تفسير سورة الكهف

فتح البيان
تفسير سورة سورة الكهف من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة الكهف
مائة وإحدى عشرة آية
قال القرطبي : وهي مكية في قول جميع المفسرين، وبه قال ابن عباس وابن الزبير وروي عن فرقة أن أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله جرزا والأول أصح وقد ورد في فضلها أحاديث منها ما أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عصم من فتنة الدجال ) ١.
وأخرج مسلم والبخاري وغيرهما عن البراء قال : قرأ رجل سورة الكهف وفي الدار دابة فجعلت تنفر فنظر فإذا ضبابة أو سحابة قد غشيته فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال :( اقرأ فلان فإن السكينة نزلت للقرآن ) ٢ وهذا الذي كان يقرأ هو أسيد بن حضير كما بينه الطبراني، وفي قراءة العشر الآيات من أولها أو من آخرها أحاديث.
وأخرج الطبراني في الأوسط والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من قرأ سورة الكهف كانت له نورا من مقامه إلى مكة ومن قرأ عشر آيات من آخرها ثم خرج الدجال لم يضره ) ٣.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان السماء يضيء له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين ).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ألا أخبركم بسورة ملأ عظمتها ما بين السماء والأرض ولكاتبها من الأجر مثل ذلك ومن قرأها يوم الجمعة غفر له ما بينه و بين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ومن قرأ الخمس الأواخر منها عند نومه بعثه الله من أي الليل شاء قالوا : بلى يا رسول الله قال : سورة أصحاب الكهف ) أخرجه ابن مردويه٤.
وأخرج أيضا عن عبد الله بن مغفل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( البيت الذي تقرأ فيه سورة الكهف لا يدخله شيطان تلك الليلة ) وفي الباب أحاديث وآثار وفيما أوردناه كفاية مغنية.
١ مسلم ٨٠٩ـ الإمام أحمد ٦/٤٤٩ ـ أبو داود ٤٣٢٣..
٢ مسلم ٧٩٥ ـ البخاري ١٦٩٨..
٣ المستدرك كتاب فضائل القرآن ١/٥٦٥..
٤ ضعيف الجامع ٢١٥٩ ـ الأحاديث الضعيفة ٢٤٨٢..

(الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) هل المراد الإعلام بذلك للإيمان به وتكون الجملة خبرية لفظاً ومعنى أو الثناء به، أي إنشاء الثناء بثبوت الحمد لله وتكون الجملة إنشائية لفظاً ومعنى، بمعنى أنها نقلت في العرف للإنشاء أو الإعلام والثناء كلاهما، والجملة مستعملة في الخبر والإنشاء على طريق الجمع بين الحقيقة والمجاز، احتمالات أفيدها الثالث.
وقال الشوكاني رحمه الله: علم عباده كيف يحمدونه على إفاضة نعمه عليهم، ووصفه بالموصول يشعر بعلية ما هو في حيز الصلة لما قبله، ووجه كون إنزال الكتاب وهو القرآن نعمة على رسول الله ﷺ لكونه اطلع بواسطته على أسرار التوحيد وأحوال الملائكة والأنبياء وعلى كيفية الأحكام الشرعية التي تعبده الله وتعبد أمته بها؛ وكذلك العباد كان إنزال الكتاب على نبيهم نعمة لهم لمثل ما ذكرناه في النبي صلى الله عليه وسلم.
(ولم يجعل له) أي فيه (عوجاً) أي شيئاً من العوج بنوع من أنواع الاختلال في اللفظ والمعنى، والعوج بالكسر في المعاني، أي فيما لا يدرك بالبصر بل بالبصيرة، وبالفتح في الأعيان أي فيما يدرك به، كذا قيل، ويرد عليه قوله سبحانه (لا ترى فيها عوجاً ولا أَمْتاًْ) يعني الجبال وهي من الأعيان. قال الزجاج: المعنى لم يجعل فيه اختلافاً كما قال: (ولو كان من عند غير
9
الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً) والمراد نفي الاختلاف والتناقض عن معانيه؛ وقيل لم يجعله مخلوقاً، والجملة معطوفة على الصلة قبلها أو اعتراضية أو حالية.
10
(قيماً) القيم المستقيم الذي لا ميل ولا إفراط فيه ولا تفريط، أو القيم بمصالح العباد الدينية والدنيوية، أو القيم على ما قبله من الكتب السماوية مهيمناً عليها يشهد بصحتها، وعلى الأول يكون تأكيداً لما دل عليه نفي العوج، فرُب مستقيم في الظاهر لا يخلو عن أدنى عوج في الحقيقة، أي جعله قيماً عدلاً، قيل في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير أنزل على عبده الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً.
ثم فصل سبحانه ما أجمل في قوله [قَيِّماً] فقال (لينذر) وحذف المنذر للعلم به مع قصد التعميم، والمعنى لينذر الكافرين (بأساً) أي عذاباً (شديداً من لدنه) أي صادراً من عنده نازلاً من لدنه (ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات) قرئ يبشر مشدداً ومخففاً وأجري الموصول على موصوفه المذكور لأن مدار قبول الأعمال هو الإيمان.
(أن لهم أجراً حسناً) هو الجنة قاله السدي حال كونهم
(ماكثين فيه) أي في ذلك الأجر (أبداً) أي مكثاً دائماً لا انقطاع له، وتقديم الإنذار على التبشير لإظهار كمال العناية بزجر الكفار.
ثم كرر الإنذار وذكر المنذر بخصوصه وحذف المنذر به وهو البأس الشديد لتقدم ذكره فقال
(وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولداً) وهم اليهود والنصارى. قال السدي وبعض كفار قريش القائلين بأن الملائكة بنات الله، فذكر سبحانه أولاً قضية كلية وهي إنذار عموم الكفار، ثم عطف عليها قضية خاصة هي بعض جزئيات تلك الكلية تنبيهاً على كونها أعظم جزئياتها، فأفاد ذلك أن نسبة الولد إلى الله سبحانه أقبح أنواع الكفر.
10
مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (٥) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (٦) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (٧) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (٨) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (١٠)
11
(ما لهم به) أي بالولد واتخاذ الله إياه (من علم) ومن مزيدة لتأكيد النفي والجملة مستأنفة، والمعنى ما لهم بذلك علم أصلاً، وانتفاء العلم بالشيء إما للجهل بالطريق الموصل إليه أو لأنه في نفسه محال لا يستقيم تعلق العلم به (ولا لآبائهم) أي ولا لأحد من أسلافهم علم بذلك، بل كانوا في زعمهم هذا على ضلالة وقلدهم أبناؤهم فضلوا جميعاً، وهذا مبالغة في كون تلك المقالة فاسدة باطلة.
(كبرت كلمة) قال الفراء: كبرت تلك الكلمة كلمة. وقال الزجاج: كبرت مقالتهم كلمة، والمراد بهذه الكلمة هي قولهم اتخذ الله ولداً، ومعنى الكلام على التعجب أي ما أكبرها كلمة، ثم وصف الكلمة بقوله (تخرج من أفواههم) وفائدة هذا الوصف استعظام اجترائهم على التفوه بها، وكثيراً ما يوسوس الشيطان في قلوب الناس من المنكرات ما لا يتمالكون أن يتفوهوا به، بل يكظمون عليه فكيف بمثل هذا المنكر.
والخارج من الفم وإن كان مجرد الهواء لكن لما كانت الحروف والأصوات كيفيات قائمة بالهواء أسند إلى الحال ما هو من شأن المحل أو المعنى هذا الذي
11
يقولونه لا تحكم به عقولهم وفكرهم البتة لكونه في غاية الفساد والبطلان، فكأنه يجري على لسانهم على سبيل التقليد.
ثم زاد في تقبيح ما وقع منهم فقال (إن) أي ما (يقولون إلا) قولاً (كذباً) لا مجال للصدق فيه بحال. ثم سلى رسول الله ﷺ بقوله
12
(فلعلك باخع نفسك) قال الأخفش والفراء: البَخْع الجهد، وقال الكسائي: بخعت الأرض بالزراعة إذا جعلتها ضعيفة بسبب متابعة الحراثة، وبخع الرجل نفسه إذا أنهكها وقال أبو عبيدة: معناه مهلك نفسك أو مضعفها أو مهلكها، والمقصود من هذا الترجي النهي، أي لا تبخع نفسك من أجل غمك على عدم إيمانهم، أي لا تغتم لئلا تهلك نفسك.
وفي السمين ولعل قيل للإشفاق على بابها وقيل للاستفهام وهو رأي الكوفيين، وقيل للنهي (على آثارهم) أي على فراقهم من بعد توليهم عنك وإعراضهم أو هلاكهم (إن لم يؤمنوا بهذا الحديث) أي القرآن (أسفاً) أي غيظًا وحزناً. قاله قتادة. وقال مجاهد: جزعاً ونصبه على المفعول له وجواب إن محذوف دل عليه الترجي تقديره فلا تحزن، وهذا عند الجمهور وعند غيرهم هو جواب متقدم.
عن ابن عباس قال: اجتمع عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو جهل والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب وأبو البختري في نفر من قريش وكان رسول الله ﷺ قد كبر عليه ما يرى من خلاف قومه إياه وإنكارهم ما جاء من النصيحة فأحزنه حزناً شديداً فأنزل الله سبحانه (فلعلك باخع نفسك). الآية.
(إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها) هذه الجملة تعليل للنهي المقصود من الترجي والقصد منه تسلية له ﷺ وتسكين أسفه وغيظه
12
على عدم إيمانهم لأنه مختبر لأعمال العباد مجازيهم، فكأنه يقول له ﷺ لا تحزن فإني منتقم منهم لك، وقيل استئناف.
والمعنى إنا جعلنا ما عليها مما يصلح أن يكون زينة لها ولأهلها من الحيوانات والنبات والشجر والأنهار والجماد وغير ذلك من النعم كالذهب والفضة والمعادن كقوله سبحانه (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً) قال ابن عباس: يعني الرجال والعلماء زينة الأرض، وعن سعيد بن جبير مثله، وقال الحسن: هم الرجال العباد العمال لله بالطاعة.
(لنبلوهم أيهم أحسن عملاً) اللام للغرض أو العاقبة، والمراد بالابتلاء أنه سبحانه يعاملهم معاملة لو كانت تلك المعاملة من غيره لكانت من قبيل الابتلاء والامتحان، قال الزجاج: أيهم رفع بالابتداء إلا أن لفظه لفظ الاستفهام والمعنى لنمتحنن أهذا أحسن عملاً أم ذلك، قال الحسن: أيهم أزهد وأشد للدنيا تركاً، ومثله عن الثوري وقال مقاتل: أيهم أصلح فيما أوتي من المال، وقال قتادة: أيهم أتم عقلاً.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم في التاريخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: تلا رسول الله ﷺ هذه الآية فقلت: ما معنى ذلك يا رسول الله قال: " ليبلوكم أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله وأسرعكم في طاعة الله "
ثم أعلم سبحانه أنه مبيد لذلك كله ومفنيه فقال
13
(وإنا لجاعلون) أي مصيرون (ما عليها) من هذه الزينة عند تناهي عمر الدنيا (صعيداً) تراباً قال أبو عبيدة: الصعيد المستوي من الأرض، وقال الزجاج: هو الطريق الذي لا نبات فيه بعد أن كانت خضراء معشبة أي أرضاً ملساء، وقيل فُتَاتاً
13
وهو الذي يضمحل بالريح لا اليابس الذي يرسب، ونظيره (كل من عليها فان) وقوله (فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً).
والمعنى أنه لا بد من المجازاة بعد إفناء ما على الأرض، وتخصيص الإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض إلا أن سائر الآيات دلت أيضاً على أن الأرض لا تبقى وهو قوله (يوم تبدل الأرض غير الأرض) قال قتادة: الصعيد الجبال التي ليس فيها زرع.
(جرزاً) يابسًا قال الفراء: الجرز الأرض التي لا نبات فيها من قولهم امرأة جَرُوز إذا كانت أكولاً، وسيف جُراز إذا كان مستأصلاً وجرز الجراد والشاة والإبل الأرض إذا أكلت ما عليها، ويقال سنة جُرُز وسنونُ أَجْرَاز لا مطر فيها وأرض جُرُز وأرضون أَجْرَاز لا نبات بها، وجرزاً نعت " لصعيداً " فكأنه مجاز علاقته المجاورة.
وعن الحسن الجرز الخراب، أي نعيدها بعد عمارتها خراباً بإماتة الحيوان وتجفيف النبات والأشجار وغير ذلك. ومعنى النظم القرآني لا تحزن يا محمد بما وقع من هؤلاء من التكذيب فإنا قد جعلنا ما على الأرض زينة لاختبار أعمالهم وإنا لمذهبون ذلك عند انقضاء عمر الدنيا فمجازونهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
14
(أم حسبت) أي بل أحسبت أو بل حسبت ومعناها الانتقال من حديث إلى حديث آخر لا لإبطال الأول والإضراب عنه كما هو معني بل في الأصل (إن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً) المعنى أن القوم لما تعجبوا من قصة أصحاب الكهف وسألوا عنها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على سبيل الامتحان.
قال سبحانه بل أظننت يا محمد أنهم كانوا عجباً من آياتنا فقط لا تحسب
14
ذلك فإن آياتنا كلها عجب؛ فإن من كان قادراً على جعل ما على الأرض زينة لها للابتلاء ثم جعل ما عليها صعيداً جرزاً كأن لم تغن بالأمس لا تستبعد قدرته ولا حفظه ورحمته بالنسبة إلى طائفة مخصوصة وإن كانت قصتهم خارقة للعادة فإن آيات الله سبحانه كذلك وفوق ذلك.
ومعنى عجباً ذات عجب، والكهف هو الغار الواسع في الجبل، فإن كان صغيراً سمي غاراً والجمع كُهُوف في الكثرة وأَكْهُف في القلة؛ والرقيم قال كعب والسدي: إنه اسم القرية التي خرج منها أصحاب الكهف، وقال سعيد بن جبير ومجاهد: إنه لوح من حجارة أو رصاص رقمت فيه أسماؤهم جعل على باب الكهف ففيه فلان بن فلان من مدينة كذا خرج في وقت كذا من سنة كذا.
قال الفراء: ويروى أنه إنما سمي رقيماً لأن أسماءهم كانت مرقومة والرقم الكتابة. وعن قتادة أن الرقيم دراهمهم التي كانت معهم.
وقال ابن عباس: الرقيم كتاب مرقوم فيه الشرع الذي تمسكوا به من دين عيسى عليه السلام، وقيل أن الرقيم اسم كلبهم قاله أنس، وقيل: هو اسم الوادي الذي كانوا فيه، وقيل اسم الجبل الذي فيه الغار.
قال الزجاج: أعلم الله سبحانه أن قصة أصحاب الكهف ليست بعجيبة من آيات الله لأن خلق السماوات والأرض وما بينهما أعجب من قصتهم، وقال ابن عباس: يقول الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم.
15
(إذ أوى الفتية إلى الكهف) أي صاروا إليه ونزلوه وسكنوه والتجأوا إليه وجعلوه مأواهم. يقال أوى إلى منزله من باب ضَرَب (١) إذا نزله بنفسه وسكنه
_________
(١) أي مفتوح العين في الماضي مكسورها في المضارع فيقال أوى يأوي مثل ما يقال ضَرَب يضرِب.
15
والمأوى لكل حيوان مسكنه. والفتية هم أصحاب الكهف جمع فتى وهو الطرئ من الشباب، إظهار في مقام الإضمار للتنصيص على وصفهم وسنهم فكانوا في سن الشباب مُرْداً وكانوا سبعة خرجوا من مدينتهم خائفين على إيمانهم من قومهم الكفار حيث أمروهم بعبادة غير الله وكذلك ملك المدينة أمرهم بما ذكر، واسمه دقيانوس ومدينتهم اسمها أفسوس عند أهل الروم لأنها من مدائنهم واسمها عند العرب طرسوس.
فلما أمروهم بعبادة غير الله ذهب كل واحد منهم إلى بيت أبيه وأخذ منه زاداً ونفقة وخرجوا فارين هاربين حتى أووا إلى كهف في جبل قريب من المدينة فاختفوا فيه وصاروا يعبدون الله ويأكلون ويشربون ويبعثون أحداً منهم خفية ليشتري لهم الطعام من المدينة وهم خائفون من اطلاع أهل المدينة عليهم فيقتلوهم لعدم دخولهم في دينهم، فجلسوا يوماً بعد الغروب يتحدثون فألقى الله عليهم النوم وذلك قوله تعالى
16
(فضربنا على آذانهم) الخ كما سيأتي تفصيله.
(فقالوا ربنا آتنا من لدنك) أي من عندك (رحمة) التنوين إما للتعظيم أو للتنويع وتقديم من لدنك للاختصاص أي رحمة مختصة بأنها من خزائن رحمتك وجلائل فضلك وهي المغفرة في الآخرة والأمن من الأعداء والرزق في الدنيا (وهيئ لنا من أمرنا رشداً) أي أصلح لنا من قولك هيأت الأمر فتهيأ والمراد بِأَمْرِهِم الأمرُ الذي هم عليه وهو مفارقتهم للكفار، والرشد نقيض الضلال، ومن للابتداء ويجوز أن تكون للتجريد كما في قولك رأيت منك أسداً وتقديم المجرورَيْن للاهتمام بهما أي اجعل أمرنا رشداً أو يسر لنا طريق رضاك.
16
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (١١) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (١٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (١٣) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (١٤)
(فضربنا على آذانهم) قال المفسرون: أنَمناهم والمعنى سددنا آذانهم بالنوم الغالب عن سماع الأصوات أي ضربنا على آذانهم الحجاب تشبيها للإنامة الثقيلة المانعة من وصول الأصوات إلى الآذان بضرب الحجاب عليها ففي الكلام تجوز بطريق الاستعارة التبعية، وهذا النوم من جملة الرحمة التي طلبوها فكأنه قال فاستجبنا دعاءهم ومن جملة استجابته أن أنمناهم وقلبناهم في نومهم ذات اليمين وذات الشمال.
(في الكهف سنين عدداً) أي ذوات عدد على أنه مصدراً وبمعنى معدودة على أنه بمعنى المفعول. ويستفاد من وصف السنين بالعدد الكثرة، قال الزجاج: أن الشيء إذا قل مقدار عدده لم يحتج إلى العدد وإن كثر احتاج إلى أن يعدّ وقيل يستفاد منه التقليل لأن الكثير قليل عند الله وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون.
17
(ثم بعثناهم) أي أيقظناهم من تلك النومة (لنعلم) أي ليظهر معلومنا واللام للعاقبة، وقيل للتعليل وقرئ بالتحتية والفاعل هو الله تعالى ففيه التفات عن التكلم إلى الغيبة، قيل والمراد بالعلم الذي جعل علة للبعث هو الاختبار مجازاً فيكون المعنى بعثناهم لنعامل معاملة من يختبرهم. والَأوْلَى ما ذكرناه من أن المراد به ظهور معلوم الله سبحانه لعباده.
(أيّ الحزبين) من قوم الفتية أهل الهدى وأهل الضلالة فالمراد بالحزبين
17
الفريقان من المؤمنين والكافرين المختلفين في مدة لبثهم، وقيل المراد نفس أصحاب الكهف لا أهل المدينة اختلفوا بعد انتباههم كم لبثوا، وقيل المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكاً بعد ملك وأصحاب الكهف، وقيل أن أصحاب الكهف حزب وأصحابهم حزب، وقال الفراء: أن طائفتين من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدة لبثهم.
(أحصى) أي أضبط (لما لبثوا أمداً) وكأنه وقع بينهم تنازع في مدة لبثهم في الكهف فبعثهم الله ليتبين لهم ذلك ويظهر من ضبط الحساب ممن لم يضبطه، قال ابن جريج: إنهم كتبوا اليوم الذي خرجوا فيه والشهر والسنة وما مصدرية أي أحصى لِلبُثْهِم أو بمعنى الذي واللام زائدة، وقيل على بابها من العلة أي لأجل قاله أَبُو الْبَقَاء، وما بمعنى الذي والأمد الغاية.
وقيل إن أحصى أفعل تفضيل واختاره الزجاج والتبريزي ورد بأنه خلاف ما تقرر في علم الإعراب وما ورد من الشاذ لا يقاس عليه كقولهم أفلس من ابن اْلمُذَلَّق (١) وأعدى من الْجَرَب، وقال أبو علي والزمخشري وابن عطية: أن أحصى فعل ماض.
_________
(١) ويروى بالدال وهو رجل من بني عبد شمس لم يكن يجد بيتة ليلة وعرف أبوه وأجداده بالإفلاس قال الشاعر في أبيه: إنك إذ ترجو تميماً ونفعها.. كراجي الندى والعرف عند المذلّق
18
(نحن نقص عليك نبأهم) هذا شروع في تفضيل ما أجمل في قوله إذ أوى الفتية، والنبأ الخبر الذي له شأن وخطر أي نحن نخبرك بخبرهم (بالحق) أي نقص قصصاً متلبساً بالحق أو نقصه متلبسين به أو نقص نبأهم متلبساً به أو نبأهم المتلبس به (إنهم فتية) أي أحداث وشبان وكان أحدهم وزير الملك دقيانوس وكانوا من أشراف تلك المدينة ومن عظماء أهلها والجملة مستأنفة واقعة في جواب سؤال اقتضاه ما قبلها فكأنه قيل وما نبؤهم؟ والفتية جمع قلة.
(آمنوا بربهم) فيه التفات من التكلم إلى الغيبة إذ لو جاء على نسق الكلام لقيل آمنوا بنا (وزدناهم هدى) بالتثبيت والتوفيق وفيه التفات من
18
الغيبة إلى التكلم، قال الربيع بن أنس: هدى إخلاصاً، وقيل إيماناً وبصيرة، وقيل يقيناً.
19
(وربطنا على قلوبهم) أي قويناها بالصبر على هجر الأهل والأوطان وفراق الخلان والأخدان؛ والفرار إلى بعض الغيران وجسرناهم على القيام بكلمة الحق والتظاهر بالإسلام حيث قالوا للملك ربنا رب السماوات إلخ ولم يحصل لهم منه رعب في الله، قال قتادة: ربطنا قلوبهم بالإيمان وشددنا عليها بالصبر والتثبيت وفيه استعارة تصريحية تبعية لأن الربط هو الشد بالحبل.
(إذ قاموا) اختلف أهل التفسير في هذا القيام على أقوال فقيل إنهم اجتمعوا وراء المدينة من غير ميعاد فقال رجل منهم هو أكبر القوم: إني لأجد في نفسي شيئاً أن ربي رب السماوات والأرض فقالوا ونحن كذلك نجد في أنفسنا فقاموا جميعاً.
(فقالوا ربنا رب السماوات والأرض) قاله مجاهد: وقال أكثر المفسرين إنه كان لهم ملك جبار يقال له (دقيانوس) وكان يدعو الناس إلى عبادة الطواغيت فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم حتى قاموا بين يديه، وقد أمرهم بالسجود للأصنام فقالوا ربنا رب السماوات والأرض، أي قالوا جملاً ستاً، ثلاثة بين يدي ملكهم آخرها قوله شططاً، وثلاثة بعد انصرافهم عن مجلسه ذماً لقومهم آخرها قوله كذباً، وقال عطاء ومقاتل: إنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النوم.
(لن ندعو من دونه إلهاً) أي لن نعبد معبوداً آخر غير الله لا اشتراكاً ولا استقلالاً (لقد قلنا إذاً شططاً) أي قولاً ذا شطط، أي إفراط في الكفران دعونا إلهاً غير الله فرضاً أو قولاً هو نفس الشطط لقصد المبالغة، والشطط الغلو ومجاوزة الحد المقدر في كل شيء، يقال شَطَّت الدار بعدت، وشَطَّ فلان في حكمه شطوطاً وشططاً جار وظلم، وَشَطَّ في القول أغلظ، وشط في السوم أفرط، والجميع من بابي ضرب وقتل، وقال قتادة: شططاً كذباً. وقال السدي جوراً.
19
هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (١٦) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (١٧)
20
(هؤلاء) أي أهل بلدهم (قومنا) عطف بيان أو بدل (اتخذوا من دونه) أي من دون الله (آلهة) أصناماً يعبدونها. وفي هذا الإخبار معنى الإنكار وفي الإشارة إليهم تحقير لهم.
(لولا يأتون عليهم بسلطان بين) أي هَلَّا يأتون على عبادتهم لها بحجة نيرة ظاهرة تصلح للتمسك بها، وفيه تبكيت لأن الإتيان بحجة على عبادة الأصنام محال، وهذه جملة طلبية وليست صفة لآلهة لفساده معنى وصناعة.
قال الزمخشري: وفي الآية دليل على فساد التقليد وإنه لا بدّ في الدين من الحجة حتى يتضح ويثبت.
(فمن) أي لا أحد (أظلم ممن افترى على الله كذباً) بنسبة الشريك إليه فزعم أن له شريكاً في العبادة، ثم قال بعضهم لبعض وقت اعتزالهم
(وإذ اعتزلتموهم) أي فارقتموهم في الاعتقاد أو أردتم الاعتزال الجسماني وَتخَّيْتُمْ عنهم جانباً أي عن العابدين للأصنام.
(وما يعبدون إلا الله) عطف على الضمير المنصوب وما موصولة أو مصدرية أي إذا اعتزلتموهم ومعبوديهم إلا الله أو وعبادتهم إلا عبادة الله، وعلى
20
التقديرين فالاستثناء استثناء منقطع على تقدير أنهم لم يعبدوا إلا الأصنام أو متصل على تقدير أنهم شركوهم في العبادة مع الله سبحانه.
وقيل هو كلام معترض إخبار من الله سبحانه عن الفتية أنهم لم يعبدوا غير الله فيكون ما على هذا نافية (فأووا) أي ألجئوا وصيروا (إلى الكهف) واجعلوه مأواكم. قال الفراء: هو جواب إذ ومعناه اذهبوا إليه واجعلوه مأواكم، وقيل هو دليل على جوابه، أي إذا اعتزلتموهم اعتزالاً اعتقادياً فاعتزلوهم اعتزالاً جسمانياً أو إذا أردتم اعتزالهم فافعلوا ذلك بالالتجاء إلى الكهف.
(ينشر) أي يبسط ويوسع (لكم ربكم) مالك أمركم (من رحمته) في الدارين (ويهيئ) أي يسهل وييسر (لكم من أمركم) الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين (مرفقاً) بكسر الميم وفتحها لغتان قرئ بهما مأخوذ من الارتفاق وهو الانتفاع وقيل فتح الميم أقيس وكسرها أغلب، وأكثر العرب على كسر الميم من الأمر ومن مرفق الإنسان، وقد تفتح العرب الميم فيهما فَهُما لغتان.
وكأن الذين فتحوا أرادوا أن يفرقوا بين المرفق من الأمر والمرفق من الإنسان.. وقال الكسائي: الكسر في مرفق اليد، وقيل المرفق بالكسر ما ارتفقت به والمرفق بفتح الميم الأمر الرافق، والمراد هنا ما يرتفقون به وينتفعون بحصوله والتقديم (١) في الموضعين يفيد الاختصاص، وإنما قالوا ذلك ثقة بفضل الله وقوة في رجائهم لتوكلهم عليه أو أخبرهم به نبي عصرهم.
_________
(١) أي تقديم الجار والمجرور في ينشر لكم، ويهيئ لكم.
21
(وترى الشمس إذا طلعت) شرع سبحانه في بيان حالهم بعد أن أووا إلى الكهف (تزاور) مأخوذ من الزور بفتح الواو وهو الميل، ومنه زاره إذا مال إليه، وقيل تَزْوَر بمعنى تنقبض من ازْوَرّ أي انقبض والأول أولى. ومعنى
21
الآية أن الشمس إذا طلعت تميل وتعدل وتتنحى (عن كهفهم ذات اليمين) أي ناحية اليمين وهي الجهة المسماة باليمين.
(وإذا غربت تقرضهم) القرض القطع، قال الكسائي والأخفش والزجاج وأبو عبيدة: تعدل عنهم وتتركهم، قَرَضْتُ المكانَ عَدَلْت عنه، تقول لصاحبك هل وردت مكان كذا؟ فيقول إنما قَرَضْتُه إذا مر به وتجاوز عنه.
وقال الفارسي: معنى تقرضهم تعطيهم من ضوئها شيئاً ثم يزول بسرعة كالقرض يسترد، وقد ضعِّف بأنه كان ينبغي أن يقرأ تقرضهم بضم التاء لأنه من أقرض؛ والمعنى أن الشمس إذا طلعت مالت عن كهفهم ذات اليمين، أي يمين الداخل للكهف وإذا غربت تمر.
(ذات الشمال) أي جهة شمال الكهف لا تصيبه لا في ابتداء النهار ولا في آخر الليل، بل تعدل عن سمته إلى الجهتين (وهم في فجوة منه) الفجوة المكان المتسع، ومما يدل على أن الفجوة المكان الواسع قول الشاعر:
أَلْبَسْتَ قومَكَ مَخزاةً ومنقصةً حتى أُبيحُوا وَخَلَّوا فجوَةَ الدار
وقال سعيد بن جبير: الفجوة الخلوة من الأرض، ويعني بالخلوة الناحية منها وللمفسرين في تفسير هذه الجملة قولان:
الأول: أنهم مع كونهم في مكان منفتح انفتاحاً واسعاً في ظل جميع نهارهم لا تصيبهم الشمس في طلوعها ولا في غروبها لأن الله سبحانه حجبها عنهم كرامة.
والثاني: أن باب ذلك الكهف كان مفتوحاً إلى جانب الشمال مستقبلاً
22
لبنات النعش في أرض الروم، فإذا طلعت الشمس كانت عن يمين الكهف وإذا غربت كانت عن يساره ولا تقع عليهم عند الطلوع ولا عند الغروب ولا عند الاستواء فتؤذيهم بِحَرِّها وتغير ألوانهم وتبلي ثيابهم، ولكن اختار الله لهم مضجعاً في متسع ينالهم فيه برد الريح ونسيمها ويدفع عنهم كرب الغار وغمه.
ويؤيد القول الأول قوله (ذلك من آيات الله) فإن صرف الشمس عنهم مع توجه الفجوة إلى مكان تصل إليه عادة أنسب بمعنى كونها آية. ويؤيده أيضاً إطلاق الفجوة وعدم تقييدها بكونها إلى جهة كذا؛ وعلى الثاني يكون المعنى أن شأنهم وحديثهم من آيات الله والأول أولى. وقد قيل إنه كان لكهفهم حاجب من جهة الجنوب وحاجب من جهة الدبور وهم في زاويته.
