تفسير سورة البقرة

زاد المسير
تفسير سورة سورة البقرة من كتاب زاد المسير في علم التفسير المعروف بـزاد المسير .
لمؤلفه ابن الجوزي . المتوفي سنة 597 هـ

فصل في فضيلتها


روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإن البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان ).
وروى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :( اقرؤوا الزهراوين : البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صواف، اقرؤوا البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة ).
والمراد بالزهراوين : المنيرتين. يقال لكل منير : زاهر. والغياية : كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه، مثل السحابة والغبرة. يقال : غايا القوم فوق رأس فلان بالسيف، كأنهم أظلوه به.
قال لبيد :
فتدليت عليه قافلا *** وعلى الأرض غيايات الطفل
ومعنى فرقان : قطعتان. والفرق : القطعة من الشيء. قال عز وجل :﴿ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [ الشعراء : ٦٣ ]. والصواف : المصطفة المتضامة لتظل قارئها. والبطلة : السحرة.

فصل : في نزولها


قال ابن عباس : هي أول ما نزل بالمدينة، وهذا قول الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، وقتادة، ومقاتل. وذكر قوم أنها مدنية سوى آية، وهي قوله عز وجل :﴿ وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ ﴾ [ البقرة : ٢٨١ ]. فإنها أنزلت يوم النحر بمنى في حجة الوداع.

سورة البقرة
(فصل في فضيلتها) (١٤) روى أبو هريرة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، فإنّ البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشّيطان».
(١٥) وروى أبو أمامة عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «أقرأوا الزّهراوين: البقرة وآل عمران، فإنّهما يأتيان يوم القيامة كأنّهما غمامتان، أو غيايتان، أو فرقان من طير صوافّ، اقرءوا البقرة، فإنّ أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة». والمراد بالزّهراوين: المنيرتين. يقال لكل منير: زاهر. والغياية:
كل شيء أظلّ الإنسان فوق رأسه، مثل السّحابة والغبرة. يقال: غايا القوم فوق رأس فلان بالسيف، كأنهم أظلّوه به. قال لبيد:
فتدلّيت عليه قافلا... وعلى الأرض غيايات الطّفل
ومعنى فرقان: قطعتان. والفرق: القطعة من الشيء. قال الله عزّ وجلّ: فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ «١». والصوّاف: المصطفّة المتضامّة لتظلّ قارئها. والبطلة: السّحرة.
(فصل في نزولها) قال ابن عباس: هي أوّل ما نزل بالمدينة، وهذا قول الحسن، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، وقتادة، ومقاتل. وذكر قوم أنها مدنية سوى آية، وهي قوله عزّ وجلّ: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ «٢»، فإنها نزلت يوم النّحر بمنى في حجّة الوداع.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة البقرة (٢) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١)

فصل: وأما التفسير فقوله: ألم. اختلف العلماء فيها وفي سائر الحروف المقطّعة في أوائل


صحيح. أخرجه مسلم ٧٨٠ والترمذي ٢٨٧٧، والنسائي في «الكبرى» ٦/ ١٠٨٠١.
صحيح. أخرجه مسلم ٨٠٤ من حديث أبي أمامة.
__________
(١) الشعراء: ٦٣.
(٢) البقرة: ٢٨١.
24
السور على ستة أقوال «١» : أحدها: أنها من المتشابه الذي لا يعلمه الا الله. قال أبو بكر الصّديق رضي الله عنه: لله عزّ وجلّ في كل كتاب سر، وسر الله في القرآن أوائل السور، وإلى هذا المعنى ذهب الشعبي، وأبو صالح، وابن زيد. والثاني: أنها حروف من أسماء، فاذا أُلفت ضرباً من التأليف كانت أسماء من أسماء الله عزّ وجلّ. قال علي بن أبي طالب: هي أسماء مقطعة، لو علم الناس تأليفها علموا اسم الله الذي إِذا دعي به أجاب. وسئل ابن عباس عن «آلر» و «حم» و «نون»، فقال: اسم الرحمن على الهجاء، وإِلى نحو هذا ذهب أبو العالية، والربيع بن أنس. والثالث: أنها حروف أقسم الله بها، قاله ابن عباس، وعكرمة. قال ابن قتيبة: ويجوز أن يكون أقسم بالحروف المقطعة كلها، واقتصر على ذكر بعضها كما يقول القائل: تعلمت «أب ت ث» وهو يريد سائر الحروف، وكما يقول: قرأت الحمد، يريد فاتحة الكتاب، فيسميها بأول حرف منها، وإِنما أقسم بحروف المعجم لشرفها، ولأنها مباني كتبه المنزلة، وبها يذكر ويوحد. قال ابن الانباري: وجواب القسم محذوف، تقديره: وحروف المعجم لقد بين الله لكم السبيل، وأنهجت لكم الدّلالات بالكتاب المنزل، وإِنما حذف لعلم المخاطبين به، ولأن في قوله: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ دليلاً على الجواب. والرابع: انه أشار بما ذكر من الحروف إِلى سائرها، والمعنى: أنه لما كانت الحروف أُصولاً للكلام المؤلف، أخبر أن هذا القرآن إِنما هو مؤلف من هذه الحروف، قاله الفراء، وقطرب. فان قيل: فقد علموا أنه حروف، فما الفائدة في إِعلامهم بهذا؟ فالجواب أنه نبه بذلك على إِعجازه، فكأنه قال: هو من هذه الحروف التي تؤلفون منها كلامكم، فما بالكم تعجزون عن معارضته؟! فاذا عجزتم فاعلموا أنه ليس من قول محمّد عليه السلام.
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ١/ ٣٥- ٣٧: قد اختلف المفسرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السّور. فمنهم من قال هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسروها. ومنهم من فسّرها، واختلف هؤلاء في معناها فقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: إنما هي أسماء السور. وقال الزمخشري في «تفسيره» : وعليه إطباق الأكثر ويعتضد لهذا بما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة (آلم) السجدة، و (هل أتى على الإنسان). وقال سفيان الثوري آلم، حم، والمص، وص، فواتح افتتح الله بها القرآن. وفي رواية عن ابن أبي نجيح أنه قال: آلم اسم من أسماء القرآن.
ولعل هذا يرجع إلى معنى القول اسم من أسماء السور فإنه يبعد أن يكون المص اسما للقرآن كله لأن المتبادر إلى فهم السامع من يقول قرأت المص إنما ذلك عبارة عن سورة الأعراف لا لمجموع القرآن والله أعلم. وقيل هي اسم من أسماء الله تعالى قال شعبة عن السدي بلغني أن ابن عباس قال: آلم اسم الله الأعظم. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هو قسم أقسم الله به وهو من أسماء الله تعالى. قلت مجموع الحروف المذكورة في أوائل السور بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفا وهي يجمعها قولك: نص حكيم قاطع له سر.
وهي نصف الحروف عددا والمذكور منها أشرف من المتروك. قال الزمخشري: وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة على أصناف أجناس الحروف يعني من المهموسة والمجهورة ومن الرخوة والشديدة ومن المطبقة والمفتوحة... وقد سردها مفصلة ثم قال فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت. وأما من زعم أنها دالة على معرفة المدد وأنه يستخرج من ذلك أوقات الحوادث فقد ادعى ما ليس له وطار في غير مطاره. وقد ورد في ذلك حديث ضعيف وهو مع ذلك أدل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته. وهو ممن لا يحتج به ثم كان مقتضى هذا المسلك إن كان صحيحا أن يحسب ما لكل حرف من الحروف الأربعة عشر التي ذكرناها وذلك يبلغ منه جملة كثيرة وإن حسبت مع التكرار فأطم وأعظم. والله أعلم.
25
والخامس: أنها أسماء للسور. روي عن زيد بن أسلم، وابنه، وأبي فاختة سعيد بن علاقة مولى أم هانئ. والسادس: أنها من الرمز الذي تستعمله العرب في كلامها. يقول الرجل للرجل: هل تا؟ فيقول له: بلى، يريد هل تأتي؟ فيكتفي بحرف من حروفه. وأنشدوا:
قلنا لها قفي لنا فقالت قاف «١»
أراد: قالت: أقف. ومثله:
نادوهم أن ألجموا ألا تا قالوا جميعا كلّهم بلى فا
يريد: ألا تركبون؟ قالوا: بلى فاركبوا. ومثله:
بالخير خيرات وإن شراً فا ولا أريد الشر إِلا أن تا
معناه: وإن شراً فشر ولا أريد الشر إِلا أن تشاء. وإِلى هذا القول ذهب الأخفش، والزجاج، وابن الأنباري. وقال أبو روق عطية بن الحارث الهمدانيّ «٢» :
(١٦) كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يجهر بالقراءة في الصلوات كلها، وكان المشركون يصفّقون ويصفّرون، فنزلت هذه الحروف المقطعة، فسمعوها فبقوا متحيرين. وقال غيره: إِنما خاطبهم بما لا يفهمون ليقبلوا على استماعه، لأن النفوس تتطلع إِلى ما غاب عنها. معناه: فاذا أقبلوا اليه خاطبهم بما يفهمون، فصار ذلك كالوسيلة إلى الإبلاغ، إلا أنه لا بد له من معنى يعلمه غيرهم، أو يكون معلوما عند المخاطب، فهذا الكلام يعم جميع الحروف.
وقد خص المفسّرون قوله «الم» بخمسة أقوال «٣» : أحدها: أنه من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله عزّ وجلّ، وقد سبق بيانه. والثاني: أَن معناه: أَنا الله أعلم. رواه أَبو الضحى عن ابن عباس، وبه قال ابن مسعود، وسعيد بن جبير. والثالث: أنه قسم. رواه أبو صالح عن ابن عباس، وخالد الحذاء عن عكرمة. والرابع: أنها حروف من أسماء. ثم فيها قولان: أَحدهما: أَن الألف من «الله» واللام من «جبريل» والميم من «محمد»، قاله ابن عباس. فان قيل: إِذا كان قد تنوول من كل اسم حرفه الأول اكتفاءً به، فلم أُخذت اللام من جبريل وهي آخر الاسم؟! فالجواب: أن مبتدأَ القرآن من الله تعالى، فدلَّ على ذلك بابتداء أول حرف من اسمه، وجبريل انختم به التنزيل والإِقراء، فتنوول من اسمه نهاية حروفه، و «محمد» مبتدأ في الإقراء، فتنوول أول حروفه. والقول الثاني: أَن الألف من «الله» تعالى، واللام من «لطيف» والميم من «مجيد» قاله أبو العالية. والخامس: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله مجاهد، والشعبي، وقتادة، وابن جريج.
لم أقف على إسناده إلى أبي روق، وأبو روق تابعي، فالخبر مرسل، والمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث.
__________
(١) صدر بيت وعجزه «لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف».
(٢) نسبة إلى همدان، وهي قبيلة يمنية، وأما همذان- بفتحات وبالذال، فهي مدينة في فارس.
(٣) الصحيح في ذلك أن يقال: الله أعلم بمراده، فهذا نكل علمه إلى الله سبحانه، وتقدم كلام الحافظ ابن كثير.
26

[سورة البقرة (٢) : آية ٢]

ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢)
قوله تعالى: ذلِكَ فيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى هذا، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والكسائي، وأبي عبيدة، والأخفش. واحتج بعضهم بقول خفاف بن ندبة:
أَقول له والرمح يأطر متنه تأمل خفافا إِنني أنا ذلكا «١»
أي: أنا هذا. وقال ابن الأنباري: إنما أراد: أنا ذلك الذي تعرفه.
والثاني: أنها إشارة الى غائب. ثم فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أراد به ما تقدم إنزاله عليه من القرآن. والثاني: أنه أراد به ما وعده أن يوحيه إليه في قوله: سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا «٢». والثالث: أنه أراد بذلك ما وعد به أهل الكتاب السّالفة، لأنهم وعدوا بنبيّ وكتاب.
والْكِتابُ: القرآن. وسمي كتاباً، لأنه جمع بعضه إلى بعض، ومنه الكتيبة، سميت بذلك لاجتماع بعضها إلى بعض. ومنه: كتبت البغلة «٣».
قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ. الرَّيب: الشك. والهدى: الإِرشاد. والمتقون: المحترزون مما اتقوه. وفرَّق شيخنا علي بن عبيد الله بين التقوى والورع، فقال: التقوى: أخذ عدة، والورع: دفع شبهة، فالتقوى: متحقق السبب، والورع: مظنون المسبَّب.
واختلف العلماء في معنى هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أن ظاهرها النفي، ومعناها النهي، وتقديرها: لا ينبغي لأحد أن يرتاب به لإتقانه وإحكامه. ومثله: ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ «٤»، أي: ما ينبغي لنا. ومثله: فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ «٥»، وهذا مذهب الخليل، وابن الأنباري. والثاني: أن معناها: لا ريب فيه أنه هدىً للمتقين. قاله المبرّد. والثالث: أن معناها: لا ريب فيه أنه من عند الله، قاله مقاتل في آخرين. فان قيل: فقد ارتاب به قوم. فالجواب: انه حق في نفسه، فمن حقق النظر فيه علم. قال الشاعر «٦» :
ليس في الحق يا أمامة ريب إنما الريب ما يقول الكذوب
فان قيل: فالمتقي مهتد، فما فائدة اختصاص الهداية به؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه أراد المتقين والكافرين، فاكتفى بذكر أحد الفريقين كقوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «٧»، أراد:
والبرد. والثاني: أنه خصَّ المتقين لانتفاعهم به كقوله: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها «٨»، وكان منذراً لمن يخشى ولمن لا يخشى.
(١) في «القاموس» تأطّر الرمح: تثنّى وانعطف. المتن من السهم: ما بين الريش إلى وسطه.
(٢) المزمل: ٥.
(٣) في «القاموس» كتبت الناقة: ختم حياؤها، أو خزم بحلقة من حديد ونحوه. وكتب الناقة: ظأرها فخزم منخريها بشيء لئلا تشمّ اه مع التصرف. [.....]
(٤) يوسف: ٣٨.
(٥) البقرة: ١٩٦.
(٦) هو عبد الله بن الزّبعرى. انظر «تفسير القرطبي» ١/ ٢٠٥.
(٧) النحل: ٨١.
(٨) النازعات: ٤٥.

[سورة البقرة (٢) : آية ٣]

الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ، الايمان في اللغة: التصديق، والشرع أقره على ذلك، وزاد فيه القول والعمل. وأصل الغيب: المكان المطمئن الذي يستتر فيه لنزوله عما حوله، فسمي كلّ مستتر:
غيبا. وفي المراد بالغيب ها هنا ستة أقوال: أحدها: أنه الوحي، قاله ابن عباس، وابن جريج. والثاني:
القرآن، قاله أبو رزين العقيلي، وزر بن حبيش. والثالث: الله عزّ وجلّ، قاله عطاء، وسعيد بن جبير.
والرابع: ما غاب عن العباد من أمر الجنة والنار، ونحو ذلك مما ذكر في القرآن. رواه السدي عن أشياخه، وإليه ذهب أبو العالية، وقتادة. والخامس: أنه قدر الله عزّ وجلّ، قاله الزهري. والسادس: أنه الايمان بالرسول في حق من لم يره. قال عمرو بن مرَّة: قال أصحاب عبد الله «١» له: طوبى لك، جاهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجالسته. فقال: إن شأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان مبيِّنا لمن رآه، ولكن أعجب من ذلك: قوم يجدون كتاباً مكتوباً يؤمنون به ولم يروه، ثم قرأ: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ.
قوله تعالى: وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ. الصلاة في اللغة: الدعاء. وفي الشريعة: أفعال وأقوال على صفات مخصوصة. وفي تسميتها بالصلاة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها سميت بذلك لرفع الصَّلا، وهو مغرز الذنب من الفرس. والثاني: أنها من صليت العود، إذا لينته، فالمصلي يلين ويخشع. والثالث:
أنها مبنية على السؤال والدعاء، والصلاة في اللغة: الدعاء، وهي في هذا المكان اسم جنس. قال مقاتل: أراد بها هاهنا: الصلوات الخمس.
وفي معنى إقامتها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه تمام فعلها على الوجه المأمور به، روي عن ابن عباس، ومجاهد. والثاني: أنه المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها، قاله قتادة، ومقاتل. والثالث: أنه إِدامتها، والعرب تقول في الشيء الراتب: قائم، وفلان يقيم أرزاق الجند، قاله ابن كيسان.
قوله تعالى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ أي: أعطيناهم يُنْفِقُونَ أي: يخرجون. وأصل الإِنفاق الإِخراج. يقال: نفقت الدابة: إذا خرجت روحها. وفي المراد بهذه النفقة أربعة أقوال: أحدها: أنها النفقة على الأهل والعيال، قاله ابن مسعود، وحذيفة. والثاني: أنها الزكاة المفروضة، قاله ابن عباس، وقتادة. والثالث: أنها الصدقات النوافل، قاله مجاهد والضحاك. والرابع: أنها النفقة التي كانت واجبة قبل وجوب الزكاة، ذكره بعض المفسرين، وقالوا: إنه كان فرض على الرجل أن يمسك مما في يده مقدار كفايته يومه وليلته. ويفرق باقيه على الفقراء. فعلى قول هؤلاء، الآية منسوخة بآية الزكاة، وغير هذا القول أثبت. واعلم أن الحكمة في الجمع بين الإِيمان بالغيب وهو عقد القلب، وبين الصلاة وهي فعل البدن، وبين الصدقة وهو تكليف يتعلق بالمال، أنه ليس في التكليف قسم رابع، إذ ما عدا هذه الأقسام فهو ممتزج بين اثنين منهما، كالحجّ والصّوم ونحوهما.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤]
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤)
(١) هو عبد الله بن مسعود، أحد الصحابة السابقين، توفي سنة ٣٣ رضي الله عنه.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ، اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، رواه الضحاك عن ابن عباس، واختاره مقاتل «١». والثاني: أنها نزلت في العرب الذين آمنوا بالنبي وبما أُنزل من قبله. رواه أبو صالح عن ابن عباس «٢». قال المفسرون: الذي أنزل إليه، القرآن. وقال شيخنا علي بن عبيد الله: القرآن وغيره مما أُوحي إِليه. قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يعني الكتاب المتقدمة والوحي، فأما (الآخرة) فهي اسم لما بعد الدنيا، وسميت آخرة، لأن الدنيا قد تقدمتها. وقيل: سميت آخرة لأنها نهاية الأمر. قوله تعالى: يُوقِنُونَ، اليقين: ما حصلت به الثقة، وثلج به الصدر، وهو أبلغ علم مكتسب.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥]
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥)
قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً أي على رشاد. وقال ابن عباس: على نور واستقامة. قال ابن قتيبة: الْمُفْلِحُونَ: الفائزون ببقاء الأبد. وأصل الفلاح: البقاء. ويشهد لهذا قول لبيد:
نحل بلاداً كلُّها حُلَّ قبلنا ونرجو الفلاح بعد عادٍ وحمير
يريد: البقاء، وقال الزجاج: المفلح: الفائز بما فيه غاية صلاح حاله. قال ابن الأنباري: ومنه:
حيَّ على الفلاح، معناه: هلموا إِلى سبيل الفوز ودخول الجنة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا في نزولها أربعة أقوال: أحدها: أنها نزلت في قادة الأحزاب، قاله أبو العالية. والثاني: أنها نزلت في أبي جهل وخمسة من أهل بيته، قاله الضحاك. والثالث: أنها نزلت في طائفة من اليهود، ومنهم حيي بن أخطب، قاله ابن السائب. والرابع: أنها نزلت في مشركي العرب، كأبي جهل وأبي طالب وأبي لهب وغيرهم ممن لم يسلم «٣»، قاله مقاتل.
فأما تفسيرها، فالكفر في اللغة: التغطية. تقول: كفرت الشيء إذا غطيته، فسمي الكافر كافراً، لأنه يغطي الحق. قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ، أي: متعادل عندهم الانذار وتركه، والانذار: إِعلام مع تخويف، وتناذر بنو فلان هذا الأمر: إذا خوّفه بعضهم بعضا.
(١) أثر ابن عباس لم أقف عليه، ولا يصح، فإنه من رواية الضّحّاك، وهو لم يلق ابن عباس، والراوي عن الضحاك هو جويبر بن سعيد، ذاك المتروك، وهو إن لم يذكره المصنف، فهو المتعين، لأنه يروي عن الضحّاك عن ابن عباس تفسيرا كاملا، ولا يصح. وأما أثر مقاتل، فهو واه أيضا، فهو مرسل، ومع إرساله مقاتل إن كان ابن سليمان فهو كذاب، وإن كان ابن حيان، فقد روى مناكير، والراجح عند الإطلاق ابن سليمان. والصحيح عموم الآية، والله أعلم.
(٢) ضعيف. أخرجه الطبري ٢٩٢ من طريق أبي صالح عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، لضعف أبي صالح، واسمه باذان، ويقال باذام.
(٣) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ١/ ٤٥: قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إِلا من سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول وهو الأظهر ويفسر ببقية الآيات التي في معناها والله أعلم.
قال شيخنا علي بن عبيد الله: هذه الآية وردت بلفظ العموم، والمراد بها الخصوص، لأنها آذنت بأن الكافر حين إنذاره لا يؤمن، وقد آمن كثير من الكفار عند إنذارهم، ولو كانت على ظاهرها في العموم، لكان خبر الله لهم خلاف مخبره، ولذلك وجب نقلها إلى الخصوص.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧]
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧)
قوله تعالى: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ، الختم: الطبع، والقلب: قطعة من دم جامدة سوداء، وهو مستكن في الفؤاد، وهو بيت النفس، ومسكن العقل، وسمي قلبا لتقلبه. وقيل: لأنه خالص البدن، وإما خصَّه بالختم لأنه محل الفهم.
قوله تعالى: وَعَلى سَمْعِهِمْ، يريد: على أسماعهم، فذكره بلفظ التوحيد، ومعناه: الجمع، ونظيره قوله تعالى: ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «١». وأنشدوا من ذلك:
كُلُوا في نِصْفِ بَطْنِكُم تَعِيْشُوا فانَّ زَمَانَكُم زمن خميص
أي: في أنصاف بطونكم. ذكر هذا القول أبو عبيدة، والزجاج. وفيه وجه آخر، وهو أن العرب تذهب بالسمع مذهب المصدر، والمصدر يوحد، تقول: يعجبني حديثكم، ويعجبني ضربكم. فأما البصر والقلب فهما اسمان لا يجريان مجرى المصادر في مثل هذا المعنى. ذكره الزجاج، وابن القاسم.
وقد قرأ عمرو بن العاص، وابن أبي عبلة: (وعلى أسماعهم).
قوله تعالى: وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ، الغشاوة: الغطاء. قال الفراء: أما قريش وعامة العرب، فيكسرون الغين من «غشاوة»، وعكل يضمون الغين، وبعض العرب يفتحها، وأظنها لربيعة. وروى المفضل عن عاصم «غِشاوَةٌ» بالنصب على تقدير: وجعل على أبصارهم غشاوة. فأما العذاب، فهو الألم المستمر، وماء عذب: إذا استمر في الحلق سائغا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨)
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها في المنافقين، ذكره السدي عن ابن مسعود، وابن عباس، وبه قال أبو العالية، وقتادة، وابن زيد «٢».
والثاني: أنها في منافقي أهل الكتاب. رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال ابن سيرين: كانوا يتخوفون من هذه الآية. وقال قتادة: هذه الآية نعت المنافق، يعرف بلسانه، وينكر بقلبه، ويصدّق بلسانه، ويخالف بعمله، ويصبح على حالٍ، ويمسي على غيرها، ويتكفّأ تكفّؤ السّفينة، كلما هبّت ريح هبّ معها.
[سورة البقرة (٢) : آية ٩]
يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩)
قوله تعالى: يُخادِعُونَ اللَّهَ. قال ابن عباس: كان عبد الله بن أُبيّ، ومعتب بن قشير، والجدّ بن
(١) الحج: ٥.
(٢) هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم العمري، مولاهم المدني أخو عبد الله وأسامة. قال البخاري: عبد الرحمن ضعفه عليّ جدّا، وقال النسائي: ضعيف. وقال أحمد: عبد الله ثقة والآخران ضعيفان. كما في الميزان.
30
القيس إذا لقوا الذين آمنوا قالوا: آمنا، ونشهد أن صاحبكم صادق، فاذا خلوا لم يكونوا كذلك، فنزلت هذه الآية «١». فأما التفسير، فالخديعة: الحيلة والمكر، وسميت خديعة، لأنها تكون في خفاء.
والمخدع: بيت داخل البيت تختفي فيه المرأة، ورجل خادع: إذا فعل الخديعة، سواء حصل مقصوده أو لم يحصل، فاذا حصل مقصوده، قيل: قد خدع. وانخدع الرجل: استجاب للخادع، سواء تعمد الاستجابة أو لم يقصدها، والعرب تسمي الدهر خداعاً، لتلونه بما يخفيه من خير وشر. وفي معنى خداعهم الله خمسة أقوال: أحدها: انهم كانوا يخادعون المؤمنين، فكأنهم خادعوا الله. روي عن ابن عباس واختاره ابن قتيبة. والثاني: انهم كانوا يخادعون نبي الله، فأقام الله نبيه مقامه، كما قال: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «٢»، قاله الزجاج. والثالث: أن الخادع عند العرب: الفاسد.
وأنشدوا «٣» :
[أبيض اللون لذيذ طعمه] «٤» طيب الريق إِذا الريق خدع
أي: فسد. رواه محمد بن القاسم عن ثعلب عن ابن الاعرابي. قال ابن القاسم: فتأويل:
يخادعون الله: يفسدون ما يظهرون من الايمان بما يضمرون من الكفر.
والرابع: أنهم كانوا يفعلون في دين الله ما لو فعلوه بينهم كان خداعا.
والخامس: أنهم كانوا يخفون كفرهم، ويظهرون الإيمان به.
قوله تعالى: وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ قرأَ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: «وما يخادعون» وقرأَ الكوفيون، وابن عامر: (يخدعون)، والمعنى: أن وبال ذلك الخداع عائد عليهم.
ومتى يعود وبال خداعهم عليهم؟ فيه قولان:
أحدهما: في دار الدنيا، وذلك بطريقين: أحدهما: بالاستدراج والإِمهال الذي يزيدهم عذابا.
والثاني: باطلاع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين على أحوالهم التي أسروها.
والقول الثاني: ان عود الخداع عليهم في الآخرة. وفي ذلك قولان: أحدهما: أنه يعود عليهم عند ضرب الحجاب بينهم وبين المؤمنين، وذلك قوله: قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ «٥» الآية... والثاني: أنه يعود عليهم عند اطلاع أهل الجنة عليهم، فاذا رأَوهم طمعوا في نيل راحة من قبلهم، فقالوا: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ «٦»، فيجيبونهم: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ «٧».
قوله تعالى: وَما يَشْعُرُونَ، أَي: وما يعلمون. وفي الذي لم يشعروا به قولان:
(١) باطل. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٢٦ عن ابن عباس إسناده واه جدا فيه محمد بن مروان بن السائب عن الكلبي عن أبي صالح، أطلق العلماء على هذا الإسناد: سلسلة الكذب والأثر ذكره السيوطي في «الدر» ١/ ٣١ وعزاه للواحدي والثعلبي بسند واه.
(٢) الفتح: ١٠.
(٣) البيت لسويد بن أبي كاهل اليشكري. [.....]
(٤) ما بين المعقوفتين زيادة عن «اللسان».
(٥) الحديد: ١٣.
(٦) الأعراف: ٥٠.
(٧) الأعراف: ٥١.
31
أحدهما: أَنه إِطلاع الله نبيه على كذبهم، قاله ابن عباس.
والثاني: أَنه إِسرارهم بأنفسهم بكفرهم، قاله ابن زيد.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠]
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠)
قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ، المرض هاهنا: الشك، قاله عكرمة، وقتادة. فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً هذا الإخبار من الله عزّ وجلّ أنه فعل بهم ذلك، و «الأليم» بمعنى المؤلم، والجمهور يقرءون «يكذبون» بالتشديد، وقرأ الكوفيون سوى أبان عن عاصم بالتخفيف مع فتح الياء.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١)
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
أحدهما: أنها نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو قول الجمهور، منهم ابن عباس، ومجاهد.
والثاني: أن المراد بها قوم لم يكونوا خلقوا حين نزولها، قاله سلمان الفارسي. وكان الكسائي يقرأ بضم القاف من «قيل» والحاء من «حيل» والغين من «غيض»، والجيم من «جيء»، والسين من «سيئ» و «سيئت». وكان ابن عامر يضم من ذلك ثلاثة: «حيل» و «سيق» و «سيئ». وكان نافع يضم «سيئ» و «سيئت»، ويكسر البواقي، والآخرون يكسرون جميع ذلك. وقال الفراء: أهل الحجاز من قريش ومن جاورهم من بني كنانة يكسرون القاف في «قيل» و «جيء» و «غيض»، وكثير من عقيل ومن جاورهم وعامة أسد، يشمون إلى الضمة من «قيل» و «جيء».
وفي المراد بالفساد ها هنا خمسة أقوال: أحدها: أنه الكفر، قاله ابن عباس. والثاني: العمل بالمعاصي، قاله أبو العالية، ومقاتل. والثالث: أنه الكفر والمعاصي، قاله السّدي عن أشياخه. والرابع:
أنه ترك امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، قاله مجاهد. والخامس: أنه النفاق الذي صادفوا به الكفار، وأطلعوهم على أسرار المؤمنين، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله.
قوله تعالى: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ، فيه خمسة أقوال: أحدها: أن معناه إنكار ما عرفوا به، وتقديره: ما فعلنا شيئاً يوجب الفساد. والثاني: أن معناه: إنا نقصد الإصلاح بين المسلمين والكافرين، والقولان عن ابن عباس. والثالث: أنهم أرادوا: في مصافاة الكفار صلاح لا فساد، قاله مجاهد وقتادة.
والرابع: أنهم أرادوا أن فعلنا هذا هو الصلاح، وتصديق محمد هو الفساد، قاله السّدي. والخامس:
أنهم ظنوا أن مصافاة الكفار صلاح في الدنيا لا في الدين، لأنهم اعتقدوا أن الدّولة «١» إن كانت للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقد أمنوه بمتابعته، وإن كانت للكفار فقد أمنوهم بمصافاتهم، ذكره شيخنا.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢]
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢)
قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ، قال الزجاج: ألا: كلمة يبتدأُ بها، ينبه بها المخاطب،
(١) في «القاموس» الدّولة: انقلاب الزمان، والغلبة.
تدل على صحة ما بعدها. و «هم» : تأكيد للكلام.
وفي قوله تعالى: وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ قولان: أحدهما: لا يشعرون أن الله يطلع نبيه على فسادهم. والثاني: لا يشعرون أن ما فعلوه فساد، لا صلاح.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣)
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا، في المقول لهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: المنافقون، قاله مجاهد، وابن زيد.
وفي القائلين لهم قولان: أحدهما: أنهم أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس، ولم يعيّن أحداً من أصحابه. والثاني: أنهم معينون، وهم سعد بن معاذ، وأبو لبابة وأسيد، ذكره مقاتل.
وفي الإِيمان الذي دعوا إليه قولان: أحدهما: أنه التصديق بالنبي، وهو قول من قال: هم اليهود. والثاني: أنه العمل بمقتضى ما أظهروه، وهو قول من قال: هم المنافقون.
وفي المراد بالناس ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: جميع الصحابة، قاله ابن عبَّاس. والثاني:
عبد الله بن سلام، ومن أسلم معه من اليهود، قاله مقاتل. والثالث: معاذ بن جبل، وسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وجماعة من وجوه الأنصار، عدهم الكلبي.
وفيمن عنوا بالسفهاء ثلاثة أقوال: أحدها: جميع الصحابة، قاله ابن عبَّاس. والثاني: النساء والصبيان، قاله الحسن. والثالث: ابن سلام وأصحابه، قاله مقاتل.
وفيما عنوه بالغيب من إِيمان الذين زعموا أنهم السفهاء ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أرادوا دين الإِسلام، قاله ابن عباس، والسُّدي. والثاني: أنهم أرادوا البعث والجزاء، قاله مجاهد. والثالث: أنهم عنوا مكاشفة الفريقين بالعداوة من غير نظر في عاقبة، وهذا الوجه والذي قبله يخرج على أنهم المنافقون، والأول يخرج على أنهم اليهود. قال ابن قتيبة: السّفهاء: الجهلة، يقال: سفه فلان رأيه، إذا جهله، ومنه قيل للبذاء: سفه، لأنه جهل. قال الزجاج: وأصل السَّفه في اللغة: خفة الحلم، ويقال:
ثوب سفيه: إِذا كان رقيقاً بالياً، وتسفهت الريح الشجر: إذا مالت به. قال الشاعر «١» :
مشين كما اهتزت رماح تسفَّهت أعاليَها مرُّ الرياح النواسم «٢»
قوله تعالى: وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ. قال مقاتل: لا يعلمون أنهم هم السّفهاء.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤)
قوله تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا. اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في عبد الله بن أبي وأصحابه، قاله ابن عباس «٣». والثاني: أنها نزلت في المنافقين وغيرهم من أهل الكتاب
(١) هو ذو الرّمّة- غيلان بن عقبة.
(٢) النواسم: الرياح الضعيفة الهبوب، قاله يصف النساء، وهن يمشين.
(٣) تقدم أنه ورد بسند ساقط.
الذين كانوا يظهرون للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الإيمان ما يلقون رؤساءهم بضدّه، قاله الحسن.
فأما التفسير: ف «إلى» : بمعنى «مع»، كقوله تعالى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «١» أي: مع الله.
والشياطين: جمع شيطان، قال الخليل: كل متمرّد عند العرب شيطان. وفي هذا الاسم قولان:
أحدهما: أنه من شطن، أي: بعد عن الخير، فعلى هذا تكون النون أصليَّة. قال أميَّة بن أبي الصَّلت في صفة سليمان عليه السلام:
أيما شاطنٍ عصاه عكاه ثم يُلقى في السّجن والأغلال
عكاه: أوثقه. وقال النابغة:
نأت بسعاد عنك نوىً شطون فبانت والفؤاد بها رهين
والثاني: أنه من شاط يشيط: إِذا التهب واحترق، فتكون النون زائدة. وأنشدوا:
وقد يشيط على أرماحنا البطل «٢»
أي: يهلك. وفي المراد: بشياطينهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم رؤوسهم في الكفر، قاله ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، والسّدي. والثاني: إِخوانهم من المشركين، قاله أبو العالية، ومجاهد.
والثالث: كهنتهم، قاله الضَّحاك، والكلبي.
قوله تعالى: إِنَّا مَعَكُمْ. فيه قولان: أحدهما: أنَّهم أرادوا: إنا معكم على دينكم.
والثاني: إِنا معكم على النّصرة والمعاضدة. والهزء: السّخرية.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥]
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥)
قوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ. اختلف العلماء في المراد، باستهزاء الله بهم على تسعة أقوال:
أحدها: أنه يفتح لهم باب من الجنة وهم في النار، فيسرعون إليه فيغلق، ثم يفتح لهم باب آخر، فيسرعون فيغلق، فيضحك منهم المؤمنون. روي عن ابن عباس. والثاني: أنه إذا كان يوم القيامة جمدت النَّار لهم كما تجمد الإِهالة «٣» في القدر، فيمشون فتنخسف بهم. روي عن الحسن البصري.
والثالث: أن الاستهزاء بهم: إذا ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، فيبقون في الظلمة، فيقال لهم: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً «٤»، قاله مقاتل. والرابع: أن المراد به: يجازيهم على استهزائهم، فقوبل اللفظ بمثله لفظاً وإن خالفه معنى، فهو كقوله تعالى:
وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «٥»، وقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «٦». وقال عمرو بن كلثوم:
(١) الصف: ١٤.
(٢) هو عجز بيت للأعشى وصدره: قد نخضب العير في مكنون فائله.
- وانظر «المعجم المفصل». والفائل: عرق من الفخذ يكون في خربة الورك ينحدر في الرجلين، ومكنون فائله: دمه الذي كنّ فيه. وأراد: إنا حذّاق بالطعن.
(٣) الإهالة: الشحم.
(٤) الحديد: ١٣.
(٥) الشورى: ٤٠.
(٦) البقرة: ١٩٤. [.....]
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا فنجهلَ فوق جهل الجاهلينا
أراد: فنعاقبه بأغلظ من عقوبته. والخامس: أن الاستهزاء من الله تعالى التّخطئة لهم، والتّجهيل، فمعناه: الله يخطّئ فعلهم، ويجهلهم في الإقامة على كفرهم. والسادس: أن استهزاءه: استدراجه إياهم. والسابع: أنه إيقاع استهزائهم بهم، وردّ خداعهم ومكرهم عليهم. ذكر هذه الأقوال محمّد بن القاسم الأنباري. والثامن: أن الاستهزاء بهم أن يقال لأحدهم في النار وهو في غاية الذل: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) «١». ذكره شيخنا في كتابه. والتاسع: أنه لما أظهروا من أحكام إسلامهم في الدنيا خلاف ما أبطن لهم في الآخرة، كان كالاستهزاء بهم.
قوله: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ. فيه أربعة أقوال: أحدها: يمكِّن لهم، قاله ابن مسعود.
والثاني: يملي لهم، قاله ابن عباس. والثالث: يزيدهم، قاله مجاهد. والرابع: يمهلهم، قاله الزجاج.
والطغيان: الزيادة على القدر، والخروج عن حيز الاعتدال في الكثرة، يقال: طغى البحر: إذا هاجت أمواجه، وطغى السيل: إذا جاء بماء كثير. وفي المراد بطغيانهم قولان: أحدهما: أنه كفرهم، قاله الجمهور. والثاني: أنه عتوهم وتكبرهم، قاله ابن قتيبة.
ويَعْمَهُونَ بمعنى: يتحيرون، يقال: رجل عمه وعامه، أي: متحير. قال الراجز «٢» :
ومَخْفَقٍ من لُهلُهٍ ولُهْلُهِ من مهمه يجتنبه في مهمه
أعمى الهدى بالجاهلين العُمَّه «٣» وقال ابن قتيبة: (يعمهون) يركبون رؤوسهم، فلا يبصرون.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى. في نزولها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في جميع الكفار، قاله ابن مسعود، وابن عباس. والثاني: أنها في أهل الكتاب، قاله قتادة والسدي ومقاتل. والثالث: أنها في المنافقين، قاله مجاهد.
واشْتَرَوُا: بمعنى استبدلوا، والعرب تجعل من آثر شيئاً على شيء مشترياً له، وبائعا للآخر.
والضلالة والضلال بمعنى واحد. وفيهما للمفسّرين ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد بها ها هنا الكفر، والمراد بالهدى: الإيمان، روي عن الحسن وقتادة والسدي. والثاني: أنها الشك، والهدى: اليقين.
والثالث: أنها الجهل، والهدى: العلم. وفي كيفية استبدالهم الضلالة بالهدى ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم آمنوا ثم كفروا، قاله مجاهد. والثاني: أن اليهود آمنوا بالنبي قبل مبعثه، فلما بعث كفروا به، قاله مقاتل. والثالث: أن الكفار لما بلغهم ما جاء به النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الهدى فردوه واختاروا الضلال، كانوا كمن أبدل شيئا بشيء، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله.
(١) الدخان: ٤٩.
(٢) هو رؤبة بن العجّاج.
(٣) المخفق: الأرض الواسعة المستوية التي يضطرب فيها السراب. واللهله: الأرض الواسعة أيضا. والمهمه:
المفازة المقفرة.
وقوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ. من مجاز الكلام، لأن التجارة لا تربح، وإنما يربح فيها، ومثله قوله تعالى: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «١»، يريد: بل مكرهم في الليل والنهار. ومثله: فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ «٢»، أي: عزم عليه. وأنشدوا «٣» :
حارثُ قد فرَّجْتَ عني همي فنام ليلي وتجلى غمّي
والليل لا ينام، بل ينام فيه، وإِنما يستعمل مثل هذا فيما يزول فيه الإِشكال ويعلم مقصود قائله، فأما إذا أضيف إلى ما يصلح أن يوصف به، وأريد به ما سواه، لم يجز، مثل أن يقول: ربح عبدك، وتريد: ربحت في عبدك. وإلى هذا المعنى ذهب الفراء وابن قتيبة والزجاج.
قوله تعالى: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. فيه خمسة أقوال: أحدها: وما كانوا في العلم بالله مهتدين.
والثاني: وما كانوا مهتدين من الضلالة. والثالث: وما كانوا مهتدين إلى تجارة المؤمنين. والرابع: وما كانوا مهتدين في اشتراء الضلالة. والخامس: أنه قد لا يربح التاجر ويكون على هدىً من تجارته غير مستحق للذم فيما اعتمده، فنفى الله عزّ وجلّ عنهم الأمرين مبالغة في ذمّهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧)
قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً. هذه الآية نزلت في المنافقين. والمثل بتحريك الثاء: ما يضرب ويوضع لبيان النظائر في الاحوال.
وفي قوله تعالى: اسْتَوْقَدَ قولان: أحدهما: أن السين زائدة، وأنشدوا «٤» :
وداعٍ دعا يا من يجيب إِلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب
أراد: فلم يجبه، وهذا قول الجمهور، منهم الأخفش وابن قتيبة.
والثاني: أن السين داخلة للطلب، أراد: كمن طلب من غيره نارا.
وفي أَضاءَتْ قولان: أحدهما: أنه من الفعل المتعدي، قال الشاعر:
أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه «٥»
وقال آخر «٦» :
أضاءت لنا النار وجهاً أغرَّ ملتبساً بالفؤاد التباسا
والثاني: أنه من الفعل اللازم. قال أبو عبيد: يقال: أضاءت النَّار، وأضاءها غيرها. وقال الزجاج: يقال: ضاء القمر، وأضاء.
وفي «ما» قولان: أحدهما: أنها زائدة، تقديره: أضاءت حوله. والثاني: أنها بمعنى الذي.
(١) سبأ: ٣٣.
(٢) محمد: ٢١.
(٣) هو لرؤبة بن العجّاج يمدح الحارث بن سليم.
(٤) هو لكعب بن سعد الغنوي، يرثي أخاه أبا المغوار. انظر «تفسير القرطبي» ١/ ٢٥٧ بتخريجي.
(٥) في «القاموس» : الجزع: الخرز اليماني، تشبّه به الأعين.
(٦) هو النابغة الجعدي.
وحول الشَّيء: ما دار من جوانبه. والهاء: عائدة على الْمستوقد. فان قيل: كيف وحد، فقال:
كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ، ثم جمع فقال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ؟ فالجواب: أن ثعلبا حكى عن الفراء أنه قال: إنما ضرب المثل للفعل، لا لأعيان الرجال، وهو مثل للنفاق، وإنما قال: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ لأن المعنى ذاهب إلى المنافقين، فجمع لذلك. قال ثعلب: وقال غير الفراء: معنى الذي: الجمع، وحد أولاً للفظه، وجمع بعد لمعناه، كما قال الشاعر «١» :
فإنَّ الذي حانَتْ بِفَلْجٍ دِماؤُهُمْ هُمُ القَوْمُ كلُّ القوم يا أم خالد «٢»
فجعل «الذي» جمعاً.

فصل: اختلف العلماء في الذي ضرب الله تعالى له هذا المثل من أحوال المنافقين على قولين:


أحدهما: أنه ضرب لكلمة الإسلام التي يلفظون بها، ونورها صيانة النفس وحقن الدماء، فاذا ماتوا سلبهم الله ذلك العزَّ، كما سلب صاحب النَّار ضوءه. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس. والثاني: أنه ضرب لإِقبالهم على المؤمنين وسماعهم ما جاء به الرسول، فذهاب نورهم: إِقبالهم على الكافرين والضلال، وهذا قول مجاهد.
وفي المراد ب «الظلمات» ها هنا أربعة أقوال: أحدها: العذاب، قاله ابن عباس. والثاني: ظلمة الكفر، قاله مجاهد. والثالث: ظلمة يلقيها الله عليهم بعد الموت، قاله قتادة. والرابع: أنها نفاقهم، قاله السدي.
فصل: وفي ضرب المثل لهم بالنار ثلاث حكم: إحداهنّ: أن المستضيء بالنار مستضيء بنور من جهة غيره، لا من قبل نفسه، فاذا ذهبت تلك النار بقي في ظلمة، فكأنهم لما أقروا بألسنتهم من غير اعتقاد قلوبهم كان نور إيمانهم كالمستعار. والثانية: أن ضياء النار يحتاج في دوامه إلى مادة الحطب، وهو له كغذاء الحيوان، فكذلك نور الإيمان يحتاج إِلى مادة الاعتقاد ليدوم. والثالثة: أن الظلمة الحادثة بعد الضوء أشد على الإنسان من ظلمة لم يجد معها ضياء، فشبه حالهم بذلك.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨]
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨)
قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ. الصمم: انسداد منافذ السمع، وهو أشد من الطرش.
وفي البكم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الخرس، قاله مقاتل، وأبو عبيد، وابن فارس. والثاني: أنه عيب في اللسان لا يتمكن معه من النطق، وقيل: إن الخرس يحدث عنه. والثالث: أنه عيب في الفؤاد يمنعه أن يعي شيئاً فيفهمه، فيجمع بين الفساد في محل الفهم ومحل النطق. ذكر هذين القولين شيخنا.
وقوله تعالى: فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا يرجعون عن ضلالتهم، قاله قتادة ومقاتل. والثاني: لا يرجعون إِلى الإسلام، قاله السدي. والثالث: لا يرجعون عن الصمم والبكم والعمى، وإنما أضاف الرجوع إليهم، لأنهم انصرفوا باختيارهم، لغلبة أهوائهم عن تصفح الهدى بآلات
(١) هو الأشهب بن رميلة. انظر «المعجم المفصّل».
(٢) في «اللسان» فلج: اسم بلد وقيل: هو واد بطريق البصرة إلى مكة ببطنه منازل للحاج.
التصفح، ولم يكن بهم صمم ولا بكم حقيقة، ولكنهم لما التفتوا عن سماع الحق والنطق به كانوا كالصّم البكم. والعرب تسمي المعرض عن الشيء: أعمى، والملتفت عن سماعه: أصمّ، قال مساكين الدّارميّ:
ما ضرّ لي جارا أجاوره... ألا يكون لبابه ستر
أعمى إذا ما جارتي خرجت... حتى يواري جارتي الخدر
وتصمُّ عما بينهم أذني... حتى يكون كأنه وقر «١»
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩]
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩)
قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ، أو: حرف مردود على قوله: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً «٢»، واختلف العلماء فيه على ستة أقوال:
أحدها: أنه داخل ها هنا للتخيير، تقول العرب: جالس الفقهاء أو النحويين، ومعناه: انت مخير في مجالسة أي الفريقين شئت، فكأنه خيرنا بين أن نضرب لهم المثل الأول أو الثاني.
والثاني: أنه داخل للابهام فيما قد علم الله تحصيله، فأبهم عليهم ما لا يطلبون تفصيله، فكأنه قال: مثلهم كأحد هذين، ومثله قوله تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً «٣»، والعرب تبهم ما لا فائدة في تفصيله. قال لبيد:
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما... وهل أنا إِلا من ربيعة أو مضر
أي: هل أنا إلا من أحد هذين الفريقين، وقد فنيا، فسبيلي أن أفنى كما فنيا.
والثالث: أنه بمعنى: بل. وأنشد الفراء:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى... وصورتها أو أنت في العين أملح
والرابع: أنه للتفصيل، ومعناه: بعضهم يشبه بالذي استوقد ناراً، وبعضهم بأصحاب الصيّب.
ومثله قوله تعالى: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى «٤»، معناه: قال بعضهم، وهم اليهود: كونوا هودا، وقال النصارى: كونوا نصارى. وكذلك قوله: فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ «٥»، معناه: جاء بعضهم بأسنا بياتاً، وجاء بعضهم بأسنا وقت القائلة.
والخامس: أنه بمعنى الواو. ومثله قوله تعالى: أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ «٦».
قال جرير:
نال الخلافة أو كانت له قدراً... كما أتى ربَّه موسى على قدر «٧»
(١) الوقر: ثقل في الأذن، أو ذهاب السمع كله، وجاء في القرطبي ١/ ٢٥٩ حتى يواري جارتي الجدر.
(٢) البقرة: ١٧.
(٣) البقرة: ٧٤. [.....]
(٤) البقرة: ١٣٥.
(٥) الأعراف: ٤.
(٦) النور: ٦١.
(٧) قاله جرير في عمر بن عبد العزيز.
38
والسادس: أنه للشك في حق المخاطبين، إذ الشك مرتفع عن الحق عزّ وجلّ، ومثله قوله تعالى: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ «١»، يريد: الإعادة أهون من الابتداء فيما تظنون.
فأما التفسير لمعنى الكلام: أو كأصحاب صيب، فأضمر الأصحاب، لأن في قوله: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ، دليلاً عليه. والصيب: المطر. قال ابن قتيبة: هو فيعل من صاب يصوب: إذا نزل من السماء، وقال الزجاج: كل نازل من علو إلى استفال، فقد صاب يصوب، قال الشاعر «٢» :
كأنهمُ صابت عليهم سحابة صواعقها لطيرهن دبيب
وفي «الرعد» ثلاثة أقوال:
(١٧) أحدها: أنه صوت ملك يزجر السحاب، وقد روي هذا المعنى مرفوعا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وبه
الراجح وقفه. أخرجه الترمذي ٣١١٧ والنسائي في «الكبرى» ٩٠٧٢ وأحمد ١/ ٢٧٤ والطبراني في «الكبير» ١٢٤٢٩ وابن مندة في «التوحيد» ٤٨ وأبو نعيم ٤/ ٣٠٥ وأبو الشيخ في «العظمة» ٧٦٩ كلهم من طريق بكير بن شهاب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أقبلت اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا يا أبا القاسم أخبرنا عن الرعد ما هو؟ قال ملك من الملائكة موكّل بالسّحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب حيث شاء الله، فقالوا فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال: زجره بالسحاب إذا زجره حتى ينتهي إلى حيث أمر، قالوا صدقت. فأخبرنا عما حرّم إسرائيل على نفسه؟ قال اشتكى عرق النسا فلم يجد شيئا يلائمه إلّا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرّمها، قالوا صدقت، قال الترمذي: حسن غريب اه. ومداره على بكير، وهو مقبول، لا يحتج بما ينفرد به، وثقه ابن حبان وحده، وقال أبو حاتم: شيخ. ولم يرو إلّا هذا الحديث. وأخرجه الطبراني في «الكبير» :(١٢٤٢٩) مطوّلا، وفيه أبو نعيم ضرار بن صرد، وهو ضعيف، وفيه أيضا، بكير بن شهاب.
وقال ابن مندة: هذا إسناد متصل، ورواته مشاهير ثقات!!. كذا قال رحمه الله، والصواب أنه تفرد به راو شبه مجهول، لم يوثقه سوى ابن حبان على قاعدته في توثيق المجاهيل، ولم يرو إلّا هذا الحديث الواحد، فمثله غير حجة، وهو غير معروف بحمل العلم. وقال أبو نعيم: غريب من حديث سعيد- بن جبير- تفرد به بكير.
- وله شاهد بإسناد ساقط: أخرجه ابن مردويه كما في «الدر المنثور» ٤/ ٩٥ من حديث جابر.
- وذكر الحافظ في «تخريج الكشاف» ٢/ ٥١٩ بعض إسناده حيث قال: وفي الطبراني الأوسط عن أبي عمران الكوفي عن ابن جريج وعن عطاء عن جابر، مختصرا فذكر فيه الرعد. سكت عليه الحافظ، وإسناده ساقط، أبو عمران الكوفي لم أجد له ترجمة، وابن جريج مدلس، وقد عنعن. والحديث لم أره في معاجم الطبراني بعد بحث، ولا في «المجمع» مع أنه ذكر حديث ابن عباس، والظاهر أنه تفرد به ابن مردويه كما في «الدر» وبكل حال الإسناد ساقط. لكن ورد في ذلك آثار عن ابن عباس وعلماء التفسير من التابعين. انظر «الدر المنثور» ٤/ ٩٤- ٩٧، و «جامع البيان» ٤١٩- ٤٤٢، وذكره الألباني في «الصحيحة» ١٨٧٢. قلت:
المرفوع، لا يثبت، ولا يحتج بإسناده، والأشبه كونه موقوفا، والله أعلم كذا جاء في روايات كثيرة عن ابن عباس في أن الرعد ملك وورد عن مجاهد وعكرمة وغيرهما. ولو صح هذا مرفوعا لما تكلم هؤلاء من تلقاء أنفسهم في ذلك. ومما يدل على عدم ثبوت المرفوع، هو أن البغوي ذكر في «تفسيره» ١/ ٥٣ أثر علي وابن عباس ومجاهد وغيرهم ولم يذكر المرفوع. وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ١٣٦٥ عن معمر قال: سألت الزهري عن الرعد: ما هو؟ فقال: الله أعلم. الخلاصة: هذا كله دليل على عدم ثبوت المرفوع، وأن الصواب في ذلك هو الموقوف والمقطوع، والله أعلم.
__________
(١) الروم: ٢٧.
(٢) هو علقمة بن عبده كما في «جامع البيان» ١/ ١٨٢ للطبري.
39
قال ابن عباس ومجاهد. وفي رواية عن مجاهد: أنه صوت ملك يسبح. وقال عكرمة: هو ملك يسوق السحاب كما يسوق الحادي الابل.
والثاني: أنه ريح تختنق بين السماء والأرض. وقد روي عن أبي الجلد أنه قال: الرعد: الريح.
واسم أبي الجلد: جيلان بن أبي فروة البصري، وقد روى عنه قتادة.
والثالث: أنه اصطكاك أجرام السحاب «١»، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله.
وفي البرق ثلاثة أقوال «٢» :
(١٨) أحدها: أنه مخاريق يسوق بها الملك السحاب، روي هذا المعنى مرفوعاً إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو قول علي بن أبي طالب. وفي رواية عن علي قال: هو ضربة بمخراق من حديد. وعن ابن عباس:
أنه ضربة بسوط من نور. قال ابن الانباري: المخاريق: ثياب تلفّ، ويضرب بها بعض الصبيان بعضاً، فشبه السوط الذي يضرب به السحاب بذلك المخراق. قال عمرو بن كلثوم:
كأن سيوفنا فينا وفيهم مخاريق بأيدي لاعبينا
وقال مجاهد: البرق: مصع ملك، والمصع: الضرب والتحريك. والثاني: أن البرق: الماء، قاله أبو الجلد. وحكى ابن فارس أن البرق: تلألؤ الماء. والثالث: أنه نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب لسيره، وضرب بعضه لبعض، حكاه شيخنا.
والصواعق: جمع صاعقة، وهي صوت شديد من صوت الرعد يقع معه قطعة من نار تحرق ما تصيبه. وروي عن شهر بن حوشب: أن الملك الذي يسوق السحاب، إذا اشتد غضبه، طار من فيه النار، فهي الصواعق. وقال غيره: هي نار تنقدح من اصطكاك أجرام السحاب. قال ابن قتيبة: وإنما سميت صاعقة، لأنها إذا أصابت قتلت، يقال: صعقتهم، أي: قتلتهم.
قوله تعالى: وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لا يفوته أحد منهم، فهو جامعهم يوم القيامة. ومثله قوله تعالى: أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً «٣»، قاله مجاهد. والثاني: أن الإحاطة:
الإهلاك، مثل قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ «٤». والثالث: أنه لا يخفى عليه ما يفعلون.
لم أره مرفوعا، وإنما ورد عن علي موقوفا، أخرجه الطبري ٤٣٩ وأبو الشيخ ٧٧١ وإسناده ضعيف لجهالة ربيعة بن أبيض، وكرره الطبري ٤٤١ وفيه من لم يسم، وكرره أبو الشيخ ٧٧٢ من وجه آخر، وفيه بشير بن أبي ميمونة وهو مجهول أيضا.
الخلاصة: المرفوع لم أجده بهذا اللفظ، وإنما الوارد في ذلك ما تقدم من حديث ابن عباس، وأما الموقوف على علي، فقد ورد بأسانيد واهية، وهو غريب جدا، والصواب أن البرق، هو الضياء كما تقدم.
__________
(١) يمكن الجمع بين الخبر المرفوع مع ضعفه والآثار، وهذا القول، بأن يكون الملك الموكل بالرعد اسمه الرعد، ويكون الصوت الذي ينتج عن اصطكاك الأجرام هو الرعد كما هو معروف لدى الناس. والقول الثاني ليس بشيء.
(٢) أعدل الأقوال هو الأخير، لكن لا يتعين كونه نارا، وإنما هو ضياء ونور ولمعان ينتج عقب اصطكاك الأجرام.
(٣) الطلاق: ١٢.
(٤) الكهف: ٤٢.
40

[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠]

يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
قوله تعالى: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ، يكاد بمعنى: يقارب، وهي كلمة إذا أثبتت انتفى الفعل، وإذا نفيت ثبت الفعل. وسئل بعض المتأخرين فقيل له:
أنحوي هذا العصر ما هي كلمة جرت بلسانيْ جرهم وثمود
إذا نفيت والله يشهد أثبتت وإن أثبتت قامت مقام جحود
ويشهد للاثبات عند النفي قوله تعالى: لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً «١»، وقوله: إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها «٢»، ومثله: وَلا يَكادُ يُبِينُ «٣»، ويشهد للنفي عند الإثبات قوله تعالى: يَكادُ الْبَرْقُ ويَكادُ سَنا بَرْقِهِ «٤» ويَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ «٥». وقال ابن قتيبة: كاد: بمعنى هم ولم يفعل. وقد جاءت بمعنى فعل. قال ذو الرمة:
ولو أن لقمان الحكيم تعرضت لعينيه ميّ سافراً كاد يَبرَق
أي: لو تعرضت له لبرق، أي: دهش وتحير. قلت: وقد قال ذو الرمة في المنفية ما يدل على أنها تستعمل على خلاف الأصل، وهو قوله:
اذا غيَّر النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى من حبِّ ميَّة يبرح «٦»
أراد: لم يبرح.
قوله تعالى: يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ. قرأ الجمهور «يخطف» بفتح الياء وسكون الخاء وفتح الطاء، وقرأَ أبان بن تغلب، وأبان بن يزيد كلاهما عن عاصم، بفتح الياء وسكون الخاء وكسر الطاء مخففاً.
ورواه الجعفي عن أبي بكر عن عاصم، بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الطاء، وهي قراءة الحسن كذلك، إلا أنه كسر الياء. وعنه: فتح الياء والخاء مع كسر الطاء المشددة.
ومعنى «يخطف» : يستلب، وأصل الاختطاف: الاستلاب، ويقال لما يخرج به الدلو: خطاف، لأنه يختطف ما علق به. قال النابغة:
خطاطيف حجْنٍ في حبالٍ متينة تمُدُّ بها أيدٍ إِليك نوازع
والحجن: المتعقفة، وجمل خيطف: سريع المر، وتلك السرعة الخطفى.
قوله تعالى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ. قال الزجاج: يقال: ضاء الشيء يضوء، وأضاء يضيء، وهذه اللغة الثانية هي المختارة.

فصل: واختلف العلماء ما الذي يشبه الرعد مما يتعلق بأحوال المنافقين على ثلاثة أقوال:


أحدها: أنه التخويف الذي في القرآن، قاله ابن عباس. والثاني: أنه ما يخافون أن يصيبهم من المصائب
(١) النساء: ٧٨.
(٢) النور: ٤٠.
(٣) الزخرف: ٥٢.
(٤) النور: ٤٣. [.....]
(٥) النور: ٣٥.
(٦) النأي: البعد والمفارقة. والرسيس: الشيء الثابت وابتداء الحب.
إذا علم النبي والمؤمنون بنفاقهم، قاله مجاهد والسدي. والثالث: أنه ما يخافونه من الدعاء إلى الجهاد، وقتال من يبطنون مودته، ذكره شيخنا.
واختلفوا: ما الذي يشبه البرق من أحوالهم على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ما يتبين لهم من مواعظ القرآن وحكمه. والثاني: أنه ما يضيء لهم من نور إسلامهم الذي يظهرونه. والثالث: أنه مثل لما ينالونه باظهار الإسلام من حقن دمائهم، فانه بالإِضافة إِلى ما ذخر لهم في الأجل كالبرق. واختلفوا في معنى قوله: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ، على قولين: أحدهما: أنهم كانوا يفرون من سماع القرآن لئلا يأمرهم بالجهاد مخافة الموت، قاله الحسن والسدي. والثاني: أنه مثل لإِعراضهم عن القرآن كراهية له، قاله مقاتل. واختلفوا في معنى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ على أربعة أقوال: أحدها: أن معناه:
كلما أتاهم القرآن بما يحبون تابعوه، قاله ابن عباس والسدي. والثاني: أن إضاءة البرق حصول ما يرجونه من سلامة نفوسهم وأموالهم، فيسرعون إلى متابعته، قاله قتادة. والثالث: أن تكلمهم بالاسلام، ومشيهم فيه: اهتداؤهم به، فاذا تركوا ذلك وقفوا في ضلالة، قاله مقاتل. والرابع: أن إِضاءته لهم:
تركهم بلا ابتلاء ولا امتحان، ومشيهم فيه: إقامتهم على المسالمة باظهار ما يظهرونه. ذكره شيخنا.
فأما قوله تعالى: وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ، فمن قال: إضاءته: إتيانه إياهم بما يحبون، قال: إظلامه:
إتيانه إياهم بما يكرهون. وعلى هذا سائر الأقوال التي ذكرناها بالعكس. ومعنى قامُوا: وقفوا. قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ، قال مقاتل: معناه: لو شاء لأذهب أسماعهم وأبصارهم عقوبة لهم.
قال مجاهد: من أول البقرة أربع آيات في نعت المؤمنين، وآيتان في نعت الكافرين، وثلاث عشرة في نعت المنافقين.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ. اختلف العلماء فيمن عنى بهذا الخطاب على أربعة أقوال: أحدها: أنه عام في جميع الناس، وهو قول ابن عباس. والثاني: أنه خطاب لليهود دون غيرهم، قاله الحسن ومجاهد. والثالث: أنه خطاب للكفار من مشركي العرب وغيرهم، قاله السدي.
والرابع: أنه خطاب للمنافقين واليهود، قاله مقاتل.
والنَّاسِ اسم للحيوان الآدمي وسموا بذلك لتحركهم في مراداتهم. والنوس: الحركة. وقيل:
سمّوا ناسا لما يعتريهم من النسيان. وفي المراد بالعبادة ها هنا قولان: أحدهما: التوحيد. والثاني:
الطاعة، رويا عن ابن عباس. والخلق: الإيجاد. وإنما ذكر من قبلهم، لأنه أبلغ في التذكير، وأقطع للجحد، وأحوط في الحجة. وقيل: إنما ذكر من قبلهم، لينبّههم على الاعتبار بأحوالهم في إثابة مطيع، ومعاقبة عاص.
وفي (لعل) قولان: أحدهما: أنها بمعنى كي، وأنشدوا في ذلك:
يريد: لكي نكف، وإلى هذا المعنى ذهب مقاتل وقطرب وابن كيسان.
والثاني: أنها بمعنى الترجي، ومعناها: اعبدوا الله راجين للتقوى، ولأن تقوا أنفسكم- بالعبادة- عذاب ربكم. وهذا قول سيبويه. قال ابن عباس: لعلكم تتقون الشرك، وقال الضحاك: لعلكم تتقون النار. وقال مجاهد: لعلّكم تطيعون.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢]
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢)
قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً. إنما سميت الأرض أرضاً لسعتها، من قولهم:
أرِضت القرحة: إذا اتسعت، وقيل: لانحطاطها عن السماء، وكل ما سفل: أرض، وقيل: لأن الناس يرضونها بأقدامهم، وسميت السماء سماء لعلوها. قال الزجاج: وكل ما علا على الأرض فاسمه بناء، وقال ابن عباس: البناء ها هنا بمعنى السقف.
قوله تعالى: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ، يعني: من السحاب، ماءً يعني المطر. فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً، يعني: شركاء، أمثالا. يقال: هذا ند هذا، ونديده. وفيما أريد بالأنداد ها هنا قولان:
أحدهما: الأصنام، قاله ابن زيد. والثاني: رجال كانوا يطيعونهم في معصية الله، قاله السدي. قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. فيه ستة أقوال: أحدها: وأنتم تعلمون أنه خلق السماء، وأنزل الماء، وفعل ما شرحه في هذه الآيات، وهذا المعنى مرويّ عن ابن عباس وقتادة ومقاتل. والثاني: وأنتم تعلمون أنه ليس ذلك في كتابكم التوراة والانجيل، روي عن ابن عباس أيضاً، وهو يخرج على قول من قال:
الخطاب لأهل الكتاب. والثالث: وأنتم تعلمون أنه لا ند له، قاله مجاهد. والرابع: أن العلم ها هنا بمعنى العقل، قاله ابن قتيبة. والخامس: وأنتم تعلمون أنه لا يقدر على فعل ما ذكره أحد سواه. ذكره شيخنا علي بن عبيد الله. والسادس: وأنتم تعلمون أنها حجارة، سمعته من الشيخ أبي محمد بن الخشّاب.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣]
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣)
قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ. سبب نزولها أن اليهود قالوا: هذا الذي يأتينا به محمد لا يشبه الوحي، وإنا لفي شك منه، فنزلت هذه الآية. وهذا مروي عن ابن عباس ومقاتل. و «إن» ها هنا لغير شك، لأن الله تعالى علم أنهم مرتابون، ولكن هذا عادة العرب، يقول الرجل لابنه: إن كنت ابني فأطعني. وقيل: إنها ها هنا بمعنى إِذ، قال أبو زيد: ومنه قوله تعالى: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «١». قوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ، قال ابن قتيبة: السورة تهمز ولا تهمز، فمن همزها جعلها من أسأرت، يعني أفضلت كأنها قطعة من القرآن، ومن لم يهمزها جَعلها من سُورةَ البناء، أي منزلة بعد منزلة. قال النّابغة في النّعمان:
(١) البقرة: ٢٧٨.
وقلتم لنا كفُّوا الحروب لعلنا نكفُّ ووثّقتم لنا كل مَوثِق
فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كلمع سراب في الملا متألق
أَلم تر أن الله أعطاك سُورة ترى كل مَلْك دونها يتذبذب
والسورة في هذا البيت: سورة المجد، وهي مستعارة من سورة البناء. وقال ابن الأنباريّ: قال أبو عبيدة: إِنما سُميت السورة سورة لأنه يرتفع فيها من منزلة إِلى منزلة، مثل سورة البناء. معنى:
أَعطاك سورة، أَي: منزلة شرف ارتفعت إليها عن منازل الملوك. قال ابن القاسم: ويجوز أَن تكون سميت سورة لشرفها، تقول العرب: له سورة في المجد، أي: شرف وارتفاع، أو لأنها قطعة من القرآن من قولك: أسأرت سُؤراً، أَي: أبقيت بقية. وفي هاء «مثله» قولان: أحدهما: أنها تعود على القرآن المنزّل «١»، قاله قتادة والفرّاء ومقاتل. والثاني: أنها تعود على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فيكون التقدير: فأتوا بسورة من مثل هذا العبد الأمي، ذكره أبو عبيدة والزجاج وابن القاسم. فعلى هذا القول: تكون «من» لابتداء الغاية، وعلى الأول: تكون زائدة.
قوله تعالى: وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. فيه قولان: أحدهما: أن معناه: استعينوا من المعونة، قاله السدي والفراء. والثاني: استغيثوا، من الاستغاثة، وأنشدوا:
فلما التقت فرساننا ورجالهم دعوا يال كعب واعتزينا لعامر «٢»
وهذا قول ابن قتيبة. وفي «شهدائهم» ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم آلهتهم، قاله ابن عباس والسديّ ومقاتل والفراء. قال ابن قتيبة: وسموا شهداء، لأنهم يشهدونهم ويحضرونهم. وقال غيره: لأنهم عبدوهم ليشهدوا لهم عند الله. والثاني: أنهم أعوانهم، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أَن معناه:
فأتوا بناس يشهدون أن ما تأتون به مثل القرآن، روي عن مجاهد.
قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في قولكم: إن القرآن ليس من عند الله، قاله ابن عباس.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤]
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)
قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا في هذه الآية مضمر مقدّر، يقتضي الكلام تقديمه، وهو أَنه لما تحداهم بما في الآية الماضية من التحدي، فسكتوا عن الاجابة قال: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا، وفي قوله تعالى: وَلَنْ تَفْعَلُوا أعظم دلالة على صحة نُبوَّة نبينا، لأنه أخبر أنهم لا يفعلون، ولم يفعلوا.
والوقود: بفتح الواو: الحطب، وبضمها: التوقد، كالوضوء بالفتح: الماء، وبالضم: المصدر، وهو اسم حركات المتوضّئ. وقرأ الحسن وقتادة: وُقودها، بضم الواو، والاختيار الفتح. والناس أوقدوا فيها بطريق العذاب. والحجارة، لبيان قوتها وشدتها، إِذ هي محرقة للحجارة. وفي هذه الحجارة
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ١/ ٥٩/ ٦٠: فأتوا بسورة من مثله يعني من مثل القرآن قاله مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير الطبري والزمخشري والرازي ونقله عن عمر وابن مسعود وابن عباس والحسن البصري وأكثر المحققين ورجح ذلك بوجوه أحسنها أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميهم وكتابيهم وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئا من العلوم وبدليل قوله تعالى: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ وقوله لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وقال بعضهم من مثل محمد صلّى الله عليه وسلّم يعني من رجل أمي مثله والصحيح الأول.
- وقال القرطبي رحمه الله ١/ ٢٧٥: والضمير في «مثله» عائد على القرآن عند الجمهور.
(٢) البيت للرّاعي النميري. واعتزى: انتسب، صدقا كان أو كذبا، وانتمى إليهم مثله.
قولان: أَحدهما: أنها أصنامهم التي عبدوها، قاله الربيع بن أنس. والثاني: أنها حجارة الكبريت، وهي أشد الأشياء حراً، إذا أحميت يعذبون بها.
ومعنى أُعِدَّتْ: هيئت. وإِنما خوَّفهم بالنار إِذا لم يأتوا بمثل القرآن، لأنهم إذا كذبوه، وعجزوا عن الإتيان بمثله ثبتت عليهم الحجة، وصار الخلاف عناداً، وجزاء المعاندين النار.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥]
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥)
قوله تعالى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا. البشارة: أول خبر يرد على الإنسان، وسمي بشارة، لأنه يؤثر في بشرته، فان كان خيراً، أثر المسرة والانبساط، وإن شراً، أثر الانجماع والغم، والأغلب في عرف الاستعمال أن تكون البشارة بالخير، وقد تستعمل في الشر، ومنه قوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) «١».
قوله تعالى: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. يشمل كل عمل صالح، وقد روي عن عثمان بن عفان أنّه قال: أخلصوا الأعمال. وعن عليّ عليه السلام أنه قال: أقاموا الصلوات المفروضات.
فأما الجنات، فجمع جنَّة. وسميت الجنة جنة، لاستتار أرضها بأشجارها، وسمي الجن جناً، لاستتارهم، والجنين من ذلك، والدّرع جنة، وجن الليل: إذا ستر، وذكر عن المفضل أن الجنة: كل بستان فيه نخل. وقال الزجاج: كل نبت كثف وكثر وستر بعضه بعضاً، فهو جنة.
قوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا، أي: من تحت شجرها لا من تحت أرضها.
قوله تعالى: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: هذا الذي طعمنا من قبل، فرزق الغداة كرزق العشيّ، روي عن ابن عباس والضحاك ومقاتل. والثاني: هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، قاله مجاهد وابن زيد. والثالث: أن ثمر الجنة إذا جُنيَ خلفه مثله، فاذا رأوا ما خلف الجنى، اشتبه عليهم، فقالوا: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ، قاله يحيى بن أبي كثير وأبو عبيدة. قوله تعالى: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه متشابه في المنظر واللون، مختلف في الطعم، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية والضحاك والسدي ومقاتل. والثاني: أنه متشابه في جودته، لا رديء فيه، قاله الحسن وابن جريج. والثالث: أنه يشبه ثمار الدنيا في الخلقة والاسم، غير أنه أحسن في المنظر والطعم، قاله قتادة وابن زيد.
فان قال قائل: ما وجه الامتنان بمتشابهه، وكلّما تنوعت المطاعم واختلفت ألوانها كان أحسن؟! فالجواب: أنا إن قلنا: إنه متشابه المنظر مختلف الطعم، كان أغرب عند الخلق وأحسن، فانك لو رأيت تفاحة فيها طعم سائر الفاكهة، كان نهاية في العجب. وإن قلنا: إنه متشابه في الجودة جاز اختلافه في
(١) النساء: ١٣٨.
الألوان والطعوم. وإن قلنا: إنه يشبه صورة ثمار الدنيا مع اختلاف المعاني كان أطرف وأعجب، وكل هذه مطالب مؤثرة.
قوله تعالى: وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ. أي: الخَلْق، فانهن لا يحضن ولا يبلن ولا يأتين الخلاء، وفي الخُلُق، فانهن لا يحسدن ولا يغرن ولا ينظرن إلى غير أزواجهن. قال ابن عباس: نقية عن القذى والأذى. قال الزجاج: ومُطَهَّرَةٌ أبلغ من طاهرة لأنه للتكثير. والخلود: البقاء الدائم الذي لا انقطاع له.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦)
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا. في سبب نزولها قولان: أحدهما: أنه لما نزل قوله تعالى: ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ «١»، ونزل قوله: كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً «٢». قالت اليهود: وما هذا من الأمثال؟! فنزلت هذه الآية «٣»، قاله ابن عباس والحسن وقتادة ومقاتل والفراء. والثاني: أنه لما ضرب الله المثلين، وهما قوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً «٤»، وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ «٥»، قال المنافقون:
الله أجل وأعلى من أن يضرب هذه الأمثال، فنزلت هذه الآية، رواه السدي عن أشياخه. وروي عن الحسن ومجاهد نحوه.
والحياء بالمد: الانقباض والاحتشام، غير أن صفات الحق عزّ وجلّ لا يطلع لها على ماهية وإنما تمر كما جاءت.
(١٩) وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إن ربكم حييّ كريم»، وقيل: معنى لا يستحيي: لا يترك، لأن كل ما
صحيح. أخرجه أبو داود ١٤٨٨ والترمذي ٣٥٥٦ وابن ماجة ٣٨٦٥ وأحمد ٥/ ٤٣٨ وابن حبان ٨٧٦ و ٨٨٠ والحاكم ١/ ٤٩٧ والطبراني ٦١٣٠ عن سلمان مرفوعا، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله حييّ كريم يستحي إذا رفع إليه العبد يده أن يردهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا». وصححه الحاكم ووافقه الذهبي وجوّده الحافظ في «فتح الباري» ١١/ ١٤٣. وورد من حديث أنس أخرجه الحاكم (١/ ٤٩٧- ٤٩٨) وإسناده ضعيف لضعف عامر بن يساف وتابعه أبان بن أبي عياش عند البغوي ١٣٨٦ «شرح السنة» لكن أبان متروك. وله شاهد من حديث جابر عزاه الحافظ في تخريج الكشاف ١/ ١١٣ لأبي يعلى وأعله بيوسف بن محمد وأنه متروك. ولم أره في «مسنده» ولعله في «الكبير». وله شاهد من حديث ابن عمر أخرجه الطبراني (١٣٥٥٧) عن ابن عمر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن ربكم حييّ كريم يستحي أن يرفع العبد يديه فيردهما صفرا لا خير فيهما فإذا رفع أحدكم يديه فليقل: يا حي لا إله إلّا أنت يا أرحم الراحمين، ثلاث مرات، ثم إذا ردّ يديه فليفرغ ذلك الخير إلى وجهه». وإسناده ضعيف، سكت عليه الحافظ في «تخريج الكشاف» (١/ ١١٣). وقال الهيثمي في المجمع (١٠/ ١٦٩ ح ١٧٣٤٠) : فيه الجارود بن يزيد، وهو متروك اه.
__________
(١) الحج: ٧٣.
(٢) العنكبوت: ٤١.
(٣) أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ٣٠ عن ابن عباس ورجاله ثقات، لكن فيه عنعنة ابن جريج، وأخرجه عبد الرزاق ٢٧ عن قتادة، وورد من وجوه لكن وقع في بعض الروايات «المشركين» بدل «اليهود» وفي بعض الروايات «المنافقين».
(٤) البقرة: ١٧.
(٥) البقرة: ١٩.
46
يستحيى منه يترك. وحكى ابن جرير الطبري عن بعض اللغويين أن معنى لا يستحيي: لا يخشى.
ومثله: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ «١»، أي: تستحيي منه. فالاستحياء والخشية ينوب كل واحد منهما عن الآخر. وقرأ مجاهد وابن محيصن: لا يستحي بياء واحدة، وهي لغة.
وقوله تعالى: أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا. قال ابن عباس: أن يذكر شبهاً، واعلم أن فائدة المثل أن يبين للمضروب له الأمر الذي ضرب لأجله، فينجلي غامضه. قوله تعالى: ما بَعُوضَةً. «ما» زائدة، وهذا اختيار أبي عبيدة والزجاج والبصريين. وأنشدوا للنابغة:
قالت:
ألا ليتما هذا الحمام لنا [إلى حمامتنا أو نصفه فقد] «٢»
وذكر أَبو جعفر الطبري أن المعنى: ما بين بعوضة إِلى ما فوقها، ثم حذف ذكر «بين» و «إِلى» إِذ كان في نصب البعوضة، ودخول الفاء في «ما» الثانية دلالة عليهما، كما قالت العرب: مطرنا ما زبالة فالثعلبية، وله عشرون ما ناقة فجملاً، وهي أحسن الناس ما قرناً فقدماً [يعنون: ما بين قرنها إلى قدمها]. وقال غيره: نصب البعوضة على البدل من المثل. وروى الأصمعي عن نافع: «بعوضةٌ» بالرفع، على إِضمار هو، والبعوضة: صغيرة البقّ.
وفي قوله تعالى: فَما فَوْقَها، فيه قولان: أحدهما: أن معناه فما فوقها في الكبر، قاله ابن عباس، وقتادة، وابن جريج، والفراء. والثاني: فما فوقها في الصغر، فيكون معناه: فما دونها، قاله أبو عبيدة. قال ابن قتيبة: وقد يكون الفوق بمعنى: دون، وهو من الأضداد، ومثله: الجون يقال للأسود والأبيض. والصريم: الصبح والليل. والسّدفة: الظلمة والضوء. والجلل: الصغير والكبير. والنّاهل:
العطشان والرّيان. والماثل: القائم واللاطئ بالأرض. والصارخ: المغيث والمستغيث. والهاجد:
المصلي بالليل والنائم. والرهوة: الارتفاع والانحدار. والتلعة: ما ارتفع من الارض وما انهبط من الارض. والظن: يقين وشك. والاقراء: الحيض والاطهار. والمفرع في الجبل: المصعد، وهو المنحدر. والوراء: يكون خلفاً وقدّاماً. وأسررت الشيء: أخفيته وأعلنته. وأخفيت الشىء: أظهرته وكتمته. ورتوت الشيء: شددته، وأرخيته. وشعبت الشيء: جمعته وفرقته. وبُعت الشيء بمعنى: بعته واشتريته. وشريت الشيء: اشتريته وبعثته. والحي خلوف: غيب، ومتخلفون.
واختلفوا في قوله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً، هل هو من تمام قول الذين قالوا:
ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا، أو هو مبتدأ من كلام الله عزّ وجلّ؟ على قولين: أحدهما: أنه تمام الكلام الذي قبله، قاله الفراء، وابن قتيبة. قال الفراء: كأنهم قالوا: ماذا اراد الله بمثل لا يعرفه كل أحد، يضل به هذا، ويهدي به هذا؟! ثم استؤنف الكلام والخبر عن الله. فقال الله: وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ. والثاني: أنه مبتدأ من قول الله تعالى، قاله السّدّيّ ومقاتل.
(١) الأحزاب: ٣٧.
(٢) زيادة عن ديوان النابغة.
47
فأما الفسق فهو في اللغة: الخروج، يقال: فسقت الرطبة: إذا خرجت من قشرها، فالفاسق:
الخارج عن طاعة الله إِلى معصيته. وفي المراد بالفاسقين ها هنا، ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: المنافقون، قاله أبو العالية والسّدّيّ. والثالث: جميع الكفار.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧]
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)
قوله تعالى: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ. هذه صفة للفاسقين، وقد سبقت فيهم الأقوال الثلاثة.
والنقض: ضد الإِبرام، ومعناه: حل الشىء بعد عقده. وينصرف النقض إِلى كل شىء بحسبه، فنقض البناء: تفريق جمعه بعد إحكامه. ونقض العهد: الإعراض عن المقام على أحكامه. وفي هذا العهد ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ما عهد إِلى أهل الكتاب من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم والوصية باتباعه، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: ما عُهد اليهم في القرآن، فأقروا به ثم كفروا فنقضوه، قاله السدي. والثالث: أنه الذي أخذه عليهم حين استخرج ذرية آدم من ظهره، قاله الزجاج. ونحن وإن لم نذكر ذلك العهد، فقد ثبت بخبر الصادق فيجب الايمان به.
وفي «من» قولان: أحدهما: أنها زائدة. والثاني: أنها لابتداء الغاية، كأنه قال: ابتداء نقض العهد من بعد ميثاقه. وفي هاء «ميثاقه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الله سبحانه. والثاني: أنها ترجع إلى العهد، فتقديره: بعد إحكام التّوثّق فيه.
وفي الذي أمر الله به أن يوصل، ثلاثة أقوال: أحدها: الرحم والقرابة، قاله ابن عباس وقتادة والسّدّي. والثاني: أنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قطعوه بالتكذيب، قاله الحسن. والثالث: الإيمان بالله، وأن لا يفرق بين أحد من رسله، فآمنوا ببعض وكفروا ببعض، قاله مقاتل.
وفي فسادهم في الأرض ثلاثة أقوال: أحدها: استدعاؤهم الناس إلى الكفر، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه العمل بالمعاصي، قاله السّدّيّ، ومقاتل. والثالث: أنه قطعهم الطريق على من جاء مهاجرا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ليمنعوا الناس من الإسلام. والخسران في اللغة: النّقصان.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨)
قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ، في «كيف» قولان: أحدهما: أنه استفهام في معنى التعجب، وهذا التعجب للمؤمنين، أي: اعجبوا من هؤلاء كيف يكافرون، وقد ثبتت حجة الله عليهم، قاله ابن قتيبة والزجاج. والثاني: أنه استفهام خارج مخرج التقرير والتوبيخ، تقديره: ويحكم كيف تكفرون بالله! قال العجاج:
أطرباً وأَنت قنسريّ [والدهر بالانسان دواريُّ] «١»
أراد: أتطرب وأنت شيخ كبير؟! قاله ابن الأنباري.
قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَمْواتاً. قال الفرّاء: أي: وقد كنتم أمواتا. ومثله:
(١) ما بين معقوفتين زيادة عن اللسان مادة (قنسر). [.....]
أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ «١»، أي: قد حصرت. ومثله: وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ»
، فقد كذبت، ولولا إضمار «قد» لم يجز مثله في الكلام.
وفي الحياتين، والموتتين أقوال: أصحها: أن الموتة الأولى، كونهم نطفاً وعلقاً ومضغاً، فأحياهم في الأرحام، ثم يميتهم بعد خروجهم إِلى الدنيا، ثم يُحييهم للبعث يوم القيامة، وهذا قول ابن عباس وقتادة ومقاتل والفراء وثعلب، والزجاج، وابن قتيبة، وابن الأنباري.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٩]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، أي: لأجلكم، فبعضه للانتفاع، وبعضه للإتباع. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ، أي: عمد إلى خلقها، والسماء: لفظها لفظ الواحد، ومعناها معنى الجمع، بدليل قوله: فَسَوَّاهُنَّ. وأيهما أسبق في الخلق: الأرض، أم السماء؟ فيه قولان: أحدهما: الأرض، قاله مجاهد. والثاني: السماء، قاله مقاتل. واختلفوا في كيفية تكميل خلق الأرض وما فيها، فقال ابن عبَّاس: بدأ بخلق الأرض في يومين، ثم خلق السماوات في يومين، ثم دحا الأرض وبينها الجبال، وقدر فيها أقواتها في يومين. وقال الحسن ومجاهد: جمع خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام متوالية، ثم خلق السماء في يومين.
والعليم: جاء على بناء: فعيل، للمبالغة في وصفه بكمال العلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٠]
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ. كان أبو عبيدة يقول: «إذ» ملغاة، وتقدير الكلام: وقال ربك، وتابعه ابن قتيبة، وعاب ذلك عليهما الزجاج وابن القاسم. وقال الزجاج: إذ: معناها: الوقت، فكأنه قال: ابتداء خلقكم إذ قال ربك للملائكة.
والملائكة: من الألوك، وهي الرسالة، قال لبيد:
وغلام أرسلتْه أمه... بألوك فبذلنا ما سأل
وواحد الملائكة: ملك، والأصل فيه: ملأك. وأنشد سيبويه:
فلست لإِنسي ولكن لملأكٍ... تنزل من جوِّ السماء يصوب
قال أبو إِسحاق: ومعنى ملأك: صاحب رسالة، يقال: مألَكة ومألُكة وملأكة. ومآلك: جمع مألكة. قال الشاعر «٣» :
أبلغ النعمان عني مألكاً... أنه قد طال حبسي وانتظاري
وفي هؤلاء الملائكة قولان: أحدهما: أنهم جميع الملائكة، قاله السدي عن أشياخه. والثاني:
(١) النساء: ٩٠.
(٢) يوسف: ٢٦.
(٣) هو عدي بن زيد كما في «اللسان» مادة (ألك).
49
أنهم الذين كانوا مع إبليس حين أُهبط إلى الأرض، ذكره أبو صالح عن ابن عباس. ونقل أنه كان في الأرض خلق قبل آدم، فأفسدوا، فبعث الله إبليس في جماعة من الملائكة فأهلكوهم.
واختلفوا ما المقصود في إخبار الله عزّ وجلّ الملائكة بخلق آدم على ستة أقوال: أحدها: أن الله تعالى علم في نفس إبليس كبراً، فأحب أن يطلع الملائكة عليه، وأن يظهر ما سبق عليه في علمه، رواه الضحاك عن ابن عباس، والسدي عن أشياخه. والثاني: أنه أراد أن يبلو طاعة الملائكة، قاله الحسن.
والثالث: أنه لما خلق النار خافت الملائكة، فقالوا: ربنا لمن خلقت هذه؟ قال: لمن عصاني، فخافوا وجود المعصية منهم، وهم لا يعلمون بوجود خلق سواهم، فقال لهم: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قاله ابن زيد. والرابع: أنه أراد إظهار عجزهم عن الإحاطة بعلمه. فأخبرهم حتى قالوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها؟ فأجابهم: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ. والخامس: أنه أراد تعظيم آدم بذكره بالخلافة قبل وجوده، ليكونوا معظّمين له إذ أوجده. والسادس: أنه أراد إعلامهم بأنه خلقه ليسكنه الأرض، وإن كان ابتداء خلقه في السماء.
والخليفة: هو القائم مقام غيره، يقال: هذا خلف فلان وخليفته. قال ابن الأنباري: والأصل في الخليفة خليف، بغير هاء، فدخلت الهاء للمبالغة بهذا الوصف، كما قالوا: علّامة ونسّابة. وفي معنى خلافة آدم قولان: أحدهما: أنه خليفة عن الله تعالى في إقامة شرعه، ودلائل توحيده، والحكم في خلقه، وهذا قول ابن مسعود ومجاهد «١». والثاني: أنه خلف من سلف في الأرض قبله، وهذا قول ابن عباس والحسن.
قوله تعالى: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن ظاهر الألف للاستفهام، دخل على معنى العلم ليقع به تحقيق، ومعناها الإيجاب، تقديره: ستجعل فيها من يفسد فيها، قاله أبو عبيدة. قال جرير:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطايَا وأندى العالَمِينَ بطون راح
معناه: أنتم خير من ركب المطايا. والثاني: أنهم قالوه لاستعلام وجه الحكمة، لا على وجه الاعتراض، ذكره الزجاج. والثالث: أنهم سألوا عن حال أنفسهم، فتقديره: أتجعل فيها من يفسد فيها ونحن نسبح بحمدك، أم لا؟
وهل علمت الملائكة أنهم يفسدون بتوقيف من الله تعالى، أم قاسوا على حال من قبلهم؟ فيه قولان: أحدهما: أنه بتوقيف من الله تعالى، قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة، وابن زيد وابن قتيبة، وروى السدي عن أشياخه: أنهم قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة؟ قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضاً، فقالوا: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها.
والثاني: أنهم قاسوه على أحوال من سلف قبل آدم، روي نحو هذا عن ابن عباس وأبي العالية ومقاتل.
قوله تعالى: وَيَسْفِكُ الدِّماءَ. قرأ الجمهور بكسر الفاء، وضمّها طلحة بن مصرف وإبراهيم بن أبي عبلة، وهما لغتان، وروي عن طلحة وابن مقسم «ويُسَفِّك» : بضم الياء وفتح السين وتشديد الفاء مع
(١) ذكر الإمام القرطبي في «تفسيره» ١/ ٣٠٥ بحثا نفيسا في الإمامة الكبرى وهي الخلافة، فانظره فإنه هام.
50
كسرها، وهي لتكثير الفعل وتكريره. وسفكُ الدم: صبُّه وإراقته وسفحه، وذلك مستعمل في كل مضيّع، إلا أن السفك يختص الدم، والصب والسفح والإِراقة يقال في الدم وفي غيره. وفي معنى تسبيحهم أربعة أقوال: أحدها: أنه الصلاة، قاله ابن مسعود وابن عباس. والثاني: أنه قول: سبحان الله، قاله قتادة. والثالث: أنه التعظيم والحمد، قاله أبو صالح. والرابع: أنه الخضوع والذل، قاله محمد بن القاسم الأنباريّ.
وقوله تعالى: وَنُقَدِّسُ لَكَ. القدس: الطهارة، وفي معنى تقديسهم ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: نتطهر لك من أعمالهم، قاله ابن عباس. والثاني: نعظمك، ونكبرك، قاله مجاهد. والثالث:
نصلي لك قاله قتادة.
قوله تعالى: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ. فيه أربعة أقوال: أحدها: أن معناه: أعلم ما في نفس إبليس من البغى والمعصية، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي عن أشياخه. والثاني: أعلم أنه سيكون من ذلك الخليفة أنبياء وصالحون، قاله قتادة. والثالث: أعلم أني أملأ جهنم من الجنة والناس، قاله ابن زيد. والرابع: أعلم عواقب الأمور، فانا أبتلي من تظنون أنه مطيع، فيؤديه الابتلاء إلى المعصية كإبليس، ومن تظنون به المعصية فيطيع، قاله الزجاج.
(الإشارة إلى خلق آدم عليه السلام) (٢٠) روى أبو موسى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «إنّ الله، عزّ وجلّ، خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسهل والحزن، وبين ذلك، والخبيث والطيب»، قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
(٢١) وقد أخرج البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال:
«خلق الله تعالى آدم طوله ستون ذراعاً».
(٢٢) وأخرج مسلم في أفراده من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنّه قال: «خلق الله آدم بعد
صحيح. أخرجه أبو داود ٤٦٩٣ والترمذي ٢٩٥٥ وأحمد ٤/ ٤٠٠ وابن حبان ٦١٦٠ وابن سعد في «الطبقات» ١/ ٢٦ وعبد بن حميد في «المنتخب» ٥٤٨ والطبري ٦٤٥ والحاكم ٢/ ٢٦١- ٢٦٢. والبيهقي في «الصفات» ص ٣٨٥ من طرق عن عوف العبدي عن قسامة بن زهير عن أبي موسى الأشعري. وإسناده جيد، رجاله كلهم ثقات، وقد صححه الحاكم وأقره الذهبي وقال الترمذي: حسن صحيح. وله شواهد ستأتي.
صحيح. أخرجه البخاري ٣٣٢٦ و ٦٢٢٧ ومسلم ٢٨٤١ وأحمد ١/ ٣١٥ وابن حبان ٦١٦٢. وابن خزيمة في «التوحيد» ص ٤٠- ٤١ واللالكائي في «أصول الاعتقاد» ٧١١ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٨١٢ والبغوي ٣٢٩٨.
الصحيح موقوف، والمرفوع معلول، وهو أحد الأحاديث الضعيفة في «صحيح مسلم». أخرجه مسلم ٢٧٨٩ وأحمد ٢/ ٣٢٧ والنسائي في «التفسير» ٣٠ والطبري في «التاريخ» ١/ ٢٣ والبيهقي في «الصفات» ٣٨٣ من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سليم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي فقال: «خلق الله، عزّ وجلّ، التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد. وخلق الشجر يومَ الإثنين. وخلق المكروه يوم الثلاثاء. وخلق النور
51
العصر يوم الجمعة آخر الخلق، في آخر ساعة من ساعات الجمعة، ما بين العصر إلى الليل».
قال ابن عباس: لما نفخ فيه الروح، أتته النفخة من قبل رأسه، فجعلت لا تجري منه في شيء إلا صار لحما ودما.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣١]
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١)
قوله تعالى: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها. في تسميته بآدم قولان: أحدهما: لأنه خلق من أديم
يوم الأربعاء، وبثَّ فيها الدواب يومَ الخميس، وخلق آدم عليه السّلام بعد العصر من يوم الجمعة. في آخر الخلق. في آخر ساعة من ساعات الجمعة. فيما بين العصر إلى الليل» لفظ مسلم. وأخرجه ابن معين في «تاريخه» ٣٠٥ وعنه الدولابي في «الكنى» ١/ ١٧٥ عن هشام بن يوسف عن ابن جريج، به. وأخرجه الحاكم في «معرفة علوم الحديث» ٣٣- ٣٤ من طريق إبراهيم بن أبي يحيى عن صفوان بن سليم عن أيوب بن خالد، وإبراهيم متروك. وعلقه البخاري في «تاريخه» ١/ ٤١٣- ٤١٤ من طريق أيوب وقال: وقال بعضهم: عن أبي هريرة عن كعب، وهو أصح.
- قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» ١/ ٩٩: هذا الحديث من غرائب صحيح مسلم وقد تكلم عليه ابن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ وجعلوه من كلام كعب وأن أبا هريرة إنما سمعه من كلام كعب الأحبار وإنما اشتبه على بعض الرواة فجعله مرفوعا. وذكره أيضا في «تفسيره» ٣/ ٤٢٢ وقال: فيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قد قال: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ. وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله في «الفتاوى» ١٧/ ٢٣٦: وأما الحديث الذي رواه مسلم في قوله: «خلق الله التربة، يوم السبت» فهو حديث معلول قدح فيه أئمة الحديث كالبخاري وغيره، قال البخاري: الصحيح أنه موقوف على كعب الأحبار. وقال المناوي في «فيض القدير» ٣/ ٤٤٨:
قال بعضهم: هذا الحديث في متنه غرابة شديدة فمن ذلك: أنه ليس فيه ذكر خلق السماوات وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام، وهذا خلاف القرآن لأن الأربعة خلقت في أربعة أيام ثم خلقت السماوات في يومين. وقال البيهقي: وزعم بعض أهل العلم أنه غير محفوظ لمخالفته ما عليه أهل التفسير، وأهل التواريخ، وزعم بعضهم أن إسماعيل بن أمية إنما أخذه عن إبراهيم بن أبي يحيى عن أيوب بن خالد، وإبراهيم غير محتج به. ثم أسند البيهقي ٨١٣ من طريق الحاكم عن أحمد بن محمد عن محمد بن نصر عن محمد بن يحيى الذهلي قال: سألت علي بن المديني عن حديث أبي هريرة «خلق الله التربة... ». فقال علي: هذا حديث مدني، رواه هشام بن يوسف عن ابن جريج عن إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن أبي رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي، قال علي: وشبك بيدي إبراهيم بن أبي يحيى، وقال لي:
شبك بيدي عبد الله بن رافع، وقال لي: شبك بيدي أبو هريرة، وقال لي: شبك بيدي أبو القاسم، وقال لي:
خلق الله التربة... » فذكر الحديث بنحوه. قال علي المديني: وما أرى إسماعيل بن أمية أخذ هذا إلّا من إبراهيم بن أبي يحيى.
- ويؤيد ما قاله علي المديني، هو ما أخرجه الحاكم في «علوم الحديث» ص ٣٣ في «بحث المسلسل» : من طريق الحسن بن بكر بن الشرود قال: شبك بيدي إبراهيم بن أبي يحيى، وقال إبراهيم... الحديث.
- قلت: فالخبر معلول، وهو غريب جدا، وحسبه الوقف، وأن مصدره كعب الأحبار وعبد الله بن سلام.
- ومما يدل على غرابته بل نكارته أنه ليس عند مسلم ذكر خلق السماوات أصلا، وهذا عجيب معارض بقوله تعالى في سورة فصّلت [٩- ١٢] قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ، وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ، ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ، فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ.... فمن تأمل الآيات ظهر له الأمر جليا، والله أعلم.
الأرض، قاله ابن عباس وابن جبير والزجاج. والثاني: أنه من الأدمة في اللون، قاله الضحاك والنضر بن شميل وقطرب. وفي الأسماء التي علَّمه قولان: أحدهما: أنه علمه كل الأسماء، وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة. والثاني: أنه علمه أسماء معدودة لمسميات مخصوصة. ثم فيها أربعة أقوال: أحدها: أنه علمه أسماء الملائكة، قاله أبو العالية. والثاني: أنه علَّمه أسماء الأجناس دون أنواعها، كقولك: إِنسان وملك وجني وطائر، قاله عكرمة. والثالث: أنه علمه أسماء ما خلق في الأرض من الدواب والهوام والطير، قاله الكلبي ومقاتل ابن قتيبة. والرابع: أنه علمه أسماء ذريته، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ. يريد: أعيان الخلق على الملائكة، قال ابن عباس: الملائكة هاهنا:
هم الذين كانوا مع إبليس خاصة. قوله تعالى: أَنْبِئُونِي: أخبروني. قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فيه قولان: أحدهما: إن كنتم صادقين أني لا أخلق خلقا هو أفضل منكم وأعلم، قاله الحسن. والثاني: أني أجعل فيها من يفسد فيها، قاله السدي عن أشياخه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٢]
قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢)
قوله تعالى: قالُوا سُبْحانَكَ. قال الزجاج «١» : لا اختلاف بين أهل اللغة أن التسبيح هو:
التنزيه لله تعالى عن كل سوء. والعليم بمعنى: العالم جاء على بناء «فعيل» للمبالغة.
وفي الحكيم قولان: أحدهما: أنه بمعنى الحاكم، قاله ابن قتيبة «٢». والثاني: المحكم للأشياء، قاله الخطّابيّ «٣».
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٣]
قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣)
قوله تعالى: قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ، أي: أخبرهم، وروي عن ابن عباس: «أنبئهم» بكسر الهاء، قال أبو علي: قراءة الجمهور على الأصل، لأن أصل هذا الضمير أن تكون الهاء مضمومة فيه، ألا ترى أنك تقول: ضربهم وأبناءهم، وهذا لهم. ومن كسر أتبع كسر الهاء التي قبلها وهي كسرة الباء.
والهاء والميم تعود على الملائكة. وفي الهاء والميم من «أسمائهم» قولان: أحدهما: أنها تعود على المخلوقات التي عرضها، قاله الأكثرون. والثاني: أنها تعود على الملائكة، قاله الربيع بن أنس. وفي الذي أبدوه قولان: أحدهما: أنه قولهم: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها، ذكره السدي عن أشياخه.
والثاني: أنه ما أظهروه من السمع والطاعة لله حين مروا على جسد آدم، فقال إبليس: إن فضّل عليكم هذا ما تصنعون؟ فقالوا: نطيع ربنا، فقال إبليس في نفسه: لئن فضّلت عليه لأهلكنه، ولئن فضّل عليّ
(١) هو إبراهيم بن السّري أبو إسحاق الزجاج عالم بالنحو واللغة من كتبه «معاني القرآن» توفي سنة ٣١١.
(٢) هو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري توفي سنة ٢٧٦.
(٣) هو الإمام العلّامة حمد، ويقال: أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب البستي من مؤلفاته «بيان إعجاز القرآن الكريم» توفي سنة ٣٨٨.
لأعصينه، قاله مقاتل. وفي الذي كتموه قولان: أحدهما: أنه اعتقاد الملائكة أن الله تعالى لا يخلق خلقاً أكرم منهم، قاله الحسن وأبو العالية وقتادة. والثاني: أنه ما أسره إبليس من الكبر والعصيان. رواه السدي عن أشياخه، وبه قال مجاهد وابن جبير ومقاتل.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٤]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤)
قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا. عامة القراء على كسر التاء من الملائكة، وقرأَ أبو جعفر والأعمش بضمها في الوصل، قال الكسائيّ: هي لغة، أزد شنوءة. وفي هؤلاء الملائكة قولان:
أحدهما: أنهم جميع الملائكة، قاله السدي عن أشياخه. والثاني: أنهم طائفة من الملائكة، روي عن ابن عباس، والأول أصح. والسجود في اللغة: التواضع والخضوع، وأنشدوا:
ساجد المنخر ما يرفعه خاشع الطرف أصم المستمع
وفي صفة سجودهم لآدم قولان: أحدهما: أنه على صفة سجود الصلاة، وهو الأظهر. والثاني:
أنه الانحناء والميل المساوي للركوع.
قوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ. في هذا الاستثناء قولان «١» :
أحدهما: أنه استثناء من الجنس، فهو على هذا القول من الملائكة، قاله ابن مسعود في رواية، وابن عباس. وقد روي عن ابن عباس أنه كان من الملائكة، ثم مسخه الله تعالى شيطاناً.
والثاني: أنه من غير الجنس، فهو من الجن، قاله الحسن والزهري.
قال ابن عباس: كان إبليس من خزان الجنة، وكان يدير أمر السماء الدنيا. فان قيل: كيف استثني وليس من الجنس؟ فالجواب: أنه أمر بالسجود معهم، فاستثني منهم لأنه لم يسجد، وهذا كما تقول:
أمرت عبدي وإخوتي فأطاعوني إلا عبدي، هذا قول الزجاج.
وفي إبليس قولان: أحدهما: اسم أعجمي ليس بمشتق، ولذلك لا يصرف، هذا قول أبي عبيدة، والزّجّاج وابن الأنباري. والثاني: أنه مشتق من الإِبلاس، وهو: اليأس، روي عن أبي صالح، وذكره ابن قتيبة وقال: إِنه لم يصرف، لانه لا سمي له، فاستثقل. قال شيخنا أبو منصور اللغوي «٢» : والأول أصح، لأنه لو كان من الإِبلاس لصرف، أَلا ترى أنك لو سميت رجلاً: بإِخريط وإِجفيل لصرف في المعرفة.
قوله تعالى: أَبى معناه: امتنع، وَاسْتَكْبَرَ استفعل من: الكبر.
وفي وَكانَ قولان: أحدهما: أنها بمعنى: صار، قاله قتادة. والثاني: أنها بمعنى الماضي، فمعناه: كان في علم الله كافراً، قاله مقاتل وابن الأنباري.
(١) القول الثاني هو الصواب، والحجة في ذلك قوله تعالى في سورة الكهف وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فهو من الجن إذن، وقال تعالى وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ وقال أيضا خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ ومعلوم أن الملائكة لم يخلقوا من نار. فإبليس أصل الجن، وآدم أصل الإنس. والله أعلم.
(٢) هو الإمام موهوب بن أحمد الجواليقي، عارف باللغة والأدب، توفي سنة ٥٤٠ ببغداد.

