَّا منها واستقينا، فأمرهم أَن يطرحوا ذلك العجين ويهرقو ذلك الماء ». ثم قال البخاري : ويروى عن سبرة بن معبد وأبي الشموس : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم «أمر بإلقاء الطَّعام » ثم قال : وقال أبو ذر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم :«من اعتجن بمائه ».
ثم ساق بسنده عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أخبره : أَنَّ النَّاس نزلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض ثمود الحجر واستقوا من بئرها واعتجنوا به فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم «أن يهرقوا ما استقوا من بيارهم وأن يعلفوا الإبل العجين، وأمرهم أن يستسقوا من البئر التي تردها النَّاقة » ثم قال : تابعه أسامة عن نافع.
ثم ساق بسنده عن سالم بن عبد الله عن أبيه : أَنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم لمَّا مر بالحجر قال :«لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين أَن يصيبكم ما أصابهم. ثمَّ تقنَّع بردائه وهو على الرَّحل ».
ثم ساق أيضاً بسنده عن سالم أن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابكم » هذا كله لفظ البخاري في صحيحه. وقال ابن حجر في الفتح : أما حديث سبرة بن معبد فوصله أحمد والطبراني من طريق عبد العزيز بن الربيع بن سبرة بن معبد عن أبيه عن جده سبرة وهو بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة الجهني قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين راح من الحجر :«من كان عجن منكم من هذا الماء عجينة أو حاس حيساً فليلقه » وليس لسبرة بن معبد في البخاري إلا هذا الموضع. وأما حديث أبي الشموس وهو بمعجمة ثم مهملة، وهو بكري لا يعرف اسمه فوصله البخاري في الأدب المفرد والطبراني وابن منده من طريق سليم بن مطير عن أبيه عنه قال :«كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فذكر الحديث وفيه فألقى ذو العجين عجينة وذو الحيس حيسه » ورواه ابن أبي عاصم من هذا الوجه وزاد :«فقلت يا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حست حيسة فألقمها راحلتي قال نعم ».
وقال ابن حجر أيضاً : قوله وقال أبو ذر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم «من اعتجن بمائه » وصله البزار من طريق عبد الله بن قدامة عنه :«أنهم كانوا مع النَّبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فآتوا على واد فقال لهم النَّبي صلى الله عليه وسلم «إنكم بواد ملعون فأسرعوا » وقال :«من اعتجن عجينة أو طبخ قدراً فليكبها » الحديث وقال : لا أعلمه إلا بهذا الإسناد. وأخرج البخاري في تفسير قوله تعالى ﴿ وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ عن ابن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحاب الحجر :«لا تدخلوا على هؤلاء القوم إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكِين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم »
وأخرج البخاري أيضاً عن ابن عمر «في كتاب الصلاة » في «باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
«لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم لا يصيبكم ما أصابهم » وبعض هذه الروايات الذي ذكرناها عن البخاري أخرجه مسلم أيضاً في صحيحه، فقد اتفقا على النهي عن دخول ديارهم إلا في حال البكاء، وعلى إسراعه صلى الله عليه وسلم حتى جاوز ديارهم. وفي هذه الروايات الصحيحة النهي عن الدخول إلى مواضع الخسف والعذاب إلا في حالة البكاء، وفيها الإسراع بمجاوزتها وعدم الاستسقاء من مياهها، وعدم أكل الطعام الذي عجن بها، ومن هنا قال بعض العلماء : لا يجوز التطهر بمائها ولا تصح الصلاة فيها لأن ماءها لما لم يصلح للأكل والشرب علم أنه غير صالح للطهارة التي هي تقرب إلى الله تعالى. قال البخاري في صحيحه «باب الصلاة في مواضع الخسف والعذاب » ويذكر أن علياً رضي الله عنه كره الصلاة بخسف بابل. وقال ابن حجر في الفتح : هذا الأثر رواه ابن أبي شيبة من طريق عبد الله بن أبي المُحِل وهو بضم الميم وكسر المهملة وتشديد اللام قال «كنا مع علي فمررنا على الخسف الذي ببابل فلم يصل حتى أجازه أي تعداه » ومن طريق أخرى عن عليّ قال :«ما كنت لأصلي بأرض خسف الله بها ثلاث مرار » والظاهر أن قوله ثلاث مرار ليس متعلقاً بالخسف لأنه ليس فيها إلا خسف واحد. وإنما أراد أن علياً قال ذلك ثلاثاً. ورواه أبو داود مرفوعاً من وجه آخر عن علي ولفظه :«نهاني حبيبي صلى الله عليه وسلم أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة » في إسناده ضعف واللائق بتعليق المصنف ما تقدم والمراد بالخسف هنا ما ذكره الله تعالى في قوله :﴿ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ ﴾ [ النحل : ٢٦ ] الآية، ذكر أهل التفسير والأخبار : أن المراد بذلك أن النمروذ بن كنعان بنى ببابل بنياناً عظيماً يقال إن ارتفاعه كان خمسة آلاف ذراع فخسف الله بهم : قال الخطابي :«لا أعلم أحداً من العلماء حرم الصلاة في أرض بابل » انتهى محل الغرض من فتح الباري.
