تفسير سورة الكهف

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الكهف :
ويقال لها سورة أصحاب الكهف. قال المهايمي : سميت بها لاشتمالها على قصة أصحابه الجامعة فوائد الإيمان بالله، من الأمن الكلي عن الأعداء، والإغماء الكلي عن الأشياء والكرامات العجيبة، وهذا من أعظم مقاصد القرآن. وهي مكية، وقيل، إلا أولها إلى قوله :﴿ جزرا ﴾ وقوله ﴿ واصبر نفسك... ﴾ الآية و ﴿ إن الذين آمنوا ﴾ إلى آخر السورة. واختار الداني أنها مكية كلها. وآيها مائة وعشرة، وقد روي في فضلها أحاديث كثيرة، ساقها الحافظ ابن كثير وغيره.

القول في تأويل قوله تعالى [سورة الكهف (١٨) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ قدّمنا أن كثيرا ما تفتح السور وتختم بالحمد، إشارة إلى أنه المحمود على كل حال لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ [القصص: ٧٠]، وتعليما للعباد أدب افتتاح كل أمر ذي بال واختتامه. وذلك بالثناء على الله تبارك وتعالى بنعمه العظمى ومننه الكبرى. وفي إيثار إنزال التنزيل من بين سائر نعوته العليّة، تنبيه على أنه أعظم نعمائه. فإنه الهادي إلى ما فيه كمال العباد، والداعي إلى ما به ينتظم صلاح المعاش والمعاد. ولا شيء في معناه يماثله. وفي ذكر الرسول ﷺ بعنوان العبودية، تنبيه على عظمة المنزل والمنزل عليه. كما تدل عليه الإضافة الاختصاصية، كما تقدم في سورة الإسراء. وإشعار بأن شأن الرسول أن يكون عبدا للمرسل لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام. وتعريف الكتاب للعهد. أي الكتاب الكامل الغنيّ عن الوصف بالكمال، المعروف بذلك من بين الكتب، الحقيق باختصاص اسم الكتاب به. وهو عبارة عن جميع القرآن. أو عن جميع المنزل حينئذ. وتأخيره عن الجار والمجرور، مع أن حقه التقديم عليه، ليتصل به قوله سبحانه وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً أي شيئا من العوج، باختلال في نظمه وتناف في معانيه. أو زيغ وانحراف عن الدعوة إلى الحق. بل جعله مزيلا للعوج إذ جعله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢ الى ٣]
قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣)
قَيِّماً أي قيّما بمصالح العباد وما لا بد لهم منه من الشرائع. فهو وصف له بأنه مكمل لهم، بعد وصفه بأنه كامل في نفسه. أو قيما على الكتب السالفة،
مهيمنا عليها. أو متناهيا في الاستقامة والاعتدال. فيكون تأكيدا لما دل عليه نفي العوج. مع إفادة كون ذلك من صفاته الذاتية اللازمة له، حسبما تنبئ عنه الصيغة.
وانتصابه بمضمر تقديره (جعله) كما ذكرنا. على أنه جملة مستأنفة. وفيه وجوه أخر.
تنبيه:
ذهب القاشانيّ أن الضمير في (له) وما بعده لقوله: عَبْدِهِ قال: أي لم يجعل لعبده زيغا وميلا. وجعله قيّما، يعني مستقيما، كما أمر بقوله فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [هود: ١١٢]، أو قيّما بأمر العباد وهدايتهم، إذ التكميل يترتب على الكمال. لأنه، عليه الصلاة والسلام، لما فرغ من تقويم نفسه وتزكيتها، أقيمت نفوس أمته مقام نفسه. فأمر بتقويمها وتزكيتها. ولهذا المعنى سمي إبراهيم، صلوات الله عليه، أمة. وهذه القيّميّة أي القيام بهداية الناس، داخلة في الاستقامة المأمور هو بها في الحقيقة، انتهى.
والأظهر الوجه الأول.
وقوله تعالى لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ أي لينذر من خالفه ولم يؤمن به، عذابا شديدا عاجلا أو آجلا. و (البأس) : القهر والعذاب، وخصصه بقوله مِنْ لَدُنْهُ إشارة إلى زيادة هوله. ولذلك عظمه بالتنكير. متعلق ب (أنزل) أو بعامل (قيما) وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ أي به. وقال القاشاني: أي الموحدين، لكونهم في مقابلة المشركين، الذين قالوا اتخذ الله ولدا. وقوله تعالى: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أي من الخيرات والفضائل أَنَّ لَهُمْ أي بأن لهم، بمقابلة إيمانهم وأعمالهم المذكورة أَجْراً حَسَناً وهو الجنة ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٤]
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (٤)
وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً وهم مشركو العرب في قولهم (الملائكة بنات الله) والنصارى في (دعواهم المسيح ابن الله) وخصهم بالذكر، وكرر الإنذار متعلقا بهم، استعظاما لكفرهم. وترك إجراء الموصول على الموصوف كما فعل في قوله تعالى وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ للإيذان بكفاية ما في حيز الصلة، في الكفر على أقبح الوجوه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٥]
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥)
ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ أي ما لهم بالولد، أو باتخاذه، أو بالقول، من علم. بل إنما يصدر عن جهل مفرط، وتوهم كاذب، وتقليد للآباء. لا عن علم يقين، ويقين. ويؤيده قوله: كَبُرَتْ كَلِمَةً أي ما أكبرها كلمة تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وذلك لأن الولد مستحيل لا معنى له. إذ العلم اليقيني يشهد أن الوجود الواجبي أحدي الذات، لا يماثله الوجود الممكن. والولد هو المماثل لوالده في النوع، المكافئ له في القوة. وجملة (تخرج من أفواههم) صفة ل (كلمة) تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواههم. قال الشهاب: لأن المعنى: كبر خروجها. أي عظمت بشاعته وقباحته، بمجرد التفوه. فما بالك باعتقاده إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً أي قولا كذبا لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق أصلا. وذلك لتطابق الدليل القطعي، والوجدان الذوقي على إحالته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٦]
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦)
فَلَعَلَّكَ باخِعٌ أي مهلك نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن أَسَفاً أي لتأسف على توليهم وإعراضهم عنه. أو متأسفا عليهم.
و (الأسف) فرط الحزن والغضب. وفي (العناية) : لعل للترجي. وهو الطمع في الوقوع أو الإشفاق منه. وهي هنا استعارة. أي وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس ذلك. لما يشاهد من تأسفك على عدم إيمانهم. وفي النظم الكريم استعارة تمثيلية بتشبيه حاله معهم، وقد تولوا، وهو آسف من عدم هدايتهم، بحال من فارقته أحبته.
فهمّ بقتل نفسه. أو كاد يهلك وجدا عليهم وتحسرا على آثارهم. وسر ذلك- كما قال القاشاني- أن الشفقة على خلق الله والرحمة عليهم من لوازم محبة الله ونتائجه.
ولما كان صلّى الله عليه وسلّم حبيب الله، ومن لوازم محبوبيته محبته لله لقوله يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: ٥٤]، وكلما كانت محبته للحق أقوى، كانت شفقته ورحمته على خلقه أكثر. لكون الشفقة عليهم ظل محبته لله، وأشد تعطفه عليهم. فإنهم كأولاده وأقاربه. بل كأعضائه وجوارحه في الشهود الحقيقيّ. فلذلك بالغ في التأسف عليهم، حتى كاد يهلك نفسه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٧]
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧)
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ أي من الحيوان والنبات والمعادن زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي ليظهر أيهم أقهر لشهواتها ودواعيها، وأعصى لهواها أي رضاي، وأقدر على مخالفتها لموافقتي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٨]
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨)
وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً أي ترابا مستويا لا نبات فيه. بعد ما كان يبهج النظار، لا شيء فيه يختلف، ربي ووهادا. أي نفنيها وما عليها ولا نبالي.
وفي الآية تسلية له صلوات الله عليه. كأنه قيل لا تحزن عليهم فإنه لا عليك أن يهلكوا جميعا. لأنا نخرج جميع الأسباب من العدم إلى الوجود للابتلاء. ثم نفنيها، ولا حيف ولا نقص. أو لا تحزن فإنا مفنون ذلك ومجازون لهم بحسب أعمالهم، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٩]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً أي آية ذات عجب. على حذف مضاف. أو وصفا بالمصدر مبالغة ومِنْ آياتِنا حال منه وأَمْ للاستفهام التقريري بمعنى الهمزة. أي أنهم من بين آياتنا آية عجيبة.
وجعلها منقطعة مقدرة ب (بل والهمزة، والاستفهام للإنكار) - أي إنكار حسبانهم آية عجيبة بالنسبة إلى آياته الكبرى- فيه بعد. لأن سياق النظم الكريم، أعني سوقها مفصلة منوها بها، ما هو إلّا لتقرير التعجب منها. والْكَهْفِ الغار الواسع في الجبل. والرَّقِيمِ اسم كلبهم. وقيل لوح رقيم فيه حديثهم، وجعل على باب الكهف. وقيل الجبل أو الوادي، أقوال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ١٠]
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠)
إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ أي خوفا من إيذاء الملك على ترك عبادة الأوثان
والذبح لها. وإيثار الإظهار على الإضمار لتحقيق حالهم بتغليبهم جانب الله على جانب أهويتهم في حال شبابهم فَقالُوا رَبَّنا أي من ربانا بنعمة إيثار جانبه على جانب أنفسنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً أي من خزائنك وهي المغفرة والرزق والأمن من الأعداد وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا وهو اختيار الكهف لمفارقة الكفار رَشَداً وهو توحيدك وعبادتك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ١١]
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١)
فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً أي أنمناهم نومة ثقيلة لا ينبههم صفير الخبير، ولا دعوة الداعي الخبير، في الكهف سنين ذوات عدد. أي كثيرة أو معدودة. قال الشهاب: (ضربنا) مستعار استعارة تبعية لمعنى أنمناهم إنامة لا ينتبه منها بالصياح. لأن النائم ينتبه من جهة سمعه. وهو إمّا من (ضربت القفل على الباب) أو (ضربت الخباء على ساكنه) شبّه، لاستغراقه في نومه حتى لا ينتبه بمنبه، بمن كان خلف حجب مانعة من وصول الأصوات إليه. وقيل إنه استعارة تمثيلية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ١٢]
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢)
ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أي أيقظناهم إيقاظا يشبه بعث الموتى لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً أي لنعلم واقعا ما علمنا أنه سيقع. وهو أي الحزبين المختلفين في مدة لبثهم، أشد إحصاء، أي إحاطة وضبطا لغاية مدة لبثهم فيعلموا قدر ما حفظهم الله بلا طعام ولا شراب، وأمنهم من العدوّ، فيتمّ لهم رشدهم في شكره، وتكون لهم آية تبعثهم على عبادته. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ١٣]
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ شروع في تمام بسط قصتهم وتفصيلها.
و (الحق) الأمر المطابق للواقع إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ أي بوحدانيته إيمانا يقينيا علميّا على طريق الاستدلال، مع اتفاق قومهم على الشرك وَزِدْناهُمْ هُدىً أي بترجيح جانب الله على جانب أنفسهم. قال ابن كثير: الفتية- وهم الشباب- أقبل
للحق وأهدى للسبيل، من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل. ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله ﷺ شبابا. وأما عامة شيوخ قريش فاستمروا على ضلالهم ولم يسلم منهم إلا القليل. وهكذا أخبر تعالى عن أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شبابا. وقد يروى عن هؤلاء الفتية روايات مضطربة. أوثقها أن هؤلاء، كان قدم إلى مدينتهم من يدعو إلى الإيمان بالله تعالى، وبما جاء به عيسى عليه السلام. ممن كان على قدم الحواريين. فاستجاب لذلك الفتية المنوه بهم. وخلعوا الوثنية التي عليها قومهم وفرّوا بدينهم خشية أن يفتنهم ملكهم عن دينهم أو يقتلهم. فاستخفوا عنه في الكهف. واعتزلوا فيه يعبدون الله تعالى وحده. ثم روي أن الملك طلبهم. فقيل: دخلوا هذا الكهف. فقال قومهم: لا نريد لهم عقوبة ولا عذابا أشد من أن نردم عليهم هذا الكهف، فبنوه عليهم ثم ردموه. ثم إن الله بعث عليهم ملكا على دين عيسى. فرفع ذلك البناء الذي كان ردم عليهم. فقال بعضهم لبعض: كم لبثتم؟ فقالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم حتى بلغ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ وكان ورق ذلك الزمان لدولة أهله. فأرسلوا أحدهم يأتيهم بطعام. فلما ذهب ليخرج رأى على باب الكهف شيئا أنكره فأراد أن يرجع. ثم مضى حتى دخل المدينة. فأنكر ما رأى. ثم أخرج درهما فنظروا إليه فأنكروه وأنكروا الدرهم. وقالوا:
من أين لك هذا؟ هذا من ورق غير هذا الزمان.
واجتمعوا عليه يسألونه. فلم يزالوا به حتى انطلقوا به إلى ملكهم. فأخبره بأمره. فاستبشروا به وبأصحابه. وقيل له: انطلق فأرنا أصحابك. فانطلق وانطلقوا معه ليريهم. فدخل قبل القوم فضرب على آذانهم ف قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً هذا ما أورده ابن جرير أولا، وفيه كفاية عن غيره.
وسنذكر في آخر نبئهم ما عند أهل الكتاب النصارى من شأنهم.
وقد قيل إنهم كانوا في مدينة يقال لها (طرسوس) من أعمال طرابلس الشام.
وفيها من الآثار القديمة العهد، في جبل بها، ما يزعم أهلها زعما متوارثا، أنه لأصحاب الكهف. والله أعلم. ثم بين تعالى صبرهم على مخالفة قومهم، ومدينتهم ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ١٤]
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤)
وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي قويناها بالصبر على المجاهدة. وشجعناهم على
محاربة الشيطان والفرار بالدين إلى بعض الغيران. ومخالفة النفس وهجر المألوفات الجسمانية واللذات الحسية والقيام بكلمة التوحيد. وقيل جسّرناهم على القيام بكلمة التوحيد، وإظهار الدين القويم، والدعوة إلى الحق عند ملكهم الجبار. لقوله تعالى: إِذْ قامُوا أي بين يديه غير مبالين به. و (إذ) ظرف ل (ربطنا). قال الشهاب: (الربط) على القلب مجاز عن الربط بمعنى الشدّ المعروف. أي استعارة منه. كما يقال، رابط الجأش. لأن القلق والخوف ينزعج به القلب من محله، كما قال تعالى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ
[الأحزاب: ١٠]، فشبه القلب المطمئن لأمر، بالحيوان المربوط في محلّ. وعدّى (ربط) ب (على) وهو متعدّ بنفسه، لتنزيله منزلة اللازم فَقالُوا رَبُّنا الذي نعبده رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بحيث يدخل تحت ربوبيته كل معبود سواه لَنْ نَدْعُوَا أي نعبد مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً أي ذا بعد عن الحق، مفرط في الظلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ١٥]
هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (١٥)
هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً عملوا أو نحتوا لهم آلهة، فيفيد أنهم عبدوها. وفي الإشارة تحقير لهم لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ أي على عبادتهم أو إلهيتهم أو تأثيرهم بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ أي حجة بينة وبرهان ظاهر. فإن الدين لا يؤخذ إلا به. قال القاشاني: دليل على فساد التقليد، وتبكيت بأن إقامة الحجة على إلهية غير الله، وتأثيره ووجوده، محال. كما قال: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ [النجم: ٢٣]، أي أسماء بلا مسميات، لكونها ليست بشيء فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي لا مساوي له في الظلم والكفر.
إشارة إلى أنهم لا يأتون ببرهان. فهم ظالمون في حق الله، لافترائهم عليه بأن في رتبته العليا شركاء يساوونه فيها. ثم خاطب بعضهم بعضا بقولهم:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ١٦]
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (١٦)
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ أي وإذ اعتزلتم القوم،
بترك متابعتهم، من إفراط ظلمهم، وهو موجب بغضهم. واعتزلتم معبوداتهم غير الله، فإنهم كانوا يعبدونهم صريحا أو في ضمن عبادتهم له، فأووا إلى الكهف الذي لا يطلعون عليكم فيه، فلا يؤذونكم، ولا تخافوا، من الكون فيه، فوات الطعام والشراب، فإنكم إذا التجأتم إلى الله بعد ما دعوتموه بنشر الرحمة وتهيئة الرشد يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ أي ما يغني عن الطعام والشراب، بالإمدادات الملكوتية والتأييدات القدسية وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ وهو اختيار جانبه على جانبكم مِرفَقاً أي ما تنفعون به. قال المهايمي: يرفق بنفوسكم فيعطيها من لذات عبادته ما ينسيها سائر اللذات. على أنها لذاتها لم تخل من أذية. وهذه خالية عن الأذيات كلها. وجزمهم بذلك لنصوع يقينهم وقوة وثوقهم بفضل الله تعالى.
تنبيه:
زعم قوم أن الآية تفيد مشروعية العزلة واستحبابها مطلقا. وهو خطأ. فإنها تشير إلى التأسي بأهل الكهف في الاعتزال، إذا اضطهد المرء في دينه وأريد على الشرك. وممن رد الاحتجاج بهذه الآية على تفضيل العزلة، الإمام الغزالي حيث قال في (إحيائه) : وأهل الكهف لم يعتزل بعضهم بعضا وهم مؤمنون. وإنما اعتزلوا الكفار. أي ولا ريب في مشروعيته فرارا من الفتن.
فقول السيوطي في (الإكليل) : في الآية مشروعية العزلة والفرار من الظلمة وسكون الغيران والجبال عند فساد الزمان- كلام مجمل لا بد من التفصيل فيه. وأي عصر خلا من الفساد؟. وسياق الآية في الاضطهاد فحسب، فافهم ولا تغل. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ١٧]
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ أي صعدت عند طلوعها تَتَزاوَرُ أي تميل عَنْ كَهْفِهِمْ أي بابه ذاتَ الْيَمِينِ أي يمين الكهف. وَإِذا غَرَبَتْ أي هبطت للغروب تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ أي تقطعهم وتعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشمال وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي سعة من الكهف يصل إليهم الهواء من كل جانب
دون أذى الشمس. وقد دلت الآية على أن باب ذلك الكهف كان مفتوحا إلى جانب الشمال. فإذا طلعت الشمس كانت على يمين الكهف. وإذا غربت كانت على شماله. فيقع شعاعها على جانبيه. يحلل عفونته ويعدل هواءه. ولا يقع عليهم فيؤذيهم. قال الشهاب: (تقرضهم) من القرض بمعنى القطع. أي قطع الاتصال بهم لئلا تغبر أبدانهم. قول الفارسي إنه من قرض الدراهم، والمعنى أنها تعطيهم من تسخينها شيئا ثم يزول بسرعة كالقرض المسترد- مردود، بأنه لم يسمع له ثلاثي.
وفي (الروض الآنف) تقرضهم كناية عن تعدل بهم. وقيل: تتجاوزهم شيئا.
من (القرض) وهو القطع. أي تقطع ما هنالك من الأرض. وقوله تعالى ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ أي إرشادهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء، وشعاع الشمس والريح تدخل عليهم فيه، لتبقى أبدانهم، آية من آياته الدالة على عنايته وتوفيقه للمخلصين مَنْ يَهْدِ اللَّهُ أي إلى الحق بالتوفيق له فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ أي يخلق فيه الضلال لصرف اختياره إليه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا أي ناصرا يلي أمره فيحفظه من الضلال مُرْشِداً أي يهديه إلى ما ذكر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ١٨]
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ خطاب لكل أحد. أي تظنهم، يا مخاطب، أيقاظا لانفتاح أعينهم، وهم رقود مستغرقون في النوم، بحيث لا ينبههم الصوت.
قال ابن كثير: ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليها البلى. فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها. وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عينا ويفتح عينا. ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد. كما قال الشاعر:
ينام بإحدى مقلتيه ويتّقي بأخرى الرزايا فهو يقظان نائم
وأَيْقاظاً جمع يقظ ويقظان. ورُقُودٌ جمع راقد. وما قيل إنه مصدر أطلق على الفاعل واستوى فيه القليل والكثير كركوع وقعود، لأن فاعلا لا يجمع على فعول- مردود بما نص عليه النحاة كما صرّح به في (المفصّل) و (التسهيل).
وَنُقَلِّبُهُمْ أي في رقدتهم ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ أي لئلا تتلف الأرض أجسادهم وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ أي بفناء الكهف أو الباب. وقد شملت بركتهم كلبهم. فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال، قال ابن كثير: وهذا فائدة صحبة الأخيار. فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن. وقد قيل إنه كان كلب صيد لهم، وهو الأشبه. واختلفوا في لونه على أقوال لا حاصل لها ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ولا حاجة إليها. بل هي مما نهي عنه. فإن مستندها رجم بالغيب.
ووجود الكلب على هذه الحالة من العناية بهم. فكما حفظهم بالتقليب عن إهلاك الأرض، حفظهم عن الأعداء بكلب، مع غاية قوتك في مكافحة الحروب لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً أي خوفا يملأ صدرك، لما ألبسوا من الهيبة. فلا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم وخافهم. وذلك كما قال ابن كثير. لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس، حتى يبلغ الكتاب أجله وتنقضي رقدتهم التي شاءها تبارك وتعالى فيهم. لما له في ذلك من الحكمة والحجة البالغة والرحمة الواسعة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ١٩]
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (١٩)
وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ أي وكما أنمناهم تلك النومة، بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم، لم يفقدوا من هيئاتهم وأحوالهم شيئا، ادّكارا بقدرته على الإنامة والبعث جميعا. قال ابن كثير: وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين. وقوله تعالى لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ أي ليسأل بعضهم بعضا ويعرفوا حالهم وما صنع الله بهم، فيعتبروا، ويستدلوا على عظم قدرة الله تعالى، ويزدادوا يقينا، ويشكروا ما أنعم الله به عليهم وكرّموا به. أفاده الزمخشري.
وبه يتبيّن أن البعث علة للتساؤل. ومن جعل اللام للعاقبة، لحظ أن الغرض من فعله تعالى إظهار كمال قدرته قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ أي رقدتم. اعترافا بجهل
نفسه أو طلبا للعلم من غيره، وإن لم يظهر كونه على اليقين قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قال ابن كثير: كأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار، واستيقاظهم كان في آخر نهار. ولهذا قالوا: أو بعض يوم. وقال المهايميّ: فمن نظر إلى أنهم دخلوا غدوة وانتبهوا عشية، ظن أنهم لبثوا يوما، ومن نظر إلى أنه قد بقيت من النهار بقية، ظن أنهم لبثوا بعض يوم. فهم مع ما أعطوا من الكرامات يتكلمون بالظن. فالوليّ يجوز أن يتكلم بالظن فيما ليس من الأصول، ويجوز أن يخطئ. وقال الزمخشري:
جواب مبنيّ على غالب الظن. وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب.
وأنه لا يكون كذبا. وإن جاز أن يكون خطأ.
قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ إنكار عليهم من بعضهم، وأن الله أعلم بمدة لبثهم. كأن هؤلاء قد علموا بالأدلة، أو بإلهام من الله، أن المدة متطاولة، وأن مقدارها مبهم. فأحالوا تعيينها على ربهم. فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ أي المأخوذة للتزود. و (الورق) الفضة إِلَى الْمَدِينَةِ أي التي فررتم عنها فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً أي أطيب. فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ أي في المبايعة واختيار الطعام. أو في أمره بالتخفي، حتى لا يشعر بحالكم ودينكم وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٢٠]
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠)
إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يطلعوا على مكانكم يَرْجُمُوكُمْ أي يقتلوكم بالحجارة أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أي يدخلوكم فيها بالإكراه العنيف وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً أي إذا صرتم إلى ملتهم. قال القاشانيّ: ظهور العوامّ، واستيلاء المقلدة والحشوية المحجوبين، وأهل الباطل المطبوعين، ورجمهم أهل الحق، ودعوتهم إياهم إلى ملتهم- ظاهر. كما كان في أوائل البعثة النبوية.