[سورة البقرة (٢) : آية ٣٥]

وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥)
قوله تعالى: وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ، زوجه: حواء، قال الفراء: أهل الحجاز يقولون لامرأة الرجل: زوج، ويجمعونها: الأزواج، وتميم وكثير من قيس وأهل نجد يقولون: زوجة، ويجمعونها: زوجات. قال الشاعر:
فان الذي يسعى يحرّش زوجتي كماشٍ إِلى أسد الشرى يستبيلها «١»
وأنشدني أبو الجراح:
يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم أن ليس وصل اذا انحلت عرى الذنب
وفي الجنة التي أسكنها آدم قولان: أحدهما: جنة عدن. والثاني: جنة الخلد.
والرغد: الرزق الواسع الكثير، يقال: أرغد فلان: إذا صار في خصب وسعة.
قوله تعالى: وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ أي: بالأكل لا بالدُّنو منها. وفي الشجرة ستة أقوال:
أحدها: أنها السنبلة، وهو قول ابن عباس، وعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ووهب بن منبه، وقتادة، وعطية العوفي، ومحارب بن دثار، ومقاتل. والثاني: أنها الكرم، روي عن ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وجعدة بن هبيرة. والثالث: أنها التين، روي عن الحسن، وعطاء بن أبي رباح، وابن جريج. والرابع: أنها شجرة يقال لها: شجرة العلم، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والخامس:
أنها شجرة الكافور، نقل عن علي بن أبي طالب. والسادس: أنها النخلة، روي عن أبي مالك. وقد ذكروا وجهاً سابعاً عن وهب بن منبه أنّه قال: هي شجرة يقال لها شجرة الخلد، وهذا لا يعدّ وجها لأن الله تعالى سمّاها شجرة الخلد وإنما الكلام في جنسها.
قوله تعالى: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ. قال ابن الأنباري: الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، ويقال: ظلم الرجل سقاءه اذا سقاه قبل أن يخرج زبده. قال الشاعر:
وصاحب صدق لم تربني شكاته ظلمت وفي ظلمي له عامداً أجرُ
أراد بالصاحب: وطب اللبن، وظلمه إِياه: أن يسقيه قبل أن يخرج زبده.
والعرب تقول: هو أظلم من حية، لأنها تأتي الحفر الذي لم تحفره فتسكنه، ويقال: قد ظلم الماء الوادي: إذا وصل منه إِلى مكان لم يكن يصل إليه فيما مضى.
فان قيل: ما وجه الحكمة في تخصيص تلك الشجرة بالنهي؟ فالجواب: أنه ابتلاء من الله تعالى بما أراد. وقال أبو العالية «٢» : كان لها ثفل «٣» من بين أشجار الجنة، فلما أكل منها، قيل: أخرج إلى
(١) في «اللسان» يستبيلها: يأخذ بولها في يده. والبيت للفرزدق.
(٢) أبو العالية: هو رفيع بن مهران الرياحي بكسر الراء والتحتانية، قال ابن حجر في «التقريب» : ثقة كثير الإرسال، من الطبقة الثانية، توفي سنة ٩٠ هـ وقيل ٩٣ وقيل بعد ذلك. روى له الجماعة.
(٣) في «اللسان» : ثفل كل شيء: ما استقر تحته من كدرة.
الدار التي تصلح لما يكون منك.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٦]
فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦)
قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها. أزلهما بمعنى: استزلهما، وقرأ حمزة «١» :«فأزالهما»، أراد: نحاهما. قال أبو علي الفارسي: لما كان معنى اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ: اثبتا فيها، فثبتا فأزالهما، وقابل حمزة الثبات بالزوال الذي يخالفه، ويقوي قراءته: فَأَخْرَجَهُما. والشيطان: إبليس، وأضيف الفعل اليه، لأنه السبب.
وفي هاء عَنْها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تعود إلى الجنة. والثاني: ترجع إلى الطاعة.
والثالث: ترجع إلى الشجرة. فمعناه: أزلّهما بزلة صدرت عن الشجرة.
وفي كيفية إزلاله لهما، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه احتال حتى دخل اليهما الجنة، وكان الذي أدخله الحية «٢»، قاله ابن عباس والسدي. والثاني: أنه وقف على باب الجنة، وناداهما، قاله الحسن.
والثالث: أنه وسوس اليهما، وأوقع في نفوسهما من غير مخاطبة ولا مشاهدة، قاله ابن إسحاق «٣»، وفيه بعد. قال الزجاج: الأجود: أن يكون خاطبهما، لقوله: وَقاسَمَهُما «٤».
واختلف العلماء في معصية آدم بالأكل، فقال قوم: إنه نهي عن شجرة بعينها، فأكل من جنسها، وقال آخرون: تأول الكراهة في النهي دون التحريم.
قوله تعالى: وَقُلْنَا اهْبِطُوا، الهبوط بضم الهاء: الانحدار من علوّ، وبفتح الهاء: المكان الذي يهبط فيه. وإلى من انصرف هذا الخطاب؟ فيه ستة أقوال: أحدها: أنه انصرف إلى آدم وحواء والحية، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: إلى آدم وحواء وإبليس والحية، حكاه السدي عن ابن عباس.
والثالث: إلى آدم وإبليس، قاله مجاهد «٥». الرابع: إلى آدم وحواء وإبليس، قاله مقاتل. والخامس: إلى آدم وحواء وذريتهما، قاله الفراء. والسادس: إلى آدم وحواء فحسب، ويكون لفظ الجمع واقعاً على التثنية، كقوله: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «٦» ذكره ابن الأنباري، وهو العلة في قول مجاهد أيضاً.
واختلف العلماء: هل أهبطوا جملة أو متفرّقين؟ على قولين:
(١) هو الإمام الحبر حمزة بن حبيب الزيّات القارئ، أبو عمارة، الكوفي، التيمي مولاهم، صدوق زاهد ربما وهم، من الطبقة السابعة، توفي سنة ١٥٦ أو ١٥٨ هـ. روى له مسلم والأربعة. «التقريب» لابن حجر.
(٢) هذه الأقوال مصدرها الإسرائيليات، لا حجة في شيء من ذلك. [.....]
(٣) ابن إسحاق: هو محمد بن إسحاق بن يسار، أبو بكر المطّلبي مولاهم، المدني نزيل العراق، إمام المغازي، صدوق يدلّس ورمي بالتشيع والقدر، من صغار الخمسة، روى له البخاري تعليقا ومسلم متابعة والأربعة.
توفي سنة ١٥٠، ويقال بعدها.
(٤) الأعراف: ٢١.
(٥) مجاهد: هو مجاهد بن جبر، بفتح الجيم وسكون الموحدة، أبو الحجاج المخزومي مولاهم، المكي، ثقة إمام في التفسير وفي العلم، من الثالثة، توفي سنة ١٠٤، روى عنه الجماعة.
(٦) الأنبياء: ٧٨.
أحدهما: أنهم أهبطوا جملة، لكنهم نزلوا في بلاد متفرقة، قاله كعب «١»، ووهب.
والثاني: أنهم أهبطوا متفرقين، فهبط إبليس قبل آدم، وهبط آدم بالهند، وحواء بجُدَّة، وإِبليس بالأبلَّة «٢»، قاله مقاتل. وروي عن ابن عباس أنه قال: أهبطت الحية بنصيبين، قال: وأمر الله تعالى جبريل بإخراج آدم، فقبض على ناصيته وخلصه من الشجرة التي قبضت عليه، فقال: أيها الملك ارفق بي. قال جبريل: إني لا أرفق بمن عصى الله، فارتعد آدم واضطرب، وذهب كلامه، وجبريل يعاتبه في معصيته، ويعدّد نعم الله عليه، قال: وأُدخل الجنة ضحوة، وأُخرج منها بين الصلاتين، فمكث فيها نصف يوم، خمسمائة عام مما يعد أهل الدنيا.
وفي العداوة المذكورة هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذرية بعضهم أعداء لبعض، قاله مجاهد.
والثاني: أن إبليس عدو لآدم وحواء، وهما له عدو، قاله مقاتل. والثالث: أن إبليس عدو للمؤمنين، وهم أعداؤه، قاله الزجاج.
وفي المستقر قولان: أحدهما: أن المراد به القبور، حكاه السدي عن ابن عباس. والثاني:
موضع الاستقرار، قاله أبو العالية، وابن زيد، والزجاج، وابن قتيبة، وهو أصح. والمتاع: المنفعة.
والحين: الزمان. قال ابن عباس: إِلى حِينٍ، أي: إلى فناء الأجل بالموت.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٧]
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧)
قوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ. تلقّى: بمعنى أخذ، وقبل. قاله ابن قتيبة: كأن الله تعالى أوحى إليه أن يستغفره ويستقبله بكلام من عنده، ففعل ذلك آدم فتاب عليه. وقرأ ابن كثير:
(فتلقى آدمَ) بالنصب، (كلماتٌ) بالرفع على أن الكلمات هي الفاعلة.
وفي الكلمات أقوال: أحدها: أنها قوله تعالى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «٣»، قاله ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء الخراساني، وعبيد بن عمير، وأبيّ بن كعب، وابن زيد «٤». والثاني: أنه قال: أي رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى. قال:
ألم تنفخ فيّ من روحك؟ قال: بلى، قال: ألم تسبق رحمتك إِليّ قبل غضبك؟ قال: بلى. قال: ألم تسجد لي ملائكتك وتسكني جنتك؟ قال: بلى. قال: أي ربّ، إِن تبت وأصلحت، أراجعي أنت إِلى الجنة؟ قال: نعم. حكاه السدي عن ابن عباس. والثالث: أنه قال: اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي، إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فارحمني، فأنت خير الراحمين، اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك،
(١) كعب: هو كعب بن ماتع بن ذي هجن الحميري أبو إسحاق المعروف بكعب الأحبار، كان من أهل اليمن فسكن الشام، توفي في آخر خلافة عثمان، وقد زاد على المائة.
وليس له في البخاري رواية إلّا حكاية معاوية فيه.
(٢) في «معجم البلدان» الأبلة: بلدة على شاطئ دجلة البصرة.
(٣) الأعراف: ٢٣.
(٤) هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وانظر تراجم هؤلاء في المقدمة.
وبحمدك، رب إني ظلمت نفسي فتب عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم، رواه ابن [أبي نجيح] «١» عن مجاهد، وقد ذكرت أقوال من كلمات الاعتذار تقارب هذا المعنى.
قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْهِ. أصل التوبة: الرجوع، فالتوبة من آدم: رجوعه عن المعصية، وهي من الله تعالى: رجوعه عليه بالرحمة، والثواب الذي كلما تكررت توبة العبد تكرر قبوله، وإنما لم تذكر حواء في التوبة، لأنه لم يجر لها ذكر، لا أن توبتها لم تقبل. وقال قوم: إذا كان معنى فعل الاثنين واحداً جاز أن يذكر أحدهما ويكون المعنى لهما كقوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «٢»، وقوله: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى «٣».
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٨]
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨)
قوله تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً. في إعادة ذكر الهبوط- وقد تقدم- قولان:
أحدهما: أنه أعيد لأن آدم أهبط إِهباطين، أحدهما من الجنة إلى السماء، والثاني من السماء إلى الأرض. وأيهما الاهباط المذكور في هذه الآية؟ فيه قولان.
والثاني: أنه إِنما كرر الهبوط توكيداً.
قوله تعالى: فَأَمَّا، قال الزجاج: هذه «إِن» التي للجزاء، ضمت إليها «ما»، والأصل في اللفظ «إِن ما» مفصولة، ولكنها مدغمة، وكتبت على الإدغام، فاذا ضمت «ما» إلى «إِن» لزم الفعل النون الثقيلة أو الخفيفة. وإنما تلزمه النون لأن «ما» تدخل مؤكدة، ودخلت النون مؤكدة أيضاً، كما لزمت اللام النون في القسم في قولك: والله لتفعلن، وجواب الجزاء الفاء.
وفي المراد ب «الهدى» ها هنا قولان: أحدهما: أنه الرسول، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني:
الكتاب، حكاه بعض المفسرين.
قوله تعالى: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ. وقرأ يعقوب «فلا خوفَ» بفتح الفاء من غير تنوين، وقرأ ابن محيصن بضم الفاء من غير تنوين. والمعنى: فلا خوف عليهم فيما يستقبلون من العذاب، ولا هم يحزنون عند الموت. والخوف لأمر مستقبل، والحزن لأمر ماض.
[سورة البقرة (٢) : آية ٣٩]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا، في «الآية» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها العلامة، فمعنى آية: علامة لانقطاع الكلام الذي قبلها والذي بعدها، قال الشاعر:
ألا أبلغ لديك بني تميم بآية ما يحبون الطعاما
وقال النابغة:
توهمت آيات لها فعرفتها لستة أعوام وذا العام سابع
(١) في النسخ «ابن كثير» والمثبت عن الطبري ٧٨٨ فابن أبي نجيح هو راويه عن مجاهد، بل لمجاهد تفسير مطبوع متداول هو من رواية ابن أبي نجيح.
(٢) التوبة: ٦٣.
(٣) طه: ١١٧.
وهذا اختيار أبي عبيد. والثاني: أنها سميت آية، لأنها جماعة حروف من القرآن، وطائفة منه.
قال أبو عمرو الشيباني: يقال: خرج القوم بآيتهم، أي: بجماعتهم. وأنشدوا:
خرجنا من النّقبين لا حيّ مثلنا... بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا «١»
والثالث: أنها سميت آية، لأنها عجب، وذلك أن قارئها يستدل إذا قرأها على مباينتها كلام المخلوقين، وهذا كما تقول: فلان آية من الآيات أي: عجب من العجائب. ذكره ابن الأنباري.
وفي المراد بهذه الآيات أربعة أقوال: أحدها: آيات الكتاب التي تتلى. والثاني: معجزات الأنبياء.
والثالث: القرآن. والرابع: دلائل الله في مصنوعاته.
وأصحاب النار: سكّانها، سمّوا أصحابا، لصحبتهم إياها بالملازمة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٠]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠)
قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ. اسرائيل: هو يعقوب، وهو اسم أعجمي. قال ابن عباس:
ومعناه: عبد الله. وقد لفظت به العرب على أوجه، فقالت: إسرائل، وإسرال، وإسرائيل. وإسرائين.
قال أمية «٢» :
إنني زارد الحديد على النا... س دروعاً سوابغ الأذيال
لا أرى من يعينني في حياتي... غير نفسي إِلا بني إسرال
وقال أعرابي صاد ضبّاً، فأتى به أهله:
يقول أهل السوق لما جينا:... هذا ورب البيت إسرائينا
أراد: هذا مما مسخ من بني إسرائيل.
والنعمة: المنة، ومثلها: النعماء. والنعمة: بفتح النون: التنعم، وأراد بالنعمة: النعم، فوحدها، لأنهم يكتفون بالواحد من الجميع كقوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ «٣»، أي: ظهراء. وفي المراد بهذه النعمة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ما استودعهم من التوراة التي فيها صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس. والثاني: أنها ما أنعم به على آبائهم وأجدادهم إِذ أنجاهم من آل فرعون، وأهلك عدوهم، وأعطاهم التوراة، ونحو ذلك، قاله الحسن والزجاج، وإنما منّ عليهم بما أَعطى آباءهم، لأن فخر الآباء فخر للأبناء، وعار الآبار عار على الأبناء. والثالث: أنها جمع نعمة على تصريف الأحوال.
والمراد من ذكرها: شكرها، إذ من لم يشكر فما ذكر.
قوله تعالى: وَأَوْفُوا. قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: أوفيت، وأهل نجد يقولون: وفيت، بغير ألف. قال الزجاج: يقال: وفى بالعهد، وأوفى به، وأنشد:
(١) في «اللسان» : تزجي السّحاب: تسوقه سوقا رفيقا. اللّقاح: مصدر قولك لقحت الناقة إذا حملت. نوق مطافل: معها أولادها، وفي الحديث سارت قريش بالعوذ المطافيل، أي الإبل مع أولادها.
(٢) هو ابن أبي الصلت.
(٣) التحريم: ٤. [.....]
أما ابن طوق فقد أوفى بذمته كما وفى بقلاص النجم حاديها «١»
وقال ابن قتيبة: يقال: وفيت بالعهد، وأوفيت به، وأوفيت الكيل، لا غير.
وفي المراد بعهده: أربعة أقوال: أحدها: أنه ما عهده إليهم في التوراة من صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنه امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: أنه الإسلام، قاله أبو العالية. والرابع: أنه العهد المذكور في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً «٢»، قاله قتادة.
قوله تعالى: أُوفِ بِعَهْدِكُمْ قال ابن عباس: أدخلكم الجنة.
قوله تعالى: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ، أي: خافون.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤١]
وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١)
قوله تعالى: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ، يعني القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ يعني التوراة او الإنجيل، فإن القرآن يصدقهما أنهما من عند الله، ويوافقهما في صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ. إنما قال: أوّل كافر، لأن التقدّم الى الكفر أعظمَ من الكفر بعد ذلك، إذ المبادر لم يتأمل الحجة، وإنما بادر بالعناد، فحاله أشد. وقيل: ولا تكونوا أول كافر به بعد أن آمن، والخطاب لرؤساء اليهود. وفي هاء «به» قولان: أحدهما: أنها تعود إلى المنزّل، قاله ابن مسعود وابن عباس. والثاني: أنها تعود على ما معهم، لأنهم إذا كتموا وصف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو معهم، فقد كفروا به، ذكره الزجاج. قوله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ. أي: لا تستبدلوا ثمناً قليلاً. وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ما كانوا يأخذون من عرض الدنيا. والثاني: بقاء رئاستهم عليهم. والثالث: أخذ الأجرة على تعليم الدين.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٢]
وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢)
قوله تعالى: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ. تلبسوا: بمعنى تخلطوا. يقال: لبست الأمر عليهم، ألبسه: إذا عميته عليهم، وتخليطهم: أنهم قالوا: إن الله عهد إلينا أن نؤمن بالنبي الأمي، ولم يذكر أنه من العرب. وفي المراد بالحق قولان: أحدهما: أنه أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس، ومجاهد وقتادة، وأبو العالية، والسدي ومقاتل. والثاني: أنه الإسلام، قاله الحسن.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٣]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
قوله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ. يريد: الصلوات الخمس، وهي هاهنا اسم جنس، والزكاة: مأخوذة من الزكاء، وهو النماء والزيادة. يقال: زكا الزرع يزكو زكاء. وقال ابن الأنباري:
(١) في «اللسان» قلاص النجم: هي العشرون نجما التي ساقها الدبران في خطبة الثريا كما تزعم العرب. انظر مادة- قلص-. والبيت لطفيل الغنوي.
(٢) المائدة: ١٣.
معنى الزكاة في كلام العرب: الزيادة والنماء، فسميت زكاة، لأنها تزيد في المال الذي تخرج منه، وتوفره، وتقيه من الآفات، ويقال: هذا أزكى من ذاك، أي: أزيد فضلاً منه. قوله تعالى: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ. أي: صلوا مع المصلين. قال ابن عباس: يريد محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، وأصحابه رضي الله عنهم.
وقيل: إِنما ذكر الركوع، لأنه ليس في صلاتهم ركوع، والخطاب لليهود. وفي هذه الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بالفروع، وهي إحدى الروايتين عن أحمد رضي الله عنه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٤]
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤)
قوله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ. قال ابن عباس: نزلت في اليهود، كان الرجل يقول لقرابته من المسلمين في السر: اثبت على ما أنت عليه فإنه حق «١». والألف في «أتأمرون» ألف الاستفهام، ومعناه التوبيخ. وفي «البر» هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه التمسك بكتابهم، كانوا يأمرون باتباعه ولا يقومون به. والثاني: اتّباع محمّد صلّى الله عليه وسلّم، روي القولان عن ابن عباس. والثالث: الصدقة، كانوا يأمرون بها، ويبخلون. ذكره الزجاج. قوله تعالى: وَتَنْسَوْنَ، أي: تتركون. وفي «الكتاب» قولان:
أحدهما: أنه التوراة، قاله الجمهور. والثاني: أنه القرآن، فلا يكون الخطاب على هذا القول لليهود.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٥]
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥)
قوله تعالى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ. الأصل في الصبر: الحبس، فالصابر حابس لنفسه عن الجزع. وسمي الصائم صابراً لحبسه نفسه عن الأكل والشرب والجماع، والمصبورة: البهيمة تتخذ غرضاً. وقال مجاهد: الصبر هاهنا: الصوم.
وفيما أمروا بالصبر عليه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أداء الفرائض، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني:
أنه ترك المعاصي، قاله قتادة. والثالث: عدم الرئاسة، وهو خطاب لأهل الكتابين، ووجه الاستعانة بالصلاة أنه يتلى فيها ما يرغب في الآخرة، ويزهد في الدنيا.
قوله تعالى: وَإِنَّها، في المكنى عنها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الصلاة، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد والجمهور. والثاني: أنها الكعبة والقبلة، لأنها لما ذكر الصلاة، دلت على القبلة، ذكره الضحاك عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. والثالث: أنها الاستعانة، لأنها لما قال: وَاسْتَعِينُوا دل على الاستعانة، ذكره محمد بن القاسم النحوي. قوله تعالى: لَكَبِيرَةٌ، قال الحسن والضحاك:
الكبيرة: الثقيلة، مثل قوله تعالى: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ «٢»، أي: ثقل. والخشوع في اللغة: التطامن والتواضع، وقيل: السّكون.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٦]
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦)
قوله تعالى: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ. الظن هاهنا: بمعنى اليقين «٣»، وله وجوه قد ذكرناها
(١) أخرجه الواحدي عن ابن عباس ٣١، وإسناده ساقط، فيه الكلبي متروك متهم بالكذب.
(٢) الشورى: ١٣.
(٣) قال القرطبي ١/ ٤١٨: الظنّ هنا في قول الجمهور بمعنى اليقين، ومنه قوله تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ وقوله فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها. وقد قيل إن الظنّ في الآية أن يكون على بابه ويضمر في الكلام بذنوبهم فكأنهم يتوقّعون لقاءه مذنبين ذكر المهدوي والماوردي. قال ابن عطية: وهذا تعسّف. وقاعدته الشك مع ميل إلى أحد معتقديه، وقد يوقع موقع اليقين، كما في هذه الآية وغيرها ولكنه لا يوقع فيما قد خرج إلى الحسّ، لا تقول العرب في رجل مرئيّ حاضر: أظن هذا إنسانا. وإنما تجد الاستعمال فيما لم يخرج إلى الحسّ بعد، كهذه الآية. وقد يجيء اليقين بمعنى الظن.
في كتاب «الوجوه والنظائر».
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٧]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧)
قوله تعالى: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ، يعني: على عالمي زمانهم، قاله ابن عباس، وأبو العالية ومجاهد وابن زيد. قال ابن قتيبة: وهو من العام الذي أريد به الخاص.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٨]
وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨)
قال الزجاج: كانت اليهود تزعم أَن آباءها الأنبياء تشفع لهم يوم القيامة، فآيسهم الله بهذه الآية من ذلك. وفي قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً إضمار، تقديره: اتقوا عذاب يوم، أو: ما في يوم. والمراد باليوم: يوم القيامة. و «تجزي» بمعنى تقضي. قال ابن قتيبة: يقال: جزى الأمر عني يجزي، بغير همز، أي: قضى عني، وأجزأني يجزئني، مهموز، أي: كفاني.
قوله تعالى: نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ، قالوا: المراد بالنفس هاهنا: النفس الكافرة، فعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخاصّ.
قوله تعالى: وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ. قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتاء، وقرأ الباقون بالياء، إلا أن قتادة فتح الياء، ونصب الشفاعة، ليكون الفعل لله تعالى، قال: أبو علي: من قرأ بالتاء، فلأنَّ الاسم الذي أسند إليه هذا الفعل مؤنث، فيلزم أن يلحق المسند أيضاً علامة التأنيث، ومن قرأ بالياء فلأنَّ التأنيث في الاسم الذي أسند إليه الفعل ليس بحقيقي، فحمل على المعنى، كما أن الوعظ والموعظة بمعنى واحد، وفي الآية إضمار، تقديره: لا يقبل منها فيه شفاعة. والشفاعة مأخوذة من الشفع الذي يخالف الوتر، وذلك أن سؤال الشفيع يشفع سؤال المشفوع له.
فأما «العدل» فهو الفداء، وسمي عدلاً، لأنه يعادل المفدى. واختلف اللغويون: هل «العدل» و «العدل» فتح العين وكسرها يختلفان، أم لا؟ فقال الفراء: العدل بفتح العين: ما عادل الشيء من غير جنسه، والعدل بكسرها: ما عادل الشيء من جنسه، فهو المثل، تقول: عندي عدل غلامك، بفتح العين: إذا أردت قيمته من غير جنسه، وعندي عدل غلامك، بكسر العين: إذا كان غلام يعدل غلاماً.
وحكى الزجاج عن البُصريين أن العَدل والعِدل في معنى المثل، وأن المعنى واحد، سواء كان المثل من الجنس أو من غير الجنس.
قوله تعالى: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ، أي: يمنعون من عذاب الله.
[سورة البقرة (٢) : آية ٤٩]
وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩)
قوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ تقديره: واذكروا إذ نجيناكم، وهذه النعم على آبائهم كانت. وفي آلِ فِرْعَوْنَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أهل مصر، قاله مقاتل. والثاني: أهل بيته خاصة، قاله أبو عبيدة. والثالث: أتباعه على دينه، قاله الزجاج. وهل الآل والأهل بمعنى، أو يختلفان؟ فيه قولان.
وقد شرحت معنى الآل في كتاب «النظائر». وفرعون: اسم أعجمي، وقيل: هو لقبه. وفي اسمه أربعة أقوال: أحدها: الوليد بن مصعب، قاله الأكثرون. والثاني: فيطوس، قاله مقاتل. والثالث: مصعب بن الريان، حكاه ابن جرير الطبري. والرابع: مغيث، ذكره بعض المفسرين. قوله تعالى: يَسُومُونَكُمْ، أي: يولونكم، يقال: فلان يسومك خسفاً، أي: يوليك ذلاً واستخفافاً. وسُوءَ الْعَذابِ: شديده.
وكان الزجاج يرى أن قوله: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ تفسير لقوله: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ، وأبى هذا بعض أهل العلم، فقال: قد فرق الله بينهما في موضع آخر، فقال: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ «١»، وإنما سوء العذاب: استخدامهم في أصعب الأعمال، وقال الفرّاء: الموضع الذي فيه الواو، يبين أنه قد مسهم من العذاب غير الذبح، فكأنه قال: يعذبونكم بغير الذبح وبالذبح.
قوله تعالى: وَيَسْتَحْيُونَ، أي: يستبقون نِساءَكُمْ، أي: بناتكم. وإنما استبقوا نساءكم للاستذلال والخدمة. وفي البلاء هاهنا قولان: أحدهما: أنه بمعنى النعمة، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو مالك، وابن قتيبة والزجاج. والثاني: أنه النقمة، رواه السدي عن أشياخه. فعلى هذا القول يكون «ذا» في قوله تعالى: ذلِكُمْ: عائداً على سومهم سوء العذاب، وذبح أبنائهم واستحياء نسائهم، وعلى القول الأول يعود على النجاة من آل فرعون. قال أبو العالية: وكان السبب في ذبح الأبناء، أن الكهنة قالت لفرعون: سيولد العام بمصر غلام يكون هلاكك على يديه، فقتل الأبناء. قال الزجاج: فالعجب من حمق فرعون، إن كان الكاهن عنده صادقا، فما ينفع القتل؟! وإن كان كاذبا فما معنى القتل؟!
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٠]
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠)
قوله تعالى: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ، الفرق: الفصل بين الشيئين، و «بكم» بمعنى «لكم». وإِنما ذكر آل فرعون دونه، لأنه قد علم كونه فيهم. وفي قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ، قولان: أحدهما:
أنه من نظر العين، ومعناه: وأنتم ترونهم يغرقون. والثاني: أَنه بمعنى: العلم كقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ «٢»، قاله الفراء.
(الاشارة إِلى قصتهم) روى السدي عن أشياخه: أن الله تعالى أمر موسى أن يخرج ببني إسرائيل، وألقى على القبط الموت، فمات بكر كل رجل منهم، فأصبحوا يدفنونه، فشغلوا عن طلبهم حتى طلعت الشمس، قال عمرو بن ميمون: فلما خرج موسى بلغ ذلك فرعون، فقال: لا تتبعوهم حتى يصيح الديك، فما صاح ديك ليلتئذ. قال أبو السليل: لما انتهى موسى إِلى البحر قال: هيه أبا خالد «٣»، فأخذه أفكل، يعني:
(١) إبراهيم: ٦.
(٢) الفرقان: ٤٥.
(٣) قوله «أبا خالد» كنية كنّى موسى بها البحر، انظر الطبري ٩٠٥.
رعدة، قال مقاتل: تفرق الماء يميناً وشمالاً كالجبلين المتقابلين، وفيهما كوىً ينظر كل سبط إلى الآخر. قال السدي: فلما رآه فرعون متفرقاً قال: ألا ترون البحر فرق مني، فانفتح لي؟! فأتت خيل فرعون فأبت أن تقتحم، فنزل جبريل على ماذيانة فتشامت الحصن «١» ريح الماذيانة، فاقتحمت في إثرها، حتى إِذا همَّ أولهم أن يخرج، ودخل آخرهم، أمر البحر أن يأخذهم، فالتطم عليهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥١]
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١)
قوله تعالى: وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ. قرأ أبو جعفر وأبو عرو: «وعدنا» بغير ألف هاهنا، وفي (الأعراف) و (طه)، ووافقهما أبان عن عاصم في (البقرة) خاصة. وقرأ الباقون «واعدنا» بألف. ووجه القراءة الأولى: إفراد الوعد من الله تعالى، ووجه الثانية: أنه لما قبل موسى وعد الله عزّ وجلّ، صار ذلك مواعدة بين الله تعالى وبين موسى. ومثله: لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا «٢». ومعنى الآية: وعدنا موسى تتمة أربعين يوما أو انقضاء أربعين ليلة. وموسى: اسم أعجمي، أصله بالعبرانية: موشا، فمو: هو الماء، وشا: هو الشجر، لأنه وجد عند الماء والشجر، فعرب بالسين. ولماذا كان هذا الوعد؟ فيه قولان: أحدهما: لأخذ التوراة. والثاني: للتكليم. وفي هذه المدة قولان: أحدهما: أنها ذو القعدة وعشر من ذي الحجة! وهذا قول من قال: كان الوعد لإعطاء التوراة. والثاني: أنها ذو الحجة وعشر من المحرم، وهو قول من قال: كان الوعد للتكليم. وإنما ذكرت الليالي دون الأيام، لأن عادة العرب التأريخ بالليالي، لأن أول الشهر ليله، واعتماد العرب على الأهلة، فصارت الأيام تبعا لليالي. وقال أبو بكر النقاش «٣» : إنما ذكر الليالي، لأنه أمره أن يصوم هذه الأيام ويواصلها بالليالي، فلذلك ذكر الليالي، وليس بشيء.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٢]
ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢)
قوله تعالى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ، من بعده، أي: من بعد انطلاقه إلى الجبل.
(الإشارة إِلى اتخاذهم العجل) روى السدي عن أشياخه أنه لما انطلق موسى، واستخلف هارون، قال هارون: يا بني إسرائيل! إِن الغنيمة لا تحل لكم، وإِن حليّ القبط غنيمة فاجمعوه واحفروا له حفيرة «٤»، فادفنوه، فان أحلّه
(١) الماذيانة: الفرس. والحصن: جمع حصان.
(٢) البقرة: ٢٣٥.
(٣) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن محمد بن زياد الموصلي، ثم البغدادي، أبو بكر النقاش المقرئ المفسّر.
روى عن أبي مسلم الكجي، وطبقته، وقرأ بالروايات، ورحل إلى عدة مدائن، وتعب واحتيج إليه، وصار شيخ المقرئين في عصره على ضعف فيه. قال طلحة بن محمد الشاهد: كان النقاش يكذب في الحديث، والغالب عليه القصص. وقال البرقاني: كل حديث النقاش منكر. قال أبو القاسم اللالكائي: تفسير النقاش إشقاء الصدور، وليس بشفاء. الصدور توفي النقاش ٣٥١. وانظر «الميزان» للذهبي ٧٤٠٤.
(٤) في «اللسان» الحفيرة والحفر والحفير: البئر الموسعة فوق قدرها.
موسى فخذوه، وإلا كان شيئاً لم تأكلوه، ففعلوا. قال السدي: وكان جبريل قد أتى إلى موسى ليذهب به إلى ربه، فرآه السامريّ، فأنكره وقال: إن لهذا شأناً، فأخذ قبضة من أثر حافر الفرس، فقذفها في الحفيرة، فظهر العجل. وقيل: إِن السامريّ أمرهم بالقاء ذلك الحليّ، وقال: إنما طالت غيبة موسى عنكم لأجل ما معكم من الحلي، فاحفروا لها حفيرة وقربوه إلى الله، يبعث لكم نبيكم، فإنه كان عارية، ذكره أبو سليمان الدمشقي. وفي سبب اتخاذ السامري عجلاً قولان: أحدهما: أن السامري كان من قوم يعبدون البقر، فكان ذلك في قلبه، قاله ابن عباس. والثاني: أن بني إسرائيل لما مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم، أعجبهم ذلك، فلما سألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً وأنكر عليهم، أخرج السامريّ لهم في غيبته عجلاً لما رأى من استحسانهم ذلك، قاله ابن زيد. وفي كيفية اتخاذ العجل قولان: أحدهما: أن السامري كان صوّاغاً فصاغه وألقى فيه القبضة، قاله علي وابن عباس. والثاني:
أنهم حفروا حفيرة، وألقوا فيها حلي قوم فرعون وعواريهم تنزهاً عنها، فألقى السامريّ القبضة من التراب فصار عجلاً. روي عن ابن عباس أيضاً. قال ابن عباس: صار لحماً ودماً وجسداً، فقال لهم السامري: هذا إلهكم وإله موسى قد جاء، وأخطأ موسى الطريق، فعبدوه وزفنوا حوله «١».
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٣]
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣)
قوله تعالى: وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ، الكتاب: التوراة. وفي الفرقان خمسة أقوال:
أحدها: أنه النصر، قاله ابن عباس وابن زيد. والثاني: أنه ما في التوراة من الفرق بين الحق والباطل، فيكون الفرقان نعتاً للتوراة، قاله أبو العالية. والثالث: أنه الكتاب، فكرره بغير اللفظ. قال عدي بن زيد:
فألفى قولها كذباً ومينا «٢» وقال عنترة:
أقوى وأقفر بعد أم الهيثم «٣» هذا قول مجاهد، واختيار الفرّاء والزّجّاج. والرابع: أنه فرق البحر لهم، ذكره الفراء والزجاج وابن القاسم. والخامس: أنه القرآن. ومعنى الكلام: لقد آتينا موسى الكتاب، ومحمداً الفرقان، ذكره الفرّاء، وهو قول قطرب.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٤]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ. القوم: اسم للرجال والنساء،
(١) الزّفن: الرّقص، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها: «قدم وفد الحبشة فجعلوا يزفنون ويلعبون» أي يرقصون.
(٢) هو عجز بيت وصدره: فقددت الأديم لراهشيه. والقدّ: القطع. والراهشان: عرقان في باطن الذراع. والمين:
الكذب. وانظر «اللسان» مادة- مين-. [.....]
(٣) هو عجز بيت وصدره: حيّيت من طلل تقادم عهده. انظر «تفسير القرطبي» ١/ ٤٤٠.
65
قال الله تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ «١»، وقال زهير:
وما أدري وسوف إِخال أدري أقوم آل حصن أم نساء؟!
وإنما سموا قوماً، لأنهم يقومون بالأمور.
قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ، قال أبو علي: كان ابن كثير ونافع «٢» وعاصم «٣» وابن عامر «٤» وحمزة والكسائي «٥» يكسرون الهمزة من غير اختلاس ولا تخفيف. وروى اليزيدي وعبد الوارث «٦» عن أبي عمرو «٧» :«بارئْكم» بجزم الهمزة. روى عنه العباس بن الفضل «٨» :«بارئكم» مهموزة غير مثقلة.
وقال سيبويه «٩» : كان أبو عمرو يختلس الحركة في: «بارئكم» و «يأمركم» وما أشبه ذلك مما تتوالى فيه الحركات، فيرى من يسمعه أنه قد أسكن ولم يسكن. والبارئ: الخالق. ومعنى فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ:
ليقتل بعضكم بعضاً. قاله ابن عباس ومجاهد.
واختلفوا فيمن خوطب بهذا على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه خطاب للكل، قاله السدي عن أشياخه. والثاني: أنه خطاب لمن لم يعبد ليقتل من عبد، قاله مقاتل. والثالث: أنه خطاب للعابدين فحسب، أمروا أن يقتل بعضهم بعضاً، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي الإشارة بقوله: «ذا» في:
«ذلكم» قولان: أحدها: أنه يعود إِلى القتل. والثاني: أنه يعود إلى التوراة.
(الإِشارة إِلى قصتهم في ذلك) قال ابن عباس: قالوا لموسى: كيف يقتل الآباء الأبناء، والإخوة الإخوة؟ فأنزل الله عليهم ظلمة
(١) الحجرات: ١١.
(٢) هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارئ، المدني، مولى بني ليث، أصله من أصبهان، وقد نسب لجده صدوق ثبت في القراءة، من كبار السابعة، توفي ١٦٩، وروى له ابن ماجة في «التفسير».
(٣) هو عاصم بن بهدلة، وهو ابن أبي النّجود الأسدي مولاهم، الكوفي، أبو بكر المقرئ، صدوق له أوهام حجة في القراءة وحديثه في الصحيحين مقرون، من السادسة، توفي ١٢٨. انظر «التقريب» ٣٠٥٤.
(٤) هو عبد الله بن عامر بن يزيد بن تميم اليحصبيّ، الدمشقي، المقرئ، أبو عمران، وقيل غير ذلك في كنيته، ثقة، من الثالثة، توفي سنة ١١٨ وله سبع وتسعون سنة على الصحيح، روى له مسلم والترمذي. انظر «التقريب» ٣٤٠٥.
(٥) هو إمام القرّاء، أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن بهمن بن فيروز الأسدي الكوفي، المعروف بالكسائي، النحويّ، مولى بني أسد، أحد الأئمة القرّاء. وقيل له لم سميت الكسائي قال: لأني أحرمت في كساء. توفي سنة ١٨٩ في «برنبوية» قرية من قرى الرّيّ. انظر «الأنساب» للسمعاني ٥/ ٦٦.
(٦) هو الإمام القارئ الحافظ، أبو عبيدة التنوري، عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان الغبري مولاهم، البصري، ثقة ثبت، رمي بالقدر ولم يثبت عنه، من الثامنة. توفي سنة ١٨٠ روى له الجماعة.
(٧) هو مقرئ البصرة، الإمام أبو عمرو بن العلاء بن عمّار التميمي المازني البصري أحد السبعة، قال أبو عبيدة:
كان أبو عمرو أعلم الناس بالقرآن والعربية والشعر وأيام العرب وكانت دفاتره ملء بيت إلى السقف ثم تنسك فأحرقها. وهو في النحو في الطبقة الرابعة. توفي في الكوفة سنة ١٥٤.
(٨) العباس بن الفضل، أحد القراء، توفي سنة ١٨٦.
(٩) هو عمرو بن عثمان، إمام النحو واللغة، توفي سنة ١٦١.
66
لا يرى بعضهم بعضاً، فقالوا: فما آية توبتنا؟ قال: أن يقوم السلام ولا يقتل، وترفع الظلمة. فقتلوا حتى خاضوا في الدماء، وصاح الصبيان: يا موسى: العفو العفو. فبكى موسى، فنزلت التوبة، وقام السّلام، وارتفعت الظلمة. قال مجاهد: بلغ القتلى سبعين ألفاً. قال قتادة: جعل القتل للقتيل شهادة، وللحيّ توبة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦)
قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً. في القائلين لموسى ذلك قولان:
أحدهما: أنهم السبعون المختارون، قاله ابن مسعود وابن عباس. والثاني: جميع بني إِسرائيل إلا من عصم الله منهم، قاله ابن زيد، قال: وذلك أنه أتاهم بكتاب الله، فقالوا: والله لا نأخذ بقولك حتى نرى الله جهرة فيقول: هذا كتابي.
وفي جَهْرَةً قولان: أحدهما: أنه صفة لقولهم، أي: جهروا بذلك القول، قاله ابن عباس، وأبو عبيدة. والثاني: أنها الرؤية البيّنة، أي: أرناه غير مستتر بشيء، يقال: فلان يتجاهر بالمعاصي، أي: لا يستتر من الناس، قاله الزجاج. ومعنى «الصاعقة» : ما يصعقون منه، أي: يموتون. ومن الدليل على أنهم ماتوا، قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ هذا قول الأكثرين. وزعم قوم أنهم لم يموتوا، واحتجوا بقوله تعالى: وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً «١» وهذا قول ضعيف، لأن الله تعالى فرق بين الموضعين، فقال هناك: فَلَمَّا أَفاقَ، وقال هاهنا: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ والإفاقة للمغشي عليه، والبعث للميت. قوله تعالى:
وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: ينظر بعضكم إلى بعض كيف يقع ميتاً. والثاني:
ينظر بعضكم إِلى إِحياء بعض. والثالث: تنظرون العذاب كيف ينزل بكم، وهو قول من قال: نزلت نار فأحرقتهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٧]
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧)
قوله تعالى: وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ. الغمام: السحاب، سمي غماماً، لأنه يغم السماء، أي:
يسترها، وكل شيء غطيته فقد غممته، وهذا كان في التيه.
وفي «المن» ثمانية أقوال: أحدها: أنه الذي يقع على الشجر فيأكله الناس، قاله ابن عباس والشعبي والضحاك. والثاني: أنه الترنجبين «٢»، روي عن ابن عباس أيضاً، وهو قول مقاتل. والثالث:
أنه صمغه، قاله مجاهد. والرابع: أنه يشبه الرب الغليظ «٣»، قاله عكرمة. والخامس: أنه شراب، قاله أبو العالية، والربيع بن أنس. والسادس: أنه خبز الرقاق مثل الذرة، أو مثل النَّقي، قاله وهب.
(١) الأعراف: ١٤٣.
(٢) الترنجبين: هو ندى شبيه بالعسل يقع من السماء.
(٣) الرّبّ: بالضمّ دبس الرّطب إذا طبخ. انظر «المصباح».
والسابع: أنه عسل، قاله ابن زيد. والثامن: أنه الزنجبيل، قاله السدي «١».
وفي «السلوى» قولان: أحدهما: أنه طائر، قال بعضهم: يشبه السماني، وقال بعضهم: هو السماني. والثاني: أنه العسل، ذكره ابن الانباري، وأنشد «٢» :
وقاسمها بالله جهداً لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها
قوله تعالى: وَما ظَلَمُونا، قال ابن عباس: ما نقصونا وضرّونا، بل ضرّوا أنفسهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٨]
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨)
قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ. في القائل لهم قولان: أحدهما: أنه موسى بعد مضيّ الأربعين سنة. والثاني: أنه يوشع بن نون بعد موت موسى.
والقرية: مأخوذة من الجمع، ومنه: قريت الماء في الحوض. والمقراة: الحوض يجمع فيه الماء. وفي المراد بهذه القرية قولان: أحدهما: أنها بيت المقدس، قاله ابن مسعود وابن عباس وقتادة والسّدّيّ والرّبيع، وروي عن ابن عباس أنها أريحا. قال السدي: وأريحا: هي أرض بيت المقدس.
والثاني: أنها قرية من أداني قرى الشام، قاله وهب «٣».
قوله تعالى: وَادْخُلُوا الْبابَ، قال ابن عباس: وهو أحد أبواب بيت المقدس، وهو يدعى:
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ١/ ٩٥: والظاهر والله أعلم أنه كل ما امتن الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كد. فالمنّ المشهور إن أكل وحده كان طعاما وحلاوة وإن مزج مع الماء صار شرابا طيبا، وإن ركّب مع غيره صار نوعا آخر، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده. والدليل على ذلك ما أخرجه البخاري عن سعيد بن زيد رضي الله عنه، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (الكمأة من المنّ وماؤها شفاء للعين). [.....]
(٢) البيت للهذليّ هو خالد بن زهير. قال القرطبي رحمه الله ١/ ٤٤٧: قال ابن عطية: السلوى طير بإجماع المفسرين. وقد غلط الهذليّ فقال:
وقاسمهما بالله جهداً لأنتم ألذ من السلوى إِذا ما نشورها
ظنّ أن السلوى العسل. قلت: ما ادّعاه من الإجماع لا يصح وقد قال المؤرّج (وهو مؤرج بن عمر الدّوسي من أصحاب الخليل بن أحمد) أحد علماء اللغة والتفسير: إنه العسل، واستدل ببيت الهذليّ، وذكر أنه كذلك بلغة كنانة، سمّي به لأنه يسلى به. وقال الجوهري: والسلوى العسل، وذكر بيت الهذليّ ولم يذكر غلطا.
والسّلوانة (بالضم) : خرزة كانوا يقولون إذا صبّ عليها ماء المطر فشربه العاشق سلا قال:
شربت على سلوانة ماء مزنة فلا وجديد العيش يا ميّ ما أسلو
واسم ذلك الماء السلوان. وقال بعضهم: السلوان دواء يسقاه الحزين فيسلو والأطباء يسمّونه المفرّح، يقال سليت وسلوت، لغتان. وهو في سلوة من العيش. أي في رغد، عن أبي زيد.
(٣) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ١/ ٩٨: يقول الله تعالى لائما لهم على نكولهم عن الجهاد ودخولهم الأرض المقدسة لما قدموا من بلاد مصر بصحبة موسى عليه السّلام، فأمروا بدخول الأرض المقدسة، التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل وقتال من فيها من العماليق الكفرة فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره الله تعالى في سورة المائدة، ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي بيت المقدس.
باب حطة، وقوله: سُجَّداً، أي: ركعاً. قال وهب: أمروا بالسجود شكرا لله عزّ وجلّ إذ ردهم إليها. قوله تعالى: وَقُولُوا حِطَّةٌ قرأ ابن السميفع وابن أبي عبلة (حطةً) بالنصب. وفي معنى «حطة» ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: استغفروا، قاله ابن عباس ووهب. قال ابن قتيبة: وهي كلمة أُمروا أن يقولوها في معنى الاستغفار، من: حططت، أي: حط عنا ذنوبنا. والثاني: أن معناها: قولوا: هذا الأمر حق كما قيل لكم، ذكره الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أن معناها: لا إله إلا الله، قاله عكرمة. قال ابن جرير الطبري: فيكون المعنى: قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم، وهو قول «لا إِله إِلا الله».
ولماذا أمروا بدخول القرية؟ فيه قولان: أحدهما: أن ذلك لذنوب ركبوها فقيل: (ادخلوا القرية) (وادخلوا الباب سجداً نغفر لكم خطاياكم)، قاله وهب. والثاني: أنهم ملوا المن والسلوى، فقيل:
اهْبِطُوا مِصْراً، فكان أول ما لقيهم أريحا، فأمروا بدخولها.
قوله تعالى: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي:
(نغفر لكم) بالنون مع كسر الفاء. وقرأ نافع وأبان عن عاصم «يغفر» بياء مضمومة وفتح الفاء. وقرأ ابن عامر بتاء مضمومة مع فتح الفاء.
[سورة البقرة (٢) : آية ٥٩]
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩)
قوله تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ. اعلم أن الله عزّ وجلّ، أمرهم في دخولهم بفعل وقول، فالفعل السجود، والقول: حطة، فغير القوم الفعل والقول. فأما تغيير الفعل ففيه خمسة أقوال:
(٢٣) أحدها: أنهم دخلوا متزحفين على أوْراكهم. رواه أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
والثاني: أنهم دخلوا من قبل أستاههم، قاله ابن عباس وعكرمة. والثالث: أنهم دخلوا مقنعي رؤوسهم، قاله ابن مسعود. والرابع: أنهم دخلوا على حروف عيونهم، قاله مجاهد. والخامس: أنهم دخلوا مستلقين، قاله مقاتل.
وأما تغيير القول ففيه خمسة أقوال:
(٢٤) أحدها: أنهم قالوا مكان «حطة» : حبة في شعرة، رواه أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
والثاني: أنهم قالوا: حنطة، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد، ووهب، وابن يزيد.
والثالث: أنهم قالوا: حنطة حمراء فيها شعرة، قاله ابن مسعود.
لم أره مرفوعا بهذا اللفظ، وإنما أخرجه البخاري ٣٤٠٣ و ٤٦٤١ و ٤٤٧٩ ومسلم ٣٠١٥ والترمذي ٢٩٥٦ وابن حبّان ٦٢٥١. من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجّدا وقولوا حطّة يغفر لكم خطاياكم فبدّلوا فدخلوا الباب على أستاهم وقالوا حبّة في شعرة». والرواية التي ذكرها المصنف هي من قول الحسن كما في تفسير الطبري ١٠٢٧.
انظر الحديث المتقدم.
والرابع: أنهم قالوا: حبة حنطة مثقوبة فيها شعيرة سوداء، قاله السدي عن أشياخه.
والخامس: أنهم قالوا: سنبلاثا، قاله أبو صالح.
فاما الرجز فهو العذاب، قاله الكسائي وأبو عبيدة والزّجّاج. وأنشدوا لرؤبة:
كم رأينا في ذي عديد مبزي حتى وقمنا كيده بالرجز «١»
وفي ماهية هذا العذاب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ظلمة وموت، فمات منهم في ساعة واحدة، أربعة وعشرون ألفاً، وهلك سبعون ألفا عقوبة، قاله ابن عباس. والثاني: أنه أصابهم الطاعون، عذبوا به أربعين ليلة ثم ماتوا، قاله وهب بن منبه. والثالث: أنه الثلج، هلك به منهم سبعون ألفا، قاله سعيد بن جبير.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٠]
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠)
قوله تعالى: وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ. استسقى بمعنى: استدعى ذلك، كقولك: استنصر.
وفي «الحجر» قولان: أحدهما: أنه حجر معروف عين لموسى، قاله ابن عباس، وابن جبير، وقتادة، وعطية، وابن زيد، ومقاتل، واختلفوا في صفته على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان حجراً مربعاً، قاله ابن عباس. والثاني: كان مثل رأس الثور، قاله عطية. والثالث: مثل رأس الشاة، قاله ابن زيد. وقال سعيد بن جبير: هو الذي ذهب بثياب موسى. فجاءه جبريل فقال: إن الله تعالى يقول لك: ارفع هذا الحجر، فلي فيه قدرة، ولك فيه معجزة، فكان اذا احتاج إلى الماء ضربه. والقول الثاني: أنه أمر بضرب أي حجر كان، والأول أثبت.
قوله تعالى: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ. تقدير معناه: فضرب فانفجرت، فلما عرف بقوله: «فانفجرت» أنه قد ضرب، اكتفى بذلك عن ذكر الضرب، ومثله: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ «٢»، قاله الفراء.
ولما كان القوم اثني عشر سبطا، أخرج الله لهم اثني عشرة عينا، ولأنه كان فيهم تشاحن فسلموا بذلك منه. قوله تعالى: وَلا تَعْثَوْا. العثو: أشد الفساد، يقال: عثي، وعثا، وعاث. قال ابن الرقاع:
لولا الحياء وأن رأسي قد عثا فيه المشيب لزرت أمّ القاسم
[سورة البقرة (٢) : آية ٦١]
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١)
قوله تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ، هذا قولهم في التّيه، وعنوا بالطعام
(١) في «اللسان» : وقمت الرجل عن حاجته: رددته أقبح الردّ.
(٢) الشعراء: ٦٣.
70
الواحد: المن والسلوى. قال محمد بن القاسم: كان المن يؤكل بالسلوى والسلوى بالمن، فلذلك كانا طعاماً واحداً. والبقل هاهنا: اسم جنس، وعنوا به: البقول، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: تذهب العامة إِلى أن البقل: ما يأكله الناس خاصة دون البهائم من النبات الناجم الذي لا يحتاج في أكله إلى طبخ، وليس كذلك إِنما البقل: العشب، وما ينبت الربيع مما يأكله الناس والبهائم، يقال: بقلت الأرض، وأبقلت، لغتان فصيحتان: إذا أنبت البقل. وابتقلت الإبل وتبقّلت: إذا رعت. قال أبو النجم يصف الإبل:
تبقلت في أول التبقل بين رماحي مالك ونهشل
وفي «القثاء» لغتان: كسر القاف، وضمها، والكسر أجود، وبه قرأ الجمهور. وقرأ ابن مسعود، وأبو رجاء «١»، وقتادة وطلحة بن مصرف، والأعمش بضم القاف. قال الفراء: الكسر لغة أهل الحجاز، والضم لغة تيم، وبعض بني أسد. وفي «الفوم» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحنطة، قاله ابن عباس، والسدي عن أشياخه، والحسن وأبو مالك. قال الفراء: هي لغة قديمة، يقول أهلها: فوَموا لنا، أي:
اختبزوا لنا. والثاني: أنه الثوم، وهو قراءة عبد الله وأبيّ: «وثومها» واختاره الفراء، وعلل بأنه ذكر مع ما يشاكله، والفاء تبدل من الثاء، كما تقول العرب: الجدث، والجدف: للقبر، والأثافي والأفافي:
للحجارة التي توضع تحت القدر. والمغاثير والمغافير: لضرب من الصمغ. وهذا قول مجاهد، والربيع بن أنس، ومقاتل، والكسائي، والنضر بن شميل وابن قتيبة. والثالث: أنه الحبوب، وذكره ابن قتيبة والزجاج.
قوله تعالى: أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى، أي: أردأ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، أي: أعلى، يريد: أن المن والسلوى أعلى ما طلبتم. قوله تعالى: اهْبِطُوا مِصْراً فيه قولان:
أحدهما: أنه اسم لمصر من الأمصار غير معين، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وإنما أمروا بالمصر، الذي طلبوه في الأمصار.
والثاني: أنه أراد البلد المسمى بمصر. وفي قراءة عبد الله والحسن وطلحة بن مصرف والأعمش «مصر» بغير تنوين، قال أبو صالح عن ابن عباس: أراد مصر فرعون، وهذا قول أبي العالية والضحاك، واختاره الفراء، واحتج بقراءة عبد الله. قال: وسئل عنها الأعمش، فقال: هى مصر التي عليها صالح بن علي «٢». وقال مفضل الضبي «٣» : سميت مصراً، لأنها آخر حدود المشرق، وأول حدود المغرب، فهي حد بينهما. والمصر: الحد. وأهل هجر يكتبون في عهدهم: اشترى فلان الدار بمصورها، أي:
بحدودها. وقال عدي:
وجاعل الشمس مصرا لا خفاء به بين النهار وبين الليل قد فصلا
وحكى ابن فارس أن قوماً قالوا: سميت بذلك لقصد الناس إِياها. كقولهم: مصرت الشاة، إذا حلبتها، فالناس يقصدونها، ولا يكادون يرغبون عنها إذا نزلوها.
(١) أبو رجاء هو عمران بن ملحان العطاردي، مخضرم ثقة، توفي سنة ١٠٥ وله ١٢٠ سنة، روى له الجماعة.
(٢) هو أول من ولي مصر من قبل أبي العباس السفاح سنة ١٣٣ هـ. وفي بعض النسخ «سليمان بن علي» خطأ.
(٣) هو المفضل بن محمد بن يعلى، أبو العباس، عارف بالأدب والشعر، توفي سنة ١٦٨.
71
قوله تعالى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ، أي: ألزموها، قال الفراء: الذلة والذل: بمعنى واحد، وقال الحسن: هي الجزية. وفي المسكنة قولان: أحدهما: أنها الفقر والفاقة، قاله أبو العالية، والسدي، وأبو عبيدة، وروي عن السدي قال: هي فقر النفس. والثاني: أنها الخضوع، قاله الزّجّاج.
قوله تعالى: وَباؤُ، أي: رجعوا. وقوله تعالى: ذلِكَ إشارة إِلى الغضب. وقيل: إِلى جميع ما ألزموه من الذّلة والمسكنة وغيرهما. قوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ. كان نافع يهمز «النبيين» و «الأنبياء» و «النبوة» وما جاء من ذلك، إلا في موضعين في الاحزاب: لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ»
، إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ «٢»، وإنما ترك الهمزة في هذين الموضعين لاجتماع همزتين مكسورتين من جنس واحد، وباقي القراء لا يهمزون جميع المواضع. قال الزجاج: الأجود ترك الهمز.
واشتقاق النبي من: نبأ، وأنبأ، أي: أخبر. ويجوز أن يكون من: نبا ينبو: إذا ارتفع، فيكون بغير همز:
فعيلاً، من الرفعة. قال عبد الله بن مسعود: كانت بنو اسرائيل تقتل في اليوم ثلاثمائة نبيّ، ثم تقوم سوق بقلهم في آخر النهار.
قوله تعالى: بِغَيْرِ الْحَقِّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: بغير جرم، قاله ابن الأنباري.
والثاني: أنه توكيد كقوله تعالى: وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «٣». والثالث: أنه خارج مخرج الصّفة لقتلهم أنه ظلم، فهو كقوله: رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ «٤»، فوصف حكمه بالحق، ولم يدل على أنه يحكم بغير الحق. قوله تعالى: وَكانُوا يَعْتَدُونَ، العدوان: أشد الظلم. وقال الزجاج: الاعتداء:
مجاوزة القدر في كل شيء.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٢]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا، فيهم خمسة أقوال: أحدها: أنهم قوم كانوا مؤمنين بعيسى قبل أن يبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم الذين آمنوا بموسى، وعملوا بشريعته إلى أن جاء عيسى، فآمنوا به وعملوا بشريعته إلى أن جاء محمد. وهذا قول السدي عن أشياخه. والثالث: أنهم المنافقون، قاله سفيان الثوري «٥». والرابع: أنهم الذين كانوا يطلبون الإسلام، كقس بن ساعدة، وبحيرا، وورقة بن نوفل، وسلمان. والخامس: أنهم المؤمنون من هذه الأمة.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ هادُوا، قال الزجاج: أصل هادوا في اللغة: تابوا. وروي عن ابن مسعود أن اليهود سموا بذلك لقول موسى: هُدْنا إِلَيْكَ «٦»، والنصارى لقول عيسى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ. وقيل سموا النصارى لقرية نزلها المسيح، اسمها: ناصرة، وقيل: لتناصرهم.
فأما «الصابئون» فقرأ الجمهور بالهمز في جميع القرآن. وكان نافع لا يهمز كل المواضع. قال
(١) الأحزاب: ٥٣.
(٢) الأحزاب: ٥٠.
(٣) الحج: ٤٦.
(٤) الأنبياء: ١١٢.
(٥) هو الإمام الفقيه، أمير المؤمنين في الحديث، توفي سنة ١٦١.
(٦) الأعراف: ١٥٦.
الزجاج: معنى الصابئين: الخارجون من دين إلى دين، يقال: صبأ فلان: إذا خرج من دينه. وصبأت النجوم: إذا طلعت، وصبأ نابُه: إِذا خرج. وفي الصابئين سبعة أقوال: أحدها: أنه صنف من النصارى ألين قولاً منهم، وهم السائحون المحلَّقة أوساط رؤوسهم، روي عن ابن عباس. والثاني: أنهم قوم بين النصارى والمجوس، ليس لهم دين، قاله مجاهد. والثالث: أنهم قوم بين اليهود والنصارى، قاله سعيد بن جبير. والرابع: قوم كالمجوس، قاله الحسن والحكم. والخامس: فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور، قاله أبو العالية. والسادس: قوم يصلون إلى القبلة، ويعبدون الملائكة، ويقرءون الزبور، قاله قتادة. والسابع: قوم يقولون: لا إِله إلا الله، فقط، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: مَنْ آمَنَ، في إعادة ذكر الإيمان ثلاثة أقوال: أحدها: أنه لما ذكر مع المؤمنين طوائف من الكفار رجع قوله: مَنْ آمَنَ إليهم. والثاني: أن المعنى من أقام على إيمانه. والثالث: أن الايمان الأول نطق المنافقين بالإسلام. والثاني: اعتقاد القلوب.
قوله تعالى: وَعَمِلَ صالِحاً. قال ابن عباس: أقام الفرائض.
فصل: وهل هذه الآية محكمة أم منسوخة؟ فيه قولان: أحدهما: أنها محكمة، قاله مجاهد والضحاك في آخرين، وقدروا فيها: إن الذين آمنوا، ومن آمن من الذين هادوا. والثاني: أنها منسوخة بقوله: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «١»، ذكره جماعة من المفسّرين.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٣]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣)
قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ. الخطاب بهذه الآية لليهود. والميثاق: مفعال من التوثق بيمين أو عهد أو نحو ذلك من الأمور التي تؤكد القول. وفي هذا الميثاق ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه أخذ ميثاقهم أن يعملوا بما في التوراة، فكرهوا الإِقرار بما فيها، فرفع عليهم الجبل، قاله مقاتل. قال أبو سليمان الدمشقي: أعطوا الله عهداً ليعملُنَّ بما في التوراة، فلما جاء بها موسى فرأوا ما فيها من التثقيل، امتنعوا من أخذها، فرفع الطور عليهم.
والثاني: أنه ما أخذه الله تعالى على الرسل وتابعيهم من الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، ذكره الزجاج.
والثالث: ذكره الزجاج أيضاً، فقال: يجوز أن يكون الميثاق يوم أخذ الذرية من ظهر آدم.
قوله تعالى: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ، قال أَبو عبيدة: الطور في كلام العرب: الجبل. وقال ابن قتيبة: الطور: الجبل بالسريانية. وقال ابن عباس: ما أنبت من الجبال فهو طور، وما لم ينبت فليس بطور. وأي الجبال هو؟ فيه ثلاثة أَقوال: أحدها: جبل من جبال فلسطين، قاله ابن عباس. والثاني:
جبل نزلوا بأصله، قاله قتادة. والثالث: الجبل الذي تجلى له ربه، قاله مجاهد.
وجمهور العلماء على أنه إنما رفع الجبل عليهم لإبائهم التوراة. وقال السدي: لإبائهم دخول الأرض المقدّسة.
(١) آل عمران: ٨٥. [.....]
قوله تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ. وفي المراد «بقوّة» أربعة أقوال: أحدها: الجد والاجتهاد، قاله ابن عباس وقتادة والسدي. والثاني: الطاعة، قاله أبو العالية. والثالث: العمل بما فيه، قاله مجاهد. والرابع: الصدق، قاله ابن زيد. قوله تعالى: وَاذْكُرُوا ما فِيهِ، قولان: أحدهما: اذكروا ما تضمنه من الثواب والعقاب، قاله ابن عباس. والثاني: معناه: ادرسوا ما فيه، قاله الزجاج. قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، قال ابن عباس: تتقون العقوبة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٤]
ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤)
قوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ، أي: أعرضتم عن العمل بما فيه من بعد إعطاء المواثيق ليأخذنّه بجد، فلولا فضل الله عليكم ورحمته لكنتم من الخاسرين بالعقوبة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٥]
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥)
قوله تعالى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ. السبت: اليوم المعروف، قاله ابن الأنباري: ومعنى السبت في كلام العرب: القطع، يقال: قد سبت رأسه: إذا حلقه وقطع الشعر منه، ويقال: نعل سبتية: إِذا كانت مدبوغة بالقرظ محلوقة الشعر، فسمي السبت سبتاً، لأن الله عزّ وجلّ ابتدأ الخلق فيه، وقطع فيه بعض خلق الأرض، أو: لأن الله تعالى أمر بني إسرائيل بقطع الأعمال وتركها.
وقال بعضهم: سمي سبتاً، لأن الله تعالى أمرهم بالاستراحة فيه من الأعمال، وهذا خطأ، لأنه لا يعرف في كلام العرب: سبت بمعنى: استراح.
وفي صفة اعتدائهم في السبت قولان: أحدهما: أنهم أخذوا الحيتان يوم السبت، قاله الحسن ومقاتل. والثاني: أنهم حبسوها يوم السبت وأخذوها يوم الأحد، وذلك أن الرجل كان يحفر الحفرة ويجعل لها نهراً إلى البحر، فاذا كان يوم السبت فتح النهر، وقد حرم الله عليه العمل يوم السبت، فيقبل الموج بالحيتان حتى يلقيها في الحفيرة، فيريد الحوت الخروج فلا يطيق، فيأخذها يوم الأحد، قاله السدي.
(الإشارة إلى قصة مسخهم) روى عثمان بن عطاء عن أبيه قال: نودي الذين اعتدوا في السبت ثلاثة أصوات: نودوا: يا أهل القرية، فانتبهت طائفة [ثم نودوا: يا أهل القرية فانتبهت طائفة] «١» أكثر من الأولى، ثم نودوا: يا أهل القرية، فانتبه الرجال والنساء والصبيان، فقال الله لهم: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ، فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون: يا فلان ألم ننهكم؟ فيقولون برءوسهم: بلى. قال قتادة: فصار القوم قردة تعاوي، لها أذناب بعد ما كانوا رجالا ونساء. وفي رواية عن قتادة: صار الشبان قردة، والشيوخ خنازير، وما نجا إلا الذين نهوا، وهلك سائرهم. وقال غيره: كانوا نحواً من سبعين ألفاً، وعلى هذا القول العلماء، غير ما روي عن مجاهد أنه قال: مسخت قلوبهم ولم تمسخ أبدانهم، وهو قول بعيد، قال ابن
(١) زيادة عن بعض النسخ.
عباس: لم يحيوا على الأرض إلا ثلاثة أيّام، ولم يحي مسخ في الأرض فوق ثلاثة أيام، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وزعم مقاتل أنهم عاشوا سبعة أيام، وماتوا في اليوم الثامن، وهذا كان في زمان داود عليه السلام.
قوله تعالى: خاسِئِينَ: الخاسئ في اللغة: المبعد، يقال للكلب: اخسأ، أي: تباعد.
[سورة البقرة (٢) : آية ٦٦]
فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦)
قوله تعالى: فَجَعَلْناها. في المكنى عنها أربعة أقوال: أحدها: أنها الخطيئة، رواه عطية عن ابن عباس. والثاني: العقوبة، رواه الضحاك عن ابن عباس. وقال الفراء: الهاء كناية عن المسخة التي مسخوها. والثالث: أنها القرية، والمراد أهلها، قاله قتادة وابن قتيبة. والرابع: أنها الأمة التي مسخت، قاله الكسائي، والزجاج. وفي النكال قولان: أحدهما: أنه العقوبة، قاله مقاتل. والثاني: العبرة، قاله ابن قتيبة والزجاج.
قوله تعالى: لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لما بين يديها من القرى وما خلفها، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: لما بين يديها من الذنوب، وما خلفها: ما عملوا بعدها، رواه عطية عن ابن عباس. والثالث: لما بين يديها من السنين التي عملوا فيها بالمعاصي، وما خلفها: ما كان بعدهم في بني اسرائيل لئلا يعملوا بمثل أعمالهم، قاله عطية.
وفي المتقين قولان: أحدهما: أنه عام في كل متق إلى يوم القيامة، قاله ابن عباس. والثاني: أن المراد بهم أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، قاله السدي عن أشياخه، وذكره عطية وسفيان.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٧ الى ٦٨]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً.
(ذكر السبب في أمرهم بذبح البقرة) روى ابن سيرين عن عبيدة قال: كان في بني اسرائيل رجل عقيم لا يولد له، وله مال كثير، وكان ابن أخيه وارثه، فقتله واحتمله ليلا، فأتى به حيّا آخرين، فوضعه على باب رجل منهم، ثم أصبح يدعيه حتى تسلحوا، وركب بعضهم إلى بعض، فأتوا موسى فذكروا له ذلك، فأمرهم بذبح البقرة. وروى السدي عن أشياخه أن رجلاً من بني إِسرائيل كانت له بنت وابن أخ فقير، فخطب إليه ابنته، فأبى، فغضب وقال: والله لأقتلنّ عمي، ولآخذنّ ماله ولأنكحنّ ابنته، ولآكلنّ ديته، فأتاه فقال: قد قدم تجار في بعض أسباط «١» بني إِسرائيل، فانطلق معي فخذ لي من تجارتهم لعلي أصيب فيها ربحاً، فخرج معه، فلما بلغا ذلك السبط، قتله الفتى، ثم رجع، فلما أصبح، جاء كأنه يطلب عمّه لا يدري أين هو،
(١) في «اللسان» : السّبط من اليهود كالقبيلة من العرب.
فاذا بذلك السبط قد اجتمعوا عليه، فأمسكهم وقال: قتلتم عمّي، وجعل يبكي وينادي: وا عمّاه. قال أبو العالية: والذي سأل موسى أن يسأل الله البيان: القاتل، وقال غيره: بل القوم اجتمعوا فسألوا موسى.
فلما أمرهم بذبح بقرة قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً؟ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، والكسائي:
«هزؤا» بضم الهاء والزاي والهمزة، وقرأ حمزة، وإِسماعيل، وخلف في اختياره، والفراء عن عبد الوارث، والمفضل: «هزأ» باسكان الزاي. ورواه حفص بالضم من غير همزة، وحكى أبو علي الفارسي أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم، فمن العرب من يثقله، ومنهم من يخففه، نحو العسر واليسر. قوله تعالى: قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ. وإِنما انتفى من الهزء، لأن الهازئ جاهل لاعب. فلما تبين لهم أن الأمر من عند الله، قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ. قال الزجاج:
وإنما سألوا: ما هي، لأنهم لا يعلمون أن بقرة يحيا بضرب بعضها ميت.
فأما الفارض فهي: المسنة، يقال: فرضت البقرة فهي فارض: إذا أسنت. والبكر: الصغيرة التي لم تلد، والعوان: دون المسنّة، وفوق الصغيرة، يقال: حرب عوان: إِذا لم تكن أول حرب، وكانت ثانية.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٦٩ الى ٧٠]
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠)
في الصفراء قولان: أحدهما: أنه من الصفرة، وهو: اللون المعروف، قاله ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أنها السّوداء، قاله الحسن البصري، ورده جماعة، فقال ابن قتيبة: هذا غلط في نعوت البقر، وإنما يكون ذلك في نعوت الإبل، يقال: بعير أصفر، أي: أسود، لأن السوداء من الإبل يشوب سوادها صفرة، ويدل على ذلك قوله تعالى: فاقِعٌ لَوْنُها، والعرب لا تقول «أسود فاقع» إنما تقول: «أسود حالك» و «أصفر فاقع». قال الزجاج: وفاقع نعت للأصفر الشديد الصفرة، يقال: أصفر فاقع، وأحمر قانئ وأخضر ناضر، وأبيض يقق، وأسود حالك، وحلكوك ودجوجي، فهذه صفات المبالغة في الألوان «١».
ومعنى تَسُرُّ النَّاظِرِينَ: تعجبهم، قال ابن عباس: شدد القوم فشدّد عليهم.
(١) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ١/ ٤٨٧: قوله (صفراء) جمهور المفسرين أنها صفراء اللون من الصفرة المعروفة، قال مكي عن بعضهم: حتى القرن والظّلف. وقال الحسن وابن جبير: كانت صفراء القرن والظّلف فقط. وعن الحسن أيضا: (صفراء) معناه سوداء قال الشاعر:
تلك خيلي منه وتلك ركابي هنّ صفر أولادها كالزبيب
قلت: والأول أصح لأنه الظاهر، وهذا شاذ لا يستعمل مجازا إلّا في الإبل ولو أراد السواد لما أكده بالفقوع، وذلك نعت مختص بالصفرة وليس يوصف السواد بذلك، تقول العرب: أسود حالك وحلكوك وحلكوك، ودجوجيّ وغربيب. وأحمر قانئ وأبيض ناصع وأخضر ناضر وأصفر فاقع. هكذا نص نقلة اللغة عن العرب.
(٢٥) وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «لولا أن بني إسرائيل استثنوا لم يعطوا الذي أعطوا»، يعني بذلك قولهم: وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ.
وفي المراد باهتدائهم قولان: أحدهما: أنهم أرادوا: المهتدون إلى البقرة، وهو قول الأكثرين.
والثاني: إِلى القاتل، ذكره أبو صالح عن ابن عباس.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧١]
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)
قوله تعالى: قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ، قال قتادة: لم يذلها العمل فتثير الأرض. قال ابن قتيبة: يقال في الدواب: دابة ذلول: بينة الذل. بكسر الذال، وفي الناس: رجل ذليل بين الذل، بضم الذال. تُثِيرُ الْأَرْضَ: تقلبها للزراعة، ويقال للبقرة: المثيرة. قال الفراء: لا تقفن على ذلول، لأن المعنى: ليست بذلول فتثير الأرض. وحكى ابن القاسم أن أبا حاتم السجستاني أجاز الوقف على ذلول، ثم أنكره عليه جداً، وعلل بأن التي تثير الأرض لا يعدم منها سقي الحرث، ومتى أثارت الأرض كانت ذلولاً.
ومعنى: وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ: لا يستقى عليها الماء لسقي الزرع.
قوله تعالى: مُسَلَّمَةٌ فيه أربعة أقوال: أحدها: مسلَّمة من العيوب، قاله ابن عباس، وأبو العالية، وقتادة، ومقاتل. والثاني: مسلَّمة من العمل، قاله الحسن وابن قتيبة. والثالث: مسلّمة من الشية، قاله مجاهد وابن زيد. والرابع: مسلَّمة القوائم والخلق، قاله عطاء الخراساني.
فأما الشية، فقال الزجاج: الوشي في اللغة: خلط لون بلون. ويقال: وشيت الثوب أشيه شية ووشياً، كقولك: وديت فلاناً أدية دية. ونصب: لا شِيَةَ فِيها، على النفي. معنى الكلام: ليس فيها لون يفارق سائر لونها، وقال عطاء الخراساني: لونها لون واحد.
قوله تعالى: الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ، قال ابن قتيبة: الآن: هو الوقت الذي أنت فيه، وهو حدّ الزمانين، حد الماضي من آخره، وحد المستقبل من أوله، ومعنى جِئْتَ بِالْحَقِّ: بينت لنا. قوله تعالى: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ، فيه قولان: أحدهما: لغلاء ثمنها، قاله ابن كعب القرظي. والثاني:
لخوف الفضيحة على أنفسهم في معرفة القاتل منهم، قاله وهب. قال ابن عباس: مكثوا يطلبون البقرة
ضعيف جدا. أخرجه البزار ٢١٨٨ «كشف» وابن أبي حاتم كما في «التفسير» لابن كثير ١/ ١١٥ وإسناده ضعيف لضعف عباد بن منصور، وفيه سرور بن مغيرة، قال عنه الأزدي: عنده مناكير. واكتفى الهيثمي في «المجمع» ١٠٨٣٤ بقوله: عبّاد بن منصور ضعيف. وقال الحافظ ابن كثير: غريب، وأحسن أحواله أن يكون من كلام أبي هريرة. وورد من مرسل ابن جريج أخرجه الطبري ١٢٤٦. وما يرسله ابن جريج ساقط قال الإمام أحمد: هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» ١/ ١٥١: هو معضل اه. وله شاهد من مرسل قتادة أخرجه الطبري ١٢٤٨ ومع إرساله هو بصفة التمريض فالخبر واه، والراجح كونه من كلام قتادة ونحوه. أو من كلام أبي هريرة كما اختار ابن كثير، والله أعلم.
أربعين سنة حتى وجدوها عند رجل، فأبى أن يبيعها الا بملء مسكها ذهباً، وهذا قول مجاهد، وعكرمة، وعبيدة، ووهب، وابن زيد، والكلبي، ومقاتل في مقدار الثمن.
فأما السبب الذي لأجله غلا ثمنها، فيحتمل وجهين: أحدهما: أنهم شددوا فشدد الله عليهم.
والثاني: لإكرام الله عزّ وجلّ صاحبها، فإنه كان براً بوالديه. فذكر بعض المفسرين أنه كان شاب من بني اسرائيل براً بأبيه، فجاء رجل يطلب سلعة هي عنده، فانطلق ليبيعه إياها، فاذا مفاتيح حانوته مع أبيه، وأبوه نائم، فلم يوقظه ورد المشتري، فأضعف له المشتري الثمن، فرجع إلى أبيه فوجده نائماً، فعاد إلى المشتري فرده، فأضعف له الثمن، فلم يزل ذلك دأبهما حتى ذهب المشتري، فأثابه الله على بره بأبيه أن نتجت له بقرة من بقرة تلك البقرة. وروي عن وهب بن منبه في حديث طويل: أن فتى كان براً بوالديه، وكان يحتطب على ظهره، فاذا باعه تصدق بثلثه، وأعطى أمه ثلثه، وأبقى لنفسه ثلثه، فقالت له أمه يوماً: إني ورثت من أبيك بقرة، فتركتها في البقر على اسم الله، فاذا أتيت البقر، فادعها باسم إله إبراهيم، فذهب فصاح بها، فأقبلت، فأنطقها الله، فقالت: اركبني يا فتى، فقال: لم تأمرني أمي بهذا.
فقالت: أيها البر بأمه، لو ركبتني لم تقدر عليّ، فانطلق، فلو أمرت الجبل أن ينقلع من أصله لانقلع ببرّك لأمك. فلما جاء بها قالت أمه: بعها بثلاثة دنانير على رضىً مني، فبعث الله ملكاً فقال: بكم هذه؟ قال: بثلاثة دنانير على رضىً من أمي. قال: لك ستة ولا تستأمرها، فأبى، ورجع إلى أمه فأخبرها، فقالت: بعها بستة على رضىً مني، فجاء الملك فقال: خذ اثني عشر ولا تستأمرها، فأبى، وعاد إِلى أمه فأخبرها، فقالت: يا بني، ذاك مَلَك، فقل له: بكم تأمرني أن أبيعها؟ فجاء إليه فقال له ذلك، فقال: يا فتى يشتري بقرتك هذه موسى بن عمران لقتيل يقتل في بني إسرائيل «١».
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٢]
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢)
قوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً هذه الآية مؤخرة في التلاوة، مقدمة في المعنى، لأن السبب في الأمر بذبح البقرة قتل النفس، فتقدير الكلام: وإِذ قتلتم نفساً فادّارأتم فيها، فسألتم موسى فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً. ونظيرها قوله تعالى: وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً «٢»، أراد: أنزل الكتاب قيماً، ولم يجعل له عوجاً، فأخر المقدم وقدم المؤخر، لأنه من عادة العرب، قال الفرزدق:
إِن الفرزدق صخرة ملمومة طالت فليس تنالها الأوعالا
أراد: طالت الأوعالَ. وقال جرير:
طاف الخيال وأين منك لماما فارجع لزورك بالسلام سلاماً
أراد: طاف الخيال لماماً، وأين هو منك؟ وقال الآخر:
خير من القوم العصاة أَميرهم - يا قوم فاستحيوا- النساء الجلَّس
أراد: خير من القوم العصاة النساء، فاستحيوا من هذا.
ومعنى قوله تعالى: فَادَّارَأْتُمْ: اختلفتم، قاله ابن عباس ومجاهد. وقال الزّجّاج: ادّارأتم،
(١) هذا الأثر مصدره كتب الأقدمين، فقد روى وهب الكثير عن أهل الكتاب.
(٢) الكهف: ١- ٢.
بمعنى: تدارأتم، أي: تدافعتم، وألقى بعضكم على بعض، تقول: درأت فلاناً: إذا دفعته، وداريته: إذا لاينته، ودريته إذا ختلته، فأدغمت التاء في الدال، لأنهما من مخرج واحد، فأما الذي كتموه فهو أمر القتيل.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٣]
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣)
قوله تعالى: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها
. من قال: أقاموا في طلبها أربعين سنة، قال: ضربوا قبره، ومن لم يقل ذلك، قال: ضربوا جسمه قبل دفنه، وفي الذي ضرب به ستة أقوال: أحدها: أنه ضرب بالعظم الذي يلي الغضروف، رواه عكرمة عن ابن عباس. قال أبو سليمان الدمشقي: وذلك العظم هو أصل الأذن، وزعم قوم أنه لا يكسر ذلك العظم من أحد فيعيش. قال الزجاج: الغضروف في الأذن، وهو: ما أشبه العظم الرقيق من فوق الشحمة، وجميع أعلى صدفة الأذن، وهو معلق الشنوف، فأما العظمان اللذان خلف الأذن الناتئان من مؤخر الأذن، فيقال لهما: الخشَّاوان، والخششاوان، واحدهما:
خُشَّاء، وخُشُشاء. والثاني: أنه ضرب بالفخذ، روي عن ابن عباس أيضاً، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، وذكر عكرمة ومجاهد أنه الفخذ الأيمن. والثالث: أنه البضعة التي بين الكتفين، رواه السدي عن أشياخه. والرابع: أنه الذنب، رواه ليث عن مجاهد. والخامس: أنه عجب الذنب، وهو عظم عليه بني البدن، روي عن سعيد بن جبير. والسادس: أنه اللسان، قاله الضحاك. وفي الكلام اختصار تقديره:
فقلنا: اضربوه ببعضها ليحيا، فضربوه فحيي، فقام فأخبر بقاتله. وفي قاتله أربعة أقوال: أحدها: بنو أخيه، رواه عطية عن ابن عباس. والثاني: ابنا عمه، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهذان القولان يدلان على أن قاتله أكثر من واحد. والثالث: ابن أخيه، قاله السدي عن أشياخه وعبيدة. والرابع:
أخوه، قاله عبد الرحمن بن زيد. قوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى
فيه قولان: أحدهما: أنه خطاب لقوم موسى. والثاني: لمشركي قريش، احتج عليهم إذ جحدوا البعث بما يوافق عليه أهل الكتاب. قال أبو عبيدة: وآياته: عجائبه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٤]
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤)
قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ، قال ابراهيم بن السري: قست في اللغة: غلظت ويبست وعست. فقسوة القلب: ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه. والقاسي: والعاسي: الشديد الصلابة.
وقال ابن قتيبة: قست وعست وعتت واحد، أي: يبست.
وفي المشار إليهم بها قولان: أحدهما: جميع بني إسرائيل. والثاني: القاتل.
قال ابن عباس: قال الذين قتلوه بعد أن سمى قاتله: والله ما قتلناه. وفي كاف «ذلك» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إشارة إلى إحياء الموتى، فيكون الخطاب لجميع بني إسرائيل. والثاني: إلى كلام القتيل، فيكون الخطاب للقاتل، ذكرهما المفسرون. والثالث: إلى ما شرح من الآيات من مسخ القردة والخنازير، ورفع الجبل وانبجاس الماء، وإحياء القتيل، ذكره الزجاج.
وفي «أو» أقوال، هي بعينها مذكورة في قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ «١»، وقد تقدمت.
قوله تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ، قال مجاهد: كل حجر ينفجر منه الماء، وينشق عن ماء، أو يتردى من رأس جبل، فمن خشية الله.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٥]
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)
قوله تعالى: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ. في المخاطبين بهذه الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاصة، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: أنهم المؤمنون، تقديره: أفتطمعون أن تصدقوا نبيكم، قاله أبو العالية وقتادة.
والثالث: أنهم الأنصار، فانهم لما أسلموا أحبوا إسلام اليهود للرضاعة التي كانت بينهم، ذكره النقاش. قال الزجاج: وألف «أفتطمعون» ألف استخبار، كأنه آيسهم من الطمع في إيمانهم.
وفي سماعهم لكلام الله قولان: أحدهما: أنهم قرءوا التوراة فحرّفوها، هذا قول مجاهد والسدي في آخرين، فيكون سماعهم لكلام الله بتبليغ نبيهم، وتحريفهم: تغيير ما فيها. والثاني: أنهم التّسعون رجلا الذين اختارهم موسى، فسمعوا كلام الله كفاحاً عند الجبل، فلمّا جاءوا إلى قومهم قالوا: قال لنا: كذا وكذا، وقال في آخر قوله: إن لم تستطيعوا ترك ما أنهاكم عنه فافعلوا ما تستطيعون. هذا قول مقاتل، والأول أصح. وقد أنكر بعض أهل العلم، منهم الترمذي صاحب «النوادر» هذا القول إِنكاراً شديداً، وقال: إنما خص بالكلام موسى وحده، وإلا فأي ميزة؟ وجعل هذا من الأحاديث التي رواها الكلبي وكان كذاباً.
ومعنى عَقَلُوهُ: سمعوه ووَعوْه. وفي قوله تعالى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: وهم يعلمون أنهم حرّفوه. والثاني: وهم يعلمون عقاب تحريفه.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧)
قوله تعالى: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا. هذه الآية نزلت في نفر من اليهود، كانوا إذا لقوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين قالوا: آمنا، وإذا خلا بعضهم إلى بعض، قالوا: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم، هذا قول ابن عباس وأبي العالية ومجاهد وقتادة وعطاء الخراساني وابن زيد ومقاتل «٢».
وفي معنى: بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ قولان: أحدهما: بما قضى الله عليكم، والفتح: القضاء،
(١) البقرة: ١٩.
(٢) أخرجه الطبري ١٣٣٨ عن ابن عباس بإسناد ضعيف، وكرره ١٣٣٩ وإسناده ضعيف أيضا، الضحاك لم يلق ابن عباس، وأخرجه ١٣٤١ عن السّدّي وهذا مرسل، وكرره ١٣٤٤ عن أبي العالية مرسلا، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، والله أعلم.
ومنه قوله تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ «١»، قال السدي عن أشياخه: كان ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا، فكانوا يحدثون المؤمنين بما عذبوا به، فقال بعضهم لبعض: أتحدثونهم بما فتح الله عليكم من العذاب، ليقولوا: نحن أحب إلى الله منكم، وأكرم على الله منكم. والثاني: أن معناه: بما علمكم الله. قال ابن عباس وأبو العالية وقتادة: الذي فتحه عليهم، ما أنزله من التوراة في صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وقال مقاتل: كان المسلم يلقى حليفه، أو أخاه من الرضاعة من اليهود، فيسأله: أتجدون محمداً في كتابكم؟ فيقولون: نعم، إنه لحق. فسمع كعب بن الأشرف وغيره، فقال لليهود في السر:
أتحدثون أصحاب محمد بما فتح الله عليكم؟ أَي: بما بين لكم في التوراة من أمر محمد ليخاصموكم به عند ربكم باعترافكم أنه نبي، أفلا تعقلون أن هذا حجة عليكم «٢» ؟! قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّكُمْ فيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى: في حكم ربكم، كقوله تعالى:
فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ «٣». والثاني: أنه أراد به يوم القيامة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٨]
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨)
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ، يعنى: اليهود. والأمي: الذي لا يكتب ولا يقرأ، قاله مجاهد.
وفي تسميته بالأمي قولان: أحدهما: لأنه على خلقة الأمة التي لم تتعلم الكتاب، فهو على جبلته، قاله الزجاج. والثاني: أنه ينسب إلى أمه، لأن الكتابة في الرجال كانت دون النساء. وقيل: لأنه على ما ولدته أمه. قوله تعالى: لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ، قال قتادة: لا يدرون ما فيه. قوله تعالى: إِلَّا أَمانِيَّ جمهور القراء على تشديد الياء، وقرأ الحسن، وأبو جعفر، بتخفيف الياء، وكذلك: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ «٤» ولَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ «٥» فِي أُمْنِيَّتِهِ «٦»، ووَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ «٧»، كله بتخفيف الياء وكسر الهاء من «أمانيهم» ولا خلاف في فتح ياء «الأماني». وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الأكاذيب. قال ابن عباس: إلا أمانيَّ: يريد إلا قولاً يقولونه بأفواههم كذباً. وهذا قول مجاهد واختيار الفراء. وذكر الفراء أن بعض العرب قال لابن دأب «٨» وهو يحدث: أهذا شيء رويته، أم شيء تمنّيته؟ يريد: افتعلته. والثاني: أن الأماني: التلاوة، فمعناه: لا يعلمون فقه الكتاب، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم، قال الشاعر:
تمنى كتاب الله أول ليلة تمنّي داود الزّبور على رسل
(١) الأعراف: ٨٩.
(٢) عزاه المصنف لمقاتل، وهذا مرسل، وورد نحوه عن ابن عباس، أخرجه الطبري ١٣٤٣ وفيه راو مجهول، وكرره ١٣٤٤ من مرسل أبي العالية وبرقم ١٣٤٥ من مرسل قتادة. فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، والله أعلم.
(٣) النور: ١٣.
(٤) البقرة: ١١١.
(٥) النساء: ١٢٣.
(٦) الحج: ٥٢.
(٧) الحديد: ١٤. [.....]
(٨) هو أبو الوليد عيسى بن يزيد بن بكر بن دأب الليثي، المدني، كان أخباريا علّامة نسابة، لكن حديثه واه، كان يضع الحديث، وقال البخاري وغيره: منكر الحديث كما في «الميزان».
وهذا قول الكسائي والزجاج. والثالث: أنها أمانيهم على الله، قاله قتادة. قوله تعالى: وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ، قال مقاتل: ليسوا على يقين، فان كذب الرؤساء أو صدقوا تابعوهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٧٩]
فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩)
قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ. هذه الآية نزلت في أهل الكتاب الذين بدلوا التوراة وغيّروا صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيها. وهذا قول ابن عباس وقتادة وابن زيد وسفيان.
فأما الويل: فروى أبو سعيد الخدريّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
(٢٦) «ويل: واد في جهنم، يهوي الكافر فيه أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره».
وقال الزجاج: الويل: كلمة تقولها العرب لكل من وقع في هلكة، ويستعملها هو أيضاً. وأصلها في اللغة: العذاب والهلاك. قال ابن الأنباري: ويقال: معنى الويل: المشقة من العذاب، ويقال:
أصله: وي لفلان، أي: حزن لفلان، وكثر الاستعمال للحرفين، فوصلت اللام ب «وي» وجعلت حرفاً واحداً ثم خبر عن «ويل» بلام أُخرى، وهذا اختيار الفراء. والكتاب هاهنا: التوراة. وذكر الأيدي توكيد، والثمن القليل: ما يفنى من الدنيا.
وفيما يكسبون قولان: أحدهما: أنه عوض ما كتبوا. والثاني: إثم ما فعلوا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٠]
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠)
قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً، وهم: اليهود. وفيما عنوا بهذه الأيام قولان: أحدهما: أنهم أرادوا أربعين يوماً، قاله ابن عباس وعكرمة، وأبو العالية، وقتادة، والسدي. ولماذا قدروها بأربعين؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم قالوا: بين طرفي جهنم مسيرة أربعين
ضعيف منكر. أخرجه الترمذي ٣١٦٤ وأبو يعلى ١٣٨٣ من طريق الحسن بن موسى والبيهقي من طريق كامل كلاهما عن ابن لهيعة عن درّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد به. وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلّا من حديث ابن لهيعة. وتعقبه ابن كثير في «تفسيره» ١/ ١٢١ بقوله: لم ينفرد به ابن لهيعة كما ترى ولكن الآفة ممن بعده وهذا الحديث بهذا الإسناد مرفوعا منكر.
قلت: مداره على درّاج أبي السّمح، وهو ضعيف في روايته عن أبي الهيثم خاصة.
- وأخرجه الطبري ١٣٨٧ وابن أبي حاتم فيما ذكره ابن كثير في «تفسيره» ١/ ١٢١ من طريق يونس والحاكم ٤/ ٥٩٦، والبيهقي في «البعث» ٤٦٦ من طريق بحر بن نصر والحاكم ٢/ ٥٠٧، والبيهقي ٤٦٥ من طريق أبي عبد الله أحمد بن عبد الرحمن بن وهب. ثلاثتهم عن ابن وهب بهذا الإسناد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، لكن قال الذهبي في مواضع أخرى: درّاج ذو مناكير. وأخرجه ابن حبّان ٧٤٦٧ عن ابن أسلم عن حرملة عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن درّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري، مرفوعا.
- الخلاصة: مداره على درّاج، وهو ضعيف. قال الذهبي في «الميزان» ٢/ ٢٤: قال أحمد: درّاج أحاديثه مناكير، وقال أبو حاتم: ضعيف، وقال النسائي: منكر الحديث.
سنة، ونحن نقطع مسيرة كل سنة في يوم، ثم ينقضي العذاب وتهلك النار، قاله ابن عباس. والثاني:
أنهم قالوا: عتب علينا ربنا في أمر، فأقسم ليعذبنا أربعين ليلة، ثم يدخلنا الجنة، فلن تمسنا النار إِلا أربعين يوماً تحلّة القسم، وهذا قول الحسن وأبي العالية. والثالث: أنها عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل، قاله مقاتل. والقول الثاني: أن الأيام المعدودة سبعة أيام، وذلك لأن عندهم أن الدنيا سبعة آلاف سنة، والناس يعذبون لكل ألف سنة يوماً من أيام الدنيا، ثم ينقطع العذاب، قاله ابن عباس.
قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً، أي: عهد إليكم أنه لا يعذّبكم إلا هذا المقدار؟!
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨١ الى ٨٢]
بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢)
قوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً بلى: بمنزلة «نعم» إلا أن «بلى» جواب النهي، و «نعم» جواب الإيجاب، قال الفراء: إذا قال الرجل لصاحبه: ما لك عليَّ شيء، فقال الآخر: نعم، كان تصديقاً أن لا شيء له عليه. ولو قال: بلى كان رداً لقوله: قال ابن الأنباري: وإنما صارت «بلى» تتصل بالجحد، لأنها رجوع عن الجحد إلى التحقيق، فهي بمنزلة «بل». و «بل» سبيلها أن تأتي بعد الجحد، كقولهم: ما قام أخوك، بل أبوك. وإذا قال الرجل للرجل: ألا تقوم؟ فقال له: بلى أراد: بل أقوم، فزاد الألف على «بل» ليحسن السكوت عليها، لأنه لو قال: بل، كان يتوقع كلاماً بعد بل، فزاد الألف ليزول هذا التوهم عن المخاطب، ومعنى بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً: بل من كسب. قال الزجاج: بلى: رد لقولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً. والسيئة هاهنا: الشرك في قول ابن عباس وعكرمة، وأبي وائل، وأبي العالية، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل. وَأَحاطَتْ بِهِ، أي:
أحدقت به خَطِيئَتُهُ، وقرأ نافع «خطيئاته» بالجمع. قال عكرمة: مات ولم يتب منها، وقال أبو وائل: الخطيئة: صفة للشرك، قال أبو علي: إما أن يكون المعنى: أحاطت بحسنته خطيئته، أي:
أحبطتها، من حيث أن المحيط أكثر من المحاط به، فيكون كقوله تعالى: وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ «١»، وقوله: أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها «٢»، أو يكون معنى أحاطت به: أهلكته، كقوله: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ «٣».
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٣]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣)
قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ، هذا الميثاق مأخوذ عليهم في التوراة. وقوله تعالى: لا تَعْبُدُونَ قرأ عاصم ونافع وأبو عمرو وابن عامر: بالتاء على الخطاب لهم. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: بالياء على الإخبار عنهم. قوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً، أي: ووصّيناهم بآبائهم
(١) التوبة: ٤٩.
(٢) الكهف: ٢٩.
(٣) يوسف: ٦٦.
83
وأمهاتهم خيراً. قال الفراء: والعرب تقول: أوصيك به خيراً، وآمرك به خيراً، والمعنى: آمرك أن تفعل به، ثم تحذف «أن» فيوصل الخير بالوصية والأمر. قال الشاعر:
عجبت من دهماء إذ تشكونا... ومن أبي دهماء إذ يوصينا
خيراً بها كأننا جافونا وأما الإحسان إلى الوالدين فهو برهما. قال ابن عباس: لا تنفض ثوبك فيصيبهما الغبار. وقالت عائشة: ما بر والده من شدَّ النظر إليه، وقال عروة: لا تمتنع عن شيء أحبَّاه.
قوله تعالى: وَذِي الْقُرْبى، أي: ووصيناهم بذي القربى أن يصلوا أرحامهم. وأما اليتامى فجمع: يتيم. قال الأصمعي: اليتم في الناس، من قبل الأب، وفي غير الناس: من قبل الأمّ. وقال ابن الأنباري: قال ثعلب: اليتم معناه في كلام العرب: الانفراد: فمعنى صبي يتيم: منفرد عن أبيه.
وأنشدنا:
أفاطم إِني هالك فتبيَّني... ولا تجزعي كلّ النّساء يتيم
وقال: يروى: يتيم ويئيم، فمن روى يتيم بالتاء أراد: كل النساء ضعيف منفرد. ومن روى بالياء أراد: كل النساء يموت عنهن أزواجهن. وقال: أنشدنا ابن الأعرابي:
ثلاثة أحباب: فحب علاقة... وحب تِملاَّق وحبُّ هو القتل «١»
قال: فقلنا له: زدنا، فقال: البيت يتيم، أي: هو منفرد. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: إذا بلغ الصبي، زال عنه اسم اليتم. يقال منه: يتم ييتم يُتما وَيَتما، وجمع اليتيم: يتامى، وأيتام. وكل منفرد عند العرب يتيم ويتيمة. قال: وقيل: أصل اليتم: الغفلة، وبه سمي اليتيم، لأنه يتغافل عن برّه. والمرأة تدعى: يتيمة ما لم تزوج، فاذا تزوجت زال عنها اسم اليتم، وقيل: لا يزول عنها اسم اليتم أبداً. وقال أبو عمرو، اليتم: الإبطاء، ومنه أخذ اليتيم، لأن البر يبطئ عنه.
«والمساكين» : جمع مساكين، وهو اسم مأخوذ من السكون، كأن المساكين قد أسكنه الفقر. وقوله تعالى: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع، وعاصم، وابن عامر: حُسْناً بضم الحاء والتخفيف، وقرأ حمزة والكسائي: (حَسَناً) بفتح الحاء والتثقيل. قال أبو علي: من قرأ «حُسْناً» فجائز أن يكون الحسن لغة في الحسن، كالبُخْل، والبَخَل، والرُشد والرشَد. وجاء ذلك في الصفة كما جاء في الاسم، ألا تراهم قالوا: العُرب والعرَب ويجوز أن يكون الحسن مصدراً كالكفر والشكر والشغل، وحذف المضاف معه، كأنه قال: قولوا قولاً ذا حسن. ومن قرأ (حَسَناً) جعله صفة، والتقدير عنده: قولوا للناس قولاً حسناً، فحذف الموصوف. واختلفوا في المخاطب بهذا على قولين:
أحدهما: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن جبير، وابن جريج. ومعناه: اصدقوا وبينوا صفة النبي صلّى الله عليه وسلّم. والثاني: أنهم أمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو العالية: قولوا للناس معروفاً، وقال محمّد بن عليّ بن الحسين عليه السلام: كلموهم بما تحبون أن يقولوا لكم. وزعم قوم أن المراد بذلك مساهلة الكفار في دعائهم إِلى الإسلام. فعلى هذا، تكون منسوخة بآية السيف.
(١) في «اللسان» : الملق: الودّ واللطف الشديد. ملق ملقا وتملّق تملّاقا أي تودد إليه وتلطف له.
84
قوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ، أي: أعرضتم إلا قليلاً منكم، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم أوّلوهم الذين لم يبدلوا. والثاني: أنهم الذين آمنوا بالنبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم في زمانه.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٤ الى ٨٥]
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥)
قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ، أي: لا يسفك بعضكم دم بعض، ولا يخرج بعضكم بعضاً من داره. قال ابن عباس: ثم أقررتم يومئذ بالعهد، وأنتم اليوم تشهدون على ذلك، فالإِقرار على هذا متوجه إِلى سلفهم، والشهادة متوجهة إِلى خلفهم. ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ، أي: يقتل بعضكم بعضاً. روى السدي عن أشياخه قال: كانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج فكانوا يقاتلون في حرب سمير «١»، فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها النّضير، وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها، فيغلبونهم فيقتلون ويخربون الديار ويخرجون منها، فاذا أسر الرجل من الفريقين كليهما جمعوا له حتى يفدوه، فتعيِّرهم العرب بذلك فتقول: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟! فيقولون: أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا قتلهم. فتقول العرب: فلم تقاتلونهم؟ فيقولون:
نستحيي أن يستذلّ حلفاؤنا، فعيّرهم الله عزّ وجلّ، فقال: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ إلى قوله تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، فكان إِيمانهم ببعضه فداءهم الأسارى، وكفرهم قتل بعضهم بعضاً.
قوله تعالى: تُظْهِرُونَ، قرأ عاصم وحمزة والكسائي (تظاهرون)، وفي التحريم:
«تظهرا» «٢»، بتخفيف الظاء، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو بتشديد الظاء مع إثبات الألف. قال أبو علي: من قرأ (تظّاهرون) بتشديد الظاء، أدغم التاء في الظاء، لمقاربتها لها، فخفف بالإدغام. ومن قرأ (تظاهرون) خفيفة، حذف التاء التي أدغمها أولئك من اللفظ، فخفف بالحذف. والتاء التي أدغمها ابن كثير هي التي حذفها عاصم. وروي عن الحسن وأبي جعفر «تظَّهرون» بتشديد الظاء من غير ألف، فالتظاهر: التعاون. قال ابن قتيبة: وأصله من الظهر، فكأن التظاهر: أن يجعل كل واحد من الرجلين الآخر ظهراً له يتقوى به، ويستند إِليه. قال مقاتل: والإثم: المعصية، والعدوان: الظلم.
قوله تعالى: وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ، أصل الأسر: الشد. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر (أُسارى)، وقرأ الأعمش وحمزة «أسرى»، قال الفراء: أهل الحجاز يجمعون الأسير: «أَسارى» وأهل نجد أكثر كلامهم «أَسرى» وهو أجود الوجهين في العربية، لأنه بمنزلة قولهم: جريح وجرحى، وصريع وصرعى، وروى الأصمعي عن أبي عمرو قال: الأسارى: ما شدوا، والأسرى: في أيديهم،
(١) اسم رجل سميت بذلك لأنه السبب.
(٢) التحريم: ٤.
إلا أنهم لم يشدّوا. قال الزجاج: «فَعْلى» جمع لكل ما أصيب به الناس في أبدانهم وعقولهم. يقال هالك وهلكى، ومريض ومرضى، وأحمق وحمقى، وسكران وسكرى، فمن قرأ: أُسارى، فهي جمع الجمع. يقال: أسير وأسرى وأسارى جمع أسرى.
قوله تعالى: تُفادُوهُمْ، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «تفدوهم»، وقرأ نافع وعاصم والكسائي: تُفادُوهُمْ بألف. والمفادة: إِعطاء شيء، وأخذ شيء مكانه. أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ، وهو: فكاك الأسرى. وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ وهو: الإخراج والقتل. وقال مجاهد: تفديه في يد غيرك، وتقتله أنت بيدك؟! وفي المراد بالخزي قولان: أحدهما: أنه الجزية، قاله ابن عباس. والثاني: قتل قريظة ونفي النضير، قاله مقاتل.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٦]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦)
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ. قال ابن عباس: هم اليهود. وقال مقاتل: باعوا الآخرة بما يصيبونه من الدنيا.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٧]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧)
قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يريد التوراة: وقفَّينا: أتبعنا. قال ابن قتيبة: وهو مأخوذ من القفا، يقال: قفوت الرجل: إذا سرت في أثره. والبينات: الآيات الواضحات كإبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى. وأيدناه: قويناه. والأيد: القوة. وفي روح القدس ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه جبريل. والقدس: الطهارة، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي في آخرين. وكان ابن كثير يقرأ: (بروح القدْس) ساكنة الدال. قال أبو علي: التخفيف والتثقيل فيه حسنان، نحو: العنْق والعنُق، والطنْب والطُنُب.
وفي تأييده به ثلاثة أقوال ذكرها الزجاج: أحدها: أنه أيَّد به لإظهار حجته وأمر دينه. والثاني:
لدفع بني إسرائيل عنه إذا أرادوا قتله. والثالث: أنه أيد به في جميع أحواله.
والقول الثاني: أنه الاسم الذي كان يحيي به الموتى، رواه الضحاك عن ابن عباس.
والثالث: أنه الإنجيل، قاله ابن زيد.
[سورة البقرة (٢) : آية ٨٨]
وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨)
قوله تعالى: وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ قرأ الجمهور بإسكان اللام، وقرأ قوم منهم الحسن وابن محيصن بضمها. قال الزجاج: من قرأ: غُلْفٌ بتسكين اللام، فمعناه: ذوات غلف، فكأنهم قالوا:
قلوبنا في أوعية، ومن قرأ «غلُف» بضم اللام، فهو جمع «غلاف» فكأنهم قالوا: قلوبنا أوعية للعلم، فما بالها لا تفهم وهي أوعية للعلم؟! فعلى الأول يقصدون إعراضه عنهم، وكأنهم يقولون: ما نفهم شيئاً. وعلى الثاني يقولون: لو كان قولك حقا لقبلته قلوبنا.
وقوله تعالى: فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ فيه خمسة أقوال: أحدها: فقليل من يؤمن منهم، قاله ابن
عباس وقتادة. والثاني: أن المعنى: قليل ما يؤمنون به. قال معمر: يؤمنون بقليل مما في أيديهم، ويكافرون بأكثره. والثالث: أن المعنى: فما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً. ذكره ابن الأنباري، وقال: هذا على لغة قوم من العرب، يقولون: قلما رأيت مثل هذا الرجل، وهم يريدون: ما رأيت مثله. والرابع:
فيؤمنون قليلاً من الزمان كقوله تعالى: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ «١»، ذكره ابن الأنباري أيضا. والخامس: أن المعنى: فإيمانهم قليل، ذكره ابن جرير الطبري. وحكى في «ما» قولين:
أحدهما: أنها زائدة. والثاني: أن «ما» تجمع جميع الأشياء ثم تخص بعض ما عمته بما يذكر بعدها.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٨٩ الى ٩٠]
وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠)
قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، يعني: القرآن. ويَسْتَفْتِحُونَ: يستنصرون.
وكانت اليهود إذا قاتلت المشركين استنصروا باسم نبيّ الله محمد صلّى الله عليه وسلّم «٢».
قوله تعالى: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، بئس: كلمة مستوفية لجميع الذم، ونقيضها:
«نعم». واشتروا، بمعنى: باعوا، والذي باعوها به قليل من الدنيا. قوله تعالى: بَغْياً قال قتادة:
حسداً. ومعنى الكلام: كفروا بغياً، لأَنْ نزَّل الله الفضل على النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وفي قوله تعالى: بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ خمسة أقوال: أحدها: أن الغضب الأول لاتخاذهم العجل، والثاني: لكفرهم بمحمد، حكاه السدي عن ابن مسعود وابن عباس. والثاني: أن الأول
(١) آل عمران: ٧٢.
(٢) ورد في معناه روايات كثيرة منها- وهو ضعيف جدا- ما أخرجه الحاكم ٢/ ٢٦٣ عن ابن عباس قال: كانت يهود خيبر تقاتل غطفان، فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعاذت اليهود بهذا الدّعاء، وقالت: اللهم إنا نسألك بحق النبي الأمي الذي وعدتنا أن تخرجه لنا في آخر الزمان إلّا نصرتنا عليهم.
قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان. فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم كفروا به، فأنزل الله تعالى:
وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أي بك يا محمد، إلى قوله فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ.
- وقال الحاكم: أدت الضرورة إلى إخراجه في التفسير، وهو غريب من حديثه.
- وقال الذهبي: لا ضرورة لإخراجه في ذلك فعبد الملك متروك هالك.
وأخرجه الطبري ١٥٢٥ عن ابن عباس قال: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، يستنصرون بخروج محمد صلّى الله عليه وسلّم على مشركي العرب- يعني بذلك أهل الكتاب- فلما بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم ورأوه من غيرهم، كفروا به وحسدوه.
- وله شواهد بمعناه، أخرجه الطبري برقم ١٥٢٣ و ١٥٢٤ عن ابن عباس وبرقم ١٥٢٢ و ١٥٢٨ عن قتادة و ١٥٢٦ عن علي الأزدي و ١٥٢٩ عن أبي العالية و ١٥٣٠ عن السدي و ١٥٣١ عن ابن جريج.
- الخلاصة: هو خبر صحيح بلفظ الطبري، وذلك بمجموع طرقه وشواهده، وأما ما أخرجه الحاكم، فهو ضعيف الإسناد جدا، والمتن منكر.
لتكذيبهم رسول الله. والثاني: لعداوتهم لجبريل. رواه شهر عن ابن عباس. والثالث: أن الأول حين قالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ»
، والثاني: حين كذّبوا نبي الله. رواه أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء. والرابع: أن الأول لتكذيبهم بعيسى والإنجيل. والثاني: لتكذيبهم بمحمد والقرآن، قاله الحسن، والشعبي، وعكرمة، وأبو العالية، وقتادة، ومقاتل. والخامس: أن الأول لتبديلهم التّوراة.
والثاني: لتكذيبهم محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، قاله مجاهد. والمهين: المذلّ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٩١]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١)
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ، يعني: القرآن، قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا، يعنون: التّوراة. وفي قوله تعالى: وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ قولان: أحدهما: أنه أراد بما سواه. ومثله:
وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ «٢»، قاله الفراء ومقاتل. والثاني: بما بعد الذي أنزل عليهم، قاله الزجاج.
قوله تعالى: وَهُوَ الْحَقُّ يعود على ما وراءه. قوله تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ هذا جواب قولهم: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا، فإن الأنبياء جاءوا بتأييد التوراة. وإنما نسب القتل إلى المتأخّرين لأنهم في ذلك على رأي المتقدّمين. وتقتلون بمعنى: قتلتم، فوضع المستقبل في موضع الماضي، لأن الوهم لا يذهب إلى غيره. وأنشدوا في ذلك:
شهدَ الحطيئةُ حين يلقى رَبَّه أنَ الوليدَ أحقُّ بالعذرِ
أراد: يشهد.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٢ الى ٩٣]
وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣)
قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ، فيها قولان: أحدهما: ما في الألواح من الحلال والحرام، قاله ابن عباس. والثاني: الآيات التسع، قاله مقاتل.
وفي هاء «بعده» قولان: أحدهما: أنها تعود إلى موسى، فمعناه: من بعد انطلاقه إلى الجبل، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: أنها تعود إلى المجيء، لأن «جاءكم» يدل على المجيء، وفي ذكر عبادتهم العجل تكذيب لقولهم: نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا.
قوله تعالى: قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا، قال ابن عباس: كانوا إذا نظروا إلى الجبل، قالوا: سمعنا وأطعنا، وإذا نظروا إلى الكتاب قالوا: سمعنا وعصينا.
قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ، أي: سقوا حب العجل، فحذف المضاف، وهو الحب، وأقام المضاف إليه مقامه، ومثله قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ «٣» أي: وقت الحج. وقوله:
(١) المائدة: ٦٤.
(٢) النساء: ٢٤.
(٣) البقرة: ١٩٧.
أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ «١» أي: أجعلتم صاحب سقاية الحاج. وقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «٢»، أي: أهلها.
وقوله: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ «٣»، أي: ضِعف عذاب الحياة. وقوله: لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ «٤»، أي: بيوت صلوات. وقوله: بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «٥»، أي: مكركم فيهما. وقوله:
فَلْيَدْعُ نادِيَهُ «٦»، أي: أهله. ومن هذا قول الشاعر:
أُنبئت أنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقدت واستبَّ بَعْدَكَ يا كليب المجلس
أي: أهل المجلس، وقال الآخر:
وشر المنايا ميِّت بين أهله
أي: وشر المنايا منية ميت بين أهله.
قوله تعالى: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ، أي: أن تكذّبوا المرسلين، وتقتلوا النبيين بغير حق، وتكتموا الهدى. قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، في «إِن» قولان:
أحدهما: أنها بمعنى: الجحد، فالمعنى: ما كنتم مؤمنين إذ عصيتم الله، وعبدتم العجل.
والثاني: أن تكون «إِن» شرطاً معلقاً بما قبله، فالمعنى: إن كنتم مؤمنين فبئس الإيمان إيمان يأمركم بعبادة العجل وقتل الأنبياء، ذكرهما ابن الأنباريّ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٤ الى ٩٦]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦)
قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ، كانت اليهود تزعم أن الله تعالى لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وولده، فنزلت هذه الآية. ومن الدليل على علمهم بأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صادق، أنهم ما تمنوا الموت، وأكبر الدليل على صدقه أنه أخبر أنهم لا يتمنونه بقوله تعالى: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ فما تمناه أحد منهم. والذي قدمته أيديهم: قتل الأنبياء وتكذيبهم، وتبديل التوراة.
قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ، اللام: لام القسم، والنون توكيد له، والمعنى: ولتجدنَّ اليهود في حال دعائهم إلى تمني الموت أحرص الناس على حياة، وأحرص من الذين أشركوا.
وفي الَّذِينَ أَشْرَكُوا قولان: أحدهما: أنهم: المجوس، قاله ابن عباس، وابن قتيبة والزجاج.
والثاني: مشركو العرب، قاله مقاتل.
قوله تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ، في الهاء والميم من «أحدهم» قولان: أحدهما: أنها تعود على الذين أشركوا، قاله الفرّاء. والثاني: ترجع إلى اليهود، قاله مقاتل.
(١) التوبة: ١٩.
(٢) يوسف: ٨٢. [.....]
(٣) الإسراء: ٧٥.
(٤) الحج: ٤٠.
(٥) سبأ: ٣٠.
(٦) العلق: ١٧.
قال الزجاج: وإنما ذكر أَلْفَ سَنَةٍ لأنها نهاية ما كانت المجوس تدعو بها لملوكها، كان الملك يحيّا بأن يقال له: عش ألف نيروز، وألف مهرجان.
قوله تعالى: وَما هُوَ فيه قولان ذكرهما الزجاج: أحدهما: أنه كناية عن أحدهم الذي جرى ذكره، تقديره: وما أحدهم بمزحزحه من العذاب تعميره. والثاني: أن يكون «هو» كناية عما جرى من التعمير، فيكون المعنى: وما تعميره بمزحزحه من العذاب، ثم جعل «أن يعمّر» مبيناً عنه، كأنه قال:
ذلك الشيء الدنيء ليس بمزحزحه من العذاب.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٩٧ الى ٩٩]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩)
قوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ. قال ابن عباس:
(٢٧) أقبلت اليهود إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: من يأتيك من الملائكة؟ قال: جبريل. فقالوا: ذاك ينزل بالحرب والقتال، ذاك عدونا، فنزلت هذه الآية والتي تليها.
وفي جبريل إحدى عشرة لغة: إحداها: جبريل، بكسر الجيم والراء من غير همز، وهي لغة أهل الحجاز، وبها قرأ ابن عامر، وأبو عمرو. قال ورقة بن نوفل:
وجبريل يأتيه وميكال معْهما من الله وحي يشرح الصدر منزل
وقال عمران بن حطان:
والروح جبريل فيهم لا كفاء له وكان جبريل عند الله مأمونا
حسن. أخرجه أحمد ١/ ٢٧٤ والترمذي ٣١١٧ والنسائي في «عشرة النساء» ١٩٠ والطبري ١٦٠٨ والبيهقي في «الدلائل» ٦/ ٢٦٦ وإسناده حسن فيه شهر بن حوشب، صدوق يخطئ.
- وورد مرسلا أخرجه الطبري ١٦٠٩ عن شهر بن حوشب و ١٦١٠ من مرسل القاسم بن أبي بزّة. فالحديث حسن إن شاء الله. وأصله أخرجه البخاري ٣٣٢٩ و ٣٩٣٨ و ٤٤٨٠ والنسائي في «التفسير» ١٢ وأحمد ٣/ ١٠٨- ٢٧١ والبغوي ٣٧٦٩ وابن مندة في «التوحيد» ١/ ٢٢٩ والبيهقي في «الدلائل» ٢/ ٥٢٨ عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «بلغ عبد الله بن سلام مقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم المدينة، فأتاه فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبيّ، ما أول أشراط السّاعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه، ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أخبرني بهن آنفا جبريل» قال: فقال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمّا أول أشراط السّاعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب. وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت، وأما الشّبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها». قال: أشهد أنك رسول الله. ثم قال: يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت، إن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني عندك. فجاءت اليهود، ودخل عبد الله البيت، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟» قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا وأخبرنا وابن أخبرنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أفرأيتم إن أسلم عبد الله؟» قالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. فقالوا: شرّنا وابن شرّنا ووقعوا فيه». لفظ البخاري. وانظر «تفسير الشوكاني» ١٩٨ و ١٩٩ بتخريجنا، طبع دار الكتاب العربي.
90
وقال حسان:
وجبريل رسول الله فينا وروح القدس ليس له كفاء
واللغة الثانية: «جَبريل» بفتح الجيم وكسر الراء، وبعدها ياء ساكنة من غير همز على وزن:
فَعليل، وبها قرأ الحسن البصري، وابن كثير، وابن محيصن. وقال الفراء: لا أشتهيها، لأنه ليس في الكلام فَعليل، ولا أرى الحسن قرأها إلا وهو صواب، لأنه اسم أعجمي.
والثالثة: «جَبرئيل» : بفتح الجيم والراء، وبعدها همزة مكسورة على وزن: جَبرعيل، وبها قرأ الأعمش، وحمزة، والكسائي. قال الفراء: وهي لغة تميم وقيس، وكثير من أهل نجد. وقال الزجاج:
هي أجود اللغات، وقال جرير:
عبدوا الصليب وكذّبوا بمحمدٍ وبجبرئيل وكذَّبوا ميكالا
والرابعة: جَبرئِل، بفتح الجيم والراء وهمزة بين الراء واللام، مكسورة من غير مد على وزن جَبرعِل، رواها أبو بكر عن عاصم. والخامسة: «جَبرئِلّ» بفتح الجيم وكسر الهمزة وتشديد اللام، وهى قراءة أبان عن عاصم ويحيى بن يعمر. والسادسة: جبرائيل، بهمزة مكسورة بعدها ياء مع الألف.
والسابعة: جبراييل بيائين بعد الألف أولاهما مكسورة. والثامنة: جَبرين، بفتح الجيم ونون مكان اللام.
والتاسعة: جِبرين، بكسر الجيم وبنون، قال الفراء: هي لغة بني أسد. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي عن ابن الأنباري قال: في جبريل تسع لغات، فذكرهنَّ. وذكر ابن الأنباري في كتاب «الرد على من خالف مصحف عثمان» :«جبرائل»، بفتح الجيم وإثبات الألف مع همزة مكسورة ليس بعدها ياء.
وجبرئين، بفتح الجيم مع همزة مكسورة بعدها ياء ونون.
فأما ميكائيل، ففيه خمس لغات: إحداهن: «ميكال»، مثل: مِفعال بغير همز، وهي لغة أهل الحجاز، وبها قرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم. والثانية: «ميكائيل» باثبات ياء ساكنة بعد الهمزة، مثل: ميكاعيل، وهي لغة تميم وقيس، وكثير من أهل نجد، وبها قرأ ابن عامر، وابن كثير، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم. والثالثة: «ميكائل» بهمزة مكسورة بعد الألف من غير ياء، مثل ميكاعِل، وبها قرأ نافع وابن شنبوذ، وابن الصباح، جميعاً عن قنبل. والرابعة: «ميكئل»، على وزن ميكعل، وبها قرأ ابن محيصن. والخامسة: «ميكائين» بهمزة معها ياء ونون بعد الألف، ذكرها ابن الأنباري.
قال الكسائي: جبريل وميكائيل، اسمان لم تكن العرب تعرفهما، فلما جاءا عرَّبتهما. قال ابن عباس: جبريل وميكائيل، كقوله: عبد الله، وعبد الرحمن، ذهب إلى أن «إيل» اسم الله، واسم الملك «جبر» و «ميكا». وقال عكرمة: معنى جبريل: عبد الله، ومعنى ميكائيل: عبيد الله. وقد دخل جبريل وميكائيل في الملائكة، لكنه أعاد ذكرهما لشرفهما، كقوله تعالى: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) «١».
وإنما قال: فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ، ولم يقل: لهم، ليدل على أنهم كافرون بهذه العداوة.
(١) الرحمن: ٦٨.
91