وذهب الزجاج إلى أن فعل الشمس كان آية من الله تعالى من دون أن يكون باب الكهف إلى جهة توجب ذلك. وعلى الجملة فالآية في ذلك أن الله تعالى آواهم إلى كهف هذه صفته لا إلى كهف آخر يتأذون فيه بانبساط الشمس عليهم في معظم النهار، وعلى هذا فيمكن أن يكون صرف الشمس عنهم بإظلال غمام أو سبب آخر.
والمقصود بيان حفظهم من تطرق البلاء وتغير الأبدان والألوان إليهم والتأذي بحرّ أو برد.
ثم أثنى سبحانه عليهم بقوله: (من يهد الله) إلى الحق مثل أصحاب الكهف (فهو المهتد) الذي ظفر بالهدى وأصاب الرشد والفلاح (ومن يضلل) أي يضلله الله ولم يرشده كدقيانوس وأصحابه (فلن تجد له ولياً مرشداً) أي ناصراً يهديه إلى الحق.
23
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (١٨) وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (٢٠)
ثم حكى سبحانه طرفاً آخر من غرائب أحوالهم فقال
24
(وتحسبهم) خطاب للنبي ﷺ أو لكل أحد (أيقاظاً) جمع يَقِظ بكسر القاف وفتحها (وهم رقود) أي نيام وهو جمع راقد كقعود في قاعد، قيل وسبب هذا الحسبان أن عيونهم كانت مفتحة وهم نيام. وقال الزجاج: لكثرة تقلبهم.
(ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) أي نقلبهم في رقدتهم إلى الجهتين لئلا تأكل الأرض أجسادهم ولحومهم، قاله سعيد بن جبير، وتعجب منه الإمام الرازي وقال: أن الله قادر على حفظهم من غير تقليب.
ولقائل أن يقول لا ريب في قدرة الله تعالى ولكن جعل لكل شيء سبباً في أغلب الأحوال، قاله الكرخي، قيل تقلبة واحدة في كل سنة مرة في يوم عاشوراء. وقال ابن عباس: ستة أشهر على ذلك الجنب اليمين وستة أشهر على ذي الجنب الشمال وعلى هذا كان لهم تقلبتان في السنة، وقيل كل تسع سنين. وقالت فرقة إنما قلبوا في التسع الأواخر، وأما في الثلاثمائة فلا، وظاهر كلام المفسرين أن التقليب من فعل الله، ويجوز أن يكون من ملَك بأمر الله فيضاف إلى الله تعالى. قاله القرطبي والأول أولى.
24
(وكلبهم باسط ذراعيه) حكاية حال ماضية لأن اسم الفاعل لا يعمل إذا كان بمعنى المضي كما تقرر في علم النحو، أي ماد يديه. قال أكثر المفسرين: هربوا من ملكهم ليلاً فمروا براع معه كلب فتبعهم، وقيل كان لواحد منهم: قال مجاهد: اسم كلبهم قطمورا. وعن الحسن اسمه قطمير؛ وقيل اسمه ريان، وقيل صهبان قيل كان كلباً أغر. وقيل فوق القلطي ودون الكرزي، والقلطي كلب صيني. وقيل كان أصفر، وقيل كان أسمر اللون، وقيل كان يضرب إلى حمرة، وقيل كلون السماء.
قيل ليس في الجنة دواب سوى كلب أصحاب الكهف وحمار بلعم، ولا أدري أي تعلق لهذا التدقيق والتحقيق بتفسير الكتاب العزيز وما الذي حملهم على هذا الفضول الذي لا مستند له في السمع ولا في العقل.
(بالوصيد) قال أبو عبيد وأبو عبيدة: هو فناء الباب وكذا قال المفسرون، وقيل العتبة، ورد بأن الكهف لا يكون له عتبة ولا باب، وإنما أراد أن الكلب موضع العتبة من البيت.
وقال ابن عباس: بالوصيد بالفناء وبالباب، وقيل بفناء الكهف، وقيل الصعيد والتراب، قال بعضهم كلب أحب قوماً فذكره الله معهم فكيف بنا وعندنا عند الإيمان وكلمة الإسلام وحب النبي وآله وصحبه، وقول الله (ولقد كرمنا بني آدم) الآية، وفي هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكمال المحبين للصالحين والأنبياء والعلماء المخالطين للأولياء والأصفياء.
(لو اطلعت عليهم) أي لو نظرت إليهم وهم على تلك الحالة (لوليت منهم فراراً) أي لفررت منهم هارباً (ولملئت منهم رعباً) أي خوفاً وفزعاً يملأ الصدر قرئ رعباً بسكون العين وضمها وسبب الرعب الهيبة التي ألبسهم الله إياها.
25
وقيل طول أظفارهم وشعورهم وعظم إجرامهم ووحشة مكانهم، ذكره المهدوي والنحاس والزجاج والقشيري، ويدفعه قوله تعالى: (لبثنا يوماً أو بعض يوم) فإن ذلك يدل على أنهم لم ينكروا من حالهم شيئاً ولا وجدوا من أظفارهم وشعورهم ما يدل على طول المدة؛ وقيل لأن أعينهم كانت منفتحة كالمتيقظ. وقيل أن الله منعهم بالرعب حتى لا يراهم أحد.
قال ابن عطية: والصحيح في أمرهم أن الله عز وجل حفظ لهم الحالة التي ماتوا عليها لتكون لهم ولغيرهم فيهم آية، فلم يَبْلَ لهم ثوب ولم تتغير لهم صفة، ولم ينكر الناهض إلى المدينة إلا معالم الأرض والبناء، ولو كانت في نفسه حالة ينكرها لكانت عليهم أهم. ذكره القرطبي.
26
(وكذلك) أي وكما فعلنا بهم ما فعلنا من الكرامات وأَنمْناهم في الكهف تلك النومة وحفظنا أجسامهم من البلى على طول الزمان (بعثناهم) من نومهم وجعلنا بعثهم آية قاله الزجاج والزمخشري وفيه تذكير بقدرته على الإماتة والبعث جميعاً ثم ذكر الأمر الذي لأجله بعثهم فقال (ليتساءلوا بينهم) أي ليقع التساؤل بينهم والاختلاف والتنازع في مدة اللبث لما يترتب على ذلك من انكشاف الحال وظهور القدرة الباهرة.
وقيل اللام للصيرورة لأن البعث لم يكن للتساؤل قاله ابن عطية والصحيح أنها على بابها من السببية والاقتصار على علة التساؤل لا ينفي غيرها وإنما أفرده لاستتباعه لسائر الآثار (قال قائل) أي واحد (منهم) وهو كبيرهم ورئيسهم (مكسلمينا) (كم لبثتم) في النوم قالوا ذلك لأنهم رأوا في أنفسهم غير ما يعهدونه في العادة والجملة مبينة لما قبلها من التساؤل.
(قالوا) أي قال بعضهم وقيل قال الستة الباقون جواباً على سؤال من سأل منهم قال المفسرون: إنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله سبحانه آخر
26
النهار فلذلك قالوا (لبثنا يوماً) أي لظنهم أن الشمس قد غربت فلما رأوا الشمس لم تغرب قالوا (أو بعض يوم) وكان قد بقيت بقية من النهار وقد مر مثل هذا الجواب في قصة عزير في البقرة أو للشك، وقيل للتفصيل أي قال بعضهم كذا وبعضهم كذا وفيه دليل على جواز الاجتهاد والقول بالظن الغالب.
(قالوا) متوقفين في قدر مدة لبثهم (ربكم أعلم بما لبثتم) إما على طريق الاستدلال أو كان ذلك إلهاماً لهم من الله سبحانه أي أنكم لا تعلمون مدة لبثكم وإنما يعلمها الله سبحانه وهذا رد منهم على الأولين بأجمل ما يكون من مراعاة حسن الأدب وبه يتحقق التحزب إلى الحزبين المعهودين في قوله سابقاً لنعلم أي الحزبين.
وقد استدل ابن عباس على أن عددهم سبعة بهذه الآية لأنه قد قال في الآية قال قائل منهم وهذا واحد، وقالوا في جوابه لبثنا وهو جمع وأقله ثلاثة ثم قالوا وهذا قول جمع آخرين فصاروا سبعة.
(فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة) كأنه قال القائل منهم يعني يمليخا اتركوا ما أنتم عليه من المحاورة وخذوا في شيء آخر مما يهمكم وفيما تنتفعون به والفاء للسببية أي فأرسلوا واحداً منكم إلى البلد، والورق الفضة مضروبة كانت أو غير مضروبة ويقال لها الرقة وفي الحديث (وفي الرقة ربع العشر) وجمعت شذوذاً جمع المذكر السالم يقال عندي رِقون والباء للمصاحبة والملابسة.
وفي حملهم لهذه الورق معهم دليل على أن إمساك بعض ما يحتاج إليه الإنسان لا ينافي التوكل على الله، والمدينة أفُسوس بضم الهمزة كما قاله النيسابوري وهي مدينتهم التي كانوا فيها من مدائن الروم ويقال لها اليوم
27
في الإسلام طرطوس كذا قال الواحدي، وفي الكشف: أن المدينة التي خرجوا منها غير المدينة التي بعثوا إليها لشراء الطعام، إذ أفسوس من أعمال طرطوس وهي ناحية.
(فلينظر أيها أزكى طعاماً) أي لينظر أي أهلها أطيب طعاماً وأحل كسباً أو أرخص سعراً وأي استفهامية أو موصولة.
قال ابن عباس: أحل وأطهر ذبيحة لأنهم كانوا يذبحون للطواغيت أو أكثر بركة، وقيل يجوز أن يكون الضمير إلى الأطعمة المدلول عليها في المقام كما يقال زيد طيب أبا علي أن الأب هو زيد وفيه بعد:
(فليأتكم برزق منه) أي من الورق أي بَدَلَه أو من قوت وطعام تأكلونه واستدل بالآية على حل ذبائح أهل الكتاب لأن عامة أهل المدينة كانوا كفاراً وفيه قوم يخفون إيمانهم؛ ووجه الاستدلال أن الطعام يتناول اللحم كما يتناول غيره مما يطلق عليه اسم الطعام (وليتلطف) أي يدقق النظر حتى لا يُعْرَف أو لا يُغْبَن والأول أولى ويؤيده (ولا يشعرن بكم أحداً) من الناس أي لا يفعلن ما يؤدي إلى الشعور ويتسبب له فهذا النهي يتضمن التأكيد للأمر بالتلطف.
ثم علل ما سبق من الأمر والنهي فقال
28
(إنهم) أي أهل المدينة (إن يظهروا عليكم) أي يطلعوا ويعلموا بمكانكم (يرجموكم) يقتلوكم بالرجم وهذه القِتْلة هي أخبث قِتْلة وكأن ذلك كان عادة لهم ولهذا خصه من بين أنواع ما يقع به القتل، وقيل يشتموكم ويؤذوكم بالقول والأول أولى (أو يعيدوكم في ملتهم) أي يردوكم إلى ملتهم التي كنتم عليها قبل أن يهديكم الله أو يصيِّروكم إليها كرهاً والمراد بالعود هنا الصيرورة على تقدير أنهم لم يكونوا على ملتهم وإيثار كلمة " في " على كلمة إلى للدلالة على الاستقرار.
(ولن تفلحوا إذاً أبداً) في إذاً معنى الشرط والجزاء كأنه قال إن رجعتم إى دينهم فلن تفلحوا إذاً أبداً لا في الدنيا ولا في الآخرة.
28
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (٢١) سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (٢٢)
29
(وكذلك) أي وكما أنمناهم وبعثناهم (أعثرنا) أي أطلعنا الناس (عليهم) وأظهرناهم وسمي الإعلام إعثاراً لأن من كان غافلاً عن شيء فعثر به نظر إليه وعرفه فكان الإعثار سبباً لحصول العلم (ليعلموا) أي ليعلم الذين أعثرهم الله عليهم (أن وعد الله) بالبعث (حق) قيل وكان ملك زمانهم ممن ينكر البعث فأراه الله هذه الآية.
قيل وسبب الإعثار عليهم أن ذلك الرجل الذي بعثوه بالورق وكانت من ضربة دقيانوس إلى السوق فلما اطلع عليها أهل السوق اتهموه بأنه وجد كنزاً فذهبوا به إلى الملك فقال له من أين وجدت هذه الدراهم؛ قال: بعت بها أمس شيئاً من التمر وخرجنا فراراً من الملك دقيانوس فعرف الملك صدقه ثم قص عليه القصة فركب الملك وركب أصحابه معه حتى وصلوا إلى الكهف.
(و) ليعلموا (أن الساعة) أي القيامة (لا ريب فيها) أي لا شك في حصولها فإن من شاهد حال أهل الكهف علم صحة ما وعد الله به من بعث الأرواح والأجساد جميعاً وحشرها (إذ يتنازعون بينهم أمرهم) أي أعثرنا عليهم وقت التنازع والاختلاف بين أولئك الذين أعثرهم الله في أمر البعث، وقيل في أمر أصحاب الكهف في قدر مكثهم وفي عددهم وفيما يفعلونه بعد أن اطلعوا عليهم، وقيل قال المسلمون: نبني عليهم مسجداً يصلي فيه الناس لأنهم على
29
ديننا، وقال المشركون: نبني عليهم بيعة لأنهم من أهل ملتنا.
(فقالوا ابنوا عليهم بنياناً) لئلا يتطرق الناس إليهم كما حفظت تربة رسول الله ﷺ بالحظيرة، وذلك أن الملك وأصحابه لما وقفوا عليهم وهم أحياء أمات الله الفتية فقال بعضهم ابنوا عليهم بنياناً يسترهم عن أعين الناس، وقيل يتنازعون متعلق بمحذوف هو اذكر.
ويؤيده أن الإعثار ليس في زمن التنازع بل قبله ويمكن أن يقال إن أولئك القوم مازالوا متنازعين فيما بينهم قرناً بعد قرن منذ أووا إلى الكهف إلى وقت الإعثار ويؤيد ذلك أن خبرهم كان مكتوباً على باب الغار كتبه بعض المعاصرين لهم من المؤمنين الذين كانوا يخفون إيمانهم كما قاله المفسرون.
ثم قال سبحانه حاكياً لقول المتنازعين فيهم وفي عددهم وفي مدة لبثهم وفي نحو ذلك مما يتعلق بهم (ربهم أعلم بهم) من هؤلاء المتنازعين فيهم قالوا ذلك تفويضاً للعلم إلى الله سبحانه، وقيل هو من كلام الله سبحانه رداً لقول المتنازعين فيهم أي دعوا ما أنتم فيه من التنازع فإني أعلم بهم منكم والأول هو الظاهر قاله الكرخي.
(قال الذين غلبوا على أمرهم) يعني يندوسيس وأصحابه قاله الخازن أي كانت الكلمة لهم وكان كلامهم هو النافذ لأن ملك الوقت كان من جملتهم وكان مؤمناً وأما الملك الذي خرجوا هاربين منه فقد مات في مدة نومهم (لنتخذن عليهم مسجداً) يصلي فيه المسلمون ويعتبرون بحالهم. وذكر اتخاذ المسجد يشعر بأن هؤلاء الذين غلبوا على أمرهم هم المسلمون، وقيل هم أهل السلطان والملك من القوم المذكورين فإنهم الذين يغلبون على أمر من عداهم والأول أولى.
قال الزجاج: هذا يدل على أنه لما ظهر أمرهم غلب المؤمنون بالبعث ولنشور لأن المساجد للمؤمنين.
30
(سيقولون) هؤلاء القائلون بأنهم ثلاثة أو خمسة أو سبعة وهم المتنازعون في عددهم في زمن رسول الله ﷺ من أهل الكتاب والمسلمين، وقيل هم أهل الكتاب خاصة، قال السدي: هم اليهود، وعلى كل تقدير فليس المراد أنهم جميعاً قالوا جميع ذلك بل قال بعضهم بكذا وبعضهم بكذا.
قيل إنما أتى بالسين في هذا لأن في الكلام طياً وإدماجاً تقديره فإذا أجبتهم عن سؤالهم عن قصة أهل الكهف فسلهم عن عددهم فإنهم ليقولون، ولم يأت بها في باقي الأفعال لأنها معطوفة على ما فيه السين فأعطيت حكمه من الاستقبال، والمعنى يقولون لك يا محمد ويخبرونك على ثلاثة أقوال: الأولان: للنصارى. والثالث: للمؤمنين.
(ثلاثة رابعهم كلبهم) أي هم ثلاثة أشخاص حال كون كلبهم جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم (ويقولون خمسة سادسهم كلبهم) الكلام فيه كالكلام فيما قبله قاله السدي: هم النصارى، وقيل اليهود كما في البيضاوي.
قال أبو علي الفارسي: قوله رابعهم كلبهم وسادسهم كلبهم جملتان استغني عن حرف العطف فيهما بما تضمنتا من ذكر الجملة الأولى وهي قوله ثلاثة والتقدير هم ثلاثة. هكذا حكاه الواحدي.
(رجماً بالغيب) أي راجمين أو يرجمون رجماً والرجم بالغيب هو القول بالظن والحدس من غير يقين ودليل ولا برهان كما قاله الطيبي وغيره والموصوفون بالرجم بالغيب هم كلا الفريقين القائلون بأنهم ثلاثة والقائلون بأنهم خمسة، قال قتادة: رجماً قذفاً بالظن، ولم يقل هذا في السبعة وتخصيص الشيء بالوصف يدل على أن الحال في الباقي بخلافه، والرجم بمعنى الرمي وهو استعارة للتكلم بما لم يطلع عليه لخفائه عنه تشبيهاً له بالرمي بالحجارة التي لا تصيب غرضاً والباء فيه للتعدية على تشبيه الظن بالحجر الرمي على طريق الكناية.
31
(ويقولون) أي المؤمنون يعني قالوه بإخبار الرسول لهم عن جبريل عليه السلام (سبعة وثامنهم كلبهم) وكان قول هذه الفرقة أقرب إلى الصواب بدليل عدم إدخالهم في سلك الراجمين بالغيب، قيل وإظهار الواو في هذه الجملة يدل على أنها مرادة في الجملتين الأوليين، وعلى رأي الأخفش والكوفيين الواو زائدة لأن وجودها في الكلام كالعدم في عدم إفادة أصل معناها. قاله الكرخي.
وقيل زائدة لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت، وهذا ما جنح إليه الزمخشري وصرح به البيضاوي واختاره ابن هشام، وقيل إنها واو العطف كأنه قيل هم سبعة وثامنهم كلبهم، وقيل واو الحال فيؤول المعنى إلى أنهم يقولون ذلك مع هذا الحال وهو كون ثامنهم كلبهم واقعاً لا محالة ويلزم منه أن يكونوا سبعة.
قال ابن هشام: وقول جماعة الأدباء كالحريري ومن النحوين كابن خالويه ومن المفسرين كالثعلبي أنها واو الثمانية لا يرضاه نحوي لأنه لا يتعلق به حكم إعرابي ولا سر معنوي. قال الكرخي: هي في التحقيق واو العطف، لكن لما اختص استعمالها بمحل مخصوص تضمنت أمراً غريباً واعتباراً لطيفاً ناسب أن تسمى باسم غير جنسها فسميت بواو الثمانية لمناسبة بينها وبين سبعة، وذلك لأن السبعة عندهم عند تام كعقود العشرات لاشتمالها على أكثر مراتب أصول الأعداد، والثمانية عند مستأنف فكان بينهما اتصال من وجه وانفصال من وجه، وهذا هو المقتضي للعطف. وهذا المعنى ليس موجوداً بين السبعة والستة. انتهى ملخصاً من الكرخي.
ثم أمر الله نبيه ﷺ أن يخبر المختلفين في عددهم بما يقطع التنازع بينهم فقال (قل ربي أعلم) أي أقوى علماً وأزيد في الكيفية (بعدَّتهم) منكم أيها المختلفون؛ فإن مراتب اليقين متفاوتة في القوة، وهذا هو الحق لأن العلم بتفاصيل العالم والكائنات فيه في الماضي والمستقبل لا يكون
32
إلا لله تعالى أو من أخبرهم الله سبحانه.
ثم أثبت العلم على ذلك لقليل من الناس فقال (ما يعلمهم) أي ما يعلم ذواتهم فضلاً عن عددهم، أو ما يعلم عددهم على حذف المضاف (إلا قليل) من الناس عن ابن مسعود قال: أنا من القليل كانوا سبعة. وعن ابن عباس قال السيوطي بسند صحيح أنا من أولئك القليل كانوا سبعة، ثم ذكر أسماءهم.
وذكر بعض المفسرين لأسمائهم خواص ومنافع ليست من التفسير في شيء ثم نهى الله سبحانه رسوله ﷺ عن الجدال مع أهل الكتاب في شأن أصحاب الكهف فقال:
(فلا تمار فيهم) أي لا تجادل ولا تقل في عددهم وشأنهم؛ والمراء في اللغة الجدال، يقال مارى يماري مماراة ومراء أي جادل. قال ابن عباس: يقول حسبك ما قصصت عليك؛ ثم استثنى سبحانه من المراء ما كان ظاهراً واضحاً فقال (إلا مراء ظاهراً) أي غير متعمق فيه، وهو أن يقص عليهم ما أوحى الله إليه فحسب من غير تجهيل لهم ومن غير رد عليهم.
وقال الرازي: هو أن لا يكذبهم في تعيين ذلك العدد، بل يقول هذا التعيين لا دليل عليه فوجب التوقف. ثم نهاه سبحانه عن الاستفتاء في شأنهم فقال (ولا تستفت فيهم) أي في شأنهم (منهم) أي من الخائضين فيهم (أحداً) منهم لأن المفتي يجب أن يكون أعلم من المستفتي. وهاهنا الأمر بالعكس ولا سيما في واقعة أهل الكهف، وفيما قص الله عليك في ذلك ما يغنيك عن سؤال من لا علم له.
قال ابن عباس: يعني اليهود، وقال القرطبي: النصارى وهو الأولى، قال البيضاوي: لا تسأل سؤال مسترشد ولا سؤال متعنت، يريد فضيحة المسؤول وتزييف ما عنده فإنه يخل بمكارم الأخلاق، وفي الآية دليل على منع المسلمين من مراجعة أهل الكتاب في شيء من العلم.
33
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (٢٣) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (٢٤) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (٢٥) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (٢٦) وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (٢٧)
34
(وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله) أي لا تقولن لأجل شيء أو في شأن شيء تعزم عليه فيما يستقبل من الزمان، فعبر عنه بالغد، ولم يرد الغد بعينه، فيدخل فيه الغد دخولاً أولياً، قال الواحدي: قال المفسرون لما سألت اليهود النبي ﷺ عن خبر الفتية فقال: أخبركم غداً ولم يقل إن شاء الله فاحتبس الوحي عنه حتى شق عليه، فأنزل الله هذه الآية يأمره بالاستثناء بمشيئة الله، يقول إذا قلت لشيء إني فاعل ذلك غداً فقل إن شاء الله.
قيل وهذا الاستثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي لا تقولن ذلك في حال من الأحوال إلا في حال ملابسته لمشيئة الله، وهو أن تقول إن شاء الله، أو في وقت من الأوقات إلا وقت أن يشاء الله أن تقوله لا مطلقاً بل بإذن الله، فحذف الوقت وهو مراد، أولا تقولن أفعل غداً إلا قائلاً إن شاء الله، فحذف القول ونقل شاء إلى لفظ الاستقبال حملاً على المعنى. قاله الأخفش والمبرد والكسائي.
وقيل: التقدير إلا بأن يشاء الله، أي متلبساً بقول إن شاء الله، والمعنى إلا أن تذكر مشيئة الله فليس إلا أن يشاء الله من القول الذي نهى عنه، وقيل الاستثناء جار مجرى التأبيد، كأنه قيل لا تقولنه أبداً، كقوله (وما يكون لنا
34
أن نعود فيها إلا أن يشاء الله) لأن عودهم في ملتهم مما لا يشاؤه الله. (واذكر ربك إذا نسيت) الاستثناء بمشيئة الله، أي فقل إن شاء الله سواء كانت المدة قليلة أو كثيرة؛ وقد اختلف أهل العلم في المدة التي يجوز إلحاق الاستثناء فيها بعد المستثنى منه على أقوال معروفة في مواضعها، وقيل: المعنى واذكر ربك بالاستغفار إذا نسيت مبالغة في الحث عليه، أو اذكر ربك عقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك على التدارك، أو اذكره إذا اعتراك النسيان لتذكر المنسيّ. وعن ابن عباس أنه كان يرى الاستثناء ولو بعد سنة ثم قرأ هذه الآية. وعنه قال: هي خاصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وليس لأحد أن يستثني إلا في صلة يمين.
وعن ابن عمر قال: كل استثناء موصول فلا حنث على صاحبه وإذا
كان غير موصول فهو حانث.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة. وفي رواية تسعين تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقال له الملك قل إن شاء الله، فلم يقل، فطاف فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته " (١).
وعن عكرمة قال: معنى إذا نسيت إذا غضبت. وعن الحسن قال: إذا نسيت إذا لم تقل إن شاء الله. وقيل الآية في الصلاة ويدل له حديث أنس قال: قال رسول الله ﷺ " مَن نسي صلاةً فليُصلِّها إذا ذَكَرَها " (٢) أقم الصلاة لذكري متفق عليه. والأول أولى.
_________
(١) مسلم ١٦٥٤ - البخاري ١٣٤٧.
(٢) مسلم ٦٨٤ - البخاري ٣٨٤.
35
(وقل) يا محمد (عسى أن يهدين) أي يوفقني ويدلني (ربي لأقرب) أي لشيء أقرب (من هذا) أي من خبر أهل الكهف من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي (رشداً) هداية أو إرشاداً للناس ودلالة على ذلك، وعلى الأول هو مفعول مطلق، وعلى الثاني تمييز لأقرب. قال الزجاج: عسى أن يعطيني ربي من الآيات والدلالات على النبوة ما يكون أقرب في الرشد وأدل من قصة أصحاب الكهف.
وقد فعل الله به ذلك حيث آتاه من علم غيوب المرسلين وخبرهم والحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة ما كان أوضح في الحجة وأقرب إلى الرشد من خبر أصحاب الكهف. وقيل عسى أن يهديني ربي عند هذا النسيان لشيء آخر بدل هذا المنسي، وأقرب من ذلك رشداً وأدنى منه خيراً ومنفعة، والأول أولى.
36
(ولبثوا) أي أقاموا (في كهفهم ثلثمائة سنين) عطف بيان لثلثمائة وهذه السنون عند أهل الكتاب شمسية وتزيد القمرية عليها عند العرب تسع سنين وقد ذكرت في قوله (وازدادوا تسعاً) أي تسع سنين، فالثلثمائة الشمسية ثلثمائة وتسع قمرية، وقرئ في السبعة بالإضافة، وعليه فسنين تمييز غير أنه قليل، لأن تمييز المائة الكثير فيه الإفراد.
قال الفراء: ومن العرب من يضع سنين موضع سنة. قال أبو علي الفارسي: هذه الأعداد التي تضاف في المشهور إلى الآحاد نحو ثلثمائة رجل وثوب قد تضاف إلى المجموع، وفي مصحف عبد الله ثلثمائة سنة، وقال الأخفش: لا تكاد العرب تقول مائة سنين.
قال ابن جرير: إن بني إسرائيل اختلفوا فيما مضى لهم من المدة بعد الإعثار عليهم، فقال بعضهم إنهم لبثوا ثلثمائة سنة، وقال بعضهم لبثوا ثلثمائة وتسع سنين، فأخبر الله نبيه ﷺ أن هذه المدة في كونهم نياماً وأن ما بعد ذلك مجهول للبشر، فأمر الله أن يرد علم ذلك إليه فقال:
(قل الله أعلم بما لبثوا) أي بالزمن الذي لبثوا فيه، وقيل: بعد موتهم إلى نزول القرآن فيهم على قول مجاهد أو إلى أن ماتوا على قول الضحاك أو إلى وقت تغيرهم بالبلى على قول بعضهم، قال ابن عطية: فقوله على هذا لبثوا الأول يريد في نوم الكهف، ولبثوا الثاني يريد بعد الإعثار عليهم إلى مدة محمد ﷺ أو إلى أن ماتوا.
وقال القرطبي: إنه لما قال وازدادوا تسعاً لم يدر الناس أهي ساعات أم أيام أم جمع أم شهور أم أعوام؛ فاختلف بنو إسرائيل بحسب ذلك فأمر الله برد العلم إليه في التسع فهي على هذا مبهمة والأول أولى، لأن الظاهر من كلام العرب المفهوم منه بحسب لغتهم أن التسع أعوام بدليل أن العدد في هذا الكلام للسنين لا للشهور ولا للأيام ولا للساعات.
قال القشيري: لا يفهم من التسع تسع ليال ولا تسع ساعات لوجود لفظ السنين. وعن الزجاج إن المراد بثلثمائة سنة شمسية وثلثمائة وتسع سنين قمرية. وهذا إنما يكون من الزجاج على جهة التقريب، وقال الشهاب: وأما احتمال كون السنين شمسية أو قمرية وكون التسع سنين أو شهوراً أو أياماً فليس بشيء، قال الضحاك عن ابن عباس: لما نزلت ولبثوا في كهفهم ثلثمائة قيل يا رسول الله أياماً أم أشهراً أم سنين، فأنزل الله سنين وازدادوا تسعاً.
وحكى النقاش ما معناه إنهم لبثوا ثلثمائة سنة شمسية بحساب الأمم، فلما كان الإخبار هنا للنبي العربي ﷺ ذكر التسع إذ المفهوم عنده من السنين القمرية، فهذه الزيادة هي ما بين الحسابين، ونحوه ذكر القونوي أي باختلاف سني الشمس والقمر لأنه يتفاوت في كل ثلاث وثلاثين وثلث، سنة فيكون في ثلثمائة تسع سنين. انتهى.
أقول: هذا يبتنى على حساب الكبس، والكبس عندهم مختلف وقد حققناه في كتابنا لقطة العجلان فراجعه. وعن ابن عباس قال: أن الرجل ليفسر الآية يرى أنها كذلك فيهوى أبعد ما بين السماء والأرض، ثم تلا
37
ولبثوا في كهفهم الآية، ثم قال: كم لبث القوم؟ قالوا ثلثمائة وتسع سنين. قال لو كانوا لبثوا كذلك لم يقل الله: قل الله أعلم بما لبثوا، ولكنه حكى مقالة القوم فقال سيقولون ثلاثة إلى قوله رجماً بالغيب، فأخبر أنهم لا يعلمون، ثم قال سيقولون ولبثوا في كهفهم ثلثمائة سنين وازدادوا تسعاً.