وقول الخطابي يعارضه ما رأيته عن علي رضي الله عنه، ولكنه يشهد له عموم الحديث الصحيح :«وجعلت لنا الأرض مسجداً وطهوراً » وحديث أبي داود المرفوع عن علي الذي أشار له ابن حجر أن فيه ضعفاً هو قوله :«حدثنا سليمان بن داود أخبرنا ابن وهب قال حدثني ابن لهيعة ويحيى بن أزهر عن عمار بن سعد المرادي عن أبي صالح الغفاري : أن علياً رضي الله عنه مر ببابل وهو يسير فجاءه المؤذن يؤذنه بصلاة العصر ؛ فلما برز منها أمر المؤذن فأقام الصلاة فلما فرغ منها قال :«إن حبيبي صلى الله عليه وسلم نهاني أن أصلي في المقبرة، ونهاني أن أصلي في أرض بابل فإنها ملعونة ».
حدثنا أحمد بن صالح ثنا ابن وهب أخبرني يحيى بن أزهر وابن لهيعة عن الحجاج بن شداد عن أبي صالح الغفاري عن علي بمعنى سليمان بن داود قال :«فلما خرج » مكان «فلما برز » اه وقد يظهر للناظر في إسنادي هذا الحديث أنه لا يقل عن درجة القبول، ولكن فيه علة خفية نبه عليها ابن يونس أما كونه لا يقل عن درجة القبول فلأن طريقته الأولى أول طبقاتها سليمان بن داود ولا خلاف في كونه ثقة، وفي الثانية أحمد بن صالح مكان سليمان المذكور، وأحمد بن صالح ثقة حافظ. وكلام النسائي فيه غلط مردود عليه كما قال العراقي في ألفيته :
وربما رد كلام الجارح | كالنسائي في أحمد بن صالح |
والطبقة الثانية في كلا الإسنادين : ابن وهب وهو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم أبو محمد المصري ثقة حافظ عابد مشهور.
والطبقة الثالثة من الإسنادين : يحيى بن أزهر وعبد الله بن لهيعة ويحيى بن أزهر البصري مولى قريش صدوق، وعبد الله بن لهيعة صدوق خلط بعد احتراق كتبه. والظاهر أن اعتضاد أحدهما بالآخر لا يقل عن درجة الحسن. ويؤيد ذلك أن راوي الحديث ابن وهب ومعلوم أن رواية ابن وهب وابن المبارك عن ابن لهيعة أعدل من رواية غيرهما عنه.
والطبقة الرابعة في الإسناد الأول : عمار بن سعد المرادي. وفي الإسناد الثاني الحجاج بن شداد وعمار بن سعد المرادي ثم السلمي والحجاج بن شداد الصنعاني نزيل مصر كلاهما مقبول كما قا
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه آتى أصحاب الحجر وهم ثمود آياته فكانوا عنها معرضين. والإعراض : الصدود عن الشيء وعدم الالتفات إليه ؛ كأنه مشتق من العرض بالضم وهو الجانب. لأن المعرض لا يولي وجهه بل يثنى عطفه ملتفتاً صاداً.
ولم يبين جل وعلا هنا شيئاً من تلك الآيات التي آتاهم، ولا كيفية إعراضهم عنها، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر. فبين أن من أعظم الآيات التي آتاهم : تلك الناقة التي أخرجها الله لهم. بل قال بعض العلماء : إن في الناقة المذكورة آيات جمة : كخروجها عشراء، وبراء، جوفاء من صخرة صماء، وسرعة ولادتها عند خروجها، وعظمها حتى لم تشبهها ناقة، وكثرة لبنها حتى يكفيهم جميعاً، وكثرة شربها. كما قال تعالى :﴿ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾ [ الشعراء : ١٥٥ ] وقال :﴿ وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَآءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ ﴾ [ القمر : ٢٨ ].
فإذا علمت ذلك فاعلم أن مما يبين قوله تعالى :﴿ وَءَاتَيْنَاهُمْ ءَايَاتِنَا ﴾ قوله :﴿ فَأْتِ بِآيَةٍ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ﴾ [ الشعراء : ١٥٤-١٥٥ ]. وقوله :﴿ قَدْ جَآءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ ﴾ [ الأعراف : ٧٣ ] الآية. وقوله :﴿ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ] الآية. وقوله :﴿ إِنَّا مُرْسِلُواْ النَّاقَةِ فِتْنَةً لَّهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ ﴾ [ القمر : ٢٧ ] وقوله :﴿ وَيا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ ءَايَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِى أَرْضِ اللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ﴾ [ هود : ٦٤ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وبين إعراض قوم صالح عن تلك الآيات في مواضع كثيرة ؛ كقوله :﴿ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [ الأعراف : ٧٧ ] وقوله ﴿ فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ﴾ [ هود : ٦٥ ] الآية. وقوله :﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا ﴾ [ الشمس : ١١-١٤ ] الآية. وقوله :﴿ فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ﴾ [ القمر : ٢٩ ]. وقوله :﴿ وَءَاتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا ﴾ [ الإسراء : ٥٩ ]. وقوله :﴿ قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ ﴾ [ الشعراء : ١٥٣-١٥٤ ]. إلى غير ذلك من الآيات.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن أصحاب الحجر وهم ثمود قوم صالح كانوا آمنين في أوطانهم، وكانوا ينحتون الجبال بيوتاً.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله تعالى :﴿ أَتُتْرَكُونَ في مَا هَاهُنَآ ءَامِنِينَ في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ ﴾[ الشعراء : ١٤٦-١٤٧ ] وقوله تعالى :﴿ وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ في الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُواْ ءَالآءَ اللَّهِ ﴾. [ الأعراف : ٧٤ ] الآية وقوله :﴿ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُواْ الصَّخْرَ بِالْوَادِ ﴾ [ الفجر : ٩ ] أي قطعوا الصخر بنحته بيوتاً.