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٠ الى ١٠١]

أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١)
قوله تعالى: أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً، الواو واو العطف، أُدخلت عليها ألف الاستفهام. قال ابن عباس ومجاهد: والمشار اليهم: اليهود، وقيل: العهد الذي عاهدوه، أنهم قالوا: والله لئن خرج محمد لنؤمننَّ به. وروي عن عطاء أنها العهود التي كانت بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبينهم، فنقضوها، كفعل قريظة والنضير. ومعنى نبذه: رفضه. قوله تعالى: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ، يعني اليهود.
والكتاب: التوراة. وفي قوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ قولان: أحدهما: أنه القرآن. والثاني: أنه التوراة، لأن الكافرين بمحمد صلّى الله عليه وسلّم قد نبذوا التوراة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٢]
وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢)
قوله تعالى: وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ في سبب نزولها قولان: أحدهما: أن اليهود كانوا لا يسألون النبي عن شيء من التوراة إلا أجابهم، فسألوه عن السحر وخاصموه به، فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية. والثانية: أنه لما ذكر سليمان في القرآن قال يهود المدينة: ألا تعجبون لمحمد يزعم أن ابن داود كان نبياً؟! والله ما كان إلا ساحراً، فنزلت هذه الآية، قاله ابن إسحاق.
و «تتلو» بمعنى: تلت، و «على» بمعنى: «في» قاله المبرد. قال الزجاج وقوله: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ، أي: على عهد ملك سليمان. وفي كيفية ما تلت الشياطين على ملك سليمان ستة أقوال:
أحدها: أنه لما خرج سليمان عن ملكه كتبت الشياطين السحر، ودفنته في مصلاه، فلما توفي استخرجوه، وقالوا: بهذا كان يملك الملك، ذكر هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول مقاتل. والثاني: أن آصف كان يكتب ما يأمر به سليمان، ويدفنه تحت كرسيه، فلما مات سليمان، استخرجته الشياطين، فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكذباً، وأضافوه إلى سليمان، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثالث: أن الشياطين كتبت السحر بعد موت سليمان، ثم أضافته إليه، قاله عكرمة.
والرابع: أن الشياطين ابتدعت السحر، فأخذه سليمان، فدفنه تحت كرسيه لئلا يتعلمه الناس، فلما قبض استخرجته، فعلمته الناس وقالوا: هذا علم سليمان، قاله قتادة. والخامس: أن سليمان أخذ عهود الدواب، فكانت الدابة إذا أصابت إنساناً طلب إليها بذلك العهد، فتخلّي عنه، فزاد السحرة السجع والسحر، قاله أبو مجلز. والسادس: أن الشياطين كانت في عهد سليمان تسترق السمع، فتسمع من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيث أو أمر، فيأتون الكهنة فيخبرونهم، فتحدث الكهنة
92
الناس، فيجدونه كما قالوا، حتى إذا أمنتهم الكهنة كذبوا لهم، وأدخلوا فيه غيره، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة، فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتاب، وفشا في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب، فبعث سليمان في الناس، فجمع تلك الكتاب في صندوق، ثم دفنها تحت كرسيه، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنو من الكرسي إلا احترق، وقال: لا أسمع أحداً يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه. فلما مات سليمان جاء شيطان إلى نفر من بني إسرائيل، فدلهم على تلك الكتاب وقال: إنما كان سليمان يضبط أمر الخلق بهذا ففشا في الناس أن سليمان كان ساحرا، واتخذ بنو إسرائيل تلك الكتاب، فلما جاء محمّد صلّى الله عليه وسلّم، خاصموه بها، هذا قول السّدّيّ.
و «سليمان» : اسم عبراني، وقد تكلمت به العرب في الجاهلية، وقد جعله النابغة سليماً ضرورة، فقال:
ونسج سليم كل قضّاء ذائل «١» واضطر الحطيئة فجعله: سلاَّماً، فقال:
فيه الرماح وفيه كل سابغة جدلاءَ محكمة من نسج سلاَّم
وأرادا جميعاً: داود أبا سليمان، فلم يستقم لهما الشعر، فجعلاه: سليمان وغيّراه. كذلك قرأته على شيخنا أبي منصور اللغوي.
وفي قوله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ دليل على كفر الساحر، لأنهم نسبوا سليمان إلى السحر، لا إلى الكفر. قوله تعالى: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم بتشديد نون (ولكنّ) ونصب نون (الشياطين). وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بتخفيف النون من «لكنْ» ورفع نون «الشياطين». قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ، وقرأ ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، والزهري «الملِكين» بكسر اللام، وقراءة الجمهور أصح. وفي «ما» قولان «٢» : أحدهما: أنها
(١) في «اللسان» : صدر البيت: وكل صموت نثلة تبّعيّة. والصموت: الدروع التي إذا صبت لم يسمع لها صوت.
والقضاء من الدروع: التي فرغ من عملها وأحكمت. والذّائل: الدرع الطويلة الذّيل.
(٢) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في «تفسيره» ١/ ٤٩٧. القول في تأويل قوله تعالى وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ قال أبو جعفر: اختلف أهل العلم في تأويل «ما» التي في قوله: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ فقال بعضهم: معناه الجحد، وهي بمعنى «لم». ذكر من قال ذلك: عن ابن عباس قوله: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ، فإنه يقول: لم ينزل الله السحر.
وعن الربيع بن أنس: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ قال: ما أنزل الله عليهما السحر.
فتأويل الآية على هذا المعنى الذي ذكرناه عن ابن عباس والربيع، من توجيههما معنى قوله وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ إلى: ولم ينزل على الملكين-: واتّبعوا الذي تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر، وما كفر سليمان، ولا أنزل الله السّحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلّمون الناس السحر، بِبابِلَ، هارُوتَ وَمارُوتَ فيكون حينئذ قوله: بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ من المؤخّر الذي معناه التقديم.
فإن قال قائل: وكيف وجه تقديم ذلك؟ قيل: وجه تقديمه أن يقال: واتّبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان من السحر وما أنزل الله السحر على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل، هاروت وماروت. فيكون معنيا ب «الملكين» : جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود، فأكذبهما الله بذلك، وأخبر نبيّه محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر قط، وبرأ سليمان مما نحلوه من السّحر، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين، وأنها تعلّم الناس ذلك ببابل، وأن الذين يعلمانهم ذلك رجلان: اسم أحدهما هاروت، واسم الآخر ماروت. فيكون «هاروت وماروت»، على هذا التأويل، ترجمة على «الناس» وردّا عليهم. وقال آخرون: بل تأويل «ما» التي في قوله: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ- «الذي».
- وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» ٢/ ٥٠- ٥١: قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ «ما» نفي، والواو للعطف على قوله: وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل وميكائيل بالسحر، فنفى الله ذلك. وفي الكلام تقديم وتأخير، التقدير: وما كفر سليمان، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلّمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت، فهاروت وماروت بدل من الشياطين في قوله وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا. هذا أولى ما حملت عليه الآية من التأويل، وأصح ما قيل فيها ولا يلتفت إلى سواه، فالسحر من استخراج الشياطين للطافة جوهرهم، ودقة أفهامهم، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء وخاصة في حال طمثهنّ، قال الله تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ وقال الشاعر:
أعوذ بربي من النّافثات.....
إن قال قائل: كيف يكون اثنان بدلا من جمع والبدل إنما يكون على حدّ المبدل منه، فالجواب من وجوه ثلاثة، الأول: أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع، كما قال تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ ولا يحجبها عن الثلث إلى السدس إلا اثنان من الإخوة فصاعدا والثاني: أنهما لما كانا الرأس في التعليم نصّ عليهما دون أتباعهما كما قال تعالى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ. الثالث: إنما خصّا بالذكر من بينهم لتمردهما، كما قال تعالى: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ وقوله: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ وهذا كثير في القرآن وفي كلام العرب، فقد ينص بالذكر على بعض أشخاص العموم إما لشرفه وإما لفضله، كقوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وقوله: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ وإما لطيبه فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ وإما لأكثريته، كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا» وإما لتمرده وعتوه كما في هذه الآية، والله أعلم. وقد قيل: إن «ما» عطف على السحر وهي مفعولة، فعلى هذا يكون «ما» بمعنى الذي، ويكون السحر منزلا على الملكين فتنة للناس وامتحانا، ولله أن يمتحن عباده بما شاء.
93
معطوفة على «ما» الأولى، فتقديره: واتبعوا ما تتلو الشياطين وما أُنزل على الملكين. والثاني: أنها معطوفة على السحر، فتقديره: يعلّمون الناس السحر، ويعلمونهم ما أنزل على الملكين. فإن قيل: إذا كان السحر نزل على الملكين، فلماذا ذكره؟ فالجواب من وجهين: ذكرهما ابن السري: أحدهما: أنهما كانا يعلمان الناس: ما السحر، ويأمران باجتنابه، وفي ذلك حكمة لأن سائلاً لو قال: ما الزنى؟
لوجب أن يوقف عليه، ويعلم أنه حرام. والثاني: أنه من الجائز أن يكون الله تعالى امتحن الناس بالملكين، فمن قبل التعلم كان كافراً، ومن لم يقبله فهو مؤمن، كما امتحن بنهر طالوت.
وفي الذي أنزل على الملكين قولان: أحدهما: أنه السحر، روي عن ابن مسعود والحسن، وابن زيد. والثاني: أنه التفرقة بين المرء وزوجه، لا السحر، روي عن مجاهد وقتادة، وعن ابن عباس كالقولين. قال الزجاج: وهذا من باب السحر أيضاً.
(الإشارة إلى قصة الملكين) ذكر العلماء أن الملكين إنما أنزلا إلى الأرض لسبب، وهو أنه لما كثرت خطايا بني آدم دعت عليهم الملائكة، فقال الله تعالى: لو أنزلت الشهوة والشياطين منكم منزلتهما من بني آدم، لفعلتم مثل ما فعلوا، فحدثوا أنفسهم أنهم إن ابتلوا، اعتصموا، فأوحى الله إليهم أن اختاروا من أفضلكم ملكين،
94
فاختاروا هاروت وماروت. وهذا مروي عن ابن مسعود، وابن عباس. واختلف العلماء: ماذا فعلا من المعصية على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما زنيا، وقتلا، وشربا الخمرة، قاله ابن عباس. والثاني: أنهما جارا في الحكم، قاله عبيد الله بن عتبة. والثالث: أنهما هما بالمعصية فقط. ونقل عن عليّ عليه السلام أن الزهرة كانت امرأة جميلة وأنها خاصمت إلى الملكين هارون وماروت، فراودها كل واحد منهما على نفسها، ولم يُعلم صاحبه، وكانا يصعدان السماء آخر النهار، فقالت لهما: بم تهبطان وتصعدان؟ قالا:
باسم الله الأعظم، فقالت: ما أنا بمواتيتكما إلى ما تريدان حتى تعلمانيه، فعلماها إياه، فطارت إلى السماء، فمسخها الله كوكباً «١».
(٢٨) وفي الحديث أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «لعن الزهرة، وقال: إنها فتنت ملَكين»، إلا أن هذه الأشياء
لا أصل له في المرفوع، وإنما هو من الإسرائيليات. ورد مرفوعا وموقوفا ومقطوعا.
- والمرفوع ورد من حديث ابن عمر: أخرجه الطبري ١٦٩١ وابن الجوزي في «الموضوعات» ١/ ٨٦ والذهبي في «الميزان» ٣٥٦٧ من طريق سنيد بن داود عن فرج بن فضالة عن معاوية بن صالح عن نافع عن ابن عمر مرفوعا، وهذا إسناد ساقط قال ابن الجوزي: هذا حديث لا يصح، والفرج بن فضالة قد ضعفه يحيى، وقال ابن حبان: يقلب الأسانيد، ويلزق المتون الواهية بالأسانيد الصحيحة، وأما سنيد، فقد ضعفه أبو داود، وقال النسائي: ليس بثقة اه. وقد استغربه ابن كثير في «تفسيره» ١/ ١٤٣ جدا.
- وورد من وجه آخر أخرجه أحمد ٢/ ١٣٤ والبزار ٢٩٣٨ «كشف» وابن حبان ٦١٨٦ والبيهقي ١/ ٤- ٥ كلهم من طريق يحيى بن أبي بكير عن زهير بن محمد عن موسى بن جبير عن نافع عن ابن عمر مرفوعا بنحوه وأتم، وهذا إسناد ساقط، زهير بن محمد مختلف فيه، وقد ضعفه غير واحد، واتفقوا على أنه روى مناكير، والظاهر أن هذا منها، فقد خالفه موسى بن عقبة، وهو أوثق منه وأحفظ، فجعله عن ابن عمر عن كعب الأحبار. كذا أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ٩٧ وعنه الطبري ١٦٨٧ كلاهما عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر عن كعب الأحبار، وهذا إسناد كالشمس، لا غبار عليه البتة..
وكرره الطبري ١٦٨٨ عن عبد العزيز بن مختار عن موسى به، وقد قدح في رفع الحديث البزار والبيهقي وغيرهما. قال البزار عقب الحديث: رواه بعضهم عن نافع عن ابن عمر موقوفا، وإنما أتى رفع هذا عندي من زهير لأنه لم يكن بالحافظ. وكذا ذكر البيهقي، وهو الذي اختاره ابن كثير في «تفسيره» ١/ ١٤٣ والعجب أن البيهقي أخرجه في «الشعب» ١٦٣، عن موسى بن جبير عن موسى بن عقبة به مرفوعا، لكن فيه محمد بن يونس الكديمي، وهو متروك كذاب، والحمل عليه في هذا الحديث. ثم كرره البيهقي ١٦٤ عن ابن عمر عن كعب الأحبار، وصوّبه.
- وورد حديث ابن عمر من وجه آخر أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» ١/ ١٤٣ وإسناده ساقط فيه موسى بن سرجس، وهو مجهول، وفيه هشام بن علي بن هشام، وثقه ابن حبان وحده على قاعدته في توثيق المجاهيل، وسعيد بن سلمة، وإن روى له مسلم فقد ضعفه النسائي، وجهله ابن معين.
- ولحديث ابن عمر شاهد من حديث علي أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» ١/ ١٨٥- ١٨٦ وقال:
موضوع والمتهم به مغيث قال الأزدي: خبيث كذاب. وبهذا الإسناد أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» ١/ ١٤٣. وكرره ابن مردويه من وجه آخر، وفيه جابر الجعفي، وهو متروك، وقد كذبه أبو حنيفة رحمه الله. قال الحافظ ابن كثير: لا يصح، وهو منكر جدا.
- وقد جاء موقوفا ومقطوعا، فقد أخرجه الطبري ١٦٨٤ عن ابن عباس، وفيه أبو شعبة العدوي، وهو
__________
(١) هذه الآثار جميعا من الإسرائيليات، لا حجة في شيء منها.
95
بعيدة عن الصحة. وتأول بعضهم هذا فقال: إنه لما رأى الكوكب، ذكر تلك المرأة، لا أن المرأة مسخت نجماً. واختلف العلماء في كيفية عذابهما فروي عن ابن مسعود أنهما معلقان بشعورهما إلى يوم القيامة، وقال مجاهد: إن جبّا ملئ ناراً فجعلا فيه.
فأما بابل فروي عن الخليل أن ألسن الناس تبلبلت بها. واختلفوا في حدها على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها: الكوفة وسوادها، قاله ابن مسعود. والثاني: أنها من نصيبين إلى رأس العين، قاله قتادة.
والثالث: أنها جبل في وهدة من الأرض، قاله السدي.
قوله تعالى: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ أي اختبار وابتلاء. قوله تعالى: إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، يريد:
بقضائه. وَلَقَدْ عَلِمُوا: إشارة إلى اليهود لَمَنِ اشْتَراهُ، يعني: اختاره، يريد: السحر. واللام لام اليمين. فأما الخلاق فقال الزجاج: هو النصيب الوافر من الخير. قوله تعالى: وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ، أي: باعوها به، لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ العقاب فيه.
فصل: اختلف الفقهاء في حكم الساحر «١» فمذهب إمامنا أحمد رضي الله عنه أنه يكفر بسحره، قتل به، أو لم يقتل، وهل تقبل توبته؟ على روايتين. وقال الشافعي: لا يكفر بسحره، فان قتل بسحره وقال: سحري يقتل مثله، وتعمدت ذلك، قتل قوداً. وإن قال: قد يقتل، وقد يخطئ، لم يقتل، وفيه الدية. فأما ساحر أهل الكتاب، فانه لا يقتل عند أحمد إلا أن يضر بالمسلمين، فيقتل لنقض العهد، وسواء في ذلك الرجل والمرأة. وقال أبو حنيفة: حكم ساحر أهل الكتاب حكم ساحر المسلمين في
مجهول، وكرره الطبري ١٦٨٥ عن ابن مسعود وابن عباس، وفيه علي بن زيد ضعيف روى مناكير.
- وكرره برقم ١٦٨٦ عن علي، وقد استغربه ابن كثير ١/ ١٤٣ جدا، وأعله ابن حزم في «الملل» بعمير بن سعيد واتهمه بهذا الحديث، وأنه كذب.
- وكرره ١٦٨٩ عن السدي قوله و ١٦٩٠ عن الربيع قوله و ١٦٩٢ عن مجاهد قوله، وهو الراجح.
فهو باطل مرفوعا، وإنما هو عن كعب الأحبار، وعنه أخذه مجاهد وغيره، ولا أصل له في المرفوع، ولهذا لم يروه البغوي مرفوعا، وقد قدح بصحته ابن العربي في «أحكام القرآن» حيث قال: إنما سقنا هذا الخبر لأن العلماء رووه ودونوه، وتحقيق القول أنه لم يصح سنده. ورده القرطبي أيضا في «تفسيره» ٢/ ٥٢ حيث قال:
هذا كله ضعيف، وبعيد عن ابن عمر وغيره، لا يصح منه شيء اه باختصار. وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي بتخريجي رقم ٢٣١ و «تفسير الشوكاني» ٢٠٠ بتخريجي، والله الموفق.
الخلاصة: هو حديث باطل لا أصل له. والظاهر أنه من أساطير الإسرائيليين وافتراءاتهم، ومصدره كعب الأحبار ووهب بن منبه وغيرهما ممن يروي الإسرائيليات.
__________
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٢/ ٢٩٩: السحر: وهو عقد ورقى وكلام يتكلم به أو يكتبه أو يعمل شيئا يؤثر في بدن المسحور، أو قلبه، أو عقله، من غير مباشرة له. وله حقيقة، فمنه ما يقتل وما يمرض، وما يأخذ الرجل عن امرأته فيمنعه وطأها، ومنه ما يفرّق بين المرء وزوجه وما يبغّض أحدهما إلى الآخر، أو يحبب بين الاثنين وهذا قول الشافعي. وذهب بعض أصحابه إلى أنه لا حقيقة له، إنما هو تخييل، لأن الله تعالى قال: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى. وقال أصحاب أبي حنيفة: إن كان شيئا يصل إلى بدن المسحور كدخان ونحوه، جاز أن يحصل منه ذلك، فأما أن يحصل المرض والموت من غير أن يصل إلى بدنه شيء فلا يجوز ذلك.
96
إيجاب القتل، فأما المرأة الساحرة، فقال: تحبس، ولا تقتل «١».
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٤]
وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤)
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا يعني: اليهود، والمثوبة: الثواب. لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ قال الزجاج: أي: يعلمون بعلمهم. قوله تعالى: لا تَقُولُوا راعِنا قرأ الجمهور بلا تنوين، وقرأ الحسن، والأعمش، وابن محيصن «٢» بالتنوين، و «راعنا» بلا تنوين من راعيت، وبالتنوين من الرعونة، قال ابن قتيبة: راعناً بالتنوين: هو اسم مأخوذ من الرعن والرّعونة، أراد: لا تقولوا جهلاً ولا حمقاً.
وقال غيره: كان الرجل إذا أراد استنصات صاحبه، قال: راعني سمعك، فكان المنافقون يقولون:
راعنا، يريدون: أنت أرعن. وقوله: انْظُرْنا بمعنى: انتظرنا، وقال مجاهد: انظرنا: اسمع منّا،
(١) قال القرطبي رحمه الله ٢/ ٤٧: واختلف الفقهاء في حكم الساحر المسلم والذميّ فذهب مالك إلى أن المسلم إذا سحر بنفسه بكلام يكون كفرا، يقتل ولا يستتاب ولا تقبل توبته لأنه أمر يستسر به كالزنديق والزاني، ولأن الله تعالى سمّى السحر كفرا بقوله وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ. وهو قول أحمد بن حنبل وأبي ثور وإسحاق، والشافعي وأبي حنيفة.
وقال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٢/ ٣٠٠: قال أصحابنا: ويكفر الساحر بتعلّمه وفعله، سواء اعتقد تحريمه أو إباحته. وروي عن أحمد ما يدل على أنه لا يكفر فإن حنبلا روي عنه، قال: قال عمّي في العرّاف والكاهن والسّاحر: أرى أن يستتاب من هذه الأفاعيل كلّها فإنه عندي في معنى المرتد، فإن تاب وراجع- يعني- خلّي سبيله. قلت له: يقتل؟ قال: لا، يحبس، لعلّه يرجع. قلت له: لم لا تقتله؟ قال: إذا كان يصلّي، لعلّه يتوب ويرجع. وهذا يدلّ على أنه لم يكفّره، لأنه لو كفّره لقتله. وقوله: في معنى المرتد. يعني في الاستتابة. وقال أصحاب أبي حنيفة: إن اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء، كفر، وإن اعتقد أنّه تخييل لم يكفر. وقال الشافعي: إن اعتقد ما يوجب الكفر، مثل التقرب إلى الكواكب السّبعة، وأنها تفعل ما يلتمس، أو اعتقد حلّ السحر، كفر، لأن القرآن نطق بتحريمه، وثبت بالنقل المتواتر والإجماع عليه، وإلّا فسّق ولم يكفّر لأن عائشة باعت مدبّرة لها سحرتها بمحضر من الصحابة.
- وحدّ الساحر القتل، روي ذلك عن عمر، وعثمان بن عفان، وابن عمر، وحفصة وجندب بن عبد الله، وجندب بن كعب وقيس بن سعد، وعمر بن عبد العزيز. وهو قول أبي حنيفة، ومالك. ولم ير الشافعيّ عليه القتل بمجرد السحر وهو قول ابن المنذر. ورواية عن أحمد ذكرناها فيما تقدّم. ووجه ذلك أن عائشة رضي الله عنها باعث مدبّرة سحرتها، ولو وجب قتلها لما حلّ بيعها، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم إلّا بإحدى ثلاث، كفر بعد إيمان، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حقّ». ولم يصدر منه أحد الثلاثة، فوجب أن لا يحلّ دمه، ولنا ما روى جندب بن عبد الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «حد الساحر، ضربة بالسّيف».
قال ابن المنذر: رواه إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف وأخرجه سعيد في «السنن» ٢/ ٩٠، ٩١ عن بجالة قال: كنت كاتبا لجزء بن معاوية، عمّ الأحنف بن قيس، إذ جاءنا كتاب عمر قبل موته بسنة: اقتلوا كلّ ساحر، فقتلنا ثلاث سواحر في يوم وهذا اشتهر فلم ينكر، فكان إجماعا وقتلت حفصة جارية لها سحرتها وقتل جندب بن كعب ساحرا كان يسحر بين يدي الوليد بن عقبة. ولأنه كافر فيقتل، للخبر الذي رووه. وهل يستتاب الساحر؟ فيه روايتان أحدهما، لا يستتاب، وهو ظاهر ما نقل عن الصحابة، فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه استتاب ساحرا.
(٢) هو الإمام المقرئ محمد بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي، المتوفى سنة ١٢٣.
وقال ابن زيد: لا تعجل علينا. قوله: وَاسْمَعُوا أي: ما تؤمرون به.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٥]
ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥)
قوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ. قال ابن عباس: هم يهود المدينة، ونصارى نجران، فالمشركون مشركو أهل مكة. أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ، أي: على رسولكم. مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ، أراد: النبوة والإسلام. وقال أبو سليمان الدمشقي: أراد بالخير: العلم والفقه والحكمة. وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ. في هذه الرحمة قولان: أحدهما: أنها النبوة، قاله علي بن أبي طالب، ومحمد بن علي بن الحسين، ومجاهد والزجاج. والثاني: أنها الإسلام، قاله ابن عباس ومقاتل.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٧]
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٠٧)
قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ. سبب نزولها: أن اليهود قالت لما نسخت القبلة: إن محمداً يحل لأصحابه إذا شاء، ويحرم عليهم إذا شاء فنزلت هذه الآية. قال الزجاج: النسخ في اللغة: إبطال شيءٍ وإقامة آخر مقامه، تقول العرب: نسخت الشمس الظل: إذا أذهبته وحلت محله. وفي المراد بهذا النسخ ثلاثة أقوال: أحدها: رفع اللفظ والحكم. والثاني: تبديل الآية بغيرها. رويا عن ابن عباس، والأول قول السدي، والثاني قول مقاتل. والثالث: رفع الحكم مع بقاء اللفظ، رواه مجاهد عن أصحاب ابن مسعود، وبه قال أبو العالية. وقرأ ابن عامر: «ما ننسخ» بضم النون، وكسر السين. قال أبو علي: أي: ما نجده منسوخاً كقولك: أحمدت فلاناً، أي: وجدته محموداً، وإنما يجده منسوخاً بنسخه إياه.
قوله تعالى: أَوْ نُنْسِها، قرأ ابن كثير وأبو عمرو: «ننسأها» بفتح النون مع الهمزة، والمعنى:
نؤخرها. قال أبو زيد: نسأت الإبل عن الحوض، فأنا أنسأها: إذا أخرتها، ومنه: النسيئة في البيع.
وفي معنى نؤخرها ثلاثة أقوال: أحدها: نؤخرها عن النسخ فلا ننسخها، قاله الفراء. والثاني: نؤخر إنزالها، فلا ننزلها البتة. والثالث: نؤخرها عن العمل بها بنسخنا إياها، حكاهما أبو علي الفارسي. وقرأ سعد بن أبي وقاص «تنسها» بتاء مفتوحة ونون. وقرأ سعيد بن المسيب والضحاك «تنسها» بضم التاء.
وقرأ نافع: «أو ننسها» بنونين: الأولى مضمومة، والثانية ساكنة. أراد: أو ننسكها، من النسيان.
قوله تعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها، قال ابن عباس: بألين منها، وأيسر على الناس.
قوله تعالى: أَوْ مِثْلِها، أي: في الثواب والمنفعة، فتكون الحكمة في تبديلها بمثلها الاختبار. أَلَمْ تَعْلَمْ لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه التوقيف والتقرير. والملك في اللغة: تمام القدرة واستحكامها، فالله عزّ وجلّ يحكم بما يشاء على عباده ويغيّر ما يشاء من أحكام.

[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٨]

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٠٨)
قوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ. في سبب نزولها خمسة أقوال:
(٢٩) أحدها: أن رافع بن حريملة، ووهب بن زيد، قالا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ائتنا بكتاب نقرؤه تنزله من السماء علينا، وفجّر لنا أنهارا حتى نتبعك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
(٣٠) والثاني: أن قريشا سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، فقال: «هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل» فأبوا. قاله مجاهد.
(٣١) والثالث: أن رجلاً قال: يا رسول الله، لو كانت كفاراتنا ككفارات بني إسرائيل، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا نبغيها، ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، كانوا إذا أصاب أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فان كفرها كانت له خزياً في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزياً في الآخرة، فقد أعطاكم الله خيراً مما أعطى بني إسرائيل، فقال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
(١١٠) «١»
الآية. وقال: «الصّلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة كفّارات لما بينهن» فنزلت هذه الآية، قاله أبو العالية.
(٣٢) والرابع: أن عبد الله بن أبي أميّة المخزوميّ أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في رهط من قريش، فقال: يا محمد، والله لا أؤمن بك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً، فنزلت هذه الآية. ذكره ابن السّائب.
(٣٣) والخامس: أن جماعة من المشركين جاءوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال بعضهم: لن نؤمن لك حتى تفجِّر لنا من الأرض ينبوعاً. وقال آخر: لن أؤمن حتى تسير لنا جبال مكة، وقال عبد الله بن أبي أمية: لن أؤمن لك حتى تأتي بكتاب من السماء، فيه: من الله ربّ العالمين إلى ابن أمية: اعلم أني قد أرسلت محمدا إلى الناس. وقال آخر: هلا جئت بكتابك مجتمعاً، كما جاء موسى بالتوراة. فنزلت هذه الآية. ذكره محمّد بن إسحاق الأنباري.
وفي المخاطبين بهذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم قريش، قاله ابن عباس ومجاهد. والثاني:
ضعيف. أخرجه الطبري ١٧٨٠ عن ابن عباس. وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري ١٧٨٣ و ١٧٨٤ عن مجاهد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث. ثم إن السورة مدنية، وسياق الخبر يدل على أنه مكي؟!.
ضعيف. أخرجه الطبري ١٧٨٦ عن أبي العالية مرسلا. والمرسل من قسم الضعيف. لكن قوله:
«والصلوات.... بينهن» ورد في أحاديث أخر. وانظر «تفسير الشوكاني» ١/ ١٥٠ بتخريجنا.
لا أصل له، ذكره الواحدي نقلا عن المفسرين بلا سند في «أسباب النزول» ٥٠.
- وعزاه المصنف لابن السائب، وهو الكلبي، وقد كذبه غير واحد، ورواياته ساقطة ليست بشيء.
- ثم إن السورة مدنية، وسياق الخبر أنه مكي؟!.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٥٠ بلا سند نقلا عن المفسرين. فهو كسابقه.
__________
(١) النساء: ١١٠.
اليهود، قاله مقاتل. والثالث: جميع العرب، قاله أبو سليمان الدمشقي.
وفي أَمْ قولان: أحدهما: أنها بمعنى: بل، تقول العرب: هل لك عليَّ حق، أم أنت معروف بالظلم. يريدون: بل أنت. وأنشدوا:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أم أنت في العين أملح
ذكره الفرّاء والزّجّاج. والثاني: أنها بمعنى الاستفهام. فان اعترض معترض، فقال: إنما تكون للاستفهام إذا كانت مردودة على استفهام قبلها، فأين الاستفهام الذي تقدمها؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنه قد تقدمها استفهام، وهو قوله: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ذكره الفراء، وكذلك قال ابن الأنباري: هي مردودة على الألف في: أَلَمْ تَعْلَمْ، فإن اعترض على هذا الجواب، فقيل: كيف يصح العطف ولفظ: أَلَمْ تَعْلَمْ ينبئ عن الواحد، وتُرِيدُونَ عن جماعة؟
فالجواب: أنه إنما رجع الجواب من التوحيد إلى الجمع، لأن ما خوطب به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقد خوطبت به أمته، فاكتفى به من أمته في المخاطبة الأولى، ثم أظهر المعنى في المخاطبة الثانية. ومثل هذا قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ «١». ذكر هذا الجواب ابن الأنباري.
فأما الجواب الثاني عن أَمْ فهو أنها للاستفهام، وليست مردودة على شيء. قال الفراء: إذا توسط الاستفهام الكلام ابتدئ بالألف وبأم، وإذا لم يسبقه كلام لم يكن إلا بالألف أو ب «هل».
وقال ابن الأنباري: «أم» جارية مجرى «هل»، غير أن الفرق بينهما: أن «هل» استفهام مبتدأ، لا يتوسط ولا يتأخر، و «أم» : استفهام متوسط، لا يكون إلا بعد كلام.
فأما الرسول ها هنا: فهو: محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والذي سئل موسى من قبل قولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «٢»، وهل سألوا ذلك نبياً أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنهم سألوا ذلك، فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى...
تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا «٣»، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم بالغوا في المسائل، فقيل لهم بهذه الآية:
لعلكم تريدون أن تسألوا محمداً أن يريكم الله جهرة، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والكفر: الجحود. والإيمان: التصديق. وقال أبو العالية: المعنى: ومن يتبدل الشدة بالرّخاء.
وسواء السبيل: وسطه.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٠٩]
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٩)
قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(٣٤) أحدها: أن حيي بن أخطب، وأبا ياسر كانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عبّاس.
ضعيف. أخرجه الطبري ١٧٩١ عن ابن عباس، وفيه محمد بن أبي محمد، شيخ ابن إسحاق، وهو مجهول.
__________
(١) الطلاق: ١.
(٢) النساء: ١٥٣. [.....]
(٣) الإسراء: ٩٠- ٩٢.
(٣٥) والثاني: أن كعب بن الأشرف كان يهجو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويحرض عليه كفار قريش في شعره، وكان المشركون واليهود من أهل المدينة يؤذون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين قدمها، فأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالصفح عنهم، فنزلت هذه الآية، قاله عبد الله بن كعب بن مالك.
(٣٦) والثالث: أن نفراً من اليهود دعوا حذيفة وعماراً إلى دينهم، فأبيا، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
ومعنى وَدَّ: أحب وتمنى. وأَهْلِ الْكِتابِ: اليهود. قال الزجاج: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ موصول: ب وَدَّ كَثِيرٌ، لا بقوله: حَسَداً، لأن حسد الإنسان لا يكون إلا من عند نفسه.
والمعنى: مودتهم لكفركم من عند أنفسهم، لا أنه عندهم الحق. فأما الحسد: فهو تمني زوال النعمة عن المحسود، وإن لم يصر للحاسد مثلها، وتفارقه الغبطة، فانها تمني مثلها من غير حب زوالها عن المغبوط. وحد بعضهم الحسد، فقال: هو أذى يلحق بسبب العلم بحسن حال الأخيار، ولا يجوز أن يكون الفاضل حسوداً، لأن الفاضل يجري على ما هو الجميل. وقال بعض الحكماء: كل أحد يمكن أن ترضيه إلا الحاسد، فانه لا يرضيه إلا زوال نعمتك. وقال الأصمعي: سمعت أعرابياً يقول: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من الحاسد، حزن لازم، ونفس دائم، وعقل هائم، وحسرة لا تنقضي. قوله تعالى: حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ، قال ابن عباس: فجاء الله بأمره في النضير بالجلاء والنفي، وفي قريظة بالقتل والسبي.
فصل: وقد روي عن ابن عباس وابن مسعود، وأبي العالية، وقتادة رضي الله عنهم: أن العفو والصفح منسوخ بقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ «١»، وأبى هذا القول جماعة من المفسرين والفقهاء، واحتجوا بأن الله لم يأمر بالصفح والعفو مطلقاً، وإنما أمر به إلى غاية، وما بعد الغاية يخالف حكم ما قبلها، وما هذا سبيله لا يكون من باب المنسوخ، بل يكون الأول قد انقضت مدته بغايته، والآخر يحتاج إلى حكم آخر.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٠]
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٠)
قوله تعالى: تَجِدُوهُ، أي: تجدوا ثوابه.
مرسل. أخرجه أبو داود ٣٠٠٠ والواحدي في «أسباب النزول» ٥٢ من طريق الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه، ورجاله رجال الشيخين إلّا أنه مرسل.
لا أصل له. ذكره الزمخشري في «الكشاف» ١/ ١٧٩، وقال الحافظ في تخريجه: لم أجده مسندا، وهو في تفسير الثعلبي كذلك بلا سند ولا راو.
- قلت: عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيثما أطلق، وهو كذاب. وخبره هذا لا أصل له.
__________
(١) التوبة: ٢٩.

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١١١ الى ١١٣]

وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١١١) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١١٢) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١١٣)
قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى. قال ابن عباس:
(٣٧) اختصم يهود المدينة ونصارى نجران عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالت اليهود: ليست النصارى على شيء، ولا يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وكفروا بالإنجيل وعيسى، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء، وكفروا بالتوراة وموسى، فقال الله تعالى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ.
واعلم أن الكلام في هذه الآية مجمل ومعناه: قالت اليهود لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً.
وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إِلا من كان نصرانياً. والهود، جمع: هائد. تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ، أي: ذاك شيء يتمنونه، وظن يظنونه، هذا معنى قول ابن عباس، ومجاهد. قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ، أي: حجتكم إن كنتم صادقين بأن الجنة لا يدخلها إلا من كان هوداً أو نصارى. ثم بين الله تعالى أن ليس كما زعموا، فقال: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ، وأسلم، بمعنى: أخلص. وفي الوجه قولان:
أحدهما: أنه الدين. والثاني: العمل.
قوله تعالى: وَهُوَ مُحْسِنٌ، أي: في عمله، فَلَهُ أَجْرُهُ، قال الزجاج: يريد: فهو يدخل الجنة. قوله تعالى: وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ، أي: كل منهم يتلو كتابه بتصديق ما كفر به، قاله السدي، وقتادة. كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، وفيهم قولان: أحدهما: أنهم مشركو العرب قالوا لمحمد وأصحابه: لستم على شيء، قاله السدي عن أشياخه. والثاني: أنهم أمم كانوا قبل اليهود والنصارى، كقوم نوح وهود وصالح، قاله عطاء. قوله تعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، قال الزجاج: يريد حكم الفصل بينهم، فيريهم من يدخل الجنة عياناً، ومن يدخل النار عياناً، فأما الحكم بينهم في العقد فقد بينه لهم في الدنيا بما أقام على الصواب من الحجج.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٤]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١٤)
قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ، اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما: أنها نزلت في الروم، كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا، فخرب وطرحت الجيف فيه، قاله ابن عباس في آخرين. والثاني: أنها في المشركين
ضعيف. أخرجه الطبري في «تفسيره» ١٨١٣ وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد.
وانظر «تفسير القرطبي» ٦٢٧ بتخريجنا.
الذين حالوا بين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين مكة يوم الحديبية، قاله ابن زيد.
وفي المراد بخرابها قولان: أحدهما: أنه نقضها. والثاني: منع ذكر الله فيها.
قوله تعالى: أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ، فيه قولان: أحدهما: أنه إخبار عن أحوالهم بعد ذلك. قال السدي: لا يدخل رومي بيت المقدس إلا وهو خائف أن يضرب عنقه، أو قد أخيف بأداء الجزية. والثاني: أنه خبر في معنى الأمر، تقديره: عليكم بالجد في جهادهم كي لا يدخلها أحدٌ إلا وهو خائف. لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن خزيهم الجزية، قاله ابن عباس. والثاني: أنه فتح القسطنطينة، قاله السدي. والثالث: أنه طردهم عن المسجد الحرام، فلا يدخله مشرك أبداً ظاهراً، قاله ابن زيد.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٥]
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥)
قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. في نزولها أربعة أقوال:
(٣٨) أحدها: أن الصحابة كانوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة في ليلة مظلمة، فلم يعرفوا القبلة، فجعل كل واحد منهم مسجداً بين يديه وصلى، فلما أصبحوا إذا هم على غير القبلة، فذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله تعالى هذه الآية. رواه عامر بن ربيعه.
(٣٩) والثاني: أنها نزلت في التطوع بالنافلة. قاله ابن عمر.
(٤٠) والثالث: أنه لما نزل قوله تعالى: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «١»، قالوا: إلى أين؟ فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.
(٤١) والرابع: أنه لما مات النجاشي، وأمرهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالصلاة عليه قالوا: إنه كان لا يصلي إلى القبلة فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
حسن بشواهده. أخرجه الترمذي ٣٤٥- ٢٩٥٧ وابن ماجة ١٠٢٠ والدارقطني ١/ ٢٧٢ والبيهقي في السنن ٢/ ١١ والعقيلي في الضعفاء ١/ ٣١ وأبو نعيم ١/ ١٧٩ والطبري ١٨٤٣ و ١٨٤٥ وفيه أشعث بن سعيد، وبه أعله الترمذي وتوبع عند الطيالسي وإنما علته عاصم بن عبيد الله، وهو واه.
وورد من حديث جابر أخرجه الدارقطني ١/ ٧٢ والحاكم ١/ ٢٠٦ والبيهقي ٢/ ١٠- ١٢ وإسناده ضعيف لضعف أبي سهل. وورد من طرق واهية تبلغ درجة الحسن أو تقرب من الحسن كما قال ابن كثير ١/ ١٦٣.
صحيح. أخرجه البخاري ١٠٩٦ ومسلم ٧٠٠ ومالك ١/ ١٥١ وأحمد ٢/ ٦٦ وأبو داود ١٢٢٤ والنسائي ١/ ٢٤٣ وابن الجارود ٢٧٠ وابن حبان ٢٥١٧ والبيهقي ٢/ ٤. عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي، وهو مقبل من مكة إلى المدينة، على راحلته حيث كان وجهه قال: وفيه نزلت فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ واللفظ لمسلم. وانظر «تفسير القرطبي» ٢/ ٧٨.
ضعيف أخرجه الطبري ١٨٤٩ عن مجاهد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف وهو بهذا اللفظ منكر.
ضعيف. أخرجه الطبري ١٨٤٦ عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف بهذا اللفظ. وكونه عليه السّلام صلّى على النجاشي دون نزول الآية. أخرجه البخاري ١٣١٧ و ١٣٢٠ ومسلم ٩٥٢ من حديث جابر.
__________
(١) غافر: ٦٠.
قوله تعالى: فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ، فيه قولان: أحدهما: فثم الله، يريد: علمه معكم أين كنتم. وهذا قول ابن عباس، ومقاتل. والثاني: فثم قبلة الله، قاله عكرمة، ومجاهد. والواسع: الذي وسع غناه مفاقر عباده، ورزقه جميع خلقه. والسعة في كلام العرب: الغنى.
فصل: وهذه الآية مستعملة الحكم في المجتهد إذا صلى إلى غير القبلة، وفي صلاة المتطوع على الراحلة، والخائف. وقد ذهب قوم إلى نسخها، فقالوا: إنها لما نزلت توجه رسول الله إلى بيت المقدس، ثم نسخ ذلك بقوله: وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ «١»، وهذا مروي عن ابن عباس.
قال شيخنا علي بن عبيد الله: وليس في القرآن أمر خاص بالصلاة إلى بيت المقدس، وقوله: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ليس صريحاً بالأمر بالتوجه إلى بيت المقدس، بل فيه ما يدل على أن الجهات كلها سواء في جواز التوجه إليها، فإذا ثبت هذا، دل على أنه وجب التوجه إلى بيت المقدس بالسّنّة، ثم نسخ بالقرآن.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٦]
وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦)
قوله تعالى: وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً. اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال: أحدها: أنها نزلت في اليهود إذ جعلوا عزيراً ابن الله، قاله ابن عباس. والثاني: أنها نزلت في نصارى نجران حيث قالوا:
عيسى ابن الله، قاله مقاتل. والثالث: أنها في النصارى ومشركي العرب، لأن النصارى قالت: عيسى ابن الله، والمشركين قالوا: الملائكة بنات الله، ذكره إبراهيم بن السري. والرابع: أنها في اليهود والنصارى ومشركي العرب، ذكره الثعلبي.
فأما القنوت فقال الزجاج: هو في اللغة بمعنيين: أحدهما: القيام. والثاني: الطاعة. والمشهور في اللغة والاستعمال أن القنوت: الدعاء في القيام، فالقانت: القائم بأمر الله. ويجوز أن يقع في جميع الطاعات، لأنه إن لم يكن قيام على الرجلين، فهو قيام بالنية. وقال ابن قتيبة: لا أرى أصل القنوت إلا الطاعة، لأن جميع الخلال من الصلاة، والقيام فيها والدعاء وغير ذلك يكون عنها. وللمفسرين في المراد بالقنوت هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الطاعة، قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة.
والثاني: أنه الإقرار بالعبادة، قاله عكرمة، والسدي. والثالث: القيام، قاله الحسن، والربيع. وفي معنى القيام قولان: أحدهما: أنه القيام له بالشهادة بالعبودية. والثاني: أنه القيام بين يديه يوم القيامة. فان قيل: كيف عمَّ بهذا القول وكثير من الخلق ليس له بمطيع؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن يكون ظاهرها ظاهر العموم، ومعناها معنى الخصوص. والمعنى: كل أهل الطاعة له قانتون. والثاني: أن الكفار تسجد ظلالهم لله بالغدوات والعشيات، فنسب القنوت إليهم بذلك. والثالث: أن كل مخلوق قانت له بأثر صنعه فيه، وجري أحكامه عليه، فذلك دليل على ذلّه لربّه. ذكرهنّ ابن الأنباريّ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٧]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧)
قوله تعالى: بَدِيعُ السَّماواتِ. البديع: المبدع، وكل من أنشأ شيئاً لم يسبق إليه قيل له:
(١) البقرة: ١٤٤.
أبدعت. قال الخطابي: البديع، فعيل بمعنى: مفعل، ومعناه: أنه فطر الخلق مخترعاً له لا على مثال سبق. قوله تعالى: وَإِذا قَضى أَمْراً، قال ابن عباس: معنى القضاء: الإرادة. وقال مقاتل: إذا قضى أمراً في علمه، فإنما يقول له: كن فيكون. والجمهور على ضم نون فَيَكُونُ، بالرفع على القطع.
والمعنى: فهو يكون. وقرأ ابن عامر بنصب النون. قال مكيّ بن أبي طالب: النصب على الجواب ل «كن»، وفيه بعد.
فصل: وقد استدل أصحابنا على قدم القرآن بقوله: كُنْ فقالوا: لو كانت «كن» مخلوقة لافتقرت إلى إيجادها بمثلها وتسلسل ذلك، والتّسلسل محال «١». فان قيل: هذا خطاب لمعدوم فالجواب أنه خطاب تكوين يُظهر أثر القدرة، ويستحيل أن يكون المخاطب به موجوداً، لأنه بالخطاب كان، فامتنع وجوده قبله أو معه. ويحقق هذا أن ما سيكون متصوّر العلم فضاهى بذلك الموجود، فجاز خطابه لذلك.
[سورة البقرة (٢) : آية ١١٨]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨)
قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ، فيهم ثلاثة أقوال «٢» : أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس. والثاني: النصارى، قاله مجاهد. والثالث: مشركو العرب، قاله قتادة، والسدي عن أشياخه. ولَوْلا بمعنى: هلا.
وفي الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، ومجاهد.
والثاني: اليهود والنصارى، قاله السدي عن أشياخه. والثالث: اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار، قاله قتادة «٣». تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ، أي: في الكفر.
(١) لأنه يؤدي إلى حوادث لا أول لها.
(٢) قال ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره ١/ ٥٦٠: وأولى هذه الأقوال بالصّحة والصواب قول القائل: إن الله عنى بقوله: وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ النصارى دون غيرهم لأن ذلك في سياق خبر الله عنهم، وعن افترائهم عليه، وادّعائهم له ولد. وقال ابن كثير رحمه الله ١/ ١٦١: وفي ذلك نظر وحكى القرطبي لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أي يخاطبنا بنبوتك يا محمد (قلت) وهو ظاهر السياق والله أعلم.
(٣) قال ابن كثير رحمه الله ١/ ١٦١: وقال قتادة في تفسير هذه الآية: هذا قول كفار العرب كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ قال هم اليهود والنصارى ويؤيد القول وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب قوله تعالى:
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ. وقوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى قوله قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا. وقوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا إلى غير ذلك من الآيات الدّالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به إنما هو الكفر والمعاندة كما قال من قبلهم من الأمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم كما قال تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً. وقوله تعالى: كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ أَتَواصَوْا بِهِ.

[سورة البقرة (٢) : آية ١١٩]

إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩)
قوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ. في سبب نزولها قولان:
(٤٢) أحدهما: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال يوماً: «ليت شعري ما فعل أبواي!»، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
(٤٣) والثاني: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لو أنزل الله بأسه باليهود لآمنوا» فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
وفي المراد بِالْحَقِّ هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه القرآن، قاله ابن عباس. والثاني: الإسلام، قاله ابن كيسان. والثالث: الصّدق. قوله تعالى: وَلا تُسْئَلُ، قرأه الأكثرون بضم التاء، على الخبر، والمعنى: لست بمسؤول عن أعمالهم. وقرأ نافع ويعقوب بفتح التاء وسكون اللام، على السؤال عنهم. وجوز أبو الحسن الأخفش أن يكون معنى هذه القراءة: لا تسأل عنهم فإنهم في أمر عظيم، فيكون ذلك على وجه التعظيم لما هم فيه، فأما الجحيم فقال الفرّاء: النّار على النار والجمر على الجمر. وقال أبو عبيدة: الجحيم: النار المستحكمة المسلّطة. وقال الزجاج: الجحيم: النار الشديدة الوقود، وقد جحم فلان النار: إذا شدد وقودها، ويقال لعين الأسد: حجمة لشدة توقدها. ويقال لوقود الحرب، وهو شدة القتال فيها: جاحم. وقال ابن فارس: الجاحم: المكان الشديد الحر. قال الأعشى:
يُعدون للهيجاء قبل لقائها غداة احتضار البأس والموت جاحم
ولذلك سميت الجحيم. وقال ابن الأنباري: قال أحمد بن عبيد: إنما سميت النار جحيماً، لأنها أكثر وقودها، من قول العرب: جحمت النار أجحمها: إذا أكثرت لها الوقود. قال عمران بن حطان:
يرى طاعة الله الهدى وخلافه الضّلالة يصلي أهلها جاحم الجمر
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٠]
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠)
قوله تعالى: وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى. في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(٤٤) أحدها: أن يهود المدينة ونصارى نجران كانوا يرجون أن يصلّي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى قبلتهم، فلمّا
ضعيف. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ١٢٦ والطبري ١٨٧٧ و ١٨٧٨ كلاهما من حديث محمد بن كعب القرظي مرسلا. وذكره السيوطي في «الدر» ١/ ٢٠٩ وزاد نسبته إلى وكيع وسفيان وعبد بن حميد وابن المنذر وفي إسناده موسى بن عبيدة الربذي ضعيف جدا كما في «التقريب». وذكره العقيلي في «الضعفاء» وابن حبان في «المجروحين» وضعفه ابن كثير ١/ ١٦٢ والسيوطي في «الدر» وقال: هذا مرسل ضعيف الإسناد. وله شاهد آخر أخرجه الطبري ١٨٧٩ مرسلا عن داود بن أبي عاصم. وذكره السيوطي في «الدر» وقال: والآخر معضل الإسناد ضعيف لا يقوم به ولا بالذي قبله حجة. وعزاه الواحدي في «أسباب النزول» ٦٤ لابن عباس بدون إسناد فالمتن ضعيف.
ضعيف جدا، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٦٥ بلا سند عن مقاتل، فهو واه، وتقدم الكلام على مقاتل.
واه بمرة، أخرجه الثعلبي كما في «أسباب النزول» ٥٩ للسيوطي. عن ابن عباس، ولم أقف على إسناده، وتفرد الثعلبي به دليل وهنه، فإنه يروي عن المتروكين والكذابين من غير تعمد، وإنما هو كحاطب ليل كما وصفه بذلك الإمام ابن تيمية في كتابه «مقدمة في أصول التفسير».
صرف إلى الكعبة يئسوا منه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم دعوه إلى دينهم، فنزلت، قاله مقاتل. والثالث: أنهم كانوا يسألونه الهدنة، ويطمعونه في أنه إن هادنهم وافقوه فنزلت، ذكر معناه الزجاج.
قال الزجاج: والملة في اللغة: السنة والطريقه «١». قال ابن عباس: وهُدَى اللَّهِ هاهنا:
الإسلام. وفي الذي جاءه من العلم أربعة أقوال: أحدها: أنه التحول إلى الكعبة، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه البيان بأن دين الله الإسلام. والثالث: أنه القرآن. والرابع: العلم بضلالة القوم. ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ ينفعك وَلا نَصِيرٍ يمنعك من عقوبته.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢١ الى ١٢٤]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)
قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ. اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها نزلت في الذين آمنوا من اليهود، قاله ابن عباس. والثاني: في المؤمنين من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله عكرمة، وقتادة. وفي الكتاب قولان: أحدهما: أنه القرآن، قاله قتادة. والثاني: أنه التوراة، قاله مقاتل.
قوله تعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ، أي: يعملون به حق عمله، قاله مجاهد. قوله تعالى: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ في هاء بِهِ قولان: أحدهما: أنها تعود على الكتاب. والثاني: على النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم. وما بعد هذا قد سبق بيانه إلى قوله: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ، والابتلاء: الاختبار. وفي إبراهيم ست لغات: أحدها: إِبراهيم، وهي اللغة الفاشية. والثانية: إبراهُم. والثالثة: ابراهَم. والرابعة: إِبراهِمْ، ذكرهن الفراء. والخامسة: إِبراهام. والسادسة: إِبرهم. قال عبد المطلب:
عذت بما عاذ به إِبرهم مستقبل الكعبة وهو قائم
وقال أيضا:
نحن آل الله في كعبته لم يزل ذاك على عهد ابرهم
(١) قال القرطبي رحمه الله ٢/ ٩١: والملّة: اسم لما شرعه الله لعباده في كتبه وعلى ألسنة رسله: فكانت الملّة والشريعة سواء. فأما الدين فقد فرّق بينه وبين الملّة والشريعة، فإن الملّة والشريعة ما دعا الله عباده إلى فعله، والدّين ما فعله العباد عن أمره. تمسّك بهذه الآية جماعة من العلماء منهم أبو حنيفة والشافعي وداود وأحمد بن حنبل على أن الكفر كله ملة واحدة لقوله تعالى مِلَّتَهُمْ فوحّد الملّة وبقوله تعالى لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ وبقوله عليه السّلام: «لا يتوارث أهل ملتين» على أن المراد به الإسلام والكفر بدليل قوله عليه السّلام: «لا يرث المسلم الكافر». وذهب مالك وأحمد في الرواية الأخرى إلى أن الكفر ملل فلا يرث اليهودي النصراني، ولا يرثان المجوسي، أخذا بظاهر قوله عليه السّلام: «لا يتوارث أهل ملتين».
107
وفي الكلمات خمسة أقوال: أحدها: أنها خمس في الرأس، وخمس في الجسد. أما التي في الرأس، فالفرق، والمضمضة، والاستنشاق، وقص الشارب، والسواك. وفي الجسد: تقليم الأظافر، وحلق العانة، ونتف الإبط، والاستطابة بالماء، والختان، رواه طاوس عن ابن عباس. والثاني: أنها عشر ست في الإنسان، وأربع في المشاعر، فالتي في الإنسان: حلق العانة، ونتف الإبط، وتقليم الأظافر، وقص الشارب، والسواك، والغسل من الجنابة، والغسل يوم الجمعة. والتي في المشاعر:
الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة. رواه حنش بن عبد الله عن ابن عباس. والثالث: أنها المناسك، رواه قتادة عن ابن عباس. والرابع: أنه ابتلاه بالكوكب، والشمس، والقمر، والهجرة، والنار، وذبح ولده، والختان، قاله الحسن. والخامس: أنها كل مسألة في القرآن، مثل قوله: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً «١»، ونحو ذلك، قاله مقاتل. فمن قال: هي أفعال فعلها قال: معنى فَأَتَمَّهُنَّ: عمل بهن. ومن قال: هي دعوات ومسائل قال: معنى فَأَتَمَّهُنَّ: أجابه الله إليهن. وقد روي عن أبي حنيفة أنه قرأ «٢» «إبراهيم» برفع الميم «ربه» بنصب الباء، على معنى: اختبر ربه هل يستجيب دعاءه، ويتخذه خليلاً أم لا؟
قوله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي، في الذرية قولان: أحدهما: أنها فعلية من الذر، لأن الله أخرج الخلق من صلب آدم كالذر. والثاني: أن أصلها ذرُّورة، على وزن: فعلولة، ولكن لما كثر التضعيف أبدل من الراء الأخيرة ياءً، فصارت: ذروية، ثم أدغمت الواو في الياء، فصارت: ذرية، ذكرهما الزجاج، وصوب الأول. وفي العهد هاهنا سبعة أقوال: أحدها: أنه الإمامة «٣»، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وسعيد بن جبير. والثاني: أنه الطاعة، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: الرحمة، قاله عطاء وعكرمة. والرابع: الدين، قاله أبو العالية. والخامس: النبوة، قاله السدي عن أشياخه.
والسادس: الأمان، قاله أبو عبيدة. والسابع: الميثاق، قاله ابن قتيبة، والأول أصح. وفي المراد بالظالمين هاهنا قولان: أحدهما: أنهم الكفار، قاله ابن جبير، والسدي. والثاني: العصاة، قاله عطاء.
(١) إبراهيم: ٣٥.
(٢) قال أبو العلاء الواسطي: إن الخزاعي وضع كتابا في الحروف نسبه إلى أبي حنيفة، فأخذت خط الدارقطني وجماعة أن الكتاب موضوع لا أصل له. قال ابن الجزري: وقد رأيت الكتاب المذكور، ومنه إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ برفع الهاء ونصب الهمزة، وقد راج ذلك على أكثر المفسرين، ونسبها إليه، وتكلف توجيهها، وإن أبا حنيفة لبريء منها. انظر «النشر في القراآت العشر» لابن الجزري ١/ ١٦.
(٣) فائدة: قال الزمخشري رحمه الله في «الكشاف» ١/ ٢١١: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وقرئ «الظالمون»، أي من كان ظالما من ذريتك لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالإمامة، وإنما ينال من كان عادلا بريئا من الظلم وقالوا: في هذا دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة. وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته. ولا تجب طاعته، ولا يقبل خبره، ولا يقدّم للصلاة. وكان أبو حنيفة رحمه الله يفتي سرا بوجوب نصرة زيد بن عليّ رضوان الله عليهما، وحمل المال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمي بالإمام والخليفة، كالدوانيقي وأشباهه. وقالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن الحسن حتى قتل. فقال: ليتني مكان ابنك. وكان يقول في المنصور وأشياعه: لو أرادوا بناء مسجد وأرادوني على عدّ آجره لما فعلت. وعن ابن عيينة: لا يكون الظالم إماما قط. وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة والإمام إنما هو لكف الظلمة. فإذا نصب من كان ظالما في نفسه فقد جاء المثل السائر: من استرعى الذئب ظلم.
108

[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٥]

وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥)
قوله تعالى: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ، البيت هاهنا: الكعبة، والألف واللام تدخل للمعهود، أو للجنس، فلما علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس انصرف إلى المعهود، قال الزجاج:
والمثاب والمثابة واحد، كالمقام والمقامة، قال ابن قتيبة: والمثابة: المعاد، من قولك: ثبت إلى كذا، أي: عدت إليه، وثاب إليه جسمه إذا رجع بعد العلّة، فأراد: أن الناس يعودون إليه مرة بعد مرة. قوله تعالى: وَأَمْناً، قال ابن عباس: يريد أن من أحدث حدثاً في غيره، ثم لجأ إليه فهو آمن، ولكن ينبغي لأهل مكة أن لا يبايعوه، ولا يطعموه، ولا يسقوه، ولا يؤووه، ولا يكلم حتى يخرج، فاذا خرج أقيم عليه الحد «١». قال القاضي أبو يعلى: وصف البيت بالأمن، والمراد جميع الحرم كما قال:
هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ، والمراد: الحرم كله لأنه لا يذبح في الكعبة، ولا في المسجد الحرام، وهذا على طريق الحكم، لا على وجه الخبر فقط.
وفي مَقامِ إِبْراهِيمَ، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحرم كله، قاله ابن عباس. والثاني: عرفة والمزدلفة والجمار، قاله عطاء. وعن مجاهد كالقولين. وقد روي عن ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، قالوا: الحج كله مقام إبراهيم. والثالث: الحجر، قاله سعيد بن جبير، وهو الأصح.
(٤٥) قال عمر بن الخطاب: قلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلّى، فنزلت.
وفي سبب وقوف إبراهيم على الحجر قولان: أحدهما: أنه جاء يطلب ابنه إسماعيل، فلم يجده، فقالت له زوجته: انزل، فأبى، فقالت: فدعني أغسل رأسك، فأتته بحجر فوضع رجله عليه، وهو راكب، فغسلت شقه، ثم رفعته وقد غابت رجله فيه، فوضعته تحت الشق الآخر وغسلته، فغابت رجله فيه، فجعله الله من شعاره، ذكره السدي عن ابن مسعود وابن عباس. والثاني: أنه قام على الحجر لبناء البيت، وإسماعيل يناوله الحجارة، قاله سعيد بن جبير.
صحيح. أخرجه البخاري ٤٠٢ و ٤٤٨٣ و ٤٧٩٠ و ٤٩١٦ ومسلم ٢٣٩٩ والترمذي ٢٩٥٩ و ٢٩٦٠ والنسائي في «التفسير» ١٨ وابن ماجة ١٠٠٩ رووه عن أنس عن عمر قال: «وافقت ربي في ثلاث: قلت يا رسول الله لو اتخذنا مقام إبراهيم مصلّى فنزلت وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وآية الحجاب، قلت يا رسول الله لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنّه يكلّمهن البرّ والفاجر، فنزلت آية الحجاب واجتمع نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في الغيرة عليه فقلت لهن: عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ فنزلت هذه الآية».
__________
(١) قال القرطبي رحمه الله ٢/ ١١١: قوله تعالى وَأَمْناً استدل به أبو حنيفة وجماعة من فقهاء الأمصار على ترك إقامة الحدّ في الحرم على المحصن والسارق إذا لجأ إليه، وعضدوا ذلك بقوله تعالى: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً كأنه قال: أمنوا من دخل البيت. والصحيح إقامة الحدود في الحرم، وأن ذلك من المنسوخ لأن الاتفاق حاصل أنه لا يقتل في البيت ويقتل خارج البيت. وإنما الخلاف هل يقتل في الحرم أم لا؟. والحرم لا يقع عليه اسم البيت حقيقة. وقد أجمعوا أنه لو قتل في الحرم قتل به. وقال أبو حنيفة: لا يقتل فيه ولا يتابع ولا يزال يضيق عليه حتى يموت أو يخرج.
قرأ الجمهور، منهم: ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي: وَاتَّخِذُوا بكسر الخاء على الأمر. وقرأ نافع، وابن عامر بفتح الخاء على الخبر.
(٤٦) قال ابن زيد: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أين ترون أن أصلّي بكم» ؟ فقال عمر: إلى المقام، فنزلت:
وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى. قال: رضي الله ذلك من أعمالهم. وقال أبو علي: وجه فتح الخاء أنه معطوف على ما أُضيف إليه، كأنه قال: وإذ اتخذوا. ويؤكد الفتح في الخاء أن الذي بعده خبر، وهو قوله: وَعَهِدْنا.
قوله تعالى: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ، أي: أمرناهما وأوصيناهما. وإِسماعيل: اسم أعجمي، وفيه لغتان: إسماعيل، و: إسماعين. وأنشدوا:
قال جواري الحي لما جينا هذا ورب البيت إسماعينا
قوله تعالى: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ، قال قتادة: يريد من عبادة الأوثان والشرك، وقول الزور. فان قيل: لم يكن هناك بيت، فما معنى أمرهما بتطهيره؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه كانت هناك أصنام، فأمر بإخراجها، قاله عكرمة. والثاني: أن معناه: ابنياه مطهراً، قاله السدي. والعاكفون: المقيمون، يقال: عكف يعكف ويعكف عكوفاً: إذا أقام، ومنه: الاعتكاف.
(٤٧) وقد روى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «إِن الله تعالى يُنزل في كلّ ليلة ويوم عشرين ومائة رحمة تنزل على البيت: ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين».
[سورة البقرة (٢) : آية ١٢٦]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً، البلد: صدر القرى، والبالد: المقيم بالبلد، والبلدة: الصدر، ووضعت الناقة بلدتها: إذا بركات. والمراد بالبلد هاهنا: مكة. ومعنى آمِناً: ذا أمنٍ. وأمن البلدة مجاز، والمراد: أمن من فيه. وفي المراد بهذا الأمن ثلاثة أقوال: أحدها: أنه سأله
منكر بهذا اللفظ. عزاه المصنف لابن زيد، وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو حديث معضل، وهو متروك الحديث إذا وصله فكيف إذا أرسله؟!. وهو بهذا اللفظ منكر، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما كان يسأل أصحابه أين يتوجه، بل الصحيح أن عمر كان يطلب منه التحول، ولم يوافقه حتى نزل القرآن.
ضعيف، أخرجه الطبراني في «الكبير» ١١٤٧٥ من طريق يوسف بن السفر عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس مرفوعا. وإسناده ساقط، يوسف بن السفر، متروك متهم بالكذب. وقال الهيثمي في «المجمع» ٣/ ٢٩٢: يوسف متروك. وأخرجه الطبراني في «الأوسط» ٦٣١٠ من طريق عبد الرحمن بن السفر قال حدثنا الأوزاعي به. وعبد الرحمن هذا لم أجد له ترجمة، وأخشى أن يكون قلب اسمه وأن الصواب يوسف بن السفر، وبكل حال، هو في حكم المجهول. وأخرجه الطبراني في «الكبير» ١١٢٤٨ من وجه آخر عن خالد بن يزيد العمري عن محمد بن عبد الله الليثي عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس به. وإسناده ساقط، خالد كذاب، وشيخه متروك. وأخرجه ابن عدي ٦/ ٢٧٨ والخطيب ٦/ ٢٧. من وجه آخر عن محمد بن صفوان عن ابن جريج عن عطاء به. وإسناده واه، ابن جريج مدلس، وقد عنعن، وابن صفوان مجهول، وعنه محمد بن معاوية، وهو متروك.
الأمن من القتل. والثاني: من الخسف والقذف. والثالث: من القحط والجدب. قال مجاهد: قال إبراهيم: لمن آمن، فقال الله عزّ وجلّ: ومن كفر فسأرزقه.
قوله تعالى: فَأُمَتِّعُهُ، وقرأ ابن عامر: «فأمتعه» بالتخفيف، من أمتعت. وقرأ الباقون بالتشديد من: مَتَّعت. والإمتاع: إعطاء ما تحصل به المتعة. والمتعة: أخذ الحظ من لذة ما يشتهي. وبماذا يمتعه؟ فيه قولان: أحدهما: بالأمن. والثاني: بالرزق. والاضطرار: الإلجاء إلى الشّيء، والمصير: ما ينتهي إليه الأمر.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٢٧ الى ١٢٩]
وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)
قوله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ. القواعد: أساس البيت، واحدها:
قاعدة. فأما قواعد النساء فواحدتها: قاعد، وهي العجوز. رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا، أي: يقولان: ربنا، فحذف ذلك كقوله: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ «١»، أراد: يقولون. والسَّمِيعُ بمعنى: السامع، لكنه: أبلغ، لأن بناء فعيل للمبالغة. قال الخطابي: ويكون السماع بمعنى القبول والإجابة. كقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
(٤٨) «أعوذ بك من دعاء لا يسمع»، أي: لا يستجاب. وقول المصلي: سمع الله لمن حمده، أي: قبل الله حمد من حمده. وأنشدوا:
دَعَوْتُ الله حتَّى خِفْتُ أنْ لاَ يَكُوْنَ الله يسمع ما أقول
(إشارة إلى بناء البيت) (٤٩) روى أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: «كانت الملائكة تحج إِلى البيت قبل آدم».
صحيح. أخرجه مسلم ٢٧٢٢ عن زيد بن أرقم، قال: لا أقول لكم إلّا كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول كان يقول: «اللهمّ إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكاها. أنت وليها ومولاها. اللهمّ إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها». وله شاهد أخرجه أبو داود ١٥٤٩ وابن أبي شيبة ١٠/ ١٨٧، ١٨٨ وأحمد ٣/ ٢٥٥- ٣/ ١٩٢ والطيالسي ١/ ٢٥٨ وابن حبان ١٠٥١ وأبو يعلى ٢٨٤٥ عن أنس. وورد من وجه آخر عند أحمد ٣/ ٢٨٣ والنسائي ٨/ ٢٨٣ و ٢٨٤ عن أنس. وله شاهد أخرجه ابن ماجة ٢٥٠ وصححه الحاكم ١/ ١٠٤ ووافقه الذهبي وأبو يعلى ٦٥٣٧ عن أبي هريرة.
باطل. أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» ٣٩٨٦ عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «كان موضع البيت في زمن آدم عليه السّلام شبرا أو أكثر علما فكانت الملائكة تحج إليه قبل آدم ثم حجّ آدم فاستقبلته الملائكة قالوا: يا آدم من أين جئت؟ قال: حججت البيت، فقالوا: قد حجته الملائكة قبلك» وإسناده ساقط وعلته سعيد بن ميسرة، وهو متروك متهم، وكذبه القطان، وقال الحاكم: روى عن أنس موضوعات وقال ابن حبان:
يروي الموضوعات، انظر «الميزان» ٢/ ١٦٠.
__________
(١) الرعد: ٢٣- ٢٤.
111
وقال ابن عباس: لما أهبط آدم قال الله تعالى له: يا آدم! اذهب فابن لي بيتاً فطف به، واذكرني حوله كما رأيت ملائكتي تصنع حول عرشي. فأقبل يسعى حتى انتهى إلى البيت الحرام، وبناه من خمسة أجبل: من لبنان، وطور سيناء، وطور زيتا، والجودي، وحراء، فكان آدم أول من أسس البيت، وطاف به، ولم يزل كذلك حتى بعث الله الطوفان، فدرس موضع البيت، فبعث الله إبراهيم وإسماعيل. وقال علي بن أبي طالب، عليه السلام: لما أمر الله تعالى إبراهيم ببناء البيت ضاق به ذرعاً، ولم يدر كيف يصنع، فأنزل الله عليه كهيئة السحابة، فيها رأس يتكلم، فقال: يا إبراهيم! علّم على ظلي، فلمّا علّم ارتفعت. وفي رواية عنه أنه كان يبني عليها كل يوم، قال: وحفر إبراهيم من تحت السكينة، فأبدى عن قواعد، ما تحرك القاعدة منها دون ثلاثين رجلاً. فلما بلغ موضع الحجر، قال لإسماعيل: التمس لي حجراً فذهب يطلب حجراً، فجاء جبريل بالحجر الأسود، فوضعه، قال: من جاءك بهذا الحجر؟ قال: جاء به من لم يتكل على بنائي وبنائك. وقال ابن عباس، وابن المسيب، وأبو العالية: رفعا القواعد التي كانت قواعد قبل ذلك. وقال السّدّيّ: لمّا أمره ببناء البيت لم يدر أين يبني، فبعث الله ريحاً، فكنست حول الكعبة عن الأساس الأول الذي كان البيت عليه قبل الطوفان.
قوله تعالى: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ، قال الزجاج: المسلم في اللغة: الذي قد استسلم لأمر الله، وخضع. والمناسك: المتعبدات. فكل متعبد منسَك ومنسِك. ومنه قيل للعابد: ناسك.
وتسمى الذبيحة المتقرّب بها إلى الله تعالى: النسيكة. وكأن الأصل في النسك إنما هو من الذبيحة لله تعالى.
قوله تعالى: وَأَرِنا مَناسِكَنا، أي: مذابحنا، قاله مجاهد. وقال غيره: هي جميع أفعال الحج.
وقرأ ابن كثير: «وأرنا» بجزم الراء. و «رب أرني» و «أرنا اللذين أضلانا». وقرأ نافع، وحمزة، والكسائيّ وَأَرِنا بكسر الراء في جميع ذلك. وقرأ أبو بكر عن عاصم وابن عامر كذلك، إلا أنهما أسكنا الراء من «أرنا اللذين» وحدها. قال الفرّاء: أهل الحجاز يقولون: «أرنا أذين أضلانا» وكثير من العرب يجزم الراء، فيقول: «أرنا مناسكنا»، وقرأ بها بعض الثقات. وأنشد بعضهم:
قالت سليمى اشتر لنا دقيقاً واشترْ فعجل خادماً لبيقاً
وأنشدني الكسائي:
ومن يتقْ فان الله معه ورزق الله مؤتاب وغادي «١»
قال قتادة: أراهما الله مناسكهما: الموقف بعرفات، والإفاضة من جمع، ورمي الجمار، والطواف، والسعي. وقال أبو مجلز: لما فرغ إبراهيم من البيت أتاه جبريل، فأراه الطواف، ثم أتى به جمرة العقبة، فعرض له الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبعاً، وقال له: ارم
(١) في «اللسان» المآب: المرجع، وأتاب مثل آب، فعل وافتعل بمعنى. [.....]
112
وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان. ثم أتى به الجمرة الوسطى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبع حصيات، فقال له: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان. ثم أتى به الجمرة القصوى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات، وأعطى إبراهيم سبع حصيات. فقال له: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى غاب الشيطان، ثم أتى به منى، فقال: هاهنا يحلق الناس رؤوسهم، ثم أتى به جمعاً، فقال: هاهنا يجمع الناس، ثم أتى به عرفة، فقال: أعرفت؟ قال: نعم. قال: فمن ثم سميت عرفات.
قوله تعالى: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ، في الهاء والميم من فِيهِمْ قولان:
أحدهما: أنها تعود على الذرية، قاله مقاتل والفراء.
والثاني: على أهل مكة في قوله: وَارْزُقْ أَهْلَهُ، والمراد بالرّسول: محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
(٥٠) وقد روى أبو أمامة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قيل: يا رسول الله! ما كان بدء أمرك؟ قال: «دعوة أبي إِبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أُمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام».
والكتاب: القرآن. والحكمة: السنة، قاله ابن عباس. وروي عنه: الحكمة: الفقه والحلال والحرام، ومواعظ القرآن. وسميت الحكمة حكمة، لأنها تمنع من الجهل.
وفي قوله تعالى: وَيُزَكِّيهِمْ، ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: يأخذ الزكاه منهم فيطهرهم بها، قاله ابن عباس والفراء. والثاني: يطهرهم من الشرك والكفر، قاله مقاتل. والثالث: يدعوهم إلى ما يصيرون به أزكياء. قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ، قال الخطابي: العز في كلام العرب على ثلاث أوجه: أحدها: بمعنى الغلبة، يقولون: من عزّ بزّ، أي: من غلب سلب، يقال منه: عزَّ يعُزُّ، بضم العين من يعز، ومنه قوله تعالى: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ «١». والثاني: بمعنى الشدة والقوة، يقال منه: عز يعَزُّ، بفتح العين من يعز. والثالث: أن يكون بمعنى نفاسة القدر، يقال منه: عز يعزّ، بكسر العين من يعزّ، ويتأول معنى العزيز على أنه الذي لا يعادله شيء، ولا مثل له.
حسن صحيح. أخرجه الطيالسي ١١٤٠ وأحمد ٥/ ٢٦٢، وابن سعد ١/ ١٠٢ والطبراني ٧٧٢٩ والبيهقي في «الدلائل» ١/ ٨٤ وإسناده ضعيف لضعف فرج بن فضالة، والسياق لأحمد، وقال الهيثمي في «المجمع» ٨/ ٢٢٢: إسناد أحمد حسن. وله شاهد أخرجه أحمد ٤/ ١٢٧- ١٢٨ والبخاري في «التاريخ الكبير» ٦/ ٦٨ وابن حبان ٦٤٠٤ وابن أبي عاصم في «السنة» ٤٠٩ والبيهقي في «الدلائل» ١/ ٨٠ و ٢/ ٣٠ عن العرباض بن سارية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مرفوعا، وإسناده حسن في الشواهد لأجل سعيد بن سويد. وصححه الحاكم ٢/ ٦٠٠ ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح غير سعيد بن سويد وقد وثقه ابن حبّان.
وورد عن خالد بن معدان عن نفر من الصحابة مرفوعا أخرجه الحاكم ٢/ ٦٠٠ والطبري ٢٠٧٥ والبيهقي في «الدلائل» ١/ ٨٣ وإسناده قوي كما قال الحافظ ابن كثير في «البداية» ٢/ ٢٧٥ وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وهو حديث حسن في أقل تقدير بل هو صحيح والله أعلم، وانظر «الجامع لأحكام القرآن» ٧١٠ بتخريجنا.
__________
(١) ص: ٢٣.
113

[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٠ الى ١٣٢]

وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢)
قوله تعالى: وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ. سبب نزولها: أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه مهاجراً وسلمة إلى الإسلام، فأسلم سلمة، ورغب عن الإسلام مهاجر، فنزلت هذه الآية «١»، قاله مقاتل. قال الزجاج: و «من» لفظها لفظ الاستفهام، ومعناها التقرير والتوبيخ. والمعنى: ما يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه. ويقال: رغبت في الشيء: إذا أردته. ورغبت عنه: إذا تركته. وملة إبراهيم: دينه.
قوله تعالى: إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنّ معناها: إلا من سفّه نفسه، قاله الأخفش ويونس. قال يونس: ولذلك تعدّى إلى النّفي فنصبها، وقال الأخفش: نصبت النفس لإسقاط حرف الجر، لأن المعنى: إلا من سفه في نفسه. قال الشاعر:
نُغالي اللحمَ للأضيافِ نِيئاً ونُرخِصُه إذا نضج القدور
والثاني: إلا من أهلك نفسه، قاله أبو عبيدة. والثالث: إلا من سفهتْ نفسُه، كما يقال: غبن فلان رأيه، وهذا مذهب الفراء وابن قتيبة. قال الفراء: نقل الفعل عن النفس إلى ضمير «من»، ونصبت النفس على التشبيه بالتفسير، كما يقال: ضقت بالأمر ذرعاً، يريدون: ضاق ذرعي به، ومثله:
وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «٢». والرابع: إلا من جهل نفسه، فلم يفكر فيها، وهو اختيار الزجاج.
قوله تعالى: وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ، قال ابن الأنباري: لمن الصالحي الحال عند الله تعالى. وقال الزجاج: الصالح في الآخرة: الفائز.
قوله تعالى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ، وذلك حين وقوع الاصطفاء، قال ابن عباس: لما رأى الكوكب والقمر والشمس، قال له ربه: أسلم، أي: أخلص. قوله تعالى: وَوَصَّى، قرأ ابن عامر وأهل المدينة: «وأوصى» بألف، مع تخفيف الصاد، والباقون بغير ألف مشددة الصاد، وهذا لاختلاف المصاحف. أخبرنا ابن ناصر، قال: أخبرنا ثابت، قال: أخبرنا ابن قشيش، قال: أخبرنا ابن حيَّويه، قال: حدثنا ابن الأنباري، قال: أخبرنا ثعلب، قال: أملى عليَّ خلف بن هشام البزّاز، قال: اختلف مصحفا أهل المدينة وأهل العراق في اثني عشر حرفاً:
كتب أهل المدينة: «وأوصى»، وأهل العراق: «ووصّى».
وكتب أهل المدينة: «سارعوا إلى مغفرة» بغير واو، وأهل العراق: «وسارعوا» «٣».
وكتب أهل المدينة: «يقول الذين آمنوا»، وأهل العراق: «ويقول» «٤».
(١) عزاه المصنف لمقاتل، وهذا معضل، ومقاتل متهم. وذكره السيوطي في «أسباب النزول» ٦٣ بقوله قال ابن عيينة: وروى بمثله، ولم أره مسندا. الخلاصة: هو أثر واه بمرة، والمتن منكر، والصواب عموم الآية.
(٢) مريم: ٤.
(٣) آل عمران: ١٣٣.
(٤) المائدة: ٥٣.
وكتب أهل المدينة: «من يرتدد»، وأهل العراق: «من يرتدَّ» «١».
وكتب أهل المدينة: «الذين اتّخذوا مسجدا»، وأهل العراق: «والذين» «٢».
وكتب أهل المدينة: «خيراً منهما منقلبا»، وأهل العراق: «منها» «٣».
وكتب أهل المدينة: «فتوكل على العزيز»، وأهل العراق: «وتوكل» «٤».
وكتب أهل المدينة: «وأن يظهر في الأرض الفساد»، وأهل العراق: «أو أن يظهر» «٥».
وكتب أهل المدينة في «حم عسق» :«بما كسبت أيديكم» بغير فاء، وأهل العراق: «فبما» «٦».
وكتب أهل المدينة: «ما تشتهيه الأنفس» «٧» بالهاء، وأهل العراق: «ما تشتهي».
وكتب أهل المدينة: «فان الله الغني الحميد» في سورة الحديد، وأهل العراق: «فإن الله هو الغني» «٨». وكتب أهل المدينة: «فلا يخاف عقباها» بالفاء، وأهل العراق: «ولا يخاف» «٩».
ووصّى أبلغ من أوصى، لأنها تكون لمرات كثيرة، وهاء «بها» تعود على الملّة، قاله عكرمة والزجاج. قال مقاتل: وبنوه أربعة: إسماعيل، وإسحاق، ومدين، ومدائن. وذكر غير مقاتل أنهم ثمانية. قوله تعالى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ، يريد: الزموا الإسلام، فاذا أدرككم الموت صادفكم عليه.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٣ الى ١٣٤]
أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٤)
قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ.
(٥١) سبب نزولها: أن اليهود قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ألست تعلم أن يعقوب أوصى بنيه يوم مات باليهودية؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
قوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ، أي: مضت، يشير إلى إبراهيم وبنيه، ويعقوب وبنيه.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٣٥ الى ١٣٦]
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦)
عزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك متهم، صنف تفسيرا وضع فيه أحاديث كثيرة، وقد نقل عنه المفسرون فيما بعد. وذكره البغوي في «تفسيره» ١/ ١١٨ بقوله: قيل. فالخبر لا شيء.
__________
(١) المائدة: ٥٤.
(٢) التوبة: ١٠٧.
(٣) الكهف: ٣٦.
(٤) الشعراء: ٢١٧.
(٥) المؤمن: ٢٦.
(٦) الشورى: ٣٠.
(٧) الزخرف: ٧١.
(٨) الحديد: ٢٤.
(٩) الشمس: ١٥. [.....]
قوله تعالى: وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى. معناه: قالت اليهود: كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى، تهتدوا. بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً، المعنى: بل نتبع ملة إبراهيم في حال حنيفيته، وفي الحنيف قولان: أحدهما: أنه المائل إلى العبادة، قال الزجاج: الحنيف في اللغة: المائل إلى الشيء، أُخذ من قولهم: رجل أحنف، وهو الذي تميل قدماه كل واحدة منهما إلى أختها بأصابعها.
قالت أُم الأحنف ترقصه «١» :
والله لولا حَنَفٌ برجله ودِقة في ساقه من هزله
ما كان في فتيانكم من مثله والثاني: أنه المستقيم، ومنه قيل للأعرج: حنيف، نظراً له إلى السلامة، هذا قول ابن قتيبة. وقد وصف المفسرون الحنيف بأوصاف، فقال عطاء: هو المخلص، وقال ابن السائب: هو الذي يحج.
وقال غيرهما: هو الذي يوحّد ويحج، ويضحي ويختتن، ويستقبل الكعبة.
فأمّا الأسباط: فهم بنو يعقوب، وكانوا اثني عشر رجلاً، قال الزجاج: السبط في اللغة: الجماعة الذين يرجعون إلى ربّ واحد. والسّبط في اللغة: الشّجرة، فالسّبط: الذين هم من شجرة واحدة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٧]
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧)
قوله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا، يعني: أهل الكتاب. وفي قوله تعالى: بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: مثل إيمانكم، فزيدت الباء للتوكيد، كما زيدت في قوله: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ «٢»، قاله ابن الأنباري. والثاني: أن المراد بالمثل هاهنا: الكتاب، وتقديره: فان آمنوا بكتابكم كما آمنتم بكتابهم، قاله أبو معاذ النحوي. والثالث: أن المثل هاهنا: صلة، والمعنى: فان آمنوا بما آمنتم به. ومثله قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «٣»، أي: ليس كهو شيء. وأنشدوا:
يا عاذلي دعنيَ من عذلكا مثليَ لا يقبل من مثلكا
أي: أنا لا أقبل منك. فأما الشقاق فهو المشاقة والعداوة، ومنه قولهم: فلان قد شق عصا المسلمين، يريدون: فارق ما اجتمعوا عليه من اتباع إمامهم، فكأنه صار في شق غير شقهم.
قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ، هذا ضمان لنصر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٨]
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (١٣٨)
قوله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ. سبب نزولها: أن النصارى كانوا إذا ولد لأحدهم ولد، فأتى عليه سبعة أيام، صبغوه في ماء لهم، يقال له: المعمودية، ليطهروه بذلك، ويقولون: هذا طهور مكان
(١) في اللسان: أرقصت الأم صبيها ورقّصته: نزّته. والمنزّ: المهد، مهد الصبي.
(٢) مريم: ٢٤.
(٣) الشورى: ١١.
الختان، فاذا فعلوا ذلك قالوا: صار نصرانياً حقاً، فنزلت هذه الآية «١»، قاله ابن عباس.
قال ابن مسعود وابن عباس، وأبو العالية، ومجاهد، والنخعي، وابن زيد: صِبْغَةَ اللَّهِ: دينه.
قال الفرّاء: صِبْغَةَ اللَّهِ مردودة على الملة «٢». وقرأ ابن عبلة: «صبغةُ الله» بالرفع على معنى: هذه صبغة الله. وكذلك قرأ: «ملةُ إِبراهيم» بالرفع أيضاً على معنى: هذه ملة إبراهيم.
قال ابن قتيبة: المراد بصبغة الله: الختان، فسماه صبغة، لأن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماء ويقولون: هذا طهرة لهم، كالختان للحنفاء، فقال الله تعالى: صِبْغَةَ اللَّهِ، أي: الزموا صبغة الله، لا صبغة النصارى أولادهم، وأراد بها ملة ابراهيم، وقال غيره: إنما سمي الدين صبغة لبيان أثره على الإنسان، كظهور الصبغ على الثّوب.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٣٩]
قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (١٣٩)
قوله تعالى: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ، قال ابن عباس: يريد: يهود المدينة، ونصارى نجران.
والمحاجة: المخاصمة في الدين، فان اليهود قالت: نحن أهل الكتاب الأول. وقيل: ظاهرت اليهود عبدة الأوثان، فقيل لهم: تزعمون أنكم موحدون، ونحن نوحد، فلم ظاهرتم من لا يوحد؟! قوله تعالى: وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، قال أكثر المفسرين: هذا الكلام اقتضى نوع مساهلة، ثم نسخ بآية السّيف.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٠ الى ١٤١]
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٠) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤١)
قوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ.. الآية. سبب نزولها: أن يهود المدينة، ونصارى نجران قالوا للمؤمنين: إن أنبياءَ الله كانوا منا من بني إسرائيل، وكانوا على ديننا، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل «٣». ومعنى الآية: إن الله قد أعلمنا بدين الأنبياء، ولا أحد أعلم به منه. قرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر، وأبو عمرو «أَم يقولون» بالياء على وجه الخبر عن اليهود. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم: تَقُولُونَ بالتاء لأنّ ما قبلها مخاطبة، وهي أَتُحَاجُّونَنا، وبعدها قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ.
وفي الشهادة التي كتموها قولان: أحدهما: أن الله تعالى شهد عندهم بشهادة لإبراهيم ومن ذكر معه أنهم كانوا مسلمين، فكتموها، قاله الحسن، وزيد بن أسلم. والثاني: أنهم كتموا الإسلام وأمر محمد وهم يعلمون أنه نبيّ ودينه الإسلام، قاله أبو العالية، وقتادة.
(١) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» عن ابن عباس بدون إسناد، فهو لا شيء. وأخرجه الطبري ٢١١٨ عن قتادة.
(٢) أي بدل منها.
(٣) عزاه لمقاتل وهو متروك متهم كما تقدم، فهذا السبب ليس بشيء.