قال القرطبي: اختلف في أصحاب الكهف هل ماتوا وفنوا أو هم نيام وأجسادهم محفوظة، فروي عن ابن عباس أنه قال: أولئك قوم فنوا وعدموا منذ مدة طويلة، ومشى الناس معه في بعض غزوات الشام إلى موضع الكهف فوجدوا عظاماً.
وروت فرقة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال " ليحجن عيسى ابن مريم ومعه أصحاب الكهف فإنهم لم يحجوا بعد "، ذكره ابن عيينة ونحوه في التوراة والإنجيل وقد ذكرنا هذا الخبر بكماله في التذكرة، فعلى هذا هم نيام لم يموتوا ولا يموتون إلى يوم القيامة بل يموتون قبل الساعة، انتهى والله أعلم.
ثم أكد سبحانه اختصاصه بعلم ما لبثوا بقوله (له غيب السماوات والأرض) أي ما خفي فيهما وغاب من أحوالهما ليس لغيره من ذلك شيء، ثم زاد في المبالغة والتأكيد فجاء بما يدل على التعجب من إدراكه للمبصرات والمسموعات فقال (أبصر به وأسمع) فأفاد هذا التعجب على أن شأنه سبحانه في علمه بالمبصرات والمسموعات خارج عما عليه إدراك المدركين وأنه يستوي في علمه الغائب والحاضر والخفي والظاهر والصغير والكبير واللطيف والكثيف.
وكان أصله ما أبصره وما أسمعه، ثم نقل إلى صيغة الأمر للإنشاء على سبيل المجاز والباء زائدة عند سيبويه وخالفه الأخفش، والبحث مقرر في علم النحو، والهاء لله تعالى، وقيل هو أمر حقيقة لا تعجب وأن الهاء تعود على الهدى المفهوم من الكلام أي أبصر بوحيه وإرشاده هداك وحججك والحق من الأمور وأسمع به العالم والأول أولى، وقرئ أبصر وأسمع فعلاً ماضياً
38
والفاعل الله تعالى أي أبصر عباده وأسمعهم.
(ما لهم) أي لأهل السماوات والأرض، وقيل لأهل الكهف؛ وقيل لمعاصري محمد ﷺ من الكفار (من دونه من ولي) أي من موال يواليهم أو يتولى أمورهم أو ينصرهم وفي هذا بيان لغاية قدرته وأن الكل تحت قهره (ولا يشرك في حكمه أحداً) قرأ الجمهور برفع الكاف على الخبر عن الله سبحانه وقرئ بالفوقية وإسكان الكاف على أنه نهي للنبي ﷺ أن يجعل لله شريكاً في حكمه والمراد بحكم الله ما يقتضيه أو علم الغيب والأول أولى ويدخل علم الغيب في ذلك دخولاً أولياً فإن علمه سبحانه من جملة قضائه.
39
(واتل ما أوحي إليك) أمره الله سبحانه أن يواظب على تلاوة الكتاب الموحى إليه قيل: يحتمل أن يكون معنى قوله (واتل) واتبع أمراً من التلو لا من التلاوة أي اتبع ما فيه واعمل به ولا تلتفت لقوله ائت بقرآن غير هذا أو بدله (من كتاب ربك) بيان للذي أوحي إليه.
(لا مبدل لكلماته) أي لا قادر على تبديلها وتغييرها وإنما يقدر على ذلك هو وحده؛ قال الزجاج: أي ما أخبر الله به وما أمر به فلا مبدل له وعلى هذا يكون التقدير لا مبدل لحكم كلماته.
(ولن تجد من دونه ملتحداً) أي ملتجأً، وأصل اللحد الميل، وقال أبو عبيدة: ألحد إلحاداً جادل ومارى ولحد جار وظلم وألحد في الحرم استحل حرمته وانتهكها والملتحد اسم الموضع وهو الملجأ، قال الزجاج: لن تجد معدلاً عن أمره ونهيه، والمعنى إنك إن لم تتبع القرآن وتتلوه وتعمل بأحكامه لن تجد معدلاً تعدل إليه ومكاناً تميل إليه. وهذه الآية آخر قصة أهل الكهف.
39
وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (٢٩)
ثم شرع سبحانه في نوع آخر كما هو دأب الكتاب العزيز فقال
40
(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم) أي يعبدونه قد تقدم في (الَأنْعَام) (١) نهيه ﷺ عن طرد فقراء المؤمنين بقوله (ولا تطرد الذين يدعون ربهم) وأمره سبحانه هاهنا بأن يحبس نفسه معهم فصبر النفس هو حبسها عن الجوع وبابه ضرب، وصبره حبسه. وهذه الآية (٢) أبلغ من التي في الأنعام لأن في تلك نهى الرسول عن طردهم وفي هذه أمره بمجالستهم والمصابرة معهم.
(بالغداة والعشي) ذكرهما كناية عن الاستمرار على الدعاء في جميع الأوقات، وقيل في طرفي النهار، وقيل المراد صلاة العصر والفجر. وقرئ غدوة وأنكره النحاس وقال ولا تكاد العرب تقول الغدوة، ومعنى (يريدون وجهه) أنهم يرتقبون بدعائهم رضا الله سبحانه لا عرض الدنيا. وعن سلمان قال: جاءت المؤلفة قلوبهم: عيينة بن بدر والأقرع بن حابس فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صدر المجلس وتغيبت عن هؤلاء وأرواح جبابهم يعنون سلمان وأبا ذر وفقراء المسلمين وكانت عليهم جباب
_________
(١) اسم السورة.
(٢) الأولى أن يقال: هذه الآية أفادت معنى جديداً هو أمره بمجالستهم والمصابرة معهم. لأن قوله: " وهذه الآية أبلغ " تدل على الموازنة بين الآيات في البلاغة والقرآن الكريم كله في غاية البلاغة.
40
الصوف جالسناك وحادثناك وأخذنا عنك فأنزل الله (واتل ما أوحي إليك) إلى قوله (إنا اعتدنا للظالمين ناراً) أخرجه البيهقي وغيره.
وزاد أبو الشيخ عن سلمان أن رسول الله ﷺ قام يلتمسهم حتى أصابهم في مؤخر المسجد يذكرون الله تعالى فقال " الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع رجال من أمتي، معكم المحيا والممات ".
وعن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف قال: نزلت على رسول الله ﷺ وهو في بعض أبياته واصبر نفسك الآية فخرج يلتمسهم فوجد قوماً يذكرون الله منهم ثائر الرأس وحاف الجلد وذو الثوب الخلق فلما رآهم جلس معهم وقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم ".
وعن أبي سعيد وأبي هريرة قالا: جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورجل يقرأ سورة الحجر أو سورة الكهف فسكت فقال رسول الله ﷺ " هذا المجلس الذي أمرت أن أصبر نفسي معهم ". وفي الباب روايات. وعن ابن عمر قال: إنهم الذين يشهدون الصلوات الخمس وعن ابن عباس مثله وقيل نزلت في صلاة الصبح وصلاة العصر.
ثم أمره سبحانه بالمراقبة لأحوالهم فقال (ولا تعدُ عيناك عنهم) أي لا تتجاوز إلى غيرهم، قال الفراء: معناه لا تصرف عينيك عنهم؛ وقال الزجاج: لا تصرف بصرك إلى غيرهم من ذوي الهيئات والزينة واستعماله بعن لتضمينه معنى النبو، من عدوته عن الأمر أي صرفته عنه، وقال: معناه لا تحتقرهم عيناك عَبَّرَ بهما عن صاحبها.
(تريد زينة الحياة الدنيا) أي مجالسة أهل الترف والشرف والغنى وصحبة أهل الدنيا والمعنى حال كونك مريداً لذلك، هذا إذا كان فاعل تريد
41
هو النبي ﷺ وإن كان الفاعل ضميراً يعود إلى العينين فالتقدير مريدة زينة الحياة الدنيا وإسناد الإرادة إلى العينين مجاز وتوحيد الضمير للتلازم والأول أولى، وهو نهي له ﷺ وإن لم يًرده وليس هو أكبر من قوله (لئن أشركت ليحبطن عملك) وإن كان أعاذه من الشرك وإنما هو على فرض المحال.
(ولا تطع من أغفلنا قلبه) أي جعلناه غافلاً (عن ذكرنا) بالختم عليه نهى رسول الله ﷺ عن طاعة من جعل الله قلبه غافلاً عن ذكره كأولئك الذين طلبوا منه أن ينحي الفقراء عن مجلسه فإنهم طالبوا تنحية الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه وهم غافلون عن ذكر الله.
(و) مع هذا فهم ممن (اتبع هواه) وآثره على الحق فاختار الشرك على التوحيد (وكان أمره فرطاً) أي متجاوزاً عن حد الاعتدال من قولهم فرس فرط إذا كان متقدماً على الخيل فهو على هذا من الإفراط، وقيل هو من التفريط وهو التقصير والتضييع والأول أظهر.
قال الزجاج: ومن قدم العجز في أمره أضاعه وأهلكه. وعن ابن عباس قال: نزلت في أمية بن خلف وذلك أنه دعا النبي ﷺ إلى أمر كرهه الله من طرد الفقراء عنه وتقريب صناديد أهل مكة فأنزل الله هذه الآية يعني من ختمنا على قلبه يعني التوحيد واتبع هواه يعني الشرك وكان أمره فرطاً يعني فرطاً في أمر الله وجهالة به.
وعن ابن بريدة قال: دخل عيينة بن حصن على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في يوم حار وعنده سلمان عليه جبة صوف فثار منه ريح العرق في الصوف فقال عيينة: يا محمد إذا نحن أتيناك فَأَخْرِج هذا وضرباءه من عندك لا يؤذينا فإذا خرجنا فأنت وهم أعلم فأنزل الله (ولا تطع) الآية.
وقد ثبت في صحيح مسلم في سبب نزول الآية المتضمنة لمعنى هذه الآية وهي قوله (ولا تطرد الذين) الآية عن سعد بن أبي وقاص قال: كنا مع
42
النبي ﷺ ستة نفر فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسمهما فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه فأنزل الله (ولا تطرد الذين) الآية (١).
ثم بيَنّ سبحانه لنبيه ﷺ ما يقوله لأولئك الغافلين فقال
_________
(١) مسلم ٢٤١٣.
43
(وقل الحق من ربكم) أي قل لهم: إن ما أوحي إليَّ وأمرت بتلاوته هو الحق الكائن من جهة الله لا من جهة غيره حتى يمكن فيه التبديل والتغيير، وقيل المراد بالحق الصبر مع الفقراء، قال الزجاج: أي الذي أتيتكم به هو الحق من ربكم يعني لم آتكم به من قبل نفسي إنما أتيتكم به من الله، وعن قتادة قال: الحق هو القرآن.
(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) قيل هو من تمام القول الذي أمر رسوله أن يقوله، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، ويجوز أن يكون من كلام الله سبحانه لا من القول الذي أمر به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه تهديد شديد وتخويف وردع لا تخيير وإباحة، ويكون المعنى قل يا محمد الحق من ربكم، وبعد أن تقول لهم هذا القول من شاء أن يؤمن بالله ويصدقك فليؤمن، ومن شاء أن يكفر به ويكذبك فليكفر.
وقال ابن عباس: يقول من شاء الله له الإيمان آمن ومن شاء له الكفر كفر وهو قوله (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين).
ثم أكد الوعيد وشدده فقال (إنا أعتدنا) أي أعددنا وهيأنا (للظالمين) الذين اختاروا الكفر بالله والجحد له والإنكار لأنبيائه (ناراً) عظيمة (أحاط بهم) أي اشتمل عليهم (سرادقها) واحد السرادقات، قال الجوهري وهي
43
التي تمد فوق صحن الدار وكل بيت من كرسف أي قطن فهو سرادق، وقيل للحائط المشتمل على شيء سرادق قاله الهروي.
وقال الراغب: السرادق فارسي معرب وليس في كلامهم اسم مفرد ثالث حروفه ألف بعدها حرفان إلا هذا يقال بيت مسردق، وقال ابن الأعرابي: سرادقها سورها؛ وقال القتيبي: السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط والمعنى أنه أحاط بالكفار سرادق النار على تشبيه ما يحيط بهم من النار بالسرادق المحيط بمن فيه، وعن ابن عباس قال: حائط من نار.
وأخرج أحمد والترمذي والحاكم وصححه وغيرهم عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال " سرادق النار أربعة جدر كثافة كل جدار منها مسيرة أربعين سنة " (١) وأخرج أحمد والبخاري والحاكم وصححه عن يعلى ابن أمية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن البحر هو من جهنم ثم تلا (ناراً أحاط جهم سرادقها) " (٢).
(وإن يستغيثوا) من حر النار أي يطلبوا الإنقاذ من شدة العطش (يغاثوا) فيه مشاكلة إذ لا إغاثة لهم بالماء الآتي ذكره بل إتيانهم به وإلجاؤهم بشربه غاية الإضرار، والإغاثة هي الانقاذ من الشدة فكأنه قال يضروا ويعذبوا (بماء كالمهل) وهو الحديد المُذاب.
قال الزجاج: إنهم يغاثون بماء كالرصاص المُذاب أو الصفر، وقيل هو دردي الزيت أي ما بقي في أسفل الإناء ووجه المشابهة الثخن والرداءة في كل.
وقال أبو عبيدة والأخفش: العكر وهو كل ما أذيب من جواهر الأرض من حديد ورصاص ونحاس، وقيل هو ضرب من القطران، أخرج أحمد
_________
(١) المستدرك كتاب الأهوال ٤/ ٦٠١ - الإمام أحمد ٣/ ٢٩.
(٢) المستدرك كتاب الأهوال ٤/ ٥٩٦.
44
والترمذي وأبو يعلى وابن جرير وابن حبان والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري عن النبي ﷺ قال: " كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه فيه " (١) عن ابن عباس قال: أسود كعكر الزيت وعنه قال: ماء غليظ كدردي الزيت.
وعن ابن مسعود أنه سئل عن المهل فدعا بذهب أو فضة فأذابه فلما ذاب قال: هذا أشبه شيء بالمهل الذي هو شراب أهل النار ولونه لون السماء غير أن شراب أهل النار أشد حراً من هذا. وعن ابن عمر: هل تدرون ما المهل؛ المهل مهل الزيت، يعني آخره.
ثم وصف هذا الماء الذي يغاثون به بأنه (يشوي الوجوه) إذا قدم عليهم صارت وجوههم مشوية لحرارته، والشيّ الإنضاج بالنار من غير إحراق (بئس الشراب) شرابهم هذا الذي يغاثون به (وساءت) النار (مرتفقاً) متكأً، يقال ارتفقت أي اتكأت، وأصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخد، ويقال ارتفق الرجل إذا نام على مرفقه.
وقال القتيبي: هو المجلس والمنزل، وقيل المجتمع، وبه قال مجاهد، وإنما جاء كذلك لمشاكلة قوله (وحسنت مرتفقاً) وإلا فأي ارتفاق لأهل النار وأي متكأ.
_________
(١) الترمذي كتاب جهنم باب ٤ - الإمام أحمد ٣/ ٧١.
45
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (٣٠) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (٣١) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (٣٣) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (٣٤)
46
(إن الذين آمنوا) هذا شروع في وعد المؤمنين بعد الفراغ من وعيد الكافرين والمعنى أن الذين آمنوا بالحق الذي أوحي إليك (وعملوا الصالحات) من الأعمال (إنا لا نضيع أجر من أحسن) منهم (عملاً) وفيها إقامة الظاهر مقام المضمر، والمعنى أجرهم أي نثيبهم بما تضمنه قوله
(أولئك لهم جنات عدن) أي إقامة مستأنفة لبيان الأجر، والإشارة إلى من تقدم ذكره، وقيل أولئك خبر إن الذين آمنوا، وجملة انا لا نضيع اعتراض وقيل غير ذلك.
(تجري من تحتهم الأنهار) لأن أفضل المساكن ما كان يجري فيه الماء، وقد تقدم الكلام في كيفية جري الأنهار من تحتها (يحلون فيها من أساور من ذهب).
قال الزجاج: أساور جمع أَسْوِرَة وهي جمع سوَار وهي زينة تلبس في الزند من اليد وهي من زينة الملوك، وظاهر الآية أنها جميعها من ذهب، وجاء في آية أخرى من فضة، وفي أخرى من ذهب ولؤلؤ، فيلبسون الأساور الثلاثة، فيكون في يد الواحد منهم سوار من ذهب وآخر من فضة وآخر من لؤلؤ. فعلم من هذا أن كُلاًّ من هذه الآية ومن آية هل أتى على الإنسان، ومن
46
آية الحج ومن آية فاطر فيه الإخبار ببعض ما يحلون به، و (من) في من أساور للابتداء وقيل زائدة بدليل سقوطها في سورة هل أتى، (وحلوا أساور من فضة) و (من) في من ذهب للبيان، وحكى الفراء يَحْلَوْن بفتح الياء وسكون الحاء وفتح اللام يقال: حليت المرأة تحلى فهي حالية إذا لبست الحلي.
أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: " تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " (١).
(ويلبسون ثياباً خضراً من سندس واستبرق) عطف على يحلون وبني الفعل في التحلية للمفعول إيذاناً بكرامتهم وأن غيرهم يفعل بهم ذلك ويزيّنهم به بخلاف اللبس فإن الإنسان يتعاطاه بنفسه. وقدم التحلي على اللباس لأنه أشهى للنفس، وخص الأخضر لأنه الموافق للبصر، ولكونه أحسن الألوان.
قال الكسائي: السندس الرقيق واحده سندسة، والإستبرق ما ثخن واحده استبرقة، وكذا قال المفسرون، وقيل ليسا جمعين، وقيل الاستبرق هو الديباج، وقيل هو المنسوج بالذهب، قال القتيبي: وهو فارسي معرب، قال الجوهري: وتصغيره أبيرق قال السمين: وهل استبرق عربي الأصل مشتق من البريق أو معرب أصله استبره، خلاف بين اللغويين.
قال مرثد بن عبد الله: في الجنة شجرة تنبت السندس منه تكون ثياب أهل الجنة، وعن عكرمة قال: الاستبرق الديباج الغليظ، وعن مجاهد مثله، وفي آية الرحمن (بطائنها من استبرق) أي الفرش فيقاس عليها اللباس الذي الكلام فيه فظهارة الكل من سندس وبطانته من استبرق قال المحلى في سورة " هل أتى " فالاستبرق بطانة ثيابهم والسندس ظهارتها.
(متكئين فيها على الأرائك) أصل اتكأ أو تكأ وأصل متكئين موتكئين والاتكاء التحامل على الشيء أي يجلسون متربعين ومضطجعين. أخرج ابن
_________
(١) مسلم ٢٥٠.
47
أبي حاتم عن الهيثم بن مالك الطائي قال: قال رسول الله ﷺ " إن الرجل ليتكئ مقدار أربعين سنة لا يتحول منه ولا يمله يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه ".
قال الزجاج: الأرائك جمع أريكة وهي السرر في الحجال وقيل هي أسرة من ذهب مكللة بالدر والياقوت، وعن ابن عباس قال: الأرائك السرر في جوف الحجال عليها الفرش منضود في السماء فرسخ، وعنه قال لا يكون أريكة حتى يكون السرير في الحجلة وعن عكرمة: الأرائك هي الحجال على السرر، وفي القاموس الأريكة كسفينة سرير في حجلة، أو كل ما يتكأ عليه من سرير ومنصة وفراش، أو سرير متخذ مزين في قبة أو بيت فإن لم يكن فيه سرير فهو حجلة والجمع أرائك.
(نعم الثواب) ذلك الذي أثابهم الله به وهو الجنة (وحسنت) تلك الأرائك في الجنات (مرتفقاً) أي متكأً ومقراً ومجلساً ومنتفعاً ومسكناً ومنزلاً وقد تقدم قريباً. وقد اشتمل هذا القول على خمسة أنواع من الثواب: الأول: لهم جنات عدن، الثاني: تجري من تحتهم الخ، الثالث: يحلون فيها، الرابع: ويلبسون، الخامس: متكئين.
48
(واضرب لهم مثلاً رجلين) هذا المثل ضربه الله سبحانه لمن يتغرر بالدنيا ويستنكف عن مجالسة الفقراء فهو على هذا متصل بقوله (واصبر نفسك) وقد اختلف في الرجلين هل هما مقدران أو محققان فقال بالأول بعض المفسرين وقال بالآخر بعض آخر، واختلفوا في تعيينهما فقيل هما أخوان من بني إسرائيل أحدهما مؤمن واسمه يهوذا في قول ابن عباس، وقيل تمليخا والآخر كافر واسمه قيطوس وهما اللذان وصفهما الله في سورة (والصافات) بقوله (قال قائل منهم إني كان لي قرين).
وقيل هما أخوان مخزوميان من أهل مكة أحدهما مؤمن وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل والآخر كافر وهو الأسود بن عبد الأسد،
48
وقيل هذا مثل لعيينة بن حصن وأصحابه مع سلمان وأصحابه وانتصاب مثلاً ورجلين على أنهما مفعولا اضرب، قيل والأول هو الثاني والثاني هو الأول.
(جعلنا لأحدهما) هو الكافر (جنتين) قال السدي: الجنة البستان فكان له بستان واحد وجدار واحد وكان بينهما نهر فلذلك كانا جنتين ولذلك سماه جنة من قبل الجدار الذي عليها، وعن يحيى بن أبي عمرو الشيباني قال: نهر أبي فرطس نهر الجنتين، قال ابن أبي حاتم: وهو نهر مشهور بالرملة.
(من أعناب) بيان لما في الجنتين أي من كروم متنوعة جمع عنب والعنبة الحبة (وحففناهما بنخل) الحف الإحاطة ومنه (حافين من حول العرش) ويقال حيف القوم بفلان يحفون حفاً أي أطافوا به فمعنى الآية وجعل النخل مطيفاً بالجنتين من جميع جوانبهما وهذا مما يوثره الدهاقين في كرومهم أن يجعلوها مُوزَرَة بالأشجار المثمرة (وجعلنا بينهما) أي بين الجنتين وهو وسطهما (زرعاً) يقتات به ليكون كل واحد منهما جامعاً للأقوات والفواكه متواصل العمارة على الشكل الحسن والتركيب الأنيق.
ثم أخبر الله سبحانه عن الجنتين بأن كل واحدة منهما كانت تؤدي حملها وما فيها فقال
49
(كلتا الجنتين آتت أكلها) أخبر عن كلتا بآتت لأن لفظه مفرد يدل على التثنية فراعى جانب اللفظ. وقد ذهب البصريون إلى أن كلا وكلتا اسم مفرد غير مثنى. وقال الفراء: هو مثنى وهو مأخوذ من كل فخففت اللام وزيدت الألف للتثنية، وروعيت التثنية المعنوية في قوله الآتي، (وفجرنا خلالهما نهراً)، وأُكُلْها بضم الكاف وسكونها سبعيتان.
(ولم تظلم منه شيئاً) أي لم تنقص من أكلها شيئا في بعض السنين بل في كل سنة يأتي ثمرها وافياً؛ يقال ظلمه حقه أي أنقصه، ووصف الجنتين بهذه الصفة للإشعار بأنهما على خلاف ما يعتاد في سائر البساتين فإنها في الغالب تكثر في عام وتقل في عام، قال ابن عباس: لم ينقص كل شجر الجنة أطعمة.
49
(وفجرنا) أي أجرينا وشققنا (خلالهما) أي وسط الجنتين (نهراً) يجري بينهما يسقيهما دائماً من غير انقطاع
50
(وكان له) أي لأحدهما أو لصاحب الجنتين (ثمر) بفتح الثاء والميم وكذا قرأوا في قوله أحيط بثمره، وقرئ ثُمْر بضم الثاء وإسكان الميم في الموضعين، وبه قرأ ابن عباس وقال: هي أنواع المال.
قال الجوهري: الثمرة واحدة الثمر وجمع الثمر ثمار مثل جبل وجبال. قال الفراء: وجمع الثمار ثمر مثل كتاب وكتب، وجمع الثمر (١) أثمار مثل عنق وأعناق. انتهى. والثمرة مؤنث والجمع ثمرات مثل قصبة وقصبات، والثمر هو الحمل الذي تخرجه الشجرة سواء أكل أو لا، فيقال ثمر الأراك وثمر العوسج وثمر الدوم وهو المقل، كما يقال ثمر النخل وثمر العنب.
قال الأزهري: أثمر الشجر أطلع ثمره أول ما يخرجه فهو مثمر؛ ومن هنا قيل لما لا نفع فيه ليس له ثمرة؛ وقيل الثمر جميع المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك، سمي ثمراً لأنه يثمر ويزيد مأخوذ من ثمَّر ماله بالتشديد إذا كثَّره، وقيل الثمر هو الذهب والفضة خاصة. قاله مجاهد.
(فقال) الكافر (لصاحبه) المؤمن (وهو يحاوره) أي والكافر يحاور المؤمن والمعنى يراجعه الكلام ويجاوبه، والمحاورة المراجعة والتحاور التجاوب وحاصل ما قاله من القول الشنيع ثلاث مقالات الأولى (أنا أكثر منك مالاً وأعز نفراً) النفر الرهط وهو ما دون العشرة وأراد هاهنا الأتباع. والخدم والأولاد والعشيرة.
_________
(١) هناك فرق بين ثمر وعنق لأن " ثمر " جمع ثمار، وأما عنق فمفرد.
50
وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (٣٥) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (٣٦) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (٣٧) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (٣٨) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (٣٩) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (٤١)
51
(ودخل جنته) أي دخل الكافر جنة نفسه، قال المفسرون: أخذ بيد أخيه المسلم فأدخله جنته يطوف به فيها ويريه آثارها وعجائبها وبهجتها وحسنها وأثمارها، ويفاخر بما ملك من المال دونه، وإفراد الجنة هنا يحتمل أن وجهه كونه لم يدخل أخاه إلا واحدة منهما أو لكونهما لما اتصلتا كانتا كواحدة أو لأنه أدخله في واحدة ثم واحدة أو لعدم تعلق الغرض بذكرهما أو اكتفاء بالواحدة.
وقال المحلي: لم يقل جنتيه إرادة: للروضة. وعبارة الشهاب أفرد الجنة مع أن له جنتين لنكتة وهي أن الإضافة تأتي لما تأتي له اللام فالمراد بها العموم والاستغراق أي كل ما هو جنة له ينتفع بها فيفيد ما إفادته التثنية مع زيادة وهي الإشارة إلى أنه لا جنة له غير هذه انتهى؛ وما أبعد ما قاله صاحب الكشاف أنه وحد الجنة للدلالة على أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون.
(وهو) أي ذلك الكافر (ظالم لنفسه) بكفره وعُجْبه قال قتادة: كفور لنعمة ربه مستأنف بياني لسبب الظلم (قال) أي الكافر لفرط غفلته وطول أمله (ما أظن أن تبيد) أي تفنى وتنعدم (هذه) الجنة التي تشاهدها (أبداً)
51
وهذه هي الثانية من مقالاته والثالثة قوله
52
(وما أظن الساعة قائمة) أنكر البعث بعد إنكاره لفناء جنته.
قال الزجاج: أخبر أخاه بكفره بفناء الدنيا وقيام الساعة (ولئن رددت إلى ربي) اللام هي الموطئة للقسم والمعنى أنه والله أن يرد إلى ربه فرضاً وتقديراً كما زعم صاحبه واللام في (لأجدن) جواب القسم والشرط أي لأجدن يومئذ (خيراً منها) على الإفراد على ما في مصاحف أهل البصرة والكوفة أي من هذه الجنة، وفي مصاحف مكة والمدينة والشام منهما (منقلباً) هو المرجع والعاقبة لأنها فانية وتلك باقية قال هذا قياساً للغائب على الحاضر، وأنه كما كان غنياً في الدنيا سيكون غنياً في الآخرة اغتراراً منه بما صار فيه من الغنى الذي هو الاستدراج له من الله
(قال له) أي للكافر (صاحبه) المؤمن وقد تعقبه في الثلاثة على سبيل اللف والنشر المشوش (وهو يحاوره) أي حال محاورته له منكراً عليه ما قاله (أكفرت) بقولك (ما أظن الساعة قائمة) استفهام توبيخ وتقريع أي لا ينبغي ولا يليق منك الكفر (بالذي خلقك) أي جعل أصل خلقك (من تراب) حيث خلق أباك آدم منه وهو أصلك وأصل مادة البشر، فلكل فرد حظ من ذلك، وقيل يحتمل أنه كان كافراً بالله فأنكر عليه ما هو عليه من الكفر ولم يقصد أن الكفر حدث له بسبب هذه المقالة.
(ثم من نطفة) وهي المادة القريبة (ثم سواك رجلاً) أي صيرك
وجعلك إنساناً ذكراً بالغاً مبلغ الرجال، وعدل أعضاءك وَكَلَّمك، وهو ظاهر
كلام الحوفي، وقيل إنه حال، ومن الجائز أن يسويه غير رجل، وهو كقولهم: خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها، والأول أولى، وإنما جعل كفره بالبعث كفراً بالله، لأن منشأه الشك في كمال قدرة الله، فلذلك رتب الإنكار على خلقه إياه من التراب، وفي هذا تلويح بالدليل على البعث، وأن القادر على الابتداء قادر على الإعادة.
(لكنا) أصله لكن أنا وضمير (هو) للشأن، والمعنى أنا أقول (الله ربي) قال أهل العربية: إثبات ألف أنا في الوصل ضعيف، وعن الكسائي:
52
الأصل لكن الله هو ربي أنا، وقال الزجاج: إثبات الألف في لكنا في الإدراج جيد لأنها قد حذفت الألف من أنا فجاءوا بها عوضاً، قال: وفي قراءة أُبي لكن أنا هو الله ربي، ولا خلاف في إثباتها في الوقف، وتكلم في الجمل على هذا الألف بأطول من هذا.
ثم نفى عن نفسه الشرك بالله تعالى فقال (ولا أشرك بربي أحداً) فيه إشارة إلى أن أخاه كان مشركاً ثم أقبل عليه يلومه على الثانية فقال:
53
(ولولا إذ دخلت جنتك قلت) لولا للتحضيض أي هَلَّا قلت عندما دخلتها (ما شاء الله) قال الفراء والزجاج: هلا قلت حين دخلتها الأمر بمشيئة الله وما شاء الله كان، وقيل كائن أي أَيُّ شيء شاء الله كان فترد أمر جنتك من الحسن والنضارة لخالقه ولا تفتخر به لأنه ليس من صنعك.
وِقوله (لا قوة إلا بالله) من جملة مقول، أي هلا قلت هاتين الجملتين تحضيضاً له على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى، إن شاء أبقاها وإن شاء أفناها، وعلى الاعتراف بالعجز، وأن ما تيسر له من عمارتها وحسنها ونضارتها إنما هو بمعونة الله لا بقوته وقدرته.