لطائف:
الأولى- قال الزمخشري: فإن قلت: كيف وصلوا قولهم (فابعثوا) بتذاكر حديث المدة؟ قلت: كأنهم قالوا ربكم أعلم بذلك. لا طريق لكم في علمه. فخذوا في شيء آخر مما يهمكم. انتهى.
ورأى المهايمي أن قولهم فَابْعَثُوا من تتمة حديث المدة. قصد به
تفحصها. كأنهم لما أحالوا تعيينها على الله تعالى بقوله: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ قالوا هذه الإحالة لا تمنع من طلب العلم بالمدة. ولو في ضمن أمر آخر، فاطلبوه في ضمن حاجة لنا. وهي أن تبعثوا أحدكم. بورقكم هذه لئلا نحوج إلى السؤال عن المدة. لا سيما في مكان يمنع من الإجابة إلى المسؤول به، فيفضي إلى الهلاك.
الثانية- قال في (الإكليل) : قوله تعالى فَابْعَثُوا الآية، أصل في الوكالة والنيابة. قال ابن العربي: وهي أقوى آية في ذلك.
قال الكيا: وفيها دليل على جواز خلط دراهم الجماعة والشراء بها والأكل من الطعام بينهم بالشركة، وإن تفاوتوا في الأكل.
الثالثة- دلّ قوله تعالى عنهم فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً على مشروعية استجادة الطعام واستطابته بأقصى ما يمكن، لصيغة التفضيل. فإن الغذاء الأزكى المتوفر فيه الشروط الصحية يفيد الجسم ولا يتعبه ولا يكدره. ولذلك يجب طبّا الاعتناء بجودته وتزكيته، كما فصّل في قوانين الصحة.
الرابعة- قال الرازي: (الرجم) بمعنى القتل، كثير في التنزيل كقوله وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ [هود: ٩١]، وقوله: أَنْ تَرْجُمُونِ [الدخان: ٢٠]، وأصله الرمي، أي بالرجام وهي الحجارة. ولا يبعد إرادة الحقيقة في موارده كلها، زيادة في التهويل. فإن الرجم أخبث أنواع القتل. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٢١]
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١)
وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أي كما أنمناهم وبعثناهم لما في ذلك من الحكمة، أطلعنا عليهم أهل المدينة حتى دخلها من بعثوه للطعام، وأخرج ورقهم المتقادمة العهد لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ أي ليعلم الذين أطلعناهم على حالهم، أن وعد الله بالبعث حق. لأن حالهم في نومتهم وانتباهتهم بعدها كحال من يموت ثم يبعث وَأَنَّ السَّاعَةَ أي الموعود فيها بالبعث لا رَيْبَ فِيها إذ لا بد من الجزاء بمقتضى الحكمة. ثم أشار تعالى إلى ما كان من أمرهم بعد وفاتهم، وعناية قومهم بحفظ أجداثهم، بقوله سبحانه إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً أي على
15
باب كهفهم بنيانا عظيما. كالخانقاهات المشاهد والمزارات المبنية على الأنبياء وأتباعهم، و (إذ) على ما يظهر لي، ظرف ل (اذكر) مقدرا. والجملة مستأنفة لبيان ختم نبئهم بما جرى بعد مماتهم، إثر ما أوجز من نبئهم بعد بعثهم والإعثار عليهم.
وجعله ظرفا ل أَعْثَرْنا أو لغيره مما ذكروا- ليس فيه قوة ارتباط ولا دقة معنى.
وقوله تعالى فَقالُوا تفسير للمتنازع فيه. وقوله تعالى رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ جملة معترضة. إما من الله، ردّا على الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازعين فيهم على عهده ﷺ من أهل الكتاب، أو هي من كلام المتنازعين في عهدهم.
كأنهم تذاكروا أمرهم العجيب وتحاوروا في أحوالهم ومدة لبثهم. فلما لم يهتدوا أحالوا حقيقة نبيّهم إليه تعالى قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ أي من المتنازعين، وهم أرباب الغلبة ونفوذ الكلمة لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً أي نصلي فيه، تبركا بهم وبمكانهم.
تنبيه:
قال ابن كثير: حكي في القائلين ذلك قولان (أحدهما) أنهم المسلمون منهم (والثاني) أنهم المشركون. والظاهر أنهم هم أصحاب النفوذ. ولكن هل هم محمودون أم لا؟ فيه نظر. لأن
النبيّ ﷺ قال «١» :(لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد)
يحذّر ما فعلوا. انتهى.
وعجيب من تردده في كونهم غير محمودين، مع إيراده الحديث الصحيح بعده، المسجل بلعن فاعل ذلك. وهو أعظم ما عنون به على الغضب الإلهي والمقت الرباني. والسبب في ذلك أن البناء على قبر النبيّ والوليّ مدعاة للإقبال عليه والتضرع إليه. ففيه فتح لباب الشرك وتوسل إليه بأقرب وسيلة. وهل أصل عبادة الأصنام إلا ذلك؟ كما قال ابن عباس في قوله تعالى: وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً [نوح: ٢٣]، قال: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قومهم. فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم. فلما طال عليهم الأمد عبدوهم. فهؤلاء لما قصدوا الانتفاع بالموتى، قادهم ذلك إلى عبادة الأصنام. قال الإمام محمد بن عبد الهادي عليه الرحمة، في كتابه (الصارم المنكى) بعد إيراده ما تقدم: يوضحه أن الذين تكلموا في زيارة الموتى من أهل الشرك، صرّحوا بأن القصد
(١) أخرجه البخاري في: الصلاة، ٥٥- باب حدثنا أبو اليمان، حديث ٢٨٥ و ٢٨٦، عن عائشة وعبد الله بن عباس.
وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم ١٩ و ٢٢.
16
هو انتفاع الزائر بالمزور. وقالوا: من تمام الزيارة أن يعلق همته وروحه بالميت وقبره.
فإذا فاض على روح الميت من العلويات الأنوار، فاض منها على روح الزائر بواسطة ذلك التعلق والتوجه إلى الميت. كما ينعكس النور على الجسم الشفاف، بواسطة مقابلته.
وهذا المعنى بعينه، ذكره عباد الأصنام في زيارة القبور. وتلقّاه عنهم من تلقاه ممن لم يحط علما بالشرك وأسبابه ووسائله. ومن هاهنا يظهر سر مقصود النبيّ ﷺ بنهيه عن تعظيم القبور واتخاذ المساجد عليها والسرج. ولعنه فاعل ذلك وإخباره بشدة غضب الله عليه. ونهيه عن الصلاة إليها، ونهيه عن اتخاذ قبره عيدا. وسؤاله ربه تعالى أن لا يجعل قبره وثنا يعبد. فهذا نهيه عن تعظيم القبور. وذلك تعليمه وإرشادة للزائر أن يقصد نفع الميت والدعاء له والإحسان إليه، لا الدعاء به ولا الدعاء عنده.
ثم قال عليه الرحمة: ومن ظن أن ذلك تعظيم لهم فهو غالط جاهل. فإن تعظيمهم إنما هو بطاعتهم واتباع أمرهم ومحبتهم وإجلالهم. فمن عظمهم بما هو عاص لهم به، لم يكن ذلك تعظيما. بل هو ضد التعظيم. فإنه متضمن مخالفتهم ومعصيتهم. فلو سجد العبد لهم أو دعاهم من دون الله أو سبّحهم أو طاف بقبورهم واتخذ عليها المساجد والسرج، وأثبت لهم خصائص الربوبية، ونزههم عن لوازم العبودية، وادعى أن ذلك تعظيم لهم- كان من أجهل الناس وأضلهم. وهو من جنس تعظيم النصارى للمسيح حتى أخرجوه من العبودية. وكل من عظّم مخلوقا بما يكرهه ذلك المعظّم ويبغضه، ويمقت فاعله، فلم يعظمه في الحقيقة، بل عامله بضد تعظيمه. فتعظيم الرسول ﷺ أن تطاع أوامره وتصدق أخباره ولا يقدم على ما جاء به غيره. فالتعظيم نوعان: أحدهما ما يحبه المعظّم ويرضاه ويأمر به ويثني على فاعله، فهذا هو التعظيم في الحقيقة. والثاني ما يكرهه ويبغضه ويذم فاعله، فهذا ليس بتعظيم بل هو غلوّ مناف للتعظيم. ولهذا لم يكن الرافضة معظمين لعلي، بدعواهم الإلهية والنبوة أو العصمة ونحو ذلك. ولم يكن النصارى معظمين للمسيح. بدعواهم فيه ما ادعوا. والنبيّ صلى الله عليه وسلم. قد أنكر على من عظمه بما لم يشرعه.
فأنكر على معاذ سجوده له وهو محض التعظيم.
وفي المسند «١» بإسناد صحيح على شرط مسلم عن أنس بن مالك أن رجلا قال: يا محمد! يا سيدنا! وابن سيدنا!
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣/ ١٥٣.
17
وخيرنا! وابن خيرنا! فقال رسول الله ﷺ (عليكم بتقواكم، ولا يستهوينكم الشيطان. أنا محمد بن عبد الله، عبد الله ورسوله. ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزّ وجلّ).
وقال ﷺ «١» :(لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم. فإنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله)
وكان يكره من أصحابه أن يقوموا له إذا رأوه. ونهاهم أن يصلوا خلفه قياما وهو مريض.
وقال «٢» :(إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم. يقومون على ملوكهم)
وكل هذا من التعظيم الذي يبغضه ويكرهه. ولقد غلا بعض الناس في تعظيم القبور حتى قال: إن البلاء يندفع عن أهل البلد أو الإقليم، بمن هو مدفون عندهم من الأنبياء والصالحين. وهو غلوّ مخالف لدين المسلمين، مخالف للكتاب والسنة والإجماع. وللبحث تتمة مهمة فانظره.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٢٢]
سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢)
سَيَقُولُونَ أي الخائضون في قصتهم على عهد النبيّ ﷺ من أهل الكتاب الذين لا علم لهم بالحقيقة ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ أي بعض آخر منهم خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ أي رميا وتلفظا بالذي غاب عنهم. يعني ظنّا خاليا عن اليقين. قال ابن كثير: كالذي يرمي إلى مكان لا يعرفه، فإنه لا يكاد يصيب، وإن أصاب فبلا قصد وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ حكاية لقول فريق آخر كان يرى عدتهم هذه قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ أي ممن أطلعه الله عليه فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً أي لا تجادل أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف، إلا جدالا ظاهرا لينا غير متعمق فيه. وذلك على قدر ما تعرض له التنزيل الكريم من وصفهم بالرجم بالغيب وعدم العلم على الوجه الإجمالي، وتفويض العلم إلى الله سبحانه، من غير تجهيل لهم، ولا تعنيف بهم، في الرد عليهم كما قال
(١) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٣/ ١٥٣.
(٢) أخرجه البخاري في: الحدود، ٣١- باب رجم الحبلى في الزنى إذا أحصنت، حديث رقم ١٢١٤، عن عمر بن الخطاب.
وأخرجه مسلم في: الصلاة، حديث رقم ٨٤.
18
وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: ١٢٥]، فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة. قيل: المماراة المجادلة. وقيل بالفرق. فالمجادلة المحاجّة مطلقا.
والمماراة المحاجة فيما فيه مرية أي تردد، لأنها من (مريت الناقة) إذا مسحت ضرعها للحليب وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً أي لا تسأل أحدا منهم عن نبئهم.
لأن السؤال إما للاسترشاد، أو للتعنت والمحاورة. ولا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه رجما بالغيب. من غير استناد إلى كلام معصوم. والتعنت للرد على الخصم وتزييف ما عنده، ينافي مكارم الأخلاق. والمعنى: جاءك الحق الذي لا مرية فيه، فهو المقدم الحاكم على ما تقدم من الكتب والأقوال.
تنبيهات:
الأول- ذهب أكثر المفسرين إلى أن قول الخائضين الأخير، وهو أنهم سبعة وثامنهم كلبهم، هو الحق. لأنه لم يوصف بكونه رجما بالغيب كما وصف الأولان.
ولتخصيصه بالواو في قوله: وَثامِنُهُمْ وهي الواو الداخلة على الجملة الواقعة صفة للنكرة، لإفادة تأكيد لصوق الصفة بالموصوف. والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر. وأنه لا عدد وراءه. كما قال ابن عباس: حين وقعت الواو انقطعت العدّة.
وأقول: لا يخفى ضعف التمسك بهذين الوجهين لتقوية القول الأخير. فإن عدم وصفه بالرجم بالغيب إنما هو لدلالة ما قبله عليه. وفي إعادته إخلال بالبلاغة.
ومسألة الواو أوهى من بيت العنكبوت. فإن مثل هذا النزاع لا يكتفى بحسمه بمثل هذا الإيماء الدقيق القريب من الإلغاز. كما لا يخفى على من تتبع مواقع حسم الشبه في الكتاب والسنة وكلام البلغاء. لا سيما والواو من المحكي لا من الحكاية. فيدل على ثبوته عند القائل لا عند الله، فلا يكون من الإيماء في شيء. وجواب بعضهم بأنه تعالى لما حكى قولهم قبل أن يقولوه هكذا، لقنهم أن يقولوه إذا أخبروا عنه بهذه العبارة، وبأنه لا مانع أن تكون من الحكاية- بعيد غاية البعد، وتكلف ظاهر، وإغراب في القول.
ثم قيل: إن هذه الجملة لا تتعين للوصفية. لجواز كونها حالا من النكرة، لأن اقترانها بالواو مسوّغ. ويجوز أن يكون خبرا عن المبتدأ المحذوف. لأنه يجوز في مثله إيراد الواو وتركها. على أنه إنما يتم ما ذكروه لو لم يتبع قولهم بقوله تعالى:
قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ فإن في تأثره للأقوال المتقدمة كلها، برهانا ظاهرا على أنهم لم يهتدوا لعدتهم، وإرشادا إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام، ردّ العلم إليه تعالى.
19
وإشارة إلى أنه لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم بيّن وبرهان نيّر. وإنه إذا أوقفنا على الفيصل قلنا به، وإلا وقفنا. وقد تأكد هذا بقوله سبحانه بعده ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فإن فيه (دلالة على أنه يعلمهم البعض ممن لم يشأ الحق تعيينه). وهو إما نبيّ، أو من كان في مدتهم، أو من نقب عن نبئهم بإثارة صحيحة أو تلق عن المعصوم. وفيه إعلام بأنه لم يضرب على الناس بسدّ من جهالة شأنهم.
وبالجملة، فالنظم الكريم، بأسلوبه هذا، لا يدل على أن الأخير هو الحق كما علمت. وأما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما من قوله: أنا من القليل الذي استثنى الله عز وجل. كانوا سبعة- فهو من الموقوف عليه. ولو رفع إلى النبيّ ﷺ وصح سنده لقلنا به على أنه اختلف على ابن عباس في عدتهم. فروي عنه أنهم ثمانية، حكاه ابن إسحاق عن مجاهد عنه. وروي عنه سبعة. وهو حكاية قتادة وعكرمة عنه. ثم رأيت الرازيّ نقل عن القاضي أنه قال: إن كان- ابن عباس- قد عرفه ببيان الرسول، صح. وإن كان قد تعلق بحرف الواو فضعيف. انتهى. هذا ما ظهر لي الآن.
وبعد كتابتي لما تقدم بمدة، وقفت على نبئهم في (طبقات الشهداء المسيحيين) وأن عدتهم سبعة عندهم كما ستراه في آخر الآيات فيهم. فسنح لي أن ابن عباس إنما جزم بما جزم به، مما قوي عنده من إشارة الآية، كما ذكره أولئك الأكثرون، ومن تواتر عدتهم من قومهم وممن أثر عنهم. ثم حققه وصدقه عدم النكير فيه. وكذلك جزم بمثله الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله، حيث قال في (قاعدة له في التفسير) : اشتملت هذه الآية الكريمة على الأدب في هذا المقام- مقام حكاية الأقوال وتعليم ما ينبغي في مثل هذا. فإنه تعالى أخبر عنهم بثلاثة أقوال، ضعف القولين الأولين وسكت عن الثالث. فدل على صحته. إذ لو كان باطلا لرده كما ردهما. ثم أرشد إلى أن الاطلاع على عدتهم لا طائل تحته. فيقال في مثل هذا قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ فإنه ما يعلم بذلك إلا قليل من الناس ممن أطلعه الله عليه. فبهذا قال فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً أي لا تجهد نفسك فيما لا طائل تحته، ولا تسألهم عن ذلك فإنهم لا يعلمون من ذلك إلا رجم الغيب. فهذا أحسن ما يكون في حكاية الخلاف أن تستوعب الأقوال في ذلك المقام وأن ينبه على الصحيح منها ويبطل الباطل. ويذكر فائدة الخلاف وثمرته، لئلا يقع النزاع والخلاف فيما لا فائدة تحته، فيشتغل به عن الأهم. فأما من حكى خلافا في مسألة ولم يستوعب أقوال الناس فيها، فهو ناقص. إذ قد يكون الصواب في الذي تركه. أو
20
يحكي الخلاف ويطلقه ولا ينبه على الصحيح من الأقوال، فهو ناقص أيضا. انتهى كلامه رحمه الله، وهو الفصل في هذا المقام.
الثاني- قال الرازيّ: ذكروا في فائدة الواو في قوله: وَثامِنُهُمْ وجوها:
الأول- ما ذكروه أنه يدل على أن هذا القول أولى من سائر الأقوال. وقد عرفت ما فيه.
وثانيها- أن السبعة عند العرب أصل في المبالغة في العدد. وإذا كان كذلك، فإذا وصلوا إلى الثمانية ذكروا لفظا يدل على الاستئناف، ، فقالوا: وثمانية. فجاء هذا الكلام على هذا القانون. قالوا: ويدل عليه نظيره في ثلاث آيات، وهي قوله:
وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: ١١٢]، لأن هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدمة. وقوله: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الزمر: ٧٣]، لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة. وقوله: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [التحريم: ٥]، لأن قوله:
وَأَبْكاراً هو العدد الثامن مما تقدم. والناس يسمون هذه الواو. (واو الثمانية) ومعناه ما ذكرناه.
قال القفّال: وهذا ليس بشيء والدليل عليه قوله تعالى: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ [الحشر:
٢٣]، ولم يذكر الواو في النعت الثامن. انتهى.
وقال في (الانتصاف) : الصواب في الواو ما تقدم من كونها لتأكيد اللصوق.
لا كمن يقول إنها واو الثمانية. فإن ذلك أمر لا يستقر لمثبته قدم. ويعدون مع هذه الواو في قوله في الجنة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها قالوا لأن أبواب الجنة ثمانية وأبواب النار سبعة وهب أن في اللغة واوا تصحب الثمانية فتختص بها، فأين ذكر العدد في أبواب الجنة حتى ينتهي إلى الثامن فتصحبه الواو؟ وربما عدوا من ذلك وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وهو الثامن من قوله: التَّائِبُونَ وهذا أيضا مردود بأن الواو إنما اقترنت بهذه الصفة لتربط بينها وبين الأولى التي هي الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ لما بينهما من التناسب والربط. ألا ترى اقترانهما في جميع مصادرهما ومواردهما؟ كقوله:
يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [التوبة: ٧١]، وكقوله: وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ [لقمان: ١٧]، وربما عدّ بعضهم من ذلك، الواو في قوله:
ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً لأنه وجدها مع الثامن. وهذا غلط فاحش. فإن هذه واو التقسيم.
ولو ذهبت تحذفها فتقول ثيبات أبكارا لم يستدّ الكلام. فقد وضح أن الواو في
21
جميع هذه المواضع المعدودة، واردة لغير ما زعمه هؤلاء. والله الموفق.. انتهى.
الثالث: حكي في (الإكليل) عن مجاهد في قوله تعالى: فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً إلا بما أظهرنا لك. ومثله قول السدّيّ: إلا بما أوحي إليك. وإن فيه تحريم الجدل بغير علم وبلا حجة ظاهرة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤)
وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ في هذه الآية وجوه من المعاني. منها أن المعنى لا تقولن إلا وقت أن يشاء الله بأن يأذن لك في القول، فتكون قائلا بمشيئته، فالمشيئة على هذا بمعنى الإذن. لأن وقت مشيئة الله لشيء لا تعلم إلا بإذنه فيه أي إعلامه به. ومنها لا تقولن لما عزمت عليه من فعل، إني فاعل ذلك غدا إلا قائلا معه إن شاء الله تبرؤا من لزوم التحكم على الله، ومن الفعل بإرادتك بل بإرادة الله، فتكون فاعلا بمشيئته. ولئلا يلزم الكذب لو لم يشأه الله تعالى. ومنها أن المعنى لا تقولن ذلك قاطعا بفعله وباتّا له. لأنه وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً [لقمان: ٣٤]، فلا ينبغي الجزم والبت على فعل أمر مستقبل مجهول كونه. وقوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أي أن تقول ذلك القول البات نسيانا فحينئذ ارجع إلى ربك بذكره. ولذا قال: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وعلى هذه الوجوه كلها ف لا تَقُولَنَّ نهي معطوف على النهيين قبله. قال الجاحظ في كتاب (الحيوان) : إنما ألزم جل وعلا عبده أن يقول: إن شاء الله، ليبقي عادة للمتألي، ولئلا يكون كلامه ولفظه يشبه لفظ المستبد والمستغني، وعلى أن يكون عبده ذاكرا لله. لأنه عبد مدبّر، ومقلّب ميسّر، ومصرّف مسخّر.
وبقي وجه آخر. وهو أن المعنى لا تقولن ذلك إلا أن يشاء الله أن تقول هذا القول. والجملة خبرية قصد بها الإخبار عن سبق مشيئته تعالى لكل ما يعزم عليه ويقوله. كقوله تعالى وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الإنسان: ٣٠] وهذا المعنى هو الظاهر ببادئ الرأي كما قاله في (الانتصاف) وفي هذا المعنى تلويح بأنه صلوات الله عليه كان همّ بأمر ما في نبأ هؤلاء الفتية، وعزم على أمر في غد المحاورة به.
ولعله الاستفتاء عنهم. فلما نهى عنه أخبر بأن كل شيء كائن بمشيئته تعالى، ليدخل فيه ما كان قاله دخولا أوليّا. أي ما قلته وعزمت على فعله كان بمشيئة الله،
22
إذ شاء الله أن تقوله. فالآية بمثابة العناية به والتلطيف بالخطاب، إثر ما يومئ إليه النهي إليها من رقيق العتاب ولذلك اعترضت بين سابق النهي عن استفتائهم، ولا حق الأمر بذكره تعالى إذا نسي، أي نسي ما وصّي به. وبما ذكرنا يعلم أن هذا المعنى له وجه وجيه.
فدعوى الناصر في (الانتصاف) أنه ليس هو الغرض، وأن الغرض النهي عن هذا القول إلا مقرونا بمشيئته تعالى- قصر للآية على أحد معانيها، وذهاب إلى ما هو المشهور في تأويلها، وعدم تمعن في مثل هذا المعنى الدقيق، بل وفي بقية المعاني الأخر التي اللفظ الكريم يحتملها. وقد ظهر قوة المعنى الأخير لموافقته لآية وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الإنسان: ٣٠]، والقرآن يفسر بعضه بعضا. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً أي خيرا ومنفعة.
والإشارة، للنبأ المتحاور فيه.