[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٢]

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)
قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ. فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله البراء بن عازب، ومجاهد، وسعيد بن جبير. والثاني: أنهم أهل مكة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث:
أنهم المنافقون، ذكره السدي عن ابن مسعود، وابن عباس. وقد يمكن أن يكون الكل قالوا ذلك، والآية نزلت بعد تحويل القبلة. والسفهاء: الجهلة. ما ولاهم، أي: صرفهم عن قبلتهم، يريد: قبلة المقدس.
واختلف العلماء في مدّة صلاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس، بعد قدومه المدينة على ستة أقوال:
(٥٢) أحدها: أنه ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر، قاله البراء بن عازب.
والثاني: سبعة عشر شهراً، قاله ابن عباس. والثالث: ثلاثة عشر شهراً، قاله معاذ بن جبل.
والرابع: تسعة أشهر، قاله أنس بن مالك. والخامس: ستة عشر شهراً. والسادس: ثمانية عشر شهراً، روي القولان عن قتادة.
وهل كان استقباله بيت المقدس برأيه، أو عن وحي؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه كان بأمر الله تعالى ووحيه، قاله ابن عباس «١»، وابن جريج.
صحيح. أخرجه البخاري ٤٤٨٦ و ٧٢٥٢ ومسلم ٥٢٥ والترمذي ٣٤٠ وأحمد ٤/ ٢٨٣ وابن ماجة ١٠١٠ وابن حبان ١٧١٦ عن البراء رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا- أو سبعة عشر شهرا- وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وأنه صلّى صلاة العصر وصلّى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلّى معه فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون قال: أشهد بالله لقد صلّيت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل مكّة، فداروا كما هم قبل البيت وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحوّل قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. واللفظ للبخاري.
- وقال الحافظ في «الفتح» ١/ ٩٦- ٩٧ تعليقا على قوله في الحديث «ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا» :
رواه أبو عوانة في صحيحه عن عمّار بن رجاء وغيره عن أبي نعيم فقال «ستة عشر» من غير شك وكذا لمسلم وللنسائي ولأحمد بسند صحيح عن ابن عباس. وللبزار والطبراني من حديث عمرو بن عوف «سبعة عشر» وكذا للطبراني عن ابن عباس. والجمع بين الروايتين سهل بأن يكون من جزم بستة عشر لفق من شهر القدوم وشهر التحويل شهرا وألغى الزائد، ومن جزم بسبعة عشر عدهما معا، ومن شك تردد في ذلك، وذلك أن القدوم كان في شهر ربيع الأول بلا خلاف وكان التحويل في نصف شهر رجب من السنة الثانية على الصحيح، وبه جزم الجمهور، ورواه الحاكم بسند صحيح عن ابن عباس. وقال ابن حبان «سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام» وهو مبني على القدوم الذي كان في ثاني عشر شهر ربيع الأول. ومن الشذوذ رواية «ثمانية عشر شهرا» وثلاثة عشر شهرا ورواية تسعة أشهر أو عشرة أشهر ورواية شهرين ورواية سنتين، وهذه الأخيرة يمكن حملها على الصواب. وأسانيد الجميع ضعيفة. والاعتماد على القول الأول.
__________
(١) هذا الراجح، فقد أخرج أحمد ٢٢٥٢ والبزار كما في «المجمع» ١٩٦٧ كلاهما عن ابن عباس قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي وهو بمكة نحو البيت المقدس والكعبة بين يديه، وبعد ما هاجر إلى المدينة ستة عشر شهرا، ثم صرف إلى الكعبة» سكت عليه الحافظ في «تخريجه» ١/ ٢٠٠ وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح اه. وله شواهد كثيرة.
والثاني: أنه كان باجتهاده ورأيه، قاله الحسن وأبو العالية، وعكرمة، والربيع.
وقال قتادة: كان الناس يتوجهون إلى أي جهة شاؤوا، بقوله: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ. ثم أمرهم باستقبال بيت المقدس. وفي سبب اختياره بيت المقدس قولان: أحدهما: ليتألف أهل الكتاب، ذكره بعض المفسرين. والثاني: لامتحان العرب بغير ما ألفوه، قاله الزّجّاج.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٣]
وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٤٣)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً. سبب نزولها: أن اليهود قالوا: قبلتنا قبلة الأنبياء، ونحن عدلٌ بين الناس، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. والأمة: الجماعة. والوسط: العدل، قاله ابن عباس، وأبو سعيد، ومجاهد، وقتادة، وقال ابن قتيبة: الوسط: العدل الخيار، ومنه قوله تعالى: قالَ أَوْسَطُهُمْ «١»، أي: أعدلهم وخيرهم. قال الشاعر:
همُ وسط يرضى الأنام بحكمهم... إِذا نزلت إِحدى الليالي بِمُعْظَم
وأصل ذلك أن خير الأشياء أوساطها، والغلو والتقصير مذمومان. وذكر ابن جرير الطبري أنه من التوسط في الفعل، فان المسلمين لم يقصروا في دينهم كاليهود، فإنهم قتلوا الأنبياء، وبدلوا كتاب الله، ولم يغلوا كالنصارى، فانهم زعموا أن عيسى ابن الله. وقال أبو سليمان الدمشقي: في هذا الكلام محذوف، ومعناه: جعلت قبلتكم وسطاً بين القبلتين، فان اليهود يصلّون نحو المغرب، والنصارى نحو المشرق، وأنتم بينهما.
قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فيه قولان: أحدهما: أن معناه: لتشهدوا للأنبياء على أممهم.
روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجل. ويجيء النبي ومعه الرجلان، ويجيء النبي ومعه أكثر من ذلك، فيقال لهم: أبلّغكم هذا؟ فيقولون: لا، فيقال للنبي: أبلّغتهم؟ فيقول: نعم، فيقال: من يشهد لك؟ قال: محمد وأمته فيشهدون أن الرسل قد بلّغوا فيقال: ما علمكم؟ فيقولون: أخبرنا نبينا أن الرسل قد بلّغوا، فصدقناه، فذلك قوله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ»، وهذا مذهب عكرمة، وقتادة. والثاني: أن معناه: لتكونوا شهداء لمحمّد صلّى الله عليه وسلّم على الأمم: اليهود والنصارى والمجوس، قاله مجاهد.
صحيح. أخرجه البخاري ٣٣٣٩ و ٤٤٨٧ و ٧٣٤٩ والترمذي ٢٩٦١ وبإثر حديث ٢٩٦٥ والنسائي في «الكبرى» ١١٠٠٦ و ١١٠٠٧ وابن ماجة ٥٢٨٤ والطبري ٢١٦٥ و ٢١٦٦ وابن حبان ٧٢١٦ و ٦٤٧٧ وأحمد ٣/ ٩ و ٥٨ مختصرا ومطوّلا، كلهم من حديث أبي سعيد الخدري. وصدره عند البخاري وغيره «يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك... ».
__________
(١) القلم: ٢٨.
قوله تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً، يعني: محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، وبماذا يشهد عليهم؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بأعمالهم، قاله ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وابن زيد. والثاني: بتبليغهم الرسالة، قاله قتادة، ومقاتل. والثالث: بإيمانهم، قاله أبو العالية. فيكون على هذا «عليكم» بمعنى: لكم. قال عكرمة: لا يسأل عن هذه الأمة إلا نبيها.
قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها، يريد: قبلة بيت المقدس. إِلَّا لِنَعْلَمَ فيه أربعة أقوال: أحدها: لنرى. والثاني: لنميز. رُويا عن ابن عباس. والثالث: لنعلمه واقعاً، إذ علمه قديم، قاله جماعة من أهل التفسير وهو يرجع إلى قول ابن عباس: «لنرى». والرابع: أن العلم راجع إلى المخاطبين، والمعنى: لتعلموا أنتم، قاله الفراء.
قوله تعالى: مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ، أي: يرجع إِلى الكفر، قاله ابن زيد، ومقاتل.
قوله تعالى: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً، في المشار إِليها قولان:
أحدهما: أنه التولية إلى الكعبة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل.
والثاني: أنها قبلة بيت المقدس قبل التحول عنها، قاله أبو العالية، والزجاج.
قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ، نزل على سبب:
(٥٤) وهو أن المسلمين قالوا: يا رسول الله، أرأيت إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فأنزل الله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ.
والإيمان المذكور هاهنا أريد به: الصلاة في قول الجماعة. وقيل: إنما سمى الصلاة إيماناً، لاشتمالها على قول ونية وعمل. قال الفراء: وإنما أسند الإيمان إلى الأحياء من المؤمنين، والمعنى:
فيمن مات من المسلمين قبل أن تحول القبلة لأنهم داخلون معهم في الملة. قوله تعالى: لَرَؤُفٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «لرؤوف» على وزن: لرعوف، في جميع القرآن، ووجهها: أن فعولاً أكثر في كلامهم من فعل، فباب ضروب وشكور، أوسع من باب حذر ويقظ. وقرأ أبو عمرو وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم: «لرؤف» على وزن: رَعُفٍ، ويقال: هو الغالب على أهل الحجاز. قال جرير:
ترى للمسلمين عليك حقاً كفعل الوالد الرَّؤُف الرحيم
والرؤوف بمعنى: الرحيم، هذا قول الزجاج، وذكر الخطابي عن بعض أهل العلم أن الرأفة أبلغ الرحمة وأرقُها. قال: ويقال: الرأفة أخص، والرحمة أعم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٤]
قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٤٤)
صحيح. أخرجه أبو داود ٤٦٨٠ والترمذي ٢٩٦٤. وأحمد ١/ ٩٥- ٣٠٤ والطيالسي ٢٦٧٣ وابن حبان ١٧١٨ والحاكم ٢/ ٢٦٩ من حديث ابن عباس وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وفي سماك بن حرب كلام، لكن توبع عليه، حيث ورد معناه من حديث البراء المتقدم برقم ٥٢.
قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ. سبب نزولها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يحب أن يوجه إلى الكعبة، قاله البراء «١»، وابن عباس، وابن المسيب، وأبو العالية، وقتادة.
وذكر بعض المفسرين أن هذه الآية مقدمة في النزول على قوله تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ. واختلفوا في سبب اختيار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الكعبة على بيت المقدس على قولين: أحدهما: لأنّها كانت قبلة إبراهيم، روي عن ابن عباس. والثاني: لمخالفة اليهود، قاله مجاهد.
ومعنى تقلب وجهه: نظره إليها يميناً وشمالاً. و (في) بمعنى إلى، وتَرْضاها بمعنى: تحبها.
و (الشطر) : النحو من غير خلاف.
(٥٥) قال ابن عمر: أتى الناس آت وهم في صلاة الصبح بقباء، فقال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أُنزل عليه الليلة قرآن، وأمر أن يستقبل الكعبة، ألا فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا وهم في صلاتهم.
فصل: اختلف العلماء أي وقت حولت القبلة؟ على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها حولت في صلاة الظهر يوم الاثنين للنصف من رجب على رأس سبعة عشر شهراً من مقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، قاله البراء بن عازب «٢»، ومعقل بن يسار. والثاني: أنها حولت يوم الثلاثاء للنصف من شعبان على رأس ثمانية عشر شهراً من مقدمه المدينة، قاله قتادة. والثالث: جمادى الآخرة، حكاه ابن سلامة المفسر عن إبراهيم الحربي.
وفي الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قولان: أحدهما: اليهود، قاله مقاتل. والثاني: اليهود والنصارى، قاله أبو سليمان الدمشقي. قوله تعالى: لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ يشير إلى ما أُمر به من التوجه إلى الكعبة، ثم توعدهم بباقي الآية على كتمانهم ما علموا. ومن أين علموا أنه الحق؟ فيه أربعة أقوال: أحدها: أن في كتابهم الأمر بالتوجه إليها، قاله أبو العالية. والثاني: يعلمون أن المسجد الحرام قبلة إبراهيم.
والثالث: أن في كتابهم أن محمداً رسول صادق، فلا يأمر إلا بحق. والرابع: أنهم يعلمون جواز النّسخ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٥]
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٤٥)
قوله تعالى: وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ. سبب نزولها أن يهود المدينة ونصارى
صحيح. أخرجه البخاري ٤٠٣ و ٤٤٩١ و ٩٤٩٤ و ٧٢٥١ ومسلم ٥٢٦ والنسائي ٤٩٣ وأحمد ٢/ ١٦- ٢٦- ١٠٥- ١١٣ والدارمي ١/ ٢٨١ ومالك ١/ ١٩٥ والشافعي في «مسنده» ١٩١ وابن أبي شيبة ١/ ٣٣٥ والترمذي ٣٤١ مختصرا وأبو عوانة ١/ ٣٩٤ وابن حبان ١٧١٥ والبيهقي ٢/ ٢- ١١ والبغوي في «شرح السنة» ٤٤٥ وفي «تفسيره» ١٠٠ من طرق من حديث ابن عمر.
__________
(١) تقدّم برقم ٥٢.
(٢) تقدّم برقم ٥٢.
نجران قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل «١».
قوله تعالى: ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ، يريد: الكعبة وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ لأن اليهود يصلون قبل المغرب إلى بيت المقدس، والنصارى قبل المشرق وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ فصليت إلى قبلتهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ، قال مقاتل: يريد بالعلم: البيان.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٦]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤٦)
قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ. في هاء «يعرفونه» قولان: أحدهما: أنها تعود على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس. والثاني: تعود على صرفه إلى الكعبة، قاله أبو العالية، وقتادة، والسدي، ومقاتل. وروي عن ابن عباس أيضاً. وفي الحق الذي كتموه قولان: أحدهما: أنه النبي صلّى الله عليه وسلّم، قاله مجاهد. والثاني: أنه التوجه إلى الكعبة، قاله السدي، ومقاتل في آخرين. وفي قوله تعالى: وَهُمْ يَعْلَمُونَ قولان: أحدهما: وهم يعلمون أنه حق. والثاني: وهم يعلمون ما على مخالفته من العقاب.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٧]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)
قوله تعالى: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ. قال الزجاج: أي: هذا الحق من ربك. والممترون: الشاكُّون، والخطاب عامّ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٤٨]
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٤٨)
قوله تعالى: لِكُلٍّ وِجْهَةٌ
، أي: لكل أهل دين وجهة. المراد بالوجهة: القبلة، قاله ابن عباس في آخرين. قال الزجاج: يقال: جهة، ووجهة. وفي «هو» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إِلى الله تعالى، فالمعنى: الله مولّيها إياهم، أي: أمرهم بالتوجه إليها.
والثاني: ترجع إلى المتولي، فالمعنى: هو موليها نفسه، فيكون «هو» ضمير كل.
والثالث: يرجع إلى البيت، قاله مجاهد: أمر كل قوم أن يصلُّوا إلى الكعبة. والجمهور يقرءون:
«مولّيها»، وقرأ ابن عامر، والوليد عن يعقوب: «هو مولاها» بألف بعد اللام، فضمير «هو» لكلّ، ومعنى القراءتين متقارب.
قوله تعالى: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
، أي: بادروها. وقال قتادة: لا تغلبوا على قبلتكم، يْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
، قال ابن عباس وغيره: هذا في يوم القيامة. فأما إعادة قوله:
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٤٩ الى ١٥٠]
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٤٩) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠)
(١) تكرر عن مقاتل سبب النزول هذا، ومقاتل متروك، فخبره لا شيء.
قوله تعالى: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، فانه تكرير تأكيد، ليحسم طمع أهل الكتاب في رجوع المسلمين أبداً إلى قبلتهم.
قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ، في «الناس» قولان: أحدهما: أنهم أهل الكتاب، قاله ابن عباس، وأبو العالية، وقتادة، ومقاتل. والثاني: مشركو العرب، رواه السدي عن أشياخه. فمن قال بالأول قال: احتجاج أهل الكتاب أنهم قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ما لك تركت قبلة بيت المقدس؟! إن كانت ضلالة فقد دنت الله بها، وإن كانت هدى، فقد نقلت عنها. وقال قتادة: قالوا: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه. ومن قال بالثاني قال: احتجاج المشركين أنهم قالوا: قد رجع إلى قبلتكم، ويوشك أن يعود إلى دينكم.
وتسمية باطلهم حجة على وجه الحكاية عن المحتج به، كقوله تعالى: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ «١»، وقوله: فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ «٢». قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ، قال الزجاج: معناه: إلا من ظلم باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: ما لك عليَّ حجة إِلا الظلم، أي:
إلا أن تظلمني، أي: ما لك عليّ البتة ولكنك تظلمين. قال ابن عباس: فَلا تَخْشَوْهُمْ في انصرافكم إلى الكعبة وَاخْشَوْنِي في تركها.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥١]
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (١٥١)
قوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ، قال الزجاج: «كما» لا تصلح أن تكون جواباً لما قبلها، والأجود أن تكون معلقة بقوله: فَاذْكُرُونِي، وقد روي معناه عن عليّ، وابن عباس، ومجاهد، ومقاتل. والآية خطاب لمشركي العرب. وفي قوله: وَيُزَكِّيهِمْ، ثلاثة أقوال، قد سبق ذكرها في قصة إبراهيم. والكتاب: القرآن. والحكمة: السّنّة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٢]
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (١٥٢)
قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي. قال ابن عباس، وابن جبير: اذكروني بطاعتي أذكرْكم بمغفرتي. وقال إبراهيم بن السري: كما أنعمت عليكم بالرسالة، فاذكروني بتوحيدي وتصديق نبيي. قال: فان قيل:
كيف يكون جواب: كَما أَرْسَلْنا فَاذْكُرُونِي، فان قوله: فَاذْكُرُونِي أمر، وقوله: أَذْكُرْكُمْ جزاؤه فالجواب: أن المعنى: إن تذكروني أذكركم.
قوله تعالى: وَاشْكُرُوا لِي، الشكر: الاعتراف بحق المنعم، مع الثناء عليه.
(١) الشورى: ١٦.
(٢) غافر: ٨٣.

[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٣]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (١٥٣)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ. سبب نزولها: أن المشركين قالوا:
سيرجع محمد إلى ديننا، كما رجع إلى قبلتنا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة. وقال ابن عباس: استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على أداء الفرائض، وبالصّلاة، وقد سبق الكلام في الصبر، وبيان الاستعانة به وبالصّلاة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٥٤]
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (١٥٤)
قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ. سبب نزولها: أنهم كانوا يقولون لقتلى بدر وأُحد: مات فلان ببدر، مات فلان بأحد، فنزلت هذه الآية «١»، قاله ابن عباس.
ورفع الأموات بإضمار مكنى من أسمائهم، أي: لا تقولوا: هم أموات، ذكر نحوه الفراء. فان قيل: فنحن نراهم موتى، فما وجه النهي؟ فالجواب أن المعنى: لا تقولوا: هم أموات لا تصل أرواحهم إلى الجنات، ولا تنال من تحف الله ما لا يناله الأحياء، بل هم أحياء، أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة، فهم أحياء من هذه الجهة، وإن كانوا أمواتاً من جهة خروج الأرواح ذكره ابن الأنباري، فان قيل: أليس جميع المؤمنين منعّمين بعد موتهم؟ فلم خصصتم الشهداء؟ فالجواب: أن الشهداء فضلوا على غيرهم بأنهم مرزوقون من مطاعم الجنة ومآكلها، وغيرهم منعم بما دون ذلك، ذكره ابن جرير الطّبريّ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٥ الى ١٥٧]
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧)
قوله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ. قال الفراء: «من» تدل على أن لكل صنف منها شيئاً مضمراً، فتقديره: بشيء من الخوف، وشيء من الجوع، وشيء من نقص الأموال.
وفيمن أُريد بهذه الآية أربعة أقوال: أحدها: أنهم أصحاب النبي خاصة، قاله عطاء. والثاني:
أنهم أهل مكة. والثالث: أن هذا يكون في آخر الزمان. قال كعب: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة. والرابع: أن الآية على عمومها.
فأما الخوف فقال ابن عباس: وهو الفزع في القتال. والجوع: المجاعة التي أصابت أهل مكة سبع سنين. ونقص من الأموال: ذهاب أموالهم، والأنفس بالموت والقتل الذي نزل بهم، والثمرات لم تخرج كما كانت تخرج. وحكى أبو سليمان الدمشقي عن بعض أهل العلم: أن الخوف في الجهاد والجوع في فرض الصوم، ونقص الأموال: ما فرض فيها من الزكاة والحج ونحو ذلك. والأنفس: ما يستشهد منها في القتال، والثمرات: ما فرض فيها من الصدقات. وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ على هذه البلاوي
(١) ذكره السيوطي في «الدر» ١/ ٢٧١ ونسبه للثعلبي من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن ابن عباس، وما قبل ابن عباس سلسلة الكذب. [.....]
بالجنة. واعلم أنه إنما أخبرهم بما سيصيبهم، ليوطنوا أنفسهم على الصبر، فيكون ذلك أبعد لهم من الجزع.
قالُوا إِنَّا لِلَّهِ، يريدون: نحن عبيده يفعل بنا ما يشاء، وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ، يريدون: نحن مقرّون بالبعث والجزاء على أعمالنا، والثواب على صبرنا. قال سعيد بن جبير: لقد أُعطيتْ هذه الأمة عند المصيبة شيئاً لم يعطه الأنبياء قبلهم الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ. ولو أعطيها الأنبياء لأعطيها يعقوب، إِذ يقول: يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ «١». قال الفراء: وللعرب في المصيبة ثلاث لغات: مصيبة، ومصابة، ومصوبة، زعم الكسائي أنه سمع أعرابياً يقول: جبر الله مصوبتك.
قوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ. قال سعيد بن جبير: الصلوات من الله: المغفرة، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ بالاسترجاع. وقال عمر بن الخطاب: نعم العدلان، ونعمت العلاوة:
أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (١٥٧).
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٥٨ الى ١٥٩]
إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩)
قوله تعالى: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ. في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(٥٦) أحدها: أن رجالاً من الأنصار ممن كان يهلُّ لمناة في الجاهلية- ومناة: صنم كان بين مكة والمدينة- قالوا: يا رسول الله! إنا كنا لا نطَّوف بين الصفا والمروة تعظيماً لمناة، فهل علينا من حرج أن نطوف بهما؟ فنزلت هذه الآية. رواه عروة عن عائشة.
(٥٧) والثاني: أن المسلمين كانوا لا يطوفون بين الصفا والمروة، لأنه كان على الصفا تماثيل وأصنام فنزلت هذه الآية. رواه عكرمة عن ابن عباس.
صحيح. أخرجه البخاري ١٧٩٠ ومسلم ١٢٧٧ وأبو داود ١٩٠١ وابن ماجة ٢٩٨٦ وابن خزيمة ٢٧٦٩ والطبري ٢٣٥٧ وابن حبان ٣٨٣٩ من طريق هشام بن عروة عن عروة عن عائشة.
- وأخرجه البخاري ١٦٤٣ ومسلم ١٢٧٧ والترمذي ٢٩٦٥ والنسائي ٥/ ٢٣٧- ٢٣٨ والحميدي ٢١٩ وأحمد ٦/ ١٤٤ وابن حبان ٣٨٤٠ عن الزهري عن عروة عن عائشة.
صحيح. أخرجه الحاكم ٢/ ٢٧٢ من طريق أبي مالك عن ابن عباس، وإسناده حسن في الشواهد، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وأخرجه ٢/ ٢٧١ من وجه آخر، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. وأخرجه الطبري ٢٣٤٦ من وجه آخر، وفيه جابر الجعفي متروك، والحجة فيما تقدم.
__________
(١) يوسف: ٨٤.
125
(٥٨) وقال الشعبي: كان وثن على الصفا يدعى: إساف، ووثن على المروة يدعى: نائلة، وكان أهل الجاهلية يسعون بينهما ويمسحونهما، فلما جاء الإسلام كفوا عن السعي بينهما، فنزلت هذه الآية.
(٥٩) والثالث: أنّ الصحابة قالت للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إنا كنا نطوف في الجاهلية بين الصفا والمروة، وإن الله تعالى ذكر الطواف بالبيت، ولم يذكره بين الصفا والمروة، فهل علينا من حرج أن لا نطَّوَّف بهما، فنزلت هذه الآية. رواه الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن جماعة من أهل العلم.
قال إبراهيم بن السري: الصفا في اللغة: الحجارة الصلبة الصلدة التي لا تنبت شيئاً، وهو جمع، واحده صفاة وصفا، مثل: حصاة وحصى. والمروة: الحجارة اللينة، وهذان الموضعان من شعائر الله، أي: من أعلام متعبداته. وواحد الشعائر: شعيرة. والشعائر: كل ما كان من موقف أو مسعى أو ذبح.
والشعائر: من شعرت بالشيء: إذا علمت به، فسميت الأعلام التي هي متعبدات الله: شعائر. والحج في اللغة: القصد، وكذلك كل قاصد شيئاً فقد اعتمره. والجناح: الإثم، أخذ من جنح: إذا مال وعدل، وأصله من جناح الطائر، وإنما اجتنب المسلمون الطواف بينهما، لمكان الأوثان، فقيل لهم: إن نصب الأوثان بينهما قبل الإسلام لا يوجب اجتنابهما، فأعلم الله عزّ وجلّ أنه لا جناح في التطوف بهما، وأن من تطوع بذلك فان الله شاكر عليم. والشكر من الله، المجازاة والثناء الجميل، والجمهور قرءوا وَمَنْ تَطَوَّعَ بالتاء ونصب العين، منهم: ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وقرأ حمزة، والكسائي «يطوع» بالياء وجزم العين. وكذلك خلافهم في التي بعدها بآيات.
فصل: اختلفت الرواية عن إمامنا أحمد في السعي بين الصفا والمروة، فنقل الأثرم أن من ترك السعي لم يجزه حجه. ونقل أبو طالب: لا شيء في تركه عمداً أو سهواً، ولا ينبغي أن يتركه. ونقل الميموني أنه تطوّع «١».
مرسل، أخرجه الطبري ٢٣٤١ و ٢٣٤٢ و ٢٣٤٣ بسند صحيح عن الشعبي، وهذا مرسل.
هو عجز الحديث المتقدم برقم ٥٦.
__________
(١) قال القرطبي رحمه الله ٢/ ١٧٨: واختلف العلماء في وجوب السعي بين الصفا والمروة، فقال الشافعي وابن حنبل: هو ركن، وهو المشهور من مذهب مالك لقوله عليه السّلام: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي»، فمن تركه عامدا أو ناسيا رجع من بلده أو من حيث ذكر إلى مكة، فيطوف ويسعى لأن السعي لا يكون إلّا متصلا بالطّواف. وسواء عند مالك كان ذلك في حج أو عمرة وإن لم يكن في العمرة فرضا، فإن أصاب النساء فعليه عمرة وهدي عند مالك مع تمام مناسكه. وقال الشافعي: عليه هدي ولا معنى للعمرة إذا رجع وطاف وسعى. وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والشعبي: ليس بواجب فإن تركه أحد من الحاج حتى يرجع إلى بلاده جبره بالدم، لأنه سنة من سنن الحج. وهو قول مالك في العتبية. والصحيح ما ذهب إليه الشافعي رحمه الله تعالى. وقال ابن كثير رحمه الله ١/ ١٩٩: إن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج كما هو مذهب الشافعي ومن وافقه ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك. وقيل إنه واجب وليس بركن فإن تركه عمدا أو سهوا جبره بدم وهو رواية عن أحمد وبه يقول طائفة. وقيل: بل مستحب وإليه ذهب أبو حنيفة والثوري والشعبي ومن وافقهم واحتجوا بقوله تعالى فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً. والقول الأول أرجح لأنه عليه السّلام طاف بينهما وقال «لتؤخذوا عني مناسككم» فكل ما فعله في حجته تلك واجب لا بد من فعله في الحج إلّا ما خرج بدليل والله أعلم.
126
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى، قال أبو صالح عن ابن عباس: نزلت في رؤساء اليهود، كتموا ما أنزل الله في التوراة من البينات والهدى «١». فالبينات: الحلال والحرام والحدود والفرائض. والهدى: نعت النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصفته مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ، قال مقاتل: لبني إسرائيل، وفي الكتاب قولان: أحدهما: أنه التوراة، وهو قول ابن عباس. والثاني: التوراة والإنجيل، قاله قتادة. أُولئِكَ إشارة إلى الكاتمين يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ قال ابن قتيبة: أصل اللعن في اللغة: الطرد، ولعن الله إبليس، أي: طرده، ثم انتقل ذلك فصار قولاً. قال الشماخ وذكر ماءً:
ذعرتُ به القطا ونفيتُ عنه... مقام الذئب كالرجل اللعين
أي: الطريد. وفي اللاعنين أربعة أقوال:
(٦٠) أحدها: أن المراد بهم: «دواب الأرض»، رواه البراء عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو قول مجاهد، وعكرمة. قال مجاهد: يقولون إنما منعنا القطر بذنوبكم فيلعنونهم.
والثاني: أنهم المؤمنون، قاله عبد الله بن مسعود. والثالث: أنهم الملائكة والمؤمنون، قاله أبو العالية، وقتادة. والرابع: أنهم الجن والإنس وكل دابة، قاله عطاء.
فصل: وهذه الآية توجب إظهار علوم الدين، منصوصة كانت أو مستنبطة، وتدل على امتناع جواز أخذ الأجرة على ذلك، إذ غير جائز استحقاق الأجر على ما يجب فعله.
(٦١) وقد روى الأعرج عن أبي هريرة أنه قال: إنكم تقولون: أكثر أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والله الموعد، وأيم الله: لولا آية في كتاب الله ما حدّثت أحداً بشيء أبداً، ثم تلا إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا... إلى آخرها.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٠]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠)
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا. قال ابن مسعود: إلا الذين تابوا من اليهود وأصلحوا أعمالهم، وبيّنوا صفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم.
فصل: وقد ذهب قوم إلى أن الآية التي قبل هذه منسوخة بالاستثناء في هذه، وهذا ليس بنسخ، لأن الاستثناء إخراج بعض ما شمله اللفظ، وذلك يقتضي التخصيص دون النسخ، ومما يحقق هذا أن
ضعيف، أخرجه ابن ماجة ٤٠٢١ وفيه ليث، وهو ضعيف أعله البوصيري في الزوائد بضعف ليث بن أبي سليم. وانظر «تفسير القرطبي» ٧٧٣ بتخريجنا.
صحيح. أخرجه البخاري ١١٨ من طريق الزهري عن الأعرج عن أبي هريرة.
__________
(١) إسناده ساقط، أخرجه الثعلبي كما في «أسباب النزول» للسيوطي ٧٨ من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، والكلبي متهم بالكذب كما تقدم، وأبو صالح متروك، لكن كون المراد بالآيات اليهود هو ظاهر القرآن، وورد عن ابن عباس أخرجه الطبري ٢٣٧٦ بسند فيه مجهول. وورد من مرسل قتادة، أخرجه برقم ٢٣٨٠ ومن مرسل مجاهد برقم ٢٣٧٧ ومن مرسل السدي برقم ٢٣٨١.
- الخلاصة: أصل الخبر محفوظ بشواهده.
الناسخ والمنسوخ لا يمكن العمل بأحدهما إلا بترك العمل بالآخر، وهاهنا يمكن العمل بالمستثنى والمستثنى منه.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦١]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١٦١)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ. إنما شرط الموت على الكفر، لأن حكمه يستقر بالموت عليه، فان قيل: كيف قال: وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وأهل دينه لا يلعنونه، فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنهم يلعنونه في الآخرة، قال الله عزّ وجلّ: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، وقال: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها. والثاني: أن المراد بالناس هاهنا المؤمنون، قاله ابن مسعود وقتادة ومقاتل. فيكون على هذا من العام الذي أريد به الخاص. والثالث: أن اللعنة من الأكثر يطلق عليها: لعنة جميع الناس تغليباً لحكم الأكثر على الأقل.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٢]
خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (١٦٢)
قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها تعود إلى اللعنة، قاله ابن مسعود، ومقاتل. والثاني: أنها ترجع إلى النار، وإِن لم يجر لها ذكر فقد علمت.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٣]
وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (١٦٣)
قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ. قال ابن عباس: إن كفار قريش قالوا: يا محمد صف لنا ربك وانسبه، فنزلت هذه الآية، وسورة الإخلاص. والإله بمعنى: المعبود.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٤]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٦٤)
قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. في سبب نزولها ثلاثة أقوال: أحدها: أن المشركين قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: اجعل لنا الصفا ذهباً إن كنت صادقاً فنزلت هذه الآية، حكاه السدي عن ابن مسعود، وابن عباس «١». والثاني: أنهم لما قالوا: انسب لنا ربك وصفه، فنزلت: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، قالوا:
فأرنا آية ذلك فنزلت: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إلى قوله: يَعْقِلُونَ، رواه أبو صالح عن ابن عباس «٢». والثالث: أنه لما نزلت وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ، قال كفار قريش: كيف يسع النّاس إله واحد؟
(١) أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» ١/ ٢٠٢، وإسناده لين، وفيه جعفر بن أبي المغيرة، وهو غير قوي وبخاصة في روايته عن سعيد بن جبير. وهذا منها. ثم إن الآية مدنية في قول عطاء وغيره. راجع أسباب النزول للواحدي ٨٤. والمتن غريب، فإن السورة مدنية باتفاق. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٥٢. وأخرجه الطبري ٢٤١٢ عن السدي مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، ولم أره عن ابن مسعود ولا ابن عباس، ولا يصح.
(٢) عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح روى عن ابن عباس تفسيرا موضوعا، انظر ترجمته في المقدمة.
128
فنزلت هذه الآية، قاله عطاء «١».
فأمّا السَّماواتِ، فتدل على صانعها، إذ هي قائمة بغير عمد، وفيها من الآيات الظاهرة، ما يدل يسيره على مبدعه، وكذلك الأرض في ظهور ثمارها، وتمهيد سهولها وإرساء جبالها، إلى غير ذلك. وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ كل واحد منهما حادث بعد أن لم يكن، وزائل بعد أن كان، وَالْفُلْكِ: السفن. قال ابن قتيبة: الواحد والجمع بلفظ واحد. وقال اليزيدي: واحده فلكة، ويذكر ويؤنث. وقال الزجاج: الفلك السفن، ويكون واحداً، ويكون جمعاً، لأن فَعَل، وفُعُل جمعهما واحد، ويأتيان كثيراً بمعنى واحد. يقال: العَجم والعُجم، والعَرب والعربُ، والفلك والفُلك. والفلك: يقال لكلّ مستدير، أو فيه استدارة. و «البحر» : الماء الغزير بِما يَنْفَعُ النَّاسَ من المعايش. وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ، يعني: المطر، والمطر ينزل على معنى واحد، وأجزاء الأرض والهواء على معنى واحد، والأنواع تختلف في النبات والطعوم والألوان والأشكال المختلفات، وفي ذلك رد على من قال: إنه من فعل الطبيعة، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يتفق موجبها، إذ المتفق لا يوجب المختلف، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى في قوله: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ «٢».
قوله تعالى: وَبَثَّ، أي: فرّق. قرأ ابن كثير الرِّياحِ على الجمع في خمسة مواضع:
هاهنا. وفي (الحجر) : وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ «٣»، وفي (الكهف) : تَذْرُوهُ الرِّياحُ «٤»، وفي (الروم) :
الحرف الأول (الرياح). وفي (الجاثية) : وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ «٥»، وقرأ باقي القرآن «الريح». وقرأ أبو جعفر «الريح» في خمسة عشر موضعاً في (البقرة)، وفي (الأعراف) : يُرْسِلُ الرِّياحَ «٦»، وفي (إبراهيم) :«اشتدت به الرياح»، وفي (الحجر) : الرِّياحَ لَواقِحَ، وفي (سبحان) «٧»، وفي (الكهف) :
تَذْرُوهُ الرِّياحُ، وفي (الأنبياء) وفي (الفرقان) : أَرْسَلَ الرِّياحَ «٨»، وفي (النمل). والثاني من (الرّوم) : وفي (سبأ)، وفي (فاطر) : أَرْسَلَ الرِّياحَ «٩»، وفي (عسق) :«يسكن الرياح»، وفي (الجاثية) : وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ، تابعه نافع إلا في (سبحان)، و «رياح» سليمان. وتابع نافعاً أبو عمرو إلا في حرفين: «الريح» في (إبراهيم) و (عسق). ووافق أبا عمر، وعاصم، وابن عامر. وقرأ حمزة «الريح» جمعاً في موضعين: في (الفرقان)، والحرف الأول من (الروم)، وباقيهن على التوحيد. وقرا الكسائي مثل حمزة، إلا إنه زاد عليه في (الحجر) : الرِّياحَ لَواقِحَ، ولم يختلفوا فيما ليس فيه ألف ولام، فمن جمع فكل ريح تساوي أختها في الدلالة على التوحيد والنفع، ومن وحد أراد الجنس.
ومعنى تصريف الرياح: تقلّبها شمالاً مرة، وجنوباً مرة، ودبوراً أُخرى، وعذاباً ورحمة، وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ: المذلل. والآية فيه من أربعة أوجه: ابتداء كونه، وانتهاء تلاشيه، وقيامه بلا
(١) ضعيف، أخرجه الطبري ٢٤٠٦ والواحدي في «أسباب النزول» ٨٤ عن عطاء مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، والسورة مدنية، فهذا خبر واه، لا شيء.
(٢) الرعد: ٤.
(٣) الحجر: ٢٢.
(٤) الكهف: ٤٥.
(٥) الجاثية: ٥.
(٦) الأعراف: ٥٧.
(٧) أي سورة الإسراء.
(٨) الفرقان: ٤٨.
(٩) فاطر: ٩. [.....]
129
دعامة ولا علاقة، وإرساله إلى حيث شاء الله تعالى. (لآيات). الآية: العلامة.
أخبرنا عبد الوهاب الحافظ، قال: أخبرنا عاصم قال: أخبرنا ابن بشران قال: أخبرنا ابن صفوان قال: حدثنا ابن أبي الدنيا قال: حدثني هارون قال: حدثني عفان عن مبارك بن فضاله قال: سمعت الحسن يقول: كانوا يقولون- يعني أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: الحمد لله الرفيق، الذي لو جعل هذا الخلق خلقا دائما لا ينصرف، لقال الشاك في الله: لو كان لهذا الخلق ربٌ لحادثه، وإن الله تعالى قد حادث بما ترون من الآيات، إنه جاء بضوء طبَّق ما بين الخافقين وجعل فيها معاشاً، وسراجاً وهاجاً، ثم إذا شاء ذهب بذلك الخلق، وجاء بظلمة طبَّقت ما بين الخافقين، وجعل فيه شهبا ونجوما، وقمرا منيرا، وإذا شاء بنى بناء، جعل فيه المطر، والبرق، والرعد، والصواعق، ما شاء، وإذا شاء صرف ذلك، وإذا شاء جاء ببرد يقرقف «١» الناس، وإذا شاء ذهب بذلك، وجاء بحرّ يأخذ أنفاس الناس، ليعلم الناس أن لهذا الخلق رباً يحادثه بما ترون من الآيات، كذلك إذا شاء ذهب بالدّنيا وجاء بالآخرة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٥]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (١٦٥)
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً. في الأنداد قولان قد تقدما في أول السورة. وفي قوله: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ قولان: أحدهما: أن معناه: يحبونهم كحب الذين آمنوا لله، هذا قول ابن عباس، وعكرمة، وأبي العالية، وابن زيد، ومقاتل، والفراء. والثاني: يحبونهم كمحبتهم لله، أي: يسوون بين الأوثان وبين الله تعالى في المحبة. هذا اختيار الزجاج، قال: والقول الأول ليس بشيء، والدليل على نقضه قوله: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ، قال المفسرون: أشد حباً لله من أهل الأوثان لأوثانهم.
قوله تعالى: وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا قرأ أبو عمرو، وابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائي:
«يرى» بالياء، ومعناه: لو يرون عذاب الآخرة لعلموا أن القوة لله جميعاً. وقرأ نافع وابن عامر، ويعقوب: «ولو ترى» بالتاء، على الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد به جميع الناس، وجوابه محذوف، تقديره: لرأيتم أمراً عظيماً، كما تقول: لو رأيت فلانا والسّياط تأخذه. فإنّما حذف الجواب، لأنّ المعنى معلوم. قال أبو علي: وإنما قال: «إِذ» ولم يقل: «إِذا» وإن كانت «إِذ» لما مضى، لإرادة تقريب الأمر، فأتى بمثال الماضي، وإنما حذف جواب «لو» لأنه أفخم، لذهاب المتوعد إلى كل ضرب من الوعيد. وقرا أبو جعفر: «إن القوة» و «إِن الله» بكسر الهمزة فيهما على الاستئناف، كأنّه يقول: ولا يحزنك ما ترى من محبتهم أصنامهم «إن القوة لله جميعاً»، قال ابن عباس: القوة: القدرة، والمنعة.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٦٦ الى ١٦٧]
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (١٦٦) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (١٦٧)
(١) القرقفة: الرعدة، وقرقف: أرعد.
قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا، فيهم قولان: أحدهما: أنهم القادة والرؤساء، قاله ابن عباس، وأبو العالية، وقتادة، ومقاتل، والزجاج. والثاني: أنهم الشّياطين، قاله السّدّيّ.
قوله تعالى: وَرَأَوُا الْعَذابَ، يشمل الكل. وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ، أي: عنهم، مثل قوله: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً «١». وفي الْأَسْبابُ أربعة أقوال: أحدها: أنها المودات، وإلى نحوه يذهب ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنها الأعمال، رواه السدي عن ابن مسعود، وابن عباس، وهو قول أبي صالح وابن زيد. والثالث: أنها الأرحام، رواه ابن جريج عن ابن عباس.
والرابع: أنها تشمل جميع ذلك. قال ابن قتيبة: هي الأسباب التي كانوا يتواصلون بها في الدنيا، فأما تسميتها بالأسباب، فالسبب في اللغة: الحبل، ثم قيل لكل ما يتوصّل به إلى مقصود: سبب. والكرَّة:
الرجعة إلى الدنيا، قاله ابن عباس، وقتادة في آخرين فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ، يريدون: من القادة كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا في الآخرة. كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ، قال الزجاج: أي: كتبرؤ بعضهم من بعض، يريهم الله أعمالهم حسراتٍ عليهم، لأن أعمال الكافر لا تنفعه. وقال ابن الأنباري: يريهم الله أعمالهم القبيحة حسراتٍ عليهم إذا رأوا أحسن المجازاة للمؤمنين بأعمالهم، قال: ويجوز أن يكون: كذلك يريهم الله ثواب أعمالهم وجزاءها، فحذف الجزاء وأقام الأعمال مقامه. قال ابن فارس: والحسرة:
التلهف على الشيء الفائت. وقال غيره: الحسرة: أشدّ النّدامة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٨]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (١٦٨)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً نزلت في ثقيف، وخزاعة، وبني عامر بن صعصعة، حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام، وحرّموا البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، قرأ ابن كثير، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم «خُطوات» مثقلة. وقرأ نافع، وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وحمزة «خُطْوات» ساكنة الطاء خفيفة. وقرا الحسن، وأبو الجوزاء «خَطْوات» بفتح الخاء وسكون الطاء من غير همز. وقرا أبو عمران الجوني بضم الخاء والطاء مع الهمز. قال ابن قتيبة: خطواته: سبيله ومسلكه، وهي جمع خُطوة، والخطوة بضم الخاء: ما بين القدمين، وبفتحها: الفعلة الواحدة. واتباعهم خطواته: أنهم كانوا يحرّمون أشياء قد أحلها الله، ويحلّون أشياء قد حرمها الله.
قوله تعالى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، أي: بيِّن. وقيل: أبان عداوته بما جرى له مع آدم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٦٩]
إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (١٦٩)
قوله تعالى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ، السوء: كل إثم وقبح. قال ابن عباس: وإنما سمي سوءاً، لأنه تسوء عواقبه، وقيل: لأنه يسوء إظهاره وَالْفَحْشاءِ من: فحش الشيء: إذا جاز قدره. وفي المراد بها هاهنا خمسة أقوال: أحدها: أنها كل معصية لها حد في الدنيا. والثاني: أنها ما لا يعرف في
(١) الفرقان: ٥٩.
شريعة ولا سنة. والثالث: أنها البخل، وهذه الأقوال الثلاثة منقولة عن ابن عباس. والرابع: أنها الزّنا، قاله السدي. والخامس: المعاصي، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. أي: أنه حرم عليكم ما لم يحرّم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٠]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٧٠)
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ. اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها:
أنها في الذين قيل لهم: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً، فعلى هذا تكون الهاء والميم عائدة عليهم، وهذا قول مقاتل. والثاني: أنها نزلت في اليهود، وهي قصة مستأنفة، فتكون الهاء والميم كناية عن غير مذكور، ذكره ابن إسحاق عن ابن عباس. والثالث: أنها في مشركي العرب وكفار قريش، فتكون الهاء والميم عائدة إلى قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً، فعلى القول الأول يكون المراد بالذي أنزل الله: تحليل الحلال، وتحريم الحرام. وعلى الثاني يكون: الإسلام. وعلى الثالث: التّوحيد والإسلام. وأَلْفَيْنا بمعنى: وجدنا. قوله تعالى: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً من الدين، ولا يهتدون له، أيتبعونهم في خطئهم وافترائهم!
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٧١ الى ١٧٢]
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٧١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١٧٢)
قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ. في معنى هذه الآية ثلاثة أقوال:
أحدها: أن معناها: ومثل الذين كفروا كمثل البهائم التي ينعق بها الراعي، وهذا قول الفراء، وثعلب، قالا جميعاً: أضاف المثل إلى الذين كفروا، ثم شبههم بالراعي، ولم يقل: كالغنم، والمعنى:
ومثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه ما يقول الراعي أكثر من الصوت، فلو قال لها الراعي: ارعي، أو اشربي، لم تدر ما يقول، فكذلك الذين كفروا فيما يأتيهم من القرآن، وإنذار الرسول، فأضيف التشبيه إلى الراعي، والمعنى في المرعي، وهو ظاهر في كلام العرب، يقولون: فلان يخافك كخوف الأسد، والمعنى: كخوفه الأسد، لأن الأسد هو المعروف بأنه المخوف. قال الشاعر:
كانت فريضةُ ما تقول كَمَا كَانَ الزِّنَاءُ فريضة الرّجم
المعنى: كما كان الرجم فريضة الزنى.
والثاني: أن معناها: ومثل الذين كفروا، ومثلنا في وعظهم، كمثل الناعق والمنعوق به، فحذف «ومثلنا» اختصاراً، إذ كان في الكلام ما يدل عليه. وهذا قول ابن قتيبة، والزجاج.
والثالث: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي يعبدون، كمثل الذي ينعق، هذا قول ابن زيد، والذي ينعق هو الراعي، يقال: نعق بالغنم، ينعق نعقاً ونعيقاً ونعاقاً ونعقاناً. قال ابن الأنباري:
والفاشي في كلام العرب أنه لا يقال: نعق، إلا في الصياح بالغنم وحدها، فالغنم تسمع الصوت ولا تعقل المعنى. صُمٌّ بُكْمٌ إنما وصفهم بالصم والبَكم، لأنهم في تركهم قبول ما يسمعون بمنزلة من لا
يسمع، وكذلك في النطق والنظر، وقد سبق شرح هذا المعنى.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٣]
إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٧٣)
قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ. قرأ أبو جعفر «الميتة» هاهنا، وفي (المائدة) و (النّحل)، و «بلدة ميّتا» بالتشديد، حيث وقع. والميتة في عرف الشرع: اسم لكل حيوان خرجت روحه بغير ذكاة. وقيل: إن الحكمة في تحريم الميتة أن جمود الدم فيها بالموت يحدث أذىً للآكل، وقد يسمى المذبوح في بعض الأحوال: ميتة حكماً، لأن حكمه حكم الميتة، كذبيحة المرتد فأما الدم فالمحرم منه: المسفوح، لقوله تعالى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً «١». قال القاضي أبو يعلى: فأما الدم الذي يبقى في خلل اللحم بعد الذبح، وما يبقى في العروق فهو مباح.
فأما لحم الخنزير فالمراد: جملته، وإنما خص اللحم، لأنه معظم المقصود. قال الزجاج:
الخنزير يشتمل على الذكر والأنثى. ومعنى وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ: ما رفع فيه الصوت بتسمية غير الله، ومثله الإهلال بالحج، إنما هو رفع الصوت بالتّلبية.
قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ، أي: ألجئ بضرورة. وقرأ أبو جعفر: (فمن اضّطِر) بكسر الطاء حيث كان. وأدغم ابن محيصن الضاد في الطاء.
قوله تعالى: غَيْرَ باغٍ، قال الزجّاج: البغي: قصد الفساد، يقول: بغى الجرح: إذا ترامى إلى الفساد. وفي قوله: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ أربعة أقوال: أحدها: أن معناه غير باغ على الولاة، ولا عاد يقطع السبيل، هذا قول سعيد بن جبير، ومجاهد. والثاني: غير باع في أكله فوق حاجته، ولا متعدٍ بأكلها وهو يجد غيرها. هذا قول الحسن، وعكرمة، وقتادة، والربيع. والثالث: غير باغٍ، أي:
مستحلٍ، ولا عاد: غير مضطر، روي عن سعيد بن جبير، ومقاتل. والرابع: غير باغ شهوته بذلك، ولا عاد بالشبع منه، قاله السدي.
فصل: معنى الضرورة في إباحة الميته: أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه. سئل أحمد، رضي الله عنه، عن المضطر إذا لم يأكل الميتة، فذكر عن مسروق أنه قال: من اضطر فلم يأكل فمات دخل النّار. وأمّا مقدار ما يأكل فنقل حنبل: يأكل بمقدار ما يقيمه عن الموت، ونقل ابن منصور:
يأكل بقدر ما يستغني. فظاهر الأولى: أنه لا يجوز له الشبع، وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وظاهر الثانية: جواز الشبع وهو قول مالك «٢».
(١) الأنعام: ١٤٥.
(٢) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٣/ ٣٣٠: أجمع العلماء على تحريم الميتة حالة الاختيار، وعلى إباحة الأكل منها في الاضطرار. وكذلك سائر المحرمات. والأصل في هذا قول الله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ويباح له أكل ما يسدّ الرمق، ويأمن معه الموت، بالإجماع. ويحرم ما زاد على الشّبع، بالإجماع أيضا. وفي الشّبع روايتان أظهرهما، لا يباح. وهو قول أبي حنيفة، وإحدى الروايتين عن مالك وأحد القولين للشافعي. قال الحسن:
يأكل قدر ما يقيمه، لأن الآية دلّت على تحريم الميتة، واستثنى ما اضطر إليه، فإذا اندفعت الضرورة لم يحل له الأكل، كحالة الابتداء، ولأنه بعد سدّ الرمق غير مضطرّ، فلم يحل له الأكل، للآية، يحققه أنه بعد سدّ رمقه كهو قبل أن يضطر، وثمّ لم يبح له الأكل كذا هاهنا. والثانية: يباح له الشبع. اختارها أبو بكر، لما روى جابر بن سمرة أن رجلا نزل الحرّة، فنفقت عنده ناقة، فقالت له امرأته: اسلخها، حتى نقدّد شحمها ولحمها، ونأكله. فقال حتى أسأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فسأله فقال: «هل عندك غنى يغنيك؟». قال: لا. قال: «فكلوها» ولم يفرّق. رواه أبو داود ولأن ما جاز سد الرمق منه، جاز الشبع منه، كالمباح. ويحتمل أن يفرّق بين إذا ما كانت الضرورة مستمرة، وبين ما إذا كانت مرجوة الزوال فما كانت مستمرة، كحال الأعرابي الذي سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاز له الشّبع، لأنه إذا اقتصر على سدّ الرمق، عادت الضرورة إليه عن قرب، ولا يتمكن من البعد عن الميتة، مخافة الضرورة المستقبلية، ويفضي إلى ضعف بدنه، وربما أدى ذلك إلى تلفه. بخلاف التي ليست مستمرة، فإنه يرجو الغنى عنها بما يحلّ له. والله أعلم. إذا ثبت هذا، فإن الضرورة المبيحة، هي التي يخاف التلف بها إن ترك الأكل. قال أحمد: إذا كان يخشى على نفسه، سواء كان من جوع، أو يخاف إن ترك الأكل عجز المشي، وانقطع عن الرفقة فيهلك، أو يعجز عن الركوب فيهلك، ولا يتقيد ذلك بزمن محصور. وهل يجب الأكل من الميتة على المضطر؟ فيه وجهان: أحدهما يجب وهو قول مسروق، وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي. قال الأثرم: سئل أبو عبد الله عن المضطر يجد الميتة، ولم يأكل؟. فذكر قول مسروق: فمن اضطر فلم يأكل ولم يشرب، فمات، دخل النار. وهذا اختيار ابن حامد. والثاني: لا يلزمه.

[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٤]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٤)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ. قال ابن عباس: نزلت في اليهود، كتموا اسم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وغيّروه في كتابهم «١». والثمن القليل: ما يصيبونه من أتباعهم من الدنيا. أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ، قال الزجاج: معناه: إن الذين يأكلونه يعذّبون به، فكأنهم يأكلون النّار، وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ هذا دليل على أن الله لا يكلم الكفّار ولا يحاسبهم. وفي قوله تعالى: وَلا يُزَكِّيهِمْ، ثلاثة أقوال: أحدها: لا يزكي أعمالهم، قاله مقاتل. والثاني: لا يثني عليهم، قاله الزجاج. والثالث: لا يطهرهم من دنس كفرهم وذنوبهم، قاله ابن جرير.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٥]
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥)
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ، أي: اختاروها على الهدى. وفي قوله تعالى:
فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ، أربعة أقوال: أحدها: أن معناه: فما أصبرهم على عمل يؤدّيهم إلى النار! قاله عكرمة، والربيع. والثاني: ما أجرأهم على النار قاله الحسن، ومجاهد. وذكر الكسائي أن أعرابياً حلف له رجل كاذباً، فقال الأعرابي: ما أصبرك على الله، يريد: ما أجرأك. والثالث: ما أبقاهم في النار، كما تقول: ما أصبر فلاناً على الحبس، أي: ما أبقاه فيه، ذكره الزجاج. والرابع: أن المعنى:
فأي شيء صبّرهم على النار؟! قاله ابن الأنباري. وفي «ما» قولان: أحدهما: أنها للاستفهام، تقديرها:
ما الذي أصبرهم؟ قاله عطاء، والسدي، وابن زيد، وأبو بكر بن عياش. والثاني: أنها للتعجب،
(١) تقدم عند الآية ١٥٩.
كقولك: ما أحسن زيداً، وما أعلم عَمراً. وقال ابن الأنباري: معنى الآية التعجب، والله يعجّب المخلوقين، ولا يعجب هو كعجبهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٦]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (١٧٦)
قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ الإشارة بذلك إلى ما تقدم من الوعيد بالعذاب، فتقديره: ذلك العذاب بأن الله نزل الكتاب بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه.
وفي «الكتاب» قولان: أحدهما: أنه التوراة. والثاني: القرآن. وفي «الحق» قولان: أحدهما: أنه العدل، قاله ابن عباس. والثاني: أنه ضد الباطل، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ فيه قولان:
أحدهما: أنه التوراة، ثم في اختلافهم فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أن اليهود والنصارى اختلفوا فيها، فادعى النصارى فيها صفة عيسى، وأنكر اليهود ذلك. والثاني: أنهم خالفوا ما في التوراة من صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم. والثالث: أنهم خالفوا سلفهم في التمسك بها.
والثاني: أنه القرآن، فمنهم من قال: شعر، ومنهم من قال: إنما يعلّمه بشر.
والشقاق: معاداة بعضهم لبعض. وفي معنى «بعيد» قولان: أحدهما: أن بعضهم متباعد في مشاقة بعض، قاله الزجاج. والثاني: أنه بعيد من الهدى.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٧]
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (١٧٧)
قوله تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ. قال قتادة:
(٦٢) ذُكر لنا أن رجلاً سأل عن «البِر»، فأنزلت هذه الآية، فدعاه رسول الله، فتلاها عليه.
وفيمن خُوطب بها قولان: أحدهما: أنهم المسلمون. والثاني: أهل الكتابين. فعلى القول الاول معناها: ليس البر كله في الصلاة، ولكن البر ما في هذه الآية. وهذا مروي عن ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، والضحاك وسفيان. وعلى القول الثاني معناها: ليس البر صلاة اليهود إلى المغرب، وصلاة النصارى إلى المشرق، ولكن البر ما في هذه الآية، وهذا قول قتادة، والربيع، وعوف الأعرابي، ومقاتل.
وقرأ حمزة، وحفص عن عاصم: لَيْسَ الْبِرَّ بنصب الراء، وقرأ الباقون برفعها، قال أبو عليّ:
ضعيف. أخرجه الطبري ٢٥٢٧ عن قتادة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» ٨٨ عن قتادة بدون إسناد.
كلاهما حسن، لأن كل واحد من الاسمين اسم «ليس» وخبرها، معرفة، فاذا اجتمعا في التعريف تكافآ في كون أحدهما اسماً، والآخر خبراً، كما تتكافأ النكرتان.
وفي المراد بالبر ثلاثة أقوال: أحدها: الإيمان. والثاني: التقوى. والثالث: العمل الذي يقرب إلى الله. قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، فيه قولان: أحدهما: أن معناه: ولكن البرّ برّ من آمن بالله. والثاني: ولكن ذا البر من آمن بالله، حكاهما الزجاج.
وقرأ نافع، وابن عامر: «ولكن البر» بتخفيف نون «لكن» ورفع «البر». وإنما ذكر اليوم الآخر، لأن عبدة الأوثان لا يؤمنون بالبعث. وفي المراد بالكتاب هاهنا قولان: أحدهما: أنه القرآن. والثاني:
أنه بمعنى الكتاب، فيدخل في هذا اليهود، لتكذيبهم بعض النبيين وردهم القرآن.
قوله تعالى: وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ، في هاء «حبه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى المال.
والثاني: إلى الإيتاء. وكان الحسن إذا قرأها قال: سوى الزكاة المفروضة.
قوله تعالى: ذَوِي الْقُرْبى، يريد: قرابة المعطي. وقد شرحنا معنى: وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ عند رأس ثلاث وثمانين آية من هذه السورة.
فأما «ابن السبيل» ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الضيف، قاله سعيد بن جبير، والضحاك، ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أنه الذي يمر بك مسافراً، قاله الربيع بن أنس، وعن مجاهد، وقتادة كالقولين. وقد روي عن الإمام أحمد أنه قال: هو المنقطع به يريد بلدا آخر وهو الطريق، وابنه: صاحبه الضارب فيه، فله حق على من يمر به إذا كان محتاجاً. ولعل أصحاب القول الأول أشاروا إلى هذا، لأنه إن كان مسافراً، فانه ضيف لم ينزل. والقول الثالث: أنه الذي يريد سفراً، ولا يجد نفقة، ذكره الماوردي وغيره عن الشافعي.
قوله تعالى: وَفِي الرِّقابِ أي في فك الرقاب. ثم فيه قولان: أحدهما: أنهم المكاتبون يعانون في كتابتهم بما يعتقون به، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو مروي عن علي بن أبي طالب، والحسن، وابن زيد، والشافعي. والثاني: أنهم عبيد يشترون بهذا السهم ويعتقون، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مالك بن أنس، وأبو عبيد، وأبو ثور. وعن أحمد كالقولين.
وأمّا البأساء فهي: الفقر. والضراء: المرض. وحين البأس: القتال قاله الضحاك. أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا، قال أبو العالية: تكلّموا بالإيمان وحقّقوه بالعمل.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ. روى شيبان عن قتادة أن أهل الجاهلية كان فيهم بغي، وكان الحيّ منهم إذا كان فيهم عدد وعدّة، فقتل عبدهم عبد قوم آخرين قالوا: لن نقتل به إلا حراً، تعززاً لفضلهم على غيرهم. وإذا قتلت امرأة منهم امرأة من آخرين قالوا: لن نقتل بها إلا
136
رجلا فنزلت هذه الآية «١». ومعنى «كتب» : فرض، قاله ابن عباس وغيره. والقصاص: مقابلة الفعل بمثله، مأخوذ من: قصّ الأثر، فإن قيل: كيف يكون القصاص فرضاً والولي مخير بينه وبين العفو؟
فالجواب: أنه فرض على القاتل للولي، لا على الولي.
قوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ، أي: من دم أخيه أي: ترك له القتل، ورضي منه بالدية. ودل قوله: مِنْ أَخِيهِ على أن القاتل لم يخرج عن الإسلام، فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ أي: مطالبته بالمعروف، يأمر آخذ الدية بالمطالبة الجميلة التي لا يرهقه فيها. وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ يأمر المطالب بأن لا يبخس ولا يماطل ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ، قال سعيد بن جبير: كان حكم الله على أهل التوراة أن يقتل قاتل العمد، ولا يعفى عنه، ولا يؤخذ منه دية، فرخَّص الله لأمة محمد، فان شاء وليّ المقتول عمداً قتل، وإن شاء عفا، وإن شاء أخذ الدية.
قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى، أي: ظلم، فقتل قاتل صاحبه بعد أخذ الدية فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ، قال قتادة: يقتل ولا تقبل منه الدية.
فصل: ذهب جماعة من المفسرين إلى أن دليل خطاب هذه الآية منسوخ، لأنه لما قال: الْحُرُّ بِالْحُرِّ اقتضى أن لا يقتل العبد بالحر، وكذلك لما قال: وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى اقتضى أن لا يقتل الذكر بالأنثى من جهة دليل الخطاب، وذلك منسوخ بقوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ «٢»، وقال شيخنا علي بن عبد الله: وهذا عند الفقهاء ليس بنسخ، لأن الفقهاء يقولون: دليل الخطاب حجّة ما لم يعارضه دليل أقوى منه «٣».
(١) أخرجه الطبري ٢٥٦٧ عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة مرسلا، وأخرجه عبد الرزاق ١٦٣ والطبري ٢٥٦٨ عن معمر عن قتادة. ولم أره عن شيبان عن قتادة، وشيبان هو ابن عبد الرحمن، وهو ممن يروي عن قتادة.
وله شاهد من مرسل الشعبي، أخرجه الطبري ٢٥٦٦، فهذا الشاهد يقوي ما قبله، والله أعلم.
(٢) المائدة: ٤٥.
(٣) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» : ويقتل الذكر بالأنثى، والأنثى بالذكر، هذا قول عامة أهل العلم، منهم النخعي، والشعبي، والزّهري، وعمر بن عبد العزيز ومالك، وأهل المدينة، والشافعي وإسحاق، وأصحاب الرأي، وغيرهم. وروي عن علي رضي الله عنه، أنه قال: يقتل الرجل بالمرأة، ويعطى أولياؤه نصف الدية. أخرجه سعيد. وروي مثل هذا عن أحمد. وحكي ذلك عن الحسن، وعطاء. وحكي عنهما مثل قول الجماعة. ولعلّ من ذهب إلى القول الثاني يحتجّ بقول عليّ، رضي الله عنه، ولأن عقلها نصف عقله، فإذا قتل بها بقي له بقية، فاستوفيت ممن قتله. ولنا قوله تعالى: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ. وقوله: الْحُرُّ بِالْحُرِّ مع عموم سائر النصوص، وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أرسل قتل يهوديا رضّ رأس جارية من الأنصار. وروى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والأسنان، وأن الرجل يقتل بالمرأة. وهو كتاب مشهور عند أهل العلم، متلقى بالقبول عندهم، ولأنهما شخصان يحدّ كل واحد منهم بقذف صاحبه، فقتل كل واحد منهما بالآخر، كالرجلين، ولا يجب مع القصاص شيء، لأنه قصاص واجب، فلم يجب معه شيء على المقتص، كسائر القصاص، واختلاف الأبدال لا عبرة به في القصاص بدليل أن الجماعة يقتلون بالواحد، والنصراني يؤخذ بالمجوسي، مع اختلاف دينيهما، ويؤخذ العبد بالعبد، مع اختلاف قيمتهما. ويقتل كل واحد من الرجل والمرأة بالخنثى، ويقتل بهما، لأنه لا يخلو من أن يكون ذكرا أو أنثى. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ١/ ٢٠٩- ٢١٠: ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة وإليه ذهب الثوري وابن أبي ليلى وداود وهو مروي عن علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وقتادة والحكم. قال البخاري وعلي بن المديني وإبراهيم النخعي والثوري في رواية عنه: ويقتل السيد بعبده لعموم حديث الحسن عن سمرة «من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه ومن خصاه خصيناه». فقالوا لا يقتل الحر بالعبد لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم يجب فيه دية، وإنما تجب فيه قيمته ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقتل مسلم بكافر» ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا.
وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة. قال الحسن وعطاء لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية وخالفهم الجمهور لآية المائدة ولقوله عليه السّلام: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» وقال الليث إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة.
137

[سورة البقرة (٢) : آية ١٧٩]

وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩)
قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ. قال الزجاج: إذا علم الرجل أنه إن قَتَل قتل أمسك عن القتل، وكان في ذلك حياة للذي هم بقتله ولنفسه، لأنه من أجل القصاص أمسك. وأخذ هذا المعنى الشاعر فقال:
أبلغ أبا مالك عني مغلغلة وفي العتاب حياة بين أقوام «١»
يريد: أنّهم إذا تعاتبوا أصلح ما بينهم العتاب. والألباب: العقول، وإنما خصهم بهذا الخطاب وإن كان الخطاب عاماً، لأنهم المنتفعون بالخطاب، لكونهم يأتمرون بأمره وينتهون بنهيه. وقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، قال ابن عباس: لعلكم تتقون الدماء. وقال ابن زيد: لعلك تتقي أن يقتله فتقتل به.
فصل: نقل ابن منصور عن أحمد: إذا قتل رجل رجلاً بعصا أو خنقه أو شدخ رأسه بحجر يقتل بمثل الذي قتل به. فظاهر هذا أن القصاص يكون بغير السيف، ويكون بمثل الآلة التي قتل بها، وهو قول مالك والشافعي. ونقل عنه حرب: إذا قتله بخشبة قتل بالسيف. ونقل أبو طالب: إذا خنقه قتل بالسيف. فظاهر هذا أنه لا يكون القصاص إلّا بالسّيف، وهو قول أبي حنيفة «٢».
(١) في «اللسان» : المغلغلة: الرّسالة. ورسالة مغلغلة: محمولة من بلد إلى بلد.
(٢) قال الإمام الموفّق رحمه الله في «المغني» ١١/ ٥٠٨: اختلفت الرّواية عن أحمد في كيفية الاستيفاء، فروي عنه، لا يستوفى إلا بالسيف في العنق. وبه قال عطاء، والثوري، وأبو يوسف، ومحمد، لما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا قود إلا بالسيف» رواه ابن ماجة. ولأن القصاص أحد بدلي النفس، فدخل الطرف في حكم الجملة كالدية فإنه لو صار الأمر إلى الدية، لم تجب إلا دية النفس، ولأن القصد من القصاص في النفس تعطيل الكل، وإتلاف الجملة، وقد أمكن هذا بضرب العنق، فلا يجوز تعذيبه بإتلاف أطرافه، كما لو قتله بسيف كال، فإنه لا يقتل بمثله. والرواية الثانية عن أحمد قال: إنه لأهل أن يفعل به كما فعل. يعني أن للمستوفي أن يقطع أطرافه، ثم يقتله. وهذا مذهب عمر بن عبد العزيز ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأبي ثور. لقول الله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وقوله سبحانه: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ. ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رضخ رأس يهودي لرضخه رأس جارية من الأنصار بين حجرين. ولأن الله تعالى قال: وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ. وهذا قد قلع عينه، فيجب أن تقلع عينه، للآية. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حرّق حرّقناه، ومن أغرق غرّقناه». ولأن القصاص موضوع على المماثلة، ولفظه مشعر به، فوجب أن يستوفى منه مثل ما فعل، كما لو ضرب العنق آخر غيره. فأما حديث: «لا قود إلا بالسيف».
فقال أحمد: ليس إسناده بجيد.

[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٠]

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠)
قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ. قال الزجاج: المعنى: وكتب عليكم، إلا أن الكلام إذا طال استغنى عن العطف بالواو. وعلم أن معناه معنى الواو، وليس المراد: كتب عليكم أن يوصي أحدكم عند الموت، لأنه في شغل حينئذ، وإنما المعنى: كتب عليكم أن توصوا وأنتم قادرون على الوصية، فيقول الرجل: إذا أنا متُّ، فلفلان كذا، فأما الخير هاهنا فهو المال في قول الجماعة. وفي مقدار المال الذي تقع هذه الوصية فيه ستة أقوال: أحدها: أنه ألف درهم فصاعداً، روي عن علي، وقتادة. والثاني: أنه سبعمائة درهم فما فوقها، رواه طاوس عن ابن عباس. والثالث:
ستون ديناراً فما فوقها، رواه عكرمة عن ابن عباس. والرابع: أنه المال الكثير الفاضل عن نفقة العيال.
قالت عائشة لرجل سألها: إني أُريد الوصية، فقالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف، قالت: كم عيالك؟
قال: أربعة. قالت: هذا شيء يسير، فدعه لعيالك. والخامس: أنه من ألف درهم إلى خمسمائة، قاله إبراهيم النخعي. والسادس: أنه القليل والكثير، رواه معمر عن الزهري. فأما المعروف فهو الذي لا حيف فيه.
فصل: وهل كانت الوصية ندباً أو واجبة؟ فيه قولان: أحدهما: أنها كانت ندباً. والثاني: أنها كانت فرضاً، وهو أصح، لقوله تعالى: كُتِبَ، ومعناه: فرض. قال ابن عمر: نسخت هذه الآية بآية الميراث. وقال ابن عباس: نسخها: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ. والعلماء متفقون على نسخ الوصية للوالدين والأقربين الذين يرثون، وهم مختلفون في الأقربين الذين لا يرثون: هل تجب الوصية لهم؟ على قولين، أصحّهما أنها لا تجب لأحد «١».
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨١]
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١)
قوله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ، قال الزجاج: من بدل أمر الوصية بعد سماعه إياها، فانما إثمه على مبدله، لا على الموصي، ولا على الموصى له إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما قد قاله الموصي عَلِيمٌ بما يفعله الموصى إليه.
(١) قال القرطبي رحمه الله ٢/ ٢٥٥: اختلف العلماء في وجوب الوصية على من خلّف مالا، بعد إجماعهم على أنها واجبة على من قبله ودائع وعليه ديون. وأكثر العلماء على أن الوصية غير واجبة على من ليس قبله شيء من ذلك وهو قول مالك والشافعي والثوري موسرا كان الموصي أو فقيرا. وقال الزهري وأبو مجلز: الوصية واجبة على ظاهر القرآن قليلا كان المال أو كثيرا وقال أبو ثور: ليست الوصية واجبة إلا على رجل عليه دين أو عنده مال لقوم فواجب أن يكتب وصيته ويخبر بما عليه. أما من لا دين عليه ولا وديعة عنده فليست بواجبة عليه إلا أن يشاء. قال ابن المنذر: وهذا حسن. واحتج الأولون بما رواه ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده».

[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٢]

فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢)
قوله تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص عن عاصم (مُوصٍ) ساكنة الواو، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم «مُوَصٍ» مفتوحة الواو مشددة الصاد. وفي المراد بالخوف هاهنا قولان: أحدهما: أنه العلم. والثاني: نفس الخوف، فعلى الأول يكون الجور قد وجد. وعلى الثاني: يخشى وجوده. و «الجنف» : الميل عن الحق. قال الزجاج:
جنفاً، أي: ميلاً، أو إثماً أي قصد الإثم. وقال ابن عباس: الجنف: الخطأ، والإثم: التّعمّد، إلّا أنّ المفسّرين علّقوا الجنف على المخطئ، والإثم على العامد. وفي توجيه هذه الآية قولان: أحدهما: أنّ معناها: من حضر رجلاً يموت، فأسرف في وصيته أو قصّر عن حقّ، فليأمره بالعدل، وهذا قول مجاهد. والثاني: أن معناها: من أوصى بجور، فردّ وليّه وصيّته، أو ردّها من أئمة المسلمين إلى كتاب الله وسنة نبيّه فلا إثم عليه، وهذا قول قتادة.
قوله تعالى: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ، أي: بين الذين أوصى لهم، ولم يجر لهم ذكر، غير أنه لما ذكر الموصي أفاد مفهوم الخطاب أن هناك موصى له، وأنشد الفراء:
وما أدري إذا يَمَّمْتُ أرضاً أُريدُ الخَيْرَ أيهما يليني؟!
أألخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني
فكنّى في البيت الأول عن الشر بعد ذكره الخير وحده، لما في مفهوم اللفظ من الدّلالة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ. الصيام في اللغة: الإمساك في الجملة، يقال: صامت الخيل: إذا أمسكت عن السير، وصامت الريح: إِذا أمسكت عن الهبوب. والصوم في الشرع: عبارة عن الإمساك عن الطعام والشراب والجماع مع انضمام النية إليه.
وفي الذين من قبلنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أهل الكتاب، رواه عطاء الخراساني عن ابن عباس، وهو قول مجاهد. والثاني: أنهم النصارى، قاله الشعبي، والربيع. والثالث: أنهم جميع أهل الملل، ذكره أبو صالح عن ابن عباس.
وفي موضع التشبيه في كاف كَما كُتِبَ قولان: أحدهما: أن التشبيه في حكم الصوم وصفته، لا في عدده. قال سعيد بن جبير: كتب عليهم إذا نام أحدهم قبل أن يطعم لم يحل له أن يطعم إلى القابلة، والنساء عليهم حرام ليلة الصيام، وهو عليهم ثابت. وقد أرخص لكم. فعلى هذا تكون هذه الآية منسوخة بقوله: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ، فإنها بين صوم أهل الكتاب وبين صوم المسلمين. والثاني: أن التشبيه في عدد الأيام. ثم في ذلك قولان: أحدهما: أنه فرض على هذه الأمة صوم ثلاثة أيام من كل شهر، وقد كان ذلك فرضاً على من قبلهم. قال عطية عن ابن عباس في قوله تعالى: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، قال: كان ثلاثة أيام من كل شهر، ثم نسخ برمضان.
وقال معمر عن قتادة: كان الله قد كتب على الناس قبل رمضان ثلاثة أيام من كل شهر، فعلى هذا القول تكون الآية منسوخة بقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ. والثاني: أنه فرض على من
قبلنا صوم رمضان بعينه. قال ابن عباس: فقدم النصارى يوماً ثم يوماً، وأخَّروا يوماً، ثم قالوا: نقدم عشراً ونؤخر عشراً. وقال السدي عن أشياخه: اشتد على النصارى صوم رمضان، فجعل يتقلب عليهم في الشتاء والصيف، فلمّا رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صياماً في الفصل بين الشتاء والصيف، وقالوا:
نزيد عشرين يوماً نكفر بها ما صنعنا، فعلى هذا تكون الآية محكمة غير منسوخة.
قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ، لأن الصيام وصلة إلى التقى، إذ هو يكف النفس عن كثير مما تتطلع إليه من المعاصي، وقيل: لعلّكم تتّقون محظورات الصّوم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٤]
أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤)
قوله تعالى: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ، قال الزجاج: نصب «أياماً» على الظرف، كأنه قال: كتب عليكم الصيام في هذه الأيام. والعامل فيه «الصيام»، كأنَّ المعنى: كتب عليكم أن تصوموا أياماً معدودات. وفي هذه الأيام ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ثلاثة أيام من كل شهر. والثاني: أنها ثلاثة أيام من كل شهر ويوم عاشوراء. والثالث: أنها شهر رمضان، وهو الأصح، وتكون الآية محكمة في هذا القول، وفي القولين قبله تكون منسوخة. فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ، فيه إضمار: فأفطر.
فصل: وليس المرض والسفر على الإطلاق، فان المريض إذا لم يضر به الصوم لم يجز له الإفطار، وإنما الرخصة موقوفة على زيادة المرض بالصوم. واتفق العلماء أن السفر مقدر، واختلفوا في تقديره، فقال أحمد، ومالك، والشافعي: أقله مسيرة ستة عشر فرسخاً: يومان، وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقله مسيرة ثلاثة أيام، مسيرة أربعة وعشرين فرسخاً. وقال الأوزاعي: أقله مرحلة يوم، مسيرة ثمانية فراسخ. وقيل: إن السفر مشتق من السفر الذي هو الكشف، يقال: سفرت المرأة عن وجهها، وأسفر الصبح: إذا أضاء، فسمي الخروج إلى المكان البعيد: سفراً، لأنه يكشف عن أخلاق المسافر «١».
(١) قال القرطبي رحمه الله ٢/ ٢٧٣: اختلف العلماء في السفر الذي يجوز فيه الفطر والقصر، بعد إجماعهم على سفر الطاعة كالحج والجهاد. ويتصل بهذين سفر صلة الرحم وطلب المعاش الضروري. أما سفر التجارات والمباحات فمختلف فيه بالمنع والإجازة والقول بالجواز أرجح. وأما سفر العاصي فيختلف فيه بالجواز والمنع، والقول بالمنع أرجح، قاله ابن عطية. ومسافة الفطر عند مالك حيث تقصر الصلاة. واختلف العلماء في قدر ذلك فقال مالك: يوم وليلة، ثم رجع فقال: ثمانية وأربعون ميلا وقال ابن خويز منداد: وهو ظاهر مذهبه وقال مرّة: اثنان وأربعون ميلا وقال مرة: ستة وثلاثون ميلا وقال مرّة: مسيرة يوم وليلة، وروي عنه يومان وهو قول الشافعي. وفصّل مرة بين البر والبحر فقال في البحر مسيرة يوم وليلة، وفي البر ثمانية وأربعون ميلا. وفي المذهب ثلاثون ميلا. وفي غير المذهب ثلاثة أميال. وقال ابن عمرو وابن عباس والثوري: الفطر في سفر ثلاثة أيام.
- واختلف العلماء في الأفضل من الفطر أو الصوم في السفر فقال مالك والشافعي في بعض ما روي عنهما:
الصوم أفضل لمن قوي عليه. وجلّ مذهب مالك التخيير وكذلك مذهب الشافعي. قال الشافعي ومن اتبعه:
هو مخيّر، ولم يفصّل وكذلك ابن عليّه لحديث أنس قال: سافرنا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، خرّجه مالك والبخاري ومسلم. وروي عن عثمان بن أبي العاص الثقفي وهو قول أبي حنيفة وأصحابه. وروي عن ابن عمر وابن عباس: الرخصة أفضل، وقال به سعيد بن المسيب والشعبي وعمر بن عبد العزيز ومجاهد وقتادة والأوزاعي وأحمد وإسحاق. كل هؤلاء يقولون الفطر أفضل لقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ.
قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ، نقل عن ابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وابن عمر، وابن عباس، وسلمة بن الأكوع، وعلقمة، والزهري في آخرين في هذه الآية أنهم قالوا:
كان من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى، يطعم عن كل يوم مسكيناً، حتى نزلت: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ، فعلى هذا يكون معنى الكلام: وعلى الذين يطيقونه ولا يصومونه فدية، ثم نسخت.
وروي عن عكرمة أنه قال: نزلت في الحامل والمرضع. وقرا أبو بكر الصديق، وابن عباس: «وعلى الذين يطوّقونه» بضم الياء وفتح الطاء وتشديد الواو. قال ابن عباس: هو الشيخ والشيخة. قوله تعالى:
فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة والكسائيّ (فدية) منون طَعامُ مَساكِينَ موحد. وقرأ نافع، وابن عامر: «فدية» بغير تنوين «طعام» بالخفض «مساكين» بالجمع، وقال أبو علي: معنى القراءة الأولى: على كل واحد طعام مساكين. ومثله: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ «١»، أي:
اجلدوا كل واحد ثمانين. قال أبو زيد: أتينا الأمير فكسانا كلنا حلّة، وأعطانا كلّنا مائة، أي: فعل ذلك بكل واحد منا. قال: فأما من أضاف الفدية إلى الطعام، فكإضافة البعض إلى ما هو بعض له، وذلك أنه سمى الطعام الذي يفدى به فدية، ثم أضاف الفدية إلى الطعام الذي يعم الفدية وغيرها، فهو على هذا من باب: خاتم حديد. وفي قوله تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً، ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: من أطعم مسكينين، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: أن التّطوّع إطعام مساكين، قاله طاوس. والثالث: أنه زيادة المساكين على قوته، وهو مروي عن مجاهد، وفعله أنس بن مالك لما كبر. وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ عائد إلى من تقدم ذكره من الأصحاء المقيمين المخيّرين بين الصوم والإطعام على ما حكينا في أول الآية عن السلف، ولم يرجع ذلك إلى المرضى والمسافرين، والحامل والمرضع، إذ الفطر في حق هؤلاء أفضل من الصوم، وقد نهوا عن تعريض أنفسهم للتلف، وهذا يقوّي قول القائلين بنسخ الآية.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٥]
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥)
قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ. قال الأخفش: شهر رمضان بالرفع على تفسير الأيام، كأنه لما قال: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فسرها فقال: هي شهر رمضان، قال أبو عبيد: وقرأ مجاهد: «شهرَ رمضان» بالنصب، وأُراه نصبه على معنى الإغراء: عليكم شهر رمضان فصوموه كقوله: مِلَّةَ أَبِيكُمْ «٢»،
(١) النور: ٤.
(٢) الحج: ٧٨. [.....]
142
وقوله: صِبْغَةَ اللَّهِ «١»، قلت: وممن قرأ بالنصب معاوية والحسن وزيد بن علي وعكرمة ويحيى بن يعمر. قال ابن فارس: الرمض: حر الحجارة من شدة حر الشمس، ويقال: شهر رمضان، من شدة الحر، لأنهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، سموها بالأزمنة التى وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر، ويجمع على رمضانات وأرمضاء وأرمضة. قوله تعالى: الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أنزل القرآن فيه جملة واحدة، وذلك في ليلة القدر إلى بيت العزة من السماء الدنيا، قاله ابن عباس. والثاني: أنّ معناه: أنزل القرآن بفرض صيامه، وروي عن مجاهد، والضحاك. والثالث: أن معناه: إن القرآن ابتدئ بنزوله فيه على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن إسحاق، وأبو سليمان الدمشقي. قال مقاتل: والفرقان المخرج في الدين من الشبهة والضلالة. قوله تعالى:
فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ «٢»، أي: من كان حاضراً غير مسافر. فإن قيل: ما الفائدة في إعادة
(١) البقرة: ١٣٨.
(٢) فائدة: قال الإمام الموفّق رحمه الله في «المغني» ٤/ ٣٢٥ ما ملخصه: (وإذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما، طلبوا الهلال، فإن كانت السماء مصحية لم يصوموا ذلك اليوم). وجملة ذلك أنه يستحب للناس ترائي الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، وتطلبه ليحتاطوا بذلك لصيامهم، ويسلموا من الاختلاف. وقد روى الترمذي، عن أبي هريرة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أحصوا هلال شعبان لرمضان» فإذا رأوه وجب عليهم الصيام إجماعا، وإن لم يروه وكانت السماء مصحية، لم يكن لهم صيام ذلك اليوم، إلا أن يوافق صوما كانوا يصومونه، مثل من عادته صوم يوم وإفطار يوم، أو صوم يوم الخميس، أو صوم آخر يوم من الشهر، وشبه ذلك إذا وافق صومه، أو من صام قبل ذلك بأيام، فلا بأس بصومه لما روى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يتقدمن أحدكم رمضان بصيام يوم أو يومين، إلا أن يكون رجل يصوم صياما فليصمه» متفق عليه. وقال عمار: من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلّى الله عليه وسلّم. وإذا رأى الهلال أهل بلد، لزم جميع البلاد الصوم. وهذا قول الليث وبعض أصحاب الشافعي، وقال بعضهم: إن كان بين البلدين مسافة قريبة لا تختلف المطالع لأجلها كبغداد والبصرة، لزم أهلهما الصوم برؤية الهلال في أحدهما، وإن كان بينهم بعد، كالعراق والحجاز والشام، فلكلّ أهل بلد رؤيتهم، وروي عن عكرمة، أنه قال: لكل أهل بلد رؤيتهم. وهو مذهب القاسم وسالم، وإسحاق.
- قال: وإن حال دون منظره غيم أو قتر وجب صيامه وقد أجزأ إذا كان من شهر رمضان. اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في هذه المسألة، فروي عنه مثل ما نقل الخرقي، اختارها أكثر شيوخ أصحابنا، وهو مذهب عمر، وابنه، وعمرو بن العاص، وأبي هريرة، وأنس، ومعاوية، وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر. وبه قال بكر بن عبد الله، وأبو عثمان النهدي وابن أبي مريم ومطرّف وميمون بن مهران، وطاوس ومجاهد وروي عنه أن الناس تبع للإمام، فإن صام صاموا، وإن أفطر أفطروا. وهذا قول الحسن، وابن سيرين، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«الصوم يوم تصومون، والفطر يوم تفطرون، والأضحى يوم تضحون». قيل معناه أن الصوم والفطر مع الجماعة. وعن أحمد، رواية ثالثة: لا يجب صومه ولا يجزئه عن رمضان إن صامه. وهو قول أكثر أهل العلم، منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي ومن تبعهم، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غبّي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين» رواه البخاري. وعن ابن عمر، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فاقدروا له ثلاثين». رواه مسلم. وقد صح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم نهى عن صوم يوم الشك. متفق عليه. وهذا يوم شك. ولأن الأصل بقاء شعبان، فلا ينتقل عنه الشك. ولنا ما روى نافع، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الشهر تسع وعشرون، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غمّ عليكم فاقدروا له». قال نافع: كان عبد الله إذا مضى من شعبان تسعة وعشرون يوما، بعث من ينظر له الهلال، فإن رأى فذاك، وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا، وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما. رواه أبو داود. ومعنى اقدروا له: أي ضيقوا له العدد من قوله تعالى: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ أي ضيّق عليه. وقوله: يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ. والتضييق له أن يجعل شعبان تسعة وعشرون يوما. وقد فسره ابن عمر بفعله، وهو راويه، وأعلم بمعناه. قال علي وأبو هريرة وعائشة: لأن أصوم يوما من شعبان، أحبّ إليّ من أن أفطر يوما من رمضان.
ولأن الصوم يحتاط له، ولذلك وجب الصوم بخبر واحد ولم يفطر إلا بشهادة اثنين. فأما خبر أبي هريرة الذي احتجوا به، فإنه يرويه محمد بن زياد، وقد خالفه سعيد بن المسيب، فرواه عن أبي هريرة: «فإن غمّ عليكم فصوموا ثلاثين». وروايته أولى بالتقديم، لإمامته، واشتهار عدالته وثقته، وموافقته لرأي أبي هريرة ومذهبه، ولخبر ابن عمر الذي رويناه ورواية ابن عمر: «فاقدروا له ثلاثين» مخالفة للرواية الصحيحة المتفق عليها ولمذهب ابن عمر ورأيه. والنهي عن صوم يوم الشك محمول على حال الصحو بدليل ما ذكرنا.
143
المرض والسفر في هذه الآية، وقد تقدم ذلك؟ قيل: لأن في الآية المتقدمة منسوخاً، فأعاده لئلا يكون مقروناً بالمنسوخ. قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ، قال ابن عباس، ومجاهد وقتادة والضحاك: اليسر: الإِفطار في السفر، والعسر: الصوم فيه. وقال عمر بن عبد العزيز: أي ذلك كان أيسر عليك فافعل: الصوم في السفر، أو الفطر. قوله تعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ، قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «ولتكملوا» باسكان الكاف خفيفة. وقرأ أبو بكر عن عاصم بتشديد الميم، وذلك مثل: «وصّى» و «أوصى» وقال ابن عباس: ولتكملوا عدة ما أفطرتم. وقال بعضهم: المراد به: لا تزيدوا على ما افترض، كما فعلت النصارى، ولا تنقلوه عن زمانه كما نقلته، وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ، قال ابن عباس: حق على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال، أن يكبروا لله حتى يفرغوا من عيدهم. فان قيل: ما وجه دخول الواو في قوله: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ، وليس هناك ما يعطف عليه؟ فالجواب: أن هذه الواو عطفت اللام التي بعدها على لام محذوفة، والمعنى: ولا يريد بكم العسر، ليسعدكم، ولتكملوا العدة، فحذفت اللام الأولى لوضوح معناها، ذكره ابن الأنباري.
فصل: ومن السنة إظهار التكبير ليلة الفطر، وليلة النحر، وإذا غدوا إلى المصلَّى. واختلفت الرواية عن أحمد، رضي الله عنه، متى يقطع في عيد الفطر، فنقل عنه حنبل: يقطع بعد فراغ الإمام من الخطبة. ونقل الأثرم: إذا جاء المصلَّى، قطع. قال القاضي أبو يعلى: يعني: إذا جاء المصلى وخرج الإمام «١».
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ٣/ ٢٨٧- ٢٩٢ ما ملخصه: لا خلاف بين العلماء، رحمهم الله، في أن التكبير مشروع في عيد النحر واختلفوا في مدته، فذهب إمامنا، رضي الله عنه، إلى أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى العصر في آخر أيام التشريق، وهو قول عمر، وعلي، وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم. وإليه ذهب الثوري، وابن عينية وأبو يوسف ومحمد والشافعي في بعض أقواله. وعن ابن مسعود أنه كان يكبر من غداة عرفة إلى العصر من يوم النحر. وإليه ذهب علقمة، والنخعي، وأبو حنيفة، لقوله: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ وهي العشر، وأجمعنا على أنه لا يكبّر قبل يوم عرفة، فينبغي أن يكبر يوم عرفة ويوم النحر.
وعن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز، أن التكبير من صلاة الظهر يوم النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق.
وبه قال مالك، والشافعي في المشهور عنه لأن الناس تبع للحاج، والحاجّ يقطعون التلبية مع أول حصاة.
ويكبرون مع الرمي، وإنما يرمون يوم النحر، فأول صلاة بعد الظهر وآخر صلاة يصلون بمنى الفجر من اليوم الثالث من أيام التشريق. ولنا ما روى جابر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى الصبح يوم عرفة وأقبل علينا، فقال: «الله أكبر، الله أكبر». ومدّ التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق. أخرجه الدارقطني من طرق، وفي بعضها: «الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد» ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم، روي ذلك عن عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود. رواه سعيد عن عمر وعلي وابن عباس وروى بإسناده عن عمير بن سعيد، أن عبد الله كان يكبر من صلاة الغداة يوم عرفة إلى العصر من يوم النحر، فأتانا علي بعده فكبّر من غداة عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد. قيل لأحمد، رحمه الله: بأي حديث تذهب، إلى أن التكبير من صلاة الفجر يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق؟ قال: بالإجماع، عمر، وعلي، وابن عباس وابن مسعود، رضي الله عنهم، ولأن الله تعالى قال: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ وهي أيام التشريق، فيتعين الذكر في جميعها.
- وصفة التكبير: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد. وهذا قول عمر، وعلي، وابن مسعود. وبه قال الثوري وأبو حنيفة، وإسحاق، وابن المبارك، إلا أنه زاد: على ما هدانا. لقوله:
لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ.
144