وهذا نصح من المؤمن للكافر وتوبيخ له على قوله (ما أظن أن تبيد هذه أبدًا) قال الزجاج: لا يقوي أحد على ما في يده من ملك ونعمة إلا بالله ولا يكون إلا ما شاء الله.
أخرج ابن أبي حاتم عن أسماء بنت عميس قالت: علمني رسول الله ﷺ كلمات أقولهن عند الكرب: الله الله ربي لا أشرك به شيئاً، وأخرج أبو يعلى وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أنعم الله على عبد نعمة في أهل أو مال أو ولد فيقول ما شاء الله لا قوة إلا بالله إلا دفع الله عنه كل آفة حتى تأتيه منيته "، وقرأ هذه الآية (١) وفي إسنادهِ عيسى بن عون. وروي عن أنس نحوه موقوفاً.
_________
(١) ضعيف الجامع الصغير ٥٠٢٨ - سلسلة الأحاديث الضعيفة ٢٠١٢.
53
وأخرج أحمد من حديث أبي هريرة قال: قال لي رسول الله ﷺ " ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟ قلت نعم، قال أن تقول لا حول ولا قوة إلا بالله " (١).
وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي موسى أن النبي ﷺ قال له " ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله " (٢)، وقد وردت أحاديث وآثار عن السلف في فضل هذه الكلمة.
ثم لما علمه الإيمان وتفويض الأمور إلى الله سبحانه أجابه عن افتخاره بالمال والنفر فقال (إن ترن) الرؤية علمية أو بصرية (أنا أقل منك مالاً وولداً) أي لأجل ذلك تكبرت وتعظمت عليَّ ويجوز في أنا وجهان أحدهما: أن يكون مؤكد الياء المتكلم، والثاني: أنه ضمير الفصل بين المفعولين، وأقل مفعول ثان أو حال بحسب الوجهين في الرؤية، إلا أنك إذا جعلتها بصرية تعين في أنا أن يكون توكيداً لا فصلاً، لأن شرطه أن يقع بين مبتدأ وخبر، أو ما أصله المبتدأ والخبر.
وقرأ عيسى بن عمر أقلُّ بالرفع ويتعين أنا مبتدأ وأقل خبره، والجملة إما في موضع المفعول الثاني وإما في موضع الحال على ما تقدم في الرؤية، ومالاً وولداً تمييزان وجواب الشرط قوله:
_________
(١) الإمام أحمد ٥/ ١٧٢ بلفظ: " هل لك بكنز من كنوز الجنة؟ ".
(٢) مسلم ٢٧٠٤ - البخاري ١٤٢٣.
54
(فعسى ربي أن يؤتين) أي إن ترني أفقر منك فأنا أرجو أن يرزقني الله سبحانه جنة (خيراً من جنتك) في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما، وفي الأول يكون الكافر أشد غيظاً وحسرة، وهذا رجاء من المؤمن وقرع على مقالة الكافر الأولى (ويرسل عليها) أي على جنتك (حُسباناً) هو مصدر بمعنى الحساب كالغفران، أي مقداراً قدره الله عليها ووقع في حسابه سبحانه وهو الْحَكَم بتخريبها قال الزجاج الحسبان من الحساب، أي يرسل عليها عذاب الحساب، وهو حساب ما كسبت يداك وهو حسن.
54
وقال الأخفش (حسباناً) أي مرامي وقيل ناراً (من السماء) وأحدها حسبانة، وكذا قال أبو عبيدة والقتيبي والكرخي.
وقال ابن الأعرابي: الحسبانة السحابة والوسادة والصاعقة وقال قتادة: حسباناً عذاباً، وقال النضر بن شميل: الحسبان سهام يرمى بها الرجل في جوف قصبة تنزع من قوس ثم يرمى بعشرين منها دفعة، والمعنى يرسل عليها مرامي من عذابه إما برد وإما حجارة أو غيرهما مما يشاء من أنواع العذاب.
(فتصبح صعيداً زلقاً) مثل الجرز، قاله ابن عباس، أي فتصبح جنة الكافر بعد إرسال الله سبحانه عليها حسباناً أرضاً جرداء ملساء لا نبات فيها ولا يثبت عليها قدم.
وقال قتادة: أي قد حصد ما فيها فلم يترك فيها شيء، وفي اللغة من جملة معاني الصعيد وجه الأرض، وزلقاً أي تزل فيه الأقدام لملامستها، يقال مكان زلق بالتحريك أي دحض، وقيل رملاً هائلاً، وهو في الأصل مصدر قولك زَلَقَت رجله تَزْلُقُ زلقاً وأزْلَقَها غيره، والمَزْلَقَةَ الموضع الذي لا تثبت عليه قدم وكذا الزلاقة، وصف الصعيد بالمصدر مبالغة أو أريد به المفعول وصيرورتها كذلك لاستئصال نباتها وأشجارها بالذهاب والإهلاك فلم يبق له أثر.
55
(أو يصبح ماؤها غوراً) أي ذاهباً في الأرض لا تناله الأيدي ولا الدلاء ولا سبيل إليه، والغور والغائر، وصف الماء بالمصدر مبالغة والمعنى أنها تصير عادمة للماء بعد أن كانت واجدة له وكان خلالها ذلك النهر يسقيها دائماً، ويجيء الغور بمعنى الغروب، والعطفُ على يرسل دون تصبح لأن غور الماء لا يتسبب عن الصواعق والرامي قال أبو حيان إلا أن عنى بالحسبان القضاء الإلهي فحينئذ يتسبب عنه إصباح الجنة صعيداً زلقاً أو إصباح مائها غوراً.
(فلن تستطيع له طلباً) أي لن تستطيع لطلب الماء الغائر فضلاً عن وجوده ورده ولا تقدر عليه بحيلة من الحيل تدركه بها، وقيل المعنى فلن تستطيع طلب غيره عوضاً عنه.
55
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (٤٣) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (٤٤) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (٤٥)
ثم أخبر سبحانه عن وقوع ما رجاه ذلك المؤمن وتوقعه من إهلاك جنة الكافر فقال
56
(وأحيط بثمره) أي أمواله كالنقد والمواشي وهذا راجع لقوله (وكان له ثمر) وأصل الإحاطة من إحاطة العدو بالشخص كما تقدم في قوله (إلا أن يحاط بكم) وهي عبارة عن إهلاكه وإفنائه وهو معطوف على مقدر كأنه قيل فوقع ما توقعه المؤمن فهلكت جنته بالصواعق وغور الماء وأحيط بثمره أي أحاط العذاب والهلاك بثمره.
(فأصبح) أي صار صاحبها الكافر (يقلب كفيه) أي يضرب إحدى يديه على الأخرى ويصفق بكف على كف وهو كناية عن الندم والتحسر كأنه قيل فأصبح يتندم (على ما أنفق فيها) أي في عمارتها وإصلاحها من الأموال، وقيل المعنى يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق لأن الملك قد يعبر عنه باليد من قولهم في يده مال، وهو بعيد جداً، قال قتادة: يصفق على ما أنفق فيها متلهفاً على ما فاته.
(وهي خاوية على عروشها) أي والحال أن تلك الجنة ساقطة على دعائمها التي تعمد بها الكروم أو ساقط بعض تلك الجنة على بعض مأخوذ من خوت النجوم تخوى إذا سقطت ولم تمطر في نوئها ومنه قوله تعالى: (فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا) قيل وتخصيص ماله عروش بالذكر دون النخل والزرع لأنه الأصل وأيضاً ذكر إهلاكها مغن عن ذكر إهلاك الباقي. والعرش شبه بيت من جريد
56
يجعل فوقه التمام (١)، الجمع عروش والعريش مثله وجمعه عُرُش بضمتين كبريد وَبُرُد، وعريش الكرم ما يُعْمل مرتفعاً يمتد عليها الكرم؛ والجمع عرائش أيضاً، وقال الشهاب: جمع عرش وهو ما يصنع ليوضع عليها الكرم فإذا سقط سقط ما عليه.
(ويقول يا ليتني لم أشرك بربي أحداً) هذه الجملة معطوفة على جملة يقلب كفيه أو حال من ضميره أي وهو يقول يعني أنه تذكر موعظة أخيه المؤمن فعلم أنه أتى من جهة شركه وطغيانه فتمنى عند مشاهدته الهلاك لجنته بأنه لم يشرك بالله حتى تسلم جنته من الهلاك، أو كان هذا القول منه على حقيقته لا لما فاته من الغرض الدنيوي بل لقصد التوبة من الشرك والندم على ما فرط منه، والأول هو الأقرب إذ يؤيده قوله:
_________
(١) الثُّمامَ: عشب من الفصيلة النجيلية يسمو إلى مائة وخمسين سنتيمتراً.
57
(ولم تكن) بالتاء والياء سبعيتان (له) خبر كان (فئة) اسمها (ينصرونه من دون الله) صفة لفئة أي فئة ناصرة بدفع الهلاك عنها أو بردّ الهالك منها، أو بردّ مثله عليه، وقيل هو الخبر، ورجح الأول سيبويه والثاني المبرد واحتج بقوله (ولم يكن له كفواً أحد) والمعنى: أنها لم تكن له فرقة وجماعة يلتجئ إليها وينتصر بها ولا نفعه النفر الذين افتخر بهم فيما سبق.
(وما كان) في نفسه (منتصراً) أي ممتنعاً بقوته عن إهلاك الله لجنته وانتقامه منه وقادراً على واحد من هذه الأمور.
(هنالك) أي في ذلك المقام؛ وقيل يوم القيامة (الولاية) بفتح الواو النصرة وبكسرها الملك أي القهر والسلطنة (لله) وحده لا يقدر عليها غيره (الحق) بالجر صفة الجلالة وبالرفع صفة الولاية وكل منهما راجع لفتح الواو وكسرها فالقراءات أربعة وكلها سبعية، قال الزجاج: ويجوز النصب على المصدر والتوكيد كما تقول هذا لك حقاً، وقيل هو على التقديم والتأخير أي الولاية لله الحق هنالك.
57
(هو) سبحانه (خير ثواباً) أي إثابة لأوليائه أي إعطاء للثواب في الدنيا والآخرة من غيره لو كان يثيب (وخير عقباً) أي عاقبة قرئ عقباً بسكون القاف وضمها وهما سبعيتان بمعنى واحد أي هو خير عاقبة لمن رجاه وآمن به يقال هذا عاقبة أمر فلان، وعقباه أي أخراه؛ ثم ضرب سبحانه مثلاً آخر لجبابرة قريش فقال:
58
(واضرب) أي اذكر وقرر (لهم) أي لقومك (مثل الحياة الدنيا) أي ما يشبه الحياة الدنيا في حسنها ونضارتها وسرعة زوالها لئلا يركنوا إليها وقد تقدم هذا المثل في سورة يونس. ثم بين سبحانه هذا المثل فقال (كماء) أي كصفة وحال وهيئة ماء، فالمشبه هيئة الدنيا بهيئة ماء.
(أنزلناه من السماء فاختلط) أي تكاثف وغلظ (به) أي بسبب نزول الماء (نبات الأرض) حتى استوى والتف بعضه على بعض أو امتزج الماء بالنبات فَرَوَى وحسن.
وعلى هذا كان حق التركيب أن يقال فاختلط بنبات الأرض، لكن لما
كان كل من المختلطين موصوفاً بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته.
(فأصبح) أي صار النبات عن قريب (هشيماً) يابساً والهشيم الكسير واحده هشيمة وهو اليابس وهو من النبات ما تكسر بسبب انقطاع الماء عنه وَتَفتت، ورجل هشيم ضعيف البدن وتهشم عليه فلان إذا تعطف، واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه، وهشم الثريد كسره وثرده. قال ابن قتيبة: كل ما كان رطباً فيبس فهو هشيم.
(تذروه) تفرقه وتنثره، قال أبو عبيدة وابن قتيبة: تذروه تنسفه (الرياح) قال ابن كيسان: أي تذهب به وتجيء والمعنى متقارب، وقرئ تذريه، يقال ذرته الريح تذروه وأذرته تذريه. وحكى الفراء: أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته (وكان الله على كل شيء) من الأشياء (مقتدراً) أي كامل القدرة يحييه ويفنيه بقدرته لا يعجز عن شيء.
58
الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (٤٦) وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (٤٧) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (٤٩)
59
(المال والبنون زينة الحياة الدنيا) يتجمل بهما فيها، وهذا رد على الرؤساء الذين كانوا يفتخرون بالمال والغنى والأبناء فأخبرهم الله سبحانه أن ذلك مما يتزين به في الدنيا لا مما ينتفع به في الآخرة كما قال في الآية الأخرى (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) وقال (إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم) وقال (لا ينفع مال ولا بنون) الآية.
وهذا إشارة إلى قياس حذفت كبراه ونتيجته. ونظمه هكذا: المال والبنون زينة الحياة الدنيا، وكل ما هو زينتها فهو هالك غير باق ينتج المال والبنون هالكان، ثم يقال وكل ما هو هالك فلا يفتخر به، فالمال والبنون لا يفتخر بهما، ولهذا عقب هذه الزينة الدنيوية بقوله:
(والباقيات الصالحات) أي أعمال الخيرات التي تبقى له ثمرتها أبد الأبد، وهي ما كان يفعله فقراء المسلمين من الطاعات (خير) أي أفضل من هذه الزينة بالمال والبنين (عند ربك ثواباً) وأكثر عائدة ومنفعة لأهلها (وخير أملاً) يعني أن الأعمال الصالحة لأهلها من الأمل أفضل مما يؤمله أهل المال والبنين لأنهم ينالون بها في الآخرة أفضل مما كان يؤمله هؤلاء الأغنياء في الدنيا.
59
وليس في زينة الدنيا خير حتى تفضل عليها الآخرة، ولكن هذا التفضيل خرج مخرج قوله تعالى (أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً) والظاهر أن الباقيات الصالحات كل عمل خير فلا وجه قصرها على الصلاة كما قال بعض، ولا لقصرها على نوع من أنواع الذكر كما قاله بعض آخر، ولا على ما كان يفعله فقراء المهاجرين باعتبار السبب، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وبهذا يعرف أن تفسير الباقيات الصالحات في الأحاديث بما سيأتي لا ينافي إطلاق هذا اللفظ على ما هو عمل صالح من غيرها.
عن عليّ قال: المال والبنون حَرْثُ الدنيا والعمل الصالح حَرْثُ الآخرة، وقد جمعهما الله لأقوام. عن ابن عباس قال: الباقيات الصالحات سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وأخرج سعيد بن منصور وأحمد وأبو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " استكثروا من الباقيات الصالحات. قيل وما هن يا رسول الله؟ قال: التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ولا حول ولا قوة إلا بالله " (١).
وأخرج الطبراني وغيره عن أبي الدرداء مرفوعاً بلفظ " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله هن الباقيات الصالحات ". وأخرج النسائي والطبراني في الصغير والبيهقي وغيرهم عن أبي هريرة مرفوعاً: خذوا جُنَّتَكم. قيل يا رسول الله من أي عدو قد حضر؟ قال: " بل جُنَّتُكم من النار قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله
_________
(١) المستدرك كتاب الدعاء ١/ ٥١٢.
60
أكبر، فإنهن يأتين يوم القيامة مقدمات معقبات ومجنبات، وهي الباقيات الصالحات (١). وعن عائشة مرفوعاً وزادت ولا حول ولا قوة إلا بالله ". أخرجه ابن أبي شيبة وابن المنذر.
وكل هذه الأحاديث مصرحة بأنها الباقيات الصالحات. وأما ما ورد في فضل هذه الكلمات من غير تقييد بكونها المرادة في الآية فأحاديث كثيرة ولا فائدة في ذكرها هاهنا.
وعن قتادة: كل شيء من طاعة الله فهو من الباقيات الصالحات، فيندرج فيها ما فسرت به من الصلوات الخمس وأعمال الحج والعمرة وصيام رمضان والكلام الطيب وغير ذلك اندراجاً أولياً.
_________
(١) صحيح الجامع الصغير ٣٢٠٩ - الروض النضير ١٠٩٢.
61
(ويوم نسير الجبال) بالنون على أن فاعله هو الله سبحانه، وقرئ بالتحتية وبالفوقية على أن الجبال فاعل، ويناسب الأولى قوله تعالى (وإذا الجبال سيرت) ويناسب الثانية قوله تعالى (وتسير الجبال سيراً) ومعنى تسيير الجبال إزالتها من أماكنها، وتسييرها كما تسير السحاب، ومنه قوله تعالى (وهي تمر مر السحاب) ثم تعود إلى الأرض بعد أن جعلها الله كما قال (وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثاً) والمعنى نذهب بها عن وجه الأرض ونجعلها هباء منثوراً كما يسير السحاب.
والخطاب في قوله (وترى الأرض بارزة) لرسول الله ﷺ أو لكل من يصلح للرؤية، والرؤية بصرية، ومعنى بروزها ظهورها وزوال ما يسترها من الجبال والشجر والبنيان.
وقيل المراد ببروزها بروز ما فيها من الكنوز والأموات كما قال سبحانه (وألقت ما فيها وتخلت) وقال (وأخرجت الأرض أثقالها) فيكون المعنى وترى
61
الأرض بارزاً ما في جوفها. قال قتادة: ليس عليها بناء ولا شجر ولا بحر ولا حيوان وعن مجاهد نحوه.
(وحشرناهم) أي الخلائق، ومعنى الحشر الجمع أي جمعناهم إلى الموقف من كل مكان وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ماض مراد به المستقبل أي ونحشرهم، وكذلك وعرضوا ووضع الكتاب الآتيان. والثاني: أن الواو للحال أي نفعل التسيير في حال حشرهم ليشاهدوا تلك الأهوال، والثالث: للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا تلك الأهوال، قاله الزمخشري. قال الشيخ: والأولى أن تكون الواو للحال.
(فلم نغادر) فلم نترك (منهم أحداً) والمفاعلة هنا ليس فيها مشاركة، يقال غادره وأغدره إذا تركه، ومنه الغدر، لأن الغادر يترك الوفاء للمغدور؛ قالوا: وإنما سمي الغدير غديراً لأن الماء ذهب وتركه والسيل غادره، ومنه غدائر المرأة لأنها تجعلها خلفها، والغديرة الشعر الذي نزل حتى طال.
62
(وعرضوا علِى ربك صفاً) أي مصفوفين كل أمة وزمرة صف، وقيل عرضوا صفاً واحداً كما في قوله (ثم ائتوا صفاً) أي جميعاً وهو أبلغ في القدرة؛ وقيل قياماً وفي الآية تشبيه حالهم بحال الجيش الذي يعرض على السلطان ليقضي بينهم لا ليعرفهم قاله الكرخي. وخرج الحافظ أبو القاسم عبد الرحمن بن منده في كتاب التوحيد عن معاذ بن جبل أن النبي ﷺ قال: " إن الله تبارك وتعالى ينادي بصوت رفيع غير فظيع: يا عبادي أنا الله لا إله إلا أنا أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين وأسرع الحاسبين، يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون، أحضروا حجتكم وشروا جوابكم فإنكم مسؤولون محاسبون، يا ملائكتي أقيموا عبادي على أطراف أنامل أقدامهم للحساب ".
62
قال القرطبي: هذا حديث غاية في البيان في تفسير الآية ولم يذكره كثير من المفسرين، وقد كتبناه في كتاب التذكرة. أهـ.
ويقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ أو قلنا لهم (لقد جئتمونا كما خلقناكم) أي مجيئاً كائناً كمجيئكم عند أن خلقناكم (أول مرة) أو كائنين كما خلقناكم أول مرة، أي حفاة عراة غرلاً لا مال ولا ولد، كما ورد ذلك في الحديث. قال الزجاج: أي بعثناكم واعدناكم كما خلقناكم، لأن قوله (لقد جئتمونا) معناه بعثناكم وبه قال الزمخشري.
(بل زعمتم) هذا ضرب وانتقال من كلام إلى كلام للتقريع والتوبيخ، وهو خطاب لمنكري البعث، أي زعمتم في الدنيا (أن لن نجعل لكم موعداً) نجازيكم بأعمالكم وننجز ما وعدناكم به من البعث والعذاب.
63
(ووضع) العامة على بنائه للمفعول، وزيدُ بنُ عليّ على بنائه للفاعل وهو الله أو الملك وقوله (الكتاب) مرفوع على الأول ومنصوب على الثاني، والمراد به صحائف الأعمال، وإفراده لكون التعريف فيه للجنس والوضع إما حسي بأن توضع صحيفة كل واحد في يده، السعيد في يمينه والشقي في شماله أو في الميزان وإما عقلي أي أظهر عمل كل واحد من خير أو شر بالحساب الكائن في ذلك اليوم وقيل: توضع بين يدي الله تعالى.
(فترى المجرمين مشفقين مما فيه) أي خائفين وجلين مما في الكتاب الموضوع من الأعمال السيئة لما يتعقب ذلك من الافتضاح في ذلك الجمع والمجازاة بالعذاب الأليم (ويقولون) إذا رأوها (يا ويلتنا) يدعون على أنفسهم بالويل لوقوعهم في الهلاك وهو مصدر لا فعل له من لفظه ونداؤها على تشبيهها بشخص يطلب إقباله كأنه قيل يا هلاكنا أقبل فهذا أوانك ففيه استعارة مكنية وتخييلية، وفيه تقريع لهم وإشارة إلى أنه لا صاحب لهم غير الهلاك وطلبوا هلاكهم لئلا يروا ما هم فيه وقد تقدم تحقيقه في المائدة.
63
(ما) أي شيء ثبت (لهذا الكتاب) حال كونه (لا يغادر) لا يترك معصية (صغيرة ولا) معصية (كبيرة إلا أحصاها) أي عدها وحواها وضبطها وأثبتها، قال ابن عباس: الصغيرة التبسم والكبيرة الضحك، وفي لفظ عنه الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمنين والكبيرة القهقهة بذلك، وقال سعيد بن جبير الصغيرة الهم والمس والقبلة والكبيرة الزنا.
وأقول صغيرة وكبيرة نكرتان في سياق النفي فيدخل تحت ذلك كل ذنب يتصف بالصغر وكل ذنب يتصف بالكبر فلا يبقى شيء من الذنوب إلا أحصاه الله وما كان من الذنوب ملتبساً بين كونه صغيراً أو كبيراً فذلك إنما هو بالنسبة إلى العباد لا بالنسبة إلى الله سبحانه، وهذا لا ينافي قوله تعالى (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه) الآية. إذ لا يلزم من العد عدم التكفير إذ يجوز أن تكتب الكبائر ليشاهدها العبد يوم القيامة ثم تكفر عنه فعلم قدر نعمة العفو عليه، قاله الكرخي والاستفهام للتعجب منه في ذلك.
(ووجدوا ما عملوا) في الدنيا من المعاصي الموجبة للعقوبة أو وجدوا جزاء ما عملوا (حاضراً) مكتوباً مثبتاً في كتابهم (ولا يظلم ربك أحداً) أي لا يعاقب أحداً من عباده بغير ذنب وجرم ولا ينقص فاعل الطاعة من أجره الذي يستحقه وإنما سمي هذا ظلماً بحسب عقولنا لو خليت ونفسها ولو فعله الله لم يكن ظلماً في حقه لأنه لا يسئل عما يفعل.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات: فأما عرضتان فجدال ومعاذير، وأما العرضة الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله " (١) أخرجه الترمذي وقال: لا يصح من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد رواه بعضهم عن الحسن عن أبي موسى.
_________
(١) الترمذي كتاب القيامة باب ٤ - الإمام أحمد ٤/ ٤١٤.
64
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (٥٠) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (٥٣)
ثم إنه سبحانه عاد إلى الرد على أرباب الخيلاء من قريش فذكر قصة آدم واستكبار إبليس عليه فقال
65
(وإذ قلنا للملائكة) أي واذكر وقت قولنا لهم (اسجدوا لآدم) سجود تحية وتكريم بالخرور كما مر تحقيقه (فسجدوا) طاعة لأمر الله وامتثالاً لطلبه السجود.
(إلا إبليس) فإنه أبى واستكبر ولم يسجد (كان من الجن) مستأنفة لبيان سبب عصيانه وأنه لم يكن من الملائكة فلهذا عمى، والاستثناء منقطع وإبليس هو أبو الجن وأصلهم كما أن آدم أصل الإنس وله ذرية ذكرت معه بعد، والملائكة لا ذرية لهم، وقيل كان من حي من الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم.
وعلى هذا القول فقد نقل عن ابن عباس أن هذا النوع يتوالد وليس
معصوماً والاستثناء متصل وكونه، من الملائكة لا ينافي كونه من الجن بدليل قوله
سبحانه (وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً) وذلك أن قريشاً قالت: إن الملائكة بنات الله فهذا يدل على أن الملك يسمى جناً وتعضده اللغة لأن الجن من الاجتنان وهو الستر فتدخل الملائكة فيه، فكل ملائكة جن لاستتارهم وليس كل جن ملائكة.
65
ووجه كونه من الملائكة أن الله سبحانه استثناه من الملائكة والاستثناء يفيد إخراج ما لولاه لدخل أو يصح دخوله وذلك يوجب كونه من الملائكة، ووجه من قال إنه من الجن هذه الآية. والجن جنس مخالف للملائكة. وأجيب عن الاستثناء بأنه منقطع كما تقدم وهو مشهور في كلام العرب قال تعالى (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني) وقال تعالى (لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً).
(ففسق عن أمر ربه) أي خرج عن طاعته بترك السجود لأدم عليه السلام قال الفراء: تقول العرب فسقت الرطبة عن قشرها لخروجهما منه، قال النحاس: اختلف في معناه على قولين: الأول مذهب الخليل وسيبويه أن المعنى أتاه الفسق لما أمر فعمى فكان سبب الفسق أمر ربه كما تقول أطعمه من جوع، والقول الآخر قول قطرب أن المعنى على حذف المضاف أي فسق عن ترك أمره.
وعن ابن عباس قال: إن من الملائكة قبيلة يقال لهم الجن فكان إبليس منهم وكان يوسوس ما بين السماء والأرض فعصى فسخط الله عليه فمسخه شيطاناً رجيماً وعنه قال: كان خازن الجنان فسمي بالجان، وعن الحسن قال: قاتل الله أقواماً زعموا أن إبليس كان من الملائكة والله يقول كان من الجن وعنه قال: ما كان من الملائكة طرفة عين إنه لأصل الجن كما أن آدم أصل الإنس.
ثم إنه سبحانه عجب من حال من أطاع إبليس في الكفر والمعاصي وخالف أمر الله فقال (أفتتخذونه) كأنه قال أعقيب ما وجد منه من الإباء والفسق تتخذونه (و) تتخذون (ذريته) أي أولاده، وقيل أتباعه مجازاً، قال قتادة: يتوالدون كما يتوالد بنو آدم، وقال مجاهد: من ذرية إبليس لاقس وولهان وهما صاحبا الطهارة والصلاة اللذان يوسوسان فيهما ومن ذريته مرة وبه
66
يكنى وزلنبور وبتر الأعور ومطروس وداسم.
(أولياء من دوني) فتطيعونهم بدل طاعتي وتستبدلونهم بي (و) الحال أن (هم) أي إبليس وذريته (لكم عدو) أي أعداء وأفرده لكونه اسم جنس أو لتشبيهه بالمصادر كما في قوله: (فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) وقوله هم العدو أي كيف تصنعون هذا الصنيع وتستبدلون بمن خلقكم وأنعم عليكم بجميع ما أنتم فيه من النعم بمن لم يكن لكم منه منفعة قط بل هو عدو لكم يترقب حصول ما يضركم في كل وقت.
(بئس للظالمين) الواضعين للشيء في غير موضعه المستبدلين بطاعة ربهم طاعة الشيطان فبئس ذلك البدل الذي استبدلوه (بدلاً) عن الله سبحانه والتقدير بئس البدل إبليس وذريته.
67
(ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم) قال أكثر المفسرين: الضمير للشركاء؛ والمعنى أنهم لو كانوا شركاء لي في خلقهما وفي خلق أنفسهم لكانوا مشاهدين خلق ذلك مشاركين لي فيه ولكنهم لم يشاهدوا ذلك ولا أشهدتهم إياه أنا فليسوا لي بشركاء وهذا استدلال بانتفاء اللازم المساوي على انتفاء الملزوم.
وقيل الضمير للمشركين الذين التمسوا طرد فقراء المؤمنين والمراد أنهم ما كانوا شركاء لي في تدبير العالم بدليل أني ما أشهدتهم خلق ذلك، وقيل المعنى أن هؤلاء الظالمين جاهلون بما جرى به القلم في الأزل لأنهم لم يكونوا مشاهدين خلق العالم فكيف يمكنهم أن يحكموا بحسن حالهم عند الله، وقيل ما أشهدت الملائكة فكيف يعبدونهم، وقيل جميع الخلائق والأول من هذه الوجوه أولى لما يلزم في الوجهين الأخرين من تفكيك الضميرين وهذه الجملة مستأنفة لبيان عدم استحقاقهم للاتخاذ المذكور.
67
وقرئ ما أشهدناهم، ويؤيد الأولى (وما كنت متخذ المضلين عضداً) أي ما اعتضدت بهم بل هم كسائر الخلق، وفيه وضع الظاهر موضع المضمر إذ المراد بالمضلين من انتفى عنهم إشهاد خلق السماوات والأرض، والعضد يستعمل كثيراً في معنى العون، وذلك أن العضد قوام اليد ومنه قوله سنشد عضدك بأخيك أي سنعينك ونقويك به، ويقال لم عضدت بفلان إذا استعنت به وذكر العضد على جهة المثل وأصله العضو الذي هو من المرفق إلى الكتف ففي الكلام استعارة.
وخص المضلين بالذكر لزيادة الذم والتوبيخ والمعنى ما استعنت بهم على خلقهما ولا شاورتهم وما كنت متخذ الشياطين أو الكافرين أعواناً، ووحد العضد لموافقة الفواصل. وقرئ ما كنت على أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم أي ما كنت يا محمد متخذاً لهم عضداً ولا صح لك ذلك، وفي عضد لغات أفصحها فتح العين وضم الضاد وبها قرأ الجمهور.
ثم عاد سبحانه إلى ترهيبهم بأحوال القيامة فقال
68
(و) اذكر (يوم يقول) الله عز وجل للكفار توبيخاً لهم وتقريعاً (نادوا شركائي الذين زعمتم) أنهم ينفعونكم ويشفعون لكم، وأضافهم سبحانه إلى نفسه جرياً على ما يعتقده المشركون تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً (فدعوهم) أي فعلوا ما أمرهم الله به من دعاء الشركاء واستغاثوا بهم والمعنى على الاستقبال كما هو ظاهر (فلم يستجيبوا لهم) ذلك ولم ينصروهم أي لم يقع منهم مجرد الاستجابة لهم فضلاً عن أن ينفعوهم أو يدفعوا عنهم.