تنبيهات:
الأول-
روي أنه صلوات الله عليه سئل عن أصحاب الكهف والروح وذي القرنين، فقال: أجيبكم عنها غدا ولم يستثن. فاحتبس الوحي خمسة عشر يوما، ثم نزلت وَلا تَقُولَنَّ الآية.
وقد زيف هذه الرواية القاضي- كما حكاه الرازيّ- من أوجه. والحق له. لأنها من مرويات ابن إسحاق عن شيخ مجهول. كما ساقه عنه ابن كثير وغيره، والله أعلم.
الثاني- يشير قوله تعالى: وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي الآية، إلى أن هذا النبأ ليس مما تنبغي العناية بتحقيقه وتدقيق أطرافه، وابتغاء الرشاد فيه، حتى يتكلف لفتوى أهل الكتاب فيه. العزم على فعل شيء مما يلابسه في المستقبل، لأنه من الأمور الغابرة التي حق الخائض فيها أن ينظر منها إلى وجه العبرة والفوائد التي حوتها، كما أحكمته آيات التنزيل في شأنها.
الثالث اعترضت هذه الآداب أعني من قوله تعالى: فَلا تُمارِ إلى هنا قبل تتميم نبئهم، مبادرة إلى الاهتمام بهذه الآداب والاحتفاظ بها، لتتمكن فضل تمكن، وترسخ في النفس أشد رسوخ. والله أعلم.
الرابع روي عن ابن عباس في قوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ: إذا نسيت الاستثناء بالمشيئة ثم ذكرت فاستثن، وذلك (كما قال القرطبيّ) لتدارك التبرك والتخلص عن الإثم.
23
وقال في (الانتصاف) : أما ظاهر الآية فمقتضاه الأمر بتدارك المشيئة، متى ذكرت ولو بعد الطول. وأما حلّها لليمين حينئذ فلا دليل عليه منها. انتهى.
ودعوى أنه الظاهر هو أحد الوجوه فيها، مفرعا على أن المشيئة في الآية قبلها، مشيئة القول، وهو أحد معاني الآية. وقد حكي عن ابن عباس جواز الاستثناء وإن طال الزمان. ثم اختلف عنه. فقيل إلى شهر وقيل إلى سنة وقيل أبدا. وفي (حصول المأمول) : ومن قال بأن هذه المقالة لم تصح عن ابن عباس، لعله لم يعلم بأنها ثابتة في (مستدرك الحاكم) وقال: صحيح على شرط الشيخين بلفظ: (إذا حلف الرجل على يمين فله أن يستثني إلا سنة) ومثله عند أبي موسى المديني وسعيد بن منصور وغيرهما من طرق. وبالجملة فالرواية عنه رضي الله عنه قد صحت، لكن الصواب خلاف ما قاله.
قال ابن القيّم في (مدارج السالكين) إن مراده أنه إذا قال شيئا ولم يستثن، فله أن يستثني عند الذكر. وقد غلط عليه من لم يفهم كلامه. انتهى.
وهذا التأويل يدفعه ما تقدم عنه. والاستثناء بعد الفصل اليسير وعند التذكر، قد دلت عليه الأدلة الصحيحة. منها
حديث أبي داود «١»
وغيره (والله! لأغزونّ قريشا) ثم سكت ثم قال (إن شاء الله)
. ومنها
حديث «٢»
(ولا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها)
فقال العباس (إلا الإذخر). وهو في الصحيح. ومنها
قوله ﷺ في صلح الحديبية (إلا سهل ابن بيضاء)
انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا حكاية
(١) أخرجه أبو داود في: الأيمان والنذور، ١٧- باب الاستثناء في اليمين بعد السكوت، حديث رقم ٣٢٨٥.
(٢) أخرجه البخاري في: الجنائز، ٧٧- باب الإذخر والحشيش في القبر، حديث رقم ٧١٠، عن ابن عباس.
وأخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم ٤٤٥.
24
لقول أهل الكتاب في عهده صلى الله عليه وسلم، في مدة لبثهم نائمين في كهفهم الذي التجأوا إليه، ليتفرغوا لذكر الله وعبادته. وقد رد عليهم بقوله سبحانه قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا وإليه ذهب قتادة ومطرف بن عبد الله. وأيده قتادة بقراءة ابن مسعود رضي الله عنه (وقالوا ولبثوا) قيل: وعليه فيكون ضمير وَازْدَادُوا لأهل الكتاب. وإنه يظهر فيه وجه العدول عن المتبادر وهو ثلاثمائة وتسع سنين. مع أنه أخصر وأظهر.
وذلك لأن بعضهم قال: ثلاثمائة: وبعضهم قال أزيد بتسعة. ولا يخفى ركاكة ما ذكر، فإن الضمير للفتية. ووجه العدول موافقة رؤوس الآي المقطوعة بالحرف المنصوب. ودعوى الأخصرية تدقيق نحويّ لا تنهض بمثله البلاغة. وأما الأظهرية فيأباها ذوق الجملتين ذوقا سليما. فإن الوجدان العربي يجد بينهما في الطلاوة بعد المشرقين. ودعوى أن فيها إشارة إلى أنها ثلاثمائة بحساب أهل الكتاب بالأيام، واعتبار السنة الشمسية، وثلاثمائة وتسع بحساب العرب، واعتبار القمرية، بيانا للتفاوت بينهما، إذ التفاوت بينهما في كل مائة سنة ثلاث سنين- دعوى يتوقف تصحيحها على ثبوت أن أهل الكتاب ازدادوا بالسنة الشمسية وأنه قص علينا ما أرادوه بالسنة الهلالية، فلذلك قال: وَازْدَادُوا تِسْعاً لنقف على تحديد ما عنوه، ومن أين يثبت ذلك؟ وما الداعي لهذا التعمق المشوش؟ والآية جلية بنفسها في دعواهم مدة لبثهم. وقد يريدون السنة الشمسية أو الهلالية، وبأي منها قالوا: فقد رد عليهم بقوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا أي بمقدار لبثهم. فلا تقفوا ما ليس لكم به علم، وما هو غيب يرد إليه سبحانه، كما قال: لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما، أي أنه هو وحده العالم به أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ أي ما أبصره لكل موجود! وأسمعه لكل مسموع لا يخفى عليه شيء ولا يحجب بصره وسمعه شيء.
قال الزمخشريّ: جاء بما دل على التعجب من إدراكه المسموعات والمبصرات، للدلالة على أن أمره في الإدراك خارج عن حد ما عليه إدراك السامعين والمبصرين، لأنه يدرك ألطف الأشياء وأصغرها، كما يدرك أكبرها حجما وأكثفها جرما، ويدرك البواطن كما يدرك الظواهر.
لطيفة:
قال في (الإكليل) : استدل بقوله تعالى: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ المنتخب على جواز إطلاق صيغة التعجب في صفات الله تعالى، كقولك: ما أعظم الله وما أجله.
انتهى.
25
يعني أن يشتق من الصفات السمعية صيغة التعجب قياسا على ما في الآية.
وقد يقال بالوقف. ينبغي التأمل.
وقوله تعالى: ما لَهُمْ أي أهل السموات والأرض في خلقه مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ أي يتولى أمورهم وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أي قضائه أَحَداً أي من مكوناته العلوية والسفلية. بل هو المنفرد بالحكم والقضاء فيهم، وتدبيرهم وتصريفهم، فيما شاء وأحب.
قال المهايميّ: فيه إشارة إلى أن علمهم بهم إما من قبيل الغيب، فهو مختص بالله. أو من قبيل المسموع، فهو أسمع. أو من قبيل البصر، فهو أبصر. انتهى. وهو لطيف جدّا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٢٧]
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧)
وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ أي بتبليغ ما فيه. ومنه ما أوحي إليك من نبأ الفتية، فإنه الحق الذي لا يحتاج معه إلى استفتاء فيه.
قال القاشانيّ: يجوز أن تكون (من) لابتداء الغاية. و (الكتاب) هو اللوح الأول المشتمل على كل العلوم الذي منه أوحي إلى من أوحي إليه، وأن تكون بيانا لما أوحي لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ أي لا مغيّر لها ولا محرّف ولا مزيل.
قال القاشانيّ: (كلماته) التي هي أصول التوحيد والعد وأنواعهما.
وقصده دفع ما يرد من وقوع نسخ بعض الشرائع السابقة باللاحقة وتبديلها بها.
فأشار إلى أن النسخ إنما هو في الفروع لا الأصول.
والأظهر في معنى الآية أنه لا أحد سواه يبدل حكمه كقوله: لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد: ٤١]، وأما هو سبحانه فهو فعّال لما يريد وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً أي ملجأ.
وذهب ابن جرير في تفسير هذه الآية مذهبا دقيقا قال: يقول تعالى لنبيه واتبع ما أنزل إليك من كتاب ربك هذا، ولا تتركنّ تلاوته واتباع ما فيه من أمر الله ونهيه والعمل بحلاله وحرامه، فتكون من الهالكين. وذلك أن مصير من خالفه وترك اتباعه
26
يوم القيامة، إلى جهنم لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ يقول لا مغير لما أوعد بكلماته التي أنزلها عليك، أهل معاصيه والعاملين بخلاف هذا الكتاب الذي أوحيناه إليك. وقوله:
وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً يقول وإن أنت لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك فتتبعه وتأتمّ به، فنالك وعيد الله الذي أوعد فيه المخالفين حدوده، لن تجد من دون الله موئلا تئل إليه، ومعدلا تعدل عنه إليه. لأن قدرة الله محيطة بك وبجميع خلقه، لا يقدر أحد منهم على الهرب من أمر أراد به. انتهى.
تنبيه:
لهؤلاء الفتية أصحاب الكهف ذكر في تواريخ المسيحيين، وعيد سنويّ يقام تذكارا لهم، في اليوم السابع والعشرين من شهر تموز. لكونهم اضطهدوا من قبل الأمراء اليونانيين، لإيمانهم بالله تعالى وحده ودخولهم في الملة المسيحية ورفضهم الوثنية التي كانت عليها اليونان. وقد رأيت في كتاب (الكنز الثمين في أخبار القديسين) ترجمة عن أحوالهم واسعة تحت عنوان (فيما يخص السبعة القديسين الشهداء الذين من أفسس) نقتطف منها ما يأتي، دحضا لدعوى من يفتري أن نبأهم لا يعرف أصلا، كما قرأته في بعض كتب الملحدين.
قال صاحب الترجمة: هؤلاء الشهداء السبعة كانوا إخوة بالجسد. وأسماؤهم:
مكسيميانوس ومالخوس. ومرتينيانوس. وديونيسيوس. ويوحنا. وسارابيون. ثم قسطنطين. هؤلاء الشبان قربوا حياتهم ضحية من أجل الإيمان بالمسيح، بالقرب من مدينة أفسس، نحو سنة (٢٥٢) مسيحية. في زمن الاضطهاد القاسي الذي صنعه ضد المسيحيين، الملك داكيوس.
وقد أجلّهم المسيحيون كشهداء حقيقين. فيقام لهم في الكنائس مدائح تنشر فيها صفاتهم الفاضلة يوم استشهادهم ثمة، في اليوم الرابع من شهر آب، المختص بتذكار الأعجوبة التي بواسطتها قد ظهرت أجسادهم المقدسة في المغارة القريبة من مدينة أفسس.
ثم قال: وأما نوع استشهادهم فليس بمعروف. لأن أعمالهم الجهادية في سبيل الإيمان لم توجد مدوّنة في التواريخ الكنائسية المدققة. بل إن المؤكد عنهم أن استشهادهم كان زمن الملك داكيوس، حذاء مدينة أفسس. حيث وجدت فيما بعد أجسادهم في مغارة ليست بعيدة من أهل هذه المدينة.
ثم قال: فالبعض من الكتبة الكنائسيين يرتؤون بأنه لما اختفى هؤلاء الفتية في
27
تلك المغارة هربا من الاضطهاد، عرف أمرهم فأغلق عليهم باب المغارة بصخور عظيمة. وهكذا ماتوا فيها. وغيرهم يروون أنهم قتلوا من أجل الإيمان في مدينة أفسس. وبعد موتهم نقلت أجسادهم ودفنت في المغارة المذكورة. وآخرون يظنون أنهم حبسوا أنفسهم أحياء باختبائهم في المغارة المذكورة، ليموتوا برضاهم، هربا من خطر أنواع العذاب القاسية التي كان يتكبدها المسيحيون في ذاك الاضطهاد الوحشيّ.
ثم قال: فكيفما كان نوع استشهاد هؤلاء السبعة، فقد تحقق أن الله أراد أن يكرمهم بإظهار أجسادهم بواسطة رؤيا سماوية. وذلك في ٤ آب سنة ٤٤٧ في زمن ولاية الملك (ثاوضوسيوش الصغير).
ثم قال: ودرج على أفواه الشعوب أن هؤلاء الفتية، بعد أن أغلق عليهم باب المغارة بأمر داكيوس الملك، لم يموتوا ضمنها، لا موتا طبيعيا ولا قسريّا. بل رقدوا رقاد النوم مدة، نحو مائتي سنة. ثم نهضوا من نومهم الطبيعيّ سنة (٤٤٧).
ثم قال: وقد ذهب بعض المؤرخين إلى تأويل ما روي من رقادهم الطويل، بأنه لما ظهرت أجسادهم سالمة من البلى، بعد أن دفنوا في ذلك الغار أحياء أو أمواتا، بواسطة خارقة مّا، ونقلت من مدفنهم الذي كانوا فيه، اعتبرت تلك الأجساد كأنها صودفت مستيقظة من نوم لذيذ كانت راقدة فيه. إلا أن الذي يبطل هذا التأويل ما نقله بعد عن القنداق، من أنهم نهضوا بعد أن رقدوا عدة من السنين وانتصروا على ضلال أولئك الوثنيين. وبظهورهم كذلك أيّدوا حقيّة إيمانهم ووطدوا المؤمنين في رجاء القيامة في الحياة الأبدية.
هذا ما اقتطفناه من كتاب (الكنز الثمين) وبه تعلم ما لدى أهل الكتاب المسيحيين من الاختلاف فيهم، الذي أشار له القرآن الكريم. وقد جاء في (تاريخ الكنيسة) : إن أقوال وأعمال الشهداء في المسيحية لم ينقل منها إلا القليل. لأن أكثرها أحرق بالنار مدة العشر سنوات. من سنة (٢٩٣ إلى ٣٠٣) وإن من القرن الثامن فصاعدا، اعتنى الروم واللاتيّون بجمع حياة الشهداء الأولين. غير أن الأكثر حذاقة، حتى الذين في حضن الكنيسة الرومانية، يسلّمون الآن بأن أكثر الأخبار أحاديث ملفقة، غراما بالبلاغة. وجداول القديسين المسماة (أقوال الشهداء) ليست بأكثر ثقة. التي ألفها أناس جهلاء غير قادرين، أو دخلها منذئذ أكاذيب. فهذا القسم من تاريخ الكنيسة إذ ذاك مظلم خال من النور. انتهى كلامه بالحرف.
28
وفيه ميل إلى النصفة من عدم الثقة بما لديهم من هذا الخلاف الذي حسم مادته، واقتلعه من جذوره، القرآن الكريم.
قال الحافظ ابن كثير عند قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ [الكهف: ٥٠]، الآية الآتية، معتذرا عما نقله، ما مثاله: روي في هذا آثار كثيرة عن السلف. وغالبها من الإسرائيليات التي تنقل لينظر فيها. والله أعلم بحال كثير منها. ومنها ما قد يقطع بكذبه، لمخالفته للحق الذي بأيدينا. وفي القرآن غنية عن كل ما عداه من الأخبار المتقدمة. لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان. وقد وضع فيها أشياء كثيرة. وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين. كما لهذه الأمة من الأئمة والعلماء، والسادة والأتقياء، والجهابذة النقاد، والحفاظ الذي دونوا الحديث وحرروه، وبيّنوا صحيحه من حسنه ومنكره وموضوعه ومتروكه. وعرفوا الوضّاعين والكذابين والمجهولين من أصناف الرجال.
كل ذلك صيانة للجناب النبويّ والمقام المحمديّ خاتم الرسل وسيد البشر، أن ينسب إليه كذب أو يحدث عنه بما ليس منه. فرضي الله عنهم وأرضاهم. وجعل جنات الفردوس مأواهم. وقد فعل. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٢٨]
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨)
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ أي احبسها وثبتها مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ أي مع أصحابك الذين يذكرونه سبحانه طرفي النهار، بملازمة الصلاة فيهما يُرِيدُونَ وَجْهَهُ أي ذاته طلبا لمرضاته وطاعته، لا عرضا من أعراض الدنيا وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أي لا تجاوز نظرك إلى غيرهم بالإعراض عنهم تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء تألفا لقلوبهم وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا أي جعلناه غافلا لبطلان استعداده للذكر بالمرة. أو وجدناه غافلا عنه. وذلك لئلا يؤديك إلى الغفلة عنه وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً أي متروكا متهاونا به مضيّعا. أو ندما أو سرفا. وفي التعبير عن المأمور بالصبر معهم والمنهيّ عن إطاعتهم، بالموصول، للإيذان بعلّية ما في حيز الصلة.
قال ابن جرير: إن قوما من أشراف المشركين رأوا النبيّ ﷺ جالسا مع خبّاب وصهيب وبلال. فسألوه أن يقيمهم عنه إذا حضروا. وفي رواية ابن زيد: أنهم قالوا له صلوات الله عليه: إنا نستحي أن نجالس فلانا وفلانا وفلانا، فجانبهم وجالس أشراف العرب، فنزلت الآية وَاصْبِرْ نَفْسَكَ.
وروى مسلم «١» عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع النبيّ ﷺ ستة نفر. فقال المشركون للنبيّ صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترءون علينا. قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان (نسيت اسميهما) فوقع في نفس رسول الله ﷺ ما شاء الله أن يقع. فحدّث نفسه. فأنزل الله عزّ وجلّ وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية.
قال ابن كثير: انفرد بإخراجه مسلم دون البخاريّ. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٢٩]
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أي جاء الحق وهو ما أوحي إليّ منه تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إمّا من تمام المقول المأمور به، والفاء لترتب ما بعدها على ما قبلها، بطريق التهديد. أي عقيب تحقق أن ما أوحي إليّ حق لا ريب فيه، وأن ذلك الحق من جهة ربكم. فمن شاء أن يؤمن به، فليؤمن كسائر المؤمنين. ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعلل. ومن شاء أن يكفر به فليفعل. وفيه من التهديد وإظهار الاستغناء عن متابعتهم، وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم، وجودا وعدما- ما لا يخفى.
وإمّا تهديد من جهة الله تعالى، والفاء لترتيب ما بعدها من التهديد على الأمر.
والمعنى: قل لهم ذلك. وبعد ذلك من شاء أن يؤمن به أو أن يصدقك فيه فليؤمن.
ومن شاء أن يكفر به أو يكذبك فيه فليفعل. أفاده أبو السعود. وفي (العناية) : الأمر والتخيير ليس على حقيقته. فهو مجاز عن عدم المبالاة والاعتناء به. والأمر بالكفر غير مراد. فهو استعارة للخذلان والتخلية، بتشبيه حال من هو كذلك بحال المأمور بالمخالفة. ووجه الشبه عدم المبالاة والاعتناء به فيهما. وهذا كقوله: (أسيئي بنا أو
(١) أخرجه مسلم في: فضائل الصحابة، حديث ٤٥ و ٤٦.
30
أحسني لا ملومة) وهذا رد عليهم في دعائهم إلى طرد الفقراء المؤمنين ليجالسوه ويتبعوه. فقيل لهم: إيمانكم إنما يعود نفعه عليكم، فلا نبالي به حتى نطردهم لذلك، بعد ما تبين الحق وظهر. وقوله تعالى: إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً وعيد شديد، وتأكيد للتهديد وتعليل لما يفيده من الزجر عن الكفر. أو لما يفهم من ظاهر التخيير، من عدم المبالاة بكفرهم وقلة الاهتمام بزجرهم عنه. فإن إعداد جزائه من دواعي الإملاء والإمهال. وعلى الوجه الأول، هو تعليل للأمر بما ذكر من التخيير التهديدي. أي قل لهم ذلك إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ أي هيأنا للكافرين بالحق، بعد ما جاء من الله سبحانه. والتعبير عنه ب (الظالمين) للتنبيه على أن مشيئة الكفر واختياره، تجاوز عن الحد ووضع للشيء في غير موضعه. أفاده أبو السعود. وقوله تعالى: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها أي فسطاطها. وهي الخيمة. شبه به ما يحيط بهم من النار. فإن انتشار لهب النار في الجهات شبيه بالسرادق. ويطلق السرادق على الحظيرة حول الفسطاط للمنع من الوصول إليه. شبه ما يحيط بهم من جهنم، بها.
يقال بيت مسردق، ذو سرادق وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا أي من الظمأ لاحتراق أفئدتهم يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ أي كالحديد المذاب وكعكر الزيت، وقال القاشانيّ: من جنس الغسّاق والغسلين، أي المياه المتعفنة التي تسيل من أبدان أهل النار، مسودّة يغاثون بها. أو غسالاتهم القذرة ويؤيده قوله تعالى وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ يَتَجَرَّعُهُ [إبراهيم: ١٧]، يَشْوِي الْوُجُوهَ أي إذا قدم إليه ليشرب، من فرط حرارته.
وَساءَتْ أي النار مُرْتَفَقاً أي متكأ. وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد. وذكره لمشاكلة قوله: وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً وإلا فلا ارتفاق لأهل النار ولا اتكاء. وقد يكون تهكما، كقوله.
إني أرقت فبتّ الليل مرتفقا كأن عيني فيها الصّاب مذبوح
والصاب: شجر مرّ يحرق ماؤه العين. ومذبوح: مشقوق. وفي كتاب (تنزيل الآيات) في الصحاح: بات فلان مرتفقا، أي متكئا على مرفق يده. وهو هيئة المتحزنين المتحسّرين. فعلى هذا لا يكون من المشاكلة ولا للتهكم، بل هو على حقيقته. كما يكون للتنعّم يكون للتحزن. وتعقبه في (العناية) فقال: وأما وضع اليد تحت الخدّ للتحزن والتحسر، فالظاهر أن العذاب يشغلهم عنه. فلا يتأتى منهم حتى يكون هذا حقيقة لا مشاكلة، فلذا لم يعرّجوا عليه. ثم علل الحث على الإيمان المفهوم من التخيير المتقدم، بقوله سبحانه:
31
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وهو ما رقّ من الديباج وَإِسْتَبْرَقٍ وهو ما كثف منه مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ أي السرر على هيئة المتنعمين نِعْمَ الثَّوابُ أي الجنات المذكورة وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً أي متكأ. وقيل المرتفق المنزل والمستقر، لآية إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الفرقان: ٦٦] وآية، حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً [الفرقان: ٧٦].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٣٢]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أي للمؤمن والكافر رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وهي أعز ما يؤثره أولئك في تأزير كرومهم بالأشجار وَجَعَلْنا بَيْنَهُما أي بين الجنتين، أو بين النخيل والأعناب زَرْعاً أي فحصل منهما الفواكه والأقوات، فكانتا منشأ الثروة والجاه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٣٣]
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣)
كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها أي ثمرها كاملة وَلَمْ تَظْلِمْ أي لم تنقص مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما أي فيما بينهما نَهَراً أي يسقي الأشجار والزروع، ويزيد في بهجة مرآهما، تتميما لحسنهما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٣٤]
وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤)
وَكانَ لَهُ أي لصاحب الجنتين ثَمَرٌ أي أنواع من المال غير الجنتين. من (ثمّر ماله) إذا كثّره فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أي يراجعه الكلام، تعييرا له بالفقر،
وفخرا عليه بالمال والجاه أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَأَعَزُّ نَفَراً أي أنصارا وحشما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٣٥]
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥)
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ أي بصاحبه يطوف به فيها ويفاخره بها. كما يدل عليه السياق ومحاورته له. وإفراد الجنة هنا مع أن له جنتين كما مر، إما لعدم تعلق الغرض بتعددها، وإما لاتصال إحداهما بالأخرى، وإما لأن الدخول يكون في واحدة فواحدة.