[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٦]

وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (١٨٦)
قوله تعالى: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي. في سبب نزولها خمسة أقوال:
(٦٣) أحدها: أن أعرابياً جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت هذه الآية، رواه الصلت بن حكيم عن أبيه عن جده.
(٦٤) والثاني: أن يهود المدينة قالوا: يا محمد! كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء مسيرة خمسمائة عام؟! فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(٦٥) والثالث: أنهم قالوا: يا رسول الله! لو نعلم أية ساعة أحب إلى الله أن ندعو فيها دعونا، فنزلت هذه الآية، قاله عطاء.
(٦٦) والرابع: أن أصحاب النبي قالوا له: أين الله؟ فنزلت هذه الآية، قاله الحسن.
(٦٧) والخامس: أنه لما حرم في الصوم الأول على المسلمين بعد النّوم الأكل والجماع أكل
ضعيف. أخرجه الطبري ٢٩١٢ عن الصلت بن حكيم عن أبيه عن جده، وإسناده ضعيف لجهالة الصلت.
باطل. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهو من رواية الكلبي كما صرّح بذلك البغوي. قال في «معالم التنزيل» ١/ ١٥٥: رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. والكلبي كذاب، وأبو صالح ليس بثقة، وقد رويا تفسيرا موضوعا عن ابن عباس، انظر المقدمة. ثم لفظ «عبادي» يدل على أن السائل من المؤمنين إن كان ثمّ سائل، والصواب عدم صحة سبب نزول في هذه الآية، وإذا هنا بمعنى لو. أي لو سألك عبادي. والله أعلم.
ضعيف، أخرجه الطبري ٢٩١٥ و ٢٩١٦ عن عطاء مرسلا، فهو ضعيف.
ضعيف، أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ١٩٦ والطبري ٢٩١٣ عن الحسن مرسلا، ومراسيل الحسن واهية لأنه كان يحدث عن كل أحد، كما هو مقرر في كتب المصطلح.
باطل، عزاه المصنف لمقاتل، وإذا أطلق فهو ابن سليمان المفسر المشهور، وهو متهم بالكذب.
- الخلاصة: لم يصح في هذه الآية سبب نزول، والذي يستفاد من الآية هو أن الله عزّ وجلّ قريب من عباده، فلا يجوز أن يجعل الإنسان بينه وبين الله واسطة وإنما يدعوه ويسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا.
- قال الإمام عبد الله بن محمود في كتاب «الاختيار» في فروع الحنفية ٤/ ١٦٤ نقلا عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد: ويكره أن يدعو الله إلّا به. قال في شرحه: فلا يقول أسألك بفلان، أو بملائكتك، أو بأنبيائك، ونحو ذلك، لأنه لا حق للمخلوق على الخالق.
145
رجل منهم بعد أن نام، ووطيء رجل بعد أن نام، فسألوا: كيف التوبة مما عملوا؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. ومعنى الكلام: إذا سألوك عني فأعلمهم أني قريب.
وفي معنى «أجيب» قولان: أحدهما: أسمع، قاله الفراء، وابن القاسم. والثاني: أنه من الإِجابة:
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي، أي: فليجيبوني. قال الشاعر:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب أراد: فلم يجبه. وهذا قول أبي عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج. لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ، قال أبو العالية: يعني: يهتدون.
فصل: إن قال قائل: هذه الآية تدل على أن الله تعالى يجيب أدعية الداعين، وترى كثيراً من الداعين لا يستجاب لهم! (٦٨) فالجواب: أن أبا سعيد روى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «ما من مسلم دعا الله بدعوة ليس فيها قطيعة رحم ولا إِثم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إِما أن يعجل دعوته، وإِما أن يدخرها له في الآخرة، وإِما أن يدفع عنه من السوء مثلها».
وجواب آخر: وهو أن الدعاء تفتقر إجابته إلى شروط أصلها الطاعة لله، ومنها أكل الحلال، فإن أكل الحرام يمنع إجابة الدعاء، ومنها حضور القلب.
(٦٩) ففي بعض الحديث: «لا يقبل الله دعاءً من قلب غافل لاه».
صحيح. أخرجه أحمد ٣/ ١٨ والبخاري في «الأدب المفرد» ٧١٠ والحاكم ١/ ٤٩٣ من حديث أبي سعيد وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وكذا صححه القاضي عبد الحق كما نقل القرطبي ٩١٩ بتخريجنا.
وله شاهد أخرجه البخاري في «الأدب المفرد» ٧١١ من حديث أبي هريرة وإسناده حسن.
حديث ضعيف، لا يتقوى بشواهده بسبب شدة ضعفها. أخرجه أحمد ٢/ ١٧٧ من طريق حسن عن ابن لهيعة عن بكر بن عمرو عن أبي عبد الرحمن الحبلي عن عبد الله بن عمرو بن العاص «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
القلوب أوعية، وبعضها أوعى من بعض، فإذا سألتم الله عزّ وجلّ أيها الناس فاسألوه وأنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل»
. إسناده ضعيف مداره على ابن لهيعة، وقد اختلط، وليس الراوي عنه أحد العبادلة. ومع ذلك قال المنذري في «الترغيب» ٢٤٥٩: رواه أحمد بإسناد حسن!!. وتبعه على ذلك الهيثمي في «المجمع» ١/ ١٤٧/ ١٣٢٠٣ فقال: رواه أحمد بإسناد حسن!!، وصححه أحمد شاكر في «المسند» ٦٦٥٥؟!.
- وله شاهد من حديث ابن عمر: أخرجه الطبراني كما في «المجمع» ١٠/ ١٤٧/ ١٧٢٠٥ وقال الهيثمي: فيه بشير بن ميمون الواسطي، وهو مجمع على ضعفه. قلت: بل هو متروك، قال البخاري: يذكر بوضع الحديث، وقال النسائي متروك، فهذا شاهد لا يفرح به، ولا فائدة منه. وله شاهد من حديث أبي هريرة:
أخرجه الترمذي ٣٤٧٩ والحاكم ١/ ٤٩٣ وابن حبان في «المجروحين» ١/ ٣٧٢ والخطيب ٤/ ٣٥٦ وابن عدي ٤/ ٦٢ وابن عساكر ٤/ ٣٦٠ من طرق عن صالح بن بشير المري عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة به مرفوعا. وإسناده واه لأجل صالح بن بشير. قال الذهبي في «الميزان» ٢/ ٢٨٩: ضعفه ابن معين والدارقطني، وقال أحمد: هو صاحب قصص، ليس هو صاحب حديث، ولا يعرف الحديث، وقال الفلاس:
منكر الحديث جدا، وقال النسائي: متروك، وقال البخاري منكر الحديث. قال الذهبي: وروى عباس عن يحيى: ليس به بأس، لكن روى خمسة عن يحيى جرحه. وقال ابن حبان: كان يروي الشيء الذي سمعه من ثابت والحسن وهؤلاء على التوهم، فيجعله عن أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فظهر في روايته الموضوعات التي يرويها عن الأثبات، واستحق الترك، وكان ابن معين شديد الحمل عليه، وهو الذي يروي عن هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «ادعوا الله..» الحديث. قلت: فالرجل ضعيف جدا متروك الحديث، وقد جاء بهذا المتن عن هشام عن ابن سيرين وحده، ولم يتابع عليه، ولو كان هذا الحديث عند هشام أو ابن سيرين لرواه الثقات لأن كلا منهما إمام يجمع حديثه، فكيف ولم يتابعه عليه ضعيف مثله أو دونه، ، لذا أورده ابن حبان وابن عدي وغيرهما في كتب الضعفاء. وضعفه الترمذي بقوله: غريب. وأما الحاكم، فقال: حديث مستقيم الإسناد، تفرد به صالح المري وهو أحد زهاد البصرة. وتعقبه الذهبي بقوله: قلت: صالح متروك.
وقال المنذري ٢٤٦٠ بعد كلام الحاكم: صالح لا شك في زهده،. لكن تركه أبو داود والنسائي. وذكر ذلك الألباني في «الصحيحة» ٥٩٤ وقال: لكن روي له شاهد بسند ضعيف أخرجه أحمد ٢/ ١٧٧ فذكر حديث ابن عمرو المتقدم. قلت: ولم يصب الألباني بإدراجه في «الصحيحة» بل وليس هو من قبيل الحسن لشدة ضعف حديث أبي هريرة، ويكفي في ذلك قول البخاري عن صالح المري: منكر الحديث. وقد قال البخاري: كل من قلت عنه منكر الحديث، فلا تحل الرواية عنه.
- الخلاصة: حديث أبي هريرة ضعيف جدا وكذا حديث ابن عمر، وأما حديث ابن عمرو فهو ضعيف فحسب، ولا يتقوى بشاهديه لشدة ضعف إسناديهما، والله أعلم.
146
وجواب آخر: وهو أن الداعي قد يعتقد المصلحة في إجابته إلى ما سأل، وقد لا تكون المصلحة في ذلك، فيجاب إلى مقصوده الأصلي، وهو: طلب المصلحة، وقد تكون المصلحة في التأخير أو في المنع.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٧]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٨٧)
قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ. سبب نزول هذه الآية:
(٧٠) أن الصحابة كانوا إذا نام الرجل قبل الأكل والجماع، حرما عليه إلى أن يفطر، فجاء شيخ
أصله قوي. أخرجه وكيع وعبد بن حميد كما في «الدر المنثور» ١/ ٣٥٨ والطبري ٢٩٤٣ و ٢٩٤٤ من طرق عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا مع اختلاف يسير في بعض ألفاظه، والسياق لوكيع وعبد بن حميد.
وإسناده صحيح إلى ابن أبي ليلى، وعلته الإرسال فقط، فالمرسل من قسم الضعيف عند أهل الحديث.
- وورد بنحوه من مرسل السدي: أخرجه الطبري ٢٩٥٧. وورد عن ابن عباس: أخرجه الطبري ٢٩٥١ وإسناده واه، فيه عطية العوفي واه، وعنه من لا يعرف. ورد من مرسل عكرمة: أخرجه الطبري ٢٩٥٩.
- وقد ورد روايات أخرى في قصة عمر بمفرده وكذا في قصة أبي قيس بن صرمة. وأصح شيء ورد في هذا هو ما أخرجه البخاري ١٩١٥ وأبو داود ٢٣١٤ والترمذي ٢٩٦٨ وأحمد ٤/ ٢٩٥ والدارمي ٢/ ٥ والنسائي في «التفسير» ٤٣ والواحدي في «الأسباب» ٩٢ كلهم عن البراء بن عازب: «كان أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبة لك! فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت: أُحِلَّ لَكُمْ... الآية ففرحوا فرحا شديدا» لفظ البخاري.
147
من الأنصار وهو صائم إلى أهله، فقال: عشوني، فقالوا: حتى نسخن لك طعاماً، فوضع رأسه فنام، فجاؤوا بالطعام، فقال: قد كنت نمت، فبات يتقلب ظهراً لبطن، فلما أصبح أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله! إني أردت أهلي الليلة، فقالت: إنها قد نامت، فظننتها تعتل، فواقعتها، فأخبرتني أنها قد نامت، فأنزل الله تعالى في عمر بن الخطاب: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ، وأنزل الله في الأنصاري: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ، هذا قول جماعة من المفسرين. واختلفوا في اسم هذا الأنصاري على أربعة أقوال «١» :
أحدها: قيس بن صرمة، قاله البراء. والثاني: صرمة بن أنس، قاله القاسم بن محمد. وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: صرمة بن مالك. والثالث: ضمرة بن أنس. والرابع: أبو قيس بن عمر.
وذكر القولين أبو بكر الخطيب. فأما «الرفث» فقال ابن عمر وابن عباس ومجاهد وعطاء والحسن وابن جبير في آخرين: هو الجماع.
قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ، فيه قولان: أحدهما: أن اللباس السّكن. ومثله جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً، أي سكناً. وهذا قول ابن عباس وابن جبير ومجاهد وقتادة. والثاني: أنهن بمنزلة اللباس لإفضاء كل واحد ببشرته إلى بشرة صاحبه، فكنى عن اجتماعهما متجردين باللباس. قال الزجاج: والعرب تسمي المرأة: لباساً وإزاراً، قال النابغة الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها تثنت فكانت عليه لباساً
وقال غيره:
ألا أبلغ أبا حفص رسولا فدىً لك من أخي ثقة إِزاري
يريد بالإزار: امرأته.
قوله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ، قال ابن قتيبة: يريد: تخونونها بارتكاب ما حُرِّمَ عليكم. قال ابن عباس: وعنى بذلك فعل عمر، فإنه أتى أهله، فلما اغتسل أخذ يلوم نفسه ويبكي. فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ، أصل المباشرة: إلصاق البشرة بالبشرة. وقال ابن عباس: المراد بالمباشرة هاهنا الجماع. وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ فيه أربعة أقوال «٢» : أحدها: أنه الولد، قاله ابن
(١) قال الحافظ في «الفتح» ٤/ ١٣٠ بعد أن ذكر روايات متعددة مختلفة في تعيين الأنصاري: والجمع بين هذه الروايات أنه أبو قيس صرمة بن أبي أنس قيس بن مالك بن عدي بن عامر...
(٢) القول الأول هو الذي ذهب إليه الأكثر كما في تفسير الطبري ٢٩٧٣ فما بعد، وهو الذي اختاره الطبري، مع أن القول الثاني هو الأقرب يدل عليه سياق الآيات وسباقها. وأما القول الثالث فهو غريب بعيد. وأما القول الرابع فهو مما يدخل في القول الثاني، والله أعلم.
148
عباس، والحسن، ومجاهد في آخرين. قال بعض أهل العلم: لما كانت المباشرة قد تقع على ما دون الجماع، أباحهم الجماع الذي يكون من مثله الولد، فقال: وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ، يريد: الولد.
والثاني: أن الذي كتب لهم الرخصة، وهو قول قتادة، وابن زيد. والثالث: أنه ليلة القدر، رواه أبو الجوزاء عن ابن عباس. والرابع: أنه القرآن، فمعنى الكلام: اتبعوا القرآن، فما أُبيح لكم وأمرتم به فهو المبتغى، وهذا اختيار الزجاج.
قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ. قال عدي بن حاتم:
(٧١) لما نزلت هذه الآية، عمدت إلى عقالين، أبيض وأسود، فجعلتهما تحت وسادتي، فجعلت أقوم في الليل ولا أستبين الأسود من الأبيض، فلما أصبحت غدوت على رسول الله فأخبرته، فضحك وقال: «إِن كان وسادك إِذاً لعريض، إِنما ذاك بياض النهار من سواد الليل».
(٧٢) وقال سهل بن سعد: نزلت هذه الآية: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ، ولم ينزل: مِنَ الْفَجْرِ، وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأسود والخيط الأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبيّن له رؤيتهما، فأنزل الله بعد ذلك مِنَ الْفَجْرِ، فعلموا أنما يعني بذلك الليل والنهار.
فصل: إذا شك في الفجر، فهل يدع السحور أم لا؟ فظاهر كلام أحمد يدل على أنه لا يدع السحور، بل يأكل حتى يستيقن طلوع الفجر. وقال مالك: أكره له أن يأكل إذا شك في طلوع الفجر، فان أكل فعليه القضاء. وقال الشافعي: لا شيء عليه «١».
قوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ، في هذه المباشرة قولان: أحدهما: أنها المجامعة، وهو قول الاكثرين. والثاني: أنها ما دون الجماع من اللمس والقبلة، قاله ابن زيد. وقال قتادة: كان الرجل المعتكف إذا خرج من المسجد، فلقي امرأته باشرها إذا أراد ذلك، فوعظهم الله في ذلك.
فصل: الاعتكاف في اللغة: اللبث، يقال: فلان معتكف على كذا، وعاكف. وهو فعل مندوب إليه، إلا أن ينذره الإنسان، فيجب. ولا يجوز إلا في مسجد تقام فيه الجماعات، ولا يشترط في حقّ
صحيح. أخرجه البخاري ١٩١٦ و ٤٥٠٩ و ٤٥١٠ ومسلم ١٠٩٠ وأبو داود ٢٣٤٩ والترمذي ٢٩٧٠ و ٢٩٧١ وأحمد ٤/ ٣٧٧ والدارمي ٢/ ٥ والطحاوي ٢/ ٥٣ وابن خزيمة ١٩٢٥ وابن حبان ٣٤٦٢ و ٣٤٦٣ والحميدي ٩١٦ وابن أبي شيبة ٣/ ٢٨ والطبراني ١٧٢ و ١٧٩ والبيهقي ٤/ ٢١٥ والبغوي ١/ ١٥٨ من طرق عن عدي بن حاتم. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٩٠ بتخريجنا.
صحيح. أخرجه البخاري ١٩١٧ ومسلم ١٠٩١ والنسائي في «التفسير» ٤٢ والطبري ٢/ ١٠٠ والبيهقي ٤/ ٢١٥ من حديث سهل بن سعد. وانظر «تفسير الشوكاني» ٢٨٩ بتخريجنا.
__________
(١) فائدة: قال القرطبي رحمه الله ٢/ ٣٢٥: من شك في طلوع الفجر لزمه الكف عن الأكل، فإن أكل مع شكه فعليه القضاء، كالناس. ومن أهل العلم بالمدينة وغيرها من لا يرى عليه شيئا حتى يتبين له طلوع الفجر.
149
المرأة مسجد تقام فيه الجماعة، إذ الجماعه لا تجب عليها. وهل يصح بغير صوم؟ فيه عن أحمد روايتان «١».
قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ، قال ابن عباس: يعني: المباشرة فَلا تَقْرَبُوها، قال الزجّاج:
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ٤/ ٤٥٦: والاعتكاف سنة، إلا أن يكون نذرا، فيلزم الوفاء به ولا خلاف. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف لا يجب على الناس فرضا، إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذرا، فيجب عليه. ومما يدل على أنه سنة، فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ومداومته عليه، تقربا إلى الله تعالى، ويدل على أنه غير واجب أن أصحابه لم يعتكفوا ولا أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم به إلا من أراده. وقال عليه السلام: «من أراد أن يعتكف، فليعتكف العشر الأواخر». ولا يجوز الاعتكاف إلا في مسجد يجمع فيه يعني تقام الجماعة فيه وإنما اشترط ذلك، لأن الجماعة واجبة، واعتكاف الرجل في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى أحد أمرين: إما ترك الجماعة الواجبة، وإما خروجه إليها، فيتكرر ذلك منه كثيرا مع إمكان التحرز منه وذلك مناف للاعتكاف. إذ هو لزوم المعتكف والإقامة على طاعة الله فيه. ولا يصح الاعتكاف في غير مسجد إذا كان المعتكف رجلا. ولا نعلم في هذا بين أهل العلم خلافا. وقال مالك: يصح الاعتكاف في كل مسجد، لعموم قوله تعالى «وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ» وهو قول الشافعي إذا لم يكن اعتكافه يتخلله جمعة.
وللمرأة أن تعتكف في كل مسجد. ولا يشترط إقامة الجماعة فيه لأنها غير واجبة عليها. وبهذا قال الشافعي.
وليس لها الاعتكاف في بيتها. وقال أبو حنيفة والثوري: لها الاعتكاف في مسجد بيتها، وهو المكان الذي جعلته للصلاة منه. واعتكافها فيه أفضل. وحكي عن أبي حنيفة، أنها لا يصح اعتكافها في مسجد الجماعة.
ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ترك الاعتكاف في المسجد، لما رأى أبنية أزواجه فيه، وقال: «آلبر تردن». ولأن مسجد بيتها موضع فضيلة صلاتها. ولنا قوله تعالى: وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ المراد به المواضع التي بنيت للصلاة فيها وموضع صلاتها في بيتها ليس بمسجد، لأنه لم يبن للصلاة فيه وإن سمي مسجدا كان مجازا، كقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «جعلت لي الأرض مسجدا». ولأن أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم استأذنه في الاعتكاف في المسجد، فأذن لهن، ولو لم يكن موضعا لاعتكافهن لما أذن فيه، ولو كان الاعتكاف في غيره أفضل لدلهن عليه.. وقال: ويجوز بلا صوم إلا أن يقول في نذره بصوم، والمشهور في المذهب أن الاعتكاف يصح بغير صوم. روي ذلك عن علي وابن مسعود وسعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز والشافعي وإسحاق وعن أحمد رواية أخرى، أن الصوم شرط في الاعتكاف. قال: إذا اعتكف يجب عليه الصوم وبه قال الزهري ومالك وأبو حنيفة والليث، والثوري، لما روي عن عائشة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «لا اعتكاف إلا بصوم» رواه الدارقطني. وعن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية، فسأل النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «اعتكف وصم» ولأنه لبث في مكان مخصوص فلم يكن بمجرده قربة، كالوقوف. ولنا ما روى ابن عمر عن عمر أنه قال: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أوف بنذرك» رواه البخاري. ولو كان الصوم شرطا لما صح اعتكاف الليل، لأنه لا صيام فيه ولأنه عبادة تصح في الليل، ولأن إيجاب الصوم حكم لا يثبت إلا بالشرع ولم يصح فيه نص ولا إجماع. قال سعيد: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن أبي سهل، قال: كان على امرأة من أهلي اعتكاف، فسألت عمر بن عبد العزيز. فقال: ليس عليها صيام، إلا أن تجعله على نفسها. فقال الزهري: لا اعتكاف إلا بصوم. فقال عمر: عن النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: لا. قال فعن أبي بكر؟
قال: لا. قال: فعن عمر؟ قال: لا. قال: وأظنه قال: فعن عثمان؟ قال: لا. فخرجت من عنده، فلقيت عطاء وطاوسا، فسألتهما، فقال طاوس: كان فلان لا يرى عليها صياما، إلا أن تجعله على نفسها، وأحاديثهم لا تصح. أما حديثهم عن عمر، فتفرّد به ابن بديل، وهو ضعيف. والصحيح ما رويناه، أخرجه البخاري والنسائي، وغيرهما. وحديث عائشة موقوف عليها، ومن رفعه فقد وهم. فإن الصوم فيه أفضل. ويخرج به من الخلاف.
150
الحدود ما منع الله من مخالفتها، فلا يجوز مجاوزتها. وأصل الحد في اللغة: المنع، ومنه: حد الدار، وهو ما يمنع غيرها من الدخول فيها. والحداد في اللغة: الحاجب والبوّاب، وكلّ ما منع شيئاً فهو حداد، قال الأعشى:
فقمنا ولما يصحْ ديكنا إِلى جونة عند حدادها
أي: عند ربها الذي يمنعها إلا بما يريده. وأحدّث المرأة على زوجها، وحدّت فهي حاد، ومحد: إذا قطعت الزينة، وامتنعت منها، وأحددت النظر إلى فلان: إذا منعت نظرك من غيره. وسمي الحديد حديدا، لأنه يمتنع به من الأعداء.
قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ، أي: مثل هذا البيان الذي ذكر.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٨]
وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٨)
قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ.
سبب نزولها: أنّ امرأ القيس بن عابس وعبدان الحضرمي، اختصما في أرض، وكان عبدان هو الطالب ولا بينة له، فأراد امرؤ القيس أن يحلف، فقرأ عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا، فكره أن يحلف، ولم يخاصم في الأرض، فنزلت هذه الآية. هذا قول جماعة، منهم: سعيد بن جبير.
ومعنى الآية: لا يأكل بعضكم مال بعض، كقوله: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. قال القاضي أبو يعلى:
والباطل على وجهين: أحدهما: أن يأخذه بغير طيب نفس من مالكه، كالسرقة، والغصب، والخيانة.
والثاني: أن يأخذه بطيب نفسه، كالقمار، والغناء، وثمن الخمر، وقال الزجاج: الباطل: الظلم.
«وتدلوا» أصله في اللغة من: أدليت الدلو: إِذا أرسلتها لتملأها، ودلوتها إِذا أخرجتها. ومعنى أدلى فلان بحجته: أرسلها، وأتى بها على صحة. فمعنى الكلام: تعملون على ما يوجبه إدلاء الحجّة، وتخونون في الأمانة، وأنتم تعلمون أنّ الحجّة عليكم في الباطن «١». وفي هاء «بها» قولان: أحدهما:
(٧٣) ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «أسباب النزول» ٩٤ للسيوطي عن سعيد بن جبير مرسلا، ولم أقف على إسناده إلى سعيد، وهو ضعيف بكل حال، لإرساله، فالمرسل ضعيف عند أهل الحديث.
- وذكره الواحدي ٩٥ وعزاه لمقاتل بن حيان، وهذا مرسل، وهو بدون إسناد، ومقاتل ذو مناكير.
- وأصله صحيح، انظر صحيح البخاري ٢٤١٦ ومسلم ١٣٩ فهو بهذا اللفظ مع ذكر سبب النزول ضعيف.
__________
(١) فائدة: قال القرطبي رحمه الله ٢/ ٣٣٦: من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل. ومن الأكل بالباطل أن يقضي القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي، لأنه إنما يقضي بالظاهر. وهذا إجماع في الأموال، وإن كان عند أبي حنيفة قضاؤه ينفذ في الفروج باطنا، وإذا كان قضاء القاضي لا يغير حكم الباطن في الأموال فهو في الفروج أولى. وروى الأئمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار- في رواية- فليحملها أو يذرها) وعلى هذا الحديث جمهور العلماء وأئمة الفقهاء. وهو نص في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغير حكم الباطن. واتفق أهل السنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم مال قلّ أو كثر أنه يفسق بذلك، وأنه محرّم عليه أخذه. خلافا لبشر بن المعتمر ومن تابعه من المعتزلة حيث قالوا: إن المكلّف لا يفسق إلا بأخذ مائتي درهم ولا يفسق بدون ذلك. وكله مردود بالقرآن والسنة واتفاق العلماء، قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» الحديث متفق عليه.
أنها ترجع إلى الأموال، كأنه قال: لا تصانعوا ببعضها جَوَرَة الحكام. والثاني: أنها ترجع إلى الخصومة.
إن قيل: كيف أعاد ذكر الأكل فقال: وَلا تَأْكُلُوا لِتَأْكُلُوا؟ فالجواب: أنه وصل اللفظة الأولى بالباطل، والثانية بالإثم، فأعادها للزيادة في المعنى، ذكره ابن الأنباريّ.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٨٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٨٩)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ. هذه الآية من أولها إلى قوله: وَالْحَجِّ، نزلت على سبب:
(٧٤) وهو أن رجلين من الصحابة قالا: يا رسول الله! ما بال الهلال يبدو دقيقاً، ثم يزيد ويمتلئ حتى يستدير ويستوي، ثم لا يزال ينقص ويدق حتى يعود كما كان؟ فنزلت: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ، هذا قول ابن عباس «١».
ومن قوله تعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها إلى آخرها يدل على سبب آخر:
(٧٥) وهو أنهم كانوا إذا حجوا، ثم قدموا المدينة، لم يدخلوا من باب، ويأتون البيوت من ظهورها، فنسي رجل، فدخل من باب، فنزلت: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها هذا قول البراء بن عازب.
وفيما كانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها لأجله أربعة أقوال: أحدها: أنهم كانوا يفعلون ذلك لأجل الإحرام، قاله ابن عباس، وأبو العالية، والنخعي، وقتادة، وقيس النهشلي. والثاني: لأجل دخول الشهر الحرام، قاله البراء بن عازب. والثالث: أن أهل الجاهلية كانوا إذا همَّ أحدهم بالشيء فاحتبس عنه لم يأت بيته من بابه حتى يأتي الذي كان هم به، قاله الحسن. والرابع: أن أهل المدينة كانوا إذا رجعوا من عيدهم فعلوا ذلك، رواه عثمان بن عطاء عن أبيه.
باطل. أخرجه أبو نعيم وابن عساكر كما في «أسباب النزول» ٩٧ للسيوطي من طريق محمد بن مروان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وهذا إسناد ساقط، بل هذه السلسلة هي سلسلة الكذب، فالسدي هو الصغير متهم، والكلبي كذبه غير واحد، وتقدم في المقدمة بيانه. وعزاه الواحدي في «الأسباب» ٩٨ للكلبي.
صحيح. أخرجه البخاري ٤٥١٢ ومسلم ٣٠٢٦ والواحدي في «أسباب النزول» ٩٩ عن البراء بن عازب.
__________
(١) كذا وقع للمصنف رحمه الله! وهو غريب، إذ ورد عن ابن عباس مرفوعا، ثم مع ذلك ينسب ذلك لابن عباس، مع أن ابن الجوزي رحمه الله من أهل الحديث، ولكل جواد كبوة، والله الموفق للصواب.
فأما التفسير فانما سألوه عن وجه الحكمة في زيادة الأهلَّة ونقصانها، فأخبرهم أنها مقادير لما يحتاج الناس إليه في صومهم وحجهم وغير ذلك. والأهلَّة: جمع هلال. وكم يبقى الهلال على هذه التسمية؟ فيه للعرب أربعة أقوال: أحدها: أنه يسمى هلالاً لليلتين من الشهر. والثاني: لثلاث ليال، ثم يسمى قمراً. والثالث: إلى أن يحجر، وتحجيره: أن يستدير بخطة دقيقة، وهو قول الأصمعي.
والرابع: إلى أن يبهر ضوؤه سواد الليل. حكى هذه الأقوال ابن السري واختار الأول، قال: واشتقاق الهلال من قولهم: استهل الصبي: إذا بكى حين يولد. وأهل القوم بالحج: إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية، فسمي هلالاً لأنه حين يُرى يُهل الناس بذكره.
قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى، مثل قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وقد سبق بيانه، واختلف القرّاء في البيوت وما أشبهها، قرأ ابن كثير، وابن عامر، والكسائي بكسر باء «البيوت» وعين «العُيون» وغين «الغُيوب»، وروي عن نافع أنه ضم باء «البيوت» وعين «العيون» وغين «الغيوب» وجيم «الجيوب» وشين «الشيوخ»، وروى عنه قالون أنه كسر باء «البيوت»، وقرأ أبو عمرو، وأبو جعفر بضم الأحرف الخمسة، وكسرهن جميعاً حمزة، واختلف عن عاصم. قال الزجاج: من ضم «البيوت» فعلى أصل الجمع: بيت وبيوت، مثل: قلب وقلوب، وفلس وفلوس. ومن كسر، الياء بعد الباء، وذلك عند البصريين رديء جدا، لأنه ليس في الكلام فعول بكسر الفاء. وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول: إذا كان الجمع على فعول، وثانيه ياء، جاز فيه الضم والكسر، تقول: بُيوتٌ وبِيوت، وشُيوخٌ وشيوخ، وقيود وقيود.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٠]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠)
قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ (٧٦) سبب نزولها: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما صُدّ عن البيت، ونحر هديه بالحديبية، وصالحه المشركون على أن يرجع من العام المقبل رجع، فلما تجهز في العام المقبل خاف أصحابه أن لا تفي لهم قريش بذلك، وأن يصدوهم ويقاتلوهم، وكره أصحابه القتال في الشهر الحرام فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
قوله تعالى: وَلا تَعْتَدُوا، أي: ولا تظلموا. وفي المراد بهذا الاعتداء أربعة أقوال: أحدها:
أنه قتل النساء والولدان، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: أن معناه: لا تقاتلوا من لم يقاتلكم، قاله سعيد بن جبير، وأبو العالية، وابن زيد. والثالث: أنه إتيان ما نهوا عنه، قاله الحسن. والرابع: أنه ابتداؤهم بالقتال في الحرم في الشهر الحرام، قاله مقاتل.

فصل: اختلف العلماء: هل هذه الآية منسوخة أم لا؟ على قولين:


أحدهما: أنها منسوخة. واختلف أرباب هذا القول في المنسوخ منها على قولين: أحدهما: أنه
ضعيف جدا، ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ١٠٢ تعليقا عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس به، وهذا إسناد ساقط، وتقدم بيانه في المقدمة. وسيأتي بنحو هذا السياق عند الآية ١٩٤.
153
أولها، وهو قوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، قالوا: وهذا يقتضي أن القتال يباح في حق من قاتل من الكفار، ولا يباح في حق من لم يقاتل، وهذا منسوخ بقوله: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ.
والثاني: أن المنسوخ منها: وَلا تَعْتَدُوا، ولهؤلاء في هذا الاعتداء قولان: أحدهما: أنه قتل من لم يقاتل. والثاني: أنه ابتداء المشركين بالقتال، وهذا منسوخ بآية السيف.
والقول الثاني: أنها محكمة، ومعناها عند أرباب هذا القول: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ، وهم الذين أعدوا أنفسهم للقتال، فأما من ليس بمعدٍّ نفسه للقتال، كالرهبان والشيوخ الفناة، والزمنى، والمكافيف، والمجانين، فان هؤلاء لا يقاتلون وهذا حكمٌ باقٍ غيرُ منسوخ «١».
فصل: واختلف العلماء في أول آية نزلت في إباحة القتال على قولين: أحدهما: أنها قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، قاله أبو بكر الصِّدِّيق، وابن عباس، وسعيد بن جبير، والزهري. والثاني: أنها هذه الآية: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قاله أبو العالية، وابن زيد.
(١) فائدة: قال القرطبي رحمه الله ٢/ ٣٤٦: وللعلماء فيهم صور ست: الأولى: النساء إن قاتلن قتلن، قال سحنون: في حالة المقاتلة وبعدها، لعموم قوله: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وللمرأة آثار عظيمة في القتال، منها الإمداد بالأموال، ومنها التحريض على القتال، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيّرات بالفرار، وذلك يبيح قتلهن، غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن، وتعذر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال.
الثانية: الصبيان فلا يقتلون للنهي الثابت عن قتل الذرية، ولأنه لا تكليف عليهم فإن قاتل الصبي قتل.
الثالثة: الرهبان لا يقتلون ولا يسترقّون، بل يترك لهم ما يعيشون به من أموالهم وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر، لقول أبي بكر ليزيد: «وستجد أقواما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له». فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قتلوا. ولو ترهبت المرأة لا تهاج. رواه أشهب وقال سحنون: لا يغير الترهب حكمها.
الرابعة: الزّمنى. قال سحنون: يقتلون. وقال ابن حبيب: لا يقتلون. والصحيح أن تعتبر أحوالهم، فإن كانت فيهم إذاية قتلوا، وإلا تركوا وما هم بسبيله من الزمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة.
الخامسة: الشيوخ. قال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. والذي عليه جمهور الفقهاء: إن كان شيخا كبيرا هرما لا يطيق القتال، ولا ينتفع به في رأي ولا مدافعة فإنه لا يقتل، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وللشافعي قولان: أحدهما: مثل قول الجماعة. والثاني: يقتل هو والراهب. والصحيح الأول لقول أبي بكر ليزيد، ولا مخالف له فثبت به إجماع. وأيضا فإنه ممن لا يقاتل ولا يعين العدو فلا يجوز قتله كالمرأة، وأما إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال فهذا إذا أسر يكون الإمام فيه مخيّرا بين خمسة أشياء: القتل أو المنّ أو الفداء أو الاسترقاق أو عقد الذّمّة على أداء الجزية.
السادسة: العسفاء، وهم الأجراء والفلاحون، فقال مالك في كتاب محمد: لا يقتلون. وقال الشافعي: يقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار إلا أن يسلموا أو يؤدوا الجزية والأول أصح، لقوله عليه السلام في حديث رباح بن ربيع: «الحق بخالد بن الوليد فلا يقتلن ذرية ولا عسيفا» وقال عمر بن الخطاب: اتقوا الله في الذرية والفلاحين لا ينصبون لكم الحرب. وكان عمر بن عبد العزيز لا يقتل حرّاثا. وقوله تعالى لا تَعْتَدُوا قيل في تأويله ما قدمناه، فهي محكمة. وقال قوم: المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله، كالحمية وكسب الذكر، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم، يعني دينا وإظهارا للكلمة. وقيل: لا تَعْتَدُوا أي لا تقاتلوا من لم يقاتل فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار والله أعلم.
154

[سورة البقرة (٢) : آية ١٩١]

وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١)
قوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ. أي: وجدتموهم. يقال: ثقفته أثقفه: إذا وجدته. قال القاضي أبو يعلى: قوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ، عام في جميع المشركين، إلا من كان بمكة، فانهم أمروا باخراجهم منها، إلا من قاتلهم فإنهم أُمروا بقتالهم، يدل على ذلك قوله في نسق الآية:
وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، وكانوا قد آذوا المسلمين بمكة حتى اضطروهم إلى الخروج، فكأنهم أخرجوهم. فأما الفتنة، ففيها قولان: أحدهما: أنها الشرك، قاله ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وقتادة في آخرين. والثاني: أنها ارتداد المؤمن إلى عبادة الأوثان، قاله مجاهد. فيكون معنى الكلام على القول الأول: شرك القوم أعظم من قتلكم إياهم في الحرم. وعلى الثاني: ارتداد المؤمن إلى الأوثان أشد عليه من أن يقتل محقاً. قوله تعالى: وَلا تُقاتِلُوهُمْ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، وقرأ حمزة والكسائي وخلف: (ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فان قتلوكم)، بحذف الألف فيهن. وقد اتفق الكل على قوله: فَاقْتُلُوهُمْ، فاحتجّ من قرأ بالألف بقوله: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، واحتج من حذف الألف بقوله: فَاقْتُلُوهُمْ.
فصل: واختلف العلماء في قوله: وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ، هل هو منسوخ أم لا؟ فذهب مجاهد في جماعة من الفقهاء إلى أنه محكم وأنه لا يقاتل فيه إلا من قاتل.
(٧٧) ويدل على ذلك الحديث الصحيح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنه خطب يوم فتح مكة، فقال: «يا أيها الناس! إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والارض، ولم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي.
وإنما أُحلت لي ساعةً من نهار، ثم عادت حراماً إلى يوم القيامة»
.
فبين صلّى الله عليه وسلّم أنه خص في تلك الساعة بالإباحة على سبيل التخصيص، لا على وجه النسخ، فثبت بذلك حظر القتال في الحرم، إلا أن يقاتلوا فيدفعون دفعا، وهذا أمر مستمر الحكم غير منسوخ، وقد ذهب قتادة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، فأمر بقتالهم في الحل والحرم وعلى كل حال. وذهب الربيع بن أنس، وابن زيد، إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وزعم مقاتل إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ. والقول الأول أصح. قوله تعالى: فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، قال مقاتل: أي: فقاتلوهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٢]
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٢)
قوله تعالى: فَإِنِ انْتَهَوْا. فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: فإن انتهوا عن شركهم وقتالكم.
صحيح. أخرجه البخاري ١١٢٠ و ٢٤٣٤ و ٦٨٨٠ ومسلم ١٣٥٥ و ٤٤٨ وأبو داود ٢٠١٧ و ٤٥٠٥ والترمذي ١٤٠٥ و ٢٦٦٧ والبيهقي ٨/ ٥٣ وقال الترمذي: حسن صحيح وابن ماجة مختصرا ٢٦٢٤ وابن حبان ٣٧١٥ وأحمد مطولا ومفرقا ٢/ ٢٣٨ والبيهقي في «السنن» ٨/ ٥٢ من طرق عن أبي هريرة.
والثاني: عن كفرهم. والثالث: عن قتالكم دون كفرهم، فعلى القولين الأولين تكون الآية محكمة، ويكون معنى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ غفور لشركهم وجرمهم، وعلى القول الأخير يكون في معنى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ قولان: أحدهما: غفور لكم حيث أسقط عنكم تكليف قتالهم. والثاني: أن معناه: يأمركم بالغفران والرحمة لهم. فعلى هذا تكون الآية منسوخة بآية السّيف.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٣]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (١٩٣)
قوله تعالى: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ. قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة في آخرين:
الفتنة هاهنا: الشرك. قوله تعالى: وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ، قال ابن عباس: أي يخلص له التوحيد.
والعدوان: الظلم، وأُريد به هاهنا الجزاء، فسمي الجزاء عدواناً مقابلة للشيء بمثله، كقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ، والظالمون هاهنا المشركون، قاله عكرمة وقتادة في آخرين.
فصل: وقد روي عن جماعة من المفسرين، منهم قتادة، أن قوله تعالى: فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، منسوخ بآية السيف، وإنما يستقيم هذا إذا قلنا: إن معنى الكلام: فإن انتهوا عن قتالكم مع إقامتهم على دينهم، فأما إذا قلنا: إن معناه: فإن انتهوا عن دينهم فالآية محكمة.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٤]
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)
قوله تعالى: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ هذه الآية نزلت على سبب واختلفوا فيه على قولين:
(٧٨) أحدهما: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أقبل هو وأصحابه معتمرين في ذي القعدة ومعهم الهدي، فصدهم المشركون، فصالحهم نبي الله على أن يرجع عنهم ثم يعود في العام المقبل، فيكون بمكة ثلاث ليال، ولا يدخلها بسلاح، ولا يخرج بأحد من أهل مكة، فلما كان العام المقبل أقبل هو وأصحابه فدخولها، فافتخر المشركون عليه إذ ردوه يوم الحديبية، فأقصه الله منهم وأدخله مكة في الشهر الذي ردوه فيه، فقال: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وأبو العالية، وقتادة في آخرين.
(٧٩) والثاني: أن مشركي العرب قالوا للنبي عليه السلام: أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال:
«نعم»، وأرادوا أن يفتروه في الشهر الحرام، فيقاتلوه فيه، فنزلت هذه الآية، يقول: إن استحلّوا منكم شيئاً في الشهر الحرام، فاستحلوا منهم مثله، هذا قول الحسن، واختاره إبراهيم بن السّريّ الزجّاج.
حسن صحيح بشواهده. أخرجه الطبري ٣١٣٩ عن قتادة مرسلا. وكرره ٣١٤٠ من مرسل قتادة ومقسم، وبرقم ٣١٣٧ من مرسل مجاهد و ٣١٤١ من مرسل السدي، وبرقم ٣١٤٣ من مرسل الربيع بن أنس وبرقم ٣١٤٤ عن ابن عباس، لكن إسناده واه، فيه مجاهيل.
الخلاصة: رووه بألفاظ متقاربة والمعنى واحد، فالخبر حسن بشواهده.
عزاه المصنف للحسن، ولم أقف على إسناده، وهو مرسل، بكل حال، ومراسيل الحسن واهية، والخبر المتقدم هو المحفوظ في هذا.
وأما أرباب القول الأول فيقولون: معنى الآية: الشهر الحرام الذي دخلتم فيه الحرم بالشهر الحرام الذي صدوكم فيه عام أول. وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ: اقتصصت لكم منهم في ذي القعدة كما صدوكم في ذي القعدة. وقال الزجاج: الشهر الحرام، أي: قتال الشهر الحرام بالشهر الحرام، فأعلم الله عزّ وجلّ أن أمر هذه الحرمات لا تجوز للمسلمين إلا قصاصاً، ثم نسخ ذلك بآية السيف، وقيل: إنما جمع الحرمات، لأنه أراد الشهر الحرام بالبلد الحرام، وحرمة الإحرام.
قوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ، قال ابن عباس: من قاتلكم في الحرم فقاتلوه.
وإنما سمى المقابلة على الاعتداء اعتداءً، لأن صورة الفعلين واحدة، وإن كان أحدهما طاعة والآخر معصية. قال الزجاج: والعرب تقول: ظلمني فلان فظلمته، أي: جازيته بظلمه. وجهل فلان عليَّ، فجهلت عليه. وقد سبق بيان هذا المعنى في أول السورة.
قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ، قال سعيد بن جبير: واتقوا الله ولا تبدأوهم بقتال في الحرم.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٥ الى ١٩٦]
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦)
قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. هذه الآية نزلت على سبب، وفيه قولان:
(٨٠) أحدهما: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما أمر بالتجهز إلى مكة، قال ناسٌ من الأعراب: يا رسول الله! بماذا نتجهز؟ فو الله ما لنا زاد ولا مال! فنزلت، قاله ابن عباس.
والثاني: أن الأنصار كانوا ينفقون ويتصدّقون، فأصابهم سنة، فأمسكوا فنزلت، قاله أبو جبيرة بن الضحاك.
والسبيل في اللغة: الطريق. وإنما استعملت هذه الكلمة في الجهاد، لأنه السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين. والتهلكة: بمعنى الهلاك، يقال: هلك الرجل يهلك هلاكاً وهُلكاً وتهلكة. قال المبرد: وأراد بالأيدي: الأنفس فعبر بالبعض عن الكل. وفي المراد بالتهلكة هاهنا أربعة أقوال:
(٨٠) لم أقف عليه بعد البحث، ولم يذكره سوى المصنف والقرطبي ٢/ ٣٦٠، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد.
- وانظر ما بعده.
صحيح. أخرجه أبو يعلى كما في «إتحاف المهرة» ٦٣٤٥ وابن حبان ٥٧٠٩ والطبراني ٢٢/ ٣٩٠ والواحدي في «الأسباب» ١٠٥ من طريق هدبة بن خالد عن حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن الشعبي عن الضحاك بن أبي جبيرة به. كذا وقع عندهم سوى الطبراني قال: أبو جبيرة بن الضحاك. وهذا هو الصواب.
ورجال إسناده رجال البخاري ومسلم سوى حمّاد فقد تفرد عنه مسلم. وصحابية مختلف في صحبته. قال البوصيري في «الإتحاف» : رجال أبي يعلى ثقات. وقال الهيثمي في «المجمع» ٦/ ٣١٧: رجاله رجال الصحيح.
157
أحدها: أنها ترك النفقة في سبيل الله، قاله حذيفة، وابن عباس، والحسن، وابن جبير، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة، والضحاك. والثاني: أنها القعود عن الغزو شغلاً بالمال، قاله أبو أيوب الأنصاري.
والثالث: أنها القنوط من رحمة الله، قاله البراء، والنعمان بن بشير، وعبيدة. والرابع: أنها عذاب الله، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس «١».
قوله تعالى: وَأَحْسِنُوا، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: أحسنوا الإنفاق، وهو قول أصحاب القول الأول. والثاني: أحسنوا الظن بالله، قاله عكرمة، وسفيان، وهو يخرّج على قول من قال: التهلكة: القنوط. والثالث: أن معناه: أدوا الفرائض، رواه سفيان عن أبي إسحاق.
قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ، قال ابن فارس: الحج في اللغة: القصد، والاعتمار في الحج أصله: الزيارة. قال ثعلب: الحج بفتح الحاء: المصدر، وبكسرها: الاسم. قال: وربما قال الفراء: هما لغتان. وذكر ابن الأنباري في العمرة قولين: أحدهما: الزيارة. والثاني: القصد. وفي إتمامها أربعة أقوال: أحدها: أن معنى إتمامها: أن يفصل بينهما، فيأتي بالعمرة في غير أشهر الحج، قاله عمر بن الخطاب، والحسن وعطاء. والثاني: أن يحرم الرجل من دويرة أهله، قاله علي بن أبي طالب، وطاوس، وابن جبير. والثالث: أنه إذا شرع في أحدهما لم يفسخه حتى يتم، قاله ابن عباس.
والرابع: أنه فعل ما أمر الله فيهما، قاله مجاهد.
وجمهور القراء على نصب «العمرة» بايقاع الفعل عليها. وقرأ الأصمعي عن نافع والقزاز عن أبي عمرو والكسائي عن أبي جعفر برفعها، وهي قراءة ابن مسعود وأبي رزين والحسن والشّعبيّ.
(١) قال القرطبي رحمه الله ٢/ ٣٦٠ بعد أن ذكر الأقوال المتقدمة: وقال زيد بن أسلم: المعنى لا تسافروا في الجهاد بغير زاد، وقد كان فعل ذلك قوم فأدّاهم ذلك إلى الانقطاع في الطريق، أو يكون عالة على الناس.
فهذه خمسة أقوال. و «سبيل الله» هنا: الجهاد، واللفظ يتناول بعد جميع سبله. وقيل: لا تأخذوا فيما يهلككم قاله الزجاج وغيره. أي إن لم تنفقوا عصيتم وهلكتم وقيل إن معنى الآية لا تمسكوا أموالكم فيرثها منكم غيركم فتهلكوا بحرمان منفعة أموالكم. ويقال لا تنفقوا من حرام فيردّ عليكم فتهلكوا ونحوه عن عكرمة وقال الطبري: قوله «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة» عام في جميع ما ذكر لدخوله فيه إذ اللفظ يحتمله. واختلف العلماء في اقتحام الرجل في الحرب وحمله على العدو وحده فقال القاسم بن مخيمرة: لا بأس أن يحمل الرجل وحده على الجيش العظيم إذا كان فيه قوة، وكان لله بنيّة خالصة، فإن لم تكن فيه قوة فذلك من التهلكة. وقيل: إن خلصت الشهادة وخلصت النية فليحمل لأن مقصوده واحد منهم. وقال ابن خويز منداد:
فأما أن يحمل الرجل على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن غلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكي نكاية أو سيبلي أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا. وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين من الفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي يقدمها فقيل له: إنه قاتلك. فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين.
وكذلك يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة، قال رجل- هو البراء بن مالك أخو أنس بن مالك كما في تاريخ الطبري- من المسلمين: ضعوني في الحجفة وألقوني إليهم، ففعلوا وقاتلهم وحده وفتح الباب. ومن هذا ما روي أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا؟ قال: «فلك الجنة» فانغمس في العدو حتى قتل.
158
وممن ذهب إلى أن العمرة واجبة، عليّ، وابن عمر، وابن عباس، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأحمد، والشافعي. وروي عن ابن مسعود، وجابر، والشعبي، وإبراهيم، وأبي حنيفة، ومالك، أنها سنة وتطوع «١».
قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ، قال ابن قتيبة: أحصره المرض والعدو: إذا منعه من السفر، ومنه هذه الآية. وحصره العدو: إذا ضيق عليه. قال الزجّاج: يقال للرجل إذا منعه الخوف والمرض من التّصرّف قد أحصر فهو محصر. يقال للرجل إذا حبس: قد حصر، فهو محصور. وللعلماء في هذا الإحصار قولان: أحدهما: أنه لا يكون إلا بالعدو، ولا يكون المريض محصراً. وهذا مذهب ابن عمر، وابن عباس، وأنس، ومالك، والليث، والشافعي، وأحمد. ويدل عليه قوله: فَإِذا أَمِنْتُمْ.
والثاني: أنه يكون بكل حابس من مرض أو عدو أو عذر، وهو قول عطاء، ومجاهد، وقتادة، وأبي حنيفة. وفي الكلام اختصار وحذف، والمعنى: فإن أُحصرتم دون تمام الحج والعمرة فحللتم فعليكم ما استيسر من الهدي. ومثله: أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ، تقديره: فحلق، ففدية. والهدي: ما أهدي إلى البيت. وأصله: هديّ مشدد، فخفف، قاله ابن قتيبة. وبالتشديد يقرأ الحسن ومجاهد. وفي المراد فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه شاة، قاله عليّ بن أبي طالب وابن عباس والحسن وعطاء وابن جبير وإبراهيم وقتادة والضحّاك ومغيرة. والثاني: أنه ما تيسر من الإبل والبقر لا غير، قاله ابن عمر وعائشة، والقاسم. والثالث: أنه على قدر الميسرة، رواه طاوس عن ابن عباس، وروي عن الحسن وقتادة قالا: أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة. وقال أحمد: الهدي من الأصناف الثلاثة، الإبل والبقر، والغنم، وهو قول أبي حنيفة ومالك والشّافعيّ رحمهم الله.
قوله تعالى: حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، قال ابن قتيبة: المحل: الموضع الذي يحل به نحره وهو من:
حل يحل. وفي المحل قولان: أحدهما: أنه الحرم، قاله ابن مسعود، والحسن، وعطاء، وطاوس،
(١) قال القرطبي رحمه الله ٢/ ٣٦٦: في هذه الآية دليل على وجوب العمرة، لأنه تعالى أمر بإتمامها كما أمر بإتمام الحج وممن ذهب إلى وجوبها من التابعين عطاء وطاوس ومجاهد والحسن وابن سيرين والشعبي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن الجهم من المالكيين. وقال الثوري سمعنا أنها واجبة. وروي مرفوعا عن محمد بن سيرين عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت» أخرجه الدارقطني وكان مالك يقول: «العمرة سنة ولا نعلم أحدا أرخص في تركها». وحكى بعض القرويين والبغداديين عن أبي حنيفة أنه كان يوجبها كالحج وبأنها سنة ثابتة قاله ابن مسعود وجابر بن عبد الله. فعن جابر بن عبد الله قال: سأل رجل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة والزكاة والحج. أواجب هو؟ قال:
«نعم» فسأله عن العمرة: أواجبة هي؟ قال: «لا، وأن تعتمر خير لك» رواه يحيى بن أيوب عن حجاج عن ابن المنكدر عن جابر موقوفا من قول جابر. أخرجه الدارقطني فهذه حجة من لم يوجبها من السنة.
قالوا: وأما الآية فلا حجة فيها للوجوب، لأن الله سبحانه إنما قرنها في وجوب الإتمام لا في الابتداء، فإنه ابتدأ الصلاة والزكاة فقال: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وابتدأ بإيجاب الحج فقال: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ولما ذكر العمرة أمر بإتمامها بابتدائها، فلو حج عشر حجج، أو اعتمر عشر عمر لزم الإتمام في جميعها، فإنما جاءت الآية لإلزام الإتمام لا لإلزام الابتداء والله أعلم. واحتج المخالف من جهة النظر على وجوبها بأن قال: عماد الحج الوقوف بعرفة وليس في العمرة وقوف، فلو كانت كسنّة الحج لوجب أن تساويه في أفعاله، كما أن سنة الصلاة تساوي فريضتها في أفعالها.
159
ومجاهد، وابن سيرين، والثوري، وأبو حنيفة. والثاني: أنه الموضع الذي أُحصر به فيذبحه ويحل، قاله مالك، والشافعي، وأحمد «١».
قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ، هذا نزل على سبب:
(٨٢) وهو أن كعب بن عجرة كثر قمل رأسه حتى تهافت على وجهه، فنزلت هذه الآية فيه، فكان يقول: فيّ أنزلت خاصّة.
صحيح. أخرجه البخاري ١٨١٥ مع اختلاف يسير فيه، وانظر ما بعده.
__________
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ٥/ ١٩٤- ١٩٧ و ٢٠٢- ٢٠٣: أجمع أهل العلم على أن المحرم إذا حصره عدوّ من المشركين، فمنعوه الوصول إلى البيت، ولم يجد طريقا آمنا، فله التحلل وقد نصّ الله تعالى عليه بقوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر أصحابه يوم حصروا في الحديبية أن ينحروا ويحلقوا ويحلّوا. وسواء كان الإحرام بحج أو بعمرة أو بهما في قول إمامنا، وأبي حنيفة والشافعي.
وحكي عن مالك أن المعتمر لا يتحلل، لأنه لا يخاف الفوات. وليس بصحيح، لأن الآية إنما نزلت في حصر الحديبية وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه محرمين بعمرة فحلّوا جميعا. وإن منع من الوصول إلى البيت بمرض أو ذهاب نفقة، بعث الهدي، إن كان معه ليذبحه بمكة، وكان على إحرامه حتى يقدر على البيت. والمشهور في المذهب أن من يتعذر عليه الوصول إلى البيت لغير حصر العدو من مرض أو عرج أو ذهاب نفقة ونحوه، أنه لا يجوز له التحلل بذلك روي ذلك عن ابن عمر وابن عباس ومروان. وبه قال مالك والشافعي وإسحاق.
وعن أحمد رواية أخرى: له التحلل بذلك. روي نحوه عن ابن مسعود وهو قول عطاء، والنخعي، والثوري، وأصحاب الرأي، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من كسر، أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى» رواه النسائي ولأنه محصر يدخل في عموم قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
ووجه الأولى أنه لا يستفيد بالإحلال الانتقال من حاله ولا التخلص من الأذى الذي به. ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل على ضباعة بنت الزبير فقالت: إني أريد الحج، وأنا شاكية. فقال: «حجّي، واشترطي أن محلّي حيث حبستني». فلو كان المرض يبيح الحل، ما احتاجت إلى شرط وحديثهم متروك الظاهر، فإن مجرد الكسر والعرج لا يصير به حلالا فإن حملوه على أنه يبيح التحلل، حملناه على ما إذا اشترط الحل بذلك، على أن حديثهم كلاما، فإنه يرويه ابن عباس ومذهبه خلافه. فإن قلنا: يتحلل فحكمه حكم من أحصر بعد وإن قلنا لا يتحلل. فإنه يقيم على إحرامه، ويبعث ما معه من الهدي ليذبح بمكة وليس له نحره في مكانه لأنه لم يتحلل.
فإن فاته الحج تحلل بعمرة، كغير المريض وإذا قدر المحصر على الهدي فليس له الحل قبل ذبحه. فإن كان معه هدي قد ساقه أجزأه، وإن لم يكن معه لزمه شراؤه إن أمكنه ويجزئه أدنى الهدي، وهو شاة أو سبع بدنة لقوله تعالى: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وله نحره في موضع حصره، من حل أو حرم. نص عليه أحمد. وهو قول مالك والشافعي. إلا أن يكون قادرا على أطراف الحرم، ففيه وجهان: أحدهما، يلزمه نحره فيه، لأن الحرم كله منحر، وقد قدر عليه. والثاني، ينحره في موضعه لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم نحر هديه في موضعه. وعن أحمد: ليس للمحصر نحر هديه إلا في الحرم فيبعثه، ويواطئ رجلا على نحره في وقت يتحلل فيه. وهذا يروى عن ابن مسعود، في من لدغ في الطريق. وروي نحو ذلك عن الحسن والشعبي والنخعي والله أعلم، في من كان حصره خاصا وأما الحصر العام فلا ينبغي أن يقوله أحد، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه نحروا هداياهم في الحديبية، وهي من الحل. قال البخاري: قال مالك وغيره: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه حلقوا وحلّوا من كل شيء، قبل الطواف. وقبل أن يصل الهدي إلى البيت ولم يذكر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر أحدا أن يقضي شيئا، ولا يعودوا له.
160
فصل: قال شيخنا علي بن عبيد الله: اقتضى قوله: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، تحريم حلاق الشعر، سواء وجد به الأذى، أو لم يجد، حتى نزل فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ، فاقتضى هذا إباحة حلق الشعر عند الأذى مع الفدية، فصار ناسخاً لتحريمه المتقدم.
ومعنى الآية: فمن كان منكم- أي: من المحرمين، محصراً كان أو غير محصر- مريضاً، واحتاج إلى لبس أو شيء يحظره الإحرام، ففعله، أو به أذىً من رأسه فحلق ففدية من صيام. وفي الصيام قولان:
(٨٣) أحدهما: أنه ثلاثة أيام، روي في حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو قول الجمهور. والثاني: أنه صيام عشرة أيام، روي عن الحسن وعكرمة ونافع.
وفي الصّدقة قولان: أحدهما: إطعام ستة مساكين، روي في حديث كعب، وهو قول من قال:
الصوم ثلاثة أيام. والثاني: أنها إطعام عشرة مساكين، وهو قول من أوجب صوم عشرة أيام. والنسك:
ذبح شاة، يقال: نسكت لله، أي: ذبحت له. وفي النسك لغتان: ضم النون والسين، وبها قرأ الجمهور، وضم النون مع تسكين السين، وهي قراءة الحسن.
قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ، أي: من العدو، إذ المرض لا تؤمن معاودته، وقال علقمة في آخرين: فاذا أمنتم من الخوف أو المرض. فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، معناه: من بدأ بالعمرة في أشهر الحج، وأقام الحج من عامه ذلك فعليه ما استيسر من الهدي. وهذا قول ابن عمر وابن عباس، وابن المسيب، وعطاء، والضحاك. وقد سبق الكلام فيما استيسر من الهدي. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ، قال الحسن: هي قبل التّروية بيوم والتّروية، وعرفة، وهذا قول عطاء، والشعبي، وأبي العالية، وابن جبير، وطاوس، وإبراهيم. وقد نقل عن عليّ عليه السّلام. وقد روي عن الحسن، وعطاء قالا:
في أيّ العشر شاء صامهنّ. ونقل عن طاوس، ومجاهد، وعطاء، أنهم قالوا: في أي أشهر الحج شاء فليصمهن. ونقل عن ابن عمر أنه قال: من حين يحرم إلى يوم عرفة.
فصل: فإن لم يجد الهدي، ولم يصم الثلاثة الأيام قبل يوم النحر، فماذا يصنع؟ قال عمر بن الخطّاب، وابن عباس، وابن جبير، وطاوس، وإبراهيم: لا يجزيه إلا الهدي ولا يصوم. وقال ابن عمر وعائشة: يصوم أيام منى. ورواه صالح عن أحمد، وهو قول مالك. وذهب آخرون إلى أنه لا يصوم أيام التشريق، بل يصوم بعدهن. روي عن عليّ. ورواه المرّوذي عن أحمد، وهو قول الشّافعيّ «١».
صحيح. أخرجه البخاري ١٨١٤ ومسلم ١٢٠١ وأبو داود ١٨٥٦ و ١٨٥٧ والترمذي ٢٩٧٣ والنسائي ٥/ ١٩٥ والطيالسي ١٠٦٢ وأحمد ٤/ ٢٤١ و ٢٤٢ كلهم عن كعب بن عجرة رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال له: «لعلك آذاك هو أمك؟» قال: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك بشاة». رووه بألفاظ متقاربة، واللفظ للبخاري.
__________
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ٥/ ٢٠٠: فإن لم يكن معه هدي، ولا يقدر عليه، صام عشرة أيام، ثم حلّ وجملة ذلك أن المحصر، إذا عجز عن الهدي، انتقل إلى صوم عشرة أيام ثم حلّ. وبهذا قال الشافعي، في أحد قوليه. وقال مالك، وأبو حنيفة: ليس له بدل، لأنه لم يذكر في القرآن، ولنا أنه دم واجب للإحرام فكان له بدل، كدم التمتاع والطيب واللباس. ويتعين الانتقال إلى صيام عشرة أيام، كبدل هدي التمتاع، وليس له أن يتحلل إلا بعد الصيام، كما لا يتحلل واجد الهدي إلا بنحره. ولا يتحلل إلا بالنية، فيحصل الحل بشيئين، النحر أو الصوم والنية. إن قلنا الحلاق ليس بنسك، وإن قلنا: هو نسك حصل بثلاثة أشياء، الحلاق مع ما ذكرنا. [.....]
161
فصل: فان وجد الهدي بعد الدخول في صوم الثلاثة الأيام، لم يلزمه الخروج منه، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: يلزمه الخروج، وعليه الهدي. وقال عطاء: إن صام يومين ثم أيسر فعليه الهدي. وإن صام ثلاثة ثم أيسر، فليصم السبعة، ولا هدي عليه «١».
وفي معنى قوله: فِي الْحَجِّ، قولان: أحدهما: أن معناه: في أشهر الحج. والثاني: في زمن الإحرام بالحج. وفي قوله تعالى: وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ، قولان: أحدهما: إذا رجعتم إلى أمصاركم، قاله ابن عباس، والحسن، وأبو العالية، والشعبي، وقتادة. والثاني: إذا رجعتم من حجكم، وهو قول عطاء، وسعيد بن جبير، وأبي حنيفة، ومالك. قال الأثرم: قلت لأبي عبيد الله، يعني: أحمد بن حنبل: فصيام السّبعة الأيام إذا رجع متى يصومهن؟ أفي الطريق، أم في أهله؟ قال: كل ذلك قد تأوله الناس. قيل لأبي عبد الله: ففرّق بينهن، فرخص في ذلك «٢».
قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ، فيه خمسة أقوال: أحدها: أن معناه: كاملة في قيامها مقام الهدي، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، والحسن. قال القاضي أبو يعلى: وقد كان يجوز أن يظن ظان أن الثلاثة قد قامت مقام الهدي في باب استكمال الثواب، فأعلمنا الله تعالى أنّ العشرة بكمالها هي
(١) قال القرطبي رحمه الله ٢/ ٣٩٦: وأجمع العلماء على أن الصوم لا سبيل للمتمتع إليه إذا كان يجد الهدي واختلفوا فيه إذا كان غير واجد للهدي فصام ثم وجد الهدي قبل إكماله صومه فذكر ابن وهب عن مالك قال:
إذا دخل في الصوم ثم وجد هديا فأحبّ إليّ أن يهدي، فإن لم يفعل أجزأه الصيام. وقال الشافعي: يمضي في صومه وهو فرضه، وكذلك قال أبو ثور وهو قول الحسن وقتادة، واختاره ابن المنذر. وقال أبو حنيفة: إذا أيسر في اليوم الثالث من صومه بطل صومه ووجب عليه الهدي وإن صام ثلاثة أيام في الحج ثم أيسر كان له أن يصوم السبعة الأيام لا يرجع إلى الهدي، وبه قال الثوري وابن أبي نجيح وحماد.
(٢) قال القرطبي رحمه الله ٢/ ٣٩٨: قوله تعالى: إِذا رَجَعْتُمْ يعني إلى بلادكم، قاله ابن عمر وقتادة والربيع ومجاهد وعطاء، وقاله مالك في كتاب محمد، وبه قال الشافعي. قال قتادة والربيع: هذه رخصة من الله تعالى، فلا يجب على أحد صوم السبعة إلّا إذا وصل وطنه، إلّا أن يتشدّد أحد، كما يفعل من يصوم في السفر في رمضان وقال أحمد وإسحاق: يجزيه الصوم في الطريق، وروي عن مجاهد وعطاء. قال مجاهد: إن شاء صامها في الطريق، إنما هي رخصة، وكذلك قال عكرمة والحسن وقال مالك في الكتاب: إذا رجع من منى فلا بأس أن يصوم قال ابن العربي: «إن كان تخفيفا ورخصة فيجوز تقديم الرّخص وترك الرفق فيها إلى العزيمة إجماعا. وإن كان ذلك توقيتا فليس فيه نص، ولا ظاهر أنه أراد البلاد، وأنها المراد في الأغلب». قلت: بل فيه ظاهر يقرب إلى النص يبينه ما رواه مسلم عن ابن عمر قال: تمتاع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حجة الوداع بعمرة إلى الحج وأهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، وبدأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتاع الناس مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعمرة إلى الحج، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ومنهم من لم يهد، فلما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة قال للناس: (من كان منكم أهدى فإنه لا يحلّ من شيء حرم منه حتى يقضي حجه ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصّر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله)، الحديث. وهذا كالنص في أنه لا يجوز صوم السبعة الأيام إلّا في أهله وبلده والله أعلم.
162
القائمة مقامه. والثاني: أن الواو قد تقوم مقام «أو» في مواضع، منها قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ، فأزال الله عزّ وجلّ احتمال التخيير في هذه الآية بقوله: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ، وإلى هذا المعنى ذهب الزجاج. والثالث: أن ذلك للتوكيد. وأنشدوا للفرزدق:
ثلاث واثنتان فهنّ خمس وسادسة تميل إلى شمام «١»
وقال آخر:
هلّا سألت جوع كندة يوم ولوا أين أينا وقال آخر:
كم نعمة كانت له كم كم وكم
والقرآن نزل بلغة العرب، وهي تكرر الشيء لتوكيده. والرابع: أن معناه: تلك عشرة كاملة في الفصل، وإن كانت الثلاثة في الحج، والسبعة بعده، لئلا يسبق إلى وهم أحد أن السبعة دون الثلاثة، قاله أبو سليمان الدمشقي. والخامس: أنها لفظة خبر ومعناها: الأمر، فتقديره: تلك عشرة فأكملوها.
قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ، في المشار إِليه بذلك قولان:
أحدهما: أنه التمتع بالعمرة إلى الحج. والثاني: أنه الجزاء بالنسك والصيام. واللام من «لمن» في هذا القول بمعنى: «على». فأمّا حاضرو المسجد الحرام فقال ابن عباس، وطاوس، ومجاهد: هم أهل الحرم. وقال عطاء: من كان منزله دون المواقيت. قال ابن الأنباري: ومعنى الآية: إن هذا الفرض لمن كان من الغرباء، وإنما ذكر أهله، وهو المراد بالحضور، لأن الغالب على الرجل أن يسكن حيث أهله ساكنون.
[سورة البقرة (٢) : آية ١٩٧]
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧)
قوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ. في الحج لغتان: فتح الحاء، وهي لأهل الحجاز، وبها قرأ الجمهور. وكسرها، وهي لتميم، وقيل: لأهل نجد، وبها قرأ الحسن. قال سيبويه: يقال: حج حجاً، كقولهم: ذكر ذكراً. وقالوا: حجة، يريدون: عمل سنة. قال الفراء: المعنى: وقت الحج هذه الأشهر. وقال الزجاج: معناه: أشهر الحج أشهر معلومات.
وفي أشهر الحج قولان: أحدهما: أنها شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، قاله ابن مسعود، وابن عمر وابن عباس، وابن الزبير، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، والشّعبيّ، وطاوس، والنخعي، وقتادة، ومكحول، والضحاك، والسدي، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل، والشّافعيّ، رضي الله عنهم. والثاني: أنها شوال وذو القعدة وذو الحجة، وهو مروي عن ابن عمر أيضاً، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، والزهري، والربيع، ومالك بن أنس. قال ابن جرير الطبري: إنما أراد هؤلاء أن هذه الأشهر ليست أشهر العمرة، إنما هي للحج، وإن كان عمل الحج قد انقضى بانقضاء أيام منى، وقد
(١) في «اللسان» : الشّمم: القرب، والدّنو.
163
كانوا يستحبون أن يفعلوا العمرة في غيرها. قال ابن سيرين: ما أحد من أهل العلم شك في أن عمرةً في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج، وإنما قال: الْحَجُّ أَشْهُرٌ
، وهي شهران وبعض الآخر على عادة العرب. قال الفراء: تقول العرب: له اليوم يومان لم أره، وإنما هو يوم، وبعض آخر.
وتقول: زرتك العام، وأتيتك اليوم، وإنما وقع الفعل في ساعة. وذكر ابن الأنباري في هذا قولين:
أحدهما: أن العرب توقع الجمع على التثنية، إذا كانت التّثنية أقلّ الجمع. كقوله تعالى: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ «١»، وإنما يريد عائشة وصفوان، وكذلك قوله: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «٢»، يريد: داود وسليمان. والثاني: أن العرب توقع الوقت الطويل على الوقت القصير، فيقولون: قتل ابن الزبير أيام الحج، وإنما كان القتل في أقصر وقت.
فصل: اختلف العلماء فيمن أحرم بالحج قبل أشهر الحجّ، فقال عطاء، وطاوس ومجاهد، والشافعي: لا يجزئه ذلك، وجعلوا فائدة قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أنه لا ينعقد الحج إلا فيهن.
وقال أبو حنيفة، ومالك، والثوري، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل: يصح الإحرام بالحج قبل أشهر «٣»، فعلى هذا يكون قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ، أي: معظم الحج يقع في هذه الأشهر.
(٨٤) كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «الحج عرفة».
قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ، قال ابن مسعود: هو الإهلال بالحج والإحرام به. وقال طاوس وعطاء: هو أن يلبي. وروي عن علي وابن عمر ومجاهد والشعبي في آخرين: أنه إذا قلّد بدنته فقد أحرم، وهذا محمول على أنه قلّدها ناويا الحجّ. ونصّ الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في رواية الأثرم: أن الإحرام بالنية. قيل له: يكون محرماً بغير تلبية؟ قال: نعم إذا عزم على الإحرام، وهذا قول مالك والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يجوز الدخول في الإحرام إلا بالتلبية أو تقليد الهدي وسوقه.
قوله تعالى: فَلا رَفَثَ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو جعفر: «فلا رفثٌ ولا فسوقٌ» بالضم والتنوين.
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة والكسائي بغير تنوين، ولم يرفع أحد منهم لام «جدال» إلا أبو جعفر. قال أبو علي: حجة من فتح أنه أشد مطابقة للمعنى المقصود، لأنه بالفتح قد نفى جميع الرفث والفسوق، كقوله: لا رَيْبَ فِيهِ، فاذا رفع ونون، كان النفي لواحد منه، وإنما فتحوا لام (الجدال)، ليتناول النفي جميع جنسه، فكذلك ينبغي أن يكون جمع الاسمين قبله. وحجة من رفع أنه قد علم من فحوى الكلام نفي جميع الرفث، وقد يكون اللفظ واحداً والمراد بالمعنى الجميع، قال الشاعر:
جيد. أخرجه أبو داود ١٩٤٩ والترمذي ٩٨٩ والنسائي ٥/ ٢٥٦ وابن ماجة ٣٠١٥ والدارمي ١٨٢٧ والطيالسي ١٣٠٩ وأحمد ٤/ ٣٠٩- ٣٣٥ والحاكم ١/ ٤٦٤ والبيهقي ٥/ ١١٦ وإسناده جيد وصححه الحاكم، وأقره الذهبي. وقال الترمذي قال ابن عيينة: هذا أجود حديث رواه الثوري.
__________
(١) النور: ٢٦.
(٢) الأنبياء: ٧٨.
(٣) قال القرطبي رحمه الله ٢/ ٤٠١: قوله تعالى الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ لما ذكر الحج والعمرة سبحانه وتعالى في قوله: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ بيّن اختلافهما في الوقت، فجميع السنة وقت للإحرام بالعمرة، ووقت العمرة. وأما الحج فيقع في السنة مرة، فلا يكون في غير هذه الأشهر.
164
فقتلا بتقتيل وضربا بضربكم وفي الرفث ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الجماع، قاله ابن عمر، والحسن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة في آخرين. والثاني: أنه الجماع، وما دونه من التعريض به، وهو مروي عن ابن عمر أيضاً، وابن عباس، وعمرو بن دينار في آخرين. والثالث: أنه اللغو من الكلام، قاله أبو عبد الرحمن اليزيدي. وفي الفسوق ثلاثة أقوال: أحدها: أنه السباب، قاله ابن عمر، وابن عباس، وإبراهيم في آخرين. والثاني:
أنه التنابز بالألقاب، مثل أن تقول لأخيك: يا فاسق، يا ظالم، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث:
أنه المعاصي، قاله الحسن، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وقتادة في آخرين، وهو الذي نختاره، لأن المعاصي تشمل الكل، ولأن الفاسق: الخارج من الطاعة إلى المعصية. قوله تعالى: وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ، الجدال: المراء. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: أن معناه: لا يمارينَّ أحد أحداً، فيخرجه المراء إلى الغضب، وفعل ما لا يليق بالحج، وإلى هذا المعنى ذهب ابن عمر، وابن عباس، وطاوس، وعطاء، وعكرمة، والنخعي، وقتادة، والزهري، والضحاك في آخرين. والثاني: أن معناه:
لا شك في الحج ولا مراء، فانه قد استقام أمره وعرف وقته وزال النسيء عنه.
(٨٥) قال مجاهد: كانوا يحجون في ذي الحجة عامين، وفي المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين، وكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين حتى وافقت حجة أبي بكر الآخر من العامين في ذي القعدة قبل حجّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بسنة، ثم حجّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من قابل في ذي الحجة، فذلك حين قال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السّماوات والأرض»، وإلى هذا المعنى ذهب السدي عن أشياخه، والقاسم بن محمد.
قوله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى.
(٨٦) قال ابن عباس: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون، فيسألون الناس، فأنزل الله تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى، قال الزجاج: أُمروا أن يتزودوا، وأعلموا أن خير ما تزوّد تقوى الله عزّ وجلّ.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ١٩٨ الى ١٩٩]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩)
قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ. قال ابن عباس:
(٨٧) كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم، ويقولون: أيام ذكر فنزلت هذه الآية.
أخرجه الطبري ٣٧١٨ عن مجاهد مرسلا، فهو ضعيف، والمرفوع منه صحيح، أخرجه البخاري ٣١٩٧ ومسلم ١٦٧٩ وأبو داود ١٩٤٧ وابن حبان ٥٩٧٥ و ٣٨٤٨ من حديث أبي بكرة. وسيأتي.
صحيح. أخرجه البخاري ١٥٢٣ وأبو داود ١٧٣٠ والنسائي في «الكبرى» ١١٠٣٣ و «التفسير» ٥٣ والواحدي في «الأسباب» ١١٣ من حديث ابن عباس.
حسن. أخرجه الطبري ٣٧٨٧ من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن ابن عباس به، وإسناده غير قوي لأجل يزيد. وأخرجه أبو داود ١٧٣١ بهذا الإسناد مع اختلاف يسير فيه. وأخرجه الطبري ٣٧٨٦ بإسناد ضعيف عن ابن عباس نحوه. وأصله عند البخاري ٤٥١٩ والطبري ٣٧٩٤.
165
والابتغاء: الالتماس. والفضل هاهنا: النّفع بالتجارة والكسب قال ابن قتيبة: أفضتم، بمعنى:
دفعتم، وقال الزجاج: معناه: دفعتم بكثرة، يقال: أفاض القوم في الحديث: إذا اندفعوا فيه، وأكثروا التصرف. وفي تسمية «عرفات» قولان: أحدهما: أن الله تعالى بعث جبريل إلى إبراهيم فحج به، فلما أتى عرفات قال: قد عرفت، فسمّيت «عرفة»، قاله عليّ عليه السّلام «١». والثاني: أنها سميت بذلك لاجتماع آدم وحواء، وتعارفهما بها، قاله الضحاك «٢». قال الزجاج والمشعر: المعلم، سمي بذلك لأن الصلاة عنده. والمقام والمبيت والدعاء من معالم الحج، وهو مزدلفة وهي جمع يسمى بالاسمين.
قال ابن عمر ومجاهد: المشعر الحرام المزدلفة كلها.
قوله تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ، أي: جزاء هدايته لكم، فان قيل: ما فائدة تكرير الذكر؟ قيل: فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أنه كرره للمبالغة في الأمر به. والثاني: أنه وصل بالذكر الثاني ما لم يصل بالذكر الأول، فحسن تكريره. فالمعنى: اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته. والثالث: أنه كرره ليدل على مواصلته، والمعنى: اذكروه ذكراً بعد ذكر، ذكر هذه الأقوال محمد بن القاسم النحوي.
والرابع: أن الذكر في قوله: فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ، هو: صلاة المغرب والعشاء اللتان يجمع بينهما بالمزدلفة. والذكر في قوله: كَما هَداكُمْ هو: الذكر المفعول عند الوقوف بمزدلفة غداة جمع، حكاه القاضي أبو يعلى.
قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ، في هاء الكناية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى الإسلام، قاله ابن عباس. والثاني: أنها ترجع إلى الهدى، قاله مقاتل، والزجاج. والثالث: أنها ترجع إلى القرآن، قاله سفيان الثوري.
قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ. قالت عائشة:
(٨٨) كانت قريش ومن يدين بدينها، وهم الحمس، يقفون عشيّة عرفة بالمزدلفة، يقولون: نحن قطين البيت، وكان بقية العرب والناس يقفون بعرفات، فنزلت هذه الآية. قال الزجاج: سموا الحمس لأنهم تحمسوا في دينهم، أي: تشددوا. والحماسة: الشدة في كل شيء.
وفي المراد بالناس هاهنا أربعة أقوال «٣» : أحدها: أنهم جميع العرب غير الحمس، ويدل عليه حديث عائشة، وهو قول عروة، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أن المراد بالناس هاهنا: إبراهيم الخليل،
صحيح بهذا السياق. أخرجه الترمذي ٨٨٤ من حديث عائشة وقال: حسن صحيح، وهو كما قال.
- وأصله صحيح، أخرجه البخاري ٤٥٢٠ ومسلم ١٢١٩ وابن حبان ٣٨٥٦ وأبو داود ١٩١٠ والنسائي ٥/ ٢٥٤ من حديث عائشة. وله شواهد كثيرة أوردها الطبري ٣٨٣٥- ٣٨٤٣.
__________
(١) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٣٧٩٧ عن ابن جريج عن ابن المسيب عن علي، وفيه إرسال بين ابن جريج وابن المسيب، وما يرسله ابن جريج واه بمرة.
(٢) لم أقف عليه، والضحاك يروي عن كتب الأقدمين، فخبره هذا لا شيء.
(٣) القول الأول هو الصواب، وباقي الأقوال منكرة ليست بشيء.
166
عليه السلام، قاله الضحاك بن مزاحم. والثالث: أن المراد بالناس آدم، قاله الزهري. وقد قرأ أبو المتوكل، وأبو نهيك، ومورَّق العجلي: «الناسي» باثبات الياء. والرابع: أنهم أهل اليمن وربيعة، فانهم كانوا يفيضون من عرفات، قاله مقاتل.
وفي المخاطبين بذلك قولان: أحدهما: أنه خطاب لقريش، وهو قول الجمهور. والثاني: أنه خطاب لجميع المسلمين، وهو يخرج على قول من قال: الناس آدم، أو إبراهيم.
والإفاضة هاهنا على ما يقتضيه ظاهر اللفظ: هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى صبيحة النحر، إلا أن جمهور المفسرين على أنها الإفاضة من عرفات، فظاهر الكلام لا يقتضي ذلك، كيف يقال: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ، ثم أفيضوا من عرفات؟! غير أني أقول: وجه الكلام على ما قال أهل التفسير: أن فيه تقديماً وتأخيراً، تقديره: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فاذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله.
و «الغفور» : من أسماء الله، عزّ وجلّ، وهو من قولك: غفرت الشيء: إذا غطيته، فكأنّ الغفور الساتر لعبده برحمته، أو الساتر لذنوب عباده. والغفور: هو الذي يكثر المغفرة، لأن بناء المفعول للمبالغة من الكثرة، كقولك: صبور، وضروب، وأكول.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٠ الى ٢٠٣]
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٠٣)
قوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ. في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أن أهل الجاهلية كانوا إذا اجتمعوا بالموسم، ذكروا أفعال آبائهم وأيامهم وأنسابهم في الجاهلية، فتفاخروا بذلك فنزلت هذه الآية «١». وهذا المعنى مرويّ عن الحسن، وعطاء، ومجاهد.
والثاني: أن العرب كانوا إذا حدثوا أو تكلموا يقولون: وأبيك إنهم لفعلوا كذا وكذا فنزلت هذه الآية.
وهذا مروي عن الحسن أيضاً «٢». والثالث: أنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم، قام الرجل بمنى، فقال:
اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة، كثير المال، فأعطني مثل ذلك، فلا يذكر الله، إنما يذكر أباه ويسأل أن يعطى في دنياه فنزلت هذه الآية، وهذا قول السّدّي «٣».
(١) أخرجه الطبري ٣٨٥٤ و ٣٨٥٥ و ٣٨٥٦ و ٣٨٥٧ عن مجاهد مرسلا، وكرره ٣٨٥٨ و ٣٨٥٩ عن قتادة مرسلا، وكرره ٣٨٦٠ عن سعيد بن جبير وعكرمة، وأخرجه برقم ٣٨٩٢ عن أبي وائل.
- الخلاصة: هذه المراسيل تتأيد بمجموعها، فهذا أرجح الأقوال في تفسير الآية.
(٢) عزاه المصنف للحسن، ولم أقف عليه مسندا، وإنما ذكره الواحدي عنه في «الأسباب» ١٢٠ بدون إسناد، ومراسيل الحسن واهية، وهذا قول منكر.
(٣) أخرجه الطبري ٣٨٦٩ عن السدي مرسلا، ويشهد لبعضه القول الأول، وبعضه غريب.
167
والمناسك: المتعبدات، وفي المراد بها هاهنا قولان: أحدهما: أنها أفعال الحج، قاله الحسن.
والثاني: أنها إراقة الدّماء، قاله مجاهد. وفي ذكرهم آباءهم أربعة أقوال: أحدها: أنه إقرارهم بهم.
والثاني: أنه حلفهم بهم. والثالث: أنه ذكر إحسان آبائهم إليهم، فانهم كانوا يذكرونهم وينسون إحسان الله إليهم. والرابع: أنه ذكر الأطفال الآباء، لأنهم أول نطقهم بذكر آبائهم، روي هذا المعنى عن عطاء، والضحاك. وفي «أو» قولان: أحدهما: أنها بمعنى «بل». والثاني: بمعنى الواو. و «الخلاق» قد تقدم ذكره.
وفي حسنة الدنيا سبعة أقوال: أحدها: أنها المرأة الصالحة، قاله عليّ عليه السّلام. والثاني: أنها العبادة، رواه سفيان بن حسين عن الحسن. والثالث: أنها العلم والعبادة، رواه هشام عن الحسن.
والرابع: المال، قاله أبو وائل، والسدي، وابن زيد. والخامس: العافية، قاله قتادة. والسادس: الرزق الواسع، قاله مقاتل. والسابع: النعمة، قاله ابن قتيبة.
وفي حسنة الآخرة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الحور العين، قاله عليّ عليه السلام. والثاني:
الجنة، قاله الحسن، والسدي، ومقاتل. والثالث: العفو والمعافاة، روي عن الحسن، والثوري.
قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا، قال الزجاج: معناه: دعاؤهم مستجاب، لأن كسبهم هاهنا هو الدعاء، وهذه الآية متعلقه بما قبلها، إلا أنه قد روي أنها نزلت على سبب يخالف سبب أخواتها.
(٨٩) فروى الضحاك عن ابن عباس أن رجلاً قال: يا رسول الله، مات أبي ولم يحج، أفأحج عنه؟ فقال: «لو كان على أبيك دين قضيته، أفكان ذلك يجزئ عنه؟» قال: نعم، قال: «فدين الله أحق أن يقضى» ! قال: فهل لي من أجر؟ فنزلت هذه الآية.
وفي معنى سرعة الحساب خمسة أقوال: أحدها: أنه قِلَّته، قاله ابن عباس. والثاني: أنه قرب مجيئه، قاله مقاتل. والثالث: أنه لما علم ما للمحاسب وما عليه قبل حسابه، كان سريع الحساب لذلك. والرابع: أن المعنى: والله سريع المجازاة، ذكر هذا القول والذي قبله الزجاج. والخامس: أنه لا يحتاج إلى فكر وروية كالعاجزين، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ في هذا الذكر قولان:
أحدهما: أنه التكبير عند الجمرات، وأدبار الصّلوات، وغير ذلك من أوقات الحجّ.
متن صحيح دون ذكر نزول الآية، فإنه باطل. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس، ولم أره في شيء من كتب الحديث والأثر والتفسير، والضحاك لم يلق ابن عباس، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد ذاك المتروك، فقد روى عن الضحاك عن ابن عباس تفسيرا كاملا ليس له أصل.
- والحديث دون ذكر نزول الآية: أخرجه النسائي ٥/ ١١٨ وفي «الكبرى» ٣٦١٨ والبيهقي ٤/ ٣٢٩ وابن حبان ٣٩٩٠ والدارقطني ٢/ ٢٦٠ بألفاظ متقاربة وليس فيه «فنزلت هذه الآية». وأخرجه البخاري ١٥١٣ و ١٨٥٥ ومسلم ١٣٣٤ وأبو داود ١٨٠٩ والترمذي ٩٢٨ والنسائي ٥/ ١١٨ و ١١٩ و ٨/ ٢٢٨ وابن ماجة ٢٩٠٩ وابن حبان ٢٩٩٠ والشافعي ١/ ٩٩٣ ومالك ١/ ٣٥٩ وأحمد ١/ ٣٤٦ و ٣٥٩ من حديث ابن عباس لكن السائل هو امرأة. الخلاصة: الحديث صحيح دون ذكر نزول الآية، فإنه باطل.
168
والثاني: أنه التكبير عقيب الصلوات المفروضات. واختلف أرباب هذا القول في الوقت الذي يبتدئ فيه بالتكبير ويقطع على ستة أقوال: أحدها: أنه يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة، إلى ما بعد صلاة العصر من آخر أيام التّشريق، قاله عليّ عليه السلام، وأبو يوسف، ومحمد. والثاني: أنه من صلاة الفجر يوم عرفة إلى صلاة العصر من يوم النحر، قاله ابن مسعود، وأبو حنيفة. والثالث: من بعد صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد العصر من آخر يوم التشريق، قاله ابن عمر، وزيد بن ثابت وابن عباس، وعطاء. والرابع: أنه يكبر من صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد صلاة الظهر من يوم النفر، وهو الثاني من أيام التشريق، قاله الحسن. والخامس: أنه يكبر من الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، قاله مالك بن أنس، وهو أحد قولي الشافعي. والسادس: أنه يكبر من صلاة المغرب ليلة النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، هذا قول للشافعي، ومذهب إمامنا أحمد أنه إن كان محلاً، كبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة أولها الفجر يوم عرفة، وآخرها العصر من آخر أيام التشريق، وإن كان محرماً كبر عقيب سبعة عشر أولها الظهر من يوم النحر، وآخرها العصر من آخر أيام التشريق.
وهل يختص هذا التكبير عقيب الفرائض بكونها في جماعة، أم لا؟ فيه عن أحمد روايتان:
إحداهما: يختص بمن صلاها في جماعة، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله. والثانية: يختص بالفريضة، وإن صلاها وحده، وهو قول الشافعي «١».
وفي الأيام المعدودات ثلاثة أقوال: أحدها: أنها أيام التشريق، قاله ابن عمر، وابن عباس، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وقتادة في آخرين. والثاني: أنها يوم النحر ويومان بعده، روي عن علي، وابن عمر. والثالث: أنها أيام العشر، قاله سعيد بن جبير، والنخعي.
قال الزجاج: و «معدودات» يستعمل كثيراً للشيء القليل، كما يقال: دريهمات وحمامات.
قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ، أي: فمن تعجل النفر الأول في اليوم الثاني من أيام منى، فلا إثم عليه، ومن تأخر إلى النفر الثاني، وهو اليوم الثالث من أيام منى، فلا إثم عليه.
فان قيل: إنما يخاف الإثم المتعجل، فما بال المتأخر ألحق به، والذي أتى به أفضل؟! فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أن المعنى: لا إثم على المتعجل، والمتأخر مأجور، فقال: لا إثم عليه، لتوافق اللفظة الثانية الأولى كقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ. والثاني: أن المعنى: فلا إثم على المتأخر في ترك استعمال الرخصة. والثالث: أن المعنى: قد زالت آثام المتعجل والمتأخّر التي كانت عليهما قبل حجهما. والرابع: أن المعنى: طرح المأثم عن المتعجل والمتأخر إنما يكون بشرط التقوى.
وفي معنى «لمن اتقى» ثلاثة أقوال: أحدها: لمن اتقى قتل الصيد، قاله ابن عباس. والثاني: لمن اتقى المعاصي في حجه، قاله قتادة. وقال ابن مسعود: إنما مغفرة الله لمن اتقى الله في حجه.
والثالث: لمن اتقى فيما بقي من عمره، قاله أبو العالية، وإبراهيم.
(١) تقدّم التعليق على هذا البحث عند الآية ١٨٥.
169

[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٤]