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق ؛ أي ليدل بذلك على أنه المستحق لأن يعبد وحده، وأنه يكلف الخلق ويجازيهم على أعمالهم.
فدلت الآية على أنه لم يخلق عبثاً ولا لعباً ولا باطلاً. وقد أوضح ذلك في آيات كثيرة، كقوله :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ ﴾ [ ص : ٢٧ ]، وقوله ﴿ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [ آل عمران : ١٩١ ]، وقوله :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ ﴾ [ الدخان : ٣٨-٣٩ ] الآية، وقوله :﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ﴾ [ المؤمنون : ١١٥-١١٦ ]، وقوله :﴿ وَلِلَّهِ مَا في السَّمَاوَاتِ وَمَا في الأرْضِ لِيَجْزِىَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِالْحُسْنَى ﴾ [ فاطر : ٣١ ]، وقوله :﴿ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ألَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى ﴾ [ القيامة : ٣٦-٣٧ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ ﴾ [ ٨٥ ].
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن الساعة آتية، وأكد ذلك بحرف التوكيد الذي هو «إنَّ » وبلام الابتداء التي تزحلقها إن المكسورة عن المبتدأ إلى الخبر. وذلك يدل على أمرين :
أحدهما إتيان الساعة لا محالة.
والثاني أن إتيانها أنكره الكفار، لأن تعدد التوكيد يدل على إنكار الخبر، كما تقرر في فن المعاني.
وأوضح هذين الأمرين في آيات أخر. فبين أن الساعة آتية لا محالة في مواضع كثيرة كقوله :﴿ إِنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ ﴾ [ طه : ١٥ ] وقوله :﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن في الْقُبُورِ ﴾ ] الحج : ٧ ] وقوله :﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ﴾ [ الحج : ١-٢ ] الآية، وقوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ ﴾ [ الجاثية : ٣٢ ] الآية، وقوله :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ ﴾[ الروم : ١٢ ]، وقوله :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ ﴾ [ الروم : ٥٥ ]، وقوله :﴿ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً ﴾ [ الأعراف : ١٨٧ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
وبين جل وعلا إنكار الكفار لها في مواضع آخر. كقوله :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ ﴾[ سبأ : ٣ ] وقوله :﴿ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ ﴾ [ التغابن : ٧ ] وقوله :﴿ إِنَّ هَؤُلاَءِ لَيَقُولُونَ إِنْ هي إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأوْلَى وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ ﴾ [ الدخان : ٣٥ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
قوله تعالى :﴿ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ ﴾ [ ٨٥ ].
أمر الله جل وعلا نبيه عليه الصلاة والسلام في هذه الآية الكريمة أن يصفح عمن أساء الصفح الجميل ؛ أي بالحلم والإغضاء. وقال علي وابن عباس : الصفح الجميل : الرضا بغير عتاب. وأمره صلى الله يشمل حكمة الأمة. لأنه قدوتهم والمشرع لهم.
وبين تعالى ذلك المعنى في مواضع آخر. كقوله :﴿ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الزخرف : ٨٩ ] ﴿ وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ]، وقوله :﴿ سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِى الْجَاهِلِينَ ﴾ [ القصص : ٥٥ ]، وقوله :﴿ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِي اللَّهُ بِأَمْرِهِ ﴾ [ البقرة : ١٠٩ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات.
وقال بعض العلماء : هذا الأمر بالصفح منسوخ بآيات السيف. وقيل : هو غير منسوخ. والمراد به حسن المخالفة، وهي المعاملة بحسن الخلق.
قال الجوهري في صحاحه : والخلق والخلق : السجية، يقال : خالص المؤمن، وخالق الفاجر.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه الخلاق العليم. والخلاق والعليم : كلاهما صيغة مبالغة.
والآية تشير إلى أنه لا يمكن أن يتصف الخلاق بكونه خلاقاً إلا وهو عليم بكل شيء، لا يخفى عليه شيء، إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه أن يخلقه.
وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى :﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٩ ]، وقوله :﴿ أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [ الملك : ١٤ ]، وقوله :﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ ﴾ [ البقرة : ٢٩ ]، وقوله :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِّتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلْمَا ﴾ [ الطلاق : ١٢ ]، وقوله تعالى مجيباً للكفار لما أنكروا البعث وقالوا :﴿ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعُ بَعِيدٌ ﴾ [ ق : ٣ ] مبيناً أن العالم بما تمزق في الأرض من أجسادهم قادر على إحيائهم :﴿ قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرْضَ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ﴾ [ ق : ٤ ] إلى غير ذلك من الآيات.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه أتى نبيه صلى الله عليه وسلم سبعاً من المثاني والقرآن العظيم. ولم يبين هنا المراد بذلك.
وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة إن كان لها بيان في كتاب الله غير واف بالمقصود، أننا نتمم ذلك البيان من السنة، فنبين الكتاب بالسنة من حيث إنها بيان للقرآن المبين باسم الفاعل. فإذا علمت ذلك فاعلم أن النَّبي صلى الله عليه وسلم بين في الحدث الصحيح : أن المراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم في هذه الآية الكريمة : هو فاتحة الكتاب. ففاتحة الكتاب مبينة للمراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم، وإنما بينت ذلك بإيضاح النَّبي صلى الله عليه وسلم لذلك في الحديث الصحيح.
قال البخاري في صحيحه في تفسير هذه الآية الكريمة : حدثني محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي سعيد بن المعلى قال : مرَّ بي النَّبي صلى الله عليه وسلم وأنا أُصلِّي، فدعاني فلم آته حتَّى صلَّيت، ثمَّ أتيت فقال :«ما منعك أن تأتيني » فقلت : كنت أُصلِّي. فقال :«ألم يقل الله ﴿ مُّعْرِضُونَ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ﴾ ثمَّ قال : ألا أعلمك أعظم سورةٍ في القرآن قبل أن أخرج من المسجد » فذهب النَّبي صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرته فقال :﴿ الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ ﴾ هي السَّبع المثاني والقرآن العظيم الَّذي أُوتيته ». حدثنا آدم حدثنا ابن أبي ذئب، حدثنا سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أَمُّ القُرآنِ هِي السَّبع المثاني والقرآن العظيم ».
فهذا نص صحيح من النَّبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بالسبع المثاني والقرآن العظيم : فاتحة الكتاب، وبه تعلم أن قول من قال إنها السبع الطوال غير صحيح، إذ لا كلام لأحد معه صلى الله عليه وسلم. ومما يدل على عدم صحة ذلك القول : أن آية الحجر هذه مكية، وأن السبع الطوال ما أنزلت إلا بالمدينة. والعلم عند الله تعالى.
وقيل لها «مثاني » لأنها تثنى قراءتها في الصلاة.
وقيل لها «سبع » لأنها سبع آيات.
وقيل لها «القرآن العظيم » لأنها هي أعظم سورة ؛ كما ثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المذكور آنفاً.
وإنما عطف القرآن العظيم على السبع المثاني مع أن المراد بهما واحد وهو الفاتحة لما علم في اللغة العربية : من أن الشيء الواحد إذا ذكر بصفتين مختلفتين جاز عطف إحداهما على الأخرى تنزيلاً لتغابر الصفات منزلة تغابر الذوات ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى ﴾، وقول الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام | وليث الكتيبة في المزدحم |
لما بين تعالى أنه آتى النَّبي صلى الله عليه وسلم السبع المثاني والقرآن العظيم، وذلك أكبر نصيب، وأعظم حظ عند الله تعالى، نهاه أن يمد عينيه إلى متاع الحياة الدنيا الذي متع به الكفار ؛ لأن من أعطاه ربه جل وعلا النصيب الأكبر والحظ الأوفر، لا ينبغي له أن ينظر إلى النصيب الأحقر الأخس، ولاسيما إذا كان صاحبه إنما أعطيه لأجل الفتنة والاختبار. وأوضح هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله في ( طه ) :﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءَانَآءِ الَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَواةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلواةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [ طه : ١٣٠-١٣٢ ] والمراد بالأزواج هنا : الأصناف من الذين متعهم الله بالدنيا.
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾ [ ٨٨ ].
الصحيح في معنى هذه الآية الكريمة : أن الله نهى نبيه صلى الله عليه وسلم عن الحزن على الكفار إذا امتنعوا من قبول الإسلام. ويدل لذلك كثرة ورود هذا المعنى في القرآن العظيم ؛ كقوله :﴿ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ في ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴾ [ النحل : ١٢٧ ]، وقوله :﴿ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ﴾ [ فاطر : ٨ ]، وقوله :﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ٣ ]، وقوله :﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ﴾ [ الكهف : ٦ ]، وقوله :﴿ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ [ المائدة : ٦٨ ] إلى غير ذلك من الآيات.
والمعنى : قد بلغت وليست مسؤولاً عن شقاوتهم إذا امتنعوا من الإيمان، فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، فلا تحزن عليهم إذا كانوا أشقياء.
قوله تعالى :﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ ٨٨ ].
أمر الله جل وعلا نبيه في هذه الآية الكريمة بخفض جناحه للمؤمنين. وخفض الجناح كناية عن لين الجانب والتواضع، ومنه قول الشاعر :
وأنت الشهير بخفض الجناح | فلا تك في رفعه أجدلا |
ويفهم من دليل خطاب الآية الكريمة أعني مفهوم مخالفتها أن غير المؤمنين لا يخفض لهم الجناح، بل يعاملون بالشدة والغلظة.