قيل: الإضافة تأتي لمعنى اللام. فالمراد بها العموم والاستغراق. أي كل ما هو جنة له يتمتع بها. فيفيد ما أفادته التثنية مع زيادة. وهي الإشارة إلى أنه لا جنة له غير هذه وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ أي بما يوجب سلب النعمة، وهو الكفر والعجب. وفي (العناية) ظلمه لها إما بمعنى تنقيصها وضررها، لتعريض نعمته للزوال ونفسه للهلاك، أو بمعنى وضع الشيء في غير موضعه. لأن مقتضى ما شاهده التواضع المبكي، لا العجب بها وظنها أنها لا تبيد أبدا. والكفر بإنكار البعث كما يدل عليه قوله: قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ أي تهلك وتفنى هذِهِ أي الجنة أَبَداً لاعتقاده أبدية الدهر، وأن لا كون سوى ما تقع عليه مشاعره. ولذا قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٣٦]
وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦)
وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً أي كائنة آتية، وقوله: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً إقسام منه على أنه، إن رد إلى ربه، على سبيل الفرض والتقدير، كما يزعم صاحبه، ليجدن في الآخرة خيرا من جنته في الدنيا، تطمعا وتمنيا على الله، وادعاء لكرامته عليه ومكانته عنده. وإنه ما أولاه الجنتين إلا لاستحقاقه واستئهاله. وأن معه هذا الاستحقاق أينما توجه. كقوله: إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى [فصلت: ٥٠]، لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً [مريم: ٧٧]، ومُنْقَلَباً أي مرجعا وعاقبة.
أفاده الزمخشريّ.
قال المهايميّ: فكفر بالقول بقدم العالم ونفي حشر الأجساد واعتقد عكس الجزاء إذ قال: لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً والقول بقدم العالم ينفي اختيار الصانع وإرادته. وبإنكار حشر الأجساد ينفي قدرته على الإعادة. وبعكس الجزاء ينفي
الحكمة الإلهية. ثم بيّن تعالى ما أجابه به صاحبه المؤمن، واعظا له، وزاجرا عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٣٧]
قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧)
قالَ لَهُ صاحِبُهُ أي الذي عيّره بالفقر، تعييرا له على كفره وَهُوَ يُحاوِرُهُ أي يراجعه كلام التعيير على الكفر، محاورته كلام التعيير على الفقر، في ضمن النكر عليه أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ أي يجعل التراب نباتا ثم جعله غذاء يتولد منه النطفة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا أي عدّلك وكملك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال. قال أبو السعود: والتعبير عنه تعالى بالموصول، للإشعار بعليّة ما في حيز الصلة، لإنكار الكفر. والتلويح بدليل البعث الذي نطق به قوله تعالى عز من قائل:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ [الحج: ٥] الآية، وكما قال تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: ٢٨] الآية. قال ابن كثير: أي كيف تجحدون ربكم، ودلالته عليكم ظاهرة جلية، كل أحد يعلمها من نفسه. فإنه ما من أحد من المخلوقات إلا ويعلم أنه كان معدوما ثم وجد. وليس وجوده من نفسه ولا مستندا إلى شيء. من المخلوقات، لأنه بمثابته.
فعلم إسناد إيجاده إلى خالقه، وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء. ولهذا قال صاحبه المؤمن:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٣٨]
لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨)
لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً أي لكن أنا لا أقول بمقالتك، بل اعترف لله بالوحدانية والربوبية. ولا أشرك به أحدا معه من العلويات والسفليات. وقد قرأ ابن عامر لكِنَّا بإثبات الألف وصلا ووقفا. والباقون بحذفها وصلا، وبإثباتها وقفا. فالوقف وفاق. وأصله لكن أنا. وقرئ كذلك فحذفت الهمزة ثم أدغمت النون في مثلها فصار (لكن) ثم ألحق الألف إجراء للوصل مجرى الوقف. لأن الوقف على (أنا) بالألف، ولأن الألف تدل على أن الأصل (لكن أنا) وبغيرها يلزم الألباس بينه وبين (لكن) المشددة. قال الزمخشريّ: ونحوه قول القائل:
أي لكن أنا لا أقليك. ويقرب منه قول الآخر:
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني لكنّ إيّاك لا أقلي
ولو ضبّيّا عرفت قرابتي ولكنّ زنجيّ عظيم المشافر
أي ولكنك. وقوله تعالي:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٣٩ الى ٤١]
وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١)
وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ أي هلا قلت عند دخولها ذلك. قال الزمخشريّ. يجوز أن تكون (ما) موصولة مرفوعة المحل، على أنها خبر مبتدأ محذوف. تقديره (الأمر ما شاء الله) أو شرطية منصوبة الموضع والجزاء محذوف بمعنى (أي شيء شاء الله كان) ونظيرها في حذف الجواب (لو) في قوله: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرعد: ٣١]، والمعنى: هلا قلت عند دخولها، والنظر إلى ما رزقك الله منها، الأمر ما شاء الله، اعترافا بأنها وكل خير فيها، إنما حصل بمشيئة الله وفضله. وأن أمرها بيده. إن شاء تركها عامرة، وإن شاء خربها. وقلت لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إقرارا بأن ما قويت به على عمامتها وتدبير أمرها، إنما هو بمعونته وتأييده. إذ لا يقوى أحد في بدنه ولا في ملك يده، إلا بالله تعالى. والقصد من الجملتين التبرؤ من الحول والقوة، إسناد ما أوتيه إلى مشيئة الله وقوته وحده. ثم أشار له صاحبه بأن تعييره إياه بالفقر، لا يبعد أن ينعكس فيه الأمر، بقوله: إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَوَلَداً فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ أي في الدنيا أيضا خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً أي مقدارا قدره الله وحسبه، وهو الحكم بتدميرها من صواعق وآفات علوية مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أي ترابا أملس لا تثبت فيها قدم، لملاستها أَوْ يهلكها بآفة سفلية من جهة الأرض بأن يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً أي غائرا في الأرض فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً أي حيلة تدركه بها، بالحفر أو بغيره.
تنبيه:
كل من قوله تعالى: إِنْ تَرَنِ وقوله: أَنْ يُؤْتِيَنِ رسم بدون ياء. لأنها من ياءات الزوائد. وأما في النطق، فبعض السبعة يثبتها وبعضهم يحذفها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٤٢]
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ أي بإهلاكه فلم يبق له فيها ثمرة. قال الزمخشريّ: (أحيط به) عبارة عن إهلاكه. وأصله من (من أحاط به العدو) لأنه إذا أحاط به فقد ملكه واستولى عليه. ثم استعمل في كل إهلاك ومنه قوله تعالى إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ [يوسف: ٦٦].
ومثله قولهم: (أتى عليه) إذا أهلكه. من (أتى عليهم العدو) إذا جاءهم مستعليا عليهم. يعني إنه استعارة تمثيلية. شبه إهلاك جنتيه بما فيهما، بإهلاك قوم بجيش عدو أحاط بهم وأوقع بهم بحيث لم ينج أحد منهم. كما أن (أتى عليهم) بمعنى أهلكهم، استعارة أيضا، من إتيان عدو غالب مستعل عليهم بالقهر فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها أي فعيّر نفسه أكثر من تعييره صاحبه وتعيير صاحبه إياه. قال الزمخشريّ: تقليب الكفين كناية عن الندم والتحسر. لأن النادم يقلب كفيه ظهرا لبطن. كما كني عن ذلك بعضّ الكف، والسقوط في اليد. ولأنه في معنى الندم، عدّي تعديته ب (على) كأنه قيل فأصبح يندم على ما أنفق فيها، أي في عمارتها. فيكون ظرفا لغوا. ويجوز كونه ظرفا مستقرّا متعلقه خاص، وهو حال. أي متحسرا. والتحسر الحزن. وهو أخص من الندم. لأنه- كما قال الراغب- الغم على ما فات وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أي ساقطة عليها. و (العروش) جمع عرش وهو ما يصنع ليوضع عليه شيء. فإذا سقط سقط ما عليه. يعني أن كرومها المعروشة، سقطت عروشها على الأرض وسقطت فوقها الكروم، بحيث قاربت أن تصير صعيدا زلقا وَيَقُولُ عطف على (يقلب) يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً أي من الأوثان.
وذلك أنه تذكر موعظة أخيه فعلم أنه أتي من جهة شركه وطغيانه. فتمنى لو لم يكن مشركا حتى لا يهلك الله بستانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٤٣]
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣)
وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ أي منعة وقوم يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي يقدرون على نصرته من دون الله، كما افتخر بهم واستعز على صاحبه وَما كانَ مُنْتَصِراً أي ممتنعا بنفسه وقوته عن انتقام الله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٤٤]
هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤)
هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ أي في ذلك المقام وتلك الحال التي وقع فيها الإهلاك. (الولاية) بفتح الواو، أي النصرة لله وحده، لا يقدر عليها أحد غيره.
فالجملة مقررة ومؤكدة لقوله: وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ لأنها بمعناها. أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على المشركين وينتقم لهم ويشفي صدورهم من أعدائهم، كما نصر على الكافر صاحبه المؤمن، وصدّق قوله: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ ويعضده قوله تعالى: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً أي لأوليائه. فلا ينقص لمؤمن درجة، في الدنيا، ولا يترك لكافر عقوبة لشرفه، بل يعاقبه بذنبه ويظهر فضل المؤمن عليه. وقرئ (الولاية) بكسر الواو بمعنى السلطان والملك. أي هنالك السلطان له والملك. لا يغلب ولا يمتنع منه. أو في مثل تلك الحال الشديدة يتولى الله ويؤمن به كلّ مضطر. يعني أن يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً [الكهف: ٤٢]، كلمة ألجئ إليها فقالها، جزعا مما دهاه من شؤم كفره. ولولا ذلك لم يقلها. كقوله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [غافر: ٨٤].
وكقوله إخبارا عن فرعون حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ [يونس: ٩٠- ٩١]، أو (هنالك) إشارة إلى الآخرة. أي في تلك الدار الولاية لله. كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: ١٦] ويناسبه قوله: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً. و (هنالك) على الأوجه المتقدمة، خبر مقدم و (الولاية) مبتدأ مؤخر.
والوقف على (منتصرا). وجوز بعضهم كون (هنالك) معمولا ل (منتصرا) وإن الوقف عليه. أي على (هنالك) وإن (الولاية لله) جملة من مبتدأ وخبر مستأنفة.
أي وما كان منتصرا في ذلك الوطن الذي حل به عذاب الله. فلم يكن منقذ له منه.
وأقول: هذا الثاني ركيك جدّا، مفكك لرؤوس الآي في السورة. فإنها قطعت كلها بالاسم المنصوب. وشبهة قائله جوازه عربية. وما كل جائز عربية رقيق الحواشي بلاغة. ولذلك لم يعول عليه الزمخشريّ ومن تابعه. و (الحق) قرئ بالرفع صفة (للولاية) وبالنصب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة المنصوب بعامل مقدر.
وبالجر صفة للفظ الجلالة. (عقبا) قرئ بسكون القاف وضمها. وهما العاقبة كالعشر والعشر.
تنبيه:
يذكر كثير من المفسرين هنا وجها في هذا المثل. وهو أن الرجلين المذكورين فيه كانا موجودين ولهما قصة. ولا دليل في ذلك ولا اتجاه. فإن التمثيل بشيء لا يقتضي وجوده. وجوّز في هذا المثل أن يكون من باب الاستعارة التمثيلية والتشبيه. وأن يكون المثل مستعارا للحال الغريبة، بتقدير (اضرب) مثلا، مثل رجلين، من غير تشبيه واستعارة. وقد عني بأن الرجلين في التمثيل، مشركو مكة، وما كانوا عليه من الفخر بأموالهم والبذخ بخولهم، وغمط المستضعفين من المؤمنين. وما آل إليه أمر الفريقين، مما طابق المثل الممثل، مطابقة طبقت الآفاق.
مصداقا لوعده تعالى، سيكون الأمر في الآخرة أعلى وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا [الإسراء: ٢١].
ثم أشار تعالى إلى سرعة فناء ما يتمتعون به من الدنيا، ويختالون به بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٤٥]
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي اذكر لهم ما تشبهه في زهرتها وسرعة زوالها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أي فالتفّ بسببه وتكاثف، حتى خالط بعضه بعضا، فشبّ وحسن وعلاه الزهر والنور والنضرة فَأَصْبَحَ أي بعد ذلك الزّهو هَشِيماً أي جافّا يابسا مكسورا تَذْرُوهُ الرِّياحُ أي تفرقه وتنسفه ذات اليمين وذات الشمال كأن لم يكن، وهكذا حال الدنيا وحال مجرميها، فإن ما نالهم من شرف الحياة كالذي حصل للنبات من شرف النموّ. ثم يزولون زوال النبات وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً أي على كل من الإنشاء والإفناء كامل القدرة. ولما كان هذا المثل للحياة الدنيا من أبهج المثل وأبدعها، ضرب كثيرا في التنزيل، كقوله تعالى في سورة يونس: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ... [يونس: ٢٤] الآية. وفي الزمر أَلَمْ تَرَ
أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ...
[الزمر: ٢١] الآية. وفي الحديد اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ، كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ... [الحديد: ٢٠] الآية. ثم بين تعالى شأن ما كانوا يفتخرون من محسنات الدنيا، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٤٦]
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦)
الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وذلك لإعانتهما فيها، ووجود الشرف بهما.
ثم أشار إلى أنهما ليسا من أسباب الشرف الأخرويّ، إذ لا يحتاج فيها إليهما، بقوله:
وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلًا أي والأعمال التي تبقى ثمراتها الأخروية، من الاعتقادات والأخلاق والعبادات الكاملات، خير عند ربك من المال والبنين، في الجزاء والفائدة وخير مما يتعلق بهما من الأمل. فإن ما ينال بهما من الآمال الدنيوية، أمرها إلى الزوال. وما ينال بالباقيات الصالحات من منازل القرب الربانيّ والنعيم الأبديّ، لا يزول ولا يحول.
لطائف:
١- تقديم (المال) على (البنين) لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد.
ولكون الحاجة إليه أمسّ. ولأنه زينة بدونهم، من غير عكس.
٢- إفراد (الزينة) مع أنها مسندة إلى الاثنين، لما أنها مصدر في الأصل.
أطلق على المفعول مبالغة. كأنها نفس الزينة. وإضافتها إلى الحياة اختصاصية، لأن زينتها مختصة بها.
٣- إخراج بقاء الأعمال وصلاحها، مخرج الصفات المفروغ عنها، مع أن حقهما أن يكونا مقصودي الإفادة، لا سيما في مقابلة إثبات الفناء لما يقابلهما من المال والبنين على طريقة ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النحل: ٩٦]، - للإيذان بأن بقاءها أمر محقق لا حاجة إلى بيانه. بل لفظ (الباقيات) اسم لها لا وصف. ولذلك لم يذكر الموصوف. وإنما الذي يحتاج إلى التعرض له خيريّتها.
٤- تكرير (خير) للإشعار باختلاف حيثيتي الخيرية والمبالغة. كذا يستفاد من أبي السعود، مع زيادة.
٥- وقع في كلام السلف تفسير (الباقيات الصالحات) بالصلوات وأعمال الحج والصدقات والصوم والجهاد والعتق وقوله (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) والكلام الطيب، وبغيرهما، مما روي مرفوعا وموقوفا. والمرفوع من ذلك كله لم يخرّج في الصحيحين. وكله على طريق التمثيل. وإن اللفظ الكريم يتناولها لكونها من أفراده.
ثم أشار تعالى إلى تحذير المشركين من أهوال القيامة، التي هي الوعد الحق والفيصل الصدق، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٤٧]
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ أي اذكر يوم نقلعها من أماكنها ونسيّرها في الجوّ. كما ينبئ عنه قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل: ٨٨]، أو نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منبثّا وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً لبروز ما تحت الجبال، أي ظهوره، بنسفها وبروز ما عداه بزوال الجبال والكثب.
حتى تبدو للعيان سطحا مستويا، لا بناء ولا شجر ولا معلم ولا ما سوى ذلك وَحَشَرْناهُمْ أي جمعناهم إلى موقف الحساب فَلَمْ نُغادِرْ أي نترك مِنْهُمْ أَحَداً أي لا صغيرا ولا كبيرا. كما قال: قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الواقعة: ٤٩- ٥٠]، ، وقال: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ [هود: ١٠٣].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٤٨]
وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨)
عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا
أي مصطفّين مترتبين في المواقف، لا يحجب بعضهم بعضا كل في رتبته، قاله القاشانيّ.
وقال أبو السعود: (صفّا) أي غير متفرقين ولا مختلطين. فلا تعرّض فيه لوحدة الصف وتعدّده.
قال الزمخشريّ: شبهت حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان،
مصطفين ظاهرين. يرى جماعتهم كما يرى كل واحد. لا يحجب أحد أحداقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
أي بلا مال ولا بنين. أو لقد بعثناكم كما أنشأناكم.
والكلام على إضمار القول. أي وقلنا. تقريعا للمنكرين للمعاد، وتوبيخا لهم على رؤوس الأشهادلْ زَعَمْتُمْ
أي بإنكاركم البعث لَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً
أي وقتا لإنجاز ما وعدناكم من البعث والنشور والحساب والجزاء. فلم يعلموا لذلك أصلا، بل عملوا ما يزدادون به افتضاحا. و (بل) للخروج من قصة إلى أخرى. فالإضراب انتقالي، لا إبطالي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٤٩]
وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩)
وَوُضِعَ الْكِتابُ أي صحائف الأعمال بين يدي الله بحضرة الخلائق فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ أي خائفين أن يفتضحوا مِمَّا فِيهِ أي من أعمالهم السيئة المسطرة وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا أي هلكتنا وحسرتنا على ما فرطنا في أعمارنا. قال القاشانيّ: يدعون الهلكة التي هلكوا بها، من أثر العقيدة الفاسدة والأعمال السيئة مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها أي أيّ شأن حصل له، فلا يترك ذنبا صغيرا ولا كبيرا إلا ضبطه وحفظه. والاستفهام مجاز عن التعجب في إحصائه كل المعاصي، وعدّه مقاديرها وأوصافها، وعدم تسامحه في شيء منها.
قال البقاعيّ عليه الرحمة إن لام الجر رسمت مفصولة (يعني في الرسم العثمانيّ)، إشارة إلى أنهم لشدة الكرب يقفون على بعض الكلمة. وهذا من لطائفه رحمه الله. وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً
أي مكتوبا في الصحف تفصيلا، من خير وشر. كما قال تعالى يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [آل عمران: ٣٠] الآية. وقال يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[القيامة: ١٣].
وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً أي فيكتب عليه ما لم يعمله، أو يزيد في عقابه. ثم أشار تعالى إلى أن الكفر والعصيان مصدره طاعة الشيطان، وإيثاره على الرحمن.
والشيطان أعدى الأعداء وأفسق الفساق. فلا يتولاه إلا من سفه نفسه، وحاد عن جادة الصواب، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٥٠]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠)
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ أي العتاة المردة الشياطين فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أي خرج عن طاعته أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ أي فتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي، وهم لكم عدوّ يبغون بكم الغوائل ويوردونكم المهالك؟ وهذا تقريع وتوبيخ لمن آثر اتّباعه وإطاعته. ولهذا قال تعالى: بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ أي الواضعين الشيء في غير موضعه بَدَلًا بئس البدل من الله إبليس، لمن استبدله فأطاعه بدل طاعته. قال ابن كثير:
وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ومصير كل من الفريقين، السعداء والأشقياء، في سورة يس وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ إلى قوله أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ [يس: ٥٩- ٦٢]، وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٥١]
ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١)
ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ استئناف مسوق لبيان عدم استحقاق إبليس وذريته، للاتخاذ المذكور في أنفسهم، بعد بيان الصوارف عن ذلك، من خباثة المحتد والفسق والعداوة. أي ما أحضرت إبليس وذريته خلق السماوات والأرض، حين خلقتهما وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ أي وما أشهدت بعضهم أيضا خلق بعض منهم. ونفي الإشهاد كناية عن نفي الاعتضاد بهم والاستعانة على خلق ما ذكر- أبلغ. إذ من لم يشهد فإنّى يستعان به؟ فأنى يصح جعله شريكا؟ ولذلك قال سبحانه وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً أي وما كنت متخذهم أعوانا لخلق ما ذكر، بل تفردت بخلق جميع ذلك بغير معين ولا ظهير أي وإذا لم يكونوا عضدا في الخلق، فما لكم تتخذونهم شركاء في العبادة؟ واستحقاق العبادة من توابع الخالقية.
والاشتراك فيه يستلزم الاشتراك فيها. والخالقية منفية عن غيره تعالى، فينتفي لازمها وهو استحقاق عبادة ذلك الغير، وهم المضلون، فلا يكونون أربابا. إنما وضع (المضلين) موضع الضمير، ذمّا لهم وتسجيلا عليهم بالإضلال، وتأكيدا لما سبق
من إنكار اتخاذهم أولياء. ونحو هذه الآية قوله تعالى قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ [سبأ: ٢٢- ٢٣] الآية.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٥٢]
وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢)
وَيَوْمَ يَقُولُ أي الحق تعالى: نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أي في دار الدنيا، أنهم شركاء لينقذوكم مما أنتم فيه. يقال لهم ذلك على رؤوس الأشهاد تقريعا وتوبيخا لهم فَدَعَوْهُمْ أي فنادوهم للإعانة، لبقاء اعتقاد شركهم فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ أي فلم يعينوهم، لعجزهم عن الجواب، فضلا عن الإعانة. وفي إيراده، مع ظهوره، تهكم بهم وإيذان بأنهم في الحماقة بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ أي بين الكفار وآلهتهم مَوْبِقاً أي مهلكا يشتركون فيه، وهو النار. أو عداوة هي في الشدة نفس الهلاك. كقول عمر رضي الله عنه (لا يكن حبك كلفا، ولا بغضك تلفا)، ويؤيد هذا قوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم:
٨١- ٨٢]، قال ابن كثير: وأما إن جعل الضمير في قوله بَيْنَهُمْ عائدا إلى المؤمنين والكافرين كما قال عبد الله بن عمرو (إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به) - فهو كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم: ١٤]، وقال يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم: ٤٣]، وقال تعالى: وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس: ٥٩]، وقال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ، فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ إلى قوله: وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ [يونس: ٢٨- ٣٠].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٥٣]
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣)
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ أي جهنمهم المحيطة بأنواع الهلاك ووضع المظهر مقام المضمر تصريحا بإجرامهم، وذمّا لهم بذلك فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها أي أيقنوا بأنهم.