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤)
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا. اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في الأخنس بن شريق، كان لين الكلام، كافر القلب، يظهر للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم الحسن، ويحلف له أنه يحبه ويتبعه على دينه، وهو يضمر غير ذلك «١»، هذا قول ابن عباس، والسّدّيّ ومقاتل. والثاني: أنّها فيمن نافق فأظهر بلسانه ما ليس في قلبه. وهذا قول الحسن، وقتادة، وابن زيد.
(٩٠) والثالث: أنها نزلت في سرية الرجيع، وذلك أنّ كفّار قريش بعثوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو بالمدينة: إنا قد أسلمنا، فابعث لنا نفرا من أصحابك يعلّمونا ديننا، فبعث صلّى الله عليه وسلّم خبيب بن عدي، ومرثداً الغنوي، وخالد بن بكير، وعبد الله بن طارق، وزيد بن الدِثنَة، وأمرَّ عليهم عاصم بن ثابت، فساروا نحو مكة، فنزلوا بين مكة والمدينة ومعهم تمر، فأكلوا منه، فمرت عجوز فأبصرت النوى، فرجعت إلى قومها وقالت: قد سلك هذا الطريق أهل يثرب، فركب سبعون منهم حتى أحاطوا بهم، فحاربوهم فقتلوا مرثداً، وخالداً، وابن طارق، ونثر عاصم كنانته وفيها سبعة أسهم، فقتل بكل سهم رجلاً من عظمائهم، ثم قال: اللهم إني حميت دينك صدر النهار، فاحم لحمي آخر النهار، ثم أحاطوا به فقتلوه، وأرادوا حزّ رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد، وكان قتل بعض أهلها، فنذرت: لئن قدرت على رأسه لتشربن في قحفه الخمر، فأرسل الله تعالى رَجْلاً من الدبر- وهي الزّنابير- فحمته، فلم يقدروا عليه، فقالوا: دعوه حتى يمسي فجاءت سحابة فأمطرت كالعزالي «٢»، فبعث الله الوادي، فاحتمله فذهب به، وأسروا خبيباً وزيداً، فابتاع بنو الحارث بن عامر خبيباً ليقتلوه، لأنه قتل آباءهم، فلما خرجوا به ليقتلوه، قال: دعوني أصلّي ركعتين، ثم قال: لولا أن تقولوا: جزع خبيب، لزدت، وأنشأ يقول:
ولست أبالي حين أُقتل مسلماً على أي شق كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإِله وإِن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزّع
عزاه المصنف لابن عباس، ولم أقف عليه بهذا التمام. وإنما هو منتزع من أحاديث.
- أما كون الآية نزلت في سرية الرجيع فهو ضعيف. عزاه البغوي في «تفسيره» ٢١٢ لابن عباس والضحاك بدون إسناد. وأخرجه الطبري ٣٩٦٥ من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس، فذكر عجزه، وهو «قال بعض المنافقين... » وفيه نزول الآية. وإسناده ضعيف لجهالة شيخ ابن إسحاق. وأما قوله «أيكم يحمل خبيبا... » وذكر الزبير والمقداد. فهذا باطل، لم أره في شيء من كتب الحديث والأثر. وأما باقي الحديث دون ما استثنيت من ألفاظ، فهو صحيح لكن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري ٣٠٤٥ و ٣٩٨٩ و ٤٠٨٦ و ٧٤٠٢ وأبو داود ٢٦٦٠ و ٢٦٦١ والطيالسي ٢٥٩٧ وأحمد ٢/ ٢٩٤ و ٢٩٥ و ٣١٠- ٣١١ وعبد الرزاق ٩٧٣٠ وابن حبان ٧٠٣٩ والبيهقي في «الدلائل» ٣/ ٣٢٣- ٣٢٥ من طرق بألفاظ متقاربة. وانظر هذا الخبر في «السيرة النبوية» لابن هشام ٣/ ١٣٤- ١٤٦ و «السيرة النبوية» لابن كثير ٣/ ١٢٣- ١٣٠ و «دلائل النبوة» ٣/ ٣٢٤.
__________
(١) أخرجه الطبري ٣٩٦٤ عن السدي مرسلا، ولم أره عن ابن عباس ومقاتل، وورد عن الكلبي كما في «الدر» ١/ ٢٣٢. والكلبي متروك، فالخبر ضعيف، وانظر الأسباب للواحدي ١٢١ والسيوطي ١٢١ و ١٢٢. [.....]
(٢) العزالي: فم المزادة الأسفل، شبه اتساع المطر واندفاقه بالذي يخرج من فم المزادة.
فصلبوه حياً، فقال: اللهم إنك تعلم أنه ليس حولي من يبلغ رسولك سلامي، فجاءه رجل منهم يقال له: أبو سروعة، ومعه رمح، فوضعه بين يدي خبيب، فقال له خبيب: اتق الله، فما زاده ذلك إلا عتواً. وأما زيد فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه، فجاءه سفيان بن حرب حين قدم ليقتله، فقال: يا زيد! أنشدك الله، أتحب أن محمداً مكانك، وأنك في أهلك؟ فقال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي، ثم قتل. وبلغ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الخبر، فقال: أيكم يحتمل خبيباً عن خشبته وله الجنة؟ فقال الزبير: أنا وصاحبي المقداد، فخرجا يمشيان بالليل ويمكثان بالنهار، حتى وافيا المكان، وإذا حول الخشبة أربعون مشركاً نيام نشاوى، وإذا هو رطب يتثنى لم يتغير فيه شيء بعد أربعين يوماً، فحمله الزبير على فرسه وسار، فلحقه سبعون منهم، فقذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض، وقال الزبير: ما جرأكم علينا يا معشر قريش؟! ثم رفع العمامة عن رأسه وقال: أنا الزبير بن العوام، وأمي صفية بنت عبد المطلب، وصاحبي المقداد، أسدان رابضان يدفعان عن شبلهما، فان شئتم ناضلتكم، وإن شئتم نازلتكم، وإن شئتم انصرفتم، فانصرفوا، وقدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجبريل عنده، فقال: «يا محمد إِن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك».
وقال بعض المنافقين في أصحاب خبيب: ويح هؤلاء المقتولين لا في بيوتهم قعدوا، ولا رسالة صاحبهم أدوا، فأنزل الله تعالى في الزبير والمقداد وخبيب وأصحابه والمنافقين هذه الآية، وثلاث آيات بعدها. وهذا الحديث بطوله مروي عن ابن عباس.
قوله تعالى: وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ، فيه قولان: أحدهما: أنه يقول: إن الله يشهد أن ما ينطق به لساني هو الذي في قلبي. الثاني: أنه يقول: اللهم اشهد عليّ بهذا القول.
وقرأ ابن مسعود: «ويستشهد الله» بزيادة سين وتاء. وقرأ الحسن، وطلحة بن مصرف، وابن محيصن وابن أبي عبلة: «ويشهد» بفتح الياء «الله» بالرفع.
قوله تعالى: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ، الخصام: جمع خصم، يقال: خصم وخصام وخصوم. قال الزجاج: والألد: الشديد الخصومة، واشتقاقه من لديدي العنق، وهما صفحتا العنق، ومعناه: أن خصمه في أي وجه أخذ من أبواب الخصومة، غلبه في ذلك.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٥]
وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥)
قوله تعالى: وَإِذا تَوَلَّى، فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه بمعنى: غضب، روي عن ابن عباس، وابن جريج. والثاني: أنه الانصراف عن القول الذي قاله، قاله الحسن. والثالث: أنه من الولاية، فتقديره: إذا صار والياً، قاله مجاهد والضحاك. والرابع: أنه الانصراف بالبدن، قاله مقاتل وابن قتيبة.
وفي معنى «سعى» قولان: أحدهما: أنه بمعنى: عمل، قاله ابن عباس ومجاهد. والثاني: أنه من السعي بالقدم، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي الفساد قولان: أحدهما: أنه الكفر. والثاني: الظلم. والحرث:
الزرع. والنسل: نسل كل شيء من الحيوان، هذا قول ابن عباس وعكرمة في آخرين. وحكى الزجاج عن قوم: أن الحرث: النساء، والنسل: الأولاد. قال: وليس هذا بمنكر، لأن المرأة تسمى حرثاً. وفي معنى إهلاكه للحرث والنسل ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إهلاك ذلك بالقتل والإحراق والإفساد، قاله
الأكثرون. والثاني: أنه إذا ظلم كان الظلم سبباً لقطع القطر، فيهلك الحرث والنسل، قاله مجاهد. وهو يخرج على قول من قال: إنه من التولي. والثالث: أنه إهلاك ذلك بالضلال الذي يؤول إلى الهلاك، حكاه بعض المفسرين.
قوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ، قال ابن عباس: لا يرضى بالمعاصي.
وقد احتجت المعتزلة بهذه الآية، فأجاب أصحابنا بأجوبة. منها: الأول: أنه لا يحبه ديناً، ولا يريده شرعاً، فأما أنه لم يرده وجوداً فلا. والثاني: أنه لا يحبه للمؤمنين دون الكافرين. والثالث: أن الإرادة معنى غير المحبة، فان الإنسان قد يتناول المرّ، ويريد ربط الجرح، ولا يحب شيئاً من ذلك.
وإذا بان في المعقول الفرق بين الإرادة والمحبة، بطل ادعاؤهم التساوي بينهما، وهذا جواب معتمد.
وفي معنى هذه الآية قوله تعالى: وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ «١».
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٦]
وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (٢٠٦)
قوله تعالى: أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ، قال ابن عباس: هي الحمية. وأنشدوا:
أخذته عزة من جهله... فتولى مغضباً فعل الضجر
ومعنى الكلام: حملته الحمية على الفعل بالإثم. وفي «جهنم» قولان، ذكرهما ابن الأنباري:
أحدهما: أنها أعجميَّة لا تجر للتعريف والعجمة. والثاني: أنها اسمٌ عربي، ولم يجر للتأنيث والتعريف. قال رؤبة: رُكَيَّة جهنّام: بعيدة القعر. وقال الأعشى:
دعوت خليلي مِسْحَلاً ودعوا له... جُهنّام جدعاً للهجين المذمّم
فترك صرفه يدلُ على أنه اسم أعجمي معرّب.
وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: فحسبه جهنم جزاء عن إثمه. والثاني: فحسبه جهنم ذلاً من عزه. والمهاد: الفراش، ومهدت لفلان: إذا وطَّأت له، ومنه: مهد الصبي.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٠٧]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٢٠٧)
قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ، اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية على خمسة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وهو معنى قول عمر وعليّ عليهما السّلام.
والثاني: أنها نزلت في الزبير والمقداد حين ذهبا لإنزال خبيب من خشبته، وقد شرحنا القصة. وهذا قول ابن عباس والضحاك. والثالث: أنها نزلت في صهيب الرومي، واختلفوا في قصته.
فروي أنه أقبل مهاجراً نحو النبي صلّى الله عليه وسلّم، فاتبعه نفر من قريش، فنزل، فانتثل كنانته، وقال:
(٩١) حسن. أخرجه ابن سعد في «الطبقات» ٣/ ١٧١ من طرق عن علي بن زيد عن سعيد بن المسيب مرسلا.
وإسناده ضعيف لضعف ابن زيد. وأخرجه الحاكم ٣/ ٤٠٠ من وجه آخر عن سعيد عن صهيب، وإسناده ضعيف لجهالة حصين بن حذيفة، وصححه الحاكم! ووافقه الذهبي!. وأخرجه الطبراني ٧٣٠٨ من وجه آخر عن صهيب، وفيه محمد بن الحسن بن زبالة، وهو واه. وأخرجه الحاكم ٣/ ٣٩٨ من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بنحوه، وإسناده على شرط مسلم، وكذا صححه الحاكم على شرطه، ووافقه الذهبي.
وأخرجه ابن سعد ٣/ ١٧٢ عن عمر بن الحكم مرسلا، وفيه الواقدي، وهو متروك. وورد من مرسل أبي عثمان، أخرجه ابن سعد ١/ ١٧١ وإسناده قوي، وليس فيه نزول الآية. وورد من مرسل الربيع بن أنس:
أخرجه الطبري ٤٠٠٥. وانظر ما بعده.
- الخلاصة: هذه الروايات تتأيد بمجموعها، فالحديث حسن في أقل تقدير إن شاء الله.
__________
(١) الزمر: ٧.
قد علمتم أني من أرماكم بسهمٍ، وأيم الله لا تصلون إليَّ حتى أرميكم بكل سهم معي، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي منه شيء، فان شئتم دللتكم على مالي. قالوا: فدلنا على مالك نخلِّ عنك، فعاهدهم على ذلك، فنزلت فيه هذه الآية، فلمّا رآه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ربح البيع يا أبا يحيى» ؟ وقرأ عليه القرآن. هذا قول سعيد بن المسيب، وذكر نحوه أبو صالح عن ابن عباس، وقال: إن الذي تلقاه فبشره بما نزل فيه أبو بكر الصديق «١».
وذكر مقاتل أنه قال للمشركين: أنا شيخ كبير لا يضركم إن كنت معكم أو عليكم، ولي عليكم حق لجواري فخذوا مالي غير راحلة، واتركوني وديني، فاشترط أن لا يمنع عن صلاة ولا هجرة، فأقام ما شاء الله، ثم ركب راحلته، فأتى المدينة مهاجراً، فلقيه أبو بكر فبشره وقال: نزلت فيك هذه الآية «٢». وقال عكرمة: إنها نزلت في صهيب، وأبي ذر الغفاري، فأما صهيب، فأخذه أهله فافتدى بماله، وأما أبو ذر، فأخذه أهله فأفلت منهم حتى قدم مهاجراً «٣».
والرابع: أنها نزلت في المجاهدين في سبيل الله، قاله الحسن وابن زيد في آخرين.
والخامس: أنها نزلت في المهاجرين والأنصار حين قاتلوا على دين الله حتى ظهروا، هذا قول قتادة. و «يشري» كلمة من الأضداد، يقال: شرى، بمعنى: باع، وبمعنى: اشترى، فمعناها على قول من قال: نزلت في صهيب معنى: يشتري. وعلى بقية الأقوال بمعنى: يبيع.
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٠٨ الى ٢١٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٠٨) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٠٩) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٢١٠)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً، اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت فيمن أسلم من أهل الكتاب، كانوا بعد إسلامهم يتقون السبت ولحم الجمل، وأشياء يتقيها أهل الكتاب، رواه أبو صالح عن ابن عباس «٤». والثاني: أنها نزلت في أهل الكتاب الذين
(١) عزاه لأبي صالح عن ابن عباس، ورواية أبي صالح، هو الكلبي وهو كذاب، وأبو صالح متروك عن ابن عباس. فلا فائدة من هذه الطريق، والعبرة بما تقدم.
(٢) عزاه لمقاتل، وهو متهم أيضا، وانظر ما بعده.
(٣) أخرجه الطبري ٤٠٠٤ عن عكرمة مرسلا. وأخرجه الحاكم ٣١٣/ ٤٠٠ عن ابن جريج، وهذا معضل.
(٤) تقدم أنه من رواية الكلبي، وهو متهم عن أبي صالح، وهو واه.
173
لم يؤمنوا بالنبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، أمروا بالدخول في الإسلام. روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال الضحاك «١». والثالث: أنها نزلت في المسلمين، يأمرهم بالدخول في شرائع الإسلام كلها، قاله مجاهد وقتادة «٢».
وفي «السلم» ثلاث لغات: كسر السين وتسكين اللام. وبها قرأ أبو عمرو وابن عامر في «البقرة» وفتحا السين في «الأنفال» وسورة «محمد». وفتح السين مع تسكين اللام. وبها قرأ ابن كثير ونافع والكسائي في المواضع الثلاثة، وفتح السين واللام. وبها قرأ الأعمش في «البقرة» خاصة. وفي معنى «السلم» قولان: أحدهما: أنه الإسلام، قاله ابن عباس، وعكرمة، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن قتيبة، والزجاج في آخرين. والثاني: أنها الطاعة، روي عن ابن عباس أيضاً، وهو قول أبي العالية، والربيع.
وقال الزجاج: و «كافة» بمعنى الجميع، وهو في اشتقاق اللغة: ما يكف الشيء في آخره، من ذلك: كُفة القميص، وكل مستطيل فحرفه كُفَّة: بضم الكاف. ويقال في كل مستدير: كِفه بكسر الكاف نحو: كِفّة الميزان. ويقال: إنما سميت كُفّة الثوب، لأنها تمنعه أن ينتشر، وأصل الكف: المنع، وقيل لطرف اليد: كف، لأنها تكف بها عن سائر البدن، ورجل مكفوف: قد كف بصره أن ينظر. واختلفوا:
هل قوله: «كافة» يرجع إلى السلم، أو إلى الداخلين فيه؟ على قولين: أحدهما: أنه راجع إلى السلم، فتقديره: ادخلوا في جميع شرائع الإسلام. وهذا يخرج على القول الأول الذي ذكرناه في نزول الآية.
والثاني: أنه يرجع إلى الداخلين فيه، فتقديره: ادخلوا كلكم في الإسلام، وبهذا يخرج على القول الثاني. وعلى القول الثالث يحتمل قوله: «كافة» ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون أمراً للمؤمنين بألسنتهم أن يؤمنوا بقلوبهم. والثاني: أن يكون أمراً للمؤمنين بالدخول في جميع شرائِعه. والثالث: أن يكون أمراً لهم بالثبات عليه، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا «٣».
و «خطوات الشيطان» : المعاصي. وقد سبق شرحها. و «البينات» : الدلالات الواضحات. وقال ابن جريج: هي الإسلام والقرآن. و «ينظرون» بمعنى: ينتظرون.
قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ كان جماعة من السلف يمسكون عن الكلام في مثل هذا. وقد ذكر القاضي أبو يعلى عن أحمد أنه قال: المراد به: قدرته وأمره. قال: وقد بينه في قوله تعالى: وْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ
. قوله تعالى: فِي ظُلَلٍ، أي: بظلل. والظلل: جمع ظلة. و «الغمام» : السحاب الذي لا ماء فيه. قال الضحاك: في قطع من السحاب. ومتى يكون مجيء الملائكة؟ فيه قولان:
(١) من رواية الضحاك عن ابن عباس، وعن الضحاك جويبر، وهو متروك.
(٢) قال الإمام الطبري رحمه الله ٢/ ٣٣٧- ٣٣٨: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها. وقد يدخل في الَّذِينَ آمَنُوا المصدّقون بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبما جاء به، والمصدّقون بمن قبله من الأنبياء والرّسل وما جاءوا به. وقد دعا الله عزّ وجلّ كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والمحافظة على فرائضه التي فرضها، ونهاهم عن تضييع شيء من ذلك، فالآية عامة لكل من شمله اسم «الإيمان»، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض.
(٣) النساء: ١٣٦.
174
أحدهما: أنه يوم القيامة أيضا، وهو قول الجمهور. والثاني: أنه عند الموت، قاله قتادة. وقرأ الحسن بخفض «الملائكة». ووَ قُضِيَ الْأَمْرُ: فرغ منه. ووَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، أي: تصير. قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم، «تُرجع» بضم التاء. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكَسائي بفتحها. فان قيل:
فكأن الأمور كانت إلى غيره؟ فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أن المراد به إعلام الخلق أنه المجازي على الأعمال بالثواب والعقاب، قاله الزجاج. والثاني: أنه لما عَبَد قومٌ غيره، ونسبوا أفعاله إلى سواه، ثم انكشف الغطاء يوم القيامة ردوا إليه ما أضافوا إلى غيره. والثالث: أن العرب تقول: قد رجع عليَّ من فلان مكروه: إذا صار إليه منه مكروه، وإن لم يكن سبق. قال الشاعر:
فانْ تكنِ الأيَّامُ أحَسنَّ مرَةً إليّ فقد عادت لهنّ ذنوب
ذكرهما ابن الأنباري. ومما يشبه هذا قول لبيد:
وما المرء إِلا كالشهاب وضوئه يحور رمادا بعد إِذ هو ساطع
أراد: يصير رمادا لا أنّه كان رمادا، ومثله قول أمية بن أبي الصلت:
تلك المكارم لا قعبان من لبنٍ شيبا بماء فعادا بعد أبوالا «١»
أي: صارا. والرابع: أنه لما كانت الأمور إليه قبل الخلق، ثم أوجدهم فملكهم بعضها رجعت إليه بعد هلاكهم. فإن قيل: قد جرى ذكر اسمه تعالى في قوله: أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ، فما الحكمة في أنه لم يقل: وإليه ترجع الأمور؟ فالجواب: أن إعادة اسمه أفخم وأعظم، والعرب إذا جرى ذكر شيء يفخم أعادوا لفظه، وأنشدوا:
لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
فأعادوا ذكر الموت لفخامته في صدورهم، ذكره الزجّاج.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١١]
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢١١)
قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى: له وللمؤمنين. قال الفراء: أهل الحجاز يقولون: «سل» بغير همز، وبعض تميم يقولون: «اسأل» بالهمز، وبعضهم يقول: «إِسَلْ» «٢» بالألف وطرح الهمز، والأولى أغربهنَّ، وبها جاء الكتاب. وفي المراد بالسؤال قولان: أحدهما: أنه
(١) في اللسان: القعب: القدح الضخم.
(٢) قال القرطبي رحمه الله ٣/ ٢٩ و ٣٠: قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ «سل» من السؤال بتخفيف الهمز، فلما تحركت السين لم يحتج إلى ألف الوصل. وقيل: إن للعرب في سقوط ألف الوصل في «سل» وثبوتها في «واسأل» وجهين: أحدهما- حذفها في إحداهما وثبوتها في الأخرى، وجاء القرآن بهما. فاتبع خط المصحف في إثباته للهمزة وإسقاطها. والوجه الثاني- أنه يختلف إثباتها وإسقاطها باختلاف الكلام المستعمل فيه فتحذف الهمزة في الكلام المبتدأ، مثل قوله: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ وقوله:
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ [ن: ٤٠] وتثبت في العطف، مثل قوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢] وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: ٣٢] قاله علي بن عيسى. وقرأ أبو عمرو في رواية ابن عباس عنه «اسأل» على الأصل. وقرأ قوم «اسل» على نقل الحركة إلى السين وإبقاء ألف الوصل، على لغة من قال: الأحمر.
التقرير والإذكار بالنعم. والثاني: التوبيخ على ترك الشكر.
والآية البينة: العلامة الواضحة، كالعصا، والغمام، والمن، والسلوى، والبحر. وفي المراد بنعمة الله قولان: أحدهما: أنها الآيات التي ذكرناها، قاله قتادة. والثاني: أنها حجج الله الدالة على أمر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله الزجاج. وفي معنى تبديلها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الكفر بها، قاله أبو العالية ومجاهد. والثاني: تغيير صفة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في التوراة، قاله أبو سليمان الدمشقي. والثالث: تعطيل حجج الله بالتّأويلات الفاسدة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٢]
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢١٢)
قوله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا، في نزولها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت في أبي جهل وأصحابه، قاله ابن عباس. والثاني: نزلت في علماء اليهود، قاله عطاء. والثالث: في عبد الله بن أبيّ وأصحابه من المنافقين، قاله مقاتل. قال الزجاج: وإِنما جاز في «زين» لفظ التذكير، لأن تأنيث الحياة ليس بحقيقي، إذ معنى الحياة ومعنى العيش واحد. وإلى من يضاف هذا التزيين «١» فيه قولان:
أحدهما: أنه يضاف إلى الله. وقرأ أبيّ بن كعب والحسن، ومجاهد، وابن محيصن، وابن أبي عبلة:
«زَيّن» بفتح الزاي والياء، على معنى: زيّنها الله لهم. والثاني: أنه يضاف إلى الشيطان، روي عن الحسن. قال شيخنا علي بن عبيد الله: والتزيين من الله تعالى: هو التركيب الطبيعي فإنه وضع في الطبائع محبّة المحبوب لصورة فيه تزينت للنفس، وذلك من صنعه، وتزيين الشيطان بإذكار ما وقع من إغفاله مما مثله يدعو إلى نفسه لزينته، فالله تعالى يزيّن بالوضع، والشيطان يزيّن بالإذكار.
وما السبب في سخرية الكفار من المؤمنين؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم سخروا منهم للفقر.
والثاني: لتصديقهم بالآخرة. والثالث: لاتّباعهم للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: إنهم كانوا يوهمونهم أنكم على الحق، سخرية منهم بهم. وفي معنى كونهم «فوقهم» ثلاثة أقوال: أحدها: أن ذلك على أصله، لأن المؤمنين في عليّين، والكفار في سجين. والثاني: أن حجج المؤمنين فوق شبه الكافرين، فهم المنصورون. والثالث: في أن نعيم المؤمنين في الجنة فوق نعيم الكافرين في الدنيا. قوله تعالى: وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، فيه قولان: أحدهما: أنه يرزق من يشاء رزقاً واسعاً غير ضيّق. والثاني:
يرزق من يشاء بلا محاسبة في الآخرة.
(١) قال القرطبي رحمه الله ٣/ ٣٠: وقوله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا على ما لم يسم فاعله.
والمراد رؤساء قريش. وقرأ مجاهد وحميد بن قيس على بناء الفاعل. قال النحاس: هي قراءة شاذة لأنه لم يتقدّم للفاعل ذكر. وقرأ ابن أبي عبلة (زيّنت) بإظهار العلامة، وجاز ذلك لكون التأنيث غير حقيقي والمزيّن هو خالقها ومخترعها وخالق الكفر، ويزينها الشيطان بوسوسته وإغوائه. وخصّ الذين كفروا بالذكر لقبولهم التزيين جملة، وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة بسببها وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملا فالمؤمنون الذي هم على سنن الشرع لم تفتنهم، الزينة والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه حين قدم عليه بالمال: اللهم إنا لا نستطيع إلّا أن نفرح بما زينت لنا.

[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٣]

كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢١٣)
قوله تعالى: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً، في المراد ب «الناس» هاهنا ثلاثة أقوال «١» : أحدها: جميع بني آدم، وهو قول الجمهور. والثاني: آدم وحده، قاله مجاهد. قال ابن الأنباري: وهذا الوجه جائز، لأن العرب توقع الجمع على الواحد. ومعنى الآية: كان آدم ذا دين واحد، فاختلف ولده بعده.
والثالث: آدم وأولاده كانوا على الحق، فاختلفوا حين قتل قابيلُ هابيلَ. ذكره ابن الأنباري. والأمَّة هاهنا: الصنف الواحد على مقصد واحد. وفي ذلك المقصد الذي كانوا عليه قولان: أحدهما: أنه الإسلام، قاله أبيّ بن كعب، وقتادة، والسدّي، ومقاتل. والثاني: أنه الكفر، رواه عطية عن ابن عباس.
ومتى كان ذلك، فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه حين عرضوا على آدم وأقروا بالعبودية، قاله أبيّ بن كعب. والثاني: في عهد إبراهيم كانوا كفاراً، قاله ابن عباس. والثالث: بين آدم ونوح، وهو قول قتادة.
والرابع: حين ركبوا السفينة، كانوا على الحق، قاله مقاتل. والخامس: في عهد آدم. ذكره ابن الأنباري.
فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ بالجنّة وَمُنْذِرِينَ بالنار. هذا قول الأكثرين. وقال بعض السلف: مبشرين لمن آمن بك يا محمد، ومنذرين لمن كذّبك. والكتاب: اسم جنس، كما تقول: كثر الدرهم في أيدي الناس. وذكر بعضهم أنه في التوراة. وفي المراد بالحق هاهنا قولان: أحدهما: أنه بمعنى الصدق والعدل. والثاني: أنه القضاء فيما اختلفوا فيه. لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ، في الحاكم هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الله تعالى. والثاني: النبي الذي أنزل عليه الكتاب. والثالث: الكتاب كقوله تعالى: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ، وقرأ أبو جعفر: «ليُحكَم» بضم الياء وفتح الكاف. وقرأ مجاهد «لتحكم» بالتاء على الخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
قوله تعالى: فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، يعني: الدين. قوله تعالى: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ في هذه الهاء ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تعود إلى محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن مسعود. والثاني: إلى الدين، قاله مقاتل.
والثالث: إلى الكتاب، قاله أبو سليمان الدمشقي. فأما هاء «أوتوه» فعائدة على الكتاب من غير خلاف.
قال الزجاج: ونصب «بغياً» على معنى المفعول له، فالمعنى: لم يوقعوا الاختلاف إلا للبغي، لأنهم عالمون بحقيقة الأمر في كتبهم. وقال الفراء: في اختلافهم وجهان: أحدهما: كفر بعضهم بكتاب بعض. والثاني: تبديل ما بدّلوا.
(١) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» ١/ ٢٥٠: أخرج ابن جرير عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا» ورواه الحاكم في مستدركه من حديث بندار عن محمد بن بشار ثم قال. صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال العوفي عن ابن عباس كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً يقول كانوا كفارا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ والقول الأول عن ابن عباس أصح إسنادا ومعنى لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام فبعث الله إليهم نوحا عليه السّلام فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض.
قوله تعالى: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، أي: لمعرفة ما اختلفوا فيه، أو تصحيح ما اختلفوا فيه. وفي الذي اختلفوا فيه ستة أقوال:
أحدها: أنه الجمعة، جعلها اليهود السبت، والنصارى الأحد.
(٩٢) فروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، فهذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له. اليوم لنا، وغداً لليهود، وبعد غد للنصارى».
والثاني: أنه الصلاة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى المغرب.
والثالث: أنه إبراهيم. قالت اليهود: كان يهودياً، وقالت النصارى: كان نصرانياً.
والرابع: أنه عيسى، جعلته اليهود لفرية، وجعلته النّصارى إلها.
والخامس: أنه الكتاب، آمنوا ببعضها، وكفروا ببعضها.
والسادس: أنه الدين، وهو الأصح، لأن جميع الأقوال داخلة في ذلك.
قوله تعالى: بِإِذْنِهِ، قال الزجاج: إذنه: علمه. وقال غيره: أمره. قال بعضهم: توفيقه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٤]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (٢١٤)
قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ، في سبب نزولها ثلاثة أقوال: أحدها: أن الصحابة أصابهم يوم الأحزاب بلاء وحصر، فنزلت هذه الآية، ذكره السدي عن أشياخه وهو قول قتادة «١».
(٩٣) والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما دخل المدينة هو وأصحابه اشتد بهم الضر، فنزلت هذه الآية، قاله عطاء. والثالث: أن المنافقين قالوا للمؤمنين: لو كان محمد نبياً لم يُسلط عليكم القتل، فأجابوهم:
من قتل منا دخل الجنة، فقالوا: لم تمنّون أنفسكم بالباطل؟ فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل. وزعم أنها نزلت يوم أُحد «٢».
قال الفراء: أَمْ حَسِبْتُمْ بمعنى: أظننتم، وقال الزجاج: «أم» بمعنى: بل. وقد شرحنا «أم» فيما تقدم شرحاً كافياً. والمثَل بمعنى: الصفة. و «زلزلوا» خُوفوا وحُرِكوا بما يؤذي، وأصل الزلزلة في اللغة من: زل الشيء عن مكانه، فاذا قلت: زلزلته، فتأويله: كررت زلزلته مِن مكانه، وكل ما كان فيه ترجيع كرّرت فيه فاء الفعل، تقول: أقل فلان الشيء: إذا رفعه من مكانه، فاذا كرر رفعه وردّه، قيل:
صحيح. أخرجه البخاري ٢٣٨ و ٨٧٦ و ٢٩٥٦ و ٦٦٢٤ و ٧٠٣٦ و ٧٤٩٥ ومسلم ٨٥٥ وأحمد ٢/ ٢٤٣- ٢٤٩ والنسائي ٣/ ٨٧ وابن ماجة ١٠٨٣ وابن حبان ٢٧٨٤ عن أبي هريرة مرفوعا.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ١٢٨ عن عطاء بدون إسناد، فهو لا شيء.
__________
(١) أخرجه الطبري ٤٠٦٧ عن السدي مرسلا. وأخرجه ٤٠٦٨ عن قتادة مرسلا، فلعل هذه المراسيل تتأيد بمجموعها. [.....]
(٢) عزاه لمقاتل، وتقدم أنه متهم بالكذب.
قلقله. فالمعنى: أنه تكرر عليهم التحريك بالخوف، قاله ابن عباس. البأساء: الشدة والبؤس، والضراء: البلاء والمرض. وكل رسول بعث إلى أمته يقول: مَتى نَصْرُ اللَّهِ، والنصر: الفتح، والجمهور على فتح لام «حتى يقولَ»، وضمها نافع.

فصل: ومعنى الآية: أن البلاء والجهد بلغ بالأمم المتقدمة إلى أن استبطئوا النصر لشدة البلاء.


وقد دلت على أن طريق الجنة إنما هو الصبر على البلاء.
(٩٤) قالت عائشة: ما شبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أيام تباعاً من خبز بُرٍ حتى مضى لسبيله.
(٩٥) وقال حذيفة: أقرّ أيامي لعيني، يوم أرجع إلى أهلي فيشكون إليَّ الحاجة. قيل: ولم ذلك؟
قال: لأني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إِن الله يتعاهد المؤمن بالبلاء كما يتعاهد الوالد ولده بالخير، وإِن الله ليحمي المؤمن من الدنيا، كما يحمي المريض أهله الطعام».
أخبرنا أبو بكر الصوفي، قال: أخبرنا أبو سعيد بن أبي صادق، قال: أخبرنا أبو عبد الله الشّيرازيّ، قال: سمعت أبا الطيّب بن الفرخان يقول: سمعت الجنيد يقول: دخلت على سري السقطي وهو يقول:
وما رُمتُ الدُخول عليهِ حتى حَلَلتُ محلّةَ العبد الذّليل
وأغضيتُ الجفون على قذاها وصُنتُ النفسَ عن قالٍ وقيل «١»
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٥]
يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢١٥)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ، في سبب نزولها قولان:
(٩٦) أحدهما: أنها نزلت في عمرو بن الجموح الأنصاري، وكان له مال كثيرٌ، فقال: يا
صحيح. أخرجه البخاري ٥٤١٦ و ٦٤٥٤ ومسلم ٢٩٧٠ وابن سعد ١/ ٤٠٢ و ٤٠٣ وأحمد ٦/ ١٥٦ و ٢٥٥ ووكيع ١/ ١٠ و ١٠٩ وهنّاد بن السّري ٧٢٥ و ٧٢٨ في «الزهد» من طرق عن عائشة.
- ويشهد له ما أخرجه البخاري ٢٠٦٩ و ٢٥٠٨ والترمذي ١٢١٥ وأحمد ٣/ ٢٣٨ وابن ماجة ٤١٤٧ وابن حبان ٦٣٤٩ من طرق عن أنس بن مالك. أنه مشى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بخبز وإهالة سنخة، ولقد رهن النبي صلّى الله عليه وسلّم درعا له بالمدينة عند يهودي، وأخذ منه الشعير لأهله، ولقد سمعته يقول: «ما أمسى عند آل محمد صلّى الله عليه وسلّم صاع برّ ولا صاع حبّ». ويشهد له ما أخرجه مسلم ٢٩٧٦ والترمذي ٢٣٥٨ وابن ماجة ٣٣٤٣ عن أبي هريرة قال: ما أشبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهله ثلاثة أيام تباعا من خبز البرّ حتى فارق الدنيا.
صدره ضعيف، وعجزه صحيح بشاهده. أخرجه الطبراني في «الكبرى» ٣٠٠٤ وأبو نعيم في «الحلية» ١/ ٢٧٧ من حديث حذيفة، وإسناده ضعيف. قال الهيثمي في «المجمع» ١٠/ ٢٨٥: وفيه من لم أعرفه.
- ويشهد لعجزه ما أخرجه الترمذي ٢٠٣٦. وأحمد في «الزهد» ١٧ والحاكم ٤/ ٢٠٧ و ٤/ ٣٠٩ وابن حبان ٦٦٩ عن قتادة بن النعمان، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إذا أحبّ الله عبدا حماه الدنيا كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء». وإسناده على شرط مسلم، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
لا أصل له. عزاه لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح متروك في روايته عن ابن عباس، ورواية أبي صالح هو الكلبي، وهو كذاب.
__________
(١) الرّوم: رام الشيء، طلبه. القذى: ما يقع في العين وترمى به والقذى: إذا سكت على الذل والضيم.
رسول الله بماذا نتصدق، وعلى مَن ننفق؟ فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(٩٧) والثاني: أن رجلاً قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إِن لي ديناراً، فقال: «أنفقه على نفسك»، فقال: إن لي دينارين، فقال: «أنفقهما على أهلك»، فقال: إن لي ثلاثة، فقال: «أنفقها على خادمك»، فقال: إن لي أربعة، فقال: «أنفقها على والديك»، فقال: إن لي خمسة، فقال: «أنفقها على قرابتك»، فقال: إِن لي ستة، فقال: «أنفقها في سبيل الله، وهو أحسنها»، فنزلت فيه هذه الآية، رواه عطاء عن ابن عباس.
قال الزجاج: «ماذا» في اللغة على ضربين: أحدهما: أن تكون «ذا» بمعنى الذي، و «ينفقون» صلته، فيكون المعنى: يسألونك: أي شيء الذي ينفقون؟ والثاني: أن تكون «ما» مع «ذا» اسماً واحداً، فيكون المعنى: يسألونك: أي شيء الذي ينفقون، قال: وكأنهم سألوا: على مَن ينبغي أن يفضلوا، وما وجه الذي ينفقون؟ لأنهم يعلمون ما المنفق، فأعلمهم الله أن أولى مَن أُفضِل عليه الوالدان والأقربون.
والخير: المال، قاله ابن عباس في آخرين. وقال: ومعنى «فللوالدين» : فعلى الوالدين.

فصل: وأكثر علماء التفسير على أن هذه الآية منسوخة، قال ابن مسعود: نسختها آية الزكاة.


وذهب الحسن إلى إحكامها، وقال ابن زيد هي في النوافل، وهذا الظاهر من الآية، لأن ظاهرها يقتضي الندب، ولا يصح أن يقال: إنها منسوخة، إلا أن يقال: إنها اقتضت وجوب النفقة على المذكورين فيها.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٦]
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦)
قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، قال ابن عباس: لما فرض الله على المسلمين الجهاد شق عليهم وكرهوه، فنزلت هذه الآية. و «كتب» بمعنى: فرض في قول الجماعة.
قال الزجّاج: كرهت الشيء أكرهه كَرَهاً وكُرهاً، وكراهةً وكراهيةً. وكل ما في كتاب الله من الكره، فالفتح فيه جائز، إلا أن أبا عبيد ذكر أن الناس مجتمعون على ضم هذا الحرف الذي في هذه الآية. وإنما كرهوه لمشقَّته على النفوس، لا أنهم كرهوا فرض الله تعالى. وقال الفراء: الكُره والكَره:
لغتان. وكأن النحويين يذهبون بالكره إلى ما كان منك مما لم تُكره عليه، فإذا أُكرهت على الشيء استحبوا «كَرهاً» بالفتح. وقال ابن قتيبة: الكره بالفتح، معناه الإكراه والقهر، وبالضم معناه: المشقة.
ومن نظائر هذا: الجهد: الطاقة، والجَهد: المشقة. ومنهم مَن يجعلهما واحداً. وعُظْم الشيء: أكبره وعظمه: نفسه. وعُرض الشيء: إحدى نواحيه. وعَرضه: خلاف طوله. والأكل: مصدر أكلت، والأُكل: المأكول، وقال أبو علي: هما لغتان، كالفقر والفُقر، والضَّعف والضُّعف، والدَّف والدُّف، والشَّهد والشُّهد. قوله تعالى: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً، قال ابن عباس: يعنى الجهاد. وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فتح وغنيمة أو شهادة. وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وهو القعود عنه. وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ، لا تصيبون
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ١٢٩ عن عطاء عن ابن عباس ولم أقف له على إسناد، فهو لا شيء.
فتحاً ولا غنيمة ولا شهادة. وَاللَّهُ يَعْلَمُ أن الجهاد خير لكم. وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ حين أحببتم القعود عنه.
فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها من المحكم الناسخ للعفو عن المشركين. والثاني: أنها منسوخة، لأنها أوجبت الجهاد على الكل، فنسخ ذلك بقوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «١». والثالث: إنها ناسخة من وجه، منسوخة من وجه. وقالوا: إن الحال في القتال كانت على ثلاثة مراتب: الأولى: المنع من القتال، ومنه قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ «٢». والثانية: أمر الكل بالقتال، ومنه قوله تعالى: انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا «٣»، ومثلها هذه الآية. والثالثة: كون القتال فرضاً على الكفاية، وهو قوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، فيكون الناسخ منها إيجاب القتال بعد المنع منه، والمنسوخ وجوب القتال على الكلّ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٧]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ.
(٩٨) روى جندب بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث رهطا واستعمل عليهم أبا عبيدة بن الحارث فلما انطلق ليتوجه بكى صبابة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فبعث مكانه عبد الله بن جحش، وكتب له كتاباً، وأمره ألا يقرأه إلا بمكان كذا وكذا، وقال: «لا تكرهنَّ أحداً من أصحابك على المسير معك»، فلما صار إِلى المكان، قرأ الكتاب واسترجع، وقال: سمعاً وطاعة لأمر الله ولرسوله فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب. فرجع رجلان من أصحابه، ومضى بقيتهم، فأتوا ابن الحضرمي فقتلوه، فلم يدروا ذلك اليوم، أمِن رجب، أو من جمادى الآخرة؟ فقال المشركون للمسلمين: قتلتم في الشهر الحرام، فأتوا
صحيح دون تأمير أبي عبيدة وبكائه، فإنه ضعيف. أخرجه أبو يعلى ١٥٣٤ والطبري ٤٠٨٧ والطبراني ١٦٧٠ والبيهقي ٩/ ١١- ١٢ من حديث جندب بن عبد الله، وإسناده ضعيف، فيه راو مجهول.
- وأصله محفوظ بشواهده، أخرجه الطبري ٤٠٨٥ من مرسل عروة. وورد من مرسل السدي، أخرجه الطبري ٤٠٨٦. وورد من مرسل أبي مالك: أخرجه الطبري ٤٠٩٢. وورد عن ابن عباس: أخرجه الطبري ٤٠٨٩ وإسناده حسن. وكرره ٤٩٠ وإسناده واه لأجل عطية العوفي. وورد من مرسل الضحاك: أخرجه الطبري ٤٠٩٦ وله شواهد أخرى عامتها مرسل.
- الخلاصة: هو حديث صحيح بطرقه وشواهده دون قوله «استعمل عليهم أبا عبيدة... فبعث مكانه».
والصواب أن الأمير من أول الأمر هو عبد الله بن جحش.
__________
(١) التوبة: ١٢٢.
(٢) النساء: ٧٧.
(٣) التوبة: ٤١.
181
النبي فحدثوه الحديث فنزلت هذه الآية، فقال بعض المسلمين: لئن كان أصابهم خير فما لهم أجر، فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا إلى قوله: رَحِيمٌ.
قال الزهري: اسم ابن الحضرمي: عمرو، واسم الذي قتله عبد الله بن واقد الليثي. قال ابن عباس: كان أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، يظنون تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب.
وقد روى عطيّة عن ابن عباس أنها نزلت في شيئين: أحدهما: هذا. والثاني: دخول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مكة في شهر حرام يوم الفتح، حين عاب المشركون عليه القتال في شهر حرام «١».
وفي السائلين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك قولان: أحدهما: أنهم المسلمون، سألوه: هل أخطئوا أم أصابوا؟ قاله ابن عباس وعكرمة ومقاتل. والثاني: أنهم المشركون سألوه على وجه العيب على المسلمين، قاله الحسن، وعروة، ومجاهد. والشهر الحرام: شهر رجب، وكان يدعى الأصم، لأنه لم يكن يسمع فيه للسلاح قعقعة تعظيماً له، قِتالٍ فِيهِ أي: يسألونك عن قتال فيه. قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ قال ابن مسعود وابن عباس: لا يحِل. قال القاضي أبو يعلى: كان أهل الجاهلية يعتقدون تحريم القتال في هذه الأشهر، فأعلمهم الله تعالى في هذه الآية ببقاء التحريم.
فصل: اختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم: هل هو باق أم نسخ؟ على قولين «٢» : أحدهما: أنه باقٍ. روى ابن جريج أن عطاء كان يحلف بالله: ما يحل للناس الآن أن يغزوا في الحرم، ولا في الأشهر الحرم، إلا أن يقاتلوا فيه أو يغزوا، وما نسخت. والثاني: أنه منسوخ، قال سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار: القتال جائز في الشهر الحرام، هذه الآية منسوخة بقوله تعالى:
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «٣»، وبقوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ «٤»، وهذا قول فقهاء الأمصار.
(١) أخرجه الطبري ٤٠٩٠ عن ابن عباس بسند فيه مجاهيل، وكرره ٤٠٨٨ عن مجاهد مرسلا.
(٢) قال القرطبي رحمه الله ٣/ ٤٣: واختلف العلماء في نسخ هذه الآية، فالجمهور على نسخها، وأن قتال المشركين في الأشهر الحرم مباح واختلفوا في ناسخها، فقال الزهري: نسخها وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً.
وقيل نسخها غزو النبي صلّى الله عليه وسلّم ثقيفا في الشهر الحرام، وإغزاؤه أبا عامر إلى أوطاس في الشهر الحرام.
وقيل نسخها بيعة الرضوان على القتال في ذي القعدة، وهذا ضعيف فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما بلغه قتل عثمان بمكة وأنهم عازمون على حربه بايع حينئذ المسلمين على دفعهم لا على الابتداء بقتالهم.
وذكر البيهقي عن عروة بن الزبير من غير حديث محمد بن إسحاق في أثر قصة الحضرمي: فأنزل الله عزّ وجلّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ الآية، قال: فحدّثهم الله في كتابه أن القتال في الشهر الحرام حرام كما كان، وأن الذي يستحلون من المؤمنين هو أكبر من ذلك من صدهم عن سبيل الله حين يسجنونهم ويعذبونهم ويحبسونهم أن يهاجروا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وكفرهم بالله وصدّهم المسلمين عن المسجد الحرام في الحج والعمرة والصّلاة فيه، وإخراجهم أهل المسجد الحرام وهم سكانه من المسلمين وفتنتهم إياهم عن الدين، فبلغنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عقل ابن الحضرمي وحرّم الشهر الحرام كما كان يحرّمه حتى أنزل الله عزّ وجلّ بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وكان عطاء يقول: الآية محكمة، ولا يجوز القتال في الأشهر الحرم ويحلف على ذلك، لأن الآيات التي وردت بعدها عامة في الأزمنة، وهذا خاص والعام لا ينسخ الخاص باتفاق.
وروى أبو الزبير عن جابر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يقاتل في الشهر الحرام إلّا أن يغزى.
(٣) التوبة: ٥.
(٤) التوبة: ١٩.
182
قوله تعالى: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، هو مرفوع بالابتداء، وخبر هذه الأشياء: أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ.
وفي المراد ب «سبيل الله» هاهنا قولان: أحدهما: أنه الحج، لأنهم صدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، عن مكة. قاله ابن عباس والسدي عن أشياخه. والثاني: أنه الإسلام، قاله مقاتل. وفي هاء الكناية في قوله «وكفرٌ به» قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى الله تعالى، قاله السدي عن أشياخه، وقتادة، ومقاتل، وابن قتيبة.
والثاني: أنها تعود إلى السبيل، قاله ابن عباس. قال ابن قتيبة: وخفض «المسجدِ الحرام» نسقا على:
سَبِيلِ اللَّهِ، كأنه قال: وصد عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام. قوله تعالى: وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ لمّا آذوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه اضطروهم إلى الخروج فكأنهم أخرجوهم، فأعلمهم الله أن هذه الأفعال أعظم من قتل كل كافر. «والفتنة» هاهنا بمعنى الشرك، قاله ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وابن جبير، وقتادة، والجماعة. والفتنة في القرآن على وجوه كثير، قد ذكرتها في كتاب «النظائر». وَلا يَزالُونَ، يعني الكفّار، يُقاتِلُونَكُمْ يعني: المسلمين. وحَبِطَتْ بمعنى: بطلت.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٨]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا، في سبب نزولها قولان: أحدهما: أنه لما نزل القرآن بالرخصة لأصحاب عبد الله بن جحش في قتل ابن الحضرمي، قال بعض المسلمين: ما لهم أجر، فنزلت هذه الآية «١»، وقد ذكرنا هذا في سبب نزول قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ، عن جندب بن عبد الله. والثاني: أنه لما نزلت لهم الرخصة قاموا، فقالوا: يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزاة نعطى فيها أجر المجاهدين، فنزلت هذه الآية «٢»، قاله ابن عباس. وقال: هاجَرُوا من مكة إلى المدينة، وَجاهَدُوا في طاعة الله ابن الحضرميّ وأصحابه. ورَحْمَتَ اللَّهِ: مغفرته وجنّته. قال الشعبي: أول لواء عقد في الإسلام لواء عبد الله بن جحش، وأول مغنم قسم في الإسلام: مغنمه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢١٩]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ، في سبب نزولها قولان:
(٩٩) أحدهما: أن عمر بن الخطاب قال: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت هذه الآية.
(١٠٠) والثاني: أن جماعة من الأنصار جاءوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وفيهم عمر، ومعاذ، فقالوا: أفتنا
حسن. أخرجه أبو داود ٣٦٧٠ والترمذي ٣٠٤٩ والنسائي ٨/ ٢٨٦ والحاكم ٢/ ٢٧٨ وأحمد ١/ ٥٣ والطبري ١٢٥٦١ والبيهقي ١/ ٥٣ من حديث عمرو بن شرحبيل عن عمر. وإسناده حسن، رجاله ثقات، وصححه الحاكم على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي. ويأتي في سورة المائدة إن شاء الله تعالى.
لم أره مسندا، ذكره المصنف هكذا بدون إسناد ومن غير عزو لقائل. وكذا ذكره الواحدي في «الأسباب» ١٣٢ بقوله: نزلت... من غير عزو لقائل ولا إسناد، فهذا خبر لا أصل له لخلوه عن الإسناد.
__________
(١) أخرجه الطبري ٤١٠٥ من حديث جندب بسند فيه مجهول، فهو ضعيف وتقدم.
(٢) أخرجه الطبري ٤١٠٦ بسند عن عروة مرسلا، ومراسيل عروة جياد. ولم أره عن ابن عباس.
183
في الخمر، فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال، فنزلت هذه الآية.
وفي تسمية الخمر خمراً ثلاثة أقوال: أحدها: أنها سميت خمراً، لأنها تخامر العقل، أي:
تخالطه. والثاني: لأنها تخمِّر العقل، أي: تستره. والثالث: أنها تخمَّر، أي: تغطَّى. ذكر هذه الأقوال محمد بن القاسم. وقال الزجاج: الخمر في اللغة: ما ستر على العقل، يقال: دخل فلان في خمار الناس، أي: في الكثير الذي يستتر فيهم، وخمار المرأة قناعها، سمي خماراً لأنه يغطّي. قال: والخمر هاهنا في المجمع عليها، وقياس كل ما عمل عملها أن يقال له: خمر، وأن يكون في التحريم بمنزلتها، لأن العلماء أجمعوا على أن القمار كله حرام، وإنما ذكر الميسر من بينه، وجعل كله قياساً على الميسر، والميسر إنما يكون قماراً في الجزر «١» خاصة. فأما الميسر، فقال ابن عباس، وابن عمر، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة في الآخرين: هو القمار. قال ابن قتيبة: يقال: يسرت: إذا ضربت بالقداح، ويقال للضارب بالقداح: ياسر وياسرون، ويُسر وأيْسار. وكان أصحاب الثروة والأجواد في الشتاء عند شدة الزمان وكلبه ينحرون جزوراً ويجزئونها أجزاء ثم يضربون عليها بالقداح فاذا قمر القامر، جعل ذلك لذوي الحاجة والمسكنة، وهو النفع الذي ذكره الله تعالى، وكانوا يتمادحون بأخذ القداح، ويتسابون بتركها ويعيبون من لا ييسر.
قوله تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ، قرأ الأكثرون «كبير» بالباء، وقرأ حمزة والكسائي بالثاء.
وفي إثم الخمر ثلاثة أقوال: أحدها: أن شربها ينقص الدين، قاله ابن عباس. والثاني: أنه إذا شرب سكر فآذى الناس، رواه السدي عن أشياخه. والثالث: أنه وقوع العداوة والبغضاء وتغطية العقل الذي يقع به التمييز، قاله الزجاج. وفي إثم الميسر قولان: أحدهما: أنه يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة، ويوقع العداوة، قاله ابن عباس. والثاني: أنه يدعو إلى الظلم ومنع الحق. رواه السدي عن أشياخه وجائز أن يراد جميع ذلك. وأما منافع الخمر فمن وجهين: أحدهما: الربح في بيعها. والثاني: انتفاع الأبدان «٢» مع التذاذ النفوس. وأما منافع الميسر: فاصابة الرجل المال من غير تعب. وفي قوله تعالى:
وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما، قولان: أحدهما: أن معناه: وإثمهما بعد التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم، قاله سعيد بن جبير والضحاك ومقاتل. والثاني: وإثمهما قبل التحريم أكبر من نفعهما قبل التحريم أيضاً. لأن الإثم الذي يحدث في أسبابهما أكبر من نفعهما. وهذا منقول عن ابن جبير أيضاً، واختلفوا بماذا كانت الخمرة مباحة؟ على قولين: أحدهما: بقوله تعالى: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً «٣»، قاله ابن جبير. والثاني: بالشريعة الاولى، وأقر المسلمون على ذلك حتى حرمت.

فصل: اختلف العلماء: هل لهذه الآية تأثير في تحريم الخمر أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنها


(١) الجزر: جمع جزور وهي النوق.
(٢) بل الخمر مضرة للجسم، مضرة للعقل، والقول المتقدم هو الصواب.
(٣) النحل: ٦٧. [.....]
184
تقتضي ذمها دون تحريمها، رواه السدي عن أشياخه، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد وقتادة، ومقاتل. وعلى هذا القول تكون هذه الآية منسوخة. والقول الثاني: أن لها تأثيراً في التحريم، وهو أن الله تعالى أخبر أن فيها إثماً كبيراً والإثم كله محرم بقوله: وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ «١»، هذا قول جماعة من العلماء، وحكاه الزجاج، واختاره القاضي أبو يعلى للعلة التي بيناها، واحتج لصحته بعض أهل المعاني، فقال: لما قال تعالى: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ، وقع التساوي بين الأمرين، فلما قال: وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما صار الغالب الإثم، وبقي النفع مستغرقاً في جنب الإثم، فعاد الحكم للغالب المستغرق، فغلب جانب الخطر.
فصل: فأما الميسر فالقول فيه مثل القول في الخمر، إن قلنا: إن هذه الآية دلت على التحريم، فالميسر حكمها حرام أيضاً، وإن قلنا: إنها دلت على الكراهة فأقوم الأقوال أن نقول: إن الآية التي في المائدة نصت على تحريم الميسر.
قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ، قال ابن عباس: الذي سأله عن ذلك عمرو بن الجموح.
قال ابن قتيبة: والمراد بالنفقة هاهنا: الصدقة والعطاء. قوله تعالى: قُلِ الْعَفْوَ، قرأ أبو عمرو برفع واو «العفو»، وقرأ الباقون بنصبها، قال أبو علي: «ماذا» في موضع نصب، فجوابه العفو بالنصب، كما تقول في جواب: ماذا أنفقت؟ درهماً، أي: أنفقت درهماً، هذا وجه نصب العفو. ومن رفع جعل «ذا» بمنزلة الذي، ولم يجعل «ماذا» اسماً واحداً، فاذا قال قائل: ماذا أنزل ربكم؟ فكأنه قال: ما الذي أنزل ربكم؟ فجوابه: قرآن. قال الزجاج: «العفو» في اللغة: الكثرة والفضل، يقال: قد عفا القوم: إذا كثروا. و «العفو» : يأتي بغير كلفة. وقال ابن قتيبة: العفو: الميسور. يقال: خذ ما عفاك، أي: ما أتاك سهلاً بلا إكراه ولا مشقة.
وللمفسرين في المراد بالعفو هاهنا خمسة أقوال: أحدها: أنه ما يفضل عن حاجة المرء وعياله، رواه مقسم عن ابن عباس. والثاني: ما تطيب به أنفسهم من قليل وكثير، رواه عطية عن ابن عباس.
والثالث: أنه القصد من الإسراف والإقتار، قاله الحسن، وعطاء، وسعيد بن جبير. والرابع: أنه الصدقة المفروضة، قاله مجاهد. والخامس: أنه ما لا يتبين عليهم مقداره، من قولهم: عفا الأثر إذا خفي ودرس، حكاه شيخنا عن طائفة من المفسرين «٢».
فصل: وقد تكلم علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية، فروى السدي عن أشياخه أنها نسخت بالزكاة، وأبى نسخها آخرون. وفصل الخطاب في ذلك: أنا متى قلنا: إنه فرض عليهم بهذه الآية التصدق بفاضل المال، أو قلنا: أوجبت عليهم هذه الآية صدقة قبل الزكاة، فالآية منسوخة بآية الزّكاة،
(١) الأعراف: ٣٣.
(٢) قال القرطبي رحمه الله ٣/ ٥٩: لما كان السؤال في الآية المتقدمة وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ عن قدر الإنفاق وهو في شأن عمرو بن الجموح فلما نزلت الآية قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ [البقرة: ٢١٥] قال: كم أنفق؟ فنزل قُلِ الْعَفْوَ والعفو ما سهل وتيسر وفضل، ولم يشق على القلب إخراجه، فالمعنى أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة، هذا أولى ما قيل في تأويل الآية. وهو معنى قول الحسن وقتادة وعطاء والسّدي والقرظي وغيرهم قالوا: العفو ما فضل عن العيال ونحوه عن ابن عباس.
185
ومتى قلنا: إنها محمولة على الزكاة المفروضة كما قال مجاهد، أو على الصدقة المندوب إليها، فهي محكمة.
قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ، قال الزجاج: إنما قال كذلك، وهو يخاطب جماعة، لأن الجماعة معناها: القبيل، كأنه قال: كذلك يا أيها القبيل. وجائز أن تكون الكاف للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، كأنه قال:
كذلك يا أيّها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لأن الخطاب له مشتمل على خطاب أمته. وقال ابن الأنباري: الكاف في «كذلك» إشارة إلى ما بيَّن من الإنفاق، فكأنه قال: مثل ذلك الذي بينه لكم في الإنفاق يبيّن الآيات.
ويجوز أن يكون «كذلك» غير إشارة إلى ما قبله، فيكون معناه: هكذا، قاله ابن عباس. لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في الدنيا والآخرة فتعرفون فضل ما بينهما، فتعملون للباقي منهما.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٠]
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠)
قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى، في سبب نزولها قولان:
(١٠١) أحدهما: أنه لما أنزل الله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
«١»، وإِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً «٢»، انطلق من كان عنده مال يتيم، فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، وجعل يفضل الشيء من طعامِه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد. فاشتد ذلك عليهم، فذكروه للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، وعطاء، وسعيد بن جبير، وقتادة، ومقاتل.
(١٠٢) والثاني: أن العرب كانوا يشددون في أمر اليتيم حتى لا يأكلون معه في قصعته، ولا يستخدمون له خادما، فسألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن مخالطتهم، فنزلت هذه الآية، ذكره السدي عن أشياخه، وهو قول الضحاك.
وفي السائلين للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك قولان: أحدهما: أن الذي سأله ثابت بن رفاعة الأنصاري، قاله مقاتل. والثاني: عبد الله بن رواحة، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، قال ابن قتيبة: معناه: تثمير أموالهم، والتنزه عن أكلها لمن وليها خير. وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ، أي: فهم إخوانكم، حُكمهم في ذلك حكم إخوانكم. قال ابن عباس: والمخالطة: أن يشرب من لبنك، وتشرب من لبنه، ويأكل في قصعتك، وتأكل في قصعته.
حسن. أخرجه أبو داود ٢٨٧١ والنسائي ٦/ ٢٥٦ والحاكم ٢/ ٢٧٨ والطبري ٤١٨٦ والواحدي ١٣٤ عن ابن عباس. وإسناده حسن بشواهده لأجل عطاء بن السائب، فقد اختلط. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
- وله شاهد من مرسل عبد الرحمن بن أبي ليلى: أخرجه الطبري ٤١٨٨. وله شاهد من مرسل قتادة: أخرجه الطبري ٤١٨٩. وله شاهد من مرسل الربيع بن أنس: أخرجه برقم ٤١٩١.
حسن. أخرجه الطبري ٤١٩٨ عن السّدي مرسلا وأخرجه الطبري ٤٢٠٠ عن الضحاك مرسلا أيضا. وأخرجه ٤١٩٣ عن الشعبي مرسلا. وأخرجه ٤١٩٥ عن عطاء مرسلا، فهذا خبر حسن بشواهده، وهو يشهد لما قبله.
__________
(١) الإسراء: ٣٤.
(٢) النساء: ٩.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ، يريد: المتعمد أكل مال اليتيم، من المتحرّج الذي لا يألو إلا الإصلاح. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ، قال ابن عباس: أي لأحرجكم، ولضيّق عليكم. وقال ابن الأنباري: أصل العنت: التشديد. تقول العرب: فلان يتعنت فلاناً ويعنته، أي: يشدد عليه، ويلزمه المشاقّ، قال: ثم نقلت إلى معنى الهلاك، واشتقاق الحرف «١» من قول العرب: أكمة عنوت: إذا كانت شديدة شاقة المصعد، فجعلت هذه اللفظة مستعملة في كل شدّة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢١]
وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١)
قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ في سبب نزولها قولان:
(١٠٣) أحدهما: أن رجلاً يقال له: مرثد بن أبي مرثد بعثه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إلى مكة ليخرج ناسا من المسلمين بها أسرى، فلما قدمها سمعت به امرأة يقال لها: عناق، وكانت خليلة له في الجاهلية، فلما أسلم أعرض عنها، فأتته فقالت: ويحك يا مرثد، ألا تخلو؟ فقال: إن الإسلام قد حال بيني وبينك، ولكن إن شئتِ تزوّجتك، إذا رجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، استأذنته في ذلك، فقالت: أبي يتبرّم؟! واستغاثت عليه، فضربوه ضرباً شديداً، ثم خلوا سبيله، فلما قضى حاجته بمكة رجع إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فسأله: أتحلُّ لي أن أتزوجها؟ فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس. وذكر مقاتل بن سليمان أنه أبو مرثد الغنوي.
(١٠٤) والثاني: أن عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء، وأنه غضب عليها فلطمها، ثم فزع، فأتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره خبرها فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «وما هي يا عبد الله» ؟ فقال: يا رسول الله، هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوء، وتشهد أن لا إِله إِلا الله، وأنك رسول الله، فقال: «يا عبد الله، هذه مؤمنة». فقال: والذي بعثك بالحق لأعتقنّها ولأتزوجنّها ففعل، فعابه ناس من المسلمين، وقالوا: أنكح أمة، وكانوا يرغبون في نكاح المشركات رغبة في أحسابهن، فنزلت هذه الآية. رواه السدي عن أشياخه. وقد ذكر بعض المفسرين أن قصة عناق وأبي مرثد كانت سبباً لنزول قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ
ضعيف جدا. ذكره الواحدي في «الأسباب» ١٣٧ عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس تعليقا، والكلبي كذاب، وأبو صالح روى عن ابن عباس تفسيرا موضوعا. وورد عن مقاتل بن حيان مرسلا مختصرا، أخرجه الواحدي ١٣٥ ومقاتل ذو مناكير، فهو ضعيف جدا. وهذه القصة محفوظة لكن نزل في ذلك أوائل سورة النور. وسيأتي هناك باستيفاء إن شاء الله.
أخرجه الطبري ٤٢٢٨ عن السدي مرسلا. ووصله الواحدي في «الأسباب» ١٣٦ عن السدي عن أبي مالك عن ابن عباس به. وإسناده لين، السدي هو إسماعيل بن عبد الرحمن، فيه لين، وعنه أسباط بن نصر، وهو صدوق كثير الخطأ.
__________
(١) أي الكلمة وهي «عنت».
187
، وقصة ابن رواحة كانت سبباً لنزول قوله تعالى: وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ.
فأما التفسير، فقال المفضَّل: أصل النكاح: الجماع، ثم كثر ذلك حتى قيل للعقد: نكاح. وقد حرّم الله عزّ وجلّ نكاح المشركات عقدا ووطأ. وفي «المشركات» هاهنا قولان: أحدهما: أنه يعُم الكتابيات وغيرهن، وهو قول الأكثرين «١». والثاني: أنه خاص في الوثنيات، وهو قول سعيد بن جبير، والنخعي، وقتادة. وفي المراد بالأمة قولان: أحدهما: أنها المملوكة، وهو قول الأكثرين، فيكون المعنى: ولَنكاح أمة مؤمنة خير من نكاح حرة مشركة. والثاني: أنها المرأة، وإن لم تكن مملوكة، كما يقال: هذه أمة الله، هذا قول الضحّاك، والأول أصحّ. وفي قوله تعالى: وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ قولان:
أحدهما: بجمالها وحسنها. والثاني: بحسبها ونسبها.

فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية، فقال القائلون بأن المشركات الوثنيات:


هي محكمة، وزعم بعض من نصر هذا القول أن اليهود والنصارى ليسوا بمشركين بالله، وإن جحدوا بنبوة نبينا. قال شيخنا: وهو قولٌ فاسد من وجهين: أحدهما: أن حقيقة الشرك ثابتة في حقهم حيث قالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله. والثاني: أن كفرهم بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، يوجب أن يقولوا: إن ما جاء به ليس من عند الله، وإضافة ذلك إلى غير الله شرك.
فأما القائلون بأنها عامة في جميع المشركات، فلهم في ذلك قولان: أحدهما: أن بعض حكمها
(١) قال القرطبي رحمه الله ٣/ ٦٥: قال إسحاق بن إبراهيم الحربي: ذهب قوم فجعلوا الآية التي في «البقرة» هي الناسخة، والتي في المائدة هي المنسوخة، فحرّموا نكاح كل مشركة كتابية أو غير كتابية.
قال النحاس: ومن الحجة لقائل هذا مما صح سنده ما حدّثناه محمد بن ريان قال حدثنا محمد بن رمح قال حدثنا الليث عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن نكاح الرجل النصرانية أو اليهودية قال: حرم الله المشركات على المؤمنين ولا أعرف شيئا من الإشراك أعظم من أن تقول المرأة ربها عيسى، أو عبد من عباد الله!. قال النحاس: وهذا قول خارج عن قول الجماعة الذين تقوم بهم الحجة، لأنه قال بتحليل نكاح نساء أهل الكتاب من الصحابة والتابعين جماعة، منهم عثمان وطلحة وابن عباس وجابر وحذيفة. ومن التابعين سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وطاوس وعكرمة والشعبي والضحاك، وفقهاء الأمصار عليه. وأيضا يمتنع أن تكون هذه الآية من سورة «البقرة» ناسخة للآية التي في سورة المائدة لأن «البقرة» أول ما نزل بالمدينة والمائدة من آخر ما نزل. وإنما الآخر ينسخ الأول. وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه، لأن ابن عمر رحمه الله كان رجلا متوقفا، فلما سمع الآيتين، في واحدة التحليل، وفي الأخرى التحريم ولم يبلغه النسخ توقف، ولم يؤخذ عنه ذكر النسخ وإنما تؤول عليه، وليس يؤخذ الناسخ والمنسوخ بالتأويل. وذكر ابن عطية: وقال ابن عباس في بعض ما روي عنه: إن الآية عامة في الوثنيات والمجوسيات والكتابيات، وكل من على غير الإسلام حرام. فعلى هذا تكون هي ناسخة للآية التي في «المائدة». وينظر إلى هذا قول ابن عمر.
وروي عن عمر: أنه فرّق بين طلحة بن عبيد الله وحذيفة بن اليمان وبين كتابيتين وقالا نطلّق يا أمير المؤمنين ولا تغضب، فقال لو جاز طلاقكما لجاز نكاحكما! ولكن أفرّق بينكما صغرة قمأه- قمأ: ذلّ وصغر-. قال ابن عطية: وهذا لا يستند جيدا، وأسند منه أن عمر أراد التفريق بينهما فقال له حذيفة: أتزعم أنها حرام فأخلي سبيلها يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أزعم أنها حرام. ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهن. وروي عن ابن عباس نحو هذا. وذكر ابن المنذر جواز نكاح الكتابيات عن عمر بن الخطاب، ومن ذكر من الصحابة والتابعين في قول النحاس. وقال في آخر كلامه: ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك.
188
منسوخ بقوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وبقي الحكم في غير أهل الكتاب محكماً.
والثاني: أنها ليست بمنسوخة، ولا ناسخة، بل هي عامة في جميع المشركات، وما أخرج عن عمومها من إباحة كافرة فدليل خاص، وهو قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ، فهذه خصصت عموم تلك من غير نسخ، وعلى هذا عامة الفقهاء. وقد روي معناه عن جماعة من الصحابة، منهم: عثمان، وطلحة، وحذيفة، وجابر، وابن عباس «١».
قوله تعالى: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ، أي: لا تزوجوهم بمسلمة حتى يؤمنوا والكلام في قوله تعالى: وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ، وفي قوله تعالى: وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ، مثل الكلام في أول الآية.
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ، قرأ الجمهور بخفض «المغفرة» وقرأ الحسن، والقزاز، عن أبي عمرو، برفعها.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٢]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢)
قوله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ. روى ثابت عن أنس، قال:
(١٠٥) كانت اليهود إذا حاضت المرأة منهن لم يؤاكلوها، ولم يشاربوها، ولم يجامعوها في البيوت، فسئل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، فأمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يؤاكلوهن ويشاربوهن ويكونوا معهن في البيوت، وأن يفعلوا كل شيء ما عدا النكاح.
(١٠٦) وقال ابن عباس: جاء رجل يقال له: ابن الدّحداحة من الأنصار، إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
كيف نصنع بالنساء إذا حضن؟ فنزلت هذه الآية.
صحيح. أخرجه مسلم ٣٠٢ وأبو داود ٢٥٨ و ٢١٦٥ والترمذي ٢٩٧٧ والنسائي ١/ ١٥٢ و ١٨٧ وابن ماجة ٦٤٤ والطيالسي ٢٠٥٢ والدارمي ١/ ٢٤٥ وأبو عوانة ١/ ٣١١ وابن حبان ١٣٦٢ من حديث أنس.
- وانظر «تفسير القرطبي» ١١٦٨ بتخريجنا.
أخرجه الماوردي في كتابه «الصحابة» كما في «أسباب النزول» ١٤١ للسيوطي من طريق ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن ابن عباس. وإسناده ضعيف لجهالة شيخ ابن إسحاق، فإنه لا يعرف، ولم يرو عنه سوى ابن إسحاق. وأخرج الطبري ٤٢٣٧ عن السدي أن السائل هو ثابت. وورد من مرسل مقاتل بن حيان، أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر» ١/ ٢٢٢. وذكره الواحدي ١٤٠ بقوله: قال المفسرون. فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها.
__________
(١) قال القرطبي رحمه الله ٣/ ٦٥- ٦٧. وقال بعض العلماء: وأما الآيتان فلا تعارض بينهما فإن ظاهر لفظ المشرك لا يتناول أهل الكتاب لقوله تعالى: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ ففرق بينهم في اللفظ وظاهر العطف يقتضي مغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه.
وأما نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حربا فلا يحلّ وسئل ابن عباس عن ذلك فقال: لا يحلّ، وتلا قول الله تعالى:
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ إلى قوله صاغِرُونَ [التوبة: ٢٩]. وكره مالك تزوج الحربيات، لعلة ترك الولد في دار الحرب ولتصرفها في الخمر والخنزير. واختلف العلماء في نكاح إماء أهل الكتاب فقال مالك: لا يجوز نكاح الأمة الكتابية. وقال أبو حنيفة وأصحابه يجوز نكاح إماء أهل الكتاب.
واختلفوا في نكاح نساء المجوس، فمنع مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي وإسحاق من ذلك، وقال ابن حنبل: لا يعجبني، وروي أن حذيفة بن اليمان تزوج مجوسية، وأن عمر قال له: طلّقها. وقال ابن القصار:
قال بعض أصحابنا: يجب على أحد القولين: أن من لهم كتابا أن تجوز مناكحتهم. وانظر التعليق السابق.
189
وفي المحيض قولان: أحدهما: أنه اسم للحيض، قال الزجاج: يقال: قد حاضت المرأة تحيض حيضاً ومحاضاً ومحيضاً. وقال ابن قتيبة: المحيض: الحيض. والثاني: أنه اسم لموضع الحيض، كالمقيل، فإنه موضع القيلولة، والمبيت موضع البيتوتة. وذكر القاضي أبو يعلى أن هذا ظاهر كلام أحمد. فأما أرباب القول الأول فأكدوه بأن في اللفظ ما يدل على قولهم، وهو أنه وصفه بالأذى، وذلك صفة لتفسير الحيض، لا لمكانه. وأما أرباب القول الثاني، فقالوا: لا يمتنع أن يكون المحيض صفة لموضع، ثم وصفه بما قاربه وجاوره، كالعقيقة، فإنها اسم لشعر الصبي، وسميت بها الشاة التي تذبح عند حلق رأسه مجازاً. والراوية: اسم للجمل، وسميت المزادة راوية مجازاً. والأذى يحصل للواطئ بالنجاسة، ونتن الريح. وقيل: يورث جماع الحائض علة بالغة في الألم. فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ، المراد به اعتزال الوطء في الفرج، لأن المحيض نفس الدم أو نفس الفرج، وَلا تَقْرَبُوهُنَّ، أي: لا تقربوا جماعهن، وهو تأكيد لقوله: فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ. قوله تعالى: حَتَّى يَطْهُرْنَ، قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحفص، عن عاصم (حتى يطهرن) خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف، وأبو بكر، عن عاصم (يطَّهّرن) بتشديد الطاء والهاء وفتحهما. قال ابن قتيبة:
يطهرن: ينقطع عنهن الدم، يقال: طهُرت المرأة وطهَرت: إذا رأت الطهر، وإن لم تغتسل بالماء. ومن قرأ: «يطَّهَّرن» بالتشديد أراد: يغتسلن بالماء. والأصل يتطهرن، فأدغمت التاء في الطاء. قال ابن عباس ومجاهد: حتى يطهرن من الدم، فاذا تطهرن اغتسلن بالماء.
قوله تعالى: فَأْتُوهُنَّ إباحة من حظر، لا على الوجوب. قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ فيه أربعة أقوال: أحدها: أن معناه: من قبل الطهر، لا من قبل الحيض، قاله ابن عباس، وأبو رزين، وقتادة، والسدي في آخرين. والثاني: أن معناه: فأتوهن من حيث أمركم الله أن لا تقربوهن فيه، وهو محل الحيض، قاله مجاهد. وقال من نصر هذا القول: إنما قال: أَمَرَكُمُ اللَّهُ، والمعنى: نهاكم، لأن النهي أمر بترك المنهي عنه، و «من» بمعنى «في»، كقوله تعالى: إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ «١». والثالث: فأتوهنّ من قبل التزويج والحلال، لا من قبل الفجور، قاله ابن الحنفية.
والرابع: أن معناه: فأتوهن من الجهات التي يحل أن تقرب فيها المرأة، ولا تقربوهن من حيث لا ينبغي مثل أن كن صائمات أو معتكفات أو محرمات. وهذا قول الزجاج وابن كيسان. وفي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ، قولان: أحدهما: التوابين من الذنوب، قاله عطاء، ومجاهد في آخرين. والثاني:
التوابين من إتيان الحيض، ذكره بعض المفسرين. وفي قوله: وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، ثلاثة أقوال:
أحدها: المتطهرين من الذنوب، قاله مجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو العالية. والثاني: المتطهرين بالماء، قاله عطاء. والثالث: المتطهرين من إتيان أدبار النساء، روي عن مجاهد.
(١) الجمعة: ٩.
190
فصل: أقل الحيض يوم وليلة في إحدى الروايتين عن أحمد. والثانية: يوم «١». وقال أبو حنيفة:
أقله ثلاثة أيام. وقال مالك وداود: ليس لأقله حد. وفي أكثره روايتان عن أحمد: إحداهما: خمسة عشر يوماً، وهو قول مالك والشافعي. والثانية: سبعة عشر يوماً، وقال أبو حنيفة: أكثره عشرة أيام.
والحيض مانع من عشرة أشياء: فعل الصلاة، ووجوبها، وفعل الصّيام دون وجوبه، والجلوس في المسجد، والاعتكاف، والطواف، وقراءة القرآن، وحمل المصحف، والاستمتاع فى الفرج، وحصول نيّة الطّلاق.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٣]
نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣)
قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ، في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(١٠٧) أحدها: أن اليهود أنكرت جواز إتيان المرأة إلا من بين يديها، وعابت من يأتيها على غير تلك الصفة، فنزلت هذه الآية. روي عن جابر، والحسن، وقتادة.
(١٠٨) والثاني: أن حياً من قريش كانوا يتزوجون النساء بمكة، ويتلذذون بهن مقبلات ومدبرات، فلما قدموا المدينة، تزوجوا من الأنصار، فذهبوا ليفعلوا ذلك، فأنكرنه، وانتهى الحديث إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية. رواه مجاهد عن ابن عباس.
(١٠٩) والثالث: أن عمر بن الخطاب جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: هلكت، حوّلت رحلي الليلة،
صحيح. أخرجه البخاري ٤٥٢٨ ومسلم ١٤٣٥ والترمذي ٢٩٧٨ والنسائي في عشرة النساء ٩٣ وابن ماجة ١٩٢٥ والواحدي ١٤١ والحميدي ١٢٦٣ وأبو يعلى ٢٠٢٤ والطحاوي في «المعاني» ٣/ ٤٠ من حديث جابر بألفاظ متقاربة. وانظر «تفسير القرطبي» ١١٨١ بتخريجنا.
حسن. أخرجه أبو داود ٢١٦٤ والحاكم ٢/ ٢٧٩ من حديث ابن عباس وقال الذهبي: على شرط مسلم.
جيد. أخرجه أحمد ١/ ٢٩٧ والترمذي ٢٩٨٠ والنسائي في «التفسير» ٦٠ وأبو يعلى ٢٧٣٦ وابن حبان ٤٢٠٢ والبغوي في «تفسيره» ١/ ١٩٨ والطبراني ١٢٣١٧ والطبري ٢/ ٢٣٥ وإسناده جيد رجاله ثقات كلهم. وقال الترمذي: حسن غريب وصححه الحافظ في «الفتح» ٨/ ١٩١.
__________
(١) قال القرطبي رحمه الله ٣/ ٨٠- ٨٣: واختلف العلماء في مقدار الحيض فقال فقهاء المدينة: إن الحيض لا يكون أكثر من خمسة عشر يوما، وجائز أن يكون خمسة عشر يوما فما دون، وما زاد على خمسة عشر يوما لا يكون حيضا وإنما هو استحاضة، وهذا مذهب مالك وأصحابه. وقد روي عن مالك أنه لا وقت لقليل الحيض ولا لكثيرة إلّا ما يوجد في النساء، فكأنه ترك قوله الأول ورجع إلى عادة النساء. قال محمد بن مسلمة: أقل الطهر خمسة عشر يوما، وهو اختيار أكثر البغداديين من المالكيين، وهو قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابهما والثوري، وهو الصحيح في الباب. وقال الشافعي: أقلّ الحيض يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوما وقد روي عنه مثل قول مالك: إن ذلك مردود إلى عرف النساء. وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة. قال ابن عبد البر: ما نقص عند هؤلاء عن ثلاثة أيام فهو استحاضة، لا يمنع من الصّلاة إلّا عند أول ظهوره لأنه لا يعلم مبلغ مدته. ثم على المرأة قضاء صلاة تلك الأوقات. وكذلك ما زاد على عشرة أيام عند الكوفيين. وعند الحجازيين ما زاد على خمسة عشر يوما فهو استحاضة، وما كان أقل من يوم وليلة عند الشافعي فهو استحاضة. وممن قال: أقل الحيض يوم وليلة وأكثره خمسة عشر يوما عطاء بن أبي رباح وأبو ثور وأحمد بن حنبل.
191
فنزلت هذه الآية. رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والحرث: المزدرع، وكنى به هاهنا عن الجماع، فسماهن حرثاً، لأنهن مزدرع الأولاد، كالأرض للزرع، فان قيل: النساء جمع، فلم لم يقل: حروث؟ فعنه ثلاثة أجوبة، ذكرها ابن القاسم الأنباري النحوي: أحدها: أن يكون الحرث مصدراً في موضع الجمع، فلزمه التوحيد، كما تقول العرب:
إخوتك صوم، وأولادك فطر، يريدون: صائمين ومفطرين، فيؤدي المصدر بتوحيده عن اللفظ المجموع. والثاني: أن يكون أراد: حروث لكم، فاكتفى بالواحد من الجمع، كما قال الشاعر:
كلوا في نصف بطنكُم تعيشوا
أي: في أنصاف بطونكم. والثالث: أنه إنما وحَّد الحرث، لأن النساء شبهن به، ولسن من جنسه، والمعنى: نساؤكم مثل حروث لكم.
قوله تعالى: أَنَّى شِئْتُمْ، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بمعنى: كيف شئتم، ثم فيه قولان:
أحدهما: أن المعنى: كيف شئتم، مقبلة أو مدبرة، وعلى كل حال، إذا كان الإتيان في الفرج. وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وعطية، والسدي، وابن قتيبة في آخرين. والثاني: أنها نزلت في العزل، قاله سعيد بن المسيب، فيكون المعنى: إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا. والقول الثاني: أنه بمعنى:
إذا شئتم، ومتى شئتم، وهو قول ابن الحنفية والضحاك، وروي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أنه بمعنى: حيث شئتم، وهذا محكي عن ابن عمر ومالك بن أنس، وهو فاسِد من وجوه: أحدها: أن سالم بن عبد الله لما بلغه أن نافعاً تحدث بذلك عن ابن عمر، قال: كذب العبد، إنما قال عبد الله:
يؤتون في فروجهن من أدبارهن. وأما أصحاب مالك، فانهم ينكرون صحته عن مالك «١».
(١) قال ابن كثير رحمه الله ١/ ٢٦١- ٢٦٢: روى أبو داود عن مجاهد عن ابن عباس قال: إن ابن عمر- والله يغفر له- أو هم وإنما كان هذا الحي من الأنصار وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود وهم أهل كتاب وكانوا يرون لهم فضلا عليهم في العلم فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم وكان من أمر أهل الكتاب لا يأتون النساء إلّا على حرف وذلك أستر ما تكون المرأة... فذكر القصة بتمام سياقها، وقول ابن عباس إن ابن عمر- والله يغفر له- أوهم كأنه يشير إلى ما رواه البخاري عن نافع قال كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه فأخذت عنه يوما فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان قال. أتدري فيم أنزلت؟ قلت لا قال: أنزلت في كذا وكذا ثم مضى. وعن عبد الصمد قال حدثني أبي حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ قال أن يأتيها في؟ هكذا رواه البخاري. وقد تفرّد به من هذا الوجه. وقال ابن جرير عن ابن عون عن نافع: قال قرأت ذات يوم نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فقال ابن عمر أتدري فيم نزلت؟ قلت لا قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن. وروي من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر ولا يصح. وروى النسائي أن رجلا أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك وجدا شديدا فأنزل الله [الآية]، وهذا الحديث محمول على أنه يأتيها في قبلها من دبرها. لما رواه النسائي عن أبي النضر قال لنافع مولى ابن عمر إنه قد أكثر عليك القول أنك تقول عن ابن عمر أنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن قال: كذبوا عليّ ولكن سأحدثك كيف كان الأمر. إن ابن عمر عرض المصحف يوما وأنا عنده حتى بلغ نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فقال يا نافع هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قلت: لا قال: إنا كنا معشر قريش نجبي النساء فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن مثل ما كنا نريد فآذاهن فكرهن ذلك وأعظمنه وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود.
إنما يؤتين على جنوبهن فأنزل الله نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ. وهذا إسناد صحيح وقد رواه ابن مردويه عن الطبراني عن كعب بن علقمة فذكره. وقد روينا عن ابن عمر خلاف ذلك صريحا وأنه لا يباح ولا يحل وإن كان قد نسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم وعزاه بعضهم إلى الإمام مالك في كتاب السر وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن الإمام مالك رحمه الله وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه فعل جابر قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «استحيوا إن الله لا يستحي من الحق لا يحل أن تأتوا النساء في حشوشهن» وفي رواية أحمد (أعجازهن) والنسائي وابن ماجة من طرق عن خزيمة بن ثابت. فائدة: قال الطحاوي في «مجمع الآثار» ٣/ ٤٦ فلما تواترت هذه الآثار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بالنهي عن وطأ المرأة في الدبر ثم جاء عن أصحابه وتابعيهم ما يوافق ذلك وجب القول به، وترك ما يخالفه اه. وفائدة أخرى: الآن ظهر الأمر جليا وذلك بمرض الإيدز- أي فقد المناعة- فقد أجمع الأطباء على أن الإتيان في الدبر سواء للرجل أو المرأة هو أكثر العوامل التي تسبب مرض الإيدز وهذا مما يؤيد ما نصّ عليه شرعنا الحنيف، فهو حرام قطعا ويقينا لا مجال للخوض فيه ولا للمناقشة وقد تقدم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أحاديث بألفاظ مختلفة والمعنى واحد وهي تبلغ حد الشهرة، ومشى إلى ذلك الصحابة والتابعون والفقهاء وأهل العلم سوى من شذ والله أعلم. وانظر مزيد الكلام عليه في «تفسير ابن كثير» ١/ ٢٦٨- ٢٧٢ عند هذه الآية بتعليقي. وانظر «تفسير الشوكاني» ١/ ٢٦٢- ٢٦٣ بتعليقي، والله الموفق للصواب.
192
(١١٠) والثاني: أن أبا هريرة روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال: «ملعون من أتى النساء في أدبارهن»، فدل على أن الآية لا يراد بها هذا. والثالث: أن الآية نبهت على أنه محل الولد بقوله: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ، وموضع الزرع: هو مكان الولد. قال ابن الأنباري: لما نصَّ الله على ذكر الحرث، والحرث به يكون النبات، والولد مشبَّه بالنبات، لم يجز أن يقع الوطء في محل لا يكون منه ولد. والرابع: أن تحريم إتيان الحائض كان لعلة الأذى، والأذى ملازم لهذا المحل لا يفارقه.
قوله تعالى: وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ فيه أربعة أقوال: أحدها: أن معناه: وقدموا لأنفسكم من العمل الصالح، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: وقدموا التسمية عند الجماع، رواه عطاء عن ابن عباس. والثالث: وقدموا لأنفسكم في طلب الولد، قاله مقاتل. والرابع: وقدّموا طاعة الله واتباع أمره، قاله الزجّاج.
حسن. أخرجه أبو داود ٢١٦٢ وأحمد ٢/ ٤٤٤ والنسائي في «الكبرى» ٩٠١٤ وفيه الحارث بن مخلد وهو مجهول كما في «التقريب» لكن للحديث شواهد يحسن بها.
- وفي الباب «إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن». أخرجه الشافعي ٢/ ٢٩ والنسائي في «الكبرى» ٨٩٨٢ و ٨٩٨٤ و ٨٩٨٥ و ٨٩٨٩ والدارمي ١/ ٢٦١ و ٢/ ١٤٥ وأحمد ٥/ ٢١٣- ٢١٥ وصححه ابن حبان ٤١٩٨ و ٤٢٠٠ والطحاوي ٣/ ٤٣ وابن ماجة ١٩٢٤ وابن الجارود ٧٢٨ والطبراني ٣٧٤١ و ٣٧٤٢ و ٣٧٤٣ والبيهقي ٧/ ١٩٧ والخطابي في «غريب الحديث» ١/ ٣٧٦ والبغوي في «التفسير» ١/ ١٩٩ من طرق كلهم من حديث خزيمة بن ثابت، وهو حديث قوي الإسناد لمجيئه من عدة طرق وله شواهد. وفي الباب عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا ينظر الله إلى رجل أتى امرأة في دبرها». إسناده حسن، رجاله رجال الصحيح، لكن في أبي خالد الأحمر- وهو سليمان بن حيان- كلام ينزله عن رتبة الصحيح. وأخرجه النسائي في «الكبرى» كما في التحفة ٥/ ٢١٠ والترمذي ١١٦٥ وقال الترمذي حسن غريب. وأخرجه ابن أبي شيبة ٤/ ٢٥١- ٢٥٢ وأبو يعلى ٢٣٧٨ وابن حبان ٤٢٠٤ و ٤٤١٨. وفي الباب أحاديث كثيرة تبلغ حد الشهرة.
193

[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٤]

وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤)
قوله تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ، في سبب نزولها أربعة أقوال:
(١١١) أحدها: أنها نزلت في عبد الله بن رواحة، كان بينه وبين ختنه «١» شيء، فحلف عبد الله أن لا يدخل عليه ولا يكلمه، وجعل يقول: قد حلفت بالله، ولا يحل لي، إلا أن تبرّ يميني، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. والثاني: أن الرجل كان يحلف بالله أن لا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس، فنزلت هذه الآية، قاله الربيع بن أنس. والثالث: أنها نزلت في أبي بكر حين حلف: لا ينفق على مسطح، قاله ابن جريج «٢». والرابع: نزلت في أبي بكر، حلف أن لا يصل ابنه عبد الرحمن حتى يسلم، قاله المقاتلان: ابن حيان، وابن سليمان «٣».
قال الفراء: والمعنى: ولا تجعلوا الله مُعترضاً لأيمانكم. وقال أبو عبيد: نصباً لأيمانكم، كأنه يعني: أنكم تعترضونه في كل شيء فتحلفون به.
وفي معنى الآية ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناها: لا تحلفوا بالله أن لا تبرّوا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس، هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وابن جبير، والضحاك، وقتادة، والسدي، ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج في آخرين. والثاني: أن معناها: لا تحلفوا بالله كاذبين لتتقوا المخلوقين وتبرّوهم، وتصلحوا بينهم بالكذب، روى هذا المعنى عطية عن ابن عباس. والثالث: أن معناها: لا تكثروا الحلف بالله وإن كنتم بارّين مصلحين، فان كثرة الحلف بالله ضرب من الجرأة عليه، هذا قول ابن زيد.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٥]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥)
قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ، قال الزجاج: اللغو في كلام العرب: ما أطُّرح ولم يعقد عليه أمر، ويسمى ما لا يعتد به، لغواً. وقال ابن فارس: اشتقاق ذلك من قولهم لما لا يعدّ من أولاد الإبل في الدّية أو غيرها لغو، يقال منه: لغا يلغو، وتقول: لغي بالأمر يلغى: إذا لهِج به. وقيل:
إن اشتقاق اللغة منه: أي يلهج صاحبها بها. وفي المراد باللغو هاهنا خمسة أقوال: أحدها: أن يحلف على الشيء ويظنّ أنه كما حلف، ثم يتبين له أنه بخلافه، وإلى هذا المعنى ذهب أبو هريرة، وابن عباس، والحسن، وعطاء، والشعبي، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسدي عن أشياخه، ومالك، ومقاتل. والثاني: أنه: لا والله، وبلى والله، من غير قصد لعقد اليمين، وهو قول عائشة، وطاوس، وعروة، والنخعي، والشافعي. واستدل أرباب هذا القول بقوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، وكسب القلب: عقده وقصده، وهذان القولان منقولان عن الإمام أحمد، روى عنه ابنه
لا أصل له. ذكره الواحدي ١٤٨ عن الكلبي، وهو معضل والكلبي متهم.
__________
(١) ورد في الأثر المتقدم أنه النعمان بن بشير، لكن الأثر باطل كما تقدم.
(٢) ضعيف جدا. أخرجه الطبري ٤٣٧١ وهذا معضل، وما يرسله ابن جريج واه بمرة.
(٣) هذا واه ليس بشيء، مقاتل بن سليمان كذاب، وابن حيان ذو مناكير.
عبد الله أنه قال: اللغو عندي أن يحلف على اليمين، يرى أنه كذلك، ولا كفارة. والرجل يحلف ولا يعقد قلبه على شيء، فلا كفارة. والثالث: أنه يمين الرجل وهو غضبان، رواه طاوس عن ابن عباس.
والرابع: أنه حلف الرجل على معصية، فليحنث، وليكفِّر، ولا إثم عليه، قاله سعيد بن جبير.
والخامس: أن يحلف الرجل على شيء، ثم ينساه، قاله النخعي. وقول عائشة أصح الجميع. قال حنبل: سئل أحمد عن اللغو فقال: الرجل يحلف فيقول: لا والله، وبلى والله، لا يريد عقد اليمين، فاذا عقد على اليمين لزمته الكفارة. قوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ، قال مجاهد: أي:
ما عقدت عليه قلوبكم. «والحليم» : ذو الصفح الذي لا يستفزه غضب، فيعجل، ولا يستخفه جهل جاهل مع قدرته على العقوبة. قال أبو سليمان الخطابي: ولا يستحق اسم الحليم من سامح مع العجز عن المجازاة، إنما الحليم الصفوح مع القدرة، المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة. وقد أنعم بعض الشعراء أبياتاً في هذا المعنى، فقال:
لا يدرك المجدَ أقوامٌ وإِن كرموا حتى يذلّوا وإِن عزّوا لأقوام
ويُشْتَموا فترى الألوانَ مسفرةً لا صفح ذلٍ ولكن صفحَ أحلام
قال: ويقال: حَلم الرجل يحلمُ حُلُما بضم اللام في الماضي والمستقبل. وحلَم في النوم، بفتح اللام، يحلم حُلماً، اللام في المستقبل والحاء في المصدر مضمومتان.