(وجعلنا بينهم) أي بين هؤلاء المشركين وبين من جعلوهم شركاء لله أو بين المؤمنين والكفار (موبقاً) ذكر جماعة من المفسرين أنه اسم واد عميق في جهنم فرق الله تعالى به بينهم؛ وبه قال أنس وزاد: من قيح ودم.
68
وقال ابن عمر: فرق الله به يوم القيامة بين أهل الهدى وأهل الضلاله، وقيل: هو نهر تسيل منه نار وعلى حافتيه حيات مثل البغال الدهم، وقيل: الموبق البرزخ البعيد لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان، وعلى هذا فهو اسم مكان.
قال ابن الأعرابي: كل حاجز بين الشيئين فهو موبق، وقال الفراء: الموبق المهلك، وبه قال مجاهد وابن عباس، والمعنى جعلنا تواصلهم في الدنيا مهلكاً لهم في الآخرة يقال وَبِق يَوْبَق فهو وَبِقٌ هكذا ذكره الفراء في المصادر، وحكى الكسائي وَبِق يَبِق وبوقاً فهو وابق، والمراد بالمهلك على هذا هو عذاب النار يشتركون فيه، والأول أولى لأن من جملة من زعموا أنهم شركاء لله الملائكة وعزير والمسيح فالموبق هو المكان الحائل بينهم، وقال أبو عبيدة: الموبق هنا الموعد للهلاك، وقد ثبت في اللغة أَوْبَقَهُم بمعنى أهلكهم ولكن المناسب لمعنى الآية هو المعنى الأول.
69
(ورأى المجرمون النار) أي عاينوها من مسيرة أربعين عاماً وهو موضوع موضع الضمير للإشارة إلى زيادة الذم لهم بهذا الوصف المسجل عليهم به (فظنوا) أي أيقنوا (أنهم مواقعوها) أي داخلوها وواقعون فيها، والمواقعة المخالطة بالوقوع فيها، وقيل: أن الكفار يرون النار من مكان بعيد فيظنون ذلك ظناً (ولم يجدوا عنها مصرفاً) أي معدلاً يعدلون إليه أو انصرافاً لأن النار قد أحاطت بهم من كل جانب.
قال الواحدي: اْلمَصْرِف الموضع الذي ينصرف إليه. وقال القتيبي: أي معدلاً ينصرفون إليه، وقيل ملجأً يلجأون إليه، والمعنى متقارب في الجميع.
69
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (٥٤) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (٥٥) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (٥٦) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (٥٧)
ولما ذكر سبحانه افتخار الكفرة على فقراء المسلمين بأموالهم وعشائرهم وأجابهم عن ذلك وضرب لهم الأمثال الواضحة، حكى بعض أهوال الآخرة فقال
70
(ولقد صرفنا) أي كررنا ورددنا وبينا (في هذا القرآن للناس) أي لأجلهم ولرعاية مصلحتهم ومنفعتهم (من كل مثل) من الأمثال التي من جملتها الأمثال المذكورة في هذه السورة ليتذكروا ويتعظوا، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة بني إسرائيل وحين لم يترك الكفار ما هم فيه من الجدل بالباطل ختم الآية بقوله (وكان الإنسان أكثر شئ جدلاً) أي خصومة في الباطل.
قال الزجاج: المراد بالإنسان الكافر، واستدل عليه بقوله تعالى (ويجادل الذين كفروا بالباطل).
وقيل المراد به في الآية النضر بن الحرث؛ وقيل أراد أبي بن خلف، والظاهر العموم وأن هذا النوع أكثر شيء يتأتى منه الجدل جدلاً، ويؤيد هذا ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث عليّ أن النبي ﷺ طرقه وفاطمة ليلاً فقال ألا تصليان، فقلت يا رسول الله إن أنفسنا بيد الله إن شاء أن يبعثنا بعثنا، فانصرف حين قلت ذلك ولم يرجع إليّ شيئاً، ثم سمعته يضرب فخذه ويقول (وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً) (١).
_________
(١) مسلم ٧٧٥ - البخاري ٦١٦.
(وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى) قد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة بني إسرائيل، والناس هنا أهل مكة، والهدى القرآن أو محمد ﷺ (ويستغفروا ربهم إلا أن تأتيهم سنة الأولين) المعنى على حذف مضاف؛ أي ما منع الناس من الإيمان والاستغفار إلا طلب أو انتظار إتيان سنة الأولين، وإنما احتيج إلى حذف المضاف إذ لا يمكن جعل إتيان سنة الأولين مانعاً عن إيمانهم، فإن المانع يقارن المنوع، وإتيان العذاب متأخر عن عدم إيمانهم بمدة كثيرة.
وزاد الاستغفار في هذه السورة لأنه قد ذكر هنا ما فرط منهم من الذنوب التي من جملتها جدالهم بالباطل، وسنة الأولين هو أنهم إذا لم يؤمنوا عذبوا عذاب الاستئصال. قال قتادة: عقوبة الأولين، وقال الزجاج: سنتهم هو قولهم (إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) الآية.
(أو يأتيهم العذاب) أي عذاب الآخرة (قبلاً) جمع قبيل، قاله الفراء أي متفرقاً يتلو بعضه بعضاً، وقيل عياناً وجهاراً، قاله الأعمش، وقيل فجاءة. قاله مجاهد.
ويناسب ما قاله الفراء قراءة قُبُلاً بضمتين فإنه جمع قبيل نحو سبيل وسبل، والمراد أصناف العذاب ويناسب التفسير الثاني، أي عياناً قراءة قبَلاً بكسر القاف وفتح الباء أي مقابلة ومعاينة، وقرئ بفتحتين على معنى أو يأتيهم العذاب مستقبلاً، فحاصل معنى الآية أنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الدنيا المستأصل لهم أو عند إتيان أصناف عذاب الآخرة أو معاينته.
(وما نرسل المرسلين) من رسلنا إلى الأمم (إلا) حال كونهم (مبشرين) للمؤمنين (ومنذرين) للكافرين؛ فالاستثناء مفرغ من أعم العام وقد تقدم تفسير هذا.
(ويجادل الذين كفروا بالباطل) مستأنف (ليدحضوا به) أي ليزيلوا
71
بالجدال الباطل (الحق) ويبطلوه، وأصل الدحض الزَّلْقَ، يقال دحضت رجله أي زلقت تدحض دحضاً، ودحضت الشمس عن كبد السماء أي زالت، ودحضت حجته دحوضاً بطلت، والدحض الطين لأنه يزلق فيه.
ومن مجادلة هؤلاء الكفار بالباطل قولهم للرسل: ما أنتم إلا بشر مثلنا، وقولهم: أبعث الله بشراً رسولاً ونحو ذلك (واتخذوا آياتي) أي القرآن (و) اتخذوا (ما أنذروا) به من الوعيد والتهديد، وما بمعنى الذي أو مصدرية، قاله أبو حيان (هزوا) أي لعباً وباطلاً، وقد تقدم هذا في البقرة.
72
(ومن) أي لا أحد (أظلم) لنفسه (ممن ذكر) وعظ، وقد روعي لفظ من في خمسة ضمائر هذا أولها؛ وروعي معناها في خمسة أولها على قلوبهم بآيات ربه التنزيلية أو التكوينية أو مجموعهما.
(فأعرض عنها) أي عن قبولها فتهاون بها ولم يتدبرها حق التدبير ولم يتفكر فيها حق التفكر وتركها ولم يؤمن بها، وأتى بالفاء الدالة على التعقيب لأن ما هنا في الأحياء من الكفار فإنهم ذكروا فأعرضوا عقيب ما ذكروا، وقاله في السجدة بثم الدالة على التراخي، لأن ما هناك في الأموات من الكفار فإنهم ذكروا مرة بعد أخرى ثم أعرضوا بالموت فلم يؤمنوا.
(ونسي ما قدمت يداه) من الكفر والمعاصي فلم يتب عنها. وقال قتادة: ما سلف من الذنوب الكثيرة. قيل والنسيان هنا بمعنى الترك والتشاغل والتغافل عن كفره المتقدم، وقيل هو على حقيقته.
(إنا جعلنا على قلوبهم أكنة) أي أغطية جمع كنان، وفي القاموس إنه جمع كِنَ أيضاً؛ ونصه والكِن وقاء كل شيء وستره كَالْكِنَّة والْكِنان بكسرهما والجمع أكنان وأكنة والجملة تعليل لإعراضهم ونسيانهم. قال الزجاج: أخبر الله سبحانه أن هؤلاء طبع على قلوبهم (أن يفقهوه) أي لئلا يفقهوه (و) جعلنا (في آذانهم وقراً) أي ثقلاً وصمماً يمنع من استماعه سماع انتفاع، وقد تقدم تفسير هذا في الأنعام (وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً) لأن الله تعالى قد طبع على قلوبهم بسبب كفرهم ومعاصيهم.
72
وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (٥٩) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (٦٠) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (٦١)
73
(وربك الغفور ذو الرحمة) أي كثير الرحمة بليغها وصاحب الرحمة التي وسعت كل شيء فلم يعاجلهم بالعقوبة، ولهذا قال (لو يؤاخذهم) الله (بما كسبوا) أي بسبب ما كسبوه من المعاصي التي من جملتها الكفر والمجادلة والإعراض. وقال ابن عباس بما عملوا (لعجل لهم العذاب) أي عذاب الاستئصال في الدنيا لاستحقاقهم لذلك (بل) جُعِلَ (لهم موعد) مصدر أو مكان أو زمان، أي أجل مقدر لعذابهم. قيل هو عذاب الآخرة؛ وقيل يوم بدر. وعن السدي يوم القيامة.
(لن يجدوا من دونه) أي من دون الله أو العذاب، والثاني أولى وأبلغ لدلالته على أنهم لا ملجأ لهم، فإن من يكون ملجأه العذاب كيف يرى وجه الخلاص (موئلاً) أي ملجأً يلجأون إليه ومرجعاً، وبه قال ابن عباس: وقال أبو عبيدة: منجأَ وبه قال ابن قتيبة وقيل محيصاً، وعن مجاهد قال محرزاً.
(وتلك القرى) أي قرى عاد وثمود ولوط وأمثالها (أهلكناهم) هذا خبر اسم الإشارة، والمعنى أهل القرى أهلكناهم في الدنيا (لما ظلموا) أي وقت وقوع الظلم منهم بالكفر والمعاصي.
(وجعلنا لمهلكهم) في الآخرة، الهلك هو مصدر هلك وقال
73
الزجاج: اسم للزمان والتقدير لوقت مهلكهم (موعداً) أي وقتاً معيناً وهو يوم القيامة فليعتبروا بهم ولا يغتروا بتأخير العذاب عنهم.
74
(و) اذكر (إذ قال موسى لفتاه) قيل ووجه ذكر هذه القصة في هذه السورة أن اليهود لما سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن قصة أصحاب الكهف وقالوا: إن أخبركم فهو نبي وإلا فلا. ذكر الله قصة موسى والخضر تنبيهاً على أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يلزمه أن يكون عالماً بجميع القصص والأخبار، وقد اتفق أهل العلم على أن موسى المذكور هاهنا هو موسى ابن عمران من سبط لاوى بن يعقوب، قال الكرخي: هذا هو الأصح كما قاله ابن عباس وعليه الجمهور من العلماء وأهل التاريخ وليس في القرآن موسى غيره.
وقالت فرقة منهم نوف البكالي: إنه ليس موسى بن عمران وإنما موسى ابن ميشى بن يوسف بن يعقوب وكان نبياً قبل موسى بن عمران، وهذا باطل قد رده السلف الصالح من الصحابة فمن بعدهم، منهم ابن عباس كما في صحيح البخاري وغيره، كيف ولو أراد شخصاً آخر لوجب تعريفه بصفة توجب الامتياز بينهما وتزيل الشبهة، فلما لم يميزه بصفة علمنا أنه موسى بن عمران، والمراد بفتاه هو يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف. وقيل إنه أخو يوشع وقيل إنه عبده، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: " لا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي " (١) والأول أولى وأصح، وقد نبأه الله بعد موسى.
قال الواحدي: أجمعوا على أنه يوشع بن نون وقد مضى ذكره في المائدة وفي آخر سورة يوسف. ومن قال إنه موسى بن ميشى قال: أن هذا الفتى لم يكن يوشع بن نون. قال الفراء: وإنما سمي فتى موسى لأنه كان ملازماً له
_________
(١) مسلم ٢٢٤٩ - البخاري ١٢٥١.
74
يأخذ عنه العلم ويخدمه ويتبعه، وهذا بيان وجه إضافته لموسى وكان ابن أخته.
ومعنى (لا أبرح) لا أزال سائراً، ومنه قوله (لن نبرح عليه عاكفين)، وبرح إذا كان بمعنى زال يزال فهو من الأفعال الناقصة وخبره محذوف لدلالة ما بعده وهو (حتى أبلغ) أي أنتهي، قاله ابن زيد (مجمع البحرين) أي ملتقاهما. قال الزجاج: لا أبرح بمعنى لا أزال، وقد حذف الخبر لدلالة حال السفر عليه، ولأن قوله حتى أبلغ غاية مضروبة فلا بد لها من ذي غاية، فالمعنى لا أزال أسير إلى أن أبلغ، ويجوز أن يراد لا يبرح مسيري حتى أبلغ، وقيل معناه: لا أفارقك حتى أبلغ، وقيل: يجوز أن يكون من برح التام بمعنى زال يزول فلا تستدعي خبراً بمعنى لا أزول عما أنا عليه من السير والطلب ولا أفارقه.
قيل: المراد بالبحرين بحر فارس والروم وهما نحو المشرق والمغرب، قاله قتادة وقيل: بحر الأردن وبحر القلزم، ومجمع البحرين عند طنجة، قاله محمد ابن كعب، وقيل بإفريقية، قاله أبي بن كعب؛ وقيل: أن ملتقاهما عند البحر المحيط. وقالت طائفة؛ المراد بالبحرين موسى والخضر، وهو من الضعف بمكان. وقد حكى عن ابن عباس ولا يصح.
(أو أمضي) أي أسير (حقباً) أي زماناً طويلاً، قال الجوهري: الحقب بالضم ثمانون سنة. وقال مجاهد: سبعون خريفاً، وقيل سنة واحدة بلغة قريش، وفي معناه الحقبة بالكسر والضم وتجمع الأولى على حقب بكسر الحاء كَقِرْبَة وقِرَب والثانية على حُقَب بضم الحاء كَغُرْفَة وَغُرَف.
وقال النحاس: الذي يعرفه أهل اللغة أن الحقب والحقبة زمان من الدهر مبهم غير محدود، كما أن رهطاً وقوماً مبهمان غير محدودين وجمعه أحقاب، وسبب هذه العزمة على السير من موسى عليه السلام ما روي أنه سئل موسى من أعلم الناس؛ فقال أنا، فأوحى الله إليه أن عبداً لي بمجمع
75
البحرين هو أعلم منك
76
(فلما بلغا) أي موسى وفتاه (مجمع بينهما) أي بين البحرين وأضيف مجمع إلى الظرف توسعاً.
وقيل: البين بمعنى الافتراق، أي البحران المفترقان يجتمعان هناك. وقيل الضمير لموسى وخضر، أي وصلا الموضع الذي يكون فيه اجتماع شملهما ويكون البين على هذا بمعنى الوصل لأنه من الأضداد والأول أولى (نسيا حوتهما) قال المفسرون: إنهما تزوَّدا حوتاً مملحاً مشقوق البطن في زنبيل، وكانا يصيبان منه عند حاجتهما إلى الطعام، وكان قد جعل الله فقْدَانه أمارة لهما على وجدان المطلوب، والمعنى أنهما نسيا تَفَقُّدَ أمره.
وقيل: الذي نسي إنما هو فتى موسى لأنه وكل أمر الحوت إليه وأمره أن يخبره إذا فقده، وإنما أضاف النسيان إليهما لأنهما تزوّداه لسفرهما، والثاني أولى لقوله (فإنى نسيت الحوت) وهو كقولهم نسوا زادهم وإنما ينساه متعهد الزاد، فلما انتهيا إلى ساحل البحر وضع فتاه المكتل الذي فيه الحوت فأحياه الله فتحرك واضطرب في المكتل ثم انسرب في البحر، ولهذا قال:
(فاتخذ سبيله في البحر سرباً) أي اتخذ الحوت سبيلاً سرباً، وهو النفق الذي يكون في الأرض للضب ونحوه من الحيوانات. قال سعيد بن جبير: أثره يابس في البحر كأنه في جحر، وذلك أن الله سبحانه أمسك جرية الماء على الموضع الذي انسرب فيه الحوت فصار كالطاق، فشبه مسلك الحوت في البحر مع بقائه وانجباب الماء عنه بالسرب الذي هو الكوة المحفورة في الأرض.
قال الفراء: لما وقع في الماء جمد مذهبه في البحر فكان كالسرب، فلما جاوزا ذلك المكان الذي كان عند الصخرة وذهب الحوت فيه انطلقا فأصابهما ما يصيب المسافر من النصب والكلال ولم يجد النصب حتى جاوزا الموضع الذي فيه الخضر ولهذا قال سبحانه:
76
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (٦٢) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (٦٣) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (٦٤) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (٦٥) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (٦٦) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (٦٨)
77
(فلما جاوزا) مجمع البحرين الذي جعل موعداً للملاقاة (قال لفتاه آتنا غداءنا) هو ما يؤكل بالغداة، وأراد موسى أن يأتيه بالحوت الذي حملاه معهما (لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً) أي تعباً وإعياء وإشارة هذا إلى السفر الكائن منهما بعد مجاوزة الوعد فإنهما لم يجدا النصب إلا في ذلك دون ما قبله، والنَّص بفتح النون والصاد وبضمهما وهما لغتان من لغات أربع في هذه اللفظة، قاله أبو الفضل الدارمي في لوامحه.
(قال) لموسى فتاه (أرأيت) معنى الاستفهام تعجيبة لموسى مما وقع له من النسيان هناك مع كون ذلك مما لا يكاد ينسى لأنه قد شاهد أمراً عظيماً من قدرة الله المباهرة (إذ أوينا إلى الصخرة) وكانت عند مجمع البحرين الذي هو الوعد وإنما ذكرها دون أن يذكر مجمع البحرين لكونها متضمنة لزيادة تعيين المكان لاحتمال أن يكون المجمع مكاناً متسعاً يتناول مكان الصخرة وغيره.
(فإني نسيت الحوت) أي نسيت أن أذكر لك أمره، وما شاهدت منه من الأمور العجيبة وأوقع النسيان على الحوت دون الغداء الذي تقدم ذكره لبيان أن ذلك الغداء المطلوب هو ذلك الحوت الذي جعلاه زاداً لهما وأمارة لوجدان مطلوبهما، ثم ذكر ما يجري مجرى السبب في وقوع ذلك النسيان فقال:
77
(وما أنسانيه إلا الشيطان) بما يقع منه من الوسوسة (أن أذكره) بدل اشتمال من الضمير في (أنسانيه) وفي مصحف عبد الله (وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان) (واتخذ سبيله في البحر عجباً) يحتمل أن يكون هذا من كلام يوشع، أخبر موسى أن الحوت اتخذ سبيله عجباً للناس، وموضع التعجب أن يحيا حوت قد مات وأكل شقه ثم يثب إلى البحر ويبقى أثر جريته في الماء لا يمحو أثرها جريان الماء.
ويحتمل أن يكون من كلام الله سبحانه لبيان طرف آخر من أمر الحوت فيكون ما بين الكلامين اعتراضاً، وقال أبو الشجاع في كتاب الطبري: أتيت به فرأيته فإذا هو شقة حوت بعين واحدة وشق آخر ليس فيه شيء من اللحم عليه قشرة رقيقة تحتها الشوك.
78
(قال) موسى لفتاه (ذلك) الذي ذكرت من فقد الحوت في ذلك الموضع (ما كنا نبغ) ونطلبه فإن الرجل الذي نريده هو هنالك، وياء نبغ من يا آت الزوائد فلا تثبت رسماً وقفا لا وصلاً وابن كثير أثبتها في الحالين (فارتدا على آثارهما قصصاً) أي رجعا على الطريق الذي جاءا منها يقصان أثرهما لئلا يخطئا طريقهما أي قاصين أو مقتصين والقصص في اللغة اتباع الأثر؛ قال قتادة: عودهما على بدئهما.
(فوجدا عبداً من عبادنا) هو الخضر في قول جمهور المفسرين وعلى ذلك دلت الأحاديث الصحيحة وخالف في ذلك من لا يعتدّ بقوله فقال ليس هو الخضر بل عالم آخر، وقيل كان ملكاً من الملائكة قيل سمي الخضر لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله، قاله مجاهد قيل: واسمه بليا بن ملكان وهو من نسل نوح.
عن ابن عباس: قال الخضر بن آدم لصلبه ونسىء له في أجله حتى
78
يكذب الدجال وفيه نظر، وقيل كان من بني إسرائيل أو من أبناء الملوك تزهد وترك الدنيا، وأخرج البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء " (١) والخضر بكسر الخاء مع سكون الضاد وبفتح الخاء مع سكون الضاد وكسرها ففيه لغات ثلاثة، وهذا لقبه وكنيته أبو العباس.
ثم وصفه الله سبحانه فقال (آتيناه رحمة من عندنا) قيل الرحمة هي النبوة والهداية قاله ابن عباس، وقيل؛ النعمة التي أنعم الله بها عليه وهي الولاية وعليه الأكثر والجمهور من العلماء على أنه حي إلى يوم القيامة لشربه من ماء الحياة، والأصح ما ذهب إليه أهل الحديث من عدم حياته والله أعلم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الرد على المنطقيين:
ومن ملاحدة المتصوفة من يزعم أن أرسطو كان هو الخضر خضر موسى وقولهم هذا من أظهر الكذب البارد، والخضر على الصواب مات قبل ذلك بزمان طويل، والذين يقولون إنه حي كبعض العباد وبعض العامة وكثير من اليهود والنصارى غالطون في ذلك غلطاً لا ريب فيه، وسبب غلطهم أنهم يرون في الأماكن المنقطعة وغيرها من يظن أنه من الزهاد ويقول إنه الخضر، ويكون ذلك شيطاناً قد تمثل بصورة آدمي.
وهذا مما علمناه في وقائع كثيرة حتى في المكان الذي كتبت فيه هذا عند الربوة بدمشق رأى شخص بين الجبلين صورة رجل قد سد ما بين الجبلين وبلغ رأسه رأس الجبل وقال أنا الخضر وأنا نقيب الأولياء وقال للرجل الرائي أنت رجل صالح وأنت وليّ الله ومدَّ يده إلى فأس كان الرجل نسيه في مكان وهو ذاهب إليه فناوله إِياه وكان بينه وبين ذلك المكان نحو ميل؛ ومثل هذه الحكاية كثيرة.
_________
(١) البخاري كتاب الأنبياء باب ٢٧ - الترمذي تفسير سورة ١٨/ ٣.
79
وكل من قال أنه رأى الخضر وهو صادق فإما أن يتخيل له في نفسه أنه رآه ويظن ما في نفسه كان في الخارج كما يقع لكثير من أرباب الرياضات، وإما أن يكون جنياً يتصور له بصورة إنسان ليضله وهذا كثير جداً قد علمنا منه ما يطول وصفه، وإما أن يكون رأى إنسياً ظن أنه الخضر وهو غالط في ظنه فإن قال له ذلك الجني أو الإنسي أنه الخضر فيكون قد كذب عليه، لا يخرج الصدق في هذا الباب عن هذه الأقسام الثلاثة.
وأما الأحاديث فكثيرة ولهذا لم ينقل عن أحد من الصحابة أنه رأى الخضر ولا اجتمع به لأنهم كانوا أكمل علماً وإيماناً من غيرهم فلم يكن يمكن شيطان التلبيس عليهم كما لبس على كثير من العباد، ولهذا كثير من الكفار اليهود والنصارى يأتيهم من يظنون أنه الخضر ويحضر في كنائسهم وربما حدثهم بأشياء وإنما هو شيطان جاء إليهم يضلهم، ولو كان الخضر حياً لوجب عليه أن يأتي إلى النبي ﷺ فيؤمن به ويجاهد معه كما أخذ الله الميثاق على الأنبياء واتباعهم بقوله: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه).
والخضر قد أصلح السفينة لقوم من عرض الناس فكيف لا يكون بين محمد ﷺ وأصحابه، وهو إن كان نبياً فنبينا أفضل منه، وإن لم يكن نبياً فأبو بكر وعمر أفضل منه، وهذا مبسوط في موضعه انتهى وسيأتي الكلام على ذلك في آخر هذه القصة إن شاء الله تعالي.
(وعلمناه) من علم الغيب الذي استأثرنا به، وفي قوله (من لدنا علماً) تفخيم لشأن ذلك العلم وتعظيم له، قال الزجاج: وفيما فعل موسى وهو من أجله الأنبياء من طلب العلم والرحلة في ذلك ما يدل على أنه لا ينبغي لأحد أن يترك طلب العلم وإن كان قد بلغ نهايته وأن يتواضع لمن هو أعلم منه.
80
ثم قص سبحانه علينا ما دار بين موسى والخضر بعد اجتماعهما فقال
81
(قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً) في هذا السؤال ملاطفة ومبالغة في الأدب والتواضع لأنه استجهل نفسه واستأذنه أن يكون تابعاً له على أن يعلمه مما علمه الله من العلم، والرُّشْد بضم الراء وسكون الشين هو الوقوف على الخير وإصابة الصواب أي علماً ذا رشد أرشد به، وقرئ رَشَداً بفتحتين وهما لغتان كالبخل والبَخَل.
وفي الآية دليل على أن المتعلم تبع للعالم وإن تفاوتت الراتب، وليس في ذلك ما يدل على أن الخضر أفضل من موسى فقد يأخذ الفاضل عن الفاضل، وقد يأخذ الفاضل عن المفضول إذا اختص أحدهما بعلم لا يعلمه الأخر، فقد كان علم موسى علم الأحكام الشرعية والقضاء بظاهرها، وكان علم الخضر علم بعض الغيب ومعرفة البواطن، وقد زل أقدام أقوام من الضلال في هذا المقام في تفضيل الولي على النبي حيث قالوا؛ أمر موسى بالتعلم من الخضر وهو ولي وهو كفر جلي والجواب ما ذكرناه.
(قال) الخضر لموسى (إنك لن تستطيع معي صبراً) أي لا تطيق أن تصبر على ما تراه من علمي لأن الظواهر التي هي علمك لا توافق ذلك ثم أكد ذلك مشيراً إلى علة عدم الاستطاعة فقال
(وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً) أي كيف تصبر على علم ظاهره منكر وأنت لا تعلم، ومثلك مع كونك صاحب شرع لا يسوغ له السكوت على منكر والإقرار عليه، والخبر العلم بالشيء والخبير بالأمور هو العالم بخفاياها وما يحتاج إلى الاختبار منها.
81
قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (٦٩) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (٧٠) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (٧١) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٢) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (٧٣) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (٧٤)
82
(قال) موسى للخضر (ستجدني إن شاء الله صابراً) معك ملتزماً طاعتك، وإنما استثنى لأنه لم يثق من نفسه بالصبر ولم يستثن الخضر لأنه في مقام التعليم (ولا أعصي لك أمراً) أي لا أخالفك فيما تأمرني به، والتقييد بقوله إن شاء الله شامل للصبر ونفي المعصية، وقيل أن التقييد بالمشيئة مختص بالصبر لأنه أمر مستقبل لا يدري كيف يكون حاله فيه ونفي المعصية معزوم عليه في الحال ويجاب عنه بأن الصبر ونفي المعصية متفقان في كون كل واحد منهما معزوماً عليه في الحال وفي كون كل واحد منهما لا يدرى كيف حاله فيه في المستقبل.
(قال) الخضر لموسى (فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء) مما تشاهد من أفعالي المخالفة لما يقتضيه ظاهر الشرع الذي بعثك الله به أي لا تفاتحني بالسؤال عن حكمته فضلاً عن المناقشة والاعتراض (حتى أحدث لك منه ذكراً) أي حتى أكون أنا المبتدئ لك بذكره وبيان وجهه وما يؤول إليه وفيه إيذان بأن كل ما صدر عنه فله حكمة وغاية حميدة البتة وهذا من أدب المتعلم مع العالم والتابع مع المتبوع وهذه الجمل المعنونة بقال وقال مستأنفات لأنها جوابات عن سؤالات مقدرة كل واحدة ينشأ السؤال عنها مما قبلها.
واعلم أنه قد رويت في قصة موسى مع الخضر المذكورة في كتاب العزيز أحاديث كثيرة وأتمها وأكملها ما روي عن ابن عباس ولكنها اختلفت في بعض
82
الألفاظ وكلها مروية عن سعيد بن جبير عنه وبعضها في الصحيحين وغيرهما وبعضها في أحدهما وبعضها خارج عنهما، وقد رويت من طريق العوفي عنه كما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم ومن طرق أخرى فلنقتصر على الرواية التي هي أتم الروايات الثابتة في الصحيحين ففي ذلك ما يغني عن غيره وهي (١):
قال سعيد بن جبير قلت لابن عباس إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، قال ابن عباس كذب عدو الله حدثنا أبي بن كعب أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: " إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل أي الناس أعلم فقال أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه أن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى يا رب فكيف لي به قال تأخذ معك حوتاً فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم (٢).
فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رأسيهما فناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سرباً وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق.
فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً قال ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمر الله به، فقال له فتاه أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجباً قال فكان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً فقال موسى ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصاً.
_________
(١) مسلم ٢٣٨٠، البخاري ٦٤.
(٢) ثم بفتح الثاء أي هناك.
83
قال سفيان: يزعم الناس أن تلك الصخرة عندها عين الحياة لا يصيب ماؤها ميتاً إلا عاش، قال وكان الحوت قد أكل منه فلما قطر عليه الماء عاش، قال فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجى بثوب فسلم عليه موسى فقال الخضر وإني بأرضك السلام، قال أنا موسى؛ قال موسى بن إسرائيل؛ قال نعم أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً، قال: إنك لن تستطيع معي صبراً، يا موسى إني على علم من الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله علمك الله لا أعلمه. قال موسى ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً، فقال له الخضر: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً.
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، فلما ركبا السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً، قال ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً؟ قال: لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً.