واقعون فيها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً أي معدلا ينصرفون إليه. إشارة إلى ما يعاجلهم من الهم والحزن، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه، عذاب ناجز.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٥٤]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤)
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي نوّعنا في هذا القرآن، الجامع للمهمات وأنواع السّعادات، لمصلحة الناس ومنفعتهم، من كل مثل، ينبه على مراقي السعادات ومهاوي الضلالات لينذروا به وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا أي مجادلة ومخاصمة ومعارضة للحق بالباطل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٥٥]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥)
وَما مَنَعَ النَّاسَ أي أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم وكل من شاكلهم أَنْ يُؤْمِنُوا أي من أن يؤمنوا بالله تعالى ويتركوا الشرك إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي القرآن والحق الواضح النيّر وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ أي عن المعاصي السالفة إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أي طلب إتيانها، أو انتظار إتيانها، وهي عذاب الاستئصال أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلًا أي يرونه عيانا ومواجهة، وهو عذاب الآخرة. أو أعم. و (القبل) بضمتين بمعنى العيان كما في قراءة (قبلا) بكسر القاف وفتح الباء. أو (قبلا) بمعنى: أنواعا متنوعة جمع (قبيل) وقرئ بفتحتين أي مستقبلا. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٥٦]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦)
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ أي وما نرسلهم، قبل إنزال العذاب، إلا لتبشر من آمن بالزلفى والكرامة، وإنذار من كفر بأن تأتيه سنة من مضى وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ كاقتراح الآيات لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أي ليزيلوا بالجدال، الحقّ
الثابت عن مقره. وليس ذلك بحاصل لهم. وأصل (الإدحاض) إزلاق القدم وإزالتها عن موطئها. فاستعير من زلل القدم المحسوس، لإزالة الحق المعقول. قال الشهاب:
ولك أن تقول: فيه تشبيه كلامهم بالوحل المستكره.
ثم أنشد لنفسه:
أتانا بوحل لإنكاره... ليزلق أقدام هذي الحجج
وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا أي وإنذارهم. أو والذي أنذروا به من العقاب هُزُواً أي استهزاء وسخرية وهو أشد التكذيب. وصف بالمصدر مبالغة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٥٧]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها كناية عن عدم تدبرها والاتعاظ بها، بأبلغ أسلوب وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ أي ما عمله من الكفر والمعاصي، وصرف ما أنعم به، إلى غير ما خلقت له، فلم يتفكر في عاقبة ذلك إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ أي جعلنا عليها حجبا وأغطية كثيرة، كراهة أن يفقهوه، أي يقفوا على كنه ما خلقت النعم من أجله وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي وجعلنا فيها ثقلا يمنعهم من استماعه. والجملة تعليل لإعراضهم ونسيانهم، بأنهم مطبوع على قلوبهم. وذلك لإيثارهم الضلال على الهدى كما قال تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: ٥].
وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً أي فلا يكون منهم اهتداء، البتة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٥٨]
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨)
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا.
الآيات في هذا المعنى كثيرة. كقوله تعالى: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ [فاطر: ٤٥]، وقوله: وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرعد: ٦]، ورَبُّكَ مبتدأ والْغَفُورُ خبره وتقديم الوصف بالمغفرة على الرحمة، لأنه أهم بحسب الحال. إذ المقام مقام بيان تأخير العقوبة عنهم، بعد استيجابهم لها. كما يعرب عنه قوله عز وجل: لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا والموعد المذكور هو يوم بدر. أو الفتح المشار إليه في كثير من الآيات. أو يوم القيامة. والكل لاحق بهم. و (الموئل) الملجأ والمنجى. أي ليس لهم عنه محيص ولا مفر. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٥٩]
وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩)
وَتِلْكَ الْقُرى أي قرى عاد وثمود وأضرابهم أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا بالكفر والطغيان وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً أي وقتا معيّنا لا محيد لهم عنه. وهذا استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد، ليتنبهوا لذلك ولا يغتروا بتأخر العذاب. ثم أشار تعالى إلى نبأ موسى من الخضر عليهما السلام، ذلك النبأ الذي تضمن من الفوائد والحكم وأعلام النبوة، ما لا يخفى على متبصر. كما ستقف على شذرات من ذلك.
فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٦٠]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أي اذكر وقت قول موسى لفتاه، لا أبرح، أي لا أزال أسير حتى أبلغ مجمع البحرين. أي المكان الذي فيه ملتقى البحرين. فأجد فيه الخضر. أو أسير زمانا طويلا إن لم أجده ثمة، فأتيقن فوات المطلب.
قال المهايميّ أي اذكر للذين إن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا، لتكبرهم عليك، إنكم لستم بأعلم من موسى ولا أرشد منه. ولست أقل من الخضر في الهداية بل أعظم. لأنها هداية في الظاهر والباطن. وهداية الخضر إنما هي في الباطن. ولا تحتاجون في تحصيله إلى تحمل المشاق، واحتاج إليه موسى.
و (الفتى) الشاب. قال الشهاب: العرب تسمي الخادم فتى، لأن الغالب استخدام من
هو في سن الفتوّة. وكان يوشع خادم موسى عليه السلام ومحبا له، وإذا غيرة على كرامته. ولذلك اختصه موسى رفيقا له وخادما. وصار خليفة من بعده على بني إسرائيل. وفتح عليه تعالى بيت المقدس ونصره على الجبارين. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٦١]
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١)
فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما أي البحرين نَسِيا حُوتَهُما أي خبر حوتهما، وتفقد أمره، وكانا تزوداه.
فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ أي طريقه فِي الْبَحْرِ سَرَباً أي مثل السرب في الأرض، واضح المسلك، معجزة جعلت علامة للمطلوب.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٦٢]
فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢)
فَلَمَّا جاوَزا أي مجمع بينهما، وهو المكان الذي نسيا فيه الحوت قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا أي ما نتغدى به لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً أي تعبا ومشقة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٦٣]
قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣)
قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ أي خبر الحوت. وإسناد النسيان إليهما، أولا، إما بمعنى نسيان طلبه، والذهول عن نفقده، لعدم الحاجة إليه.
وإما للتغليب، بناء على أن الناسي إنما كان يوشع وحده. فإنه نسي أن يخبر موسى بشأنه العجيب، فيكون كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرحمن:
٢٢]، وإنما يخرج من المالح وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ أي لك. و (أن أذكره) بدل من الهاء في (أنسانيه) أي وما أنساني ذكره إلا الشيطان. وقد قرأ حفص بضم الهاء من غير صلة وصلا، والباقون بكسرها وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً أي أمرا عجيبا، إذ صار الماء عليه سربا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٦٤]
قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤)
قالَ أي موسى ذلِكَ أي المكان الذي اتخذ فيه سبيله هربا ما كُنَّا نَبْغِ أي نطلب فيه الخضر. لأنه أمارة المطلوب. وقرئ في السبع بإثبات الياء بعد الغين، وصلا لا وقفا. وبإثباتها في الحالين. وبحذفها كذلك فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما أي رجعا ماشيين على آثار أقدامهما يتبعانها قَصَصاً أي اتباعا لئلا يفوتهما الموضع ثانيا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٦٥]
فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥)
فَوَجَدا أي فأتيا الموضع المنسيّ فيه الحوت، فوجدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا التنكير للتفخيم، والإضافة فيه للتشريف. والجمهور على أنه الخضر. وسنتكلم على جملة من نبئه، بعونه تعالى، بعد تمام القصة آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا أي آتيناه رحمة لدنيّة، اختصصناه بها وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً أي علما جليلا آثرناه. وهو علم لدنّيّ يكون بتأييد ربّاني. وسنذكر إن شاء الله تعالى العلم اللدنّيّ في آخر هذا النبأ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٦٦]
قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦)
قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ أي أصحبك عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ أي من لدن ربك رُشْداً أي علما ذا رشد. أي هدى وإصابة خير.
قال القاضي: وقد راعي في ذلك غاية التواضع والأدب. فاستجهل نفسه، واستأذن أن يكون تابعا له، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه، بتعليم بعض ما أنعم الله عليه. أي وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨)
قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أي بوجه من الوجوه. ثم علل معتذرا بقوله
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً أي من أمور ستراها، إن صحبتني، ظواهرها مناكير وبواطنها لم يحط بها خبرك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٦٩]
قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩)
قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً أي لا أخالفك في شيء.
قال الزمخشريّ: رجا موسى عليه السلام، لحرصه على العلم وازدياده، أن يستطيع معه صبرا، بعد إفصاح الخضر عن حقيقة الأمر. فوعده بالصبر معلقا بمشيئة الله. علما منه بشدة الأمر وصعوبته، وإن الحمية التي تأخذ المصلح عند مشاهدة الفساد شيء لا يطاق. هذا مع علمه أن النبيّ المعصوم، الذي أمره الله بالمسافرة إليه واتباعه واقتباسه العلم منه، بريء من أن يباشر ما فيه غميزة في الدين. وأنه لا بد، لما يستسمج ظاهره، من باطل حسن جميل. فكيف إذا لم يعلم؟ انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٧٠]
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠)
قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً أي لا تفاتحني بالسؤال عن شيء أنكرته منّي، ولم تعلم وجه صحته، حتى أبتدئك ببيانه. وهذا من آداب المتعلم مع العالم والمتبوع مع التابع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٧١]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١)
فَانْطَلَقا أي على ساحل البحر يطلبان سفينة حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أي عظيما من إتلاف السفينة وقتل الجماعة الكثيرة بغير ذنب، وكفران نعمة الحمل بغير نول.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٧٢]
قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢)
قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ذكّره الخضر بما تقدم من الشرط.
يعني هذا الصنيع فعلته قصدا. وهو من الأمور التي اشترطت معك أن لا تنكر عليّ فيها. لأنك لم تحط بها خبرا إذ لها سر لا تعلمه أنت.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٧٣]
قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣)
قالَ أي موسى لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ من الشرط. فإن المؤاخذة به تفضي إلى العسر. والمراد التماس عدم المؤاخذة لقيام المانع وهو النسيان وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً أي لا تحمل عليّ من أمري، في تحصيل العلم منك، عسرا، لئلا يلجئني إلى تركه. أي لا تعسّر عليّ متابعتك، بل يسّرها عليّ، بالإغضاء وترك المناقشة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٧٤]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤)
فَانْطَلَقا أي بعد أن خرجا من السفينة إلى الساحل حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي أنها لم تقتل نفسا فتقتل. بل هي زكية طاهرة من موجبات القتل لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي منكرا. أو أنكر من الأول. لأن ذلك كان خرقا يمكن تداركه بالسدّ، وهذا لا سبيل إلى تداركه بوجه ما.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٧٥]
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥)
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً تأكيد في التذكار بالشرط الأول.
ونكتة زيادة لَكَ هو- كما قال الزمخشريّ- زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية، والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية. كما لو أتى إنسان بما نهيته عنه، فلمته وعنفته، ثم أتى به مرة أخرى فإنك تزيد في تعنيفه. قال في (المثل السائر) :
وهذا موضع تدق عن العثور عليه مبادرة النظر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٧٦]
قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦)
قالَ أي موسى إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها أي بعد هذه المرة فَلا
تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً
أي وجدت من جهتي عذرا. إذ أعذرت إليّ مرة بعد مرة، فخالفتك ثلاث مرات، بمقتضى طبع الاستعجال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٧٧]
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧)
فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اختلف في تسميتها.
قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : الخلاف فيها كالخلاف في مجمع البحرين. ولا يوثق بشيء منه اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما أي امتنعوا من أن يطعموهما الطعام الذي هو حق ضيافتهما عليهم. وقرئ يُضَيِّفُوهُما من الإضافة.
يقال: ضافه إذا نزل به، وأضافه وضيّفه: أنزله ليطعمه في منزله، على وجه الإكرام فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ أي ينهدم بقرب. من (انقض الطائر) إذا أسرع سقوطه. والإرادة مستعارة للمداناة والمشارفة. لما فيها من الميل. استعارة تصريحية أو مكنية وتخييلية، أو هي مجاز لغويّ مرسل بعلاقة سبب الإرادة، لقرب الوقوع.
وقد أوسع الزمخشريّ، عليه الرحمة من الشواهد على مثل هذا المجاز. فانظره فَأَقامَهُ أي عمّره وأصلحه. قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أي لو طلبت على عملك جعلا حتى تنتعش به. ففيه لوم على ترك الأجرة، مع مسيس الحاجة إليها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٧٨]
قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨)
قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ الإشارة إلى الفراق الموعود بقوله: فَلا تُصاحِبْنِي أو إلى الاعتراض الثالث. أو إلى الوقت الحاضر. سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي بمال ما لم تصبر على ظاهره، وبعاقبته. وهو خلاص السفينة من اليد العادية، وخلاص أبوي الغلام من شرّه، مع الفوز بالبدل الأحسن، واستخراج اليتيمين للكنز. قال أبو السعود: وفي جعل صلة الموصول. عدم استطاعة موسى عليه الصلاة والسلام للصبر، دون أن يقال (بتأويل ما فعلت) أو (بتأويل ما رأيت) ونحوهما، نوع تعريض به عليه السلام وعتاب. ثم أخذ الخضر في تفسير ما أشكل
أمره على موسى، وما كان أنكر ظاهره. وقد أظهر الله الخضر، عليه السلام، على باطنه. فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٧٩]
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩)
أَمَّا السَّفِينَةُ أي التي خرقتها فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ أي لفقراء يحترفون بالعمل في البحر، لنقل الناس من ساحل إلى آخر: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً أي إنما خرقتها لأعيبها. لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة، يأخذ كل سفينة سليمة جيدة، غصبا. فأردت أن أعيبها لأرده عنها، لعيبها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١)
وَأَمَّا الْغُلامُ أي الذي قتلته فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أي لو تركناه أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً أي ينزل بهما طغيانه وكفره ويلحقه بهما. لكونه طبع على ذلك. فيخشى أن يعديهما بدائه فَأَرَدْنا أي بقتله أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً أي طهارة عن الكفر والطغيان وَأَقْرَبَ رُحْماً أي رحمة بأبويه، وبرّا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٨٢]
وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢)
وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما أي قوتهما بالعقل وكمال الرأي وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما ليتصرفا فيه رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي تفضل بها عليهما.
و (رحمة) مفعول له. أو مصدر مؤكد ل (أراد) فإن إرادة الخير رحمة وَما
52
فَعَلْتُهُ
أي ما رأيت مني عَنْ أَمْرِي أي عن اجتهادي ورأيي، وإنما فعلته بأمر الله تعالى: ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي من الأمور التي رأيتها. أي مآله وعاقبته. قال أبو السعود (ذلك) إشارة إلى العواقب المنظومة في سلك البيان. وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتها في الفخامة. وتَسْطِعْ مخفف (تستطع) بحذف التاء.
تنبيهات:
في بعض ما اشتمل عليه هذا النبأ من الأحكام واللطائف والفوائد الساميات:
الأول- قال السيوطيّ في (الإكليل) : في هذه الآيات أنه لا بأس بالاستخدام واتخاذ الرفيق والخادم في السفر. واستحباب الرحلة في طلب العلم. واستزادة العالم من العلم واتخاذ الزاد للسفر، وأنه لا ينافي التوكل. ونسبة النسيان، ونحوه من الأمور المكروهة، إلى الشيطان، مجازا وتأدبا عن نسبتهما إلى الله تعالى. وتواضع المتعلم لمن يتعلم منه ولو كان دونه في المرتبة. واعتذار العالم إلى من يريد الأخذ عنه في عدم تعليمه مما لا يحتمله طبعه. وتقديم المشيئة في الأمر، واشتراط المتبوع على التابع. وأنه يلزم الوفاء بالشروط. وأن النسيان غير مؤاخذ به. وأن (للثلاث) اعتبارا في التكرار ونحوه. وأنه لا بأس بطلب الغريب الطعام والضيافة. وأن صنع الجميل لا يترك ولو مع اللئام. وجواز أخذ الأجر على الأعمال. وأن المسكين لا يخرج عن المسكنة بكونه له سفينة أو آلة يكتسب بها، أو شيء لا يكفيه. وأن الغصب حرام.
وأنه يجوز إتلاف بعض مال الغير، أو تعييبه، لوقاية باقيه، كمال المودع واليتيم. وإذا تعارض مفسدتان ارتكب الأخف. وأن الولد يحفظ بصلاح أبيه. وأنه تجب عمارة ما يخاف منه، ويحرم إهمالها إلى أن تخرب. وأنه يجوز دفن المال في الأرض.
انتهى.
وقال البيضاويّ: ومن فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعلمه. ولا يبادر إنكار ما لم يستحسنه، فلعل فيه سرّا لا يعرفه. وأن يداوم على التعلم، ويتذلل للمعلم، ويراعي الأدب في المقال. وأن ينبه المجرم على جرمه، ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره، ثم يهاجر عنه. انتهى.
ومن فوائد الآية- كما في (فتح الباري) - استحباب الحرص على لقاء العلماء وتجشم المشاق في ذلك. وإطلاق (الفتى) على التابع واستخدام الحرّ. وطواعية الخادم لمخدومه. وعذر الناسي. وجواز الإخبار بالتعب، ويلحق به الألم من مرض
53
ونحوه. ومحل ذلك إذا كان على غير سخط من المقدور. ومنها أن المتوجه إلى ربه يعان فلا يسرع إليه النصب. وفيها جواز طلب القوت. وطلب الضيافة. وقيام العذر بالمرة الواحدة، وقيام الحجة بالثانية. وفيها حسن الأدب مع الله وأن لا يضاف إليه ما يستهجن لفظه، وإن كان الكل بتقديره وخلقه، لقول الخضر عن السفينة فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وعن الجدار فَأَرادَ رَبُّكَ ومثل هذا
قوله «١» صلى الله عليه وسلم: «والخير بيديك والشر ليس إليك»
. انتهى.
ومن فوائدها إطلاق (القرية) على (المدينة) لقوله: أَهْلَ قَرْيَةٍ ثم قوله:
لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ.
الثاني- ذكر الناصر في (الانتصاف) : شذرات من لطائف بعض الآي المذكورة فنأثرها عنه.
قال عليه الرحمة: ورد في الحديث أن موسى عليه السلام لم ينصب، ولم يقل: لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا، إلا منذ جاوز الموضع الذي حدّه الله تعالى له.
فلعل الحكمة في إنساء يوشع أن يتيقظ موسى عليه السلام، لمنة الله تعالى على المسافر في طاعة وطلب علم، بالتيسير عليه وحمل الأعباء عنه. وتلك سنة الله الجارية في حق من صحت له نية في عبادة من العبادات، أن ييسرها، ويحمل عنه مؤنتها، ويتكفل به ما دام على تلك الحالة. وموضع الإيقاظ أنه وجد بين حالة سفره للموعد وحالة مجاوزته، بونا بيّنا، والله أعلم وإن كان موسى عليه السلام متيقظا لذلك، فالمطلوب إيقاظ غيره من أمته، بل من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، إذا قص عليهم القصة. فما أورد الله تعالى قصص أنبيائه ليسمر بها الناس، ولكن ليشمّر الخلق لتدبرها واقتباس أنوارها ومنافعها، عاجلا وآجلا. والله أعلم.
ثم قال عليه الرحمة: ومما يدل على أن موسى عليه السلام إنما حمله على المبادرة بالإنكار، الالتهاب والحمية للحق، أنه قال حين خرق السفينة أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها، ولم يقل (لتغرقنا) فنسي نفسه واشتغل بغيره، في الحالة التي كل أحد فيها يقول (نفسي نفسي) لا يلوي على مال ولا ولد. وتلك حالة الغرق.
فسبحان من جبل أنبياءه وأصفياءه على نصح الخلق والشفقة عليهم والرأفة بهم.
صلوات الله عليهم أجمعين، وسلامه.
(١) أخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم ٢٠١.
54
ثم قال عليه الرحمة على قوله الزمخشريّ: فإن قلت قوله: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها مسبب عن خوف الغصب عليها، فكان حقه أن يتأخر عن السبب، فلم قدم عليه؟ (قلت) النية به التأخير. وإنما قدم للعناية. ولأن خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كونها للمساكين. فكان بمنزلة قولك. (زيد ظني مقيم).
فقال عليه الرحمة: كأنه جعل السبب في إعابتها كونها لمساكين. ثم بين مناسبة هذا السبب للمسبب، بذكر عادة الملك في غصب السفن. وهذا هو حد الترتيب في التعليل أن يرتب الحكم على السبب، ثم يوضح المناسبة فيما بعد. فلا يحتاج إلى جعله مقدما، والنية تأخيره. والله أعلم.
ثم قال: ولقد تأملت من فصاحة هذه الآي، والمخالفة بينها في الأسلوب عجبا. ألا تراه في الأولى أسند الفعل إلى ضميره خاصة بقوله: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وأسنده في الثانية إلى ضمير الجماعة والمعظم نفسه في قوله: فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما، فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما ولعل إسناد الأول إلى نفسه خاصة من باب الأدب مع الله تعالى، لأن المراد (ثم عبت) فتأدب بأن نسب الإعابة إلى نفسه. وأما إسناد الثاني إلى الضمير المذكور فالظاهر أنه من باب قول خواص الملك (أمرنا بكذا أو دبرنا كذا) وإنما يعنون (أمر الملك ودبّر) ويدل على ذلك قوله في الثالثة: فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما فانظر كيف تغايرت هذه الأساليب، ولم تأت على نمط واحد مكرر، يمجها السمع وينبو عنها، ثم انطوت هذه المخالفة على رعاية الأسرار المذكورة. فسبحان اللطيف الخبير.
الثالث- قال الخفاجيّ: في إعادة لفظ (الأهل) هنا، يعني في قوله تعالى:
اسْتَطْعَما أَهْلَها إثر قوله أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ سؤال مشهور. وقد نظمه الصلاح الصفديّ سائلا عنه السبكيّ في قصيدة منها:
رأيت كتاب الله أعظم معجز لأفضل من يهدى به الثّقلان
ومن جملة الإعجاز كون اختصاره بإيجاز ألفاظ وبسط معاني
ولكنني في (الكهف) أبصرت آية بها الفكر، في طول الزمان عناني
وما هي إلا (استطعما أهلها) فقد نرى (استطعماهم) مثله ببيان
فما الحكمة الغراء في وضع ظاهر مكان ضمير؟ إن ذاك لشان
يعني أنه عدل عن الظاهر بإعادة لفظ (أهل) ولم يقل (استطعماها) لأنه صفة
55
القرية. أو (استطعماهم) لأنه صفة (أهل) فلا بد له من وجه. وقد أجابوا عنه بأجوبة مطولة نظما ونثرا. والذي تحرر فيه أنه ذكر (الأهل) أولا ولم يحذف إيجازا، سواء قدر أو تجوز في القرية، كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢]، لأن الإتيان ينسب للمكان. نحو (أتيت عرفات) ولمن فيه نحو (أتيت بغداد) فلو لم يذكر كان فيه التباس مخلّ. فليس ما هنا نظير تلك الآية لامتناع سؤال نفس القرية، فلا يستعمل استعمالها. وأما (الأهل) الثاني فأعيد لأنه غير الأول. وليست كل معرفة أعيدت عينا كما بينوه. لأن المراد به بعضهم. إذ سؤالهم فردا فردا مستبعد. فلو لم يذكر، فهم غير المراد. أما لو قيل: (استطعماهم) فظاهر. وأما لو قيل (استطعماها) فإن النسبة إلى المحل تفيد الاستيعاب، كما أثبتوه في محله. وأما إتيان جميع القرية فهو حقيقة في الوصول إلى بعض منها. كما يقال: (زيد في البلد) أو (في الدار) وقيل: إن الأهل أعيد للتأكيد كقوله:
ليت الغراب غداة ينعب بيننا كان الغراب مقطّع الأوداج
أو لكراهة اجتماع ضميرين متصلين، لبشاعته واستطالته، وثمة أجوبة أخرى.
الرابع- أبدى بعضهم سرّا للتعبير أولا (بتستطع) ثم أخيرا (بتسطع) بحذف التاء قال: لما أن فسر الخضر لموسى، وبين له تأويل ما لم يصبر معه، ووضحه وأزال المشكل، قال (تسطع) بحذف التاء. وقيل ذلك كان الإشكال قويا ثقيلا. فقال:
سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً فقابل الأثقل بالأثقل والأخف بالأخف.