فصل: الأيمان على ضربين، ماضٍ ومستقبل، فالماضي على ضربين: يمين محرمة، وهي:


اليمين الكاذبة، وهي أن يقول: والله ما فعلت، وقد فعل. أو: قد فعلت، وما فعل. ويمين مباحة، وهي أن يكون صادقاً في قوله: ما فعلت، أو: لقد فعلت. والمستقبلة على خمسة أقسام: أحدها: يمين عقدها طاعة والمقام عليها طاعة، وحلها معصية، مثل أن يحلف: لأصلينَّ الخمس، ولأصومنَّ رمضان، أو: لا شربت الخمر. والثاني: عقدها معصية، والمقام عليها معصية، وحلها طاعة، وهي عكس الأولى. والثالث: يمين عقدها طاعة، والمقام عليها طاعة، وحلّها مكرهة، مثل أن يحلف:
ليَفعلنّ النوافل من العبادات. والرابع: يمين عقدها مكروه، والمقام عليها مكروه، وحلها طاعة، وهي عكس التي قبلها. والخامس: يمين عقدها مباح، والمقام عليها مباح، وحلها مباح مثل أن يحلف: لا دخلت بلداً فيه من يظلم الناس، ولا سلكت طريقا مخوفا، ونحو ذلك «١».
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٦]
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦)
قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ.
(١١٢) قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئاً، فأبت أن تعطيه
حسن. أخرجه سعيد بن منصور ١٨٨٤ والطبراني في «الكبير» ١١/ ١٥٨ والبيهقي في ٧/ ٣٨١ والواحدي في «أسباب النزول» ١٤٩ عن ابن عباس وإسناده حسن، ورجاله ثقات.
__________
(١) قوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ مثل قوله تعالى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [المائدة: ٨٩] وهناك يأتي الكلام فيه مستوفى، إن شاء الله تعالى. [.....]
195
حلف أن لا يقربها السنة، والثلاث، فيدعها لا أيّماً ولا ذات بعل، فلما كان الإسلام جعل الله تعالى ذلك للمسلمين أربعة أشهر، وأنزل هذه الآية. وقال سعيد بن المسيب: كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية، وكان الرجل لا يريد المرأة، ولا يحب أن يتزوجها غيره، فيحلف أن لا يقربها أبداً، فجعل الله تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر، وأنزل هذه الآية. قال ابن قتيبة: يؤلون، أي: يحلفون، يقال: آليت من امرأتي، أولي إيلاء: إذا حلف لا يجامعها. والاسم:
الأليَّة. وقال الزجاج: يقال من الإيلاء: آليت أولي إيلاء وأليَّة وأُلْوةً وأَلْوَةً وإِلْوَةً، وهي بالكسر أقل اللغات، قال كثير:
قليل الألايا حافظٌ ليمينه وإِن بدرت منه الأليَّة برَّت
وحكي ابن الأنباري عن بعض اللغويين أنه قال: «من» بمعنى: «في» أو: «على»، والتقدير: على وطء نسائهم، فحذف الوطء، وأقام النساء مقامه، كقوله تعالى: ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ «١»، أي: على ألسنة رسلك. وقيل: في الكلام حذف، تقديره: يؤلون، يعتزلون من نسائهم. والتربص: الانتظار. ولا يكون مؤلياً إلا إذا حلف بالله لا يصيب زوجته أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف على أربعة أشهر فما دون، لم يكن مؤلياً. وهذا قول مالك، وأحمد، والشافعي «٢». وفاؤوا: رجعوا، ومعناه رجعوا إلى
(١) آل عمران: ١٩٤.
(٢) قال القرطبي رحمه الله ٣/ ١٠٠: واختلف العلماء فيما يقع فيه الإيلاء من اليمين، فقال قوم: لا يقع الإيلاء إلّا باليمين بالله تعالى وحده. لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» وبه قال الشافعي في الجديد.
وقال ابن عباس: كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء وبه قال النخعي ومالك والشعبي وأهل الحجاز وسفيان الثوري وأهل العراق والشافعي في القول الآخر. قال ابن عبد البر: وكل يمين لا يقدر صاحبها على جماع امرأته من أجلها إلّا بأن يحنث بها فهو بها مول، إذا كانت يمينه على أكثر من أربعة أشهر. فإن قال: أقسم أو عزم ولم يذكر الله فقيل: لا يدخل عليه الإيلاء، إلّا أن يكون أراد ب «الله» ونواه. واختلف العلماء في الإيلاء المذكور في القرآن، فقال ابن عباس: لا يكون موليا حتى يحلف ألا يمسها أبدا. وقالت طائفة: إذا حلف ألا يقرب امرأته يوما أو أقل أو أكثر ثم لم يطأ أربعة أشهر بانت منه بالإيلاء قال ابن المنذر: وأنكر هذا القول كثير من أهل العلم. وقال الجمهور: الإيلاء هو أن يحلف ألا يطأ أكثر من أربعة أشهر، فإن حلف على أربعة فما دونها لا يكون موليا وكانت عندهم يمينا محضا. لو وطئ في هذه المدة لم يكن عليه شيء كسائر الأيمان، هذا قول مالك والشافعي وأحمد وأبي ثور. وقال مالك والشافعي: جعل الله للمولي أربعة أشهر، فهي بكمالها لا اعتراض لزوجته عليه فيها، كما أن الدين المؤجّل لا يستحق صاحبه المطالبة به إلّا بعد تمام الأجل.
واختلفوا فيمن حلف ألا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر فانقضت الأربعة أشهر فلم تطالبه امرأته ولا رفعته إلى السلطان ليوقفه، لم يلزمه شيء عند مالك وأصحابه وأكثر أهل المدينة. ومن علمائنا من يقول: يلزمه بانقضاء الأربعة أشهر طلقة رجعية. ومن غيرهم من يقول: طلقة بائنة والصحيح ما ذهب إليه مالك وأصحابه، وذلك أن المولي لا يلزمه طلاق حتى يوقفه السلطان بمطالبة زوجته له ليفيء ويكفر عن يمينه أو يطلق ولا يتركه حتى يفيء أو يطلق. وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور واختاره ابن المنذر. وأجل المولي من يوم الحلف لا من يوم تخاصمه امرأته وترفعه إلى الحاكم. وأوجب مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم وجمهور العلماء الكفارة على المولي إذا فاء بجماع امرأته وقال الحسن: لا كفارة عليه، وبه قال النخعي. قلت: وقد يستدل لهذا القول من السنة بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإنّ تركها كفارتها».
196
الجماع، قاله عليّ، وابن عباس، وابن جبير، ومسروق، والشعبي، وإذا كان للمؤلي عذر لا يقدر معه على الجماع، فإنه يقول: متى قدرت جامعتها، فيكون ذلك من قوله فيئة فمتى قدر فلم يفعل، أمر بالطلاق، فان لم يطلق، طلق الحاكم عليه.
قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، قال عليّ، وابن عباس: غفور لإثم اليمين.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٧]
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧)
قوله تعالى: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ، أي: حققوه «١». وفي عزم الطلاق قولان:
أحدهما: أنه إذا مضت الأربعة أشهر استحق عليه أن يفيء، أو يطلق، وهو مروي عن عمر، وعثمان، وعليّ، وابن عمر، وسهل بن سعد، وعائشة، وطاوس، ومجاهد، والحكم، وأبي صالح.
وحكاه أبو صالح عن اثني عشر رجلاً من الصحابة، وهو قول مالك، وأحمد، والشافعي. والثاني: أنه لا يفيء حتى يمضي أربعة أشهر، فتطلق بذلك من غير أن يتكلم بطلاق.
واختلف أرباب هذا القول فيما سيلحقها من الطلاق على قولين: أحدهما: طلقة بائنة. روي عن عثمان، وعليّ، وابن عمر، وزيد بن ثابت، وقبيصة بن ذؤيب. والثاني: طلقة رجعية، روي عن سعيد بن المسيب، وأبي بكر بن عبد الرحمن، وابن شبرمة. قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ فيه قولان: أحدهما: سميع لطلاقه، عليم بنيته. والثاني: سميع ليمينه، عليم بها.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٨]
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨)
قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، سبب نزولها: أن المرأة كانت إذا طلقت وهي راغبة في زوجها، قالت: أنا حبلى، وليست حبلى، لكي يراجعها، وإن كانت حبلى وهي كارهة، قالت: لست بحبلى، لكي لا يقدر على مراجعتها. فلما جاء الإسلام ثبتوا على هذا، فنزل قوله تعالى:
(١) قال القرطبي رحمه الله ٣/ ١٠٧: في قوله تعالى وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ دليل على أنها لا تطلق بمضي أربعة أشهر كما قال مالك، ما لم يقع إنشاء تطليق بعد المدة. وأيضا فإنه قال: «سميع» وسميع يقتضي مسموعا بعد المضي. وقال أبو حنيفة: «سميع» لإيلائه «عليم» بعزمه الذي دل عليه مضي أربعة أشهر قال القاضي ابن العربي: وتحقيق الأمر أن تقدير الآية عندنا: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ بعد انقضائها فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. وتقديرها عندهم لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فيها فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ بترك الفيئة فيها، يريد مدة التربص فيها فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. قال ابن عربي: وهذا احتمال متساو ولأجل تساويه توقفت الصحابة فيه.
قلت: وإذا تساوى الاحتمالين كان القول قياسا على المعتدة بالشهور والأقراء إذ كل أجل ضربه الله تعالى فبانقضائه انقطعت العصمة وأبينت من غير خلاف ولم يكن لزوجها سبيل عليها إلّا بإذنها، فكذلك الإيلاء، حتى لو نسي الفيء وانقضت المدة لوقع الطلاق والله أعلم.
197
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ «١»، ثم نزلت: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
فأما التفسير فالطلاق: التخلية. قال ابن الأنباري: هي من قول العرب: أطلقت الناقة، فطلقت:
إذا كانت مشدودة، فأزلت الشد عنها، وخليتها، فشبه ما يقع للمرأة بذلك، لأنها كانت متصلة الأسباب بالرجل، وكانت الأسباب كالشد لها فلما طلقها قطع الأسباب. ويقال: طلقت المرأة وطُلّقت. وقال غيره: الطلاق: من أطلقت الشيء من يدي، إلا أنهم لكثرة استعمالهم اللفظتين فرقوا بينهما، ليكون التطليق مقصوراً في الزوجات. وأما القروء: فيراد بها: الأطهار، ويراد بها الحيض. يقال: أقرأت المرأة إذا حاضت، وأقرأت: إذا طهرت.
(١١٣) قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في المستحاضة: «تقعد أيام أقرائها»، يريد: أيام حيضها.
وقال الأعشى:
وفي كل عام أنت جاشم غزوة تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا «٢»
مُورِّثةٍ مالاً، وفي الحي رفعةً لما ضاع فيها من قروء نسائكا
أراد بالقروء: الأطهار، لأنه لما خرج عن نسائه أضاع أطهارهن. واختلف أهل اللغة في أصل القروء على قولين: أحدهما: أن أصله الوقت، يقال: رجع فلان لقرئه، أي: لوقته الذي كان يرجع
ضعيف. أخرجه الدارقطني ١/ ٢١٢ عن حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، قالت: يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصّلاة؟ فقال: «دعي الصّلاة أيام أقرائك، ثم اغتسلي وصلّي وإن قطر الدم على الحصير». وقال غيره عن وكيع «وتوضئي لكل صلاة». وهو معلول. قال الدارقطني: قال يحيى بن سعيد: الثوري أعلم الناس بهذا، زعم أن حبيب بن أبي ثابت لم يسمع من عروة بن الزبير شيئا، ونقل الآبادي في «التعليق المغني» عن البيهقي في «المعرفة» قوله:
حديث حبيب بن أبي ثابت ضعفه يحيى القطان وعلي المديني وابن معين، وكذا الثوري ا. هـ ملخصا. ولو صح هذا اللفظ لكان فيصلا في هذه المسألة إلّا أن عدم ثبوته جعل الناس مختلفين في شأن «القرء» هل المراد الطهر أو الحيض والله تعالى أعلم، وقد صح هذا الخبر موقوفا كما رجح غير واحد وهو الصواب، والمرفوع بهذا اللفظ ضعيف.
- وأصل الخبر في «الصحيح» دون لفظ «أقرائك». أخرجه البخاري ٢٢٨ و ٣٠٦ و ٣٢٠ و ٣٣١ ومسلم ٣٣٣ وأبو داود ٢٨٢ والترمذي ١٢٥ والنسائي ١/ ٨١ و ٨٥ و ١٨٦ ومالك ١/ ٦١ والشافعي ١/ ٣٩- ٤٠ وعبد الرزاق ١١٦٥ وابن أبي شيبة ١/ ١٢٥ والدارمي ١/ ١٩٩ وابن حبان ١٣٥٠ والطحاوي في «المعاني» ١/ ١٠٢ والبيهقي ١/ ٢٠٦ و ٢٠٧ وأبو عوانة ١/ ٣١٩ وابن الجارود ١١٢ والبيهقي ١/ ٣٢٣ و ٣٢٤ و ٣٢٥ و ٣٢٧ و ٣٢٩ من طرق عن هشام عن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصّلاة؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصّلاة، وإذا أدبرت، فاغسلي عنك الدم ثم صلي. قال: وقال أبي: ثم توضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت. وانظر «تلخيص الحبير» ١/ ٧١.
__________
(١) الطلاق: ١.
(٢) في اللسان: جشم الأمر تكلّفه على مشقة. والعزم: الجدّ. والعزاء: الصبر.
198
فيه، ورجع لقارئه أيضاً. قال الهذلي:
كرهت العقر عقر بني شليل إذا هبت لقارئها الرياح
فالحيض يأتي لوقت، والطهر يأتي لوقت، هذا قول ابن قتيبة. والثاني: أن أصله الجمع.
وقولهم: قرأت القرآن، أي: لفظت به مجموعاً. والقرء: اجتماع الدم في البدن، وذلك إنما يكون في الظّهر، وقد يجوز أن يكون اجتماعه في الرحم، وكلاهما حسن، هذا قول الزجاج.
واختلف الفقهاء في الأقراء على قولين «١» : أحدهما: أنها الحيض، روي عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وأبي موسى، وعبادة بن الصامت، وأبي الدرداء، وعكرمة، والضحاك، والسدي، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والحسن بن صالح، وأبي حنيفة وأصحابه وأحمد بن حنبل رضي الله عنه، فإنه قال: قد كنت أقول: إن القروء: الأطهار، وأنا اليوم أذهب إلى أنها الحيض. والثاني: أنها الأطهار، روي عن زيد بن ثابت، وابن عمر، وعائشة، والزهري، وأبان بن عثمان، ومالك بن أنس، والشافعي، وأومأ إليه أحمد.
ولفظ قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ، لفظ الخبر، ومعناه: الأمر، كقوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ «٢»، وقد يأتي لفظ الأمر في معنى الخبر كقوله تعالى: فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا «٣»، والمراد بالمطلقات في هذه الآية، البالغات المدخول بهن غير الحوامل. قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحمل، قاله عمر، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة، ومقاتل، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أنه الحيض، قاله عكرمة، وعطية، والنخعي، والزهري. والثالث: الحمل والحيض، قاله ابن عمر، وابن زيد. وقوله تعالى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، خرِّج مخرج الوعيد لهن والتوكيد، قال الزجاج: وهو كما تقول للرجل: إن كنت مؤمناً فلا تظلم. وفي سبب وعيدهم بذلك قولان: أحدهما: أنه لأجل ما يستحقه الزوج من الرجعة، قاله ابن عباس. والثاني: لأجل إلحاق الولد بغير أبيه، قاله قتادة. وقيل: كانت المرأة إذا
(١) قال القرطبي رحمه الله ٣/ ١٠٨: اختلف العلماء في الأقراء. فقال أهل الكوفة: هي الحيض وهو قول عمر وعلي وابن مسعود وأبي موسى ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي. وذلك لاجتماع الدم في الرحم.
وقال أهل الحجاز: هي الأطهار، وهو قول عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت والزهري وأبان بن عثمان والشافعي وجعله اسما للطهر لاجتماعه في البدن. وقال قوم: هو مأخوذ من قرء الماء في الحوض، وهو جمعه، ومنه القرآن لاجتماع المعاني ويقال لاجتماع حروفه قال ابن عبد البر: قول من قال: إن القرء مأخوذ من قولهم:
قريت الماء في الحوض ليس بشيء، لأن القرء مهموز وهذا غير مهموز. وقيل: القرء، الخروج وعلى هذا قال الشافعي القرء الانتقال من الطهر إلى الحيض ولا يرى الخروج من الحيض إلى الطهر قرء. وكان يلزم بحكم الاشتقاق أن يكون قرء، ويكون معنى قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ أي ثلاثة أدوار أو ثلاثة انتقالات والمطلقة متصفة بحالتين فقط، فتارة تنتقل من طهر إلى حيض وتارة من حيض إلى طهر فيستقيم معنى الكلام ودلالته على الطهر والحيض جميعا، فيصير الاسم مشتركا. ويقال: إذا ثبت أن القرء الانتقال فخروجها من طهر إلى حيض غير مراد بالآية أصلا، ولذلك لم يكن الطلاق في الحيض سنّيا مأمورا به، وهو الطلاق للعدة فإن الطلاق للعدة ما كان في الطهر، وذلك يدل على كون القرء مأخوذا من الانتقال، والطلاق في الطهر سنيا.
(٢) البقرة: ٢٣٣.
(٣) مريم: ٧٥.
199
رغبت عن زوجها، قالت: إني حائض، وقد طهرت. وإذا زهدت فيه، كتمت حيضها حتى تغتسل، فتفوته.
والبعولة: الأزواج. و «ذلك» : إشارة إلى العدة، قاله مجاهد، والنخعي، وقتادة في آخرين.
وفي الآية دليل على أن خصوص آخر اللفظ لا يمنع عموم أوله، ولا يوجب تخصيصه، لأن قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ، عام في المبتوتات والرجعيات، وقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ خاص في الرجعيات.
قوله تعالى: إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً، قيل: إن الرجل كان إذا أراد الإضرار بامرأته، طلقها واحدة وتركها، فاذا قارب انقضاء عدتها راجعها، ثم تركها مدّة، ثم طلقها، فنهوا عن ذلك. وظاهر الآية يقتضي أنه إنما يملك الرجعة على غير وجه المضارة بتطويل العدة عليها، غير أنه قد دل قوله تعالى:
وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا، على صحة الرجعة وإن قصد الضرار، لأن الرجعة لو لم تكن صحيحة إذا وقعت على وجه الضرار لما كان ظالماً بفعلها.
قوله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وهو: المعاشرة الحسنة، والصحبة الجميلة.
(١١٤) روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن حق المرأة على الزوج فقال: «أن يطعمها إذا طعم، ويكسوها إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يقبح، ولا يهجر إلا في البيت».
وقال ابن عباس: إني أحب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي لهذه الآية.
قوله تعالى: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، قال ابن عباس: بما ساق إليها من المهر، وأنفق عليها من المال. وقال مجاهد: بالجهاد والميراث. وقال أبو مالك: يطلقها، وليس لها من الأمر شيء. وقال الزجاج: تنال منه من اللذة كما ينال منها، وله الفضل بنفقته.
(١١٥) وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لو أمرتُ أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها».
صحيح. أخرجه النسائي في «الكبرى» ٩١٧١ و ١١١٠٤ وابن ماجة ١٨٥٠ وأحمد ٤/ ٤٤٧ وابن حبان ٤١٧٥ والطبراني ١٩/ ١٠٣٤ و ١٠٣٧ و ١٠٣٨ والحاكم ٢/ ١٨٧- ١٨٨ وابن أبي الدنيا في «العيال» ٤٨٨ والبيهقي ٧/ ٢٩٥ و ٣٠٥ من طرق عن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وأخرجه أبو داود ٢١٤٣ وأحمد ٥/ ٥ والطبراني ١٩/ ١٠٠٠ وابن أبي الدنيا ٤٨٩ من طرق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده. وأخرجه أحمد ٥/ ٣ عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن أبي قزعة وعطاء.
صحيح بشواهده. أخرجه الترمذي ١١٥٩ وابن حبان ٤١٦٢ والبيهقي ٧/ ٢٩١ من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة به. ومحمد بن عمرو حسن الحديث. وأخرجه الحاكم ٤/ ١٧١- ١٧٢ والبزار ١٤٦٦ من طريق سليمان بن داود من حديث أبي هريرة وصححه الحاكم وقال الذهبي: بل سليمان هو اليمامي ضعفوه. وكذا ضعفه الهيثمي في «المجمع» ٤/ ٣٠٧. وله شواهد- منها حديث أنس عند النسائي في «الكبرى» ٩١٤٧ وأحمد ٣/ ٥٨ والبزار ٢٤٥٤ وابن أبي الدنيا ٥٢٩. وفي إسناده، خلف بن خليفة صدوق اختلط في الآخر كما في «التقريب». وحديث عائشة عند ابن ماجة ١٨٥٢ وأحمد ٦/ ٨٦. وابن أبي الدنيا ٥٤١ وفي إسناده علي بن زيد بن جدعان وهو ضعيف. وحديث ابن عباس عند الطبراني ١٢٠٠٣ والبزار ١٤٦٧ وابن أبي الدنيا في «العيال» ٥٤٢ وفيه الحكم بن طهمان، وهو ضعيف. وحديث معاذ بن جبل من طريق أبي ظبيان.
أخرجه أحمد ٥/ ٢٢٧- ٢٢٨ (٢١٤٨٠) وإسناده منقطع أبو ظبيان لم يسمع من معاذ. وأخرجه أيضا برقم ٢١٤٨١ من طريق ابن نمير عن الأعمش قال سمعت أبا ظبيان يحدث عن رجل من الأنصار عن معاذ بن جبل... فذكره. وورد من طريق أخرى عن معاذ بن جبل مرفوعا عند الحاكم ٤/ ١٧٢ والبزار ١٤٦١ والطبراني في «الكبير» ٢٠/ ٥٢ وابن أبي الدنيا في «العيال» ٥٣٨ وصححه الحاكم على شرط الشيخين! ووافقه الذهبي! مع أنه من رواية القاسم بن عوف الشيباني، وقد تفرد عنه مسلم، ولم يدرك معاذا. وقال الهيثمي في «المجمع» ٤/ ٣٠٩ (٧٦٤٩) ورجال البزار رجال الصحيح، وكذلك طريق من طرق أحمد، وروى الطبراني بعضه أيضا اه. وأخرجه ابن ماجة ١٨٥٣ وأحمد ٤/ ٣٨١ وابن حبان ٤١٧١ والبيهقي ٧/ ٢٩٢ عن أيوب عن القاسم بن عوف الشيباني عن ابن أبي أوفى قال: لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم...... فذكره. وفي إسناده القاسم وثقه ابن حبان، وقال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه. وقال أبو حاتم: مضطرب الحديث، ومحله عندي الصدق. وروى له مسلم حديثا واحدا. وأخرجه البزار ١٤٧٠ والطبراني ٧٢٩٤ وابن أبي الدنيا في «العيال» ٥٣٩ عن القاسم بن عوف عن ابن أبي ليلى عن أبيه عن صهيب أن معاذا..... فذكره. وقال الهيثمي في «المجمع» ٤/ ٣١٠: وفيه النهاس بن قهم، وهو ضعيف اه.
وأخرجه البزار ١٤٦٨ و ١٤٦٩ والطبراني في «الكبير» ٥١١٧ وابن أبي الدنيا ٥٤٣. وقال الهيثمي: وأحد إسنادي الطبراني رجاله رجال الصحيح، خلا صدفة بن عبد الله السمين، وثقه أبو حاتم وجماعة، وضعفه البخاري وجماعة اه. الخلاصة: المرفوع منه صحيح بمجموع طرق شواهده.
200
وقالت ابنة سعيد بن المسيب: ما كنا نكلم أزواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم.

فصل: اختلف العلماء في هذه الآية: هل تدخل في الآيات المنسوخات أم لا؟ على قولين:


أحدهما: أنها تدخل في ذلك. واختلف هؤلاء في المنسوخ منها، فقال قوم: المنسوخ منها قوله تعالى:
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ، وقالوا: فكان يجب على كل مطلقة أن تعتدّ بثلاثة قروء، فنسخ حكم الحامل بقوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ «١»، وحكم المطلقة قبل الدخول بقوله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها «٢»، وهذا مروي عن ابن عباس، والضحاك في آخرين. وقال قوم: أولها محكم، والمنسوخ قوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ، قالوا: كان الرجل إذا طلق امرأته كان أحق برجعتها، سواء كان الطلاق ثلاثاً، أو دون ذلك، فنسخ بقوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ «٣».
والقول الثاني: أن الآية كلها محكمة، فأولها عام. والآيات الواردة في العدد خصت ذلك من العموم، وليس بنسخ. وأما ما قيل في الارتجاع، فقد ذكرنا أن معنى قوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ، أي: في العدة قبل انقضاء القروء الثلاثة، وهذا القول هو الصحيح.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٢٩]
الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩)
قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ.
(١) الطلاق: ٤.
(٢) الطلاق: ١.
(٣) البقرة: ٢٣٠.
201
(١١٦) سبب نزولها: أن الرجل كان يطلق امرأته، ثم يراجعها ليس لذلك شيء ينتهي إليه، فقال رجل من الأنصار لامرأته: والله لا أؤويك إليّ أبدا ولا تحلِّين مني. فقالت: كيف ذلك؟ قال: أطلقك، فاذا دنا أجلك، راجعتك، فذهبتْ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، تشكو إليه ذلك فنزلت هذه الآية، فاستقبلها الناس جديداً من كان طلق، ومن لم يكن يطلّق. رواه هشام بن عروة عن أبيه.
فأما التفسير، ففي قوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ قولان: أحدهما: أنه بيان لسنَّة الطلاق، وأن يوقع في كل قرءٍ طلقة، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثاني: أنه بيان للطلاق الذي تملك معه الرجعة، قاله عروة، وقتادة، وابن قتيبة، والزجاج في آخرين.
قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ، معناه: فالواجب عليكم إمساك بمعروف، وهو ما يعرف من إقامة الحق في إمساك المرأة. وقال عطاء، ومجاهد، والضحاك، والسدي: المراد بقوله تعالى:
فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ: الرجعة بعد الثانية. وفي قوله تعالى: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ، قولان:
أحدهما: أن المراد به: الطلقة الثالثة، قاله عطاء، ومجاهد، ومقاتل.
والثاني: أنه الإمساك عن رجعتها حتى تنقضي عدتها، قاله الضحاك، والسدي. قال القاضي أبو يعلى محمد بن الحسين بن الفرّاء وهذا هو الصحيح، لأنه قال عقيب الآية: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ، والمراد بهذه الطلقة الثالثة بلا شك، فيجب إذن أن يحمل قوله تعالى: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ على تركها حتى تنقضي عدتها، لأنه إن حمل على الثالثة، وجب أن يحمل قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها على رابعة، وهذا لا يجوز.

فصل: الطلاق على أربعة أضرب: واجب، ومندوب إليه، ومحظور، ومكروه. فالواجب:


طلاق المؤلي بعد التربص، إذا لم يفئ، وطلاق الحكمين في شقاق الزوجين، إذا رأيا الفرقة.
والمندوب: إذا لم يتفقا، واشتدَّ الشقاق بينهما، ليتخلصا من الإثم. والمحظور: في الحيض، إذا كانت مدخولاً بها، وفي طهر جامعها فيه قبل أن تطهر. والمكروه: إذا كانت حالهما مستقيمة، وكل واحد منهما قيّم بحال صاحبه.
قوله تعالى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً.
(١١٧) نزلت في ثابت بن قيس بن شمَّاس، أتت زوجته إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضاً. فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم:
أخرجه مالك ٢/ ٥٨٨ والطبري عن عروة مرسلا. ووصله الترمذي ١١٩٢ والحاكم ٢/ ٢٧٩- ٢٨٠ والواحدي ١٥٢ والبيهقي ٧/ ٣٣٣ من حديث عائشة، وصححه الحاكم، وضعفه الذهبي بقوله: يعقوب بن حميد غير واحد. قلت: وفيه يعلى بن شبيب وثقه ابن حبان وهو مجهول، فالراجح إرساله لكن مراسيل عروة جياد.
ولبعضه شاهد من مرسل قتادة أخرجه الطبري ٤٧٨٥، ومن مرسل ابن زيد أخرجه برقم ٤٧٨٧.
جيد. أخرجه ابن ماجة ٢٠٥٦ بهذا اللفظ من حديث ابن عباس وإسناده جيد كما قال ابن كثير.
- وأصله. أخرجه البخاري ٥٢٧٣ و ٥٢٧٤ و ٥٢٧٥ و ٥٢٧٦ والنسائي ٦/ ١٦٩ والبيهقي ٧/ ٣١٣ من حديث ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله ثابت بن قيس ما أعتب عليه في خلق ولا دين ولكن لا أطيقه! فقال: «أتردين عليه حديقته؟» قالت نعم. وفي الباب روايات وألفاظ أخرى.
202
«أتردّين عليه حديقته» ؟ قالت: نعم، فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم، أن يأخذها، ولا يزداد. رواه عكرمة عن ابن عباس. واختلفوا في اسم زوجته، فقال ابن عباس: جميلة. ونسبها يحيى بن أبي كثير، فقال: جميلة بنت عبد الله بن أبيّ بن سلول، وكناها مقاتل، فقال: أمّ حبيبة بنت عبد الله بن أبيّ. وقال آخرون: إنما هي جميلة أخت عبد الله بن أبيّ، وروى يحيى بن سعيد عن عمرة روايتين: إحداهما: أنها حبيبة بنت سهل. والثانية: سهلة بنت حبيب. وهذا الخلع أول خلع كان في الإسلام. والخوف في الآية بمعنى:
العلم. والحدود قد سبق بيان معناها.
ومعنى الآية: أن المرأة إذا خافت أن تعصي الله في أمر زوجها لبغضها إياه، وخاف الزوج أن يعتدي عليها لامتناعها عن طاعته جاز له أن يأخذ منها الفدية، إذا طلبت ذلك. هذا على قراءة الجمهور في فتح «ياء» يَخافا، وقرأ الحسن، ومجاهد، وأبو جعفر، وحمزة والأعمش: (يُخافا) بضم الياء. قوله تعالى فَإِنْ خِفْتُمْ، قال قتادة: هو خطاب للولاة، فَلا جُناحَ عَلَيْهِما على المرأة فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ، وعلى الزوج فيما أخذ، لأنه ثمن حقّه. وقال الفراء: يجوز أن يراد الزوج وحده، وإن كانا قد ذكرا جميعاً كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «١»، وإنما يخرج من أحدهما.
وقوله: نَسِيا حُوتَهُما «٢» : وإنما نسي أحدهما.
فصل: وهل يجوز له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها؟ فيه قولان «٣» : أحدهما: يجوز، وبه قال عمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن عباس والحسن ومجاهد والنخعي والضحاك ومالك والشافعي.
والثاني: لا يجوز، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والشعبي وطاوس وابن جبير والزّهريّ وأحمد بن
(١) الرحمن: ٢٢.
(٢) الكهف: ٦١.
(٣) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٠/ ٢٦٩- ٢٧٠: ولا يستحب له أن يأخذ أكثر مما أعطاها، هذا القول يدلّ على صحة الخلع بأكثر من الصداق، وأنهما إذا تراضيا على الخلع بشيء صح. وهذا قول أكثر أهل العلم. روي ذلك عن عثمان وابن عمر، وابن عباس، وعكرمة ومجاهد وقبيصة بن ذؤيب، والنخعي، ومالك، والشافعي وأصحاب الرأي، ويروى عن ابن عباس وابن عمر، أنهما قالا: لو اختلعت امرأة من زوجها بميراثها، وعقاص رأسها، كان ذلك جائزا. قال عطاء، وطاوس والزهري وعمرو بن شعيب: لا يأخذ أكثر مما أعطاها. وروي ذلك عن عليّ بإسناد منقطع. واختاره أبو بكر، قال: فإن فعل رد الزيادة. وعن سعيد بن المسيب قال: ما أرى أن يأخذ كل مالها، ولكن ليدع لها شيئا. واحتجّوا بما روي أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: والله ما أعيب على ثابت في دين ولا خلق، ولكن أكره الكفر في الإسلام، لا أطيقه بغضاً. فقال لها النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أتردّين عليه حديقته؟» قالت: نعم فأمره النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يأخذ منها حديقته ولا يزداد. رواه ابن ماجة، ولأنه بذل في مقابلة فسخ، فلم يزد على قدره في ابتداء العقد، كالعوض في الإقالة.
ولنا قول الله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ. ولأنه قول من سمينا من الصحابة قالت الربيع بنت معوّذ: اختلعت من زوجي بما دون عقاص رأسي فأجاز ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومثل هذا يشتهر، فلم ينكر، فيكون إجماعا، ولم يصح عن عليّ على خلافه. فإذا ثبت هذا، فإنه لا يستحب له أن يأخذ أكثر مما أعطاها. وبذلك قال سعيد بن المسيب، والحسن، والشعبيّ، والحكم ومالك والشافعي. قال مالك: لم أزل أسمع إجازة الفداء بأكثر من الصداق. ولنا، حديث جميلة. وروي عن عطاء، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أنه كره أن يأخذ من المختلعة أكثر مما أعطاها. رواه أبو حفص بإسناده. وهو صريح في الحكم، فنجمع بين الآية والخبر، فنقول الآية دالة على الجواز، والنهي عن الزيادة للكراهية. والله أعلم. [.....]
203
حنبل، وقد نقل عن عليّ والحسن أيضاً. وهل يجوز الخلع دون السلطان؟ قال عمر وعثمان وعليّ وابن عمر وطاوس وشريح والزهري: يجوز، وهو قول جمهور العلماء. وقال الحسن وابن سيرين وقتادة: لا يجوز إلا عند السّلطان.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٠]
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠)
قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ، ذكر مقاتل أن هذه الآية نزلت في تميمة بنت وهب بن عتيك النّضيريّ، وفي زوجها رفاعة بن عبد الرحمن القرظي.
(١١٨) وقال غير مقاتل: إنها عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك وهو ابن عمها، فطلقها ثلاثاً، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزّبير، ثم طلّقها، فأتت إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: إني كنت عند رفاعة، فطلقني، فأبتَّ طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنه طلقني قبل أن يمسني، أفأرجع إلى ابن عمي؟ فتبسّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك».
قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها، يعني: الزوج المطلق مرتين. قال ابن عباس، ومجاهد، وقتادة: هي الطلقة الثالثة. واعلم أن الله تعالى عاد بهذه الآية بعد الكلام في حكم الخلع إلى تمام الكلام في الطلاق. قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها، يعني: الثاني فَلا جُناحَ عَلَيْهِما يعني: المرأة، والزوج الأول إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ، قال طاوس: ما فرض الله على كل واحد منهما من حسن العشرة والصحبة. قوله تعالى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها قراءة الجمهور (يبينها) بالياء. وقرأ الحسن ومجاهد، والمفضل عن عاصم بالنون لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ، قال الزجاج: يعلمون أن أمر الله حقّ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣١]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١)
قوله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، قال ابن عباس: كان الرجل يطلق امرأته، ثم يراجعها قبل انقضاء عدتها، ثم يطلقها، يفعل ذلك يضارّها ويعضلها بذلك، فنزلت هذه الآية. والأجل هاهنا: زمان العدة. ومعنى البلوغ هاهنا: مقارنة الأجل دون حقيقة الانتهاء إليه، يقال: بلغت المدينة:
إذا قاربتها، وبلغتها: إذا دخلتها. وإنما حمل العلماء هذا البلوغ على المقاربة، لأنه ليس بعد انقضاء العدة رجعة. قوله تعالى: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، قال ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة: المراد به الرجعة قبل انقضاء العدة. قوله تعالى: أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ، وهو تركها حتى تنقضي عدّتها.
صحيح. أخرجه البخاري ٢٦٣٩ و ٢٧٩٢ و ٦٠٨٤ ومسلم ١٤٣٣ ح ١١١ و ١١٢ والترمذي ١١١٨ والنسائي ٦/ ٩٣ والدارمي ٢/ ١٦١ وابن ماجة ١٩٣٢ من حديث عائشة مع اختلاف يسير فيه.
وأخرجه أبو داود ٢٣٠٩ وأحمد ٦/ ٤٢ والنسائي ٦/ ١٤٦ وابن حبان ٤١٢٢ من وجه آخر عن عائشة.
والمعروف في الإمساك: القيام بما يجب لها من حق، والمعروف في التسريح: أن لا يقصد إضرارها، بأن يطيل عدتها بالمراجعة، وهو معنى قوله: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا، قاله الحسن ومجاهد، وقتادة في آخرين. وقال الضحاك: إنما كانوا يضارّون المرأة لتفتدي وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الاعتداء، فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بارتكاب الإثم. قوله تعالى: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً فيه قولان: أحدهما: أنه الرجل يطلق أو يراجع، أو يعتق، ويقول: كنت لاعباً. روي عن عمر، وأبي الدرداء، والحسن. والثاني: أنه المضارّ بزوجته في تطويل عدّتها بالمراجعة قبل الطلاق، قاله مسروق، ومقاتل. وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، قال ابن عباس: احفظوا منته عليكم بالإسلام. قال: والكتاب: القرآن. والحكمة: الفقه.
وَاتَّقُوا اللَّهَ، في الضرار وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ به وبغيره عَلِيمٌ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٢]
وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢)
قوله تعالى: وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ في سبب نزولها قولان:
(١١٩) أحدهما: ما روى الحسن أن معقل بن يسار زوج أخته من رجل من المسلمين، فكانت عنده ما كانت، فطلقها تطليقة ثم تركها ومضت العدّة، وكانت أحق بنفسها، فخطبها مع الخطاب، فرضيت أن ترجع إليه، فخطبها إلى معقل، فغضب معقل، وقال: أكرمتك بها، فطلقتها؟! لا والله! لا ترجع إليك آخر ما عليك. قال الحسن: فعلم الله، عزّ وجلّ، حاجة الرجل إلى امرأته، وحاجة المرأة إلى بعلها، فنزلت هذه الآية، فسمعها معقل، فقال: سمعاً لربي، وطاعة، فدعا زوجها، فقال:
أزوجك، وأكرمك. ذكر عبد الغني الحافظ عن الكلبي أنه سمى هذه المرأة، فقال: جميلة بنت يسار.
(١٢٠) والثاني: أن جابر بن عبد الله الأنصاري كانت له ابنة عم، فطلقها زوجها تطليقة، فانقضت عدتها، ثم رجع يريد رجعتها، فأبى جابر، وقال: طلقت ابنة عمنا، ثم تريد أن تنكحها الثانية؟! وكانت المرأة تريد زوجها، قد راضته، فنزلت هذه الآية، قاله السدي.
فأما بلوغ الأجل في هذه الآية، فهو انقضاء العدة، بخلاف التي قبلها. قال الشّافعيّ رضي الله عنه: دل اختلاف الكلامين على افتراق البلوغين. قوله تعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ، خطاب للأولياء، قال ابن عباس، وابن جبير، وابن قتيبة في آخرين: معناه لا تحبسوهن، والعرب تقول للشدائد: معضلات.
وداءٌ عضال: قد أعيا. قال أوس بن حجر:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي يذمّك إن ولّى ويرضيك مقبلا
ولكنه النائي إذا كنت آمناً وصاحبك الأدنى إِذا الأمر أعضلا
صحيح. أخرجه البخاري ٤٥٢٩ و ٥١٣٠ و ٥١٣١ وأبو داود ٢٠٨٧ والترمذي ٢٩٨١ واستدركه الحاكم ٢/ ٢٨٠ والواحدي ١٥٣ من حديث الحسن عن معقل بن يسار.
ضعيف. أخرجه الطبري ٤٩٤٢ والواحدي في «أسباب النزول» ١٥٦ وذكر هذا القول ابن كثير في تفسيره وقال: الصحيح الأول أي حديث معقل.
وقالت ليلى الأخيلية:
إذا نزل الحجاج أرضاً مريضة تتبع أقصى دائها فشفاها
شَفَاها من الدَّاءِ العُضَالِ الذي بها غلامٌ إذا هزَّ القناة سقاها
قال الزجاج: وأصل العضل، من قولهم: عضلت الدجاجة، فهي مُعضِل: إذا احتبس بيضها ونشب «١» فلم يخرج، وعضلت الناقة أيضاً: إذا احتبس ولدها في بطنها.
قوله تعالى: إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، قال السدي، وابن قتيبة: معناه إذا تراضى الزوجان بالنكاح الصحيح. قال الشافعي: وهذه الآية أبين آية في أنه ليس للمرأة أن تتزوج إلا بولي.
قوله تعالى: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ، قال مقاتل: الإشارة إلى نهي الولي عن المنع. قال الزجاج: إنما قال: «ذلك» ولم يقل: «ذلكم» وهو يخاطب جماعة، لأن لفظ الجماعة لفظ الواحد، فالمعنى: ذلك أيها القبيل. قوله تعالى: ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ، يعني ردّ النساء إلى أزواجهن، أفضل من التّفرقة بينهم، وَأَطْهَرُ، أي: أنقى لقلوبكم من الريبة لئلا يكون هناك نوع محبة، فيجتمعان على غير وجه صلاح.
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ فيه قولان: أحدهما: أن معناه: يعلم ودّ كل واحد منهما لصاحبه، قاله ابن عباس، والضحاك. والثاني: يعلم مصالحكم عاجلاً وآجلا، قاله الزجّاج في آخرين.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٣]
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣)
قوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ لفظه لفظ الخبر، ومعناه الأمر، كقوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «٢»، وقال القاضي أبو يعلى: وهذا الأمر انصرف إلى الآباء، لأن عليهم الاسترضاع، لا إلى الوالدات، بدليل قوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ، وقوله تعالى: فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ «٣»، فلو كان متحتماً على الوالدة، لم تستحق الأجرة، وهل هو عام في جميع الوالدات؟ فيه قولان: أحدهما: أنه خاص في المطلقات، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ومقاتل في آخرين. والثاني: أنه عام في الزوجات والمطلقات، ولهذا يقال: لها أن تؤجر نفسها لرضاع ولدها، سواء كانت مع الزوج، أو مطلقة، قاله القاضي أبو يعلى، وأبو سليمان الدمشقي في آخرين.
والحول: السنة، وفي قوله: كامِلَيْنِ قولان: أحدهما: أنه دخل للتوكيد كقوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ «٤». والثاني: أنه لما جاز أن يقول: «حولين»، ويريد أقل منهما، كما قال: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ «٥»، ومعلوم أنه يتعجل في يوم، وبعض آخر. وتقول العرب: لم أر فلاناً منذ يومين، وإنما
(١) في «القاموس» نشب وانتشب: اعتلق، وتناشبوا: تضاموا وتعلق بعضهم ببعض.
(٢) البقرة: ٢٢٨.
(٣) النساء: ٢٤.
(٤) البقرة: ١٩٦.
(٥) البقرة: ٢٠٣.
206
يريدون: يوماً وبعض آخر- قال: كاملين لتبيين أنه لا يجوز أن يُنقص منهما، وهذا قول الزجاج، والفراء.
فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية، فقال بعضهم: هو محكم، والمقصود منه بيان مدة الرضاع، ويتعلق به أحكام، منها أنه كمال الرضاع، ومنها أنه يلزم الأب نفقة الرضاع مدّة الحولين، ويجبره الحاكم على ذلك، ومنها أنه يثبت تحريم الرضاع في مدَّة الحولين، ولا يثبت فيما زاد، ونقل عن قتادة، والربيع بن أنس في آخرين أنه منسوخ بقوله تعالى: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما، قال شيخنا عليّ بن عبيد الله: وهذا قول بعيد، لأن الله تعالى قال في أولها: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ، فلما قال في الثاني: فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما خيّر بين الإرادتين، وذلك لا يعارض المدة المقدرة في التمام.
قوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ، أي: هذا التقدير بالحولين لمريدي إتمام الرضاعة. وقرأ مجاهد بتاءين «تتم الرضاعةُ» وبالرفع، وهي رواية الحلبي عن عبد الوارث. وقد ذكر التمام على نفي حكم الرضاع بعد الحولين، وأكثر القراء على فتح راء «الرضاعة»، وقرأ طلحة بن مُصرِّف، وابن أبي عبلة، وأبو رجاء بكسرها، قال الزجاج، يقال: الرضاعة بفتح الراء وكسرها، والفتح أكثر، ويقال: ما حمله على ذلك إلا اللؤم والرضاعة بالفتح هاهنا لا غير.
قوله تعالى: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ، يعني: الأب. رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ يعني: المرضعات. وفي قوله:
بِالْمَعْرُوفِ دلالة على أن الواجب على قدر حال الرجل في إعساره ويساره، إذ ليس من المعروف إلزام المعسر ما لا يطيقه، ولا الموسر النزر الطفيف. وفي الآية دليل على تسويغ اجتهاد الرأي في أحكام الحوادث، إذ لا يتوصل إلى تقدير النفقة بالمعروف إلا من جهة غالب الظن، إذ هو معتبر بالعادة. قوله تعالى: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها، أي: إلا ما تطيقه. لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبان عن عاصم (لا تضارُّ) برفع الراء، وقرأ نافع وعاصم، وحمزة، والكسائي بنصبها، قال أبو عليّ: من رفع، فلأجل المرفوع قبله، وهو «لا تكلفُ»، فأتبعه بما قبله ليقع تشابه اللفظ، ومن نَصب جعله أمراً، وفتح الراء لتكون حركته موافقة لما قبلها وهو الألف، قال ابن قتيبة:
معناه: لا تضارر، فأدغمت الراء في الراء. وقال سعيد بن جبير: لا يحملنّ المطلقة مضارة الزوج أن تلقي إليه ولده. وقال مجاهد: لا تأبى أن ترضعه ضراراً بأبيه، ولا يضارّ الوالد بولده، فيمنع أمه أن ترضعه، ليحزنها بذلك. وقال عطاء، وقتادة، والزهري، وسفيان، والسدي في آخرين: إذا رضيت بما يرضى به غيرها، فهي أحق به. وقرأ أبو جعفر: «لا تضار» بتخفيفها وإسكانها.
قوله تعالى: وَعَلَى الْوارِثِ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه وارث المولود، وهو قول عطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وابن أبي ليلى، وقتادة، والسدي، والحسن بن صالح، ومقاتل في آخرين واختلف أرباب هذا القول، فقال بعضهم: هو وارث المولود من عصبته، كائناً من كان، وهذا مروي عن عمر، وعطاء، والحسن، ومجاهد، وإبراهيم، وسفيان. وقال بعضهم: هو وارث المولود على الإطلاق من الرجال والنساء، روي عن ابن أبي ليلى، وقتادة، والحسن بن صالح، وإسحاق، وأحمد بن حنبل. وقال آخرون: هو من كان ذا رحم محرم من ورثة المولود، روي عن أبي حنيفة،
207
وأبي يوسف، ومحمد. والقول الثاني: أن المراد بالوارث هاهنا، وارث الوالد، روي عن الحسن والسدي. والثالث: أن المراد بالوارث الباقي من والدي الولد بعد وفاة الآخر، روي عن سفيان.
والرابع: أنه أريد بالوارث الصبي نفسه، فالنفقة عليه، فإن لم يملك شيئاً، فعلى عصبته، قاله الضحاك، وقبيصة بن ذؤيب. قال شيخنا عليّ بن عبيد الله: وهذا القول لا ينافي قول من قال: المراد بالوارث وارث الصبي، لأن النفقة تجب للموروث على الوارث إذا ثبت إعسار المنفق عليه. وفي قوله تعالى:
مِثْلُ ذلِكَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الإشارة إلى أجرة الرضاع والنفقة، روي عن عمر، وزيد بن ثابت، والحسن، وعطاء، ومجاهد، وابراهيم، وقتادة، وقبيصة بن ذؤيب، والسدي. واختاره ابن قتيبة. والثاني: أن الإشارة بذلك إلى النهي عن الضرار، روي عن ابن عباس والشعبي والزهري.
واختاره الزجاج. والثالث: أنه إشارة إلى جميع ذلك، روي عن سعيد بن جبير ومجاهد ومقاتل وأبي سليمان الدمشقي واختاره القاضي أبو يعلى. ويشهد لهذا أنه معطوف على ما قبله، وقد ثبت أن على المولود له النفقة والكسوة، وأن لا يضار، فيجب أن يكون قوله: مِثْلُ ذلِكَ مشيراً إلى جميع ما على المولود له.
قوله تعالى: فَإِنْ أَرادا فِصالًا، الفصال: الفطام. قال ابن قتيبة: يقال: فصلت الصبيّ من أمّه:
إذا فطمته. ومنه قيل للحوار «١» إذا قُطع عن الرضاع: فصيل، لأنه فصل عن أمه، وأصل الفصل:
التفريق. قال مجاهد: التشاور فيما دون الحولين إن أرادت أن تفطم وأبى، فليس لها، وإن أراد هو، ولم ترد، فليس له ذلك حتى يقع ذلك عن تراض منهما وتشاور، يقول: غير مسيئين إلى أنفسهما وإلى صبيهما. قوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ، قال الزجاج: أي: لأولادكم. قال مقاتل: إِذا لم ترض الأم بما يرضى به غيرها، فلا حرج على الأب أن يسترضع لولده. وفي قوله تعالى: إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ قولان: أحدهما: إذا سلَّمتم أيها الآباء إِلى أمهات الأولاد أُجور ما أرضعن قبل امتناعهن، قاله مجاهد، والسدي. والثاني: إذا سلمتم إلى الظئر أجرها بالمعروف، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. وقرأ ابن كثير (ما أتيتم) بالقصر، قال أبو عليّ: وجهه أن يقدّر فيه: ما أوتيتم نقده أو أوتيتم سوقه، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، كما تقول: أتيت جميلا، أي: فعلته.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٤]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ، أي: يقبضون بالموت. وقرأ المفضَّل عن عاصم «يَتوفون» بفتح الياء في الموضعين. قال ابن قتيبة: هو من استيفاء العدد، واستيفاء الشيء: أن نستقصيه كلّه، يقال: توفّيته واستوفيته، كما يقال: تيقّنت الخير واستيقنته، هذا الأصل، ثم قيل للموت: وفاة وتوفّ يَتَرَبَّصْنَ ينتظرن، قال الفراء: وإنما قال: وَعَشْراً ولم يقل: عشرة، لأن العرب إذا أبهمت العدد من الليالي والأيام، غلّبوا عليه الليالي على الأيام، حتى إنهم ليقولون: صمنا عشراً من شهر رمضان،
(١) في «اللسان» الحوار: ولد الناقة من حين يوضع إلى أن يفطم ويفصل.
208
لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام، فاذا أظهروا مع العدد تفسيره، كانت الإناث بغير هاء، والذكور بالهاء «١» كقوله تعالى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً «٢»
. فان قيل: ما وجه الحكمة في زيادة هذه العشرة؟ فالجواب: أنه يبين صحة الحمل بنفخ الروح فيه، قاله سعيد بن المسيب، وأبو العالية.
(١٢١) ويشهد له الحديث الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إِن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك، فينفخ فيه الروح».
فصل: وهذه الآية ناسخة للتي تشابهها، وهي تأتي بعد آيات، وهي قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ لأن تلك كانت تقتضي وجوب العدة سنة،
صحيح. أخرجه البخاري ٣٢٠٨ و ٣٣٣٢ و ٦٥٩٤ و ٧٤٥٤ ومسلم ٢٦٤٣ وأبو داود ٤٧٠٨ والترمذي ٢١٣٧ والنسائي ٦/ ٢٩ وابن ماجة ٧٦ وابن حبان ٦١٧٤ والبيهقي ٣٨٧ و ١٣٧- ١٣٨ من حديث ابن مسعود: «إِن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما وأربعين ليلة، ثم يكون علقة مثله ثم يكون مضغة مثله ثم يبعث إليه الملك فيؤذن بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ثم ينفخ فيه الروح، فإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينها وبينه إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النّار فيدخل النار وإنّ أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينها وبينه إلّا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل الجنة فيدخلها» لفظ البخاري.
__________
(١) قال أبو حيان في «البحر المحيط» ٢/ ٢٣٤: ولا يحتاج إلى تأويل عشر بأنها ليال لأجل حذف التاء ولا إلى تأويلها بمدد كما ذهب إليه «المبرد» بل الذي نقل أصحابنا إنه إذا كان المعدود مذكرا وحذفته فلك فيه وجهان أحدهما وهو الأصل أن يبقى العدد على ما كان عليه لو لم يحذف المعدود فتقول صمت خمسة تريد خمسة أيام قالوا وهو الفصيح قالوا ويجوز أن تحذف منه كله تاء التأنيث، وحكى «الكسائي» عن أبي الجراح صمنا من الشهر خمسا ومعلوم أن الذي يصام من الشهر إنما هي الأيام واليوم مذكر. وقوله ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه كما ذكر بل استعمال التذكير هو الكثير الفصيح فيه كما ذكرنا وقوله ومن البين فيه إن لبثتم إلا عشرا قد بينا مجيء هذا على الجائز فيه وأن محسن ذلك إنما هو كونه فاصلة وقوله: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً [طه:
١٠٤].
فائدة: ذكر «الزمخشري» هذا أنه على زعمه أراد الليالي والأيام داخلة معها فأتى بقوله إلا يوما للدلالة على ذلك وهذا عندنا يدل على أن قوله عشرا إنما يريد بها الأيام لأنهم اختلفوا في مدة اللبث فقال قوم عشر، وقال أمثلهم طريقة يوم، فقوله: إلا يوما مقابل لقولهم إلا عشرا ويبين أنه أريد بالعشر الأيام إذ ليس من التقابل أن يقول بعضهم عشر ليال، ويقول بعض يوما، وظاهر قوله أربعة أشهر ما يقع عليه اسم الشهر فلو وجبت العدّة مع رؤية الهلال لاعتدّت بالأهلة، كان الشهر تاما أو ناقصا وإن وجبت في بعض شهر فقيل تستوفي مائة وثلاثين يوما وقيل تعتد بما يمر عليها من الأهلة شهورا ثم تكمل الأيام الأول، وكلا القولين عن أبي حنيفة ولما كان الغالب على من مات عنها زوجها أن تعلم ذلك فتعتد إثر الوفاة جاء الفعل مسندا إليهن وأكد بقوله بِأَنْفُسِهِنَّ فلو مضت عليها مدة العدة من حين الوفاة وقامت على ذلك البينة ولم تكن علمت بوفاته إلى أن انقضت العدة فالذي عليه الجمهور أن عدتها من يوم الوفاة.
(٢) الحاقة: ٧.
209
وسنذكر ما يتعلق بها هنالك، إن شاء الله. فأما التي نحن في تفسيرها: فقد روي عن ابن عباس أنه قال:
نسختها وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ «١». والصحيح: أنها عامة دخلها التخصيص، لأن ظاهرها يقتضي وجوب العدة على المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً، سواء كانت حاملاً، أو غير حامل، غير أن قوله تعالى: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ خص أُولات الحمل، وهي خاصة أيضاً في الحرائر، فإن الأمة عدتها شهران وخمسة أيام، فبان أنها من العام الذي دخله التخصيص.
قوله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ، يعني: انقضاء العدة. قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فيه قولان: أحدهما أن معناه: فلا جناح على الرجال في تزويجهن بعد ذلك. والثاني: فلا جناح على الرجال في ترك الإنكار عليهن إذا تزينَّ وتزوجن. قال أبو سليمان الدمشقي: وهو خطاب لأوليائهن.
قوله تعالى: فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ فيه قولان: أحدهما: أنه التزين والتشوف للنكاح، قاله الضحاك، ومقاتل. والثاني: أنه النكاح، قاله الزهري، والسدي.
و «الخبير» من أسماء الله تعالى، ومعناه: العالِم بكنه الشيء المطلع على حقيقته. و «الخبير» في صفة المخلوقين، إنما يستعمل في نوع من العلم، وهو الذي يتوصل إليه بالاجتهاد دون النوع المعلوم ببداءة العقول. وعلم الله تعالى سواء فيما غمض ولطف وفيما تجلّى وظهر.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٥]
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥)
قوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ، هذا خطاب لمن أراد تزويج معتدة. والتعريض: الإيماء والتلويح من غير كشف، فهو إشارة بالكلام إلى ما ليس له في الكلام ذكر. والخِطبة بكسر الخاء: طلب النكاح، والخُطبة بضم الخاء: مثل الرّسالة التي لها أول وآخر.
وقال ابن عباس: التعريض أن يقول: إني أريد أن أتزوج. وقال مجاهد: أن يقول: إنكِ لجميلة، وإِنك لحسنة، وإنك لإلى خير. قوله تعالى: أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ، قال الفراء: فيه لغتان:
كننت الشيء، وأكننته. وقال ثعلب: أكننت الشيء: إذا أخفيته في نفسك، وكننته: إذا سترته بشيء.
وقال ابن قتيبة: أكننت الشيء: إذا سترته، ومنه هذه الآية، وكننته: إذا صنته، ومنه قوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ «٢»، قال بعضهم: يجعل كننته، وأكننته، بمعنى. قوله تعالى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ، قال مجاهد: ذكره إياها في نفسه. قوله تعالى: وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا فيه أربعة أقوال: أحدها: أن المراد بالسر هاهنا: النكاح، قاله ابن عباس. وأنشد بيت امرئ القيس:
ألا زعمت بسباسةُ «٣» اليوم أنني كبرتُ وأن لا يشهد السّرّ أمثالي
(١) الطلاق: ٤.
(٢) الصافات: ٤٩.
(٣) في «القاموس» بسباسة: امرأة من بني أسد.
وفي رواية: يشهد اللهو. قال الفرّاء: ويرى أنه مما كنى الله عنه كقوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ «١». وذكر الزجاج عن أبي عبيدة أن السر: الإفضاء بالنكاح المحرم، وأنشد «٢» :
ويَحْرمُ سِرُّ جارتهم عليهم ويأكل جارُهم أنفَ القصاع «٣»
قال ابن قتيبة: استعير السرّ للنكاح، لأن النكاح يكون سراً، فالمعنى: لا تواعدوهن بالتزويج، وهن في العدة تصريحاً، إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً لا تذكرون فيه رفثاً ولا نكاحاً. والثاني: أن المواعدة سراً: أن يقول لها: إني لك محب، وعاهديني أن لا تتزوجي غيري، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أن المراد بالسر الزنى، قاله الحسن، وجابر بن زيد، وأبو مجلز، وإبراهيم، وقتادة، والضحاك. والرابع: أن المعنى: لا تنكحوهن في عدتهن سراً، فاذا حلَّت أظهرتم ذلك، قاله ابن زيد.
وفي القول المعروف قولان: أحدهما: أنه التعريض لها، وهو قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، وعطاء، والقاسم بن محمد، والشعبي، ومجاهد، وإبراهيم، وقتادة، والسدي. والثاني: أنه إعلام وليها برغبته فيها، وهو قول عبيدة.
قوله تعالى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ، قال الزجّاج: لا تعزموا على عقدة النكاح، وحذفت «على» استخفافاً، كما قالوا: ضرب زيد الظَّهر والبطن، معناه: على الظهر والبطن. حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ، أي: حتى يبلغ فرض الكتاب أجله، قال: ويجوز أن يكون «الكتاب» بمعنى «الفرض» كقوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ «٤»، فيكون المعنى: حتى يبلغ الفرض أجله. قال ابن عباس، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والسدي: بلوغ الكتاب أجله: انقضاء العدة.
قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ، قال ابن عباس: من الوفاء، فاحذروه أن تخالفوه في أمره. والحليم قد سبق بيانه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٦]
لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦)
قوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ، قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر، وأبو عمرو «تمسوهن» بغير الف حيث كان، وبفتح التاء. وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف «تماسُّوهن» بألف وضم التاء في الموضعين هنا، وفي الأحزاب ثالث. قال أبو علي: وقد يراد بكل واحد من «فاعل» و «فعل» ما يراد بالآخر، تقول: طارقت النعال وعاقبت اللص.
(١٢٢) قال مقاتل بن سليمان: نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار تزوج امرأة من بني حنيفة،
لا أصل له. عزاه المصنف لمقاتل بن سليمان، وهذا معضل، ومع ذلك مقاتل كذاب يضع الحديث، وقد تفرد بهذا الخبر. قال الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» ١/ ٢٨٥ لم أجده. وذكره القرطبي في تفسير ٣٥/ ١٩٠ ونسبه للثعلبي، وتفرد الثعلبي به يدل على أنه غير حجة لأنه كحاطب ليل حتى الواحدي لم يذكره في «أسباب النزول». وكذا السيوطي وهذا الخبر أمارة الوضع لائحة عليه.
__________
(١) النساء: ٤٣.
(٢) البيت للحطيئة.
(٣) في «اللسان» : القصعة الضخمة تشبع العشرة والجمع قصاع. وأنف كل شيء: طرفه وأوله. [.....]
(٤) البقرة: ١٨٣.
ولم يسم لها مهراً، فطلقها قبل أن يمسّها، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هل متعتها بشيء؟» قال: لا، قال: «متعها ولو بقلنسوتك»، ومعنى الآية: ما لم تمسوهن، ولم تفرضوا لهن فريضة. وقد تكون «أو» بمعنى الواو.
كقوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً «١».
والمسُّ: النكاح، والفريضة: الصداق، وقد دلت الآية على جواز عقد النكاح بغير تسمية مهر وَمَتِّعُوهُنَّ أي: أعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم على قدر أحوالكم في الغنى والفقر. والمتاع: اسم لما ينتفع به، فذلك معنى قوله تعالى: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ، وقرأ ابن كثير ونافع، وأبو عمرو «قدْره» باسكان الدال في الحرفين، وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي بتحريك الحرفين، وعن عاصم: كالقراءتين وهما لغتان.
فصل: وهل هذه المتعة واجبة، أم مستحبة؟ فيه قولان: أحدهما: واجبة، واختلف أرباب هذا القول، لأي المطلقات تجب، على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها واجبة لكل مطلقة، روي عن علي والحسن وأبي العالية والزهري. والثاني: أنها تجب لكل مطلقة إلا المطلقة التي فرض لها صداقاً ولم يمسها، فإنه يجب لها نصف ما فرض، روي عن ابن عمر والقاسم بن محمد وشريح وإبراهيم.
والثالث: أنها تجب للمطلقة قبل الدخول إذا لم يسم لها مهراً، فان دخل بها، فلا متعة، ولها مهر المثل، روي عن الأوزاعي والثوري وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل.
والثاني: أن المتعة مستحبة، ولا تجب على أحد، سواء سمى للمرأة، أو لم يسم، دخل بها، أو لم يدخل، وهو قول مالك، والليث بن سعد، والحكم، وابن أبي ليلى.
واختلف العلماء في مقدار المتعة، فنقل عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب: أعلاها خادم، وأدناها كسوة يجوز لها أن تصلي فيها، وروي عن حماد وأبي حنيفة: أنه قدر نصف صداق مثلها. وعن الشافعي وأحمد: أنه قدر يساره وإعساره، فيكون مقدرا باجتهاد الحاكم. ونقل عن أحمد: أن المتعة بقدر ما تجزئ فيه الصلاة من الكسوة، وهو درع وخمار.
قوله تعالى: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ، أي: بقدر الإمكان، والحق: الواجب. وذكر المحسنين والمنافقين ضرب من التأكيد.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٧]
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧)
قوله تعالى: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ، أي: قبل الجماع وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ أي:
(١) الدهر: ٢٤.
212
أوجبتم لهن شيئاً التزمتم به، وهو المهر إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ، يعني: النساء، وعفو المرأة: ترك حقّها من الصّداق. وفي الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ثلاثة أقوال «١» : أحدها: أنه الزّوج، وهو قول عليّ، وجبير بن مطعم، وابن المسيب، وابن جبير، ومجاهد، وشريح، وجابر بن زيد، والضحاك، ومحمد بن كعب القرظي، والربيع بن أنس، وابن شبرمة، والشافعي، وأحمد رضي الله عنهم في آخرين. والثاني: أنه الولي، روي عن ابن عباس، والحسن، وعلقمة، وطاوس، والشعبي، وابراهيم في آخرين. والثالث: أنه أبو البكر، روي عن ابن عباس، والزهري، والسدي في آخرين. فعلى القول الأول عفو الزوج: أن يكمل لها الصداق، وعلى الثاني: عفو الولي: ترك حقها إذا أبت، روي عن ابن عباس، وأبي الشعثاء. وعلى الثالث يكون قوله: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ يختص بالثيبات. وقوله:
(١) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» ١٠/ ١٦٠: اختلف أهل العلم في الذي بيده عقدة النكاح، فظاهر مذهب أحمد رحمه الله. أنه الزوج. وروي ذلك عن عليّ وابن عباس، وجبير بن مطعم رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن المسيب، وشريح، وسعيد بن جبير، ونافع بن جبير، ونافع مولى ابن عمر، ومجاهد وإياس بن معاوية، وجابر بن زيد، وابن سيرين، والشّعبي والثوري، وإسحاق، وأصحاب الرأي. والشافعي في الجديد وعن أحمد أنه الوليّ إذا كان أبا الصغيرة وهو قول الشافعي القديم إذا كان أبا أو جدا وحكي عن ابن عباس وعلقمة والحسن وطاوس والزهري وربيعة ومالك، أنه الوليّ لأن الوليّ بعد الطلاق هو الذي بيده عقدة النكاح، لكونها قد خرجت عن يد الزّوج ولأن الله تعالى ذكر عفو النساء عن نصيبهنّ، فينبغي أن يكون عفو الذي بيده عقدة النكاح عنه، ليكون المعفو عنه في الموضعين واحدا، ولأن الله تعالى بدأ بخطاب الأزواج على المواجهة بقوله وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ثم قال: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وهذا خطاب غير حاضر. ولنا، ما روى أنه الدارقطني بإسناده عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «وليّ العقدة الزوج» ولأن الذي بيده عقدة النكاح بعد العقد هو الزوج فإنه يتمكّن من قطعه وفسخه وإمساكه، وليس إلى الوليّ منه شيء، ولأنّ الله تعالى قال: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى والعفو الذي هو أقرب إلى التّقوى ولأن المهر مال للزوجة، فلا يملك الوليّ هبته وإسقاطه، كغيره من أموالها وحقوقها، كسائر الأولياء، ولا يمتنع العدول عن خطاب الحاضر إلى خطاب الغائب كقوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ. فعلى هذا متى طلق الزّوج قبل الدخول تنصّف المهر بينما إن عفا الزّوج لها عن النّصف الذي له، كمل لها الصّداق جميعه، وإن عفت المرأة عن النّصف الذي لها منه، وتركت له جميع الصداق، جاز إذا كان العافي منهما رشيدا جائزا تصرّفه في ماله، وإن كان صغيرا أو سفيها، لم يصحّ عفوه لأنّه ليس له التّصرّف في ماله بهبة ولا إسقاط. ولا يصحّ عفو الوليّ عن صداق الزّوجة، أبا كان أو غيره، صغيرة كانت أو كبيرة. نصّ عليه أحمد، في رواية الجماعة، وروى عنه ابن منصور: إذا طلّق امرأته وهي بكر قبل أن يدخل بها، فعفا أبوها أو زوجها، ما أرى عفو الأب إلّا جائزا. قال أبو حفص: ما أرى ما نقله ابن منصور إلّا قولا لأبي عبد الله قديما. وظاهر قول أبي حفص أن المسألة رواية واحدة، وأن أبا عبد الله رجع عن قوله بجواز عفو الأب وهو الصحيح، لأن مذهبه أنه لا يجوز للأب إسقاط ديون ولده الصغير ولا إعتاق عبيده، ولا تصرّفه له إلّا بما فيه مصلحته ولا حظّ لها في هذا الإسقاط فلا يصح- وإن قلنا برواية ابن منصور، لم يصحّ إلّا بخمس شرائط: الأول أن يكون أبا لأنّه الذي يلي مالها، ولا يتّهم عليه. والثاني أن تكون صغيرة ليكون وليا على مالها، فإنّ الكبيرة تلي مال نفسها. الثالث أن تكون بكرا لتكون غير مبتذلة، ولأنّه لا يملك تزويج الثيّب وإن كانت صغيرة، فلا تكون ولايته عليها تامة. الرابع، أن تكون مطلقة، لأنها قبل الطلاق معرّضة لإتلاف البضع. الخامس أن تكون قبل الدّخول، لأنّ ما بعده قد أتلف البضع فلا يعفو عن بدل متلف. ومذهب الشافعيّ على نحو هذا إلّا أنّه يجعل الجدّ كالأب.
213
أَوْ يَعْفُوَا، يختص أبا البكر، قاله الزهري، والأول أصح، لأن عقدة النكاح خرجت من يد الولي، فصارت بيد الزوج، والعفو إنما يُطلق على ملك الإِنسان، وعفو الولي عفو عما لا يملك، ولأنه قال:
وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ، والفضل في هبة الإنسان مال نفسه، لا مال غيره. قوله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى، فيه قولان: أحدهما: أنه خطاب للزوجين جميعاً، روي عن ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنه خطاب للزوج وحده، قاله الشعبي، وكان يقرأ: «وأن يعفو» بالياء. قوله تعالى:
وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ، خطاب للزوجين، قال مجاهد: هو إتمام الرجل الصّداق، وترك المرأة شطرها.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٨]
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨)
قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ، المحافظة: المواظبة والمداومة، والصلوات بالألف واللام ينصرف إلى المعهود، والمراد: الصلوات الخمس.
قوله تعالى: وَالصَّلاةِ الْوُسْطى قال الزّجّاج: هذه الواو تنصرف إلى المعهود والمراد الصلوات الخمس إذا جاءت مخصصة، فهي دالة على فضل الذي تخصّصه، كقوله تعالى: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «١» قال سعيد بن المسيب: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، في الصلاة الوسطى هكذا، وشبك بين أصابعه «٢».
ثم فيها خمسة أقوال: أحدها: أنها العصر.
(١٢٣) روى مسلم في أفراده من حديث عليّ رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه قال يوم الأحزاب:
«شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ قبورهم وبيوتهم ناراً».
(١٢٤) وروى ابن مسعود، وسمرة، وعائشة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنها صلاة العصر.
أخرجه البخاري ٢٩٣١ و ٤١١١ و ٤٥٣٣ و ٦٣٩٦ ومسلم ٦٢٧ وأبو داود ٤٠٩ وأحمد ١/ ١٢٢ والدارمي ١/ ٢٨٠ من طريق هشام بن حسّان عن محمد بن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي. وأخرجه مسلم ٦٢٧ ح ٢٠٣ والترمذي ٢٩٨٤ والنسائي ١/ ٣٦ وأحمد ١/ ١٣٥ و ٣٧ و ١٥٣ و ١٥٤ والطبري ٥٤٢٥ و ٥٤٣٢ من طرق عن أبي حسّان عن عبيدة. وأخرجه مسلم ٦٢٧ ح ٢٠٥ وعبد الرزاق ٣١٩٤ وأحمد ١/ ٨١ و ٨٢ و ٨٣ و ١٢٦ و ١٤٦ والطبري ٥٤٢٧ و ٥٤٢٩ والبيهقي ١/ ٤٦٠ و ٢/ ٢٢٠ من طريق الأعمش عن أبي الضحى مسلم بن صبيح عن شتير بن شكل عن علي.
حديث ابن مسعود، أخرجه مسلم ٦٢٨ والترمذي ١٨١ و ٢٩٨٥ والطيالسي ٣٦٦ وأحمد ١/ ٣٩٢ و ٤٠٣ و ٤٠٤ و ٤٥٦ والطبري ٥٤٣٣ والطحاوي ١/ ١٧٤ والبيهقي ١/ ٤٦١ من طريق محمد بن طلحة عن زبيد بن الحارث عن مرة بن شراحيل عن ابن مسعود. قال حبس المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن صلاة العصر حتّى احمرّت الشّمس أو اصفرّت. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر. ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا» أو قال: «حشا الله أجوافهم وقبورهم نارا».
- وحديث سمرة أخرجه الترمذي ٢٩٨٣ وأحمد ٥/ ١٣ و ٢٢ ولفظه «إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: صلاة الوسطى صلاة العصر». قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وحديث عائشة أخرجه مسلم ٦٢٩ وأبو داود ٤١٠ والترمذي ٢٩٨٢ والنسائي ٦٦ وأخرجه مالك ١/ ١٣٨- ١٣٩ وأحمد ٦/ ٧٣ و ١٧٨ والطحاوي في المعاني ١/ ١٧٢ وابن أبي داود في المصاحف ص ٨٤ والبيهقي ١/ ٤٦٢ من طريق زيد بن أسلم به. وأخرجه الطبري ٥٤٧٠ من طريق زيد بن أسلم أنه بلغه عن أبي يونس: عن عائشة. وأخرجه مسلم حدثنا يحيى بن يحيى التميميّ قال قرأت على مالك عن زيد بن أسلم عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس مولى عائشة، أنه قال: «أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا وقالت: إذا بلغت هذه الآية فآذنّي: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة، الآية: ٢٣٨] فلمّا بلغتها آذنتها. فأملت عليّ:
حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى وصلاة العصر. وقوموا لله قانتين قالت عائشة سمعتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
__________
(١) البقرة: ٩٧.
(٢) أخرجه الطبري ٥٤٩٥ عن قتادة عن ابن المسيب، وفيه إرسال بينهما فإن قتادة لم يسمعه من سعيد فهو ضعيف. وقوله «وشبك بين أصابعه»
أي مختلفين كما في رواية الطبري.
214
(١٢٥) وروى مسلم في أفراده من حديث البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر»، فقرأناها ما شاء الله، ثم نسخها الله، فنزلت: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وهذا قول عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن مسعود، وأبيّ، وأبيّ أيوب، وابن عمر في رواية، وسمرة بن جندب، وأبي هريرة، وابن عباس في رواية عطية، وأبي سعيد الخدري، وعائشة في رواية، وحفصة، والحسن، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء في رواية، وطاوس، والضحاك، والنخعي، وعبيد بن عمير، وزرّ بن حبيش، وقتادة، وأبي حنيفة، ومقاتل في آخرين، وهو مذهب أصحابنا.
والثاني: أنها الفجر، روي عن عمر، وعليّ في رواية، وأبي موسى، ومعاذ، وجابر بن عبد الله، وأبي أُمامة، وابن عمر في رواية مجاهد، وزيد بن أسلم، في رواية أبي رجاء العطاردي، وعكرمة، وجابر بن زيد، وأنس بن مالك، وعطاء، وطاوس في رواية ابنه، وعبد الله بن شداد، ومجاهد، ومالك، والشافعي. وروى أبو العالية قال صلّيت مع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الغداة فقلت لهم: أيما الصلاة الوسطى؟ فقالوا: التي صليت قبل. والثالث: أنها الظهر، روي عن ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأسامة بن زيد، وأبي سعيد الخدري، وعائشة في رواية، وروى [عاصم بن ضمرة] «١» عن عليّ عليه السلام قال: هي صلاة الجمعة، وهي سائر الأيام الظهر. والرابع: أنها المغرب، روي عن ابن عباس، وقبيصة بن ذؤيب. والخامس: أنها العشاء الأخيرة، ذكره علي بن أحمد النيسابوري في «تفسيره».
وفي المراد بالوسطى ثلاثة أقوال: أحدها: أنها أوسط الصلوات محلاً. والثاني: أوسطها مقداراً.
والثالث: أفضلها، ووسط الشيء: خيره وأعدله. ومنه قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً «٢»، فان قلنا: إن الوسطى بمعنى: الفضلى، جاز أن يدّعي هذا كل ذي مذهب فيها. وإن قلنا: إنها أوسطها مقداراً، فهي المغرب، لأن أقل المفروضات ركعتان، وأكثرها أربعاً. وإن قلنا: أوسطها محلاً، فللقائلين: إنها العصر أن يقولوا: قبلها صلاتان في النهار، وبعدها صلاتان في الليل، فهي الوسطى.
صحيح. أخرجه مسلم ٦٣٠ والطبري ٥٤٣٧ والحاكم ٢/ ٢٨١ والطحاوي في «المشكل» ٢٠٧١ والبيهقي ١/ ٤٥٩ من حديث البراء بن عازب.
__________
(١) ما بين المعقوفتين في نسخة «الفكر» «أبو ضمرة» وفي نسخة «المكتب» ضمرة وكلاهما خطأ، ليس في الرواة عن علي ضمرة أو أبو ضمرة، وإنما يروي عنه عاصم بن ضمرة.
(٢) البقرة: ١٤٢
215
ومن قال: هي الفجر، فقال عكرمة: هي وسط بين الليل والنهار، وكذلك قال ابن الأنباري: هي وسط بين الليل والنهار، وقال: وسمعت أبا العباس يعني، ثعلباً يقول: النهار عند العرب أوله: طلوع الشمس. قال ابن الأنباري: فعلى هذا صلاة الصبح من صلاة الليل، قال: وقال آخرون: بل هي من صلاة النهار، لأن أول وقتها أول وقت الصوم. قال: والصواب عندنا أن نقول: الليل المحض خاتمته طلوع الفجر، والنهار المحض أوله: طلوع الشمس، والذي بين طلوع الفجر، وطلوع الشمس يجوز أن يسمى نهاراً، ويجوز أن يسمى ليلاً، لما يوجد فيه من الظلمة والضوء، فهذا قول يصح به المذهبان.
قال ابن الأنباري: ومن قال: هي الظهر، قال: هي وسط النهار، فأما من قال: هي المغرب، فاحتج بأن أول صلاة فرضت، الظهر، فصارت المغرب وسطى، ومن قال: هي العشاء، فإنه يقول: هي بين صلاتين لا تقصران. قوله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ، المراد بالقيام هاهنا: القيام في الصلاة، فأما القنوت، فقد شرحناه فيما تقدم. وفي المراد به هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الطاعة، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وابن جبير، والشّعبيّ، وطاوس، والضحاك، وقتادة في آخرين. والثاني: أنه طول القيام في الصلاة، روي عن ابن عمر، والربيع بن أنس، وعن عطاء كالقولين. والثالث: أنه الإمساك عن الكلام في الصلاة.
قال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت: وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٣٩]
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩)
قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا، أي: خفتم عدواً، فصلوا رجالاً، وهو جمع راجل، والركبان جمع راكب، وهذا يدل على تأكيد أمر الصلاة، لأنه أمر بفعلها على كل حال. وقيل: إن هذه الآية أنزلت بعد التي في سورة النساء، لأن الله تعالى وصف لهم صلاة الخوف في قوله: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ «١»، ثم أنزل هذه الآية: فَإِنْ خِفْتُمْ، أي: خوفاً أشد من ذلك، فصلوا عند المسايفة كيف قدرتم. فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية، وبين:
(١٢٧) ما روى ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه صلى يوم الخندق الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بعد ما غاب الشّفق؟ فالجواب:
(١٢٦) صحيح. أخرجه البخاري ٤٥٣٤ ومسلم ٥٣٩ وأبو داود ٩٤٩ والترمذي ٢٩٨٦ و ٥٥٢٤ والنسائي ٣/ ١٨ وابن خزيمة ٨٥٦ وابن حبان ٢٢٤٥ و ٢٢٤٦ و ٢٢٥٠ والطبري ٥٥٢٧ والطبراني ٥٠٦٣ و ٥٠٦٤ والبيهقي ٢/ ٢٤٨ من حديث زيد بن الأرقم.
لم أره من حديث ابن عباس، ولعله سبق قلم، وإنما هو من حديث ابن مسعود. كذا أخرجه الترمذي ١٧٩ والنسائي ١/ ٢٩٧ و ٢/ ١٧ والطيالسي ٣٣٣ وأحمد ١/ ٤٢٣ والبيهقي ١/ ٤٠٣ كلهم من طريق أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: «كنا في غزوة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحبسنا المشركون عن صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فلما انصرف المشركون أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مناديا، فأقام لصلاة الظهر... » الحديث.
إسناده ضعيف، لانقطاعه بين أبي عبيدة وأبيه. قال الترمذي: إسناده ليس به بأس، إلّا أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه. قلت: وليس فيه لفظ بعد ما غربت، وإنما جاءت هذه اللفظة في حديث جابر، لكن في هذا الأخير أن صلاة العصر فقط هي التي فاتته. كذا أخرجه البخاري ٥٩٦ و ٥٩٨ ومسلم ٦٤١ وغيرهما. وكذا ورد لفظ «حتى غربت» في حديث أبي سعيد، وهو الآتي.
- الخلاصة: حديث ابن مسعود ضعيف الإسناد، إلّا أن أصله محفوظ بشاهده الآتي عن أبي سعيد، فهو يشهد له في كونه عليه الصّلاة والسّلام فاتته أربع صلوات، ويعارضه، بأن فيه «قبل نزول الآية».
صحيح. أخرجه الشافعي في «السنن» ١ و «الأم» ١/ ٧٥ وأحمد ٣/ ٦٧- ٦٨ والدارمي ١/ ٣٥٨ والنسائي ٢/ ١٧ وابن حبان ٢٨٩٠ والبيهقي ١/ ٤٠٣ كلهم من حديث أبي سعيد قال: «شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس، وذلك قبل أن ينزل في القتال ما نزل، فأنزل الله عزّ وجلّ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلالا، فأقام لصلاة الظهر... » الحديث. إسناده صحيح على شرط مسلم. وكذا صححه ابن السكن، ووافقه الحافظ في «تلخيص الحبير» ١/ ١٩٥. وقال السيوطي في «شرح سنن النسائي» ٢/ ١٨: قال ابن سيد الناس: هذا إسناد صحيح جليل.
__________
(١) النساء: ١٠٢.
(١٢٨) أن أبا سعيد روى أن ذلك كان قبل نزول قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً، قال أبو بكر الأثرم: فقد بيّن أن ذلك الفعل الذي كان يوم الخندق منسوخ.
قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ، في هذا الذِّكر قولان: أحدهما: أنه الصلاة، فتقديره:

فصلوا كما كنتم تصلون آمنين. والثاني: أنه الثّناء على الله، والحمد له.


[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٠]
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً.
(١٢٩) روى ابن حيان أن هذه الآية نزلت في رجل من أهل الطائف، يقال له: حكيم بن الحارث هاجر إلى المدينة، ومعه أبواه وامرأته، وله أولاد، فمات فرفع ذلك إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، فأعطى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أبويه وأولاده من ميراثه، ولم يعط امرأته شيئا، غير أنه أمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً.
قوله تعالى: وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قرأ أبو عمرو، وحمزة، وابن عامر «وصية» بالنصب، وقرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي «وصية» بالرفع. وعن عاصم كالقراءتين. قال أبو عليّ: من نصب حَمَلَهُ على الفعل، أي: ليوصوا وصية، ومن رفع، فمن وجهين: أحدهما: أن يجعل الوصية مبتدأ، والخبر لأزواجهم. والثاني: أن يضمر له خبراً، تقديره: فعليهم وصية. والمراد منه من قارب الوفاة، فليوص، لأن المتوفى لا يؤمر ولا ينهى. قوله تعالى: مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ، أي: متعوهن إلى الحول، ولا تخرجوهن. والمراد بذلك نفقة السنة وكسوتها وسكناها فَإِنْ خَرَجْنَ أي: من قبل أنفسهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يعني: أولياء الميت فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ يعني التشوف للنّكاح. وفي ماذا رفع الجناح عن الرجال؟ فيه قولان: أحدهما: أنه في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول.
ضعيف. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» ١٥٧ وإسحاق بن راهويه في «تفسيره» كما في «أسباب النزول» للسيوطي ١٧٠ عن مقاتل بن حيان، وهذا معضل، فالخبر واه.
217
والثاني: في ترك منعهن من الخروج، لأنه لم يكن مقامُها الحولَ واجباً عليها، بل كانت مخيّرة في ذلك.
(١٣٠) فصل: ذكر علماء التفسير أن أهل الجاهلية كان إذا مات أحدهم، مكثت زوجته في بيته حولاً، ينفق عليها من ميراثه، فاذا تم الحول، خرجت إلى باب بيتها، ومعها بعرة، فرمت بها كلباً، وخرجت بذلك من عدتها. وكان معنى رميها بالبعرة أنها تقول: مكثي بعد وفاة زوجي أهون عندي من هذه البعرة. ثم جاء الإسلام، فأقرهم على ما كانوا عليه من مكث الحول بهذه الآية، ثم نسخ ذلك بالآية المتقدمة في نظم القرآن على هذه الآية، وهي قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً.
ونسخ الأمر بالوصية لها بما فرض لها من ميراثه «١».
ورد هذا المعنى في حديث مرفوع: «قالت زينب: سمعت أمي أم سلمة تقول جاءت امرأة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عيناها فنكحّلها؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا» مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول: «لا إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول». أخرجه البخاري ٥٣٣٤ ومسلم ١٤٨٦ وأبو داود ٢٢٩٩ والترمذي ١١٩٥ و ١١٩٦ و ١١٩٧ والنسائي ٦/ ٢٠١ والشافعي ٢/ ٦١ والبيهقي ٧/ ٤٣٧ وعبد الرزاق ١٢١٣٠.
__________
(١) قال الطبري في تفسيره ٢/ ٥٩٣ وقرأ آخرون: «وصيّة لأزواجهم» برفع «الوصية» ثم اختلف أهل العربية في وجه رفع «الوصية» فقال بعضهم: رفعت بمعنى: كتبت عليهم الوصية واعتل في ذلك بأنها كذلك في قراءة عبد الله فتأويل الكلام على ما قاله هذا القائل: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، كتبت عليهم وصية لأزواجهم- ثم ترك ذكر «كتبت» ورفعت «الوصية» بذلك المعنى، وإن كان متروكا ذكره. وقال آخرون منهم:
بل «الوصية» مرفوعة بقوله لِأَزْواجِهِمْ فتأوّل: لأزواجهم وصية. والقول الأول أولى بالصواب في ذلك وهو أن تكون «الوصية» إذا رفعت مرفوعة بمعنى: كتب عليكم وصية لأزواجكم. لأن العرب تضمر النكرات مرافعها قبلها إذا أضمرت، فإذا أظهرت بدأت به قبلها، فتقول: جاءني رجل اليوم»، وإذا قالوا: «رجل جاءني اليوم» لم يكادوا يقولونه إلّا والرجل حاضر يشيرون إليه ب «هذا» أو غائب قد علم المخبر عنه خبره، أو كحذف «هذا» وإضماره وإن حذفوه لمعرفة السامع بمعنى المتكلم، كما قال الله تعالى ذكره سُورَةٌ أَنْزَلْناها [النور: ١] وبَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة: ١] فكذلك ذلك في قوله: «وصية لأزواجهم». قال أبو جعفر:
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأه رفعا، لدلالة ظاهر القرآن على أن مقام المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها المتوفّى حولا كاملا، كان حقّا لها قبل نزول قوله: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [البقرة: ٢٣٤] وقبل نزول آية الميراث، ولتظاهر الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنحو الذي دل عليه الظاهر من ذلك، أوصى لهنّ أزواجهنّ بذلك قبل وفاتهن، أو لم يوصوا لهن به. فإن قال قائل: وما الدلالة على ذلك؟ قيل: لمّا قال الله تعالى ذكره وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ وكان الموصي لا شك، إنما يوصي في حياته بما يأمر بإنفاذه بعد وفاته، وكان محالا أن يوصي بعد وفاته وكان تعالى ذكره إنما جعل لامرأة الميت سكن الحول بعد وفاته، علمنا أنه حقّ لها وجب في ماله بغير وصية منه لها، إذ كان الميت مستحيلا أن تكون منه وصية بعد وفاته. ولو كان معنى الكلام على ما تأوله من قال: «فليوص وصية»، لكان التنزيل: والذين تحضرهم الوفاة ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم، كما قال: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ [البقرة: ١٨٠]. وبعد، فلو كان ذلك واجبا لهن بوصية من أزواجهن المتوفين، لم يكن ذلك حقا لهن إذا لم يوص أزواجهن لهن به قبل وفاتهم ولكان قد كان لورثتهم إخراجهنّ قبل الحول، وقد قال الله تعالى ذكره: غَيْرَ إِخْراجٍ ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنه في تأويله قارئه: وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ بمعنى: أنّ الله تعالى كان أمر أزواجهن بالوصية لهنّ.
وإنما تأويل ذلك: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، كتب الله لأزواجهم عليكم وصية منه لهن أيها المؤمنون- أن لا تخرجوهن من منازل أزواجهن حولا كما قال تعالى ذكره في «سورة النساء» غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ [النساء: ١٢] ثم ترك ذكر «كتب الله» اكتفاء بدلالة الكلام عليه، ورفعت «الوصية» بالمعنى الذي قلنا قبل. فإن قال قائل: فهل يجوز نصب الْوَصِيَّةُ على الحال، بمعنى: موصّين لهنّ وصية؟ قيل:
لا، لأن ذلك إنما كان يكون جائزا لو تقدم «الوصية» من الكلام ما يصلح أن تكون الوصية خارجة منه فأما ولم يتقدمه ما يحسن أن تكون منصوبة بخروجها منها فغير جائز نصبها بذلك المعنى.
218

[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤١]

وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١)
قوله تعالى: وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ قد سبق الكلام في المتعة بما فيه كفاية.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٢]
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢)
قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ، أي: كما بيّن الذي تقدم من الأحكام يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي: يثبت لكم وصف العقلاء باستعمال ما بين لكم، وثمرة العقل استعمال الأشياء المستقيمة، ألا ترى إلى قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ «١»، وإنما سموا جهالاً لأنهم آثروا أهواءهم على ما علموا أنه الحق.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٣]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ، معناه: ألم تعلم. قال ابن قتيبة: وهذا على جهة التعجب، كما تقول: ألا ترى إلى ما يصنع فلان؟ قوله تعالى: وَهُمْ أُلُوفٌ فيه قولان:
أحدهما: أن معناه: وهم مؤتلفون، قاله ابن زيد. والثاني: أنه من العدد، وعليه العلماء. واختلفوا في عددهم على سبعة أقوال: أحدها: أنهم كانوا أربعة آلاف. والثاني: أربعين ألفاً، والقولان عن ابن عباس. والثالث: تسعين ألفاً، قاله عطاء بن أبي رباح. والرابع: سبعة آلاف، قاله أبو صالح.
والخامس: ثلاثين ألفاً، قاله أبو مالك. والسادس: بضعة وثلاثين ألفاً، قاله السدي. والسابع: ثمانية آلاف، قاله مقاتل. وفي معنى: حذرهم من الموت، قولان: أحدهما: أنهم فروا من الطاعون، وكان قد نزل بهم، قاله الحسن، والسدي. والثاني: أنهم أمروا بالجهاد، ففروا منه، قاله عكرمة، والضحاك، وعن ابن عباس، كالقولين.
(الإشارة الى قصتهم) روى حصين بن عبد الرحمن عن هلال بن يساف قال: كانت أمَّة من بني إِسرائيل إذا وقع فيهم الوجع، خرج أغنياؤهم، وأقام فقراؤهم، فمات الذين أقاموا، ونجا الذين خرجوا، فقال الأشراف: لو
(١) النساء: ١٧.
أقمنا كما أقام هؤلاء لهلكنا وقال الفقراء: لو ظعنا كما ظعن هؤلاء سلمنا، فأجمع رأيهم في بعض السنين على أن يظعنوا جميعاً، فظعنوا فماتوا، وصاروا عظاماً تبرق، فكنسهم أهل البيوت والطرق عن بيوتهم وطرقهم، فمر بهم نبي من الأنبياء، فقال: يا رب لو شئت أحييتهم، فعبدوك، وولدوا أولاداً يعبدونك ويعمرون بلادك. قال: أو أحب إليك أن أفعل؟ قال: نعم. فقيل له: تكلم بكذا وكذا، فتكلم به، فنظر إلى العظام تخرج من عند العظام التي ليست منها إلى التي هي منها ثم قيل له: تكلم بكذا وكذا فتكلم به فنظر إلى العظام تكسى لحماً وعصباً، ثم قيل له: تكلم بكذا وكذا، فنظر فاذا هم قعود يسبحون الله ويقدسونه. وأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وهذا الحديث يدل على بعد المدة التي مكثوا فيها أمواتاً. وفي بعض الأحاديث: أنهم بقوا أمواتاً سبعة أيام، وقيل: ثمانية أيام. وفي النبي الذي دعا لهم قولان: أحدهما: أنه حزقيل. والثاني: أنه شمعون. فإن قيل كيف أُميت هؤلاء مرتين في الدنيا، وقد قال الله تعالى: إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى «١»، فالجواب أن موتهم بالعقوبة لم يفن أعمارهم، فكان كقوله تعالى: وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها «٢»، وقيل: كان إحياؤهم آية من آيات نبيهم، وآيات الأنبياء نوادر لا يقاس عليها، فيكون تقدير قوله تعالى: إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى التي ليست من آيات الأنبياء، ولا لأمر نادر. وفي هذه القصة احتجاج على اليهود إذ أخبرهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأمر لم يشاهدوه، وهم يعلمون صحته واحتجاج على المنكرين للبعث، فدلهم عليه بإحياء الموتى في الدنيا، ذكر ذلك جميعه ابن الأنباري.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ، نبّه عزّ وجلّ بذكر فضله على هؤلاء على فضله على سائر خلقه مع قلّة شكرهم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٤]
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤)
قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ في المخاطَبين بهذا قولان: أحدهما: أنهم الذين أماتهم الله، ثم أحياهم، قاله الضحّاك. والثاني: أنه خطاب لأمّة محمد صلّى الله عليه وسلّم، فمعناه: لا تهربوا من الموت كما هرب هؤلاء، فما ينفعكم الهرب وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بما تنطوي عليه ضمائركم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٥]
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥)
قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ، قال الزجاج: أصل القرض ما يعطيه الرجل أو يفعله ليجازى عليه، وأصله في اللغة القطع، ومنه أخذ المقراض. فمعنى أقرضته: قطعت له قطعة يجازيني عليها. فإن قيل: فما وجه تسمية الصدقة قرضاً؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن القرض يبدل بالجزاء. والثاني: لأنه يتأخر قضاؤه إلى يوم القيامة. والثالث: لتأكيد استحقاق الثواب به، إذ لا يكون قرض إلا والعوض مستحق به. فأما اليهود فإنهم جهلوا هذا، فقالوا: أيستقرض الله منا؟ وأما المسلمون فوثقوا بوعد الله، وبادروا إلى معاملته. قال ابن مسعود:
(١) الدخان: ٥٦.
(٢) الزمر: ٤٢.
220
(١٣١) لما نزلت هذه الآية، قال أبو الدحداح: وإن الله تعالى ليريد منا القرض؟ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:
«نعم». قال: أرني يدك. قال: إني أقرضت ربي حائطي، قال: وحائطه فيه ستمائة نخلة، ثم جاء إلى الحائط، فقال: يا أم الدحداح اخرجي من الحائط، فقد أقرضته ربي.
وفي بعض الألفاظ: فعمدت إلى صبيانها تخرج ما في أفواههم، وتنفض ما في أكمامهم، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كم من عذق «١» رداح في الجنة لأبي الدحداح».
وفي معنى القرض الحسن ستة أقوال: أحدها: أنه الخالص لله، قاله الضحاك. والثاني: أن يخرج عن طيب نفس، قاله مقاتل. والثالث: أن يكون حلالا، قاله ابن المبارك. والرابع: أن يحتسب عند الله ثوابه. والخامس: أن لا يتبعه منّا ولا أذى. والسادس: أن يكون من خيار المال. قوله تعالى:
فَيُضاعِفَهُ لَهُ قرأ أبو عمرو فيضاعفه بألف مع رفع الفاء، وكذلك في جميع القرآن، إلا في الأحزاب «يضعف لها العذاب ضعفين»، وقرأ نافع، وحمزة، والكسائيّ، جميع ذلك بالألف مع رفع الفاء، وقرأ ابن كثير (فيضعفه) برفع الفاء من غير ألف في جميع القرآن، وقرأ ابن عامر (فيضعفه) بغير ألف مشددة في جميع القرآن، ووافقه عاصم على نصب الفاء في «فيضاعفه» إلا أنه أثبت الألف في جميع القرآن.
قال أبو عليّ: للرفع وجهان: أحدهما: أن يعطفه على ما في الصّلة، وهو يقرض. والثاني: أن يستأنفه. ومن نصب حمل الكلام على المعنى، لأن المعنى: أيكون قرض؟ فحمل عليه «فيضاعفه»، وقال: معنى ضاعف وضعّف واحد، والمضاعفة: الزّيادة على الشيء حتى يصير مثلين أو أكثر. وفي الأضعاف الكثيرة قولان:
أحدهما: أنها لا يحصى عددها، قاله ابن عباس والسّدّيّ.
حسن. أخرجه أبو يعلى ٤٩٨٦ والبزار ٩٤٤ «كشف» والطبري ٥٦٢٣ والطبراني ٢٢/ ٣٠١ والبيهقي في «الشعب» ٣٤٥٢ كلهم من طريق حميد بن عطاء الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود به. وإسناده ضعيف لضعف حميد بن عطاء. وقال الهيثمي في «المجمع» ٣/ ١١٤: فيه حميد بن عطاء وهو ضعيف.
- وله شاهد من مرسل زيد بن أسلم: أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» ٣٠٧ والطبري ٥٦٢١ من طريقه عن معمر به، وهذا مرسل صحيح، ليس له علة إلّا الإرسال، لكن يصلح شاهدا لما قبله. ووصله ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» ١/ ٢٩٩ من وجه آخر عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر. وإسناده واه لأجل عبد الرحمن. وهو عند الطبراني في «الأوسط» ١٨٨٧ من طريق عبد الرحمن، وعنه إسماعيل بن قيس الأنصاري، وهو متروك.
- وله شاهد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري ٥٦٢٢ مختصرا، ولم يسم الصحابي.
- وله شاهد صحيح من حديث أنس: أخرجه أحمد ٣/ ٤٦ وابن حبان ٧١٥٩. وإسناده صحيح على شرط مسلم. وليس فيه ذكر الآية. وأصله عند مسلم ٩٦٥ من حديث جابر بن سمرة، وليس فيه ذكر القصة.
- الخلاصة: حديث الباب حسن بشاهده المرسل. وأما أصله وهو بشارة أبي الدحداح من النبي صلّى الله عليه وسلّم وكذا قصته مع امرأته فصحيح.
لم أقف على هذا اللفظ، وهو منكر، والأشبه أنه موضوع إذ لا يستدعي الأمر إخراج ما في فم الأولاد الصغار، وبكل حال لم أقف له على إسناد، وهذا ما يعبر عنه أهل الحديث بقولهم: ليس له أصل.
- والمحفوظ ما قبله.
__________
(١) في «القاموس» العذق: النخلة بحملها، وبالكسر «العذق» القنو منها. ورداح: ثقيل.
221
(١٣٣) وروى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة أنه قال: إن الله يكتب للمؤمن بالحسنة الواحدة ألفي ألف حسنة. وقرأ هذه الآية، ثم قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله يضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة».
والثاني: أنها معلومة المقدار، فالدرهم بسبعمائة، كما ذكر في الآية بعدها، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي «يبسط» و «بسطة» بالسين، وقرأهما نافع بالصاد.
وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: أن معناه: يقتر على من يشاء في الرزق، ويبسطه على من يشاء، قاله ابن عباس، والحسن، وابن زيد ومقاتل. والثاني: يقبض يد من يشاء عن الإنفاق في سبيله، ويبسط يد من يشاء بالإنفاق، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ في آخرين.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٦]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ، قال الفراء: الملأ: الرجال في كل القرآن لا يكون فيهم امرأة، وكذلك القوم والنفر والرهط، وقال الزجاج: الملأ: هم الوجوه، وذوو الرأي، وإنما سمّوا ملأً، لأنهم مليئون بما يحتاج إليه منهم.
وفي نبيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه شمويل، قاله ابن عباس، ووهب. والثاني: أنه يوشع بن نون، قاله قتادة. والثالث: أنه نبي، يقال له: سمعون بالسين المهملة، سمته أمه بذلك، لأنها دعت الله أن يرزقها غلاماً، فسُمِع دعاؤها فيه، هذا قول السدي. وسبب سؤالهم ملكاً أن عدوهم غلب عليهم.
قوله تعالى: نُقاتِلْ قراءة الجمهور بالنون والجزم، وقرأ ابن أبي عبلة بالياء والرفع، كناية عن الملك. قوله تعالى: هَلْ عَسَيْتُمْ، قراءة الجمهور بفتح السين، وقرأ نافع بكسرها هاهنا، وفي سورة «محمد» وهي لغتان. قوله تعالى: إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ، أي فرض أَلَّا تُقاتِلُوا أي:
لعلكم تجبنون. قوله تعالى: وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا، يعنون: أُخرج بعضنا، وهم الذين سبوا منهم وقهروا. فظاهره العموم، ومعناه الخصوص. قوله تعالى: تُوَلُّوا، أي: أعرضوا عن الجهاد. إِلَّا قَلِيلًا وهم الذين عبروا النّهر، وسيأتي ذكرهم.
ذكره المصنف موقوفا، وورد مرفوعا، وهو ضعيف. أخرجه أحمد ٢/ ٢٩٦- ٥٢١- ٥٢٢ من طريق علي بن زيد عن أبي عثمان النهدي عن أبي هريرة مرفوعا. وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد. وضعفه الحافظ ابن كثير ١/ ٢٩٩ بقوله: غريب، وعلي بن زيد عنده مناكير. قلت: جزم الحافظ في «التقريب» بضعفه. ومع ذلك قال الهيثمي ١٠/ ١٤٤: رواه أحمد بإسنادين، واحد إسناديه جيد؟!!!. مع أن فيه ابن زيد. وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» ١/ ٢٩٩ من وجه آخر عن زياد الجصاص عن أبي عثمان به. وإسناده واه، زياد هو ابن أبي زياد، متروك الحديث. والراجح فيه الوقف. وانظر «فتح القدير» ٣٩١ بتخريجنا.

[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٧]

وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧)
قوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً، ذكر أهل التفسير أن نبي بني إسرائيل سأل الله أن يبعث لهم ملكاً، فأتى بعصا وقرن فيه دهن، وقيل له: إن صاحبكم الذي يكون ملكاً يكون طوله طول هذه العصا، ومتى دخل عليك رجل فنشق الدهن، فهو الملك، فادهن به رأسه، وملكه على بني إسرائيل فقاس القوم أنفسهم بالعصا، فلم يكونوا على مقدارها. قال عكرمة، والسدي: كان طالوت سقاءً يسقي على حمار له، فضلَّ حماره، فخرج يطلبه. وقال وهب: بل كان دباغاً يعمل الأدم، فضلّت حمر لأبيه فأرسله مع غلام له في طلبها، فمرا ببيت شمويل النبي فدخلا ليسألاه عن ضالتهما، فنشق الدهن، فقام شمويل، فقاس طالوت بالعصا، وكان على مقدارها، فدهنه، ثم قال له: أنت ملك بني إسرائيل، فقال طالوت: أما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل، وبيتي أدنى بيوتهم؟ قال: بلى، قال: فبأية آية؟ قال: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره، فكان كما قال.
قال الزجاج: طالوت، وجالوت، وداود تنصرف، لأنها أسماء أعجمية، وهي معارف، فاجتمع فيها التعريف والعجمة.
ومعنى قوله تعالى: أَنَّى يَكُونُ من أي جهة يكون له الملك علينا. قال ابن عباس: إنما قالوا ذلك لأنه كان في بني إسرائيل سبطان، في أحدهما النبوة، وفي الآخر الملك، فلم يكن هو من أحد السبطين. قال قتادة: كانت النبوة في سبط لاوي، والملك في سبط يهوذا.
قوله تعالى: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ، أي: لم يؤت ما يتملّك به الملوك. قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ، أي: اختاره، وهو «افتعل» من الصّفوة. والبسطة: السّعة، قال ابن قتيبة: هو من قولك: بسطت الشيء: إِذا كان مجموعاً، ففتحته، ووسعته. قال ابن عباس: كان طالوت أعلم بني إسرائيل بالحرب، وكان يفوق الناس بمنكبيه وعنقه ورأسه. وهل كانت هذه الزيادة قبل الملك، أم أحدثت له بعد؟ فيه قولان: أحدهما: قبل الملك، قاله وهب، والسدي. والثاني: بعد الملك، قاله ابن زيد. والمراد بتعظيم الجسم، فضل القوة، إذ العادة أن من كان أعظم جسماً، كان أكثر قوة. والواسع:
الغنيّ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٨]
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨)
قوله تعالى: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ، الآية: العلامة، فمعناه: علامة تمليك الله إياه أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ وهذا من مجاز الكلام، لأن التابوت يؤتى به، ولا يأتي، ومثله: فَإِذا عَزَمَ
223
الْأَمْرُ
«١»، وإنما جاز مثل هذا، لزوال اللبس فيه، كما بينا في قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ «٢».
وروي عن ابن مسعود، وابن عباس: أنهم قالوا لنبيهم: إن كنت صادقاً فأتنا بآية تدل على أنه ملك، فقال لهم ذلك. وقال وهب: خيّرهم، أي آية يريدون؟ فقالوا: أن يردَّ علينا التابوت. قال ابن عباس:
كان التابوت من عود الشمشار عليه صفائح الذهب، وكان يكون مع الأنبياء إذا حضروا قتالاً، قدموه بين أيديهم يستنصرون به، وفيه السكينة. وقال وهب بن منبه: كان نحواً من ثلاث أذرع في ذراعين. قال مقاتل: فلما تفرقت بنو إسرائيل، وعصوا الأنبياء، سلط الله عليهم عدوهم، فغلبوهم عليه.
وفي السكينة سبعة أقوال «٣» : أحدها: أنها ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان، رواه أبو الأحوص عن عليّ رضي الله عنه. والثاني: أنها دابة بمقدار الهرّ، لها عينان لهما شعاع، وكانوا إذا التقى الجمعان، أخرجت يدها، ونظرت إليهم، فيهزم الجيش من الرعب. رواه الضحاك عن ابن عباس.
وقال مجاهد: السكينة لها رأس كرأس الهرّة وذنب كذنب الهرّة، وجناحان. والثالث: أنها طست من ذهب تغسل فيه قلوب الأنبياء، رواه أبو مالك عن ابن عباس. والرابع: أنها روح من الله تعالى تتكلّم، كانوا إذا اختلفوا في شيء، كلّمهم وأخبرهم ببيان ما يريدون، رواه عبد الصمد بن معقل عن وهب بن منبه. والخامس: أن السكينة ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليها، رواه ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح، وذهب إلى نحوه الزجاج، فقال: السكينة: من السكون، فمعناه: فيه ما تسكنون إليه إذا أتاكم.
والسادس: أن السّكينة معناها هاهنا: الوقار، رواه معمر عن قتادة. والسابع: أن السكينة: الرحمة، قاله الربيع بن أنس.
وفي البقية تسعة أقوال: أحدها: أنها رضاض «٤» الألواح التي تكسرت حين ألقاها موسى وعصاه، قاله ابن عباس، وقتادة، والسدي. والثاني: أنها رضاض الألواح، قاله عكرمة، ولم يذكر العصا.
وقيل: إنما اتخذ موسى التابوت ليجمع رضاض الألواح فيه. والثالث: أنها عصا موسى، والسكينة، قاله وهب. والرابع: عصا موسى، وعصا هارون، وثيابهما، ولوحان من التوراة، والمنُّ، قاله أبو
(١) محمد: ٢١. [.....]
(٢) البقرة: ١٦.
(٣) قال الإمام الشوكاني رحمه الله في «فتح القدير» ١/ ٣٠٦ بعد أن ذكر هذه الأقوال: هذه التفاسير المتناقضة لعلها وصلت إلى هؤلاء الأعلام من جهة اليهود أقمأهم الله، فجاؤوا بهذه الأمور لقصد التلاعب بالمسلمين رضي الله عنهم والتشكيك عليهم، وانظر إلى جعلهم لها تارة حيوانا وتارة جمادا وتارة شيئا لا يعقل، كقول مجاهد:
كهيئة الريح لها وجه كوجه الهرّ، وجناحان وذنب مثل ذنب الهر. وهكذا كل منقول عن بني إسرائيل يتناقض ويشتمل على ما لا يعقل في الغالب، ولا يصح أن يكون مثل هذه التفاسير المتناقضة مرويا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا رأيا رآه قائله، فهم أجلّ قدرا في التفسير بالرأي وبما لا مجال للاجتهاد فيه. إذا تقرر لك هذا عرفت أن الواجب الرجوع في مثل ذلك إلى معنى السكينة لغة وهو معروف ولا حاجة إلى ركوب هذه الأمور المتعسفة المتناقضة، فقد جعل الله عنها سعة، ولو ثبت لنا في السكينة تفسير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لوجب علينا المصير إليه والقول به، ولكنه لم يثبت من وجه صحيح بل ثبت أنها تنزلت على بعض الصحابة عند تلاوة القرآن كما في صحيح مسلم عن البراء، قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف وعنده فرس مربوط فتغشته سحابة فجعلت تدور وتدنو، وجعل فرسه ينفر منها: فلما أصبح أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له فقال: «تلك السكينة نزلت للقرآن».
(٤) في «اللسان» رضاض الشيء: فتاته وكل شيء كسّرته فقد رضرضته.
224
صالح. والخامس: أن البقية، العلم والتوراة، قاله مجاهد، وعطاء بن رباح. والسادس: أنها رضاض الألواح، وقفيز «١» من مَنٍّ في طست من ذهب، وعصا موسى وعمامته، قاله مقاتل. والسابع: أنها قفيز من مَنٍّ ورضاض الألواح، حكاه سفيان الثوري عن بعض العلماء. والثامن: أنها عصا موسى والنعلان:
ذكره الثوري أيضاً عن بعض أهل العلم. والتاسع: أن المراد بالبقية: الجهاد في سبيل الله، وبذلك أمروا، قاله الضحاك.
والمراد بآل موسى وآل هارون: موسى وهارون. وأنشد أبو عبيدة:
ولا تبك ميتاً بعد ميت أحبة عليّ وعباس وآل أبي بكر
يريد: أبا بكر نفسه.
قوله تعالى: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ قرأ الجمهور «تحمله» بالتاء، وقرأ الحسن ومجاهد والأعمش بالياء. وفي المكان الذي حملته منه الملائكة إليهم قولان: أحدهما: أنه كان مرفوعاً مع الملائكة بين السماء والأرض، منذ خرج عن بني إسرائيل، قاله الحسن. والثاني: أنه كان في الأرض. وفي أي مكان كان؟ فيه قولان: أحدهما: أنه كان في أيدي العمالقة قد دفنوه، قال ابن عباس: أخذ التابوت قوم جالوت، فذفنوه في متبرز لهم، فأخذهم الباسور فهلكوا، ثم أخذه أهل مدينة أخرى، فأخذهم بلاء، فهلكوا، ثم أخذه غيرهم كذلك، حتى هلكت خمس مدائن، فأخرجوه على بقرتين، ووجهوهما إلى بني إسرائيل، فساقتهما الملائكة. والثاني: أنه كان في برية التيه، خلّفه فيها يوشع، ولم يعلموا بمكانه حتى جاءت به الملائكة، قاله قتادة.
وفي كيفية مجيء الملائكة به قولان: أحدهما: أنها جاءت به بأنفسها، قال وهب: قالوا لنبيهم:
اجعل لنا وقتاً يأتينا فيه، فقال: الصبح، فلم يناموا ليلتهم، ووافت به الملائكة مع الفجر، فسمعوا حفيف الملائكة تحمله بين السماء والأرض. والثاني: أن الملائكة جاءت به على عجلة وثورين، ذكر عن وهب أيضاً. فعلى القول الأول: يكون معنى تحمله: تقله، وعلى الثاني: يكون معنى حملها إياه:
تسببها في حمله.
قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ، أي: علامة تدل على تمليك طالوت. قال المفسرون: فلما جاءهم التابوت وأقروا له بالملك، تأهب للخروج، فأسرعوا في طاعته، وخرجوا معه، فذلك قوله تعالى:
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٤٩]
فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩)
قوله تعالى: فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ، أي: خرج وشخص. وفي عدد من خرج معه ثلاثة أقوال:
(١) في «اللسان» القفيز: من المكاييل، معروف، وهو ثمانية مكاكيك عند أهل العراق.
أحدها: سبعون ألفاً، قاله ابن عباس. والثاني: ثمانون ألفاً، قاله عكرمة والسدي. والثالث: مائة ألف، قاله مقاتل. قال: وساروا في حر شديد، فابتلاهم الله بالنهر. والابتلاء: الاختبار. وفي النهر لغتان:
إحداهما: تحريك الهاء، وهي قراءة الجمهور. والثانية: تسكينها، وبها قرأ الحسن ومجاهد. وفي هذا النهر قولان: أحدهما: أنه نهر فلسطين، قاله ابن عباس والسدي. والثاني: نهر بين الأردن وفلسطين، قاله عكرمة، وقتادة، والربيع بن أنس.
ووجه الحكمة في ابتلائهم أن يعلم طالوت من له نية في القتال منهم، ومن ليس له نيّة.
وقوله تعالى: فَلَيْسَ مِنِّي أي ليس من أصحابي. قوله تعالى: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو: «غَرفة» بفتح الغين، وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي بضمها، قال الزجاج: من فتح الغين أراد المرة الواحدة باليد، ومن ضمها أراد ملء اليد. وزعم مقاتل أن الغرفة كان يشرب منها الرجل ودابته وخدمه ويملأ قربته. وقال بعض المفسرين: لم يرد به غرفة الكف، وإنما أراد المرة الواحدة بقربة أو جرة أو ما أشبه ذلك. وفي عدد القليل الذين لم يشربوا إلا غرفة قولان:
أحدهما: أنهم أربعة آلاف، قاله عكرمة والسدي. والثاني: ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، وهو الصحيح، لما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لأصحابه يوم بدر:
(١٣٤) «أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقاء جالوت»، وكانوا يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر.
قوله تعالى: لا طاقَةَ لَنَا، أي: لا قوّة لنا، قال الزجّاج: أطقت الشيء، إطاقة وطاقة، وطوقاً، مثل قولك: أطعته إطاعة وطاعة وطوعاً. واختلفوا في القائلين لهذا على ثلاثة أقوال: أحدها:
أنهم الذين شربوا أكثر من غرفة، فإنهم انصرفوا ولم يشهدوا، وكانوا أهل شك ونفاق، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: أنهم الذين قلت بصائرهم من المؤمنين، قاله الحسن، وقتادة، وابن زيد. والثالث:
أنه قول الذين جاوزوا معه، وإنما قال ذلك بعضهم لبعض، لما رأوا من قلتهم، وهذا اختيار الزجاج.
قوله تعالى: قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ في هذا الظن قولان: أحدهما: أنه بمعنى اليقين، قاله السدي في آخرين. والثاني: أنه الظن الذي هو التردد، فان القوم توهموا لقلة عددهم أنهم سيقتلون فيلقون الله، قاله الزجاج في آخرين. وفي الظانين هذا الظن قولان: أحدهما: أنهم الثلاثمائة والثلاثة عشر، قالوا للراجعين: كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة، قاله السدي. والثاني: أنهم أُولو العزم والفضل من الثلاثمائة والثلاثة عشر. والفئة: الفرقة، قال الزجاج: وإنما قيل لهم: فئة من قولهم: فأوت رأسه بالعصا، وفأيته: إذا شققته. قوله تعالى: بِإِذْنِ اللَّهِ، قال الحسن: بنصر الله. قوله تعالى: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ: أي بالنصر والإعانة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٠]
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠)
(١٣٤) أخرجه الطبري ٥٧٣٢ عن قتادة مرسلا. وورد عن البراء بن عازب قال «كنا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ولم يجاوز معه إلّا مؤمن بضعة عشر وثلاثمائة». أخرجه البخاري ٣٩٥٨ وهذا هو الصواب، كونه موقوفا.
قوله تعالى: وَلَمَّا بَرَزُوا، أي: صاروا بالبراز من الأرض، وهو ما ظهر واستوى. وأَفْرِغْ بمعنى: اصبب وَثَبِّتْ أَقْدامَنا أي: قوِّ قلوبنا لتثبيت أقدامنا، وإنما تثبت الأقدام عند قوة القلوب. قال مقاتل: كان جالوت وجنوده يعبدون الأوثان.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥١]
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١)
قوله تعالى: فَهَزَمُوهُمْ أي: كسروهم وردوهم، قال الزجاج: أصل الهزم في اللغة: كسر الشيء، وثني بعضه على بعض، يقال: سقاء منهزم ومهزم إذا كان بعضه قد ثني على بعض مع جفاف، وقصب منهزم: قد كسر وشقق، والعرب تقول: هزمت على زيد، أي: عطفت عليه. قال الشاعر:
هزمت عليك اليوم يا ابنة مالك فجودي علينا بالنوال وأنعمي
ويقال: سمعت هزمة الرعد، قال الأصمعي: كأنه صوت فيه تشقق.
وداود: هو نبي الله أبو سليمان، وهو اسم أعجمي، وقيل: إن إخوة داود كانوا مع طالوت، فمضى داود لينظر إليهم، فنادته أحجار: خذني، فأخذها، وجاء إلى طالوت، فقال: ما لي إن قتلت جالوت؟ قال: ثلث ملكي، وأنكحك ابنتي، فقتل جالوت.
قوله تعالى: وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، يعني: آتى داود ملك طالوت. وفي المراد ب «الحكمة» هاهنا قولان: أحدهما: أنها النبوَّة، قاله ابن عباس. والثاني: الزبور، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ، فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها صنعة الدروع. والثاني:
الزبور. والثالث: منطق الطير. قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ قرأ الجمهور دَفْعُ بغير ألف هاهنا، وفي «الحج» «إن الله يدفع»، وقرأ نافع، ويعقوب، وأبان (ولولا دفاع الله).
قال أبو علي: المعنيان متقاربان، قال الشاعر «١» :
ولقد حَرصتُ بأن أدافع عنهمُ فاذا المنية أقبلت لا تدفع
وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: أن معناه: لولا أن الله يدفع بمن أطاعه عن من عصاه، كما دفع عن المتخلفين عن طالوت بمن أطاعه، لهلك العُصاة بسرعة العقوبة، قاله مجاهد.
والثاني: أن معناه، لولا دفع الله المشركين بالمسلمين، لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المسلمين، وخربوا المساجد، قاله مقاتل. ومعنى: لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ: لهلك أهلها.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٢]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢)
قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ، أي: نقص عليك من أخبار المتقدمين.
وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ حُكمُك حكمهم، فمن صدقك، فسبيله سبيل من صدقهم، ومن عصاك، فسبيله سبيل من عصاهم.
(١) هو أبو ذؤيب الهذلي.