وقد بين تعالى هذا المفهوم في مواضع أخر. كقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ [ التوبة : ٧٣ ]، وقوله :﴿ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [ الفتح : ٢٩ ] وقوله :﴿ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [ المائدة : ٥٤ ] كما قدمناه في المائدة.
في المراد بالمقتسمين أقوال للعلماء معروفة، وكل واحد منها يشهد له قرآن ؛ إلا أن في الآية الكريمة قرينة تضعف بعض تلك الأقوال :
الأول أن المراد بالمقتسمين : الذين يحلفون على تكذيب الرسل ومخالفتهم، وعلى هذا القول فالاقتسام افتعال من القسم بمعنى اليمين، وهو بمعنى التقاسم.
ومن الآيات التي ترشد لهذا الوجه قوله تعالى عن قوم صالح :﴿ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ﴾ [ النمل : ٤٩ ] الآية. أي نقتلهم ليلاً، وقوله :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ ﴾ [ النحل : ٣٨ ]، وقوله :﴿ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ ﴾ [ إبراهيم : ٤٤ ]، وقوله :﴿ أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ﴾ [ الأعراف : ٤٩ ] إلى غير ذلك من الآيات. فكأنهم كانوا لا يكذبون بشيء إلا أقسموا عليه ؛ فسموا مقتسمين.
القول الثاني أن المراد بالمقتسمين : اليهود والنصارى. وإنما وصفوا بأنهم مقتسمون لأنهم اقتسموا كتبهم فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها.
ويدل لهذا القول قوله تعالى :﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ﴾ [ البقرة : ٢٣ ] الآية، وقوله :﴿ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ ﴾ [ النساء : ١٥٠ ] الآية.
القول الثالث أن المراد بالمقتسمين : جماعة من كفار مكة اقتسموا القرآن بأقوالهم الكاذبة، فقال بعضهم : هو شعر. وقال بعضهم : هو سحر. وقال بعضهم : كهانة. وقال بعضهم : أساطير الأولين. وقال بعضهم : اختلفه محمد، صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول تدل له الآيات الدالة على أنهم قالوا في القرآن تلك الأقوال المفتراة الكاذبة، كقوله تعالى :﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الحاقة : ٤١-٤٢ ]، وقوله :﴿ فَقَالَ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ [ المدثر : ٢٤ ]، وقوله :﴿ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ ﴾ [ ص : ٧ ]، وقوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ﴾ [ النحل : ٢٤ ]، وقوله :﴿ وَقَالُواْ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فهي تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٥ ] إلى غير ذلك من الآيات.
والقرينة في الآية الكريمة تؤيد هذا القول الثالث ولا تنافي الثاني بخلاف الأول. لأن قوله ﴿ الَّذِينَ جَعَلُواْ الْقُرْءَانَ عِضِينَ ﴾ [ الحجر : ٩١ ] أظهر في القول الثالث، لجعلهم له أعضاء متفرقة بحسب اختلاف أقوالهم الكاذبة، كقولهم : شعر، سحر، كهانة الخ.
وعلى أنهم أهل الكتاب فالمراد بالقرآن كتبهم التي جزؤوها فآمنوا ببعضها وكفروا ببعضها، أو القرآن لأنهم آمنوا بما وافق هواههم منه وكفروا بغيره.
وقوله ﴿ عِضِينَ ﴾ جمع عضة، وهي العضو من الشيء، أي جعلوه أعضاء متفرقة. واللام المحذوفة أصلها واو. قال بعض العلماء : اللام المحذوفة أصلها هاء، وعليه فأصل العضة عضهه. والعضه السحر ؛ فعلى هذا القول فالمعنى جعلوا القرآن سحراً ؛ كقوله :﴿ إِنْ هَذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ ﴾ [ المدثر : ٢٤ ]، وقوله :﴿ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا ﴾ [ القصص : ٤٨ ] إلى غير ذلك من الآيات.
والعرب تسمي الساحر عاضها، والساحرة عاضهة ؛ والسحر عضها. ويقال : إن ذلك لغة قريش ؛ ومنه قول الشاعر :
أعوذ بربي من النافثا | ت في عقد العاضه المعضه |
فإن قيل : بم تتعلق الكاف في قوله ﴿ كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ ﴾ [ الحجر : ٩٠ ] ؟
فالجواب ما ذكره الزمخشري في كشافه قال : فإن قلت بم تعلق قوله ﴿ كَمَآ أَنْزَلْنَا ﴾ قلت : فيه وجهان : أحدهما أن يتعلق بقوله :﴿ وَلَقَدْ ءاتَيْنَاكَ ﴾ [ الحجر : ٨٧ ] أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب، وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين، حيث قالوا بعنادهم وعدوانهم : بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل، وبعضه باطل مخالف لهما، فاقتسموه إلى حق وباطل وعضوه. وقيل : كانوا يستهزؤون به فيقول بعضهم :«سورة البقرة » لي، ويقول الآخر :«سورة آل عمران » لي ( إلى أن قال ) الوجه الثاني أن يتعلق بقوله :﴿ وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ ﴾ [ الحجر : ٨٩ ] أي وأنذر قريشاً مثل ما أنزلناه من العذاب على المقتسمين ( يعني اليهود ) وهو ما جرى على قريظة والنضير. جعل المتوقع بمنزلة الواقع وهو من الإعجاز، لأنه إخبار بما سيكون، وقد كان انتهى محل الغرض من كلام صاحب الكشاف.