كما قال: فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ [الكهف: ٩٧]، وهو الصعود إلى أعلاه، وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً وهو أشق من ذلك. فقابل كلا بما يناسبه لفظا ومعنى.
انتهى.
وقال الشهاب: وإنما خص هذا بالتخفيف لأنه لما تكرر في القصة ناسب تخفيف الأخير منه. وأما كونه للإشارة إلى أنه خف على موسى ﷺ ما لقيه ببيان سببه- فيبعد أنه في الحكاية، لا المحكي. انتهى.
وما ألطف قول الشهاب في مثله: هذه زهرة لا تحتمل هذا الفرك.
الخامس- قال الإمام السبكيّ رحمه الله: ما فعله الخضر عليه الصلاة والسلام من قتل الغلام لكونه طبع كافرا، مخصوص به. لأنه أوحي إليه أن يعمل بالباطن، وخلاف الظاهر الموافق للحكمة. فلا إشكال فيه. وإن علم من الشريعة أنه لا يجوز قتل صغير لا سيما بين أبوين مؤمنين. ولو فرضنا أن الله أطلع بعض أوليائه، كما
56
أطلع الخضر عليه السلام، لم يجز له ذلك، وما ورد عن ابن عباس (لما كتب إليه نجدة الحروريّ: كيف قتله وقد نهى النبيّ ﷺ عن قتل الوالدان؟ فكتب إليه: إن كنت علمت من حال الولدان، ما علمه عالم موسى، فلك أن تقتل) فإنما قصد به ابن عباس المحاجّة والإحالة على ما لم يمكن قطعا، لطمعه في الاحتجاج بقصة الخضر عليه الصلاة والسلام. وليس مقصوده أنه إن حصل ذلك يجوز. لأنه لا تقتضيه الشريعة. وكيف يقتل بسبب لم يحصل؟ والمولود لا يوصف بكفر حقيقي ولا إيمان حقيقي. وقصة الخضر تحمل على أنه كان شرعا مستقلا به. وهو نبيّ.
وليس في شريعة موسى أيضا، ولذا أنكره. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : وأما من استدل به على جواز دفع أغلظ الضررين بأخفهما، فصحيح. لكن فيما لا يعارض منصوص الشرع. فلا يسوغ الإقدام على قتل النفس ممن يتوقع منه أن يقتل أنفسا كثيرة، قبل أن يتعاطى شيئا من ذلك.
وإنما فعل الخضر ذلك لاطلاع الله تعالى عليه.
وقال ابن بطال: قول الخضر (وأمّا الغلام فكان كافرا) هو باعتبار ما يؤول إليه أمره أن لو عاش حتى يبلغ. واستحباب مثل هذا القتل لا يعلمه إلا الله. ولله أن يحكم في خلقه بما يشاء قبل البلوغ وبعده.
أقول: مفاد الآية، أن إنكار موسى لقتل الغلام لكونه جناية بغير موجب. ولذا قال (بغير نفس) لا لكونه صغيرا لم يبلغ الحنث. لأن الآية لا تفيده. وقد يكون كبيرا. فقد قال اللغويون: الغلام الطارّ الشارب، أو من حين يولد إلى أن يشبّ، والكهل أيضا. ومن الأخير قول موسى في قصة الإسراء
عن النبيّ «١» صلى الله عليه وسلم: «أبكي لأن غلاما بعث بعدي»
. إلخ نعم ربما يشعر بصغره حديث البخاريّ: وجد غلمانا يلعبون فأخذ غلاما فذبحه قال موسى: أقتلت نفسا لم تعمل بالحنث. ولكن لا نصّ فيه، فتأمل.
السادس: أكثر العلماء على أن موسى المذكور في الآية، هو موسى بن عمران صاحب الآيات الشهيرة وصاحب التوراة. وذهب نوف البكاليّ- تابعي صدوق ابن امرأة كعب الأحبار أو ابن أخيه- إلى أنه ليس بموسى بن عمران كما في البخاريّ «٢». ووقع في رواية ابن إسحاق عن سعيد بن جبير، عند (النسائيّ) قال:
(١) أخرجه البخاري في: بدء الخلق، ٦- باب ذكر الملائكة، حديث ١٥١٣، عن مالك بن صعصعة. [.....]
(٢) أخرجه البخاري في: العلم، ٤٤- باب ما يستحب للعالم إذا سئل أي الناس أعلم، فيكل العلم إلى الله، حديث رقم ٦٤، عن أبي بن كعب.
57
كنت عند ابن عباس وعنده قوم من أهل الكتاب، فقال بعضهم: يا أبا عباس! إن نوفا يزعم عن كعب الأحبار أن موسى الذي طلب العلم إنما هو موسى بن منسا. أي ابن إفراثيم بن يوسف عليه السلام. فقال ابن عباس: أسمعت ذلك منه يا سعيد؟ قلت:
نعم. قال: كذب نوف. وفي رواية البخاريّ: كذب عدو الله. وإنما قال ذلك مبالغة في الإنكار والتنفير من تصديق مقالته.
قال الرازيّ: كان ليوسف ولدان إفراثيم. ومنسا. فولد إفراثيم نون وولد نون يوشع صاحب موسى ووليّ عهده بعد وفاته. وأما ولد منسا، قيل إنه جاءته النبوة قبل موسى بن عمران. ويزعم أهل التوراة أنه هو الذي طلب هذا العلم ليتعلم. والخضر هو الذي خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار، وموسى بن منسا معه. هذا هو قول جمهور اليهود. واحتج القفال على صحة القول بأنه موسى صاحب التوراة أنه لم يذكر في القرآن وهو المراد. فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه. ولو كان المراد غيره لوجب تعريفه بصفة تميّزه وتزيل الاشتباه عنه، والله أعلم. انتهى.
وأما ابن عباس فكان سنده في ذلك، كما في البخاري، ما حدثه به أبيّ بن كعب ورفعه إلى النبيّ ﷺ أن موسى سئل هل في الأرض أحد أعلم منك؟ فقال:
لا. أو حدثته نفسه بذلك. فعتب الله عليه إذ لم يردّ العلم إليه. وأراد تعريفه أن من عباده في الأرض من هو أعلم منه، لئلا يحتم على ما لا علم له به. وإذا صح أن موسى هو صاحب التوراة، فيكون المراد بفتاه يوشع. وكان موسى اختصه برفقته لكونه صادقا في خدمته، والغيرة على كرامته، والحب له. ولذا صار خليفته بعده، وفتح عليه بيت المقدس ونصر على الجبارين، كما هو معروف.
السابع: قال الأكثرون: إن صاحب موسى المعبر عنه بقوله تعالى عَبْداً مِنْ عِبادِنا هو الخضر. قالوا: سمي بذلك لأنه ما جلس على الأرض إلا اخضرت. وقد صح عن ابن عباس أنه تمارى هو والحرّ بن قيس بن حصن الفزاريّ في صاحب موسى.
فقال ابن عباس: هو خضر، فمرّ أبيّ بن كعب. فدعاه ابن عباس فقال: إني تماريت أنا وصاحبي هذا، في صاحب موسى الذي سأل السبيل إلى لقيّه. فهل سمعت رسول الله ﷺ يذكر شأنه؟ قال: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: بينا موسى في ملأ من بني إسرائيل، إذ جاءه رجل فقال: تعلم مكان أحد أعلم منك؟ قال موسى: لا. فأوحى الله إلى موسى: بلى. عبدنا خضر. فسأل موسى السبيل إلى لقيّه، فجعل الله له الحوت آية، وقيل له: إذا فقدت فارجع فإنك ستلقاه. فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر. فقال موسى ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً
58
فوجدا خضرا. وكان من شأنهما ما قص الله في كتابه.
الثامن: اختلف أهل العلم في نسب الخضر وفي كونه نبيّا وفي طول عمره وبقاء حياته على أقوال كثيرة. فمن قائل بأنه ابن آدم لصلبه أو ابن قابيل أو ابن اليسع، أو غير ذلك، وكله مما ليس فيه أثارة من علم، وقد احتج من قال إنه نبيّ بقوله تعالى: وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي لأن الظاهر من هذا أنه فعله بأمر الله. والأصل عدم الواسطة. وقيل: كان وليّا. وقيل: مقامه دون النبوة وفوق الصّديقيّة فهو مقام برزخيّ، له وجه إلى النبوة ووجه إلى الولاية. وقيل: إنه ملك من الملائكة. وأما تعميره فيروى عن ابن عباس أنه أنسئ للخضر في أجله حتى يكذب الدجال.
قال النوويّ في (التهذيب) قال الأكثرون: هو حيّ موجود بين أظهرنا. وذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة. وحكاياتهم في رؤيته، والاجتماع به، والأخذ عنه، وسؤاله، ووجوده في المواضع الشريفة، أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تذكر.
وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث: إنه مات.
وقال الحافظ أبو الخطاب بن دحية: وأما رواية اجتماعه مع النبيّ ﷺ وتعزيته لأهل البيت، فلا يصح من طرقها شيء. ولا يثبت اجتماعه مع أحد من الأنبياء، إلا مع موسى. وجميع ما ورد في حياته لا يصح منه شيء، باتفاق أهل النقل. وأما ما جاء من المشايخ فهو مما يتعجب منه. كيف يجوز لعاقل أن يلقى شيخا لا يعرفه فيقول له: أنا فلان فيصدقه؟؟؟. انتهى كلامه ملخصا.
وتمسك من قال بتعميره بقصة عين الحياة، واستند إلى ما وقع من ذكرها في صحيح البخاريّ وجامع الترمذيّ. ولكن لم يثبت ذلك مرفوعا.
وقال أبو حيان في (تفسيره) : الجمهور على أن الخضر مات. وبه قال ابن أبي الفضل المرسيّ. لأنه لو كان حيا لزمه المجيء إلى النبيّ ﷺ والإيمان به واتّباعه.
وقد روى عنه ﷺ أنه قال: لو كان موسى حيّا ما وسعه إلا اتباعي
. وبذلك جزم ابن المناويّ وإبراهيم الحربيّ وأبو طاهر العباديّ. وممن جزم بأنه غير موجود الآن، أبو يعلى الحنبليّ وأبو الفضل بن ناصر والقاضي أبو بكر بن العربيّ، وأبو بكر بن النقاش وابن الجوزيّ. واستدل على ذلك بأدلة. منها قوله تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [الأنبياء: ٣٤]، قال أبو الحسين ابن المناوي: بحثت عن تعمير الخضر، وهل هو باق أم لا! فإذا أكثر المغفلين مفترون بأنه باق من أجل ما روي في
59
ذلك، والأحاديث المرفوعة في ذلك واهية. والسند إلى أهل الكتاب ساقط لعدم ثقتهم. وخبر مسلمة بن مصقلة كالخرافة. وخبر رياح كالريح. وما عدا ذلك من الأخبار، كلها واهية الصدر والأعجاز. لا يخلو حالها من أمرين: إما أن تكون أدخلت على الثقات استغفالا، أو يكون بعضهم تعمد ذلك. وقد قال تعالى: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ.
قال صاحب (فتح البيان) : والحق ما ذكرناه عن البخاريّ وأضرابه في ذلك. ولا حجة في قول أحد كائنا من كان إلا الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم. ولم يرد في ذلك نص مقطوع به، ولا حديث مرفوع إليه صلى الله عليه وسلم، حتى يعمد عليه ويصار إليه. وظاهر الكتاب والسنة نفي الخلد، وطول التعمير لأحد من البشر. وهما قاضيان على غيرهما ولا يقضي غيرهما عليهما. ومن قال إنه نبيّ أو مرسل أو حيّ باق، لم يأت بحجة نيّرة ولا سلطان مبين. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. انتهى.
وقال تقيّ الدين بن تيمية عليه الرحمة والرضوان في بعض فتاويه، في ترائي الجن للإنس في بعض البلاد، ما مثاله: وفيه كثير من الجن وهم رجال الغيب الذين يرون أحيانا في هذه البقاع قال تعالى وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً [الجن: ٦].
وكذلك الذين يرون الخضر أحيانا هو جنيّ رأوه. وقد رآه غير واحد ممن أعرفه وقال (إنني) وكان ذلك جنيّا لبّس على المسلمين الذين رأوه. وإلا فالخضر الذي كان مع موسى عليه السلام مات. ولو كان حيّا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لوجب عليه أن يأتي إلى النبيّ ﷺ ويؤمن به ويجاهد معه. فإن الله فرض على كل نبيّ أدرك محمدا، أن يؤمن به ويجاهد معه. كما قال الله تعالى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران: ٨١]. قال ابن عباس رضي الله عنه: لم يبعث الله نبيّا إلا أخذ عليه الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه.
ولم يذكر أحد من الصحابة أنه رأى الخضر، ولا أنه أتى إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فإن الصحابة كانوا أعلم وأجل قدرا، من أن يلبّس الشيطان عليهم. ولكن لبّس على كثير من بعدهم. فصار يتمثل لأحدهم في صورة النبيّ ويقول: أنا الخضر. وإنما هو شيطان.
كما أن كثيرا من الناس يرى ميته خرج، وجاء إليه، وكلمه في أمور، وقضاء حوائج،
60
فيظنه الميت نفسه. وإنما هو شيطان. تصور بصور. انتهى.
التاسع- دل قوله تعالى: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً، على أن من العلم علما غيبيّا وهو المسمى بالعلم اللدنّي. فالآية أصل فيه. وقد ألف حجة الإسلام الغزاليّ، عليه الرحمة، رسالة في إثبات هذا العلم. ردّ على من أنكر وجوده. وذكر عليه الرحمة أولا طرفا من مراتب العلوم الظاهرية المعروفة. ثم جوّد الكلام في إثباته. ولا بأس بإيراد شذرة مما قرره فيه. قال قدس سره. اعلم أن العلم الإنسانيّ يحصل من طريقين: أحدهما من التعليم الإنسانيّ والثاني من التعليم الربانيّ. أما الطريق الأول، وهو التعليم الإنسانيّ، فطريق معهود مسلوك محسوس. ويكون على وجهين:
أحدهما من خارج وهو التحصيل بالتعلّم. والآخر من داخل وهو الاشتغال بالتفكر.
والتفكر في الباطن بمنزلة التعليم في الظاهر. فإن التعلم استفادة الشخص من الشخص الجزئيّ. والتفكر استفادة النفس من النفس الكليّ. والنفس الكليّ أشد تأثيرا وأقوى تعليما من جميع العقلاء والعلماء. والعلوم مركوزة في أصل النفوس بالقوة. كالبذر في الأرض والجوهر في قعر البحر، أو في قلب المعدن. والتعلم هو طلب خروج ذلك الشيء الذي بالقوة إلى الفعل. والتعليم هو إخراجه من القوة إلى الفعل. فنفس المتعلم تتشبّه بنفس العالم وتتقرب إليه بالنسبة. فالعالم بالإفادة كالزارع. والمتعلم بالاستفادة كالأرض. والعلم الذي هو بالقوة كالبذر. والذي هو بالفعل، كالنبات. وإذا كملت نفس المتعلم يكون كالشجر المثمر أو كالجوهر الظاهر من قعر البحر. وإذا غلبت القوى البدنية على النفس يحتاج المتعلم إلى زيادة التعلم في طول المدة. ويحمل التعب في طلب الفائدة، وإذا غلب نور العقل على أوصاف الحسّ يستغني الطالب بقليل التفكر عن كثير التعلم، فإن نفس العاقل تجد من الفوائد بتفكر ساعة، ما لا تجد نفس الجاهل بتعلم سنة. فإذن بعض الناس يحصلون العلم بالتعلم وبعضهم بالتفكر. ثم قال قدس سره: والطريق الثاني وهو التعليم الربانيّ. وذلك على وجهين: إلقاء الوحي وهو النفس إذا كملت بذاتها تزول عنها دنس الطبيعة ودرن الحرص والأمل. وينفصل نظرها عن شهوات الدنيا وينقطع نسبها عن الأماني الفانية. وتقبل بوجهها على بارئها ومنشئها. وتتمسك بجود مبدعها. وتعتمد على إفادته وفيض نوره. فالله تعالى بحسن عنايته يقبل على تلك النفس إقبالا كليّا، وينظر إليها نظرا إلهيّا، ويتخذ منها لوحا، ومن النفس الكليّ قلما وينقش فيها علومه. ويصير العقل الكليّ كالمعلم والنفس القدسيّ كالمتعلم.
فتحصل جميع العلوم لتلك النفس وتنتقش فيها جميع الصور من غير تعلم وتفكر.
61
ومصداق هذا قول الله عز وجل لنبيّه صلى الله عليه وسلم: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
[النساء: ١١٣]، فعلم الأنبياء أشرف مرتبة من جميع علوم الخلائق. لأن محصوله عن الله تعالى بلا واسطة ووسيلة. وبيان هذه الكلمة يوجد في قصة آدم والملائكة عليهم الصلاة والسلام. فإنهم طول عمرهم حصلوا بفنون الطرق كثير العلوم. حتى صاروا أعلم المخلوقين وأعرف الموجودات. وآدم لما جاء، ما كان عالما. لأنه ما تعلم ولا رأى معلما. فتفاخرت الملائكة عليه وتجبروا وتكبروا وقالوا وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة: ٣٠]، ونعلم حقائق الأشياء. فرجع آدم إلى باب خالقه وأخرج قلبه عن جملة المكونات، وأقبل بالاستعانة على الرب تعالى، فعلمه الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ [البقرة: ٣١]، أو صغر حالهم عند آدم وقلّ علمهم وانكسرت سفينة جبروتهم، فغرقوا في بحر العجز:
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا [البقرة: ٣٢]، فقال تعالى: يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ [البقرة: ٣٣]، فأنبأهم آدم عن مكنونات العلم ومستترات الأمر.
فتقرر الأمر عند العقلاء أن العلم الغيبيّ المتولد عن الوحي، أقوى وأكمل من العلوم المكتسبة. صار علم الوحي إرث الأنبياء وحق الرسل، حتى أغلق الله باب الوحي في عهد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. فكان رسول الله خاتم النبيين، وكان أعلم الناس وأفصح العرب والعجم، وكان
يقول: (أدبني ربي فأحسن تأديبي)
وقال لقومه «١» :(أنا أعلمكم بالله وأخشاكم لله)
وإنما كان علمه أكمل وأشرف وأقوى، لأنه حصل عن التعليم الربانيّ، وما اشتغل قط بالتعلم والتعليم الإنسانيّ فقال تعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النجم: ٥].
والوجه الثاني- هو الإلهام. والإلهام تنبيه النفس الكليّ للنفس الجزئيّ على قدر صفاته وقبوله وقوته واستعداده. والإلهام أثر الوحي فإن الوحي هو تصريح الأمر الغيبيّ. والإلهام هو تعريضه. والعلم الحاصل عن الوحي يسمى علما نبويّا. والذي عن الإلهام يسمى علما لدنّيّا. والعلم اللدنّي هو الذي لا واسطة في حصوله بين النفس وبين الباري. وإنما هو كالضوء من سراج الغيب يقع على قلب صاف فارغ لطيف. وذلك أن العلوم كلها محصولة في جوهر النفس الكليّ الأوّليّ الذي هو من الجواهر المفارقة الأولية المحضة، بالنسبة إلى العقل الأول كنسبة حواء إلى آدم
(١) أخرجه البخاري في: النكاح، ١- باب الترغيب في النكاح، حديث رقم ٢٠٩٩، عن أنس بن مالك.
62
عليهما السلام. وقد تبين أن العقل الكليّ أشرف وأكمل وأقوى وأقرب إلى البارئ تعالى من النفس الكليّ. والنفس الكليّ أعز وألطف وأشرف من سائر المخلوقات.
فمن إفاضة العقل الكليّ يتولد الإلهام. فالوحي حلية الأنبياء، والإلهام زينة الأولياء.
فكما أن النفس دون العقل، فالوحي دون النبيّ. وكذلك الإلهام دون الوحي. فهو ضعيف بنسبة الوحي، قوى بإضافة الرؤيا. والإلهام علم الأنبياء والأولياء. فإنّ علم الوحي خاص بالرسل موقوف عليهم. كما كان لآدم وموسى وإبراهيم ومحمد وغيرهم من الرسل صلوات الله عليهم. وفرق بين الرسالة والنبوة. فالنبوة هي قبول النفس القدسيّ حقائق المعلومات والمعقولات عن جوهر العقل الأول. والرسالة تبليغ تلك المعلومات والمعقولات إلى المستفيدين والمتابعين. وربما يتفق القبول لنفس من النفوس، ولا يتأتى لها التبليغ لعذر من الأعذار وسبب من الأسباب. والعلم اللدني يكون لأهل النبوة والولاية، كما حصل للخضر عليه السلام حيث أخبر الله تعالى فقال: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً [الكهف: ٦٥].
ثم قال عليه الرحمة: فإذا أراد الله بعبد خيرا رفع الحجاب بين نفسه وبين النفس الكليّ الذي هو اللوح. فيظهر فيها أسرار بعض المكونات. وينتقش فيها معاني تلك المكونات. فيعبر النفس عنها كما يشاء إلى من يشاء من عباده.
وحقيقة الحكمة تنال من العلم اللدنيّ. وما لم تبلغ النفس هذه الرتبة لا يكون حكيما. لأن الحكمة من مواهب الله تعالى: ويُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ، من عباده وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ [البقرة: ٢٦٩]، وهم الواصلون مرتبة العلم اللدنيّ، المستغنون عن كثيرة التحصيل وتعب التعلم. فيتعلمون قليلا ويعلمون كثيرا، ويتعبون يسيرا ويستريحون طويلا.
ثم قال عليه الرحمة: اعلم أن العلم اللدنيّ هو سريان نور الإلهام. والإلهام يكون بعد التسوية. كما قال تعالى: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها [الشمس: ٧]، والتسوية تصحيح النفس والرجوع إلى فطرتها. وهذا الرجوع يكون على ثلاثة أوجه: أحدها- تحصيل جميع العلوم وأخذ الحظ الأوفر من أكثرها. والثاني- الرياضة الصادقة والمراقبة الصحيحة. فإن النبيّ ﷺ أشار إلى هذه الحقيقة
فقال: (من عمل بما علم، أورثه الله علم ما لم يعلم).
والثالث- التفكر. فإن النفس، إذا تعلمت وارتاضت بالعلم والعمل، ثم أخذت تتفكر بمعلوماتها، بشرط التفكر، ينفتح عليه باب الغيب. كالتاجر الذي يتصرف في ماله بشرط التجارة، ينفتح عليه أبواب الربح. وإذا
63
سلك طريق الخطأ يقع في مهالك الخسران. فالمتفكر إذا سلك سبيل الصواب يصير من ذوي الألباب، وتنفتح روزنة من عالم الغيب في قلبه فيصير عالما كاملا عاقلا ملهما مؤيدا. كما
قال صلى الله عليه وسلم: (تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة)
انتهى ملخصا.
وفي خلال كلامه عليه الرحمة، جمل من إشارات الصوفية وعباراتهم. ولا يأباها العقل السليم ولا قواعد العلم الظاهر. لأنها في هذه المثابة بدرجة الاعتدال والتوسط. كذلك كان مشربه قدس الله سره. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٨٣]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣)
وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ وهو الإسكندر الكبير المقدونيّ وسنذكر وجه تلقيبه بذلك قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً أي نبأ مذكورا معجزا، أنزله الله عليّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٨٤]
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤)
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أي بالقوة والرأي والتدبير والسعة في المال والاستظهار بالعدد وعظم الصيت وكبر الشهرة. وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً، أي طريقا موصلا إليه. والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٥ الى ٨٦]
فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦)
فَأَتْبَعَ سَبَباً قرئ بقطع الهمزة وسكون التاء. وقرئ بهمزة الوصل وتشديد التاء. فقيل هما بمعنى ويتعديان لمفعول واحد. وقيل: (أتبع) بالقطع يتعدى لاثنين. والتقدير: فأتبع سببا سببا آخر. أو فأتبع أمره سببا كقوله: وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً [القصص: ٤٢].