قال وقال رسول الله ﷺ " فكانت الأولى من موسى نسياناً "، قال " وجاءَ عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة، فقال له الخضر ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور الذي وقع على حرف السفينة من هذا البحر ".
ثم خرجا من السفينة فبينما. هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه بيده فاقتلعه بيده فقتله، فقال موسى: أقتلت نفساً زكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكراً، قال: ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً، قال: وهذه أشد من الأولى، قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذراً.
84
فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه، قال مائل، فقال الخضر بيده هكذا فأقامه، فقال موسى قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا! لو شئت لاتخذت عليه أجراً، قال هذا فراق بيني وبينك سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً، فقال رسول الله ﷺ " وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص علينا من خبرهما "، قال سعيد بن جبير: وكان ابن عباس يقرأ: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً، وكان يقرأ وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين وبقية روايات سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب هي موافقة لهذه الرواية في المعنى وإن تفاوتت الألفاظ في بعضها، فلا فائدة في الإطالة بذكرها، وكذلك روايات غير سعيد عنه.
85
(فانطلقا) أي موسى والخضر على ساحل البحر يطلبان السفينة ومعهما يوشع، وإنما لم يذكر في الآية لأنه تابع لموسى؛ فالمقصود ذكر موسى والخضر وقال القشيري؛ والأظهر أن موسى صرف فتاه لما لقي الخضر، وقال أبو العباس: اكتفى بذكر التبوع عن التابع، فمرت بهم سفينة فكلموهم أن يحملوهم فحملوهم بغير نول (حتى إذا ركبا في السفينة خرقها) قيل قلع لوحاً من ألواحها وقيل لوحين مما يلي الماء بفأس لما بلغت اللجج، وقيل خرق جدار السفينة ليعيبها ولا يتسارع الغرق إليها.
(قال) موسى (أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمراً) أي عظيماً يقال أمر الأمر إذا كبر وعظم، وإمر الاسم منه، وقال أبو عبيدة: الإمر الداهية العظيمة، وقال القتيبي: الإمر العجب، وبه قال قتادة، وقال الأخفش: أمر أمره يأمر إذا اشتد والاسم الإمر. وقال ابن عباس: أمراً نكراً. وعن مجاهد نحوه روى أن الماء لم يدخلها.
(قال) الخضر (ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبراً) أذكره ما تقدم
85
من قوله له سابقاً إنك لا تستطيع معي صبراً
86
(قال) موسى (لا تؤاخذني بما نسيت) ما مصدرية، أي لا تؤاخذني بنسياني أو موصولة أي لا تؤاخذني بالذى نسيته، وهو قول الخضر فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً، فالنسيان إما على حقيقته على تقدير أن موسى نسي ذلك، أو بمعنى الترك على تقدير أنه لم ينس ما قاله له ولكنه ترك العمل به.
عن أبيّ بن كعب قال: لم ينس ولكنها من معاريض الكلام، أي أورده في صورة دلت على النسيان ولم يقصد نسيان الوصية بل نسيان شيء آخر حتى لا يلزم الكذب قاله الكازروني، قيل: كانت الأولى من موسى نسياً والثانية شرطاً والثالثة عمداً (ولا ترهقني) أي لا تكلفني (من أمري عسراً) مشقة في صحبتي. قال أبو زيد: أرهقته عسراً إذا كلفته ذلك، والمعنى عاملني باليسر والعفو لا بالعسر، وقرئ عُسُراً بضمتين.
(فانطلقا) بعد خروجهما من السفينة يمشيان (حتى إذا لقيا غلاماً) قيل كان اسمه شمعون، ذكره القرطبي؛ ولفط الغلام يتناول الشاب البالغ كما يتناول الصغير، قيل كان الغلام يلعب مع الصبيان (فقتله) أي فاقتلع الخضر رأسه أو ذبحه بالسكين أو ضرب رأسه بالجدار أقوال، وأتى هنا بالفاء العاطفة لأن القتل عقب اللقيّ وجواب إذا (قال) موسى (أقتلت نفساً زكية) هي البريئة من الذنوب، الطاهرة.
قال أبو عمر: الزاكية التي لم تذنب، والزكية التي أذنبت ثم تابت، وقال الكسائي: الزاكية والزكية لغتان، وقال الفراء: الزاكية والزكية مثل القاسية والقسية، قال ابن عباس: زاكية مسلمة، وقال سعيد بن جبير: لم يبلغ الخطايا. وعن الحسن نحو (بغير) قتل (نفس) محرمة حتى يكون قتل هذه قصاصاً (لقد جئت) أي فعلت (شيئاً نكراً) أي فظيعاً منكراً لا يعرف في الشرع، قرئ بسكون الكاف وضمها وهم سبعيتان، قيل معناه أنكر من
86
الأمر الأول لكون القتل لا يمكن تداركه بخلاف نزع اللوح من السفينة فإنه يمكن تداركه بإرجاعه. وقيل النكر أقل من الإمر، لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة.
وعن قتادة قال: النكر أنكر من العجب، قيل استبعد موسى أن يقتل نفساً بغير نفس ولم يتأول للخضر بأنه يحل القتل بأسباب أخر. عن أبي العالية عند ابن المنذر وابن أبي حاتم قال: كان الخضر عبداً لا تراه الأعين إلا من أراد الله أن يريه إياه، فلم يره من القوم إلا موسى، ولو رآه القوم لحالوا بينه وبين خرق السفينة وبين قتل الغلام.
وأقول ينبغي أن ينظر من أين له هذا، فإن لم يكن مستنده إلا قوله " ولو رآه القوم الخ " فليس ذلك بموجب لما ذكره أما أولاً فإن من الجائز أن يفعل ذلك من غير أن يراه أهل السفينة وأهل الغلام لا لكونه لا تراه الأعين، بل لكونه فعل ذلك من غير اطلاعهم.
وأما ثانياً فيمكن أن أهل السفينة وأهل الغلام قد عرفوه؛ ويدل عليه قول النبي ﷺ في الحديث المتقدم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول، وعرفوا أنه لا يفعل ذلك إلا بأمر من الله كما يفعل الأنبياء فسلموا الأمر لله. وعن عطاء قال: كتب نجدة الحروري إلى ابن عباس يسأله عن قتل الصبيان فكتب إليه إن كنت الخضر تعرف الكافر من المؤمن فاقتلهم، وفي لفظ ولكنك لا تعلم، وقد نهى رسول الله ﷺ عن قتلهم فاعتزلهم.
وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم عن أبىّ بن كعب عنِ النبي
صلى الله عليه وسلم قال: " الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً، ولو
أدرك لأرهق بأبويه طغياناً وكفراً ". (١)
_________
(١) مسلم ٢٦٦١ - أبو داوود كتاب السنة باب ١٩.
87
قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٥) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (٧٦) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (٧٧) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (٧٩) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (٨٠)
88
(قال) الخضر (ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً) زاد هنا لفظ لك لأن سبب العتاب أكثر وموجبه أقوى فقد نقض العهد مرتين، وقيل زاد لقصد التأكيد كما تقول لمن توبخه، لك أقول وإياك أعني، وقيل زاد لعدم العذر هنا تحاملاً في الخطاب وتقريعاً لموسى.
ولهذا
(قال) موسى (إن سألتك عن شيء بعدها) أي بعد هذه المرة أو بعد هذه النفس المقتولة (فلا تصاحبني) أي لا تجعلني صاحباً لك؛ وقرئ تصحبني قال الكسائي: معناه لا تتركني أصحبك، وقرئ بضم التاء والباء وتشديد النون؛ نهاه عن مصاحبته مع حرصه على التعلم لظهور عذره.
ولذا قال (قد بلغت من لدني عذراً) في مفارقتك لي، يريد أنك قد أعذرت حيث خالفتك ثلاث مرات. وهذا كلام نادم شديد الندامة اضطره الحال إلى الاعتراف وسلوك سبيل الإنصاف، وقرأ الجمهور لدني مخففاً وشددها الباقون، وعن أبيّ قال: أن النبي ﷺ قرأ من لدني عذراً مثقلة. أخرجه أبو داود والترمذي والطبراني وغيرهم. وقرأ الجمهور عذْرُاً بسكون الذال وقرئ بضمها، وحكى الداني أن أبيا روى عن النبي ﷺ بكسر الراء وياء بعدها بإضافة العذر إلى نفسه.
(فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية) قيل هي (أيلة) وهي أبعد الأرض من السماء وقيل انطاكية، وقيل برقة، وقيل قرية من قرى أذربيجان، وقيل قرية من قرى الروم، وقيل هي بلدة بالأندلس (استطعما أهلها) طلبا منهم الطعام بضيافة؛ وضع الظاهر موضع المضمر لزيادة التأكيد أو للتأسيس أو لكراهة اجتماع الضميرين في هذه الكلمة لما فيه من المكلفة أو لزيادة التشنيع على أهل القرية بإظهارهم (فأبوا أن يضيفوهما) أي أن يعطوهما ما هو حق واجب عليهم من ضيافتهما؛ فمن استدل بهذه الآية على جواز السؤال وحل الكدية فقد أخطأ خطأً بيّناً ومن ذلك قول بعض الأدباء الذين يسألون الناس:
فإن رددت فما في الرد منقصة عليَّ قد ردّ موسى قبل والخضر
وقد ثبت في السنة تحريم السؤال بما لا يمكن دفعه من الأحاديث الصحيحة الكثيرة. عن أبيّ أن النبي ﷺ قرأ أن يضيفوهما مشددة، قيل شر القُرَى التي تبخل بالْقِرَى أي لا تضيف الضيف، قيل أطعمتهما امرأة من أهل بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما فدعيا لنسائهم ولعنا رجالهم.
(فوجدا فيها) أي في القرية (جداراً) طوله مائة ذراع وعرضه خمسون ذراعاً وامتداده على وجه الأرض خمسمائة ذراع (يريد أن ينقضّ) إسناد الإرادة إلى الجدار مجاز، قال الزجاج: الجدار لا يريد إرادة حقيقة إلا أن هيئة السقوط قد ظهرت فيه كما تظهر أفعال المريدين القاصدين فوصف بالإرادة ومعنى الانقضاض السقوط بسرعة يقال انقض الحائط إذا وقع وانقض الطائر إذا هوى من طيرانه فسقط على شيء.
(فأقامه) أي فسواه الخضر بيده لأنه وجده مائلاً فرده كما كان، وقيل نقضه وبناه، وقيل أقامه بعمود، عن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله
89
عليه وآله وسلم أنه قرأ يريد أن ينقض فهدمه ثم قعد يبنيه " قلت " ورواية الصحيحين التي قدمناها أنه مسحه بيده أولى. (١)
(قال) موسى (لو شئت لتخذت) عن أبيّ إن الرسول ﷺ قرأ لتخذت مخففاً يقال تخذ فلان يتخذ تخذاً مثل اتخذ (عليه أجراً) أي على إقامته وإصلاحه، تحريضاً من موسى للخضر على أخذ الجعل والأجرة ليتعشيا به أو تعريضاً بأنه فضول، والأول أولى، قال الفراء: معناه لو شئت لم تقمه حتى يقرونا فهو الأجر.
_________
(١) مسلم ٢٣٨٠ - البخاري ٦٤.
90
(قال) الخضر (هذا فراق بيني وبينك) على إضافة فراق إلى الظرف اتساعاً أي هذا الكلام والإنكار منك على ترك الأجر هو المفرق بيننا قال الزجاج: المعنى هذا فراق بيننا أي هذا فراق اتصالنا وكرر بين تأكيداً.
أخرج أبو داود والنسائي والترمذي والحاكم وصححه وغيرهم عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله ﷺ رحمة الله علينا وعلى موسى لو صبر لقص الله علينا من خبره ولكن (قال إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني) (١) ولما قال الخضر لموسى بهذا أخذ في بيان الوجه الذي فعل بسببه تلك الأفعال التي أنكرها موسى فقال:
(سأنبئك) قبل فراقي لك (بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً) أي الأمور الثلاثة المتقدمة، والمراد بالتأويل إظهار ما كان باطناً ببيان وجهه، قاله الشهاب وفي القرطبي المراد بالتأويل التفسير، وأصل التأويل رجوع الشيء إلى مآله.
ثم شرع في البيان له فقال
_________
(١) المستدرك كتاب التاريخ ٢/ ٥٧٤.
(أما السفينة) يعني التي خرقها (فكانت لمساكين) لضعفاء عشرة وكانوا إخوة لا يقدرون على دفع من أراد ظلمهم وقد
90
ذكر النقاش أسماءهم وقرأ جماعة مساكين بتشديد السين واختلف في معناها فقيل هم ملاحو السفينة وذلك أن المساك هو الذي يمسك السفينة والأظهر قراءة الجمهور بالتخفيف.
(يعملون في البحر) ولم يكن لهم مال غير تلك السفينة يكرونها من الذين يركبون البحر ويأخذون الأجرة، وقد استدل الشافعي بهذه الآية على أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين (فأردت أن أعيبها) أي أجعلها ذات عيب بنزع ما نزعته منها (وكان وراءهم ملك) جملة حالية بإضمار قد قال المفسرون: يعني أمامهم، وعن ابن عباس أن النبي ﷺ كان يقرأ أمامهم، وعن أبيّ بن كعب أنه قرأها كذلك وكتب عثمان (وكان وراءهم) ووراء يكون أمام، وقد مر الكلام على هذا في قوله (ومن ورائه عذاب غليظ).
وقيل أراد خلفهم وكان طريقهم في الرجوع عليه وما كان عندهم خبر بأنه (يأخذ كل سفينة) صالحة لا معيبة (غصباً) نصبه على المصدر المبين لنوع الأخذ، وقد قرأ ابن عباس وأبي بن كعب بزيادة صالحة والملك الغاصب كان اسمه الجلندي الأزدي وكان كافراً، وقيل كان اسمه هدد بن بدد، وقيل كان ملك غسان واسمه جيسورا ذكره القرطبي.
91
(وأما الغلام) يعني الذي قتله (فكان أبواه مؤمنين) ولم يكن هو كذلك وقرأ ابن عباس وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين (فخشينا) الخشية خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون عن علم بما يخشى منه، وقيل معناه فعلمنا والأول أولى.
وعن قتادة: هي في مصحف عبد الله فخاف ربك (أن يرهقهما) أي يرهق الغلام أبويه يقال رهقه أي غشيه وأرهقه أغشاه، قال المفسرون: معناه
91
خشينا أن يحملهما حبه على أن يتبعاه في دينه وهو الكفر، وقيل المعنى فخشينا أن يرهق الوالدين (طغياناً) عليهما (وكفراً) لنعمتهما بعقوقه.
قيل ويجوز أن يكون فخشينا من كلام الله ويكون المعنى كرهنا كراهة من خشى سوء عاقبة أمره فغيره، وهذا ضعيف جداً فالكلام كلام الخضر.
وقد استشكل بعض أهل العلم قتل الخضر لهذا الغلام بهذه العلة فقيل: إنه كان بالغاً وقد استحق ذلك بكفره، وقيل كان يقطع الطريق فاستحق القتل لذلك ويكون معنى خشينا الخ أن الخضر خاف على الأبوين أن يذبا عنه ويتعصبا له فيقعا في المعصية، وقد يؤدي ذلك إلى الكفر والارتداد.
والحاصل أنه لا إشكال في قتل الخضر له إذا كان بالغاً كافراً أو قاطعاً للطريق هذا فيما تقتضيه الشريعة الإسلامية، ويمكن أن يكون للخضر شريعة من عند الله سبحانه تسوغ له ذلك.
وأما إذا كان الغلام صبياً غير بالغ فقيل: أن الخضر علم بإعلام الله له أنه لو صار بالغاً لكان كافراً يتسبب عن كفره إضلال أبويه وكفرهما وهذا وإن كان ظاهر الشريعة الإسلامية يأباه فإن قتل من لا ذنب له ولا قد جرى عليه قلم التكليف لخشية أن يقع منه بعد بلوغه ما يجوز به قتله لا يحل في الشريعة المحمدية، ولكنه حل في شريعة أخرى فلا إشكال.
92
فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (٨١) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (٨٢) وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (٨٣)
93
(فأردنا أن يبدلهما) الإبدال رفع الشيء ووضع آخر مكانه، قال الزجاج: معنى فأردنا فأراد الله ومثله في القرآن، وقيل المعنى أردنا أن يرزقهما الله (ربهما) بدل هذا الولد ولداً (خيراً منه) والتفضيل ليس على بابه (زكاة) أي ديناً وصلاحاً وتقوى وطهارة من الذنوب (وأقرب رحماً) بسكون الحاء وقرئ بضمها الرحمة يقال رحمه الله رحمة ورحماً والألف للتأنيث قال ابن عباس: رحماً مودة فأبدلا جارية ولدت نبياً.
(وأما الجدار) يعني الذي أصلحه (فكان لغلامين يتيمين) قيل اسمهما أصرم وصريم (في المدينة) هي القرية المذكورة سابقاً وفيه جواز إطلاق المدينة على القرية لغة، وقيل عبر هناك بالقرية تحقيراً لها لخسة أهلها وعبر هنا بالمدينة تعظيماً لها من حيث اشتمالها على هذين الغلامين وعلى أبيهما (وكان تحته كنز لهما) قيل كان مالاً جسيماً كما يفيده لفظ الكنز، وبه قال عكرمة وقتادة إذ هو المال المجموع.
قال الزجاج: المعروف في اللغة أن الكنز إذا أفرد فمعناه المال المدفون فإذا لم يكن مالاً قيل كنز علم وكنز فهم، وقيل لوح من ذهب، وقيل علم في صحف مكتوبة مدفونة، عن قتادة قال: كان الكنز لمن قبلنا وحرم علينا وحرمت الغنيمة على من كان قبلنا وأحلت لنا، فلا يعجبن الرجل فيقول ما شأن الكنز أحل لمن قبلنا وحرم علينا فإن الله يحل من أمره ما شاء ويحرم ما شاء، وهي السنن والفرائض تحل لأمة وتحرم على أخرى.
93
وعن أبي الدرداء عن النبي ﷺ قال: وكان تحته كنز ذهب وفضة أخرجه البخاري في تاريخه والترمذي وحسنه والطبراني والحاكم وصححه (١)، وعن أبي الدرداء قال: أحلت لهم الكنوز وحرمت عليهم الغنائم، وأحلت لنا الغنائم وحرمت علينا الكنوز.
وأخرج البزار وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي ذر رفعه قال: إن الكنز الذي ذكره الله في كتابه لوح من ذهب مصمت فيه " عجبت لمن أيقن بالقدر ثم نصب، وعجبت لمن ذكر النار ثم ضحك، وعجبت لمن ذكر الموت ثم غفل لا إله إلا الله محمد رسول الله " وفي نحو هذا روايات كثيرة لا تتعلق بذكرها فائدة.
(وكان أبوهما صالحاً) فكان صلاحه مقتضياً لرعاية ولديه وحفظ مالهما، فظاهر اللفظ أنه أبوهما حقيقة، وقيل هو الذي دفنه، وقيل هو الأب السابع من عند الدافن له. قاله جعفر بن محمد وقيل العاشر وكان يسمى كاشحاً وكان من الأتقياء قاله مقاتل، واسم أمهما دنيا. ذكره النقاش، ففيه ما يدل على أن الله يحفظ الصالح في نفسه وفي ولده وإن بعدوا. قال ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما.
وأخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " إن الله عز وجل يصلح بصلاح الرجل الصالح ولده وولد ولده وأهل دويرته، وأهل دويرات حوله، فما يزالون في حفظ الله تعالى ما دام فيهم " (١). وعن ابن عباس نحوه وقال موضع حفظ الله في ستر من الله وعافية.
قال سعيد بن المسيب: إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي. وقد
_________
(١) الترمذي تفسير سورة ١٨/ ٤٠.
94
روي أن الله يحفظ الصالح في سبعة من ذريته، وعلى هذا يدل قوله تعالى (إن وليّيّ الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) قاله القرطبي.
(فأراد ربك) أي مالكك ومدبر أمرك، وأضاف الرب إلى ضمير موسى تشريفاً له، وإنما ذكر أولاً: فأردت لأنه إفساد في الظاهر وهو فعله، وثانياً: فأردنا لأنه إفساد من حيث الفعل إنعام من حيث التبديل، وثالثاً: فأراد ربك لأنه إنعام محض وغير مقدور للبشر.
قال الشوكاني في الفتح الرباني: علم أنه قد وجد في الخضر عليه السلام المقتضى للمجيء بنون العظمة لما تفضل الله به عليه من العطايا العظيمة والمواهب الجسيمة التي من جملتها العلم الذي فضله الله به حين أخبر موسى عليه السلام لما سأله هل في الأرض أعلم منه؟ فقال عبدنا خضر كما هو ثابت في الصحيح، كان هذا وجهاً صحيحاً ومسوغاً صحيحاً للمجيء بنون العظمة تارة وعدم المجيء بها أخرى، فقال فأردت أن أعيبها، وقال فأردنا ملاحظاً في أحد الموضعين لما يستحقه من التعظيم تحدثاً بنعمة الله سبحانه عليه وفي الموضع الآخر قاصداً للتواضع وأنه فرد من أفراد البشر غير ناظر إلى تلك المزايا التي اختصه الله بها سبحانه مع كون ذلك هو الصيغة التي هي الأصل في تكلم الفرد.
ْومع هذا ففي تلوين العبارة نوع من الحسن آخر وهو الافتنان في الكلام فإنه أحسن تطرية لنشاط السامع وأكثر إيقاظاً له، كما قيل في نكتة الالتفات، ويمكن أن يقال إن خرق السفينة لما كان باعتبار تحصيل مسماه أمراً يسيراً فإنه يحصل بنزع لوح من ألواحها، قال (فأردت أن أعيبها) ولما كان القتل مما تتعاظمه النفوس وتدخل فاعله الروعة العظيمة نزل منزلة ما لا يقدر عليه إلا جماعة. ويمكن أيضاً وجه ثالث وهو أن يقال لما كان خرق السفينة مما يمكن تداركه بأن يرد اللوح الذي نزعه كان ذلك وجهاً للإفراد لأنه يسير بالنسبة إلى ما لا يمكن تداركه وهو القتل.
95
وأما قوله (فأراد ربك) فوجه نسبة الإرادة إلى الرب سبحانه أن هذه الإرادة وقعت على قوله أن يبلغا أشدهما، ومعلوم أن ذلك لا يكون من فعل البشر ولا بإرادته لأن بقاءهما في الحياة حتى يبلغا الأشد لا يدخل تحت طاقة البشر ولا يصح نسبته إلى غير الرب عز وجل؛ ولهذا يقول الخضر (رحمة من ربك وما فعلته عن أمري) هذا ما خطر بالبال عند الوقوف على هذه الآية، ولم أقف على كلام لأحد من أهل التفسير فيما يتعلق بذلك أهـ.
(أن يبلغا أشدهما) أي كمالهما وتمام نموهما (ويستخرجا كنزهما) من ذلك الموضع الذي عليه الجدار، ولو انقض لخرج الكنز من تحته قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميته وضاع بالكلية (رحمة من ربك) لهما وهو مصدر في موضع الحال أي مرحومين من الله سبحانه.
(وما فعلته عن أمري) أي عن اجتهادي ورأيي وهو تأكيد لما قبله فقد علم بقوله: فأراد ربك أنه لم يفعله الخضر عن أمر نفسه لأن تنقيص أموال الناس وإراقة دمائهم وتغيير أحوالهم لا يكون إلا بالنص، وليس في هذا دلالة على نبوة الخضر كما زعم الجمهور بل هو إلهام من الله سبحانه إليه.
(ذلك) المذكور من تلك البيانات التي بينتها لك وأوضحت وجوهها (تأويل ما لم تسطع عليه صبراً) أي ما ضاق صبرك عنه ولم تطق السكوت عليه. ومعنى التأويل هنا هو المال الذي آلت إليه تلك الأمور، وهو اتضاح ما كان مشتبهاً على موسى وظهور وجهه، وحذف التاء من تسطع تخفيفاً، يقال اسطاع واستطاع بمعنى أطاق، ففي هذا وما قبله جمع بين اللغتين.
وقد اختلف أهل العلم في نسب الخضر وفي كونه نبياً وفي طول عمره وبقاء حياته وكونه باقياً إلى زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحياته بعده على أقوال. كثيرة، فقيل هو ابن آدم لصلبه وهو ضعيف منقطع. وقيل إنه ابن قابيل بن آدم وهو معضل؛ وقيل إنه من سبط هارون أخي موسى وهو بعيد. وقيل إنه أرميا بن خلقيا ورده ابن جرير وقيل إنه ابن بنت فرعون، وقيل ابن
96
فرعون لصلبه، وقيل إنه اليسع، وقيل إنه من ولد فارس. وقيل من ولد بعض من كان آمن بإبراهيم وهاجر معه من أرض بابل، وقيل كان أبوه فارسياً وأمه رومية، وقيل بعكس ذلك.
ثم قيل كان اسمه عامراً؛ وقيل بليا بن ملكان، وقيل كلمان بدل ملكان، وقيل معمر بن مالك وكنيته أبو العباس، وهذا متفق عليه. قاله النووي.
واحتج من قال إنه نبي بقوله تعالى (وما فعلته عن أمري) لأن الظاهر من هذا أنه فعله بأمر الله والأصل عدم الواسطة.
قال الثعلبي: هو نبي في سائر الأقوال، ثم قيل نبي غير مرسل، وقيل أرسل إلى قومه فاستجابوا له ونصره الرماني ثم ابن الجوزي، وقيل كان ولياً وإليه ذهب جماعة من الصوفية، وبه قال علي بن أبي موسى من الحنابلة وابن الأنباري والقشيري، وقيل إنه ملك من الملائكة.
قال ابن جرير في تاريخه: إنه كان في أيام فريدون الملك في قول عامة أهل الكتاب الأول، وقيل كان على مقدمة ذي القرنين الأكبر الذي كان في زمن إبراهيم الخليل، وقصته هذه ذكرها جماعة منهم خيثمة بن سليمان.
وأما تعميره فقال ابن عباس: نسئ للخضر في أجله حتى يكذب الدجال، وقال أبو محنف: أجمع أهل العلم بالأحاديث والجمع لها أنه أطول آدمي عمراً وشرب من عين الحياة، وقال الحسن: وكل الخضر بالبحور وإلياس بالفيافي، وإنهما يجتمعان في موسم كل عام، وروى أبان مرفوعاً إليه ﷺ اجتماعهما عند ردم يأجوج ومأجوج كل ليلة، وفي سنده متروكان.
وقال النووي في التهذيب. قال الأكثرون من العلماء: هو حي موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه بين الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة وحكاياتهم
97
في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن تحصى، وأشهر من أن تذكر.
قال ابن الصلاح: هو حي عند جماهير العلماء والصلحاء والعامة منهم، إنما شذ بإنكاره بعض المحدثين. وقال بعضهم: إن لكل زمان خضراً وهي دعوى لا دليل عليها، وقال السهيلي: اسمه عاميل وإن أباه كان ملكاً، وأنه الرجل الذي يقتله الدجال ثم يحييه.
وقال البخاري وطائفة من أهل الحديث: إنه مات قبل انقضاء مائة سنة من الهجرة، ونصره أبو بكر العربي لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في آخر حياته " لا يبقى على وجه الأرض بعد مائة سنة ممن عليها اليوم " (١)؛ وله ألفاظ عند الشيخين وغيرهما عن جابر وابن عمر.
وأجاب من أثبت حياته بأنه كان حينئذ على وجه البحر، وما أبرد هذا الجواب وأبعده عن الصواب.
وأما اجتماعه مع النبي ﷺ وتعزيته لأهل البيت وهم مجتمعون لغسله ﷺ فقال لهم عليّ: هو الخضر فقد ذكره ابن عبد البر في التمهيد، وقيل اجتمع الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا جاز ذلك جاز لقاء الخضر، رواه ابن أبي الدنيا عن أنس، وتعقبه الحافظ أبو الخطاب بن دحية وقال: لم يصح من طرقه شيء ولا يثبت اجتماعه مع أحد من الأنبياء إلا مع موسى كما قصه الله من خبره، وجميع ما ورد في حياته لا يصح منه شيء باتفاق أهل النقل.
وأما ما جاء من المشايخ فهو مما يتعجب منه، كيف يجوز لعاقل أن يلقى شيخاً لا يعرفه فيقول له أنا فلان فيصدقه، وحديث التعزية المتقدم موضوع وفيه ابن محرز متروك، قال مسلم صاحب الصحيح فلما رأيته كانت بعرة
_________
(١) مسلم ٢٥٣٧ - البخاري ١٠٥.
98
أحب إليَّ منه، وما روي عن أنس فموضوع أيضاً، وقد نقل تكذيبه عن أحمد ويحيى وإسحاق وأبي زرعة، وسياق المتن ظاهر النكارة وإنه من المجازفات.
وتمسك من قال بتعميره بقصة عين الحياة واستند إلى ما وقع من ذكرها في صحيح البخاري وجامع الترمذي لكن لم يثبت ذلك مرفوعاً، وأخرج الطبراني في المعجم الكبير حديثاً طويلاً عن أبي أمامة الباهلي مرفوعاً إليه ﷺ في قصة الخضر يدل على كونه نبياً وسنده حسن لولا عنعنة بقية وهو ضعيف. وقد ذهب إلى أن الخضر مات عليُّ بن موسى الرضا والبخاري، وانكر أن يكون باقياً للحديث المتقدم، وهو عمدة من تمسك بأنه مات.
قال أبو حيان في تفسيره: الجمهور على أن الخضر مات، وبه قال ابن أبي الفضل المرسي، لأنه لو كان حياً لزمه المجيء إلى النبي ﷺ والإيمان به واتباعه، وقد روي عنه ﷺ أنه قال: لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي؛ وبذلك جزم ابن المناوي وإبراهيم الحربي وأبو طاهر العبادي. وأخرج مسلم من حديث جابر قال؛ قال رسول الله ﷺ قبل موته بشهر: " أقسم بالله ما على الأرض نفس منفوسة يأتي عليها مائة سنة " (١)، وله ألفاظ وطرق عند الترمذي وغيره.
وممن جزم أنه غير موجود الآن أبو يعلى الحنبلي وأبو الفضل بن ناصر والقاضي أبو بكر بن العربي وأبو بكر بن النقاش وابن الجوزي، واستدل على ذلك بأدلة منها ما تقدم، ومنها قوله تعالى (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون).
قال ابن عباس: ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه الميثاق إن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه. أخرجه البخاري.
فلو كان الخضر موجوداً لجاء إليه ونصره بيده ولسانه وقاتل تحت رايته،
_________
(١) مسلم ٢٥٣٨.