ونقل كلامه بتمامه أبو حيان في «البحر المحيط » ثم قال أبو حيان :
أما الوجه الأول وهو تعلق ﴿ كَمَا ﴾ ب ﴿ ءاتَيْنَاكَ ﴾ فذكره أبو البقاء على تقدير، وهو أن يكون في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف تقديره : آتيناك سبعاً من المثاني إيتاء كما أنزلنا، أو إنزالاً كما أنزلنا. لأن «آتيناك » بمعنى أنزلنا عليك.
أي فاجهر به وأظهره ؛ من قولهم : صدع بالحجة إذا تكلم بها جهاراً، كقولك : صرح بها.
وهذه الآية الكريمة أمر الله فيها نبيه صلى الله عليه وسلم بتبليغ ما أمر به علناً في غير خفاء ولا مواربة. وأوضح هذا المعنى في مواضع كثيرة، كقوله ﴿ يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ﴾ [ المائدة : ٦٧ ] الآية.
وقد شهد له تعالى بأنه امتثل ذلك الأمر فبلغ على أكمل وجه في مواضع أخر ؛ كقوله :﴿ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأزْلاَمِ ذالِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [ المائدة : ٣ ]، وقوله :﴿ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ ﴾ [ الذاريات : ٥٤ ] إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
قوله :﴿ فَاصْدَعْ ﴾ قال بعض العلماء : أصله من الصدع بمعنى الإظهار، ومنه قولهم : انصدع الصبح : انشق عنه الليل. والصديع : الفجر لانصداعه، ومنه قول عمرو بن معد يكرب :
ترى السرحان مفترشاً يديه *** كأن بياض لبته صديع
أي فجر والمعنى على هذا القول : أظهر ما تؤمر به وبلغه علناً على رؤوس الأشهاد وتقول العرب : صدعت الشيء : أظهرته ؛ ومنه قول أبي ذؤيب :
وكأنهن ربابة وكأنه *** يسر يفيض على القداح ويصدع
قاله صاحب اللسان.
وقال بعض العلماء : أصله من الصدع بمعنى التفريق والشق في الشيء الصلب كالزجاج والحائط. ومنه بمعنى التفريق : قوله تعالى :﴿ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ﴾ [ الروم : ٤٣ ] أي يتفرقون : فريق في الجنة وفريق في السعير ؛ بدليل قوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ﴾ [ الروم : ١٤ ] ومنه قول غيلان ذي الرمة :
عشية قلبي في المقيم صديعه *** وراح جناب الظاعنين صديع
يعني أن قلبه افترق إلى جزءين : جزء في المقيم، وجزء في الطاعنين.
وعلى هذا القول ﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ أي فرق بين الحق والباطل بما أمرك الله بتبليغه. وقوله :﴿ بِمَا تُؤْمَرُ ﴾ يحتمل أن تكون «ما » موصولة. ويحتمل أن تكون مصدرية، بناء على جواز سبك المصدر من أن والفعل المبني للمفعول، ومنع ذلك جماعة من علماء العربية. قال أبو حيان في ( البحر ) : والصحيح أن ذلك لا يجوز. قوله تعالى :﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾. في هذه الآية الكريمة قولان معروفان للعلماء :
أحدهما أن معنى ﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ أي لا تبال بتكذيبهم واستهزائهم، ولا يصعب عليك ذلك. فالله حافظك منهم.
والآية على هذا التأويل معناها : فاصدع بما تؤمر أي بلغ رسالة ربك، وأعرض عن المشركين، أي لا تبال بهم ولا تخشهم. وهذا المعنى كقوله تعالى :﴿ يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [ المائدة : ٦٧ ].
الوجه الثاني وهو الظاهر في معنى الآية أنه كان في أول الأمر مأموراً بالإعراض عن المشركين، ثم نسخ ذلك بآيات السيف. ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :﴿ اتَّبِعْ مَآ أُوحِىَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٠٦ ]، وقوله :﴿ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانتَظِرْ إنهُمْ مُنْتَظرونَ ﴾ [ السجدة : ٣٠ ]، وقوله :﴿ فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا ﴾ [ النجم : ٢٩ ] وقوله :﴿ وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ ﴾ [ الأحزاب : ٤٨ ] إلى غير ذلك من الآيات.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أنه كفى نبيه صلى الله عليه وسلم المستهزئين الذين كانوا يستهزؤون به وهم قوم من قريش. وذكر في مواضع أخر أنه كفاه غيرهم. كقوله في أهل الكتاب :﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ﴾ [ البقرة : ١٣٧ ] الآية، وقوله :﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [ الزمر : ٣٦ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
والمستهزؤون المذكورون : هم الوليد بن المغيرة، والعاص بن وائل، والحارث بن قيس السهمي والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب.