وقال أبو عبيدة: اتبع (بالوصل) في السير وأتبع (بالقطع) معناه اللحاق كقوله: فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [الصافات: ١٠]، وقال يونس: أتبع (بالقطع) للجد الحثيث في الطلب و (بالوصل) مجرد الانتقال. والفاء في قوله: (فأتبع) فاء
الفصيحة. أي فأراد بلوغ المغرب فأتبع سببا يوصله، لقوله: حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ أي أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب، وهو مغرب الأرض وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ أي ذات حمأة وهو الطين الأسود، وقرئ (حامية) أي حارّة. وقد تكون جامعة للوصفين و (وجد) يكون بمعنى (رأى) لما ذكره الراغب وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً أي أمة. ثم أشار تعالى إلى أنه مكنه منهم، وأظهره بهم، وحكمه فيهم، وجعل له الخيرة في شأنهم، بقوله: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ أي بالقتل وغيره وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً بالعفو. ثم بين تعالى عدله وإنصافه، ليحتذى حذوه، بقوله سبحانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٨٧]
قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧)
قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ أي بالبغي والفساد في الأرض بالشرك والضلال والإضلال فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ أي في الآخرة فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً أي منكرا لم يعهد مثله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٨٨]
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨)
وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ أي في الدارين جَزاءً الْحُسْنى يقرأ بالرفع والإضافة. وهو مبتدأ، أو مرفوع بالظرف أي فله جزاء الخصلة الحسنى. ويقرأ بالرفع والتنوين والْحُسْنى بدل أو خبر مبتدأ محذوف. ويقرأ بالنصب والتنوين. أي:
فله الحسنى جزاء. فهو مصدر في موضع الحال. أي مجزيّا بها. أو هو مصدر على المعنى. أي يجزي بها جزاء، أو تمييز. ويقرأ بالنصب من غير تنوين. وهو مثل المنون إلا أنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين. أفاده أبو البقاء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٨٩ الى ٩٠]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أي طريقا راجعا من مغرب الشمس، موصلا إلى مشرقها
حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً أي من المباني والجبال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٩١]
كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١)
كَذلِكَ أي أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكان وبسطة الملك. أو أمره فيهم، كأمره في أهل المغرب من الحكم المتقدم. أو صفة مصدر محذوف (وجد) أي وجدها تطلع وجدانا كوجدانها تغرب في عين حمئة. أو معمول (بلغ) أي بلغ مغربها كما بلغ مطلعها، ولا يحيط بما قاساه غير الله. أو صفة (قوم) أي على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم الشمس، في الكفر والحكم وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً أي علما. نحن مطلعون على جميع أحواله وأحوال جيشه. لا يخفى علينا منها شيء، وإن تفرقت أممهم وتقطّعت بهم الأرض. وفي التذييل بهذا، إشارة إلى كثرة ما لديه من العدد والعدد، بحيث لا يحيط بها إلا علمه تعالى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩٢ الى ٩٣]
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً أي طريقا ثالثا معترضا بين المشرق والمغرب حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ قرئ بفتح السين وضمها. أي بين الجبلين اللذين سدّ ما بينهما وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً أي من ورائهما أمة من الناس لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا لكون لغتهم غريبة مجهولة، ولقلة فطنتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥)
قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي في أرضنا بالقتل والإضرار فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً أي جعلا نخرجه من أموالنا. وقرئ (خراجا) وهو بمعناه عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا أي حاجزا يمنع خروجهم علينا قالَ ما
مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ
أي ما جعلني فيه مكينا من المال والملك، أجلّ مما تريدون بذله. فلا حاجة بي إليه فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أي بعملة وصنّاع وآلات أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً أي حاجزا حصينا. وأصل معنى الردم سد الثلمة بالحجارة ونحوها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : الآيات ٩٦ الى ٩٨]
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨)
آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ أي ناولوني قطعه حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ أي بين جانبي الجبلين قالَ انْفُخُوا أي في الأكوار والحديد حَتَّى إِذا جَعَلَهُ أي المنفوخ فيه ناراً أي كالنار بالإحماء قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أي نحاسا مذابا ليلصق بالحديد، ويتدعم البناء به ويشتد فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ أي يعلوه بالصعود لارتفاعه وملاسته وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً لثخنه وصلابته قالَ هذا أي السد رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي على القاطنين عنده. لأمنهم من شر من سدّ عليهم به، ورحمة على غيرهم، لسد الطريق عليهم فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي بدحره وخرابه جَعَلَهُ دَكَّاءَ بالمد أي أرضا مستوية، وقرئ (دكّا) أي مدكوكا مسوّي بالأرض. وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا أي كائنا لا محالة. وهذا آخر حكاية قول ذي القرنين.
تنبيهات:
الأول: قدمنا أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار.
وإنما هي الآيات والعبر والأحكام والآداب تجلت في سياق الوقائع. ولذا يجب صرف العناية إلى وجوه تلك الفوائد والثمرات، وما يستنبط من تلك الآيات. وقد أشار نبأ ذي القرنين الإسكندر إلى فوائد شتى. نذكر ما فتح علينا منها، ونكل ما لم نحط به علما إلى العليم الخبير.
فمن فوائدها: الاعتبار برفع الله بعض الناس درجات على بعض. ورزقه من يشاء بغير حساب ملكا ومالا. لما له من خفيّ الحكم وباهر القدرة. فلا إله سواه.
ومنها: الإشارة إلى القيام بالأسباب، والجري وراء سنة الله في الكون من الجد والعمل. وأن على قدر بذل الجهد يكون الفوز والظفر فإن ما قص عن الإسكندر من ضربه في الأرض إلى مغرب الشمس، ومطلعها وشمالها وعدم فتوره ووجدانه اللذة في
67
مواصلة الأسفار وتجشم الأخطار، وركوب الأوعار والبحار، ثم إحرازه ذلك الفخار، الذي لا يشق له غبار، أكبر عبرة لأولي الأبصار.
ومنها: تنشيط الهمم لرفع العوائق. وأنه ما تيسرت الأسباب، فلا ينبغي أن يعد ركوب البحر ولا اجتياز القفر، عذرا في الخمول والرضاء بالدون. بل ينبغي أن ينشط ويمثل في مرارته، حلاوة عقباه من الراحة والهناء. كما قضى الإسكندر عمره ولم يذق إلا حلاوة الظفر ولذة الانتصار: إذ لم يكن من الذين تقعدهم المصاعب عن نيل ما يبتغون.
ومنها: وجوب المبادرة لمعالي الأمور من الحداثة. إذ من الخطأ التسويف فيه إلى الاكتهال. فإن الإسكندر لما تبوأ ملك أبيه كان في حدود العشرين من عمره.
وأتى ما أتى وهو في ريعان الشباب وقوة الفناء. فهاجم أعظم ملوك عصره وأكبر جيوشهم. كأنه القضاء المبرم. ولم يقف في وجه عدد ولا عدد. وخاض غمرات الردى غير هياب ولا وجل. وأضاف كل العالم الشرقيّ إلى المملكة اليونانية وهو شاب. وقضى وهو في الثالثة والثلاثين من عمره، كما دونه محققو المؤرخين.
ومنها: أن من قدر على أعدائه وتمكن منهم، فلا ينبغي له أن تسكره لذة السلطة بسوقهم بعصا الإذلال، وتجريعهم غصص الاستعباد والنكال. بل يعامل المحسن بإحسانه والمسيء بقدر إساءته. فإن ما حكي عن الإسكندر من قوله قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ [الكهف: ٨٧]، إلى آخره، نهاية في العدل وغاية الإنصاف.
ومنها: أن على الملك، إذا اشتكى إليه جور مجاورين، أن يبذل وسعه في الراحة والأمن، دفاعا عن الوطن العزيز، وصيانة للحرية والتمدن، من مخالب التوحش والخراب، قياما بفريضة دفع المعتدين وإمضاء العدل بين العالمين. كما لبّى الإسكندر دعوة الشاكين في بناء السد. وقد أطبق المؤرخون على أنه بنى عدة حصون وأسوار، لرد غارات البرابرة، وصد هجماتهم.
ومنها: أن على الملك التعفف عن أموال رعيته، والزهد في أخذ أجرة، في مقابلة عمل يأتيه، ما أغناه الله عنه، ففي ذلك حفظ كرامته وزيادة الشغف بمحبته.
كما تأبّى الإسكندر تفضلا وتكرما.
ومنها: التحدث بنعمة الله تعالى إذا اقتضاه المقام. كقوله الإسكندر في مقام تعففه عن أموالهم، والشفقة عليهم ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ [الكهف: ٩٥]، كقول سليمان فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ [النمل: ٣٦]، وقد قيل: إن دخل الإسكندر من البلاد التي فتحها كان نحو ستين مليون ليرة إنكليزية.
68
ومنها: تدعيم الأسوار والحصون في الثغور، وتقويتها بذوب الرصاص وبوضع صفائح النحاس، خلال الصخور الصم، صدقا في العمل ونصحا فيه. لينتفع به على تطاول الأجيال. فإن البناء غير الرصين لا ثمرة فيه.
ومنها: مشاطرة الملك العمال في الأعمال ومشارفتهم بنفسه إذا اقتضى الحال، تنشيطا لهمتهم وتجرئة لهم وترويحا لقلوبهم. وقد كان الإسكندر يقاسم الرجال الأتعاب، ويدير العمل بنفسه، كما بينه الذكر الحكيم في قوله: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً.
ومنها: تعريف الغير ثمرة العمل المهم، ليعرفوا قدره فيظهروا شكره. ولذا قال هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي.
ومنها: الإعلام بالدور الأخرويّ، وانقضاء هذا الطور الأوّليّ، لتبقى النفوس طامحة إلى ذلك العالم الباقي والنعيم السرمديّ. ولذا قال فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي.
ومنها: الاعتبار بتخليد جميل الثناء، وجليل الآثار. فإن من أنعم النظر فيما قص عنه في هذه الآيات الكريمة، يتضح له جليّا حسن سجاياه وسمو مزاياه. من الشجاعة وعلوّ الهمة والعفة والعدل. ودأبه على توطيد الأمن وإثابته المحسنين وتأديبه للظالمين. والإحسان إلى النوع البشريّ، لا سيما في زمان كان فيه أكثر عوائد وأخلاق الأمم المتمدنة وغير المتمدنة، وحشية فاسدة.
ومنها: الاهتمام بتوحيد الكلمة لمن يملك أمما متباينة. كما كان يرمي إليه سعى الإسكندر. فإنه دأب على توحيه الكلمة بين الشعوب ومزج تلك الأمم المختلفة ليربطها بصلات الحب والعوائد. وقد حكي أنه كان يجيّش من كل أمة استولى عليها، جيشا عرمرما، يضيفه إلى جيشه المكدونيّ اليونانيّ. ويأمر رجاله أن يتزوجوا من بناتهم، لتوثيق عرى المحبة والارتباط، وإزالة البغض والشحناء.
ومنها: الاعتبار بما يبلغه الإنسان، وما فيه من بليغ الاستعداد. يقضي على المرء أن يعيش أولا طفلا مرضعا. لا يعلم ما حوله ولا يطلب غير ما تحتاج إليه طبيعته الضعيفة، قياما بما تقتضيه أسباب الحياة، وهو ملقى إذ ذاك لا إرادة له. وعرضة لأسقام تذيقه الآلام، وقد تجرعه كأس الحمام قبل أن يرى ويدرك شيئا من هذا النظام. فإذا استظهرت فيه عوامل الحياة على دواعي الممات، وسرت بجسمه قوى الشبيبة، وصرف ما أنعم الله عليه، إلى ما خلق لأجله، ترعرع إنسانا عظيما ظافرا بمنتهى أمله.
التنبيه الثاني- في ذي القرنين. اتفق المحققون على أن اسمه الإسكندر بن
69
فيليس، وقال ابن القيم في (إغاثة اللهفان) في الكلام على الفلاسفة: ومن ملوكهم الإسكندر المقدونيّ وهو ابن فيليس وليس بالإسكندر ذي القرنين الذي قص الله تعالى نبأه في القرآن بل بينهما قرون كثيرة وبينههما في الدين أعظم تباين. فذو القرنين كان رجلا صالحا موحدا لله تعالى يؤمن بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وكان يغزو عبّاد الأصنام وبلغ مشارق الأرض ومغاربها. وبنى السد بين الناس وبين يأجوج ومأجوج. وأما هذا المقدونيّ، فكان مشركا يعبد الأصنام هو وأهل مملكته. وكان بينه وبين المسيح نحو ألف وستمائة سنة. والنصارى تؤرخ له.
وكان أرسطاطاليس وزيره. وكان مشركا يعبد الأصنام. انتهى. كلامه.
وفيه نظر. فإن المرجع في ذلك هم أئمة التاريخ وقد أطبقوا على أنه الإسكندر الأكبر ابن فيليس باني الإسكندرية بتسعمائة وأربع وخمسين سنة قبل الهجرة، وثلاثمائة واثنين وثلاثين سنة قبل ميلاد عيسى عليه السلام. وقد أصبح ذلك من الأوليات عند علماء الجغرافيا. وأما دعوى أنه كان مشركا يعبد الأصنام، فغير مسلم، وإن كان قومه وثنيين، لأنه كان تلميذا لأرسطاطاليس. وقد جاء في ترجمته- كما في طبقات الأطباء وغيرها- أنه كان لا يعظم الأصنام التي كانت تعبد في ذلك الوقت وأنه بسبب ذلك نسب إلى الكفر وأريد السعاية به إلى الملك. فلما أحس بذلك شخص عن أثينا. لأنه كره أن يبتلى أهلها بمثل ما ابتلوا به سقراطيس معلم أفلاطون. فإنه كان من عبادهم ومتألهيهم. وجاهرهم بمخالفتهم في عبادة الأصنام.
وقابل رؤساءهم بالأدلة والحجج على بطلان عبادتها. فثوّروا عليه العامة واضطروا الملك إلى قتله. فأودعه السجن ليكفهم عنه. ثم لم يرض المشركون إلا بقتله.
فسقاه السم خوفا من شرهم، بعد مناظرات طويلة جرت له معهم. كما في (طبقات الأطباء وتراجم الفلاسفة) فالوثنية، وإن كانت دين اليونانيين واعتقاد شعبهم، إلا أنه لا ينافي أن يكون الملك وخاصته على اعتقاد آخر يجاهرون به أو يكتمونه.
كالنجاشيّ ملك الحبشة. فإنه جاهر بالإيمان بالنبيّ صلى الله عليه وسلم. وشعبه وأهل مملكته كلهم نصارى. وهكذا كان الإسكندر وأستاذه والحكماء قبله. فإن الممعن في تراجمهم يرى أنهم على توحيد وإيمان بالمعاد. قال القاضي صاعد: كان فيثاغورس- أستاذ سقراط- بقول ببقاء النفس وكونها، فيما بعد، في ثواب أو عقاب. على رأي الحكماء الإلهيين. فتأمل قوله (على رأي الحكماء الإلهيين) يتحقق ما ذكرناه.
وأما قول الفخر الرازيّ: (إن في كون الإسكندر ذا القرنين إشكالا قويّا. وهو أنه كان تلميذ أرسطاطاليس الحكيم وكان على مذهبه، فتعظيم الله إياه يوجب الحكم
70
بأن مذهب أرسطاطاليس حقّ وصدق. وذلك مما لا سبيل إليه) فلا يخفى دفع هذا اللزوم. فإن من كان تابعا لمذهب فمدح لأمر ما يوجب مدحه لأجله، فلا يلزم أن يكون المدح لأجل مذهبه ومتبوعه. إذ قد يقوم فيه من الخلال والمزايا ما لا يوجد في متبوعه. وقد يبدو له من الأنظار الصحيحة ما لا يكون في مذهبه الذي نشأ عليه مقلدا. أفلا يمكن أن يكون حرّا في فكره ينبذ التقليد الأعمى ويعتنق الحق. ومن آتاه الله من الملك ما آتاه، أفيمتنع أن يؤتيه من تنور الفكر وحرية الضمير ونفوذ البصيرة ما يخالف به متبوعه. هذا على فرض أن متبوعه مذموم. وقد عرفت أن متبوعه (أعني أرسطاطاليس)، كان موحدا. وهو معروف في التاريخ لا سترة فيه.
على أنه لو استلزمت الآية مدح مذهب أستاذه لكان ذلك في الأصول التي هي المقصودة بالذات، وكفى بها كمالا. وللرازيّ فرض يغتنم بها التنويه بالحكماء والتعريف لمذهبهم، وهذه منها. وإن صبغها- سامحه الله- في هذا الأسلوب.
عرف ذلك من عرف.
التنبيه الثالث: اختلف في سبب تلقيبه بذي القرنين. فقيل لأنه طاف قرني الدنيا. يعني جانبيها شرقها وغربها. أو لأنه كان له قرنان أي ضفيرتان. أو لأنه ملك الروم وفارس.
قال الزمخشريّ: ويجوز أن يلقب بذلك لشجاعته، كما يسمى الشجاع كبشا لأنه ينطح أقرانه.
أقول: هذا اللقب من الكناية عن كل ذي قوة وبأس وسلطان. لأن ذا القرون من المواشي أقواها وأشدها. والكناية بالقرن عن القوة والسلطان معروفة عند اليهود، الذين هم السائلون. وقد وقع في توراتهم في نبوة دانيال عليه السلام قوله عن الملك: (فإذا أنا بكبش واقف عند النهر. وله قرنان) ثم قوله: (وبينما كنت متأملا إذا بتيس معز قد أقبل من المغرب على وجه الأرض كلها. وللتيس قرن عجيب المنظر بين عينيه) قالوا: القرن هنا رمز إلى القوة والسلطان. والتيس رمز إلى مملكة اليونان.
وقرنه رمز إلى أول ملك على هذه المملكة وهو الإسكندر الكبير. وما أشار إليه من سرعة مسير هذا التيس إيماء إلى كثرة ما دهم البلاد به من الغارات المتواصلة. قوله:
(خرج من المغرب) إشارة إلى خروجه من مكدونية، التي هي إلى غرب فارس، وذلك حين تقدم على جيوش داريوس وكسره. وتعقبه إلى داخل مملكته. والقصد أن هذا اللقب (ذو القرنين) شهير وليس من أوضاع العرب خاصة. كما زعمه بعضهم. بل هو معروف عند العبرانيين أيضا. وقد يظهر أنه من رموزهم الخاصة التي سرت إلى العرب. وأقرتهم عليها.
71
التنبيه الرابع- قال الرازيّ: اختلفوا في ذي القرنين. هل كان من الأنبياء أم لا؟
منهم من قال: إنه كان نبيّا. واحتجوا عليه بوجوه:
الأول- قوله: إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ والأولى حمله على التمكين في الدين. والتمكين الكامل في الدين هو النبوة.
الثاني- قوله: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً ومن جملة الأشياء النبوة.
فمقتضى العموم في قوله: وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً هو أنه تعالى آتاه من النبوة سببا.
الثالث- قوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً والذي يتكلم الله معه لا بد وأن يكون نبيّا.
ومنهم من قال إنه عبدا صالحا وما كان نبيّا. انتهى.
ثم قال الرازيّ بعد: يدلّ قوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ على أنه تعالى تكلم معه من غير واسطة. وذلك يدل على أنه كان نبيّا. وحمل هذا اللفظ على أن المراد أنه خاطبه على ألسنة بعض الأنبياء- فهو عدول عن الظاهر. انتهى.
ولا يخفى ضعف الاستدلال بهذه الأدلة على نبوته. لأن مقام إثباتها يحتاج إلى تنصيص وتخصيص. وأما تعمق الجري وراء العمومات، لاستفادة مثل ذلك، فغير مقنع.
وأما قوله تعالى: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ فقدمنا أنه كناية عن تمكينه تعالى له منهم. لا أنه قول مشافهة. وإلا لو كان ذلك لكان مخيرا منه تعالى وملقنا ما يفعل بهم. فأنى يسوغ له نقضه باجتهاد آخر. ولا يقال إن الأصل في الإطلاق الحقيقة. لأنا نقول به، ما لم يمنع منه مانع، من نحو ما ذكرناه. وللتنزيل الكريم أسلوب خاص، عرفه من أنعم النظر في بديع بيانه. نعم. لو كان مراد القائل بنبوته أنه من الملهمين- ذهابا في النبوة إلى المعنى الأعم من الإيحاء بشرع، ومن الإلهام، لكان قريبا.
فتكون نبوته من القسم الثاني وهو الإلهام. ويطلق الصوفية على مثله الوارد. وجاء في الحديث تسمية صاحبه «١» محدّثا. وإطلاق النبوة عليه، وإن كان محظورا في الإسلام، إلا أنه كان معروفا قبله في العباد الأخيار.
(١)
أخرجه البخاري في: الأنبياء، ٥٤- باب حدثنا أبو اليمان، عن النبي ﷺ أنه قال: إنه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم محدثون، وإنه إن كان في أمتي هذه منهم، فإنه عمر بن الخطاب.
72
التنبيه الخامس- حكي في قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قولان في أن السائلين هم اليهود أو غيرهم. ورجّح الأول من وجهين:
أولهما- أن للإسكندر عند اليهود شأنا وقدرا. وذلك لما حكي أنه لما فتح غزة ودنا من بيت المقدس، خرج إليه رئيس أحبارها وقدم إليه الطاعة. فدخلها إسكندر وسمع نبوة التوراة فسرّ وأحسن إلى اليهود. وتعقب بعض المؤرخين هذه الرواية بأنها غير مأثورة في كتب اليونان، ولم يروها أحد من مؤرخيهم.
ثانيهما- أن عنوان (ذو القرنين) من رموز الإسرائيليين كما قدمناه عنهم.
التنبيه السادس- قالوا: المراد ب (العين الحمئة) البحر المحيط. وتسميته عينا لكونه بالنسبة لعظم قدرته تعالى، كقطرة. وإن عظم عندنا. قالوا: رأى الشمس في منظره تغرب في البحر. وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تغرب فيه. وهي لا تفارق فلكها.
وللإمام ابن حزم عليه الرحمة- رأي آخر في الآية. ذكره في كتاب (الملل) في بحث كروية الأرض قال: ذو القرنين هو كان في العين الحمئة الحامية كما تقول (رأيتك في البحر) تريد أنك إذا رأيته كنت أنت في البحر. وبرهان هذا أن مغرب الشمس لا يجهل مقدار عظيم مساحته إلا جاهل. ومقدار ما بين أول مغربها الشتويّ إذا كانت من آخر رأس الجدي إلى آخر مغربها الصيفيّ إذا كانت من رأس السرطان- مرئيّ مشاهد. ومقداره ثمان وأربعون درجة من الفلك. وهو يوازي من الأرض كلها بالبرهان الهندسيّ أقل من مقدار السدس. يكون من الأميال نحو ثلاثة آلاف ميل ونيّف. وهذه المساحة لا يقع عليها في اللغة اسم (عين) البتة. لا سيما أن تكون (عينا حمئة) حامية. وباللغة العربية خوطبنا. فلما تيقنا أنها (عين) بإخبار الله عز وجل، الصادق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، علمنا يقينا أن ذا القرنين انتهى به السير في الجهة التي مشى فيها من المغارب إلى العين المذكورة.
وانقطع له إمكان المشي بعدها لاعتراض البحار له هنالك. وقد علمنا بالضرورة أن ذا القرنين وغيره من الناس، ليس يشغل من الأرض إلا مقدار مساحة جسمه فقط.