99
ولم يأت في خبر صحيح أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قاتل معه.
قال أبو الحسين بن المناوي: بحثت عن تعمير الخضر وهل هو باق أم لا فإذا أكثر المغفلين مغترون بأنه باق من أجل ما روي في ذلك، والأحاديث المرفوعة في ذلك واهية، والسند إلى أهل الكتاب ساقط لعدم ثقتهم؛ وخبر مسلمة بن مصقلة كالخرافة، وخبر رياح كالريح وما عدا ذلك من الأخبار كلها واهية الصدور والأعجاز لا يخلو حالها من أمرين؛ إما أن تكون أدخلت على الثقات استغفالاً أو يكون بعضهم تعمد ذلك. وقد قال الله (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد).
وفي تفسير الأصفهاني عن الحسن أن الخضر مات، وقد مر عنه أيضاً أنه حي، وإذا تعارضا تساقطا، واحتج ابن الجوزي أيضاً بما ثبت في صحيح البخاري أن النبي ﷺ قال يوم بدر: " اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض " (١)، ولم يكن الخضر فيهم، ولو كان يومئذ حياً لورد على هذا العموم، فإنه كان ممن يعبد قطعاً.
وقد بسط الحافظ بن حجر العسقلاني القول في بيان أحوال الخضر وأخباره قبل بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتي وردت أن الخضر وإلياس كانا في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم بعده إلى الآن، وما جاء في بقائه بعد النبي ﷺ ومن نقل عنه أنه رآه وكلمه في أبواب مستقلة من كتابه الإصابة في معرفة الصحابة، وتكلم على أسانيدها جرحاً وتعديلاً وغالبها لا يخلو عن علة أو ضعف أو انقطاع أو إعضال أو وضع أو نكارة أو شذوذ، ولا يصلح شيء للاستدلال على حياة الخضر وبقائه إلى الآن أو إلى خروج الدجال.
_________
(١) مسلم ١٧٦٣ - الإمام أحمد ١/ ٣٠ ولم أجده في البخاري.
100
والحق ما ذكرناه عن البخاري وأضرابه في ذلك ولا حجة في قول أحد كائناً من كان إلا الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يرد في ذلك نص مقطوع به ولا حديث مرفوع إليه ﷺ حتى يعتمد عليه ويصار إليه؛ وظاهر الكتاب والسنة نفي الخلد وطول التعمير لأحد من البشر، وهما قاضيان على غيرهما، ولا يقضي غيرهما عليهما.
ومن قال إنه نبي أو مرسل أو حي باق لم يأت بحجة نيرة ولا سلطان مبين، وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل، وقد تكلم الحافظ على هذا الباب في فتح الباري أيضاً فمَنْ شاء الاطلاع على تفصيل ذلك فليرجع إليه وبالله التوفيق، ومنه الفتح والإصابة. ولما أجاب سبحانه عن سؤالين من سؤالات اليهود وانتهى الكلام إلى حيث انتهى شرع سبحانه في السؤال الثالث والجواب عنه، فالمراد بالسائلين في قوله (ويسألونك) هم اليهود أي سؤال تعنت (عن ذي القرنين) واختلفوا فيه اختلافاً كثيرا، فقيل هو الاسكندر بن فيلقوس الذي ملك الدنيا كلها بأسرها اليوناني باني الاسكندرية.
وقال ابن إسحاق: هو رجل من أهل مصر اسمه مرزبان بن مرزبة اليوناني من ولد يونان بن يافث بن نوح، وقيل هو ملك اسمه هرمس وقيل هردس، وقيل شاب من الروم وقيل كان نبياً وقيل كان عبداً صالحاً وقيل اسمه عبد الله بن الضحاك وقيل مصعب بن عبد الله من أولاد كهلان بن سبا.
وحكى القرطبي عن السهيلي أنه قال: أن الظاهر من علم الأخبار أنهما اثنان أحدهما كان على عهد إبراهيم عليه السلام، والآخر كان قريباً من عيسى عليه السلام، وقيل هو أبو كرب الحميري وقيل هو ملك من الملائكة؛ ورجح الرازي القول الأول قال: لأن من بلغ ملكه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها النزيل إنما هو إسكندر اليوناني كما يشهد به كتب التواريخ قال فوجب القطع بأن ذا القرنين هو الاسكندر.
قال: وفيه إشكال لأنه كان تلميذاً لأرسطاطاليس الحكيم وكان
101
على مذهبه فتعظيم الله إياه يوجب الحكم بأن مذهب أرسطاطاليس حق وصدق، وذلك مما لا سبيل إليه.
قال النيسابوري: قلت ليس كل ما ذهب إليه الفلاسفة باطلاً فلعله أخذ منهم ما صفا وترك ما كدر والله أعلم، ورجح ابن كثير ما ذكره السهيلي من أنهما اثنان كما قدمنا ذلك وبين أن الأول طاف بالبيت مع إبراهيم أول ما بناه وآمن به واتبعه وكان وزيره الخضر، وأما الثاني فهو الاسكندر المقدوني اليوناني وكان وزيره الفيلسوف المشهور أرسطاطاليس وكان قبل المسيح بنحو من ثلاثمائة سنة، فأما الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل.
هذا معنى ما ذكره ابن كثير في تفسيره راوياً له عن الأزرقي وغيره ثم قال: وقد ذكرنا طرفاً صالحاً في أخباره في كتاب (البداية والنهاية) بما فيه كفاية (١)، وحكى أبو السعود في تفسيره عن ابن كثير أنه قال؛ وإنما بينا هذا يعني أنهما اثنان لأن كثيراً من الناس يعتقد أنهما واحد، وأن المذكور في القرآن العظيم هو هذا المتأخر فيقع بذلك خطأ كثير وفساد كبير.
كيف لا والأول كان عبداً صالحاً مؤمناً وملكاً عادلاً ووزيره الخضر، وقد قيل إنه كان نبياً، وأما الثاني فقد كان كافراً ووزيره أرسطاطاليس الفيلسوف وكان بينهما من الزمان أكثر من ألفي سنة، فأين هذا من ذاك انتهى.
قلت: لعله ذكر هذا في الكتاب الذي ذكره سابقاً وسماه بالبداية والنهاية ولم نقف عليه والذي يستفاد من كتب التاريخ هو أنهما اثنان كما ذكره السهيلي والأزرقي وابن كثير وغيرهم لا كما ذكر الرازي وادعى أنه الذي تشهد به كتب التواريخ وقد وقع الخلاف هل هو نبي أم لا؟ وسيأتي ما يستفاد منه المطلوب.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب الرد على المنطقيين: المشهور
_________
(١) ابن كثير ٣/ ١٠٠.
102
المتواتر أن أرسطو وزير الاسكندر بن فيلبس كان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة وكثير من الجهال يحسب أن هذا هو ذو القرنين المذكور في القرآن ويعظم أرسطو بكونه كان وزيراً له كما ذكر ذلك ابن سينا وأمثاله من الجهال بأخبار الأمم، وهذا من جهلهم فإن الاسكندر الذي وزر له أرسطو هو المقدوني الذي يؤرخ له تاريخ الروم المعروف عند اليهود والنصارى وهو إنما ذهب إلى أرض القدس لم يصل إلى السد عند من يعرف أخباره، وكان مشركاً يعبد الأصنام، وكذلك أرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الأصنام وذو القرنين كان موحداً مؤمناً بالله وكان متقدماً على هذا؛ ومن يسميه الإسكندر ويقول هو الإسكندر بن فيلبس.
ولهذا كان هؤلاء المتفلسفة إنما راجوا على أبعد الناس عن العقل والدين كالقرامطة والباطنية الذين ركبوا مذهبهم من فلسفة اليونان ودين المجوس وأظهروا الرفض، وكجهال المتصوفة وأهل الكلام، وإنما ينفقون (١) في دولة جاهلية بعيدة عن العلم والإيمان إما كفاراً وإما منافقين كما نفق منهم من نفق على المنافقين الملاحدة ثم نفق على المشركين الترك، وكذلك إنما ينفقون دائماً على أعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين انتهى.
وأما السبب الذي لأجله سمي ذا القرنين فقال الزجاج والأزهري: إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرن الشمس من مطلعها وقرن الشمس من مغربها، وقيل إنه كان له ضفيرتان من شعر والضفائر تسمى قروناً، وقيل إنه رأى في أول ملكه كأنه قابض على قرني الشمس فسمي بذلك، وقيل كان له قرنان تحت عمامته، وقيل: إنه دعا إلى الله فشجه قومه على قرنه ثم دعا إلى الله فشجوه على قرنه الآخر وقيل إنما سمي بذلك لأنه كريم الطرفين من أهل بيت شرف من قبل أبيه وأمه وقيل: لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس وهو حي، وقيل
_________
(١) أي يروجون.
103
لأنه كان إذا قاتل قاتل بيديه وركائبه جميعاً، وقيل لأنه أعطى علم الظاهر والباطن.
وقيل لأنه دخل النور والظلمة، وقيل لأنه ملك فارس والروم، وقيل لأنه ملك الروم والترك، وقيل: لأنه بلغ أقصى المغرب والمشرق والشمال والجنوب، وهذا هو القدر المعمور من الأرض، وقيل لأنه كان لتاجه قرنان.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أدري أتُبَّع كان نبياً أم لا؟ وما أدري أذو القرنين كان نبياً أم لا؟ وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا " (١)؟ أخرجه عبد الرزاق وابن المنذر والحاكم وصححه وغيرهم.
وعن عليّ بن أبي طالب قال؛ لم يكن نبياً ولا ملكاً ولكن كان عبداً صالحاً أحب الله فأحبه الله، ونصح لله فنصحه الله، بعثه الله إلى قوم فضربوه على قرنه فمات ثم أحياه الله لجهادهم، ثم بعثه الله إلى قومه فضربوه على قرنه الآخر فمات فأحياه الله لجهادهم فلذلك سمي ذا القرنين وإن فيكم مثله.
وعن ابن عمر قال: ذو القرنين نبي، وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " هو ملك يسيح الأرض بالأسباب "، أخرجه ابن أبي حاتم عن الأحوص بن حكيم عن أبيه وعن عمر بن الخطاب أنه سمع رجلاً ينادي بمنى يا ذا القرنين فقال ها أنتم قد سميتم بأسماء الأنبياء فما بالكم وأسماء الملائكة، وفي الباب غير ما ذكرناه مما يغني عنه ما قد أوردناه.
وقد أخرج أبو الشيخ والبيهقي عن عقبة بن عامر الجهني حديثاً يتضمن أن نفراً من اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذي القرنين فأخبرهم بما جاؤوا له ابتداء وكان فيما أخبرهم به أنه كان شاباً من الروم وأنه بنى الاسكندرية وأنه علا به ملك إلى السماء وذهب به إلى السد، وإسناده
_________
(١) المستدرك كتاب التفسير ٢/ ٤٥٠.
104
ضعيف وفي متنه نكارة، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل، ذكر معنى هذا ابن كثير في تفسيره وعزاه إلى ابن جرير والأموي في مغازيه: ثم قال بعد ذلك والعجب أن أبا زرعة الرازي مع جلالة قدره ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة انتهى (١).
وقد ساقه بتمامه السيوطي في الدر المنثور وساق أيضاً خبراً طويلاً عن وهب بن منبه وعزاه إلى ابن إسحاق وابن المنذر وغيرهم، وفيه أشياء منكرة جداً وكذلك ذكر خبراً طويلاً عن محمد الباقر أخرجه أبو الشيخ وغيره، ولعل هذه الأخبار ونحوها منقولة عن أهل الكتاب وقد أمرنا بأن لى لا نصدقهم ولا نكذبهم فيما ينقلونه إلينا.
واختلفوا أيضاً في وقته فقال قوم: كان بعد موسى، وقال قوم: كان في الفترة بعد عيسى، وقال قوم: كان في وقت إبراهيم وإسماعيل، وقد حققنا ذلك في لقطة العجلان فراجعه.
وبالجملة فإن الله مكنه وملكه ودانت له الملوك، وروي أن الذين ملكوا الدنيا كلها أربعة مؤمنان وكافران، فالمؤمنان سليمان بن داود والاسكندر، والكافران نمروذ وبختنصر، وسيملكها من هذه الأمة خامس لقوله تعالى (ليظهره على الدين كله) وهو المهدي ذكره القرطبي.
وعن السدي قال؛ قالت اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: إنك إنما تذكر إبراهيم وموسى وعيسى والنبيين إنك سمعت ذكرهم منا فأخبرنا عن نبي لم يذكره الله في التوراة إلا في مكان واحد، قال " ومن هو؟ " قالوا ذو القرنين قال: " ما بلغني عنه شيء " فخرجوا فرحين قد غلبوا في أنفسهم، فلم يبلغوا باب البيت حتى نزل جبريل بهذه الآيات
_________
(١) ابن كثير ٣/ ١٠٠.
105
(ويسألونك عن ذي القرنين). (قل سأتلو عليكم) أيها السائلون (منه) أي من ذي القرنين (ذكراً) خبراً وذلك بطريق الوحي التلو.
105
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (٨٥) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (٨٦) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٨٩) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (٩٠) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (٩١)
ثم شرع سبحانه في بيان ما أمر به رسوله أن يقوله لهم من أنه سيتلو عليهم منه ذكراً فقال
106
(إنا مكنا له في الأرض) أي أقدرناه بما مهدنا له من الأسباب فجعلنا له مكنة وقدرة على التصرف فيها وسهل عليه المسير في مواضعها وذلّل له طرقها حتى تمكن منها أين شاء وكيف شاء، ومن جملة تمكينه فيها أن جعل الله الليل والنهار عليه سواء في الإضاءة (وآتيناه من كل شيء) مما يتعلق بمطلوبه أو مما يحتاج إليه الخلق (سبباً) أي طريقاً يتوصل بها إلى ما يريده كآلات السير وكثرة الجند واستقصاء بقاع الأرض والوصول إلى عين الحياة، وقال ابن عباس: سبباً أي علماً وقال أيضا: بلاغاً إلى حيث أراد.
قال المفسرون: والمعنى طريقاً تؤديه إلى مغرب الشمس قاله الزجاج: وقيل من كل شيء يستعين به الملوك من فتح المدائن وقهرالأعداء وأصل السبب الحبل فاستعير لكل ما يتوصل به إلى شيء.
(فأتبع سبباً) سلك طريقاً نحو المغرب، قال الأخفش: تبعته وأتبعته بمعنى مثل ردفته وأردفته ومنه قوله تعالى (فأتبعه شهاب) وحكى الأصمعي أنه يقال تبعته واتبعته إذا سار ولم يلحقه واتبعه إذا لحقه.
106
قال أبو عبيدة: ومثله (فأتبعوهم مشرقين) قال النحاس وهذا من الفرق وإن كان الأصمعي قد حكاه فلا يقبل إلا بعلم أو دليل، وقوله عز وجل (فأتبعوهم مشرقين) ليس في الحديث أنهم لحقوهم، وإنما في الحديث لما خرج موسى وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه في البحر انطبق عليهم البحر.
والحق في هذا أن تبع واتبع وأتبع لغات، بمعنى واحد وهو بمعنى السير
107
(حتى إذا بلغ مغرب الشمس) أي نهاية الأرض من جهة المغرب وآخر العمارة منها لأن من وراء هذه النهاية البحر المحيط وهو لا يمكن المضي فيه فلما لم يبق قدامه شط بل مياه لا آخر لها (وجدها) أي رأى الشمس (تغرب في عين حمئة) أي كثيرة الحمأة وهي الطينة السوداء يقال حمأت البئر حمأً بالتسكين إذا نزعت حمأتها وحمأت البئر حمأً بالتحريك كثرت حمأتها وقرئ حامية من الحمأة أي حارة وقد يجمع بين القراءتين فيقال كانت حارة وذات حمئة.
قال كعب: أما أنا فإني أجد في التوراة تغرب الشمس في ماء وطين، وأشار بيده إلى المغرب وأنشد ابن أبي حاصر:
فرأى مغيب الشمس عند غروبها في عين ذي خلب وثاط حرمد
فقال ابن عباس: ما الخلب؟ قال الطين بكلامهم، قال فما الثاط؟ قال الحمئة، قال فما الحرمد؟ قال الأسود، فدعا ابن عباس غلاماً فقال اكتب ما يقول هذا الرجل.
قيل ولعل ذا القرنين لما بلغ ساحل البحر المحيط رآها كذلك في نظره إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء. ولذلك قال (وجدها تغرب) ولم يقل كانت تغرب، قاله البيضاوي، يعني على العادة من أن الشخص إذا كان في البحر
107
يرى الشمس كأنها تغرب فيه، قيل وتسمية البحر المحيط عيناً لا محذور فيه، خصوصاً وهو بالنسبة إلى ما هو أعظم منه في علم الله.
وفي القرطبي قال بعض العلماء: ليس المراد أنه انتهى إلى الشمس مغرباً ومشرقاً حتى وصل إلى جرمها ومسها لأنها تدور مع السماء حول الأرض من غير أن تلصق بالأرض، وهي أعظم من أن تدخل في عين من عيون الأرض لأنها أكبر من الأرض أضعافاً مضاعفة، بل المراد أنه انتهى إلى آخر العمارة من جهتي المغرب والمشرق فوجدها في رأي العين تغرب في عين حمئة، كما إنا نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض؛ ولهذا قال (وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً) ولم يرد أنها تطلع عليهم بأن تماسهم وتلاصقهم، بل أراد أنهم أول من تطلع عليه.
وقال القتيبي: ويجوز أن تكون هذه العين من البحر وتكون الشمس تغيب وراءها أو عندها أو معها فيقام حرف الصفة مقام صاحبه والله أعلم. أهـ.
أقول ولا يبعد أن يقال لا مانع من أن يمكنه الله من عبور البحر حتى يصل إلى تلك العين التي تغرب فيها الشمس، وما المانع من هذا بعد أن حكى الله عنه أنه بلغ مشرق الشمس ومكن له في الأرض والبحر من جملتها، ومجرد الاستبعاد لا يوجب حمل القرآن على خلاف ظاهره.
قال الكرخي: فالله تعالى قادر على تصغير جرم الشمس وتوسيع العين وكرة الأرض بحيث تسع عين الماء عين الشمس، فلم لا يجوز ذلك وإن كنا لا نعلم به لقصور عقولنا عن الإحاطة بذلك، وأيضاًً الأنبياء والحكماء لا يبعد أن يقع منهم مثل ذلك. ألا ترى إلى ظن موسى فيما أنكره على الخضر. أهـ.
(ووجد عندها) أي عند العين أو الشمس (قوماً) قيل هم قوم عراة
108
لباسهم جلود الوحش وطعامهم ما لفظ البحر، وكانوا كفاراً، قاله البيضاوي. ومن المعلوم أن الكفر إنما يتحقق بعد بعثة رسول وعدم إيمانهم به، ولينظر أي رسول أرسل إلى هؤلاء حتى كفروا به.
هذا والأظهر أنهم كانوا أهل فترة لم يرسل إليهم أحد، ولما جاءهم ذو القرنين دعاهم إلى ملة إبراهيم، فمنهم من آمن ومنهم من كفر؛ فخيره الله بين أن يعذبهم وبين أن يتركهم فقال:
(قلنا يا ذا القرنين) يستدل بها من يزعم أنه كان نبياً فإن الله خاطبه بالوحي ومن قال إنه لم يكن نبياً أوّله بالإلهام، ويحتمل أن يكون الخطاب على لسان نبي غيره (إِما أن تعذب) إياهم بالقتل من أول الأمر (وإما أن تتخذ فيهم حُسناً) أي أمراً ذا حسن أو أمراً حسناً مبالغة بجعل المصدر صفة للأمر، والمراد دعوتهم إلى الحق وتعليمهم الشرائع، قيل: وإما للتقسيم دون التخيير، أي ليكن شأنك معهم إما التعذيب وإما الإحسان، فالأول لمن أصرّ على الكفر والثاني لمن تاب منه والأول أولى.
109
(قال) ذو القرنين مختاراً للدعوة التي هي الشق الأخير من الترديد (أما من ظلم) نفسه بالإصرار على الشرك ولم يقبل دعوتي (فسوف نعذبه) بالقتل في الدنيا (ثم يرد إلى ربه) في الآخرة (فيعذبه) فيها (عذاباً نكراً) أي منكراً فظيعاً شديداً بالنار لأنها أنكر من القتل، قال الزجاج: خيره الله بين الأمرين.
قال النحاس: وَرُدّ على ابن سليمان قوله لأنه لم يصح أن ذا القرنين نبي فيخاطب بهذا فكيف يقول لربه عز وجل (ثم يرد إلى ربه) وكيف يقول فسوف نعذبه فيخاطبه بالنون، قال والتقدير قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين، قال النحاس: وهذا الذي ذكره لا يلزم لجواز أن يكون الله عز وجل خاطبه
109
على لسان نبي في وقته، وكان ذو القرنين خاطب أولئك القوم، فلا يلزم ما ذكره، ويمكن أن يكون مخاطباً للنبي الذي خاطبه الله على لسانه أو خاطب قومه الذي وصل بهم إلى ذلك الموضع.
110
(وأما من آمن) بالله وصدق دعوتي (وعمل) عملاً (صالحاً) مما يقتضيه الإيمان (فله جزاء الحسنى) بنصب جزاء وتنوينه، قال الفراء: نصبه على التمييز وقال الزجاج: هو مصدر في موضع الحال، أي مجزياً بها جزاء، وقرئ بالإضافة أي جزاء الخصلة الحسنى عند الله أو الفعلة الحسنى وهي الجنة، قاله الفراء. وقيل: إضافة الجزاء إلى الحسنى التي هي الجنة كإضافة حق اليقين ودار الآخرة، ويجوز أن يكون هذا الجزاء من ذي القرنين أي أعطيه وأتفضل عليه.
(وسنقول له) أي لمن آمن (من أمرنا يسراً) أي مما نأمر به قولاً ذا يسر ليس بالصعب الشاق أو أطلق عليه المصدر مبالغة
(ثم أتبع سبباً) أي سلك طريقاً آخر غير الطريق الأولى، وهي التي رجع بها من المغرب وسار فيها إلى المشرق واستمر فيه لا يمل ولا تغلبه أمة مرَّ عليها.
(حتى إذا بلغ) في مسيره ذلك (مطلع الشمس) أي الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولاً من معمور الأرض، أو مكان طلوعها لعدم المانع شرعاً ولا عقلاً من وصوله إليه كما أوضحناه فيما سبق، قيل بلغه في اثنتي عشرة سنة، وقيل في أقل من ذلك بناء على أنه سخر له السحاب وطويت له الأسباب.
(وجدها تطلع على قوم) قيل: هم الزنج وقيل: هم من نسل مؤمني قوم هود واسم مدينتهم حاحيالق واسمها بالسريانية مرقسا، وهم مجاورون يأجوج ومأجوج (لم نجعل لهم من دونها) أي الشمس (ستراً) يسترهم لا من
110
البيوت والسقوف ولا من اللباس بل هم حفاة عراة لا يأوون إلى شيء من العمارة، قيل لأنهم بارض لا يمكن أن يستقر عليها البناء.
قال كعب: أرضهم لا تمسك الأبنية لرخاوتها وبها أسراب فإذا طلعت الشمس دخلوها فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم. قال الزمخشري وعن بعضهم قال: خرجت حتى جاوزت الصين، فسألت عن هؤلاء القوم فقيل لي بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم وإذا أحدهم يفرش إحدى أذنيه ويلتحف الأخرى، فلما قرب طلوع الشمس سمعت صوتاً كهيئة الصلصلة فغشى عليَّ ثم أفقت فلما طلعت الشمس فإذا هي فوق الماء كهيئة الزيت، فأدخلوني سرباً لهم فلما طلع النهار جعلوا يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم.
وقال مجاهد: من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض، وفي كتب الهيئة إن أكثر حال الزنج كذلك، وكذا حال كل من سكن البلاد القريبة من خط الاستواء.
111
(كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً) أي كذلك أمر ذي القرنين، اتبع هذه الأسباب حتى بلغ، وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به أو من الآلات والجند وغيرهما.
وقيل المعنى لم نجعل لهم ستراً مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الأبنية والثياب، وقيل المعنى وكذلك بلغ مطلع الشمس مثل ما بلغ من مغربها وقيل المعنى كذلك يطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم، فقضى في هؤلاء مثل ما قضى في أولئك من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين وهو الأصح ويكون تأويل الإحاطة بما لديه في هذه على ما يناسب ذلك كما قلنا في الوجه الأول، ثم حكى سبحانه سفر ذي القرنين إلى ناحية أخرى وهي ناحية القطر الشمالي بعد تهيئة أسبابه فقال:
111
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (٩٢) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (٩٣) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (٩٦) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (٩٧)
112
(ثم أتبع سبباً) أي سلك طريقاً ثالثاً معترضاً بين المشرق والمغرب واستمر آخذاً فيه
(حتى إذا بلغ) في مسيره ذلك (بين السدين) بفتح السين وقرئ بضمها وهما سبعيتان.
وقال أبو عبيدة وابن الأنباري وأبو عمرو بن العلاء: السد إن كان بخلق الله تعالى فهو بضم السين حتى يكون بمعنى مفعول أي هو مما فعله الله وخلقه، وإن كان من عمل العباد فهو بالفتح حتى يكون حدثاً.
وقال ابن الأعرابي: كل ما قابلك فَسَد ما وراءه فهو سد، وسد نحو الضعف والضعف والفقر والفقر، والسدان هما جبلان من قبل أرمينية وأذربيجان. قاله ابن عباس. وقيل موضع بين السدين هو منقطع أرض الترك مما يلي المشرق، وقيل هما جبلان عاليان جداً أملسان لا يستطاع الصعود عليهما كالسد الأتي، ويسمى كل واحد منهما سدا لأنه سد فجاج الأرض.
وفي الشهاب إطلاق السد على الجبل لأنه سد في الجملة، وفي القاموس السد الجبل والحاجز أو لكونه ملاصقاً للسد فهو مجاز بعلاقة المجاورة.
وحكى ابن جرير في تاريخه أن صاحب أذربيجان أيام فتحها وجه إنساناً
112
من ناحية الجزر فشاهده ووصف أنه بنيان رفيع وراء خندق وثيق منيع.
وحكى أن الواثق بعث بعض من يثق به إليه ليعاينوه فخرجوا من باب من الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه فوصفوا أنه بناء من لبن حديد مشدود بالنحاس المذاب وعليه باب مقفل، وقيل جبلان في أواخر الشمال.
قال الرازي: والأظهر أن موضع السدين في ناحية الشمال سد الإسكندر ما بينهما، أي الفتحة وطولها مائة فرسخ، وليس ليأجوج ومأجوج طريق يخرجون منها إلى أرض العمارة إلا هذه الفتحة ومسكنهم وراء هذين الجبلين، وأرضهم متسعة جداً تنتهي إلى البحر المحيط.
(وجد من دونهما) أي من ورائهما مجاوزاً عنهما، وقيل أمامهما أي خارجة عنهما لا داخلة بناحية يأجوج ومأجوج. وقال الخطيب بقربهما من الجانب الذي هو أدنى منهما إلى الجهة التي أتى منها ذو القرنين (قوماً) أي أمة من الناس لغتهم في غاية البعد من لغات بقية الناس لبعد بلادهم من بقية البلاد، فلذا (لا يكادون) أي لا يقربون (يفقهون) أي يفهمون (قولاً) ممن مع ذي القرنين فهماً جيداً كما يفهم غيرهم لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم.
وقرئ بضم الياء وكسر القاف من أفقه إذا أبان، أي لا يبينون لغيرهم كلاماً، وقرئ بفتح الياء والقاف أي لا يفهمون كلام غيرهم، والقراءتان صحيحتان ومعناهما لا يفهمون عن غيرهم ولا يفهمون غيرهم لأنهم لا يعرفون غير لغة أنفسهم ولسانهم غريب مجهول لشدة عجمتهم فكلامهم مغلق قال ابن جريج هم الترك.
113
(قالوا) أي هؤلاء القوم الذين لا يفهمون قولاً (يا ذا القرنين) وهو الإسكندر الأكبر، قيل أن فهمه لكلامهم من جملة الأسباب التي أعطاه الله، وقيل إنهم قالوا ذلك لترجمانهم؛ فقال لذي القرنين بما قالوا له، وذلك لأنهم
113
من أولاد يافث بن نوح وذو القرنين من أولاد سام فلا يفهم لغتهم.
(إن يأجوج ومأجوج) اسمان عجميان لا اشتقاق لهما بدليل منع صرفهما للعلمية والعجمة، وبه قال الأكثر، وقيل عربيان مشتقان من أج الظليم في مشبه إذا هرول، وتأججت النار إذا تلهبت، وقرأهما الجمهور بغير همز، وقرأ عاصم بالهمز.
قال ابن الأنباري: وجه همزهما وإن لم يعرف له أصل أن العرب قد همزت حروفاً لا يعرف الهمز فيها أصل، كقولهم كَبْأَثَ وَرَثْأثَ وَاسْتَشْأَثَ الريح، ويحتمل إن تكون الهمزة أصلاً والألف بدلاً عنها أو بالعكس، لأن العرب تتلاعب بالأسماء العجمية، قال أبو علي: يجوز أن يكونا عربيين، فمن همز فهو على وزن يفعول، مثل يربوع، ومن لم يهمز أمكن أن يكون خفف الهمزة فقلبها ألفاً مثل رأس.
وأما مأجوج فهو مفعول من أج والكلمتان من أصل واحد في الاشتقاق، قال وترك الصرف فيهما على تقدير كونهما عربيين للتأنيث والتعريف كأنه اسم للقبيلة. وقيل: اشتقاقهما من الأَوْجَة وهي الاختلاط أو شدة الحر، وقيل من الأوج وهو سرعة العدو، واختلف في نسبهم، فقيل: هم من ولد يافث بن نوح والترك منهم، وقيل يأجوج ومأجوج من الترك ومأجوج من الجيل والديلم.
وقال كعب الأحبار: احتلم آدم فاختلط ماؤه بالتراب فخلقوا من ذلك الماء قال القرطبي: وهذا فيه نظر لأن الأنبياء لا يحتلمون، وإنما هم من ولد يافث، كذلك قال مقاتل وغيره. وقد وقع الخلاف في صفتهم، فمن الناس من يصفهم بصغر الجثث وقصر القامة، ومنهم من يصفهم بكبر الجثث وطول القامة، ومنهم من يكون لهم مخالب كمخالب السباع، وإن منهم صنفاً يفترش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، ولأهل العلم من السلف ومن بعدهم أخبار مختلفة في صفاتهم وأفعالهم.