والآفات التي كانت سبب هلاكهم مشهورة في التاريخ.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه يعلم أن نبيه صلى الله عليه وسلم يضيق صدره بما يقول الكفار فيه : من الطعن والتكذيب، والطعن في القرآن. وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ؛ كقوله :﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ﴾، وقوله :﴿ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنُزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ ﴾ [ هود : ١٢ ]، وقوله ﴿ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى ءَاثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً ﴾ [ الكهف : ٦ ] وقوله :﴿ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾[ الشعراء : ٣ ] إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا شيئاً من ذلك من الأنعام.
أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بأمرين : أحدهما قوله :﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾، والثاني قوله :﴿ وَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ ﴾.
وقد تكرر تعالى في كتابة الأمر بالشيئين المذكورين في هذه الآية الكريمة، كقوله في الأول :﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوابَا ﴾ [ النصر : ٣ ]، وقوله :﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ﴾ [ طه : ١٣٠ ]، وقوله :﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِىِّ وَالإبْكَارِ ﴾ [ غافر : ٥٥ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وأصل التسبيح في اللغة : الإبعاد عن السوء. ومعناه في عرف الشرع : تنزيه الله جل وعلا عن كل ما لا يليق بجلاله وكماله. ومعنى سبح : نزه ربك جل وعلا عن كل ما لا يليق بكماله وجلاله. وقوله ﴿ بِحَمْدِ رَبّكَ ﴾ أي في حال كونك متلبساً بحمد ربك، أي بالثناء عليه بجميع ما هو أهله من صفات الكمال والجلال، لأن لفظة ﴿ بِحَمْدِ رَبّكَ ﴾ أضيفت إلى معرفة فتعم جميع المحامد من كل وصف كمال وجلال ثابت لله جل وعلا. فتستغرق الآية الكريمة الثناء بكل كمال، لأن الكمال يكون بأمرين :
أحدهما التخلي عن الرذائل، والتنزه عما لا يليق، وهذا معنى التسبيح.
والثاني التحلي بالفضائل والاتصاف بصفات الكمال، وهذا معنى الحمد، فتم الثناء بكل كمال.
ولأجل هذا المعنى ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :«كلمتان خفيفتان على اللِّسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرَّحمان : سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم »، وكقوله في الثاني وهو السجود :﴿ كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب ﴾ [ العلق : ١٩ ] ﴿ وَمِنَ الَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ﴾ [ الإنسان : ٢٦ ] وقوله :﴿ وَاسْجُدُواْ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [ فصلت : ٣٧ ] ويكثر في القرآن العظيم إطلاق التسبيح على الصلاة.
وقالت جماعة من العلماء : المراد بقوله :﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ﴾ أي صل له، وعليه فقوله ﴿ وَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ ﴾ من عطف الخاص على العام والصلاة تتضمن غاية التنزيه ومنتهى التقديس. وعلى كل حال فالمراد بقوله ﴿ وَكُنْ مِّنَ السَّاجِدِينَ ﴾ أي من المصلين، سواء قلنا إن المراد بالتسبيح الصلاة، أو أعم منها من تنزيه الله عما لا يليق به. ولأجل كون المراد بالسجود الصلاة لم يكن هذا الموضع محل سجدة عند جمهور العلماء. خلافاً لمن زعم أنه موضع سجود.
قال القرطبي في تفسيره : قال ابن العربي : ظن بعض الناس أن المراد بالأمر هنا السجود نفسه، فرآى هذا الموضع محل سجود في القرآن، وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس طهره الله يسجد في هذا الموضع، وسجدت معه فيه، ولم يره جماهير العلماء.
قلت : قد ذكر أبو بكر النقاش أن ههنا سجدة عند أبي حذيفة ويمان بن رئاب ورأى أنها واجبة انتهى كلام القرطبي.
وقد تقدم معنى السجود في سورة الرعد. وعلى أن المراد بالتسبيح الصلاة فالمسوغ لهذا الإطناب الذي هو عطف الخاص على العام هو أهمية السجود، لأن أقرب ما يكون العيد من ربه في حال كونه في السجود.
قال مسلم في صحيحه : وحدثنا هارون بن معروف، وعمرو بن سواد قالا : حدثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عمارة بن غزية، عن سمي مولى أبي بكر، أنه سمع أبا صالح ذكوان يحدث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء ».
تنبيه
اعلم أن ترتيبه جل وعلا الأمر بالتسبيح والسجود على ضيق صدره صلى الله عليه وسلم بسبب ما يقولون له من السوء دليل على أن الصلاة والتسبيح سبب لزوال ذلك المكروه، ولذا كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر بادر إلى الصلاة. وقال تعالى :﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَواةِ ﴾ [ البقرة : ٥٤ ] الآية.