قائما، أو قاعدا أو مضطجعا. ومن هذه صفته، فلا يجوز أن يحيط بصره من الأرض، بمقدار مكان المغارب كلها، لو كان مغيبها في عين من الأرض. كما يظن أهل الجهل. ولا بد من أن يلقى خطّ بصره من حدبة الأرض، ومن نشر من أنشازها، ما يمنع الخط من التمادي، إلا أن يقول قائل: إن تلك العين هي البحر فلا يجوز أن
73
يسمى البحر في اللغة (عينا حمئة) ولا حامية. وقد أخبر الله عز وجل أن الشمس تسبح في الفلك. وأنها إنما هي من الفلك سراج. وقول الله تعالى هو الصدق الذي لا يتناقض فلو غابت في عين من الأرض، كما يظن أهل الجهل، أو في البحر، لكانت الشمس قد زالت عن السماء وخرجت عن الفلك، وهذا هو الباطل. فصح يقينا، بلا شك، أن ذا القرنين كان هو في العين الحمئة والحامية، حين انتهى إلى آخر البر في المغارب. لا سيما مع ما قام البرهان عليه، من أن جرم الشمس أكبر من جرم الأرض.
وبرهان آخر قاطع وهو قوله تعالى: وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً فصح ضرورة أنه وجد القوم عند العين لا عند الشمس. انتهى كلام ابن حزم.
التنبيه السابع- قال الرازيّ: الأظهر أن موضع السّدين في ناحية الشمال.
وقيل: جبلان بين أرمينية وأذربيجان. وقيل: هذا المكان في منقطع أرض الترك.
وحكى محمد بن جرير الطبريّ في (تاريخه) أن صاحب أذربيجان، أيام فتحها، وجه إنسانا إليه من ناحية الخزر. فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع، وراء خندق عميق وثيق منيع.
وذكر ابن خرداد في كتاب (المسالك والممالك) أن الواثق بالله رأى في المنام كأنه فتح هذا الردم، فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه. فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه. فوصفوا أنه بناء من لبن من حديد، مشدود بالنحاس المذاب، وعليه باب مقفل. ثم إن ذلك الإنسان، لما حاول الرجوع، أخرجهم الدليل على البقاع المحاذية لسمرقند.
قال أبو الريحان: مقتضى هذا أن موضعه في الربع الشماليّ الغربيّ من المعمورة. والله أعلم بحقيقة الحال. انتهى. كلام الرازيّ.
وقال الإمام ابن حزم في (الملل والنحل) جزء أول صحيفة (١٢٠) في تفنيد دعوى اليهود أن الجنة التي أهبط منها آدم في الأرض، ما مثاله. فإن قيل: ذكر في القرآن سد يأجوج ومأجوج. ولا يدرى مكانه ولا مكانهم. قلنا: مكانه معروف في أقصى الشمال في آخر المعمورة منه. وقد ذكر أمر يأجوج ومأجوج في كتب اليهود التي يؤمنون بها ويؤمن بها النصارى. وقد ذكر يأجوج ومأجوج والسدّ أرسطاطاليس في كتابه في (الحيوان) عند كلامه على الغرانيق. وقد ذكر سد يأجوج ومأجوج بطليموس في كتابه المسمى (جغرافيا) وذكر طول بلادهم وعرضها. وقد بعث إليه الواثق أمير المؤمنين سلام الترجمان في جماعة معه حتى وقفوا عليه. ذكر ذلك
74
أحمد بن الطيّب السرخسيّ وغيره. وقد ذكره قدامة بن جعفر والناس. فهيهات خبر من خبر. وحتى لو خفي مكان يأجوج ومأجوج والسد، فلم يعرف في شيء من المعمور مكانه، لما ضر ذلك خبرنا شيئا. لأنه كان يكون مكانه حينئذ خلف خط الاستواء حيث يكون ميل الشمس ورجوعها، وبعدها كما هو في الجهة الشمالية.
بحيث تكون الآفاق كبعض آفاقنا المسكونة، والهواء كهواء بعض البلاد التي يوجد فيها النبات والتناسل. واعلموا أن كل ما كان في عنصر الإمكان، فأدخله مدخل في عنصر الامتناع بلا برهان- فهو كاذب مبطل جاهل، أو مجاهل. لا سيما إذا أخبر به من قد قام البرهان على صدق خبره. وإنما الشأن في المحال الممتنع الذي تكذبه الحواس والعيان أو بديهة العقل. فمن جاء بهذا فإنما جاء ببرهان قاطع على أنه كذاب مفتر. ونعوذ بالله من البلاء. انتهى كلام ابن حزم.
قال بعض المحققين: اعلم أنه كثيرا ما يحدث في الثورات البركانية أن تنخسف بعض البلاد أو ترتفع بعض الأراضي حتى تصير كالجبال. وهذا أمر مشاهد حتى في زمننا هذا. فإذا سلم أن سدّ ذي القرنين المذكور في هذه الآية غير موجود الآن، فربما كان ذلك ناشئا من ثورة بركانية خسفت به وأزالت آثاره. ولا يوجد في القرآن ما يدل على بقائه إلى يوم القيامة. أما قوله تعالى: هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ فمعناه أن هذا السد رحمة من الله بالأمم القريبة منه. لمنع غارات يأجوج ومأجوج عنهم، ولكن يجب عليهم أن يفهموا أن مع متانته وصلابته لا يمكن أن يقاوم مشيئة الله القويّ القدير، فإن بقاءه إنما هو بفضل الله. ولكن إذا قامت القيامة وأراد الله فناء هذا العالم، فلا هذا السدّ ولا غيره من الجبال الراسيات يمكنها أن تقف عثرة، لحظة واحدة أمام قدرة الله. بل يدكها جمعاء دكّا في لمح البصر. فمراد ذي القرنين بهذا القول تنبيه تلك الأمم على عدم الاغترار بمناعة هذا السد، أو الإعجاب والغرور بقوتهم. فإنها لا شيء يذكر بجانب قوة الله. فلا يصح أن يستنتج من ذلك أن هذا السدّ يبقى إلى يوم القيامة، بل صريحه أنه إذا قامت القيامة في أي وقت كان، وكان هذا السدّ موجودا، دكه الله دكا. وأما إذا تأخرت فيجوز أن يدك قبلها بأسباب أخرى. كالزلازل إذا قدم عهده. وكالثورات البركانية كما قلنا.
وليس في الآية ما ينافي ذلك. وأما قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ فالمراد منه خروجهم بكثرة وانتشارهم في الأرض، كما يخرج الشيء المحبوس أو المضغوط إذا انفجر. واستعمال لفظ (الفتح) مجازا شائع في اللغة. ومنه قولك (فتحوا البلاد) وقوله تعالى فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: ٤٤]، فليس
75
للأشياء أبواب. وكذلك يأجوج ومأجوج لا باب لهم. بل هم من كل حدب ينسلون.
والغالب أن المراد بخروجهم هذا، خروج المغول التتار، وهم من نسل يأجوج ومأجوج وهو الغزو الذي حصل منهم للأمم في القرن السابع الهجريّ. وناهيك بما فعلوه إذ ذاك في الأرض، بعد أن انتشروا فيها، من الإفساد والنهب والقتل والسبي.
والراجح أن السد كان موجودا بإقليم داغستان التابع الآن لروسيا، بين مدينتي دربند وخوزار. فإنه يوجد بينهما مضيق شهير منذ القدم، يسمى عند كثير من الأمم القديمة والحديثة ب (السّد) وبه موضع يسمى (باب الحديد) وهو أثر سدّ حديديّ قديم بين جبلين من جبال القوقاز الشهيرة عند العرب (بجبل قاف) وقد كانوا يقولون إن فيه السد كغيرهم من الأمم. ويظنون أنه في نهاية الأرض. وذلك بحسب ما عرفوه منها. ومن ورائه قبيلتا يأجوج ومأجوج. انتهى.
وجاء في (صفوة الاعتبار) أن السور الذي وصلوا إليه أيام الواثق من بني العباس، هو سور الصين الذي هو إحدى عجائب مملكة الصين. فإن طوله نحو ألف ومائتين وخمسين ميلا، وسمكه من الأسفل نحو خمسة وعشرين قدما، ومن أعلاه نحو خمسة عشر قدما. وارتفاعه ما بين خمسة عشر إلى عشرين قدما. وفي أماكن منه حصون يبلغ ارتفاع بعضها إليه أربعين قدما. بني لرد الهجمات على المملكة الصينية الأصلية، من المغول والقبائل الشمالية. والسور الآن خراب في جهات كثيرة. فإن كان هو المراد بالسد في الآية، لزم حمل الصفات المذكورة فيه، من كونه من زبر الحديد، ومفرغا عليه النحاس، على بقاع من ذلك السور. والصدفان حينئذ طرفان من ذلك السور. كما تؤوّل صفات يأجوج ومأجوج، إلى ما يصح إطلاقها به على التتر والمنشورية. ويكون وعد الله الذي يدك فيه السد هو قرب الساعة. ولا شك أنها قربت بإعلام الشارع. وحينئذ يكون الفساد الموعود به في النصوص من أولئك القوم، هو ما وقع من التتر من الفساد في الممالك. كما في عهد جنكزخان، وما عثاه هو وأصحابه في الدنيا والله أعلم. انتهى.
وجاء في الجغرافية العمومية، في المقالة السابعة والأربعين في تخطيط آسيا، بلاد القوقاسيين أي أهالي كوه قاف، أي جبل قاف: إن في تلك الأقطار يمتد هذا الجبل كالسور العظيم، وفيه مجازان يسميان عند القدماء الأبواب القوقازية والأبواب الألبانية. فالمجاز الأول وهو الأبواب القوقازية هو الذي كان يخشى منه هجوم المتبربرين على كل من دولة الرومانيين والعجم. ثم إن الحصن الذي كان يسد هذا المجاز يسمى بأسماء مختلفة عند القدماء. وأما الأبواب الألبانية فأشهر الآراء فيها أنهم مجاز دربند. على امتداد بحر الخزر.
76
ثم قال: وهناك حكاية مشهورة بين أهالي (كوه قاف) تقتضي أن هذا الجبل كان مسدودا بسد عظيم يمنع غارة المتبربرين وهذا السد العظيم تارة يعزى لإسكندر، وتارة لأنوشروان ويستدلون على ذلك بآثار موجودة إلى الآن، ترى لمن يروم ذلك.
التنبيه الثامن- قال أبو البقاء: يأجوج ومأجوج اسمان أعجميان، لم ينصرفا للعجمة والتعريف. ويجوز همزهما وترك همزهما. وقيل: هما عربيان ف (يأجوج) يفعول مثل يربوع. (ومأجوج) مفعول مثل معقول. وكلاهما من (أجّ الظليم) إذا أسرع. أو من (أجت النار) إذا التهبت. ولم ينصرفا للتعريف والتأنيث- أي للقبيلة كمجوس. فالكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق. وعلى العجمة، لا يتأتى تصريفه.
ولا يعتبر وزنه إلا بتقدير كونه عربيّا، كما في (تذكرة أبي علي).
قال الرازيّ: واختلفوا في أنهما من أي الأقوام؟ فقيل: إنهما من الترك. وقيل:
يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل والديلم. ثم من الناس من وصفهم بقصر القامة وصغر الجثة، انتهى.
وقال بعض المحققين: كان يوجد من وراء جبل من جبال القوقاز، المعروف عند العرب ب (جبل قاف)، في إقليم داغستان، قبيلتان. تسمى إحداهما (آقوق)، والثانية (ماقوق) فعربهما العرب ب (يأجوج ومأجوج) وهما معروفان عند كثير من الأمم وورد ذكرهما في كتب أهل الكتاب. ومنهما تناسل كثير من أمم الشمال والشرق في روسيا وآسيا.
التنبيه التاسع- توسع من لم يشترط الصحة ولا الحسن في مصنفاته من الرواة، في تخريج ما روي عن يأجوج ومأجوج. وكله إما من الإسرائيليات أو المنكرات أو الموضوعات. ومن ذلك
حديث (إن يأجوج أمة ومأجوج أمة. كل أمة أربعمائة ألف أمة. لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر بين يديه من صلبه. كل قد حمل السلاح إلخ) رواه ابن عديّ في (الضعفاء) عن حذيفة مرفوعا.
وقال: موضوع منكر، ومحمد بن إسحاق العكاشيّ كذاب يضع، وقد أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه.
وقال الحافظ ابن جرير هاهنا، عن وهب بن منبه، أثرا طويلا عجيبا، في سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفية ما جرى له. وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم.
77
وروى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك، أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها.
انتهى.
فجزى الله البخاريّ أحسن الجزاء، على نبذه تلك الروايات، واشتراطه الصحة في المرويات، فقد جنت الآثار المنكرة على الأمة أنكر الآثار. ومن طالع مقدمة صحيح مسلم صدق قوله: «أن راوي الضعاف غاش آثم مضلّ» وبالله المستعان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ٩٩]
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩)
وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً أي نفخ فيه للبعث في النشأة الثانية. فجمعناهم للجزاء والحساب جمعا عجيبا لا يكتنه كنهه.
قال إمام: النفخ في الصور تمثيل لبعث الله الناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق، فإذا هم قيام ينظرون. وعلينا أن نؤمن بما ورد من النفخ في الصور، وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور. والبحث وراء هذا عبث لا يسوغ للمسلم. أي لأنه من عالم الغيب، أي الأمور المغيّبة عنا، التي لم نكلف بالبحث عن حقائقها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ١٠٠]
وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠)
وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ أي أظهرناها وأبرزناها يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ جمعنا الخلائق كافة لِلْكافِرِينَ أي منهم. حيث جعلناهم بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظا وزفيرا عَرْضاً أي فظيعا هائلا لا يقادر قدره. قال أبو السعود: وتخصيص العرض بهم، مع أنها بمرأى من أهل الجمع قاطبة، لأن ذلك لأجلهم خاصة. وفي عرضها وإراءتهم ما فيها من العذاب والنكال، قبل دخولها، مزيد غضب عليهم ونكاية.
لكونه أبلغ في تعجيل الهم والحزن. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ١٠١]
الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١)
الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً تمثيل
لتعاميهم عن الآيات الدالة على توحيده، أو عن القرآن وتأمل معانيه وتبصرها.
ولتصامّهم عن الحق واتباع الهدى. وقوله تعالى: وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أبلغ من (وكانوا صمّا) لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به. وهؤلاء كأنهم أصميت أسماعهم فلا استطاعة بهم للسمع. أفاده الزمخشريّ. وفي توصيفهم بالجملتين نكتة أخرى، بها تعلم أنه لا يستغنى بالثانية عن الأولى، كما زعم، وذلك- كما حققه الشهاب- إن قوله تعالى: لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً لما أفاد أنهم كفاقدي حاسة السمع، ومن هو كذلك إنما يعرف الذكر بإشارة أو كتابة أو نحوهما، مما يدرك بالنظر، وذكر أن أعينهم محجوبة عن النظر فيما يدل عليه أيضا. فهم لا سبيل لهم إلى معرفة ذكره أصلا. وهذا من البلاغة بمكان.
قال أبو السعود: والموصول يعني (الذين) نعت للكافرين، أو بدل أو بيان جيء به لذمهم بما في حيز الصلة، وللإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم من عرض جهنم لهم. فإن ذلك إنما هو لعدم استعمال مشاعرهم فيما عرض لهم في الدنيا من الآيات، وإعراضهم عنها، مع كونها أسبابا منجية عما ابتلوا به في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ١٠٢]
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢)
أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ هذا رجوع إلى طليعة السورة في قوله تعالى: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً [الكهف: ٤]، فهو من باب رد العجز على الصدر المقرر في البديع، جيء بالاستفهام الإنكاريّ، إنكارا لما وقع منهم وتوبيخا لهم. ومفعول (حسب) الثاني محذوف. أي أفحسبوا اتخاذهم نافعا لهم؟ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: ٨٢]، كما قالوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ [سبأ: ٤١]، إِنَّا أَعْتَدْنا أي هيأنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا أي شيئا يتمتعون به عند ورودهم. و (النزل) ما يقام للنزيل أي الضعيف. وفيه استعارة تهكمية. إذ جعل ما يعذبون به في جهنم كالزقوم والغسلين، ضيافة لهم.
وقال أبو السعود: وفيه تخطئة لهم في حسبانهم، وتهكم بهم. حيث كان اتخاذهم إياهم أولياء، من قبيل إعتاد العتاد، وإعداد الزاد، ليوم المعاد. فكأنه قيل: إنا أعتدنا لهم، مكان ما أعدوا لأنفسهم، من العدة والذخر، جهنم عدة. وفي إيراد (النزل) إيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هو أنموذج له. أي لأن الضيف لا
يستقر في منزل الضيافة. وينتقل إلى ما هو إهناء له في دار إقامته. فكان تنبيها على أنهم سيذوقون ما هو أشد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٦]
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (١٠٤) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (١٠٥) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (١٠٦)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي ضاع وبطل وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي التي جاءت بالعمل بها رسلهم وَلِقائِهِ أي بالبعث والحساب والجزاء فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ لكفرهم المذكور فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً أي فنزدريهم ولا نجعل لهم مقدارا واعتبارا، لأن مداره الأعمال الصالحة، وقد حبطت بالمرة ذلِكَ أي الأمر ذلك. وقوله: جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ جملة مبينة له، أو (ذلك) مبتدأ، والجملة خبره، والعائد محذوف. أي جزاؤهم به. أو (جزاؤهم) خبر و (جهنم) عطف بيان له بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً أي مهزوءا بهما. وذلك موجب لشدة المقت والغضب والنكال. ثم بين ما لمقابلهم من الحسنى بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : الآيات ١٠٧ الى ١٠٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (١٠٧) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (١٠٨)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا. أي تحولا، لبلوغهم الكمال في نعيمها. فلا شوق لهم فيما وراءها. وفيه تنبيه على شدة رغبتهم فيها، وحبهم لها. مع أنه قد يتوهم، فيمن هم مقيم في مكان دائما، أنه يسأمه أو يمله. فأخبر أنهم، مع هذا الدوام والخلود السرمديّ، لا يختارون عن مقامهم متحوّلا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ١٠٩]
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (١٠٩)
قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي أي لكتابتها لَنَفِدَ الْبَحْرُ أي مع كثرته
80
ولم يبق منه شيء قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي أي لكونها غير متناهية، فلا تنفد نفاد المتناهي.
قال أبو السعود. وفي إضافة (الكلمات) إلى اسم الرب، المضاف إلى ضميره ﷺ في الموضعين، من تفخيم المضاف وتشريف المضاف إليه ما لا يخفى. وإظهار (البحر) و (الكلمات) في موضع الإضمار، لزيادة التقرير. وقوله تعالى: وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً أي بمثل البحر عونا وزيادة، لنفد أيضا.
قال أبو السعود: كلام من جهته تعالى غير داخل في الكلام الملقن، جيء به لتحقيق مضمونه، وتصديق مدلوله، مع زيادة مبالغة وتأكيد، وهذا كقوله تعالى:
وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان: ٢٧].
تنبيه:
دلت الآية على أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء وكما شاء. وأن كلماته لا نهاية لها. وقد قال الإمام أحمد رحمه الله وغيره من الأئمة: لم يزل الله متكلما إذا شاء وهو يتكلم بمشيئته وقدرته يتكلم بشيء بعد شيء. وهو مذهب سلف الأمة، وأئمة السنة، وكثير من أهل الكلام، كالهشامية والكرامية وأصحاب أبي معاذ.
وطوائف غير هؤلاء يقولون: إن الكلام صفة ذات وفعل، وهو يتكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته. وهذا هو المعقول من صفة الكلام لكل متكلم. فكل حيّ وصف بالكلام كالملائكة والبشر والجن وغيرهم، فكلامهم لا بد أن يقوم بأنفسهم، وهم يتكلمون بمشيئتهم وقدرتهم، والكلام صفة كمال لا صفة نقص. ومن تكلم بمشيئة أكمل ممن لا يتكلم بمشيئة. فكيف يتصف المخلوق بصفات الكمال دون الخالق؟ وأما الجهمية والمعتزلة فيقولون: ليس له كلام قائم بذاته. بل كلامه مخلوق منفصل عنه. والكلابية يقولون: هو متكلم بكلام ليس له عليه قدرة، ولا يكون بمشيئته. والأشعرية يقولون: إن الكلام معنى واحد لا يتبعض ولا يتعدد. وكل هذه أقوال باطلة مخالفة للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة. مبتدعة مبنية على أصل واحد. وهو قولهم إن الرب لا تقوم به الأمور الاختيارية. فلا يقوم به كلام ولا فعل باختياره ومشيئته. وهو أصل باطل مخالف للنقل والعقل. والقرآن الكريم يدل على بطلانه في أكثر من مائة موضع. وأما الأحاديث الصحيحة فلا يمكن ضبطها في هذا الباب. والصواب في هذا الباب وغيره، هو مذهب سلف الأمة وأئمتها؟ أنه سبحانه لم يزل متكلما إذا شاء وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته. وأن كلماته لا نهاية لها. وأنه
81
نادى موسى بصوت سمعه موسى. وإنما ناداه حين أتى، لم يناده قبل ذلك. وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد، كما أن علمه لا يماثل علمهم وقدرته لا تماثل قدرتهم. وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته. ليس في مخلوقاته شيء من ذاته وصفاته القائمة بذاته. ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وأن أقوال أهل التعطيل والاتحاد، الذين عطلوا الذات والصفات أو الكلام أو الأفعال، باطلة. وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات والصفات، باطلة. هذا ما أفاده تقي الدين ابن تيمية عليه الرحمة والرضوان.
وقال أيضا في قوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي الآية:
كلمات الله لا نهاية لها. وهذا تسلسل، جائز كالتسلسل في المستقبل. فإن نعيم الجنة دائم لا نفاد له. فما من شيء إلا وبعده شيء بلا نهاية.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الكهف (١٨) : آية ١١٠]
قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (١١٠)
قُلْ أي لهؤلاء المشركين والكافرين من أهل الكتاب إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي خصصت بالوحي وتميّزت عنكم به. فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ أي يخاف المصير إليه، أو يأمل لقاءه ورؤيته، أو جزاءه الصالح وثوابه فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً أي في نفسه، لائقا بذلك المرجوّ، وهو ما كان موافقا لشرع الله وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً أي من خلقه إشراكا جليّا. كما فعله الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه. ولا إشراكا خفيّا. كما يفعله أهل الرياء، ومن يطلب به أجرا من المدح وتحصيل المال والجاه.
قال أبو السعود: وإيثار وضع المظهر موضع المضمر في الموضعين، مع التعرض لعنوان الربوبية، لزيادة التقرير، وللإشعار بعلية العنوان للأمر والنهي، ووجوب الامتثال فعلا وتركا.
ودلت الآية- كما قال ابن كثير- على أن للعمل المتقبّل ركنين: كونه موافقا شرع الله المنزل، ومخلصا أريد به وجهه تعالى، لا يخلط به غيره. وتسمية الرياء شركا أصغر، ثبت في السنة، وصح فيها حبوط العمل بالرياء. ودخول الرياء في الآية، باعتبار عموم معناها، وإن كان السياق في الشرك الجليّ، للخطاب مع الجاحدين.
والله تعالى هو الموفق والمعين.
82

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة مريم
سميت بها لاشتمالها على نبئها الخارق. وقال المهايميّ: لأن قصتها تشير إلى أن من اعتزل من أهله لعبادة الله، وطلب بها إشراق نوره، يرجى أن يكشف له عن صفات الحق وعن عالم الملكوت، وتظهر له الكرامات العجيبة. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. وهي مكية النزول. واستثنى بعضهم منها آية السجدة [مريم: ٥٨]، وآية وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: ٧١].
وقد روى محمد بن إسحاق، في السيرة، من حديث أم سلمة، وأحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة، أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشيّ وأصحابه. وآياتها ثمان وتسعون.
83
Icon