114
قال ابن عباس: يأجوج ومأجوج شبر وشبران وأطولهم ثلاثة أشبار وهم من ولد آدم وفيه بعد، وعن ابن عمرو عن النبي ﷺ قال: إن يأجوج ومأجوج من ولد آدم، ولو أرسلوا لأفسدوا على الناس معايشهم، ولا يموت منهم رجل إلا ترك من ذريته ألفاً فصاعداً، وإن من ورائهم ثلاث أمم تأويل وتاريس ومنسك، أخرجه الطبراني وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي وغيرهم قيل هم عشرة أجزاء وولد آدم كلهم جزء ومسافة الأرض بتمامها خمسمائة عام ثلثمائة بحار ومائة وتسعون مسكن لهم بقي عشرة سبعة للحبشة وثلاثة لجملة الخلق غيرهم وهم كفار دعاهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإيمان ليلة الإسراء فلم يجيبوا والله أعلم.
(مفسدون في الأرض) بالنهب والبغي عند خروجهم، وقيل سيفسدون بعد خروجهم إلينا، واختلف في إفسادهم في الأرض فقيل هو أكل بني آدم، وقيل هو الظلم والغشم والقتل وسائر وجوه الإفساد، وقيل كانوا يخرجون إلى أرض هؤلاء القوم الذين شكوهم إلى ذي القرنين في أيام الربيع فلا يدعون فيها شيئاً أخضر إلا أكلوه ولا يابساً إلا حملوه وأدخلوه أرضهم.
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في البعث عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ قال: " إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض يحفرون السد كل يوم حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستفتحونه غداً فيعودون إليه أشد ما كان حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا فستفتحونه إن شاء الله تعالى ويستثنى فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ويخرجون على الناس فيستقون المياه ويتحصن الناس منهم في حصونهم فيرمون بسهامهم إلى السماء فترجع مخضبة بالدماء فيقولون قهرنا من في الأرض وعلونا من في السماء قسراً وعلواً فيبعث الله عليهم نغفا في أقفائهم فيهلكون، قال رسول الله صلى
115
الله عليه وسلم فوالذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتبطر وتشكر شكراً من لحومهم " (١).
وقد ثبت في الصحيحين من حديث زينب بنت جحش قالت: استيقظ رسول الله ﷺ من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول " لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق "، قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: " نعم إذا كثر الخبث " (٢)، وأخرجا نحوه من حديث أبي هريرة مرفوعاً وقد ذكرنا تفصيل حالهم في حجج الكرامة فراجعه (فهل نجعل لك خرجاً) هذا الاستفهام من باب حسن الأدب مع ذي القرنين وقرئ خراجاً.
قال الأزهري: الخراج يقع على الضريبة ويقع على مال الفيء ويقع على الجزية وعلى الغلة، والخراج أيضاً اسم لما يخرج من الفوائض في الأموال والخرج المصدر، وقال قطرب: الخرج الجزية والخراج في الأرض وقيل: الخرج ما يخرجه كل أحد من ماله والخراج ما يجبيه السلطان، وقيل: هما بمعنى واحد قال ابن عباس خرجاً أي أجراً عظيماً وجعلاً من الأموال.
(على أن تجعل بيننا وبينهم سداً) أي ردماً حاجزاً بيننا وبينهم فلا يصلون إلينا، قال الخليل وسيبويه: الضم (٣) هو الاسم والفتح المصدر، وقال الكسائي: الضم والفتح لغتان بمعنى واحد وقد سبق قريباً ما حكيناه عن أبي عمرو بن العلاء وأبي عبيدة وابن الأنباري من الفرق بينهما.
وقال ابن أبي إسحاق: ما رأته عيناك فهو سُد بالضم وما لا ترى فهو سد بالفتح وقد قدمنا بيان من قرأ بالفتح وبالضم في السدين.
_________
(١) الترمذي ٢/ ١٩٧ - الحاكم ٤/ ٤٨٨ - الإمام أحمد ٢/ ٥١٠.
(٢) مسلم ٢٨٨٠ - البخاري ١٥٨٢.
(٣) الضم: أي ضم السين في " سداً " ومثله الفتح.
116
(قال) لهم ذو القرنين (ما مكني فيه ربي) أي ما بسطه الله لي من
116
المال والقدرة والملك وفي قراءة سبعية بنونين من غير إدغام (خير) من خرجكم الذي تجعلونه لي فلا حاجة لي إليه وأجعل لكم السد تبرعاً ثم طلب منهم المعاونة له فقال (فأعينوني بقوة) أي برجال منكم يعملون بأيديهم أو أعينوني بآلات البناء أو بمجموعهما.
قال الزجاج: بعمل تعملونه معي (أجعل بينكم وبينهم ردماً) حاجزاً حصيناً وهذا جواب الأمر، والردم ما جعل بعضه على بعض حتى يتصل.
قال الهروي: يقال ردمت الثلمة أردمها بالكسر ردماً أي سددتها والردم أيضا الاسم وهو السد، وقيل: الردم أبلغ من السداد، السد كل ما يسد به والردم وضع الشيء على الشيء من حجارة أو تراب أو نحوهما حتى يقوم من ذلك حجاب منيع ومنه ردم ثوبه إذا رقعه برقاع متكائفة بعضها فوق بعض، قال ابن عباس: الردم هو أشد الحجاب.
117
(آتوني) أي أعطوني وناولوني (زبر الحديد) جمع زبرة كغرفة وغرف وهي القطعة، قال الخليل: الزبرة من الحديد القطعة الضخمة، قال الفراء: معناه آتوني بها على قدر الحجارة التي يبنى فيها فبنى بها وجعل بينها الحطب والفحم (حتى إذا ساوى بين الصدفين) بفتح الحرفين وضمهما وضم الأول وسكون الثاني، والثاني أشهر اللغات وقرئ بفتح الصاد وضم الدال.
وقال الأزهري: يقال لجانبي الجبل صدفان إذا تحاذيا لتصادفهما أي تلاقيهما وكذا قال أبو عبيدة والهروي وقد يقال لكل بناء عظيم مرتفع صدف قاله أبو عبيدة؛ وفي البيضاوي الصدفين من الصدف وهو الميل لأن كلا منهما منعزل عن الآخر ومنه التصادف للتقابل وقال ابن عباس: الصدفين الجبلين، وقال مجاهد: رؤوس الجبلين، ومعنى الآية أنهم أعطوه زبر الحديد فجعل يبني بها بين الجبلين حتى ساواهما.
ثم (قال) للعملة (انفخوا) على هذه الزُّبَر بالكيران (حتى إذا
117
جعله) أي جعل ذلك المنفوخ فيه وهو الزبر (ناراً) أي كالنار في حرها وإسناد الجعل إلى ذي القرنين مجاز لكونه الآمر بالنفخ قيل: كان يأمر بوضع طاقة من الزبر والحجارة ثم يوقد عليها الحطب والفحم بالمنافخ حتى يحمى، والحديد إذا أوقد عليه صار كالنار ثم يؤتى بالنحاس المذاب فيفرغه على تلك الطاقة وهو معنى قوله:
(قال آتوني أفرغ عليه قطراً) قال أهل اللغة هو النحاس الذائب وبه قال ابن عباس: والإفراغ الصب وكذا قال أكثر المفسرين، وقالت طائفة: القطر الحديد المذاب، وقالت طائفة أخرى منهم ابن الأنباري: هو الرصاص المذاب فدخل القطر بين زُبَره فصار شيئاً واحداً قيل: وهذا السد معجزة عظيمة ظاهرة لأن الزُّبْرَة الكبيرة إذا نفخ عليها حتى صارت كالنار لم يقدر أحد على القرب منها والنفخ عليها لا يمكن إلا بالقرب منها فكأنه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النافخين حتى تمكنوا من العمل فيه.
118
(فما اسطاعوا) أصلها فما استطاعوا، قال ابن السكيت: يقال ما أستطيع وما أستطيع وما أستيع وبالتخفيف قرأ الجمهور وقرأ حمزة وحده فما اسطاعوا بتشديد الطاء وهي قراءة ضعيفة الوجه.
قال أبو علي الفارسي: هي غير جائزة وقرئ على الأصل (أن يظهروه) أي يعلوه قاله ابن جريج، وقال قتادة: أن يرتقوه فما اسطاع يأجوج ومأجوج أن يعلوا على ذلك الردم لارتفاعه وملاسته فكان ارتفاعه مائتي ذراع ولملاسته لا يثبت عليه قدم ولا غيره.
(وما استطاعوا له نقباً) يقال نقبت الحائط إذا خرقت فيه خرقاً فخلص ما وراءه، قال الزجاج: ما استطاعوا أن ينقبوه من أسفله لشدته وصلابته وسمكه وثخنه أي عرضه قيل: أن عرضه خمسون ذراعاً وطوله فرسخ وسعة الفتحة التي بين الجبلين مائة فرسخ.
118
قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (٩٩) وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (١٠٠) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (١٠٢) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٠٤)
119
(قال) ذو القرنين مشيراً إلى السد (هذا) السد أي الإقدار عليه (رحمة من ربي) أي أثر من آثار رحمته لهؤلاء المجاورين للسد ولمن خلفهم ممن يخشى عليه معرتهم ولو لم يكن ذلك السد فهو نعمة لأنه مانع من خروجهم (فإذا جاء وعد ربي) أي أجله أن يخرجوا منه وقيل هو مصدر بمعنى المفعول وهو يوم القيامة (جعله) الظاهر أن الجعل هنا بمعنى التصيير وعند ابن عطية بمعنى خلق وفيه بعد لأنه إذ ذاك موجود (دكاء) أي مستوياً بالأرض ومنه (كلا إذا دكت الأرض دكاً دكاً) قاله الترمذي: أي مستوياً يقال ناقة دكاء إذا ذهب سنامها.
وقال القتيبي: أي جعله مدكوكاً مبسوطاً ملصقاً بالأرض وقيل مساوياً للأرض فيغور فيها أو يذوب حتى يصير تراباً، وقال الحليمي قطعاً منكسرة ومن قرأ دكاء بالمد أراد التشبه بالناقة الدكاء وهي التي لا سنام لها أي مثل دكاء لأن السد مذكر فلا يوصف بدكاء وقرأ الباقون دكاً بالتنوين على أنه مصدر ومعناه ما تقدم ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الحال أي مدكوكاً، قال قتادة لا أدري آلجبلين يعني به أم بينهما؟
(وكان وعد ربي حقاً) أي بخروجهم أو وعده بالثواب والعقاب أو
119
الوعد المعهود حقاً ثابتاً لا يتخلف، وهذا آخر قول ذي القرنين.
ثم قال الله تعالى
120
(وتركنا بعضهم) أي بعض يأجوج ومأجوج (يومئذ يموج في بعض) أي جعلنا وصيرنا بعضهم يوم مجيء الوعد أو يوم خروج يأجوج ومأجوج يختلط ويموج في بعض آخر منهم، يقال ماج الناس إذا دخل بعضهم في بعض حيارى كموج الماء، والمعنى أنهم يضطربون ويختلطون من شدة الازدحام عند خروجهم عقب موت الدجال فينحاز عيسى بالمؤمنين إلى جبل الطور فراراً منهم، ثم يسلط الله عليهم دوداً في أنوفهم فيموتون به ولا يدخلون مكة ولا المدينة ولا بيت المقدس ولا يصلون إلى من تحصن منهم بورد أو ذكر وتمام قصتهم في كتابنا حجج الكرامة.
وقيل الضمير في بعضهم للخلق واليوم يوم القيامة أي وجعلنا بعض الخلق من الجن والإنس يموج في بعض، وقيل المعنى وتركنا يأجوج ومأجوج يوم كمال السد وتمام عمارته بعضهم يموج في بعض.
(ونفخ في الصور) أي القرن للبعث وقد تقدم تفسيره وفيه دليل على أن خروجهم من علامات قرب الساعة، قيل هي النفخة الثانية بدليل قوله بعد (فجمعناهم جمعاً) فإن الفاء تشعر بذلك ولم يذكر النفخة الأولى لأن المقصود هنا ذكر أحوال القيامة والمعنى جمعنا الخلائق بعد تلاشي أبدانهم ومصيرها تراباً جمعاً تاماً على أكمل صفة وأبدع هيئة وأعجب أسلوب في صعيد واحد.
(وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً) المراد بالعرض هنا الإظهار أي أظهرنا جهنم حتى شاهدوها يوم جمعنا لهم، وفي ذلك وعيد للكفار عظيم لما يحصل معهم عند مشاهدتها من الفزع والروعة.
ثم وصف الكافرين المذكورين بقوله
(الذين كانت أعينهم) في الدنيا أي أعين قلوبهم أي بصائرهم (في غطاء) أي غشاء وستر وهو ما غطى الشيء وستره من جميع الجوانب (عن) سبب (ذكري) وهي الآيات التي
120
يشاهدها من له تفكر واعتبار فيذكر الله بالتوحيد والتمجيد فأطلق المسبب على السبب أو عن القرآن العظيم وتأمل معانيه وتدبر فوائده فهم عمي لا يهتدون به.
ثم لما وصفهم سبحانه بالعمى عن الدلائل التكوينية أو التزيلية أو مجموعهما أراد أن يصفهم بالصم عن استماع الحق فقال: (وكانوا لا يستطيعون) أي لا يعقلون (سمعاً) قاله مجاهد، وقيل: لا يقدرون على الاستماع لا فيه الحق من كلام الله وكلام رسوله ﷺ لغلبة الشقاوة عليهم ولشدة عداوتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا أبلغ مما لو قال: وكانوا صماً لأن الأصم قد يستطيع السمع إذا صيح به وهؤلاء لا استطاعة لهم بالكلية، وفي ذكر غطاء الأعين وعدم استطاعة السماع تمثيل لتعاميهم عن المشاهدة بالأبصار وإعراضهم عن الأدلة السمعية.
121
(أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء) الحسبان هنا بمعنى الظن والاستفهام للتقريع والتوبيخ والفاء للعطف على مقدر كنظائره، والمعنى أفظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبر آيات الله وتمردهم عن قبول الحق، وعن عليّ أنه قرأ أفَحَسْبُ بجزم السين وضم الباء.
وعن عكرمة أنه قرأ كذلك ومعناه أَكَافِئُهُم وَمُحْسِبُهم أن يتخذوا عيسى وعزيراً والملائكة أرباباً من دونه تعالى بل هم لهم أعداء يتبرأون منهم، وقيل يعني الشياطين أطاعوهم من دون الله.
والمعنى أظنوا أن الاتخاذ المذكور لا يغضبني ولا أعاقبهم عليه، قال الزجاج: المعنى أيحسبون أن ينفعهم ذلك يريد أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله كما حسبوا كلا (إنا اعتدنا) هيأنا (جهنم للكافرين نزلاً) يتمتعون به عند ورودهم قال الزجاج: النزل المأوى والمنزل، وفي القاموس ما يقتضي أن كل منزل يقال له نُزُل، ففي تقييد النزل بمكان الضيف نظر كما قال بعضهم إنه الذي يعد للضيف؛ وعلى هذا فيكون تهكماً بهم كقوله (فبشرهم
121
بعذاب أليم) والمعنى أن جهنم معدة لهم عندنا كما يعد المنزل للضيف.
122
(قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً) جمع أخسر أي أشد خسراناً من غيرهم أو بمعنى خاسر، وجمع العمل للدلالة على إرادة الأنواع منه، عن مصعب بن سعد قال: سألت أبي أَهُمُ الحرورية؟ قَال: لا، هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه وكان سعد يسميهم الفاسقين، وعنه قال: لا ولكنهم أصحاب الصوامع، والحرورية قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم.
وعن عليّ قال: إنهم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري، وعنه قال هم فجرة قريش، وعنه قال: لا أظن إلا أن الخوارج منهم
(الذين ضل) أي بطل وضاع (سعيهم) كالعتق والوقف وإغاثة الملهوف لأن الكفر لا تنفع معه طاعة (في الحياة الدنيا وهم يحسبون) أي والحال أنهم يظنون (أنهم يحسنون صنعاً) عملاً يجازون عليه وأنهم منتفعون بآثاره.
122
أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (١٠٥) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (١٠٧) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (١٠٨) قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (١٠٩) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (١١٠)
123
(أولئك الذين كفروا بآيات ربهم) مستأنفة مسوقة لبيان تكميل الخسران وسببه، وهذا أولى الوجوه ومعنى كفرهم بالآيات كفرهم بدلائل توحيده من الآيات التكوينية والتنزيلية (ولقائه) أي كفروا بالبعث والحساب والثواب والعقاب وما بعده من أمور الآخرة ثم رتب على ذلك قوله (فحبطت أعمالهم) التي عملوها مما يظنونه حسناً وهو خسران وضلال ثم حكم عليهم بقوله (فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً) أي لا يكون لهم عندنا قدر ولا نعبأ بهم بل نزدريهم ونستذلهم.
وقيل لا يقام لهم ميزان توزن به أعمالهم لأن ذلك إنما يكون لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين وهؤلاء لا حسنات لهم.
قال ابن الأعرابي: العرب تقول ما لفلان عندنا وزن أي قدر لخسته ويوصف الرجل بأنه لا وزن له لخفته وسرعة طيشه وقلة تثبته، والمعنى على هذا أنهم لا يعتد بهم ولا يكون لهم عند الله قدر ولا منزلة.
وقرأ مجاهد يقيم أي فلا يقيم الله وقرأ الباقون بالنون وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إنه ليأتي
123
الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال اقرأوا إن شئتم: فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً (١).
ثم بيّنَ سبحانه عاقبة هؤلاء وما يؤول إليه أمرهم فقال
_________
(١) مسلم ٢٧٨٥ - البخاري ٢٠٢٣.
124
(ذلك) أي الذي ذكرناه من أنواع الوعيد وحبوط أعمالهم وخسة قدرهم (جزاؤهم جهنم) عطف بيان للجزاء والسبب في ذلك أنهم ضموا إلى الكفر اتخاذهم آيات الله واتخاذ رسله هزواً، والباء في (بما كفروا) للسببية (واتخذوا آياتي ورسلي هزوا) أي مهزوءاً بهم.
ثم ذكر سبحانه بعد هذا الوعيد لهؤلاء الكفار الوعد للمؤمنين فقال
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) أي جمعوا بينهما حتى كانوا على ضد صفة من قبلهم (كانت لهم) فيما سبق من علم الله لأهل طاعته قاله ابن الأنباري (جنات الفردوس نزلاً) قال المبرد: الفردوس فيما سمعت من كلام العرب الشجر الملتف والأغلب عليه العنب، واختار الزجاج ما قاله مجاهد أن الفردوس البستان باللغة الرومية، وقيل كل ما حوط فهو فردوس والجمع فراديس.
وحكى الزجاج: أنها الأودية التي تنبت ضروباً من النبت فقيل هو عربي وقيل أعجمي وقيل فارسي وقيل سرياني، وقد تقدم بيان النزل، والمعنى كانت لهم ثمار جنة الفرودس نزلاً معداً لهم مبالغة في إكرامهم.
أخرج الطبراني والحاكم وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهم عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " سلوا الله الفردوس فإنها سُرَّةُ الجنة وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش " (١).
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله
_________
(١) المستدرك كتاب التفسير ٢/ ٣٧١.
124
صلى الله عليه وسلم: " إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة " (١)
وأخرج الترمذي وأحمد والحاكم والبيهقي وعبد بن حميد عن عبادة بن الصامت أن النبي ﷺ قال: " إن في الجنة مائة درجة كل درجة منها ما بين السماء والأرض، الفردوس أعلاها درجة ومن فوقها يكون العرش ومنه تفجر أنهار الجنة الأربعة فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس " (٢).
وعن السدي هو الكرم بالنبطية، وقال كعب: هي جنات الأعناب بالسريانية وعنه ليس في الجنان جنة أعلى من جنة الفردوس فيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر.
وقال قتادة: الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأوسعها وأفضلها وأرفعها وقيل: هي الجنة الملتفة بالأشجار التي تنبت ضروباً من النبات، والأحاديث بهذا المعنى كثيرة وقد أوضحنا ما جاء في الجنان كلها ونعيمها من الأحاديث والآثار في كتاب سميناه مثير ساكن الغرام إلى روضات دار السلام.
_________
(١) الإمام أحمد ٢/ ٣٣٥ - ٢/ ٣٣٩ ولم أجده في الصحيحين.
(٢) الترمذي كتاب الجنة باب ٤.
125
(خالدين فيها لا يبغون عنها حولاً) قال مجاهد: متحولاً أي لا يطلبون تحولاً عنها إلى غيرها إذ هي أعز من أن يطلبوا غيرها أو تشتاق أنفسهم إلى سواها قال ابن الأعرابي وابن قتيبة والأزهري: الحول اسم بمعنى التحول يقوم مقام المصدر، وقال أبو عبيدة والفراء: أن الحول التحويل.
ولما ذكر سبحانه أنواع الدلائل نبه على كمال القرآن فقال
(قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي) قال ابن الأنباري: سمي المداد مداداً لإمداده الكاتب وأصله من الزيادة ومجيء الشىء، بعد الشيء، ويقال للزيت الذي يوقد به السراج مداداً، والمراد بالبحر هنا الجنس، والمعنى لو كتبت كلمات علم الله
125
وحكمته وعجائبه وفرض أن جنس البحر مداد لها (لنفد البحر) أي لفنى ماؤه (قبل أن تنفد كلمات ربي) أي قبل نفود الكلمات، وقيل المعنى لو كان البحر مداداً للقلم والقلم يكتب لنفد البحر قبل نفود كلمات ربي أي علمه. قاله مجاهد.
وقال قتادة: ينفد ماء البحر قبل أن ينفد كلام الله وحكمته، وقيل المراد بها معلوماته، قرئ تنفد بالتاء والياء وهما سبعيتان وذكر في الكشاف أن قبل هنا بمعنى غير أو بمعنى دون، وقيل عنى سبحانه بالكلمات الكلام القديم الذي لا غاية له ولا منتهى، وهو إن كان واحداً فيجوز أن يعبر عنه بلفظ الجمع لما فيه من الفوائد، وقد عبرت العرب عن الفرد بلفظ الجمع قال الأعشى:
ووجه نقي اللون صاف يزينه مع الجيد لبات لها ومعاصم
فعبر باللبات عن اللبة قال الجبائي: أن قوله (قبل أن تنفد كلمات ربي) يدل على أن كلماته قد تنفد في الجملة، وما ثبت عدمه امتنع قدمه، وأجيب بأن المراد الألفاظ الدالة على متعلقات تلك الصفة الأزلية، وقيل في الجواب إن نفاد شيء قبل نفاد شيء آخر لا يدل على نفاد الشيء الآخر ولا على عدم نفاده، فلا يستفاد من الآية إلا كثرة كلمات الله بحيث لا تضبطها عقول البشر، أما أنها متناهية أو غير متناهية فلا دليل على ذلك في هذه الآية، والحق أن كلمات الله تابعة لمعلوماته وهي غير متناهية فالكلمات غير متناهية.
(ولو جئنا بمثله مدداً) كلام من جهته سبحانه غير داخل تحت قوله (قل لو كان البحر) وفيه زيادة مبالغة وتأكيد، والواو لعطف ما بعده على جملة مقدرة مدلول عليها بما قبلها أي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات الله لو لم يجيء بمثله مدداً (ولو جئنا بمثله) أي البحر (مدداً لنفد) أيضاً والمدد الزيادة وقرئ مداداً وهي كذلك في مصحف أبيّ.
126
ثم أمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وآله وسلم أن يسلك مسلك التواضع فقال
127
(قل إنما أنا بشر مثلكم) أي آدمي حالي مقصور على البشرية لا يتخطاها إلى الملكية ومن كان هكذا فهو لا يدعي الإحاطة بكلمات الله إلا أنه امتاز عنهم بالوحي إليه من الله سبحانه فقال (يوحى إلي) وكفى بهذا الوصف فارقاً بينه وبين سائر أنواع البشر.
ثم بيَّن أن الذي أوحي إليه هو قوله (إنما إلهكم إله واحد) لا شريك له في الألوهية والملك وفي هذا إرشاد إلى التوحيد ثم أمرهم بالعمل الصالح والتوحيد فقال (فمن كان يرجو لقاء ربه) الرجاء توقع وصول الخير في المستقبل، والمعنى من كان له هذا الرجاء الذي هو شأن المؤمنين ويخاف المصير إليه، وقيل يؤمل رؤية ربه والبعث والجزاء (فليعمل عملاً صالحا) هو ما دل الشرع على أنه عمل خير يثاب عليه فاعله أي مستوفياً لمعتبر أنه شرعٌ عن ابن عباس قال: أنزلت في المشركين الذين عبدوا مع الله إلهاً آخر غيره وليست هذه في المؤمنين.
(ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) من خلقه سواء كان صالحاً أو طالحاً، حيواناً أو جماداً، قال الماوردي: قال جميع أهل التأويل في تفسير هذه الآية إن المعنى لا يرائي بعمله أحداً.
وأقول إن دخول الشرك الجلي الذي كان يفعله المشركون تحت هذه الآية هو المقدم على دخول الشرك الخفي الذي هو الرياء. ولا مانع من دخول هذا الخفي تحتها إنما المانع من كونه هو المراد بهذه الآية.
عن ابن عباس قال: قال رجل يا نبيِّ الله إني أقف المواقف أبتغي وجه الله وأحب أن يرى موطني فلم يرد عليه شيئاً حتى نزلت هذه الآية.
وعنه قال: كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له فزاد في ذلك لقالة الناس فلا يريد به الله فنزل في ذلك (فمن كان يرجو لقاء ربه) الآية.
127
وأخرج أحمد والترمذي وابن ماجة والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري وكان من الصحابة سمعت رسول الله ﷺ يقول: " إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك " (١).
وأخرج الحاكم وصححه والبيهقي عن أبي هريرة أن رجلاً قال يا رسول الله الرجل يجاهد في سبيل الله وهو يبتغي عرضاً من الدنيا فقال: " لا أجر له فأعظم الناس ذلك " فعاد الرجل فقال " لا أجر له " (٢)، وعن شداد بن أوس قال: كنا نعد الرياء على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الشرك الأصغر.
وعنه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " من صلى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك "، ثم قرأ (فمن كان يرجو لقاء ربه) الآية (٣)، أخرجه أحمد والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن شداد أيضاً قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " إن الله يقول أنا خير قسيم لمن أشرك بي، من أشرك بي شيئاً فإن عمله قليله وكثيره لشريكه الذي أشركه أنا عنه غني " (٤)، أخرجه أحمد وأبو نعيم الطيالسي.
واخرج أحمد والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن أبي سعيد قال: قال رسول الله ﷺ " ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلي لمكان رجل " (٥).
_________
(١) الترمذي تفسير سورة ١٨/ ٦ - الإمام أحمد: ٤/ ٢١٥.
(٢) المستدرك كتاب التفسير ٢/ ٣٧١.
(٣) الإمام أحمد ٤/ ١٢٦.
(٤) الإمام أحمد ٤/ ١٢٦.
(٥) الإمام أحمد ٣/ ٣٠.
128
وأخرج أحمد وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي عن شداد ابن أوس قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: " أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية " قلت أتشرك أمتك بعدك؟ قال: " نعم أما أفهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً ولكن يراؤون الناس بأعمالهم "، قلت؛ يا رسول الله ما الشهوة الخفية؟ قال: " يصبح أحدهما صائماً فيعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه ويواقع شهوته " (١).
وأخرج أحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ربه أنه قال: " أنا خير الشركاء فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو الذي أشرك " وفي لفظ " فمن أشرك بي أحداً فهو له كله " (٢).
وفي الباب أحاديث كثيرة في التحذير من الرياء وأنه الشرك الأصغر وأن الله لا يقبله، وقد استوفاها صاحب الدر المنثور في هذا الوضع فليرجع إليه، ولكنها لا تدل على أنه المراد بالآية بل الشرك الجلي يدخل تحتها دخولاً أولياً وعلى فرض أن سبب النزول هو الرياء كما يشير إلى ذلك ما قدمنا فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو مقرر في علم الأصول.
وقد ورد في فضائل هذه الآية بخصوصها ما أخرجه الطبراني وابن مردويه عن حكيم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو لم ينزل على أمتي إلا خاتمة سورة الكهف لكفتهم "، وأخرج ابن راهويه والبزار والحاكم وصححه والشيرازي في الألقاب وابن مردويه عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ في ليلة (فمن كان يرجو لقاء ربه)
_________
(١) الإمام أحمد ٤/ ١٢٤.
(٢) مسلم ٢٩٨٥ - الإمام أحمد ٢/ ٣٠١.
129
الآية كان له نور من عدن أبين إلى مكة حشوه الملائكة قال ابن كثير بعد إخراجه غريب جداً (١).
وعن معاوية بن أبي سفيان أنه تلا هذه الآية (فمن كان يرجو لقاء ربه) وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن، قال ابن كثير وهذا أثر مشكل فإن هذه الآية هي آخر سورة الكهف، والكهف كلها مكية ولعل معاوية أراد أنه لم ينزل بعدها ما ينسخها ولا ما يغير حكمها بل هي مثبتة محكمة فاشتبه ذلك على بعض الرواة فروي بالمعنى على ما فهمه (٢).
_________
(١) ابن كثير ٣/ ١١٠.
(٢) ابن كثير ٣/ ١١٠.
130

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة مريم
هي مكية وآياتها ثمان أو تسع وتسعون آية
قال ابن عباس: أنزلت بمكة. وعن ابن الزبير وعائشة مثله، وفي البيضاوي، إلا آية السجدة وفي الجلالين: إلا سجدتها فمدنية. أو وإلا (فخلف من بعدهم خلف) الآيتان وأخرج أحمد والبيهقي وابن أبي حاتم عن أم سلمة أن النجاشي قال لجعفر بن أبي طالب: هل معك مما جاء به -يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم- عن الله شيء؟ قال: نعم: فقرأ عليه صدراً من (كهعيص) فبكى النجاشي (١) حتى أخضلت لحيته وبكت أساقفته، حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم ثم قال النجاشي: أن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة وقد ذكر ابن إسحاق القصة بطولها.
وقد تقدم في الجزء الأول من هذا التفسير أن أسماء السور وترتيبها وترتيب الآيات توقيفي ولم تذكر أمرأة باسمها صريحاًً في القرآن إلا مريم فذكرت فيه في ثلاثين موضعاً.
_________
(١) اخضل الشيء اخضلالاً واخضوضل أي ابتل إهـ صحاح، والأسقف رئيس من رؤساء النصارى في الدين والجمع أساقفة إهـ.
131

بسم الله الرحمن الرحيم

كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (٣) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧)
133
Icon