ويؤيد هذا ما رواه الإمام أحمد، وأبو داود، والنسائي من حديث نعيم بن عمار رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«قال الله تعالى : يا ابن آدم لا تعجز عن أربع ركعات من أول النهار أكفك آخره » فينبغي للمسلم إذا أصابه مكروه أن يفزع إلى الله تعالى بأنواع الطاعات من صلاة وغيرها.
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعبد ربه، أي يتقرب له على وجه الذل والخضوع والمحبة بما أمر أن يتقرب له به من جميع الطاعات على الوجه المشروع. وجل القرآن في تحقيق هذا الأمر الذي هو حظ الإثبات من لا إله إلا الله، مع حظ النفي منها. وقد بين القرآن أن هذا لا ينفع إلا مع تحقيق الجزء الثاني من كلمة التوحيد، الذي هو حظ النفي منها. وهو خلع جميع المعبودات سوى الله تعالى في جميع أنواع العبادات. قال تعالى :﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾ [ هود : ١٢٣ ]، وقال ﴿ فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ﴾ [ مريم : ٦٥ ]، وقال :﴿ وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ﴾ [ النساء : ٣٦ ]، وقال ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ﴾ [ البقرة : ٢٥٦ ]، وقال :﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾ [ يوسف : ١٠٦ ] والآيات في مثل ذلك كثيرة جداً.
قوله تعالى :﴿ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾.
قالت جماعة من أهل العلم، منهم سالم بن عبد الله بن عمر، ومجاهد، والحسن، وقتادة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغيرهم : اليقين : الموت، ويدل لذلك قوله تعالى :﴿ قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين َوَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الُخَآئِضِين َوَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين ِحَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ﴾ [ المدثر : ٤٣-٤٧ ] وهو الموت.
ويؤيد هذا ما أخرجه البخاري في صحيحه من حديث الزهري عن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أم العلاء ( امرأة من الأنصار ) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمَّا دخل على عثمان بن مظعون وقد مات، قالت أُمُّ العلاء : رحمة الله عليك أبا السَّائب ! فشهادتي عليك لقد أكرمك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«وما يدريك أن الله قد أكرمه » ؟ فقالت : بأبي وأمي يا رسول الله فمن يكرمه الله ! ؟ فقال :«أَما هو فقد جاءه اليقين، وإني لأَرجو له الخير.. » الحديث. وهذا الحديث الصحيح يدل على أن اليقين الموت. وقول من قال : إن المراد باليقين انكشاف الحقيقة، وتيقن الواقع لا ينافي ما ذكرنا، لأن الإنسان إذا جاءه الموت ظهرت له الحقيقة يقيناً. ولقد أجاد التهامي في قوله :
والعيش نوم والمنية يقظة | والمرء بينهما خيال ساري |
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«ما أوحي إلي أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحي إلي : أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ».
وأخرج ابن مردويه والديلمي عن أبي الدرداء رضي الله عنه : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :«ما أوحي إلي أن أكون تاجراً ولا أجمع المال متكاثراً، ولكن أوحي إلي : أن سبح بحمد ربك وكن من الساجدين، واعبد ربك حتى يأتيك اليقين ».
تنبيهان
الأول هذه الآية الكريمة تدل على أن الإنسان ما دام حياً وله عقل ثابت يميز به، فالعبادة واجبة عليه بحسب طاقته. فإن لم يستطع الصلاة قائماً فليصل قاعداً، فإن لم يستطع فعلى جنب. وهكذا قال تعالى عن نبيه عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام :﴿ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَواةِ وَالزَّكَواةِ مَا دُمْتُ حَيّاً ﴾ [ مريم : ٣١ ] وقال البخاري في صحيحه «باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب » وقال عطاء : إن لم يقدر أن يتحول إلى القبلة صلى حيث كان وجهه حدثنا عبدان عن عبد الله، عن إبراهيم بن طهمان قال : حدثني الحسين المكتب، عن بريدة، عن عمران بن حصين رضي الله عنهما قال : كانت بواسير، فسألت النَّبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فقال :«صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب » اه ونحو هذا معلوم ؛ قال تعالى :﴿ فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾ [ التغابن : ١٦ ]، وقال تعالى :﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ]، وقال صلى الله عليه وسلم :«إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم... » الحديث.
التنبيه الثاني اعلم أن ما يفسر به هذه الآية الكريمة بعض الزنادقة الكفرة المدعين للتصوف من أن معنى اليقين المعرفة بالله جل وعلا، وأن الآية تدل على أن العبد إذا وصل من المعرفة بالله إلى تلك الدرجة المعبر عنها باليقين أنه تسقط عنه العبادات والتكاليف ؛ لأن ذلك اليقين هو غاية الأمر بالعبادة.
إن تفسير الآية بهذا كفر بالله وزندقة، وخروج عن ملة الإسلام بإجماع المسلمين. وهذا النوع لا يسمى في الاصطلاح تأويلاً، بل يسمى لعباً كما قدمنا في آل عمران. ومعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم هم وأصحابه هم أعلم الناس بالله، وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع ذلك أكثر الناس عبادة لله جل وعلا، وأشدهم خوفاً منه وطمعاً في رحمته. وقد قال جل وعلا :﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ والعلم عند الله تعالى.