[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٣]

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣)
قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ، يعني: موسى عليه السلام. وقرأ أبو المتوكل، وأبو نهيك «١»، وابن السّميفع: «منهم من كالم الله» بألف خفيفة اللام، ونصب اسم «الله».
وفي المراد بقوله: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ قولان: أحدهما: عنى بالمرفوع درجات، محمّدا عليه السلام، فإنه بعث إلى الناس كافة، وغيره بعث إلى أمته خاصة، هذا قول مجاهد. والثاني: أنه عنى تفضيل بعضهم على بعض فيما آتاه الله، هذا قول مقاتل. قال ابن جرير الطبري: والدرجات:
جمع درجة، وهي المرتبة، وأصل ذلك: مراقي السلَّم ودَرجه، ثم يستعمل في ارتفاع المنازل والمراتب. وقد تقدم تفسير «البينات» و «روح القدس».
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ، أي: من بعد الأنبياء. وقال قتادة: من بعد موسى وعيسى. قال مقاتل: وكان بينهما ألف نبي.
قوله تعالى: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا يعني: الأمم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ، هذه الآية تحث على الصدقات، والإنفاق في وجوه الطاعات. وقال الحسن: أراد الزكاة المفروضة.
قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ، يعني: يوم القيامة لا بَيْعٌ فِيهِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو:
(لا بيعَ فيه ولا خلةَ ولا شفاعةَ) بالنصب من غير تنوين، ومثله في «إبراهيم» :«لا بيعَ فيه»، وفي الطور: «لا لغوَ فيها ولا تأثيمَ»، وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، جميع ذلك بالرفع والتنوين. قال ابن عباس: لا فدية فيه، وقيل: إنما ذكر لفظ البيع لما فيه من المعاوضة، وأخذ البدل. والخلة: الصداقة. وقيل: إنما نفى هذه الأشياء، لأنه عنى عن الكافرين، وهذه الأشياء لا تنفعهم، ولهذا قال: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٥]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥)
(١) هو عثمان بن نهيك، تابعي ثقة.
228
قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.
(١٣٥) روى مسلم في «صحيحه» عن أبيّ بن كعب، أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال له: «يا أبا المنذر! أتدري أي آية من كتاب الله أعظم؟» قال: قلت: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، قال: فضرب في صدري! قال: «ليهنك العلم يا أبا المنذر».
قال أبو عبيدة: القيوم: الذي لا يزول، لاستقامة وصفه بالوجود، حتى لا يجوز عليه التغيير بوجه من الوجوه. وقال الزجاج: القيوم: القائم بتدبير أمر الخلق. وقال الخطابي: القيوم: هو القائم الدائم بلا زوال، وزنه: «فيعول» من القيام، وهو نعت للمبالغة للقيام على الشيء، ويقال: هو القائم على كل شيء بالرعاية، يقال: قمت بالشيء: إذا وليته بالرعاية والمصلحة. وفي «القيوم» ثلاث لغات: القيّوم، وبه قرأ الجمهور، والقيّام، وبه قرأ عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وابن أبي عبلة، والأعمش.
و «القيّم»، وبه قرأ أبو رزين، وعلقمة. وذكر ابن الأنباري أنه كذلك في مصحف ابن مسعود، قال:
وأصل القيوم: القيووم. فلما اجتمعت الياء والواو والسابق ساكن، جعلتا ياء مشددة. وأصل القيام:
القوام، قال الفراء: وأهل الحجاز يصرفون الفعال إلى الفيعال، فيقولون للصواغ: صياغ.
فأما «السِنَة» فهي: النعاس من غير نوم، ومنه: الوسنان. قال ابن الرقاع:
وكأنها بين النساء أعارها عينيه أحور من جآذر جاسم
وسنان أقصده النعاس فرنَّقت في عينه سنة وليس بنائم «١»
قوله تعالى: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ، قال بعض العلماء: إنما لم يقل: والأرضين، لأنه قد سبق ذكر الجمع في السماوات، فاستغنى بذلك عن إعادته، ومثله: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ولم يقل: والأنوار. قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فيه رد على من قال: ما نعبُدُهم إلا لِيُقَرِّبونا إِلى الله زُلْفى. قوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، ظاهر الكلام يقتضي الإشارة إلى جميع الخلق، وقال مقاتل: المراد بهم الملائكة. وفي المراد ب ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: أن الذي بين أيديهم أمر الآخرة، والذي خلفهم أمر الدنيا، روي عن ابن عباس، وقتادة. والثاني: أن الذي بين أيديهم الدنيا، والذي خلفهم الآخرة، قاله السدي عن أشياخه، ومجاهد، وابن جريج، والحكم بن عتيبة. والثالث: ما بين أيديهم: ما قبل خلقهم، وما خلفهم: ما بعد خلقهم، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ، قال الليث: يقال لكل من أحرز شيئاً، أو بلغ علمه أقصاه: قد أحاط به. والمراد بالعلم هاهنا المعلوم. وَسِعَ كُرْسِيُّهُ، أي: احتمل وأطاق. وفي المراد بالكرسي ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كرسي فوق السماء السابعة دون العرش.
صحيح. أخرجه مسلم ٨١٠ وأبو داود ١٤٦٠ وأحمد ٥/ ٥٨. وانظر «تفسير الشوكاني» ٤٠٣ بتخريجنا.
__________
(١) في «اللسان» الحور شدة سواد المقلة في شدة بياضها، في شدة بياض الجسد. والجآذر: جمع الجؤذر وهو ولد البقر، وفي «الصحاح» : البقرة الوحشية. رنّق النوم في عينه: خالطها.
229
(١٣٦) قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما السّماوات السبع في الكرسي إِلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة». وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء. والثاني: أن المراد بالكرسي علم الله تعالى، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والثالث: أن الكرسي هو العرش، قاله الحسن.
قوله تعالى: وَلا يَؤُدُهُ، أي: لا يثقله، يقال: آده الشيء يؤوده أوداً وإِياداً. والأود: الثقل، وهذا قول ابن عباس، وقتادة، والجماعة. والعلي: العالي القاهر، «فعيل» بمعنى «فاعل» قال الخطابي:
وقد يكون من العلو الذي هو مصدر: علا يعلو، فهو عال كقوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «١»، ويكون ذلك من علاء المجد والشرف، يقال منه: علي يعلى علاءً. ومعنى العظيم:
ذو العظمة والجلال، والعظم في حقه تعالى منصرف إلى عظم الشأن، وجلالة القدر، دون العظم الذي هو من نعوت الأجسام.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٦]
لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦)
قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ، في سبب نزولها أربعة أقوال:
(١٣٧) أحدها: أن المرأة من نساء الأنصار كانت في الجاهلية إذا لم يعش لها ولد، تحلف: لئن
حسن بشواهده، ورد مرفوعا من وجوه، فقد أخرجه الطبري ٥٧٩٥ وأبو الشيخ في «العظمة» ٢٢٢ كلاهما عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه مرسلا، ومع إرساله، فإن ابن زيد واه. قاله الذهبي في «العلو» ص ٩١ اه. وقد أخرجه ابن حبان ٣٦١ وأبو نعيم في «الحلية» ١/ ١٦٦ وأبو الشيخ في «العظمة» ٢٦١ والبيهقي في «الأسماء والصفات» ٨٦٢ من طريق إبراهيم بن هشام الغساني بسنده عن أبي ذر، والغساني هذا ضعيف جدا، وقال الذهبي: متروك وكذبه أبو حاتم وأبو زرعة. لكن تابعه يحيى بن سعيد القرشي السعدي عند ابن عدي ٧/ ٢٦٩٩ وأبي الشيخ في «العظمة» ٢٠٨ وأبي نعيم ١/ ١٦٨ والطبراني ٥٧٩٥ والبيهقي ٩/ ٤ وفي الأسماء والصفات ٨٦١ من حديث أبي ذر. ويحيى القرشي هذا ضعيف، جرحه ابن حبان وقال ابن عدي: هذا حديث منكر من هذا الطريق. وأخرجه أبو الشيخ في «العظمة» ٢٥٤ عن إسماعيل من عياش بسنده عن أبي ذر، به، وإسماعيل ضعيف في روايته عن غير الشاميين، وشيخه هاهنا حجازي، وفي الإسناد انقطاع. وأخرجه ابن أبي شيبة في «العرش» ٥٨ من وجه آخر من حديث أبي ذر، وفي إسناده إسماعيل بن مسلم وهو المكي، وهو ضعيف. وتابعه عليه القاسم بن محمد المصري عند ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» ١/ ٣١٧ والقاسم ضعيف. وانظر مزيد الكلام عليه في «تفسير ابن كثير» بتخريجي. وصححه الألباني في «الصحيحة» ١٠٩ لطرقه والصواب أنه لا يرقى عن درجة الحسن، فعامة طرقه شديدة الضعف.
تنبيه: وقع عند الألباني في «الصحيحة» ١/ ١٧٥ أن ابن زيد في رواية الطبري هو عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، فوهم بذلك فإن ابن جرير يروي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو المراد عند الإطلاق في تفسيره.
حسن. أخرجه الطبري ٥٨١٩ والبيهقي ٩/ ١٨٦ من طريق أبي عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير مرسلا.
ووصله أبو داود ٢٦٨٢ والنسائي في «الكبرى» ١١٠٤٨. وابن حبان ١٤٠ والطبري ٥٨١٣ والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» ص ٨٢ والواحدي في «أسباب النزول» ١٥٨ و ١٥٩. والبيهقي ٩/ ١٨٦ من طرق عن شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهذا الإسناد رجاله رجال الصحيح. لكن أرسله أبو عوانة فيما تقدم فالحديث حسن إن شاء الله.
__________
(١) طه: ٥.
230
عاش لها ولد لتهوّدنّه. فلما أجليت يهود بني النضير، كان فيهم ناس من أبناء الأنصار. فقال الأنصار:
يا رسول الله أبناؤنا؟ فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
وقال الشعبي: قالت الأنصار: والله لنكرهن أولادنا على الإسلام، فإنّا إنّما جعلنا في دين اليهود إذ لم نعلم ديناً أفضل منه، فنزلت هذه الآية.
(١٣٨) والثاني: أن رجلا من الأنصار تنصّر له ولدان قبل أن يبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ثم قدما المدينة فلزمهما أبوهما، وقال: والله لا أدعكما حتى تسلما، فأبيا، فاختصموا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، هذا قول مسروق.
والثالث: أن ناساً كانوا مسترضعين في اليهود، فلما أجلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني النضير، قالوا: والله لنذهبن معهم، ولندينن بدينهم، فمنعهم أهلوهم، وأرادوا إكراههم على الإسلام، فنزلت الآية «١».
والرابع: أن رجلاً من الأنصار كان له غلام اسمه صبيح، كان يكرهه على الإسلام، فنزلت هذه الآية، والقولان عن مجاهد.
فصل: واختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية، فذهب قوم إلى أنه محكم، وأنه من العام المخصوص، فإنه خص منه أهل الكتاب بأنهم لا يكرهون على الإسلام، بل يخيّرون بينه وبين أداء الجزية، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة. وقال ابن الأنباري: معنى الآية:
ليس الدين ما تدين به في الظاهر على جهة الإكراه عليه، ولم يشهد به القلب، وتنطوي عليه الضمائر، إنما الدين هو المنعقد بالقلب. وذهب قوم إلى أنه منسوخ، وقالوا هذه الآية نزلت قبل الأمر بالقتال، فعلى قولهم، يكون منسوخاً بآية السيف، وهذا مذهب الضحاك، والسدي، وابن زيد.
والدين هاهنا: أريد به الإسلام. والرشد: الحق، والغي: الباطل. وقيل: هو الإيمان والكفر.
وأما الطاغوت فهو اسم مأخوذ من الطغيان، وهو مجاوزة الحد، قال ابن قتيبة: الطاغوت: واحد، وجمع، ومذكّر، ومؤنث. قال تعالى: أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ، وقال: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها «٢»، والمراد بالطاغوت هاهنا خمسة أقوال: أحدها: أنه الشيطان «٣»، قاله عمر وابن عباس
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ١٦٢ عن مسروق بدون سند فلا حجة فيه، وله شاهد من مرسل السدي، أخرجه الطبري ٥٨٢٠ ومع إرساله، السدي يروي مناكير.
- وفي الباب من حديث ابن عباس عن الطبري ٥٨١٨ لكن إسناده ضعيف فيه محمد بن أبي محمد، وهو مجهول، والراجح في هذا هو المتقدم أولا عن ابن عباس وغيره، والله أعلم.
__________
(١) أخرجه الطبري ٥٨٢١ و ٥٨٢٢ من طريقين عن مجاهد، وهذا مرسل.
(٢) الزمر: ١٧.
(٣) قال ابن كثير رحمه الله ١/ ٣١١: معنى قوله في الطاغوت: إنه الشيطان، قوي جدا فإنه يشمل كل شرّ كان عليه أهل الجاهلية. من عبادة الأوثان والتحاكم إليها والاستنصار بها.
231
ومجاهد والشعبي والسدي ومقاتل في آخرين. والثاني: أنه الكاهن، قاله سعيد بن جبير وأبو العالية.
والثالث: أنه الساحر، قاله محمد بن سيرين. والرابع: أنه الأصنام، قاله اليزيدي والزجاج. والخامس:
أنه مردة أهل الكتاب، ذكره الزجاج أيضاً. قوله تعالى: فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى هذا مثلَ للإيمان شبَّه التمسك به بالمتمسك بالعروة الوثيقة. وقال الزجاج: معنى الكلام: فقد عقد لنفسه عقداً وثيقاً. والانفصام: كسر الشيء من غير إبانة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٧]
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥٧)
قوله تعالى: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا، أي: متولي أمورهم، يهديهم، وينصرهم، ويعينهم.
والظلمات: الضلالة، والنّور، الهدى، والطّاغوت: الشياطين، هذا قول ابن عباس، وعكرمة في آخرين. وقال مقاتل: الذين كفروا: هم اليهود، والطاغوت: كعب بن الأشرف. قال الزجّاج:
الطّاغوت هاهنا: واحد في معنى جماعة، وهذا جائز في اللغة إذا كان في الكلام دليل على الجماعة.
قال الشاعر «١» :
بِها جِيَفُ الْحَسْرَى فأَمّا عِظامُها فَبِيضٌ وأَمّا جلدها فصليب
يريد جلودها، فان قيل: متى كان المؤمنون في ظلمة؟ ومتى كان الكفار في نور؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن عصمة الله للمؤمنين عن مواقعة الضلال، إخراج لهم من ظلام الكفر، وتزيين قرناء الكفار لهم الباطل الذي يحيدون به عن الهدى، إخراج لهم من نور الهدى، و «الإخراج» مستعار هاهنا.
وقد يقال للممتنع من الشيء: خرج منه، وإن لم يكن دخل فيه. قال تعالى: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ «٢»، وقال: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ «٣»، وقد سبقت شواهد هذا في قوله تعالى:
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ «٤». والثاني: أن إيمان أهل الكتاب بالنبي قبل أن يظهر نورٌ لهم، وكفرهم به بعد أن ظهر، خروج إلى الظلمات. والثالث: أنه لما ظهرت معجزات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان المخالف له خارجاً من نور قد علمه، والموافق له خارجاً من ظلمات الجهل إلى نور العلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٨]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٢٥٨)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ، قد سبق معنى «ألم تر». وحاجّ: بمعنى خاصم، وهو نمروذ في قول الجماعة. قال ابن عباس: ملك الأرض شرقها وغربها مؤمنان، وكافران فالمؤمنان سليمان بن داود، وذو القرنين. والكافران: نمروذ، وبختنصر «٥». قال ابن قتيبة:
(١) هو علقمة بن عبدة بن النعمان. والحسرى: الإبل المعيبة المريضة. الصليب هنا: الجلد اليابس.
(٢) يوسف: ٣٧.
(٣) النحل: ٧٠. [.....]
(٤) البقرة: ٢١٠.
(٥) هذا قول بلا برهان، مصدره كتب الأقدمين، وهو قول بعيد جدا.
معنى الآية: حاجَّ إبراهيم، لأن الله آتاه الملك، فأعجب بنفسه وملكه.
قوله تعالى: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قال بعضهم: هذا جواب سؤال سابق غير مذكور، تقديره: أنه قال له: من ربك؟ فقال: ربّي الذين يحيي ويميت. قال نمروذ: أنا أحيي وأميت. قال ابن عباس: يقول: أترك من شئت، وأقتل من شئت. فإن قيل: لم انتقل إبراهيم إلى حجة أخرى، وعدل عن نصرة الأولى؟ فالجواب: أن إبراهيم رأى من فساد معارضته أمرا يدل على ضعف فهمه، فإنه عارض اللفظ بمثله، ونسي اختلاف الفعلين، فانتقل إلى حجة أخرى، قصداً لقطع المحاجّ لا عجزاً عن نصرة الأولى.
وقرأ أبن رزين العقيلي، وابن السميفع: فبهت، بفتح الباء والهاء، وقرأ أبو الجوزاء، ويحيى بن يعمر، وأبو حياة: فبهت بفتح الباء، وضم الهاء. قال الكسائي: ومن العرب من يقول: بهت، وبهت، بكسر الهاء وضمها وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، يعني: الكافرين. قال مقاتل: لا يهديهم إلى الحجّة، وعنى بذلك نمروذ.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٥٩]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٥٩)
قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ، قال الزجاج: هذا معطوف على معنى الكلام الذي قبله، أرأيت كالذي حاج إبراهيم، أو كالذي مر على قرية؟ وفي المراد بالقرية قولان: أحدهما: أنها بيت المقدس لما خربه بختنصر، قاله وهب، وقتادة، والربيع بن أنس. والثاني: أنها التي خرج منها الألوف حذر الموت، قاله ابن زيد. وفي الذي مر عليها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه عزير، قاله علي بن أبي طالب، وأبو العالية، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وناجية بن كعب، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل. والثاني: أنه أرمياء، قاله وهب، ومجاهد وعبد الله بن عبيد بن عمير. والثالث: أنه رجل كافر شك في البعث، نقل عن مجاهد أيضاً.
والخاوية: الخالية، قاله الزجاج. وقال ابن قتيبة: الخاوية: الخراب، والعروش: السقوف، وأصل ذلك أن تسقط السقوف، ثم تسقط الحيطان عليها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ، أي: كيف يحييها.
فإن قلنا: إن هذا الرجل نبي، فهو كلام من يؤثر أن يرى كيفية الإعادة، أو يستهولها، فيعظم قدرة الله، وإن قلنا: إنه كان رجلاً كافراً، فهو كلام شاك، والأول أصح.
قوله تعالى: فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ.
(الاشارة الى قصته) روى ناجية بن كعب عن عليّ عليه السلام، قال: خرج عزير نبي الله من مدينته، وهو رجل شاب، فمر على قرية، وهي خاوية على عروشها، فقال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة
233
عام، ثم بعثه، وأول ما خلق الله منه عيناه، فجعل ينظر إلى عظمه تنضمّ بعضها إلى بعض، ثم كسيت لحماً، ونفخ فيها الروح. قال الحسن: قبضه الله أول النهار، وبعثه الله آخر النهار بعد مائة سنة. قال مقاتل: ونودي من السماء: كم لبثت؟ قال قتادة: فقال: لبثت يوماً، ثم نظر فرأى بقية من الشمس، فقال: أو بعض يوم. فهذا يدل على أنه عزير.
وقال وهب بن منبه: أقام أرميا بأرض مصر فأوحى الله إليه أن الحق بأرض إيلياء، فركب حماره، وأخذ معه سلة من عنب وتين، ومعه سقاء جديد، فيه ماء، فلما بدا له شخص بيت المقدس وما حوله من القرى والمساجد نظر إلى خراب لا يوصف فلما رأى هدم بيت المقدس كالجبل العظيم قال: أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ ثم نزل منها منزلاً، وربط حماره، وعلق سقاءه، وألقى الله عليه النوم، ونزع روحه مائة عام، فلما مر منها سبعون عاماً، أرسل الله ملكاً إلى ملك من ملوك فارس، عظيم، فقال: إن الله يأمرك أن تنفر بقومك، فتعمر بيت المقدس وإيلياء وأرضها حتى تعود أعمر ما كانت، فانتدب ثلاثمائة قهرمان، ودفع إلى كل قهرمان ألف عامل، وما يصلحه من أداة العمل، فسار إليها قهارمته ومعهم ثلاثمائة ألف عامل. فلما وقعوا في العمل، رد الله روح الحياة في عيني أرميا، وآخر جسده ميت، فنظر إليها تعمر، فلما تمت بعد ثلاثين سنة رد الله إليه الروح، فنظر إلى طعامه وشرابه فلم يتسنّه، ونظر إلى حماره واقفاً كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب، ونظر إلى الرّمّة في عنق الحمار لم تتغير ولم تنتقص شيئاً وقد نحل جسم أرميا من البلى، فأنبت الله له لحماً جديداً ونشز عظامه وهو ينظر، فقال له الله: (انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه، وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس، وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحماً فلما تبين له قال: اعلم أن الله على كل شيء قدير).
وزعم مقاتل أن هذه القصة كانت بعد رفع عيسى عليه السلام.
قوله تعالى: كَمْ لَبِثْتَ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم «لبثت» و «لبثتم» في كل القرآن باظهار التاء، وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي بالإدغام، قال أبو علي الفارسي: من بين «لبثت» فلتباين المخرجين، وذلك أن الظاء والذال والثاء من حيز، والطاء والتاء والدال من حيز، فلما تباين المخرجان، واختلف الحيزان، لم يدغم. ومن أدغمهما أجراها مجرى المثلين، لاتفاق الحرفين في أنهما من طرف اللسان وأصول الثنايا، واتفاقهما في الهمس، ورأى الذي بينهما من الاختلاف يسيراً، فأجراهما مجرى المثلين. فأما طعامه وشرابه، فقال وهب: كان معه مكتل فيه عنب وتين، وقلة فيها ماء. وقال السدي: كان معه تين وعنب، وشرابه من العصير، ولم يحمض التين والعنب، ولم يختمر العصير.
قوله تعالى: لَمْ يَتَسَنَّهْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: يَتَسَنَّهْ واقْتَدِهْ «١» وما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ «٢» وسُلْطانِيَهْ «٣» وما هِيَهْ «٤» بإثبات الهاء في الوصل.
وقرأ الكسائيّ في حذف موضعين يَتَسَنَّهْ واقْتَدِهْ وكلهم يقف على الهاء. ولم يختلفوا في كِتابِيَهْ وحِسابِيَهْ بالهاء وصلاً ووقفاً. فأما معنى: لَمْ يَتَسَنَّهْ، فقال ابن عباس، والحسن،
(١) الأنعام: ٩٠.
(٢) الحاقة: ٢٨.
(٣) الحاقة: ٢٩.
(٤) القارعة: ١٠.
234
وقتادة في آخرين: لم يتغير. وقال ابن قتيبة: لم يتغير بمر السنين عليه، واللفظ مأخوذ من السّنه، يقال:
سانهت النخلة: إذا حملت عاماً، وحالت عاماً.
قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ، قال مقاتل: انظر إليه، وقد ابيضت عظامه، وتفرقت أوصاله، فأعاده الله. قوله تعالى: وَلِنَجْعَلَكَ اللام صلة مضمر تقديره: فعلنا بك ذلك لنراك قدرتنا، ولنجعلك آية للناس، أي: علَماً على قدرتنا، فأضمر الفعل لبيان معناه. قال ابن عباس: مات وهو ابن أربعين سنة، وابنه ابن عشرين سنة، ثم بعث وهو ابن أربعين وابنه ابن عشرين ومائة، ثم أقبل حتى أتى قومه في بيت المقدس، فقال لهم: أنا عزير، فقالوا: حدثنا آباؤنا أن عزيراً مات بأرض بابل، فقال لهم: أنا هو أرسلني الله إليكم أجدد لكم توراتكم، وكانت قد ذهبت، وليس منهم أحد يقرؤها فأملاها عليهم.
قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ، قيل: أراد عظام نفسه، وقيل: عظام حماره، وقيل: هما جميعاً. قوله تعالى: كَيْفَ نُنْشِزُها قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو «ننشرها» بضم النون الأولى، وكسر الشين وراء مضمومة. ومعناه: نحييها. يقال: أنشر الله الميت، فنشر. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: (ننشزها) بضم النون مع الزاي، وهو من النشز الذي هو الارتفاع.
والمعنى: نرفع بعضها إلى بعض للأحياء. وقرأ الأعمش: (ننشزها) بفتح النون ورفع الشين مع الزاي.
وقرأ الحسن، وأبان، عن عاصم: ننشرها، بفتح النون مع الراء، كأنه من النشر عن الطي، فكأن الموت طواها، والإحياء نشرها. قوله تعالى: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ، أي: بان له إحياء الموتى، قالَ أَعْلَمُ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «أعلم» مقطوعة الألف، مضمومة الميم. والمعنى: قد علمت ما كنت أعلمه غيباً مشاهدة. وقرأ حمزة والكسائي بوصل الألف، وسكون الميم على معنى الأمر، والابتداء، على قراءتهما بكسر الهمزة، وظاهر الكلام أنه أمر من الله له. وقال أبو علي: نزل نفسه منزلة غيره فأمرها وخاطبها. وقرأ الجعفي «١» عن أبي بكر: «أعلم» بكسر اللام على معنى الأمر بإعلام الغير.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٠]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٦٠)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى في سبب سؤاله هذا أربعة أقوال:
أحدها: أنه رأى ميتة تمزقها الهوام والسباع فسأل هذا السؤال، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخراساني، وابن جريج، ومقاتل. وما الذي كانت هذه الميتة؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: كان رجلاً ميتاً، قاله ابن عباس. والثاني: كان جيفة حمار، قاله ابن جريج، ومقاتل.
والثالث: كان حوتاً ميتاً، قاله ابن زيد.
(١) هو الإمام أبو علي الحسين بن علي الجعفي الكوفي، توفي سنة ٢٠٣.
235
والثاني: أنه لما بشر باتخاذ الله له خليلاً، سأل هذا السؤال ليعلم صحة البشارة، ذكره السدي عن ابن مسعود، وابن عباس. وروي عن سعيد بن جبير أنه لما بشر بذلك، قال: ما علامة ذلك؟ قال: أن يجيب الله دعاءك، ويحيي الموتى بسؤالك، فسأل هذا السؤال.
والثالث: أنه سأل ذلك ليزيل عوارض الوسواس، وهذا قول عطاء بن أبي رباح.
والرابع: أنه لما نازعه نمروذ في إحياء الموتى سأل ذلك ليرى ما أخبر به عن الله تعالى، وهذا قول محمد بن إسحاق.
قوله تعالى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ، أي: أولست قد آمنت أني أحيي الموتى؟ وقال ابن جبير: ألم توقن بالخلة؟ قوله تعالى: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي، «اللام» متعلقة بفعل مضمر، تقديره: ولكن سألتك ليطمئن، أو أرني ليطمئن قلبي، ثم في المعنى أربعة أقوال: أحدها: لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، قاله ابن عباس. والثاني: ليزداد قلبي يقيناً، قاله سعيد بن جبير. وقال الحسن: كان إبراهيم موقناً، ولكن ليس الخبر كالمعاينة. والثالث: ليطمئن قلبي بالخلة، روي عن ابن جبير أيضاً. والرابع: أنه كان قلبه متعلقاً برؤية إحياء الموتى، فأراد: ليطمئن قلبه بالنظر، قاله ابن قتيبة. وقال غيره: كانت نفسه تائقة إلى رؤية ذلك، وطالب الشيء قلق إلى أن يظفر بطلبته، ويدلّ على أنه لم يسأل لشك، أنه قال: أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى، وما قال: هل تحيي الموتى؟
قوله تعالى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ في الذي أخذ سبعة أقوال: أحدها: أنها الحمامة، والديك، والكركيّ، والطّاوس، رواه عبد الله بن هبيرة عن ابن عباس. والثاني: أنها الطّاوس، والديك، والدجاجة السندية، والأوزة، رواه الضحاك عن ابن عباس. وفي لفظ آخر، رواه الضحاك مكان الدجاجه السندية الرأل، وهو فرخ النعام. والثالث: أنها الشّعانين، وكان قرباهم يومئذ، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أنها الطّاوس، والنسر، والغراب، والديك، نقل عن ابن عباس أيضا.
والخامس: أنها الدّيك، والطّاوس والغراب، والحمام، قاله عكرمة، ومجاهد، وعطاء، وابن جريج، وابن زيد. والسادس: أنها ديك، وغراب، وبطّ، وطاوس، رواه ليث عن مجاهد. والسابع: أنها الديك، والبطة، والغراب، والحمامة، قاله مقاتل. وقال عطاء الخراساني: أوحى الله إليه أن خذ بطة خضراء وغراباً أسود، وحمامة بيضاء، وديكاً أحمر.
قوله تعالى: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ، قرأ الجمهور بضم الصاد، والمعنى: أملهن إليك، يقال: صرت الشيء فانصار، أي: أملته فمال، وأنشدوا «١» :
الله يعلم أنا في تلفتنا يوم الفراق إلى جيراننا صور «٢»
فمعنى الكلام: اجمعهن إليك. ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً فيه إضمار قطعهن. قال ابن قتيبة: أضمر «قطعهن»، واكتفى بقوله: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، عن قوله: «قطعهن» لأنه يدل عليه، وهذا كما تقول: خذ هذا الثوب، واجعل على كل رمح عندك منه علماً. يريد: قطعه،
(١) البيت ذكره ابن منظور في «اللسان» مادة «صور» ولم ينسبه لقائل.
(٢) في «اللسان» : الصّور: الميل ورجل أصور بين الصّور: مائل مشتاق.
236
وافعل ذلك، وقرأ أبو جعفر، وحمزة، وخلف، والمفضّل، عن عاصم «فصرهنّ» بكسر الصاد. قال اليزيدي: هما واحد، وقال ابن قتيبة: الكسر والضم لغتان. قال الفراء: أكثر العرب على ضم الصاد، وحدثني الكسائي أنه سمع بعض بني سليم يقول: صرته، فأنا أصيره. وروي عن ابن عباس ووهب، وأبي مالك، وأبي الأسود الدؤلي، والسدي، أن معنى المكسورة الصاد: قطعهن.
قوله تعالى: ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، قال الزجاج: معناه: اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءاً. وروى عوف عن الحسن قال: اذبحهن ونتّفهنّ، ثم قطّعهنّ أعضاء، ثم خلّط بينهنّ جميعا، ثم جزّأهما أربعة أجزاء، وضع على كل جبل جزءاً. ثم تنحى عنهن، فدعاهن، فجعل يعدو كل جزء إلى صاحبه حتى استوين كما كن، ثم أتينه يسعين. وقال قتادة: أمسك رؤوسها بيده، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة، والبضعة إلى البضعة، وهو يرى ذلك، ثم دعاهنّ، فأقبلن على أرجلهن يلقي لكل طائر رأسه. وفي عدد الجبال التي قسمن عليها قولان:
أحدهما: أنه قسمهنّ على أربعة جبال، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة. وروي عن ابن عباس قال:
جعلهن أربعة أجزاء في أرباع الأرض، كأنه يعني جهات الإنسان الأربع. والثاني: أنه قسمهن سبعة أجزاء على سبعة أجبال، قاله ابن جريج، والسدي.
قوله تعالى: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً، قال ابن قتيبة: يقال: عدواً، ويقال: مشياً على أرجلهن، ولا يقال للطائر إذا طار: سعى وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ أي: منيع لا يغلب حَكِيمٌ فيما يدبر.
ويزعم مقاتل أن هذه القصة جرت لإبراهيم بالشام قبل أن يكون له ولد، وقبل نزول الصحف عليه، وهو ابن خمس وسبعين سنة «١».
(١) قال القرطبي رحمه الله ٣/ ٢٨٣: اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا؟. فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السّلام شاكّا في إحياء الموتى قط وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به. ولهذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس الخبر كالمعاينة». وقال الأخفش: لم يرد رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين. قال ابن عطية: وترجم الطبري في تفسيره فقال: وقال آخرون سأل ذلك ربه، لأنه شك في قدرة الله تعالى. وأدخل تحت الترجمة عن ابن عباس قال ما في القرآن آية أرجى عندي منها وذكر عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال: رب أرني كيف تحيي الموتى وذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» ثم رجّح الطبري هذا القول. قلت: حديث أبي هريرة خرجه البخاري ومسلم عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إِلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي». قال ابن عطية: وما ترجم به الطبري عندي مردود. وما أدخل تحت الترجمة متأول، فأما قول ابن عباس: «هي أرجى آية». فمن حيث فيها الإدلال على الله تعالى وسؤال الإحياء في الدنيا وليست فطنة ذلك، ويجوز أن يقول: هي أرجى آية لقوله أَوَلَمْ تُؤْمِنْ أي أن الإيمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقيح وبحث. وأما قول عطاء: «دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس» فمعناه من حيث المعاينة على ما تقدّم. وأما قول النبي صلّى الله عليه وسلّم «نحن أحق بالشك من إبراهيم» فمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك فإبراهيم أحرى ألا يشك فالحديث مبني على نفي الشك عن إبراهيم. والذي ورد فيه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ذلك محض الإيمان» إنما هو في الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام. وإحياء الموتى. إنما يثبت بالسمع وقد كان إبراهيم أعلم به يدلك على ذلك رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فالشك يبعد على من تثبت قدمه في الإيمان فقط فكيف بمرتبة النبوة والخلّة والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا. وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متفرد الوجود عند السائل والمسؤول. ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبّرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، فلما كانت عبارة الخليل إبراهيم عليه السلام بهذا الاشتراك المجازي، خلص الله له ذلك وحمله على أن بين له الحقيقة فقال له: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى فكمل الأمر وتخلّص من كل شك ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة.
237

[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦١]

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١)
قوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، حدثنا عن ثعلب أنه قال: إنما المثل- والله أعلم- للنفقة، لا للرجال، ولكن العرب إذا دل المعنى على ما يريدون، حذفوا، مثل قوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ، فأضمر «الحب» لأن المعنى معلوم، فكذلك هاهنا. أراد:
مثل نفقة الذين ينفقون ونحو هذا قوله تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ «١». يريد: بخل الباخلين فحذف البخل. وفي المراد ب «سبيل الله» قولان: أحدهما: أنه الجهاد.
والثاني: أنه جميع أبواب البر. قال أبو سليمان الدمشقي: والآية مردودة على قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ، وقد أعلم الله عزّ وجلّ بضرب هذا المثل، أن الحسنة في النفقة في سبيله تضاعف بسبعمائة ضعف. وقال الشعبي: نفقة الرجل على نفسه وأهل بيته تضاعف بسبعمائة ضعف.
قال ابن زيد: وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ، أي: يزيد على السّبعمائة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٢]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢)
قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قال ابن السائب ومقاتل: نزلت في عثمان بن عفان في نفقته في غزوة تبوك، وشرائه بئر رومة، ركية بالمدينة، تصدق بها على المسلمين، وفي عبد الرحمن بن عوف حين تصدق بأربعة آلاف درهم، وكانت نصف ماله «٢».
وأما المنّ ففيه قولان: أحدهما: أنه المن على الفقير، ومثل أن يقول: قد أحسنت إليك ونعشتك، وهو قول الجمهور. والثاني: أنه المن على الله بالصدقة، روي عن ابن عباس. فإن قيل:
كيف مدحهم بترك المنّ. ووصف نفسه بالمنّان؟ فالجواب: يقال: منّ فلان على فلان: إذا أنعم عليه، فهذا الممدوح، قال الشاعر:
(١) آل عمران: ١٨٥.
(٢) لا أصل له. عزاه المصنف لابن السائب ومقاتل. أما ابن السائب، فهو محمد بن السائب الكلبي، وهو متروك كذاب. وأما مقاتل فهو ابن سليمان حيثما أطلق، وهو كذاب أيضا، فهذا أثر باطل لا أصل له، ولم أجده عن غيرهما.
فمنِّي علينا بالسلام فإنما كلامك ياقوت ودر منظم
أراد بالمن الإنعام. وأما الوجه المذموم، فهو أن يقال: منّ فلان على فلان، إذا استعظم ما أعطاه، وافتخر بذلك قال الشاعر في ذلك:
أنلت قليلاً ثم أسرعت منَّة فنيلك ممنون كذاك قليل
ذكر ذلك أبو بكر الأنباري.
وفي الأذى قولان: أحدهما: أنه مواجهة الفقير بما يؤذيه، مثل أن يقول له: أنت أبداً فقير، وقد بليت بك، وأراحني الله منك. والثاني: أنه يخبر بإحسانه إلى الفقير، من يكره الفقير إطلاعه على ذلك، وكلا القولين يؤذي الفقير وليس من صفة المخلصين في الصدقة. ولقد حدثنا عن حسان بن أبي سنان أنه كان يشتري أهل بيت الرجل وعياله، ثم يعتقهم جميعاً، ولا يتعرف إليهم، ولا يخبرهم من هو.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٣]
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣)
قوله تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ، أي: قول جميل للفقير، مثل أن يقول له: يوسع الله عليك وَمَغْفِرَةٌ أي: يستر على المسلم خلته وفاقته، وقيل: أراد بالمغفرة التجاوز عن السائل إن استطال على المسؤول وقت رده خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وقد سبق بيانه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤)
قوله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ، أي: لا تبطلوا ثوابها، كما تبطل ثواب صدقة المرائي الذي لا يؤمن بالله، وهو المنافق فَمَثَلُهُ، أي: مثل نفقته، كَمَثَلِ صَفْوانٍ، قال ابن قتيبة: الصفوان:
الحجر، والوابل: أشد المطر، والصلد: الأملس. وقال الزجاج: الصفوان: الحجر الأملس، وكذلك الصفا. وقال ثعلب: الصلد: النقي. وروي عن ابن عباس، وقتادة، فَتَرَكَهُ صَلْداً، قالا: ليس عليه شيء. وهذا مثل ضربه الله تعالى للمرائي بنفقته، لا يقدر يوم القيامة على ثواب شيء مما أنفق.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٥]
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥)
قوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ، أي: طلباً لرضاه. وفي معنى التثبيت قولان: أحدهما: أنه الإنفاق عن يقين وتصديق، وهذا قول الشّعبيّ، والسدي، في آخرين.
والثاني: أنه التثبيت لارتياد محل الإنفاق، فهم ينظرون أين يضعونها، وهذا قول الحسن، ومجاهد، وأبي صالح. قوله تعالى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ الجنة: البستان، وقرأ مجاهد، وعاصم الجحدري «حبة» بالحاء. والربوة: ما ارتفع. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي «بربوة» بضم الراء.
وقرأ عاصم، وابن عامر، بفتح الراء وقرأ الحسن والأعمش بكسر الراء، وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، برباوة، بزيادة ألف، وفتح الراء، وقرأ أبيّ بن كعب، والجحدريّ كذلك، إلا أنهما ضما الراء، وكذلك خلافهم في «المؤمنين»، قال الزجاج: يقال رَبوة ورِبوة ورُبوة ورباوة. والموضع المرتفع من الأرض، إذا كان له ما يرويه من الماء، فهو أكثر ريعاً من السفل. وقال ابن قتيبة: الربوة الارتفاع، وكل شيء ارتفع وزاد، فقد ربا، ومنه الربا في البيع. قوله تعالى: فَآتَتْ أُكُلَها، قرأ ابن كثير، ونافع:
أكلها. والأكل بسكون الكاف حيث وقع، ووافقهما أبو عمرو، فيما أضيف إلى مؤنث، مثل: «أكلها»، فأما ما أضيف إلى مذكر مثل: أكله؟ أو كان غير مضاف إلى مكنى: مثل أُكُلٍ خَمْطٍ فثقله أبو عمرو. وقرأ عاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي جميع ذلك مثقلا. وأكلها: ثمرها. ضِعْفَيْنِ أي: مثلين. فأما «الطّلّ» فقال ابن قتيبة: هو أضعف المطر، وقال الزجاج: هو المطر الدائم، الصغار القطر الذي لا تكاد تسيل منه المثاعب. قال ثعلب: وهذا لفظ مستقبل وهو لأمر ماض، فمعناه: فان لم يكن أصابها وابل فطل، ومعنى هذا المثل: أن صاحب هذه الجنة لا يخيب، فإنها إن أصابها الطل حسنت، وإن أصابها الوابل أضعفت، فكذلك نفقة المؤمن المخلص. والبصير: من أسماء الله تعالى، معناه: المبصر. قال الخطابي: وهو فعيل بمعنى مفعل، كقولهم: أليم بمعنى مؤلم.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٦]
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦)
قوله تعالى: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ، هذه الآية متصلة بقوله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ، ومعنى:
«أيود» أيُحب، وإنما ذكر النخيل والأعناب، لأنهما من أنفس ما يكون في البساتين، وخصّ ذلك بالكبير، لأنه قد يئس من سعي الشباب في اكسابهم.
قوله تعالى: وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ، أي: ضعاف، وإذا ضعفت الذرية كان أحنى عليهم، وأكثر إشفاقاً فَأَصابَها يعني: الجنة إِعْصارٌ وهي ريح شديدة، تهب بشدة، فترفع إلى السماء تراباً، كأنه عمود. قال الشاعر:
إِن كنت ريحاً فقد لاقيتَ إِعصاراً
أي: لاقيت أشد منك. فان قيل: كيف جاز في الكلام أن يكون له جنة فأصابها، ولم يقل:
فيصيبها؟ أفيجوز أن يقال: أيودّ أن يصيبَ مالاً، فضاع، والمراد: فيضيع؟ فالجواب: أن ذلك جائز في «وددت» لأن العرب تلقاها مرةً ب «أن»، ومرةً ب «لو»، فيقولون: وددت لو ذهبْت عنا، ووددت أن تذهب عنا، قاله الفراء، وثعلب.
فصل: وهذه الآية مثلٌ ضربه الله تعالى في الحَسْرةِ بسلب النعمة عند شدّة الحاجة. وفيمن قَصَدَ به ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مثل الذي يختم له بالفساد في آخر عُمره، قاله ابن عباس. والثاني: أنه مثل للمفرط في طاعة الله تعالى حتى يموت، قاله مجاهد. والثالث: أنه مثل للمرائي في النفقة، ينقطع عنه نفعها أحوج ما يكون إليه، قاله السّدّيّ.

[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٧]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ، في سبب نزولها قولان:
(١٣٩) أحدهما: أن الأنصار كانوا إذا جذّوا النخل، جاء كل رجل بشيء من ذلك فعلقه في المسجد، فيأكل منه فقراء المهاجرين، وكان أناسٌ ممن لا يرغب في الخير يجيء أحدهم بالقنو «١» فيه الحشف والشيص، فيعلقه، فنزلت هذه الآية. هذا قول البراء بن عازب.
(١٤٠) والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمر بزكاة الفطر، فجاء رجل بتمر رديء، فنزلت هذه الآية. هذا قول جابر بن عبد الله.
وفي المراد بهذه النفقة قولان: أحدهما: أنها الصدقة المفروضة، قاله عبيدة السلماني في آخرين.
والثاني: أنها التطوع. وفي المراد بالطيب هاهنا قولان: أحدهما: أنه الجيّد الأنفس، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه الحلال، قاله أبو معقل في آخرين. قوله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا، أي: لا تقصدوا. والتيمم في اللغة: القصد. قال ميمون بن قيس:
تَيمَمتُ قيساً وكم دونه من الأرض من مَهْمَهٍ ذي شزَن «٢»
وفي الخبيث قولان: أحدهما: أنه الرديء، قاله الأكثرون، وسبب الآية يدل عليه. والثاني: أنه الحرام، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ، قال ابن عباس: لو كان بعضكم يطلب من بعض حقاً له، ثم قضاه ذلك، ولم يأخذه إِلى أن يرى أنه قد أغمض عن بعض حقه. وقال ابن قتيبة:
أصل هذا أن يصرف المرء بصره عن الشيء، ويغمضه، فسمي الترخص إغماضاً. ومنه قول الناس للبائع: أغمض، أي: لا تشخص، وكن كأنك لا تبصر. وقال غيره: لما كان الرجل إذا رأى ما يكره
جيد. أخرجه ابن ماجة ١٨٢٢ والحاكم ٢/ ٢٨٥ والطبري ٦١٣٨ و ٦١٣٩ والواحدي ١٧٢ من طريق أسباط عن السدي عن عدي بن ثابت به. وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي وهو كما قالا: لكن في أسباط بن نضر ضعف ينحط حديثه عن درجة الصحيح ومثله السدي. وأخرجه الترمذي ٢٩٨٧ والبيهقي ٤/ ١٣٦ من طريق السدي عن أبي مالك عن البراء به وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. وله شاهد من حديث سهل بن حنيف، أخرجه الحاكم ٢/ ٢٨٤ وإسناده حسن.
أخرجه الحاكم ٢/ ٢٨٣ والواحدي في «الأسباب» ١٧٢ من حديث جابر، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وفيه قيس بن أنيف لم أجد له ترجمة. ويشهد لأصله ما تقدم دون تعيين ذلك بكونه في زكاة الفطر. وفي حديث سهل بن حنيف المتقدم «أمر بصدقة» ولعل المراد صدقة الفطر وبكل حال أصل الخبر محفوظ بشواهده.
__________
(١) القنو: العذق بما فيه من الرطب. والحشف من التمر: اليابس الفاسد. والشيص: رديء التمر ويقال للتمر الذي لا يشتد نواه ويقوى وقد لا يكون له نوى أصلا، هو الشيص.
(٢) المهمه: المفازة. الشّزن: شدة الإعياء من الحفا، والشدة والغلظة، والغلظ من الأرض اه قاموس. [.....]
أغمض عينيه، لئلا يرى جميع ما يكره جعل التجاوز والمساهلة في كل شيء إغماضاً. قوله تعالى:
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ، قال الزجاج: لم يأمركم بالتصدق عن عوز، لكنه بلا أخباركم، فهو حميد على ذلك. يقال: قد غني زيد، يغنى غنى، مقصور: إذا استغنى، وقد غني القوم: إذا نزلوا في مكان يغنيهم، والمكان الذي ينزلون فيه مغنى. والغواني: النساء، قيل: إنما سمين بذلك، لأنهن غنين بجمالهن، وقيل: بأزواجهن. فأما «الحميد» فقال الخطابي: هو بمعنى المحمود، فعيل بمعنى مفعول.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٨]
الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨)
قوله تعالى: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ، قال الزجاج: يقال: وعدته أعده وعداً وعدة وموعداً وموعدة وموعوداً، ويقال: الفَقر، والفُقر. ومعنى الكلام: يحملكم على أن تؤدّوا من الرديء، يخوفكم الفقر بإعطاء الجيد. ومعنى: يعدكم الفقر، أي: بالفقر، وحذفت الباء. قال الشاعر «١» :
أمرتُكَ الخيرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرت بِهِ فقد تركتك ذا مال وذا نشبِ
وفي الفحشاء قولان: أحدهما: البخل. والثاني: المعاصي. قال ابن عباس: والله يعدكم مغفرة لفحشائكم، وفضلاً في الرّزق.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٦٩]
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩)
قوله تعالى: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ، في المراد بهذه الحكمة أحد عشر قولاً «٢» : أحدها: أنها القرآن، قاله ابن مسعود، ومجاهد، والضحاك، ومقاتل في آخرين. والثاني: معرفة ناسخ القرآن، ومنسوخه، ومحكمه، ومتشابهه، ومقدمه، ومؤخره، ونحو ذلك، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: النبوة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: الفهم في القرآن، قاله أبو العالية، وقتادة، وإبراهيم. والخامس: العلم والفقه، رواه ليث عن مجاهد. والسادس: الإصابة في القول، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والسابع: الورع في دين الله، قاله الحسن. والثامن: الخشية لله، قاله الربيع بن أنس. والتاسع: العقل في الدين، قاله ابن زيد. والعاشر: الفهم، قاله شريك. والحادي عشر: العلم والعمل، لا يسمى الرجل حكيماً إِلا إِذا جمعهما، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ، قرأ يعقوب بكسر تاء «يؤت»، ووقف عليها بهاء والمعنى:
ومن يؤته الله الحكمة. وكذلك هي في قراءة ابن مسعود بهاء بعد التاء. قوله تعالى: وَما يَذَّكَّرُ، قال الزجّاج: أي: وما يفكّر فكراً يذكر به ما قص من آيات القرآن إلا ذوو العقول. قال ابن قتيبة:
«أولو» بمعنى: ذوو، وواحد «أولو» «ذو»، و «أولات» «ذات».
(١) هو عمرو بن معدي كرب.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله ١/ ٣٢٢: والصحيح أن الحكمة كما قاله الجمهور لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها وأعلاها النبوة، والرسالة أخص، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع كما جاء في بعض الأحاديث «من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه».

[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٠]

وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠)
قوله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ، النذر: ما أوجبه الإنسان على نفسه، وقد يكون مطلقاً، ويكون معلقاً بشرط. فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ، قال مجاهد: يُحصيه، وقال الزجاج: يجازى عليه. وفي المراد بالظالمين هاهنا، قولان: أحدهما: أنهم المشركون، قاله مقاتل. والثاني: المنفقون بالمنّ والأذى والرياء، والمنذرون في المعصية، قاله أبو سليمان الدمشقي. والأنصار: المانعون. فمعناه: ما لهم مانع يمنعهم من عذاب الله.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧١]
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١)
قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ.
(١٤١) قال ابن السائب: لما نزل قوله تعالى: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ، قالوا: يا رسول الله، صدقة السر أفضل، أم العلانية؟ فنزلت هذه الآية. قال الزجاج، يقال: بدا الشيء يبدو: إذا ظهر، وأبديته إبداء: إذا أظهرته، وبدا لي بداء: إذا تغير رأيي عمّا كان عليه.
وقوله تعالى: فَنِعِمَّا هِيَ، في «نعم» أربع لغات: «نعم» بفتح النون، والعين، مثل: عَلِمَ.
و «نعم» بكسرها، و «نعم» بفتح النون، وتسكين العين، و «نعم» بكسر النون، وتسكين العين. وأما قوله:
فَنِعِمَّا هِيَ قرأ نافع في غير رواية «ورش»، وأبو عمرو، وعاصم في رواية أبي بكر، والمفضل:
«فنعما»، بكسر النون، والعين ساكنة. وقرأ ابن كثير، وعاصم في رواية حفص، ونافع في رواية «ورش»، ويعقوب بكسر النون والعين. وقرأ ابن عامر، وحمزة والكسائي، وخلف: «فنعما» بفتح النون، وكسر العين، وكلهم شددوا الميم. وكذلك خلافهم في سورة النساء. قال الزجاج: «ما» في تأويل الشيء، أي: فنعمّ الشيء هو. قال أبو عليّ: نعم الشيء إبداؤها. قوله تعالى فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، فهو الإخفاء. واتفق العلماء على أن إخفاء الصدقة النافلة أفضل من إظهارها، وفي الفريضة قولان: أحدهما: أن إظهارها أفضل، قاله ابن عباس في آخرين. واختاره القاضي أبو يعلى. وقال الزجاج: كان إخفاء الزكاة على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أحسن، فأمّا اليوم، فالناس مسيئون الظن، فاظهارها أحسن. والثاني: إخفاؤها أفضل، قاله الحسن، وقتادة، ويزيد بن أبي حبيب. وقد حمل أرباب القول الأول الصدقات في الآية على الفريضة، وحملوا وَإِنْ تُخْفُوها على النافلة، وهذا قول عجيب. وإنما فضلت صدقة السر لمعنيين: أحدهما: يرجع إلى المعطي، وهو بُعْدُه عن الرياء، وقربه من الإخلاص، والإعراض عما تؤثر النفس من العلانية. والثاني: يرجع إلى المعطى، وهو دفع الذل عنه باخفاء الحال، لأنه في العلانية ينكسر. قوله تعالى: وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم (ونكفّر) بالنون والرفع، والمعنى: ونحن نكفّر، ويجوز أن يكون مستأنفا.
لا أصل له، ذكره المصنف عن الكلبي تعليقا بدون إسناد، ومع ذلك هو معضل، والكلبي واسمه محمد بن السائب متروك كذاب، فهذا خبر لا أصل له.
وقرأ نافع، وحمزة، والكسائيّ: «ونكفّر» بالنون وجزم الراء. قال أبو علي: وهذا على حمل الكلام على موضع قوله: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأن قوله: فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ في موضع جزم، ألا ترى أنه لو قال: وإِن تخفوها يكون أعظم لأجركم لجزم، ومثله: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ «١»، حمل قوله و «أكن» على موضع «فأصدَّق». وقرأ ابن عامر: «ويكفّر» بالياء والرفع، وكذلك حفص عن عاصم على الكناية عن الله عزّ وجلّ، وقرأ أبان عن عاصم، «وتكفّر» بالتاء المرفوعة، وفتح الفاء مع إسكان الراء. قوله تعالى: مِنْ سَيِّئاتِكُمْ، في «من» قولان: أحدهما: أنها زائدة. والثاني: أنها داخلة للتبعيض. قال أبو سليمان الدمشقي: ووجه الحكمة في ذلك أن يكون العباد على خوف ووجل.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٢]
لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢)
قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ في سبب نزولها قولان:
(١٤٢) أحدهما: أن المسلمين كرهوا أن يتصدقوا على أقربائهم من المشركين، فنزلت هذه الآية، هذا قول الجمهور.
والثاني: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم»، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير.
والخير في الآية، أريد به المال، قاله ابن عباس، ومقاتل. ومعنى: فَلِأَنْفُسِكُمْ، أي: فلكم ثوابه. قوله تعالى: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ، قال الزجاج: هذا خاص للمؤمنين، أعلمهم الله أنه قد علم أن مُرادَهم ما عنده، وإذا أعلمهم بصحة قصدهم، فقد أعلمهم بالجزاء عليه.
قوله تعالى: يُوَفَّ إِلَيْكُمْ، أي: توفون أجره. ومعنى الآية: ليس عليك أن يهتدوا، فتمنعهم الصدقة ليدخلوا في الإسلام، فان تصدقتم عليهم أُثبتم. والآية محمولة على صدقة التّطوّع، إذ لا يجوز أن يعطى الكافر من الصدقة المفروضة شيئاً.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٣]
لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣)
(١٤٢) أخرجه الواحدي في «الأسباب» ١٧٤ عن ابن الحنفية به، وفي الإسناد سلمان المكي، لم أجد له ترجمة.
- ولمعناه شواهد منها عن ابن عباس: أخرجه الطبري ٦٢٠٠ وكرره ٦٢٠٣ من وجه آخر، وإسناده حسن.
وفي الباب مراسيل كثيرة، فالخبر قوي بشواهده.
ضعيف. أخرجه الواحدي في «الأسباب» ١٧٣ وابن أبي شيبة كما في «الدر» ١/ ٦٣١ عن سعيد بن جبير مرسلا، فهو ضعيف لإرساله.
__________
(١) المنافقون: ١٠.
244
قوله تعالى: لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا، لما حثهم على الصدقات والنفقات، دلهم على خير من تُصدّق عليه. وقد تقدم تفسير الإحصار عند قوله: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ «١».
وفي المراد ب الَّذِينَ أُحْصِرُوا أربعة أقوال: أحدها: أنهم أهل الصفة حبسوا أنفسهم على طاعة الله، ولم يكن لهم شيء، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنهم فقراء المهاجرين، قاله مجاهد.
والثالث: أنهم قوم حبسوا أنفسهم على الغزو، فلا يقدرون على الاكتساب، قاله قتادة. والرابع: أنهم قوم أصابتهم جراحات مع النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فصاروا زمنى. قاله سعيد بن جبير، واختاره الكسائي، وقال:
أحصروا من المرض، ولو أراد الحبس، لقال: حُصروا، وإنما الإحصار من الخوف، أو المرض.
والحصر: الحبس في غيرهما. وفي سبيل الله قولان: أحدهما: أنه الجهاد. والثاني: الطاعة. وفي الضرب في الأرض قولان: أحدهما: أنه الجهاد لم يمكنهم لفقرهم، نقل عن ابن عباس. والثاني:
الكسب، قاله قتادة. وفي الذي منعهم من ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: الفقر، قاله ابن عباس. والثاني:
أمراضهم، قاله ابن جبير، وابن زيد. والثالث: التزامهم بالجهاد، قاله الزجاج.
قوله تعالى: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ، قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي: «يحسبهم» و «يَحْسِبَنَّ» بكسر السين في جميع القرآن. وقرأ ابن عامر، وعاصم، وحمزة، بفتح السين في الكل. قال أبو علي: فتح السين أقيس، لأن الماضي إذا كان على «فَعِلَ»، نحو: حسب، كان المضارع على «يفعل»، مثل: فرق يفرق، وشرب يشرب، والكسر حسن لموضع السمع. قال ابن قتيبة: لم يرد الجهل الذي هو ضد العقل، إنما أراد الجهل الذي هو ضد الخُبْر، فكأنه قال: يحسبهم من لا يخبرُ أمرهم. والتعفف: ترك السؤال، يقال: عف عن الشيء وتعفّف. والسيما: العلامة التي يعرف بها الشيء، وأصله من السمة. وفي المراد بسيماهم ثلاثة أقوال: أحدها: تجملهم، قاله ابن عباس.
والثاني: خشوعهم، قاله مجاهد. والثالث: أثر الفقر عليهم، قاله السدي والربيع بن أنس. وهذا يدل على أن للسيما حكماً يتعلق بها. قال إمامنا أحمد في الميت يوجد في دار الحرب، ولا يعرف أمره:
ينظر إلى سيماه، فإن كان عليه سِيما الكفار من عدم الختان، حكم له بحكمهم، فلم يدفن في مقابر المسلمين، ولم يصل عليه، وإن كان عليه سيما المسلمين حكم له بحكمهم «٢». فأما الإلحاف، فهو:
الإلحاح، قال ابن قتيبة: يقال: ألحف في المسأله: إذا ألح، وقال الزجاج: معنى ألحف: شَمِل بالمسألة، ومنه اشتقاق اللحاف، لأنه يشمل الإنسان بالتغطية، فإن قيل: فهل كانوا يسألون غير
(١) البقرة: ١٩٦.
(٢) قال الإمام الموفّق رحمه الله في (المغني) ٣/ ٤٧٧: فإن اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين، فلم يميزوا، صلّى على جميعهم بنية المسلمين. قال أحمد: ويجعلهم بينه وبين القبلة، ثم يصلي عليهم وإلا فلا، لأن الاعتبار بالأكثر، بدليل أن دار المسلمين الظاهر فيها الإسلام، لكثرة المسلمين بها، وعكسها دار الحرب، لكثرة من بها من الكفار. ولنا، أنه أمكن الصلاة على المسلمين من غير ضرر، فوجب، كما لو كانوا أكثر، ولأنه إذا جاز أن يقصد بصلاته ودعائه الأكثر، جاز قصد الأقل وإن وجد ميت، فلم يعلم أمسلم هو أم كافر، نظر إلى العلامات من الختان، والثياب والخضاب، فإن لم يكن عليه علامة، وكان في دار الإسلام، غسّل وصلّي عليه، وإن كان في دار الكفر، لم يغسّل، ولم يصلّ عليه. نصّ عليه أحمد، لأن الأصل أنّ من كان في دار فهو من أهلها، يثبت له حكمهم ما لم يقم على خلافه دليل.
245
ملحفين؟ فالجواب: أن لا، وإنما معنى الكلام: أنه لم يكن منهم سؤال، فيكون إلحاف. قال الأعشى:
لا يغمز الساق من أينٍ ولا وَصَبٍ ولا يعضُّ على شرسوفِهِ الصّفر «١»
معناه: ليس بساقه أين ولا وصب، فيغمزها لذلك. قال الفرّاء: ومثله أن تقول: قلّ ما رأيت مثل هذا الرجل، ولعلك لم تر قليلاً ولا كثيراً من أشباهه، فهم لا يسألون الناس إلحافاً، ولا غير إلحاف.
وإلى نحو هذا ذهب الزجاج، وابن الأنباري في آخرين.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٤]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤)
قوله تعالى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً، اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
(١٤٤) أحدها: أنها نزلت في الذين يرتبطون الخيل في سبيل الله عزّ وجلّ، رواه حنش الصنعاني عن ابن عباس، وهو قول أبي الدّرداء وأبي أمامه، ومكحول، والأوزاعي في آخرين.
(١٤٥) والثاني: نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السلام، فإنه كانت معه أربعة دراهم، فأنفق في الليل درهماً وبالنهار درهماً، وفي السر درهماً، وفي العلانية درهماً، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وابن السائب، ومقاتل.
(١٤٦) والثالث: أنها نزلت في عليّ وعبد الرحمن بن عوف، فإن علياً بعث بوسق من تمر إلى أهل الصفة ليلاً وبعث عبد الرحمن إليهم بدنانير كثيرة نهاراً، رواه الضحاك عن ابن عباس.
أخرجه الواحدي في «أسبابه» ١٧٦ عن حنش الصنعاني عن ابن عباس، وفي إسناده، عبد الله بن صالح، وهو ضعيف. وله شاهد عن أبي الدرداء، أخرجه الطبري ٦٢٣٠ وفيه راو لم يسم ممن يراد بهذه الآية، لأن الآية خاصة في ذلك، والله أعلم.
باطل. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» ٣٤٤ والواحدي ١٨٠ والطبراني ١١١٦٤ عن عبد الوهّاب بن مجاهد، عن أبيه، عن ابن عباس. إسناده ضعيف جدا، ابن مجاهد متروك ولم يسمع من أبيه كما في «الميزان» وهذا أثر باطل لا أصل له، ولا يصح عن مجاهد لأنه من رواية ابنه، ونسبه المصنف لابن السائب. الكلبي، وهو متروك كذاب. وعزاه المصنف لمقاتل، وهو كذاب أيضا، والصواب عموم الآية.
باطل. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس، ولم أر من أسنده إلى الضحاك، وبكل حال هو أثر ساقط، الضحاك لم يلق ابن عباس، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد، حيث روى عن الضحاك عن ابن عباس تفسيرا كاملا، وجويبر متروك متهم. فهذا خبر ساقط، لا أصل له.
- والصواب عموم الآية، وأن الآية في كل من يتصف بذلك، والله أعلم.
__________
(١) في «اللسان» : الغميزة: العيب وليس في فلان غميزة أي ما فيه ما يغمز فيعاب به ولا مطعن. والأين: الإعياء والتعب، والشرسوف: أطراف أضلاع الصدر التي تشرف على البطن. والصّفر: دابة تعض الضلوع والشراسيف، وقيل الصّفر هاهنا الجوع.

[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٥]

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥)
قوله تعالى: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا، الربا: أصله في اللغة: الزّيادة، ومنه الرّبوة والرّابية، وأربى فلان على فلان: زاد. وهذا الوعيد يشمل الأكل، والعامل به، وإنما خصّ الأكل بالذكْر، لأنه معظم المقصود.
وقد صحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنه: «لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه».
قوله تعالى: لا يَقُومُونَ، قال ابن قتيبة أي: يوم البعث من القبور. والمس: الجنون، يقال:
رجل ممسوس. فالناس إذا خرجوا من قبورهم أسرعوا كما قال تعالى: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً «١».
إلا أكله الربا، فانهم يقومون ويسقطون، لأن الله أربى الربا في بطونهم يوم القيامة حتى أثقلهم، فلا يقدرون على الإسراع. وقال سعيد بن جبير: تلك علامة آكل الربا إذا استحله يوم القيامة. قوله تعالى:
ذلِكَ، أي: هذا الذي ذكر من عقابهم بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا، وقيل: إن ثقيف كانوا أكثر العرب ربا، فلما نهوا عنه قالوا: إنّما هو مثل البيع.
قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ، قال الزجّاج: كلّ تأنيث ليس بحقيقيّ، فتذكيره جائز، ألا ترى أن الوعظ والموعظة معبّران عن معنى واحد؟ قوله تعالى: فَلَهُ ما سَلَفَ، أي: ما أكل من الرّبا. وفي قوله تعالى: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، قولان: أحدهما: أن «الهاء» ترجع إلى المربي، فتقديره:
إن شاء عصمه منه، وإن شاء لم يفعل، قاله سعيد بن جبير، ومقاتل. والثاني: أنها ترجع إلى الرّبا، فمعناه: يعفو الله عمّا شاء منه، ويعاقب على ما شاء منه، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ. قوله تعالى:
وَمَنْ عادَ، قال ابن جبير: من عاد إلى الرّبا مستحلّا محتجّا بقوله تعالى: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا
[سورة البقرة (٢) : الآيات ٢٧٦ الى ٢٧٧]
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧)
(١٤٧) صحيح. أخرجه مسلم ١٥٩٨ وأحمد ٣/ ٣٠٤ والبيهقي ٥/ ٢٧٥ وأبو يعلى ١٨٤٩ من طرق عن جابر قال:
«لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه» وقال: «هم سواء».
- ويشهد له ما أخرجه أحمد ١/ ٤٠٩ و ٤٣٠ و ٤٦٤ و ٤٦٥، والنسائي ٨/ ١٤٧ وابن حبان ٣٢٥٢ وأبو يعلى ٥٢٤١ وعبد الرزاق ١٥٣٥٠ وابن خزيمة ٢٢٥٠ والحاكم ١/ ٣٨٧- ٣٨٨ وعنه البيهقي ٩/ ١٩ من طرق عن عبد الله بن مسعود قال: «آكل الرّبا وموكله وكاتبه وشاهداه إذا علموا به والواشمة والمستوشمة للحسن، ولاوي الصدقة والمرتد أعرابيا بعد هجرته ملعونون على لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة».
__________
(١) المعارج: ٤٣.
قوله تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا فيه قولان: أحدهما: أن معنى محقه: تنقيصه واضمحلاله، ومنه: محاق الشهر، لنقصان الهلال فيه. روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. والثاني: أنه إبطال ما يكون منه من صدقة ونحوها، رواه الضحاك عن ابن عباس. قوله تعالى:
وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ، قال ابن جبير: يضاعفها. والكَفَّار: الذي يكثر فعل ما يكفر به، والأثيم: المتمادي في ارتكاب الإثم المصرّ عليه.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا في نزولها ثلاثة أقوال:
(١٤٨) أحدها: أنها نزلت في بني عمرو بن عمير بن عوف من ثقيف، وفي بني المغيرة من بني مخزوم، وكان بنو المغيرة يأخذون الربا من ثقيف، فلما وضع الله الربا، طالبت ثقيف بني المغيرة بما لهم عليهم، فنزلت هذه الآية، والتي بعدها، هذا قول ابن عباس.
(١٤٩) والثاني: أنها نزلت في عثمان بن عفان، والعباس، كانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجذاذ، قال صاحب التّمر: إن أخذتما ما لكما لم يبق لي ولعيالي ما يكفي، فهل لكما أن تأخذوا النصف وأضعّف لكما؟ ففعلا، فلما حل الأجل، طلبا الزيادة، فبلغ ذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنهاهما عليه السّلام، فنزلت هذه الآية، هذا قول عطاء وعكرمة.
(١٥٠) والثالث: أنها نزلت في العباس وخالد بن الوليد، وكانا شريكين في الجاهلية وكانا يسلفان في الربا، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فنزلت هذه الآية، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أَلا إِن كل رباً من ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضعه ربا العباس» هذا قول السدي.
قال ابن عباس، وعكرمة، والضحاك، إنما قال: ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا لأن كل رباً كان قد ترك، فلم يبق إلا ربا ثقيف. وقال قوم: الآية محمولة على من أربى قبل إسلامه، وقبض بعضه في كفره، ثم أسلم، فيجب عليه أن يترك ما بقي، ويعفى له عما مضى. فأما المراباة بعد الإسلام، فمردودة فيما قبض، ويسقط ما بقي.
أخرجه أبو يعلى ٦٦٨ ومن طريقه الواحدي في «أسباب النزول» ١٨٣ عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وإسناده ضعيف جدا، الكلبي متروك، وأبو صالح متروك في حديثه عن ابن عباس، وذكره الهيثمي في «المجمع» ٤/ ١١٩- ١٢٠ وقال: رواه أبو يعلى وفيه محمد بن السائب الكلبي، وهو كذاب اه.
وذكره ابن حجر في «المطالب العالية» ٣٥٣٧ ونقل الشيخ الأعظمي عن البوصيري تضعيفه للكلبي! مع أنه متروك متهم. وأخرجه الطبري ٦٢٥٧ عن ابن جريج بنحوه، وأتم. وورد عن عكرمة مع أثر ابن جريج عند الطبري، فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها والله تعالى أعلم. وانظر «فتح الباري» ٤/ ٣١٣.
ذكره الواحدي ١٨٤ عن عطاء وعكرمة بدون إسناد، ولم أره عند غيره، فهو لا شيء، وذكر عثمان في هذا الخبر باطل لا أصل له، وأما ذكر العباس، فله ما يؤيده، وانظر ما بعده.
هو في «أسباب النزول» ١٨٥ للواحدي عن السدي بدون إسناد. وأخرجه الطبري ٦٢٥٦ عن السدي، وليس فيه اللفظ المرفوع، وهذا مرسل. واللفظ المرفوع منه صحيح، ورد في أحاديث أخر.

[سورة البقرة (٢) : آية ٢٧٩]

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩)
قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا، قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر فَأْذَنُوا مقصورة مفتوحة. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم «فآذنوا» بمد الألف وكسر الذال. قال الزجاج: من قرأ:
فأذنوا، بقصر الألف وفتح الذال، فالمعنى: أيقنوا. ومن قرأ بمد الألف وكسر الذال، فمعناه: أعلموا كل من لم يترك الربا أنه حرب. قال ابن عباس: يقال يوم القيامة لآكل الربا: خذ سلاحك للحرب.
قوله تعالى: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ أي التي أقرضتموها، لا تَظلمون فتأخذون أكثر منها، ولا تُظلَمون فتنقصون منها، والجمهور على فتح «تاء» تظلمون الأولى، وضم «تاء» تظلمون الثانية.
وروى المفضل عن عاصم: ضم الأولى، وفتح الثانية.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٠]
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠)
قوله تعالى: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ. ذكر ابن السائب، ومقاتل أنه لما نزل قوله تعالى: وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا، قال بنو عمرو بن عمير لبني المغيرة: هاتوا رؤوس أموالنا، وندع لكم الربا، فشكا بنو المغيرة العسرة، فنزلت هذه الآية «١». فأما العسرة، فهي الفقر، والضيق. والجمهور على تسكين السين، وضمها أبو جعفر هاهنا، وفي ساعَةِ الْعُسْرَةِ «٢». وقرأ الجمهور بفتح سين «الميسرة»، وضمها نافع، وتابعه زيد عن يعقوب على ضم السين، إلا أنه زاد، فكسر الراء، وقلب الياء هاء، ووصلها بباء. قال الزجاج: ومعنى وإن كان: وإن وقع. والنظرة التأخير، فأمرهم بتأخير رأس المال بعد إسقاط الربا إذا كان المطالب معسراً، وأعلمهم أن الصدقة عليه بذلك أفضل بقوله تعالى: وَأَنْ تَصَدَّقُوا والأكثرون على تشديد الصاد، وخففها عاصم مع تشديد الدال. وسكنها ابن أبي عبلة مع ضم الدال فجعله من الصّدق.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨١]
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١)
قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، قرأ أبو عمرو بفتح تاء «ترجعون» وضمّها الباقون. قال ابن عباس، وأبو سعيد الخدري، وسعيد بن جبير، وعطية، ومقاتل في آخرين:
هذه آخر آية نزلت من القرآن «٣». قال ابن عباس: وتوفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدها بأحد وثمانين
(١) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» ١٨٦ عن الكلبي، وهو محمد بن السائب بدون إسناد، والكلبي متهم.
- وأما أثر مقاتل، فهو لا شيء أيضا، لكن ورد هذا الخبر من وجوه أخر، انظر الحديث ١٤٨.
(٢) سورة التوبة: ١١٧.
(٣) أثر ابن عباس صحيح. أخرجه النسائي في «التفسير» ٧٧ و ٧٨ عن ابن عباس موقوفا وإسناده جيد. وبوب به البخاري فقال باب وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثم أخرج ٤٥٤٤ عن ابن عباس: آخر آية نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم آية الربا. وأثر عطية العوفي، أخرجه الواحدي في «الأسباب» ٩، وهذا مرسل. وأثر ابن جبير، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» ١/ ٦٥٣، ولم أر من أسنده إلى أبي سعيد، وبكل حال الخبر صحيح، في أنها آخر آية نزلت.
يوماً «١»، وقال ابن جريج: توفي بعدها بتسع ليال. وقال مقاتل: بسبع ليال.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ، قال الزجاج: يقال: داينت الرجل إذا عاملته، فأخذت منه بدين، وأعطيته. قال الشاعر «٢» :
داينت أروى والديون تقضى... فماطلت بعضاً وأدت بعضاً
والمعنى: إذا كان لبعضكم على بعض دين إلى أجل مسمى، فاكتبوه، فأمر الله تعالى بكتب الدّين والإشهاد حفظاً منه للأموال وللناس من الظلم، لأن من كانت عليه البينة قل تحديثه لنفسه بالطمع في إذهابه. وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في السلم خاصة. فإن قيل: ما الفائدة في قوله: «بدين»، و «تداينتم» يكفي عنه؟ فالجواب: إن تداينتم يقع على معنيين: أحدهما: المشاراة والمبايعة والإقراض.
والثاني: المجازاة بالأفعال، فالأول يقال فيه: الدين بفتح الدال، والثاني: يقال منه: الدين بكسر الدال.
قال تعالى: يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ، أي: يوم الجزاء. وأنشدوا «٣» :
دناهم كما دانوا فدلّ بقوله: «بدين» على المراد بقوله: «تداينتم»، ذكره ابن الأنباري. فأما العدل فهو الحق. قال قتادة: لا تدعن حقاً، ولا تزيدن باطلا.
قوله تعالى: وَلا يَأْبَ كاتِبٌ، أي: لا يمتنع أن يكتب كما علمه الله، وفيه قولان:
(١) أخرجه الفريابي وابن المنذر كما في «الدر» ١/ ٦٥٣ من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط كما تقدم غير مرة، وقول ابن جريج الآتي أقرب للصواب، وهو يوافق قول سعيد بن جبير كما في «الدر» ١/ ٦٥٣ وكذا قول مقاتل، والله أعلم. وأثر ابن جريج، أخرجه الطبري ٦٣١٢. وانظر «فتح الباري» ٨/ ٢٠٥.
(٢) هو رؤبة بن العجاج.
(٣) البيت من الهزج، وهو للفند الزماني- شهل بن شيبان- كما في المعجم المفصّل، وتمامه:
ولم يبق سوى... العدوان دناهم كما دانوا.
250
أحدهما: كما علمه الله الكتابة، قاله سعيد بن جبير. وقال الشعبي: الكتابة فرض على الكفاية كالجهاد. والثاني: كما أمره الله به من الحق، قاله الزجاج.
قوله تعالى وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ، قال سعيد بن جبير: يعني المطلوب، يقول: ليمل ما عليه من حق الطالب على الكاتب، وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ، أي: لا ينقص عند الإملاء. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: أمللت أمل، وأمليت أملي لغتان: فأمليت من الإملاء وأمللت من الملل والملال، لأن الممل يطيل قوله على الكاتب ويكرره.
قوله تعالى: فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً، في المراد بالسفيه هاهنا أربعة أقوال: أحدها: أنه الجاهل بالأموال، والجاهل بالإملاء، قاله مجاهد، وابن جبير. والثاني: أنه الصبي والمرأة، قاله الحسن. والثالث: أنه الصغير، قاله الضحاك، والسدي. والرابع: أنه المبذر، قاله القاضي أبو يعلى.
وفي المراد بالضعيف ثلاثة أقوال: أحدها: أنه العاجز والأخرس ومن به حمق، قاله ابن عباس وابن جبير. والثاني: أنه الأحمق، قاله مجاهد والسدي. والثالث: أنه الصغير، قاله القاضي أبو يعلى. قوله تعالى: أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ، قال ابن عباس: لا يستطيع لعيِّه. وقال ابن جبير: لا يحسن أن يمل ما عليه، وقال القاضي أبو يعلى: هو المجنون.
قوله تعالى فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها تعود إلى الحق، فتقديره:
فليملل ولي الحق، هذا قول ابن عباس، وابن جبير، والربيع بن أنس، ومقاتل، واختاره ابن قتيبة.
والثاني: أنها تعود إلى الذي عليه الحق، وهذا قول الضحاك، وابن زيد، واختاره الزجاج، وعاب قول الأوّلين، فقال: كيف يقبل المدّعى! وما حاجته إلى الكتاب والإشهاد، والقول قوله؟! وهذا اختيار القاضي أبي يعلى أيضاً. والعدل: الإنصاف. وفي قوله تعالى: مِنْ رِجالِكُمْ، قولان: أحدهما: أنه يعني الأحرار، قاله مجاهد. والثاني: أهل الإسلام، وهذا اختيار الزجاج، والقاضي أبي يعلى، ويدل عليه أنه خاطب المؤمنين في أول الآية.
قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ، أراد: فإن لم يكن الشهيدان رجلين فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ، ولم يرد به: إن لم يوجد رجلان.
قوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ، قال ابن عباس: من أهل الفضل والدين.
قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى، ذكر الزجاج، أن الخليل، وسيبويه، وسائر النحويين الموثوق بعلمهم، قالوا: معناه: استشهدوا امرأتين، لأن تذكر إِحداهما الأخرى. ومن أجل أن تذكر إحداهما الأخرى. وقرأ حمزة «إن تضل» بكسر الألف. والضلال هاهنا: النسيان، قاله ابن عباس، والضحّاك، والسّدّيّ، ومقاتل، وأبو عبيدة، وابن قتيبة. فأمّا قوله: «فتذكر» فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، بالتخفيف مع نصب الراء، وقرأ حمزة بالرفع مع تشديد الكاف، وقرأ الباقون بالنصب وتشديد الكاف، فمن شدّد أراد الإذكار عند النسيان، وفي قراءة من خفف قولان: أحدهما: أنها بمعنى المشددة أيضاً، وهذا قول الجمهور. قال الضحاك، والربيع بن أنس، والسدي: ومعنى القراءتين واحد.
والثاني: أنها بمعنى: تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر، وهذا مذهب سفيان بن عيينة، وحكى الأصمعي عن أبي عمرو نحوه. واختاره القاضي أبو يعلى، وقد رده جماعة، منهم ابن قتيبة. قال أبو
251
علي: ليس مذهب ابن عيينة بالقوي، لأنهن لو بلغن ما بلغن، لم تجز شهادتهن إلا أن يكون معهن رجل، ولأن الضلال هاهنا: النسيان، فينبغي أن يقابل بما يعادله، وهو التذكير.
قوله تعالى: وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا، قال قتادة: كان الرجل يطوف في الحِواء «١» العظيم، فيه القوم فيدعوهم إلى الشهادة فلا يتبعه منهم أحد، فنزلت هذه الآية. وإلى ماذا يكون هذا الدعاء؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: إلى تحمل الشهادة، وإثباتها في الكتاب، قاله ابن عباس، وعطية، وقتادة، والربيع. والثاني: إلى إقامتها وأدائها عند الحكام بعد أن تقدمت شهادتهم بها، قاله سعيد بن جبير، وطاوس، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، والشعبي، وأبو مجلز، والضحاك، وابن زيد، ورواه الميمونيّ عن أحمد بن حنبل. والثالث: إلى تحملها وإلى أدائها، روي عن ابن عباس، والحسن، واختاره الزجاج، قال القاضي أبو يعلى: إنما يلزم الشاهد أن لا يأبى إذا دعي لإقامة الشهادة إذا لم يوجد من يشهد غيره، فأما إن كان قد تحملها جماعة، لم تتعين عليه، وكذلك في حال تحملها، لأنه فرض على الكفاية كالجهاد، فلا يجوز لجميع الناس الامتناع منه.
قوله تعالى: وَلا تَسْئَمُوا، أي: لا تملّوا ولا تضجروا أن تكتبوا القليل والكثير الذي قد جرت العادة بتأجيله إلى أجله، أي: إلى محل أجله ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ، أي: أعدل، وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ لأن الكتاب يذكر الشهود جميع ما شهدوا عليه وَأَدْنى أي: أقرب أَلَّا تَرْتابُوا أي: لا تشكوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ الأموال تِجارَةً أي: إلا أن تقع تجارة. وقرأ عاصم «تجارة» بالنصب على معنى:
إلا أن تكون الأموال تجارة حاضرة، وهي البيوع التي يستحق كل واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد عليه من جهته بلا تأجيل. فأباح ترك الكتاب فيها توسعة، لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في مأكول ومشروب. قوله تعالى: وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ، الإشهاد مندوب إليه فيما جرت العادة بالإشهاد عليه.

فصل: وهذه الآية تتضمن الأمر باثبات الدين في كتاب، وإثبات شهادة في البيع والدين.


واختلف العلماء، هل هذا أمر وجوب «٢»، أم على وجه الاستحباب؟ فذهب الجمهور إلى أنه أمر ندب واستحباب، فعلى هذا هو محكم، وذهبت طائفة إلى أن الكتابة والإشهاد واجبان، روي عن ابن عمر وأبي موسى ومجاهد وابن سيرين وعطاء والضحاك وأبي قلابة والحكم وابن زيد. ثم اختلف هؤلاء، هل هذا الحكم باقٍ أم منسوخ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه محكم غير منسوخ، وذهبت طائفة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ.
قوله تعالى: وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ، قرأ أبو جعفر بتخفيف الراء من «يضار» وسكونها.
وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: إن معناه: لا يضارَّ بأن يدعى وهو مشغول، هذا قول ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسدي، والربيع بن أنس، والفراء، ومقاتل. وقال الرّبيع: كان أحدهم
(١) في «اللسان» : الحواء: جماعة بيوت الناس إذا تدانت، والجمع الأحوية. [.....]
(٢) قال الحافظ ابن كثير ١/ ٣٣٦ عند هذه الآية وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب لا على الوجوب.
252
يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي، فيقول: إني مشغول، فيلزمه، ويقول: إنك قد أُمرت بالكتابة، فيضاره، ولا يدعه، وهو يجد غيره، وكذلك يفعل الشاهد، فنزلت وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ.
والثاني: أن معناه: النهي للكاتب أن يضار من يكتب له بأن يكتب غير ما يمل عليه، وللشاهد أن يشهد بما لم يستشهد عليه، هذا قول الحسن، وطاوس، وقتادة، وابن زيد، واختاره ابن قتيبة، والزجاج.
واحتج الزجاج على صحته بقوله تعالى: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ، قال: ولا يسمى من دعا كاتباً ليكتب، وهو مشغول، أو شاهداً فاسقاً، إنما يسمى من حرف الكتاب، أو كذب في الشهادة، فاسقاً. والثالث: أن معنى المضارّة: امتناع الكاتب أن يكتب، والشاهد أن يشهد، وهذا قول عطاء في آخرين.
قوله تعالى: وَإِنْ تَفْعَلُوا، يعني: المضارّة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٣]
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣)
قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ، إنما خص السفر، لأن الأغلب عدم الكاتب والشاهد فيه، ومقصود الكلام: إذا عدمتم التوثق بالكتاب والإشهاد، فخذوا الرهن.
قوله تعالى: فَرِهانٌ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعبد الوارث (فرهن) بضم الراء والهاء من غير ألف، وأسكن الهاء عبد الوارث وجماعة. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي فَرِهانٌ بكسر الراء، وفتح الهاء، وإثبات الألف. قال ابن قتيبة من قرأ فَرِهانٌ أراد: جمع رهن، ومن قرأ «رهن» أراد: جمع رهان، فكأنه جمع الجمع. وقوله تعالى: مَقْبُوضَةٌ، يدل على أن من شرط لزوم الرهن القبض، وقبض الرهن أخذه من راهنه منقولاً، فإن كان مما لا ينقل، كالدور والأرضين، فقبضه تخلية راهنه بينه وبين مرتهنه.
قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً، أي: فإن وثق رب الدين بأمانة الغريم، فدفع ماله بغير كتاب ولا شهود، ولا رهن، فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ وهو المدين أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أن يخون من ائتمنه. وقوله تعالى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ، قال السدي عن أشياخه: فانه فاجر قلبه. قال القاضي أبو يعلى: إنما أضاف الإثم إلى القلب، لأن المآثم تتعلق بعقد القلب، وكتمان الشهادة إنما هو عقد النّيّة لترك أدائها.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٤]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)
قوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ أما إبداء ما في النفس، فانه العمل بما أضمره العبد، أو النطق، وهذا مما يحاسب عليه العبد، ويؤاخذ به، وأما ما يخفيه في نفسه، فاختلف العلماء في المراد بالمخفي في هذه الآية على قولين:
أحدهما: أنه عام في جميع المخفيات، وهو قول الأكثرين. واختلفوا: هل هذا الحكم ثابت في المؤاخذة أم منسوخ؟ على قولين: أحدهما: أنه منسوخ بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، هذا قول ابن مسعود، وأبي هريرة، وابن عباس في رواية، والحسن، والشعبي، وابن سيرين، وسعيد بن جبير، وقتادة، وعطاء الخراساني، والسدي، وابن زيد، ومقاتل. والثاني: أنه ثابت في المؤاخذة على العموم، فيؤاخذ به من يشاء، ويغفره لمن يشاء، وهذا مروي عن ابن عمر، والحسن، واختاره أبو سليمان الدمشقي، والقاضي أبو يعلى. وروى ابن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: هذه الآية لم تنسخ، ولكن الله عزّ وجلّ إذا جمع الخلائق، يقول لهم: إني مخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطّلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم، ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، وهو قوله تعالى: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، يقول: يخبركم به الله، وأما أهل الشرك والريب، فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب وهو قوله تعالى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ، والأكثرون على تسكين راء «فيغفر» وباء «يعذب» منهم ابن كثير ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي. إنما جزموا لإتباع هذا ما قبله، وهو «يحاسبْكم» وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، وعاصم ويعقوب: برفع الراء، والباء فيهما. فهؤلاء قطعوا الكلام عن الأول، قال ابن الأنباري: وقد ذهب قوم إلى أن المحاسبة هاهنا هي إطلاع الله العبد يوم القيامة على ما كان حدث به نفسه في الدنيا، ليعلم أنه لم يعزب عنه شيء. قال: والذي نختاره أن تكون الآية محكمة، لأن النسخ إنما يدخل على الأمر والنهي. وقد روي عن عائشة أنها قالت: أما ما أعلنت، فالله يحاسبك به، وأما ما أخفيت، فما عُجلت لك به العقوبة في الدنيا.
والقول الثاني: أنه أمر خاص في نوع من المخفيات، ولأرباب هذا القول فيه قولان: أحدهما:
أنه كتمان الشهادة، قاله ابن عباس في رواية، وعكرمة والشعبي. والثاني: أنه الشك واليقين، قاله مجاهد. فعلى هذا المذكور تكون الآية محكمة.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٥]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥)
قوله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ.
(١٥١) روى البخاري ومُسلم في «صحيحيهما» من حديث أبي مسعود البدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه»، قال أبو بكر النقاش: معناه: كفتاه عن قيام الليل. وقيل: إنهما نزلتا على سبب.
(١٥٢) وهو ما روى العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، قال: لما أنزل الله تعالى
صحيح. أخرجه البخاري ٥٠٠٨ و ٥٠٠٩ و ٥٠٤٠ و ٥٠٥١ ومسلم ٨٠٧ والطيالسي ٢/ ١٠ وأحمد ٤/ ١٢١ وأبو داود ١٣٩٧ والترمذي ٢٨٨١ والنسائي في «اليوم والليلة» ٧١٩ وابن ماجة ١٣٦٩ والدارمي ١/ ٣٤٩ وابن حبان ٧٨١ والبغوي ١١٩٩ من حديث أبي مسعود البدري.
صحيح. أخرجه مسلم ١٢٥ وأحمد ٢/ ٤١٢ والطبري ٦٤٥٣ وأبو عوانة ١/ ٧٦ و ٧٧ وابن حبان ١٣٩ والواحدي في «أسباب النزول» ١٨٧ من طرق عن أبي هريرة.
وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ، اشتد ذلك على أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأتوا رسول الله ثم جثوا على الركب. فقالوا: قد أُنزل عليك هذه الآية ولا نطيقها. فقال: «أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا واليك المصير». فلما قالوها وذلت بها ألسنتهم، أنزل الله في أثرها آمَنَ الرَّسُولُ.
قال الزجاج: لما ذكر ما تشتمل عليه هذه السورة من القصص والأحكام ختمها بتصديق نبيه، والمؤمنين. وقرأ ابن عباس «وكتابه»، فقيل له في ذلك، فقال: كتاب أكثر من كُتُب، ذهب به إلى اسم الجنس، كما تقول: كثر الدرهم في أيدي الناس. وقد وافق ابن عباس في قراءته حمزة والكسائي وخلف، وكذلك في «التحريم» وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر، وابن عامر (وكتبه) هاهنا بالجمع، وفي «التحريم» بالتوحيد. وقرأ أبو عمرو بالجمع في الموضعين. قوله تعالى لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، قرأ أبو عمرو ما أضيف إلى مكنى على حرفين، مثل «رسلنا» و «رسلكم» باسكان السين، وثقَّل ما عدا ذلك. وفي قوله تعالى: عَلى رُسُلِكَ، روايتان، بالتخفيف والتثقيل وقرأ الباقون كل ما كان في القرآن من هذا الجنس بالتثقيل، ومعنى قوله: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، أي: لا نفعل كما فعل أهل الكتاب، آمنوا ببعض، وكفروا ببعض، وقرأ يعقوب «لا يفرق» بالياء وفتح الراء.
قوله تعالى: غُفْرانَكَ، أي: نسألك غفرانك. والمصير: المرجع.
[سورة البقرة (٢) : آية ٢٨٦]
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦)
قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها، الوسع: الطاقة، قاله ابن عباس، وقتادة.
ومعناه: لا يكلفها ما لا قدرة لها عليه لاستحالته، كتكليف الزمن السعي، والأعمى النظر. فأما تكليف ما يستحيل من المكلف، لا لفقد الآلات، فيجوز كتكليف الكافر الذي سبق في العلم القديم أنه لا يؤمن الإيمان، فالآية محمولة على القول الأول. ومن الدليل على ما قلناه قوله تعالى في سياق الآية رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ، فلو كان تكليف ما لا يطاق ممتنعاً، كان السؤال عبثاً، وقد أمر الله تعالى نبيه بدعاء قوم قال فيهم: وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً «١»، وقال ابن الأنباري:
المعنى: لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه، وان كنا مطيقين له على تجشم، وتحمل مكروه، فخاطب العرب على حسب ما تعقل، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه: ما أطيق النظر إليك، وهو مطيق لذلك، لكنه يثقل عليه، ومثله قوله تعالى: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ «٢». قوله تعالى: لَها ما كَسَبَتْ، قال ابن عباس: لها ما كسبت من طاعة وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ من معصية. قال أبو بكر النقاش:
فقوله: «لها» دليل على الخير، و «عليها» دليل على الشر. وقد ذهب قوم إلى أن «كسبت» لمرة ومرات
(١) الكهف: ٥٧.
(٢) هود: ٢٠.
255
و «اكتسبت» لا يكون إلا لشيء بعد شيء، وهما عند آخرين لغتان بمعنى واحد كقوله عزّ وجلّ: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً «١».
قوله تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا، هذا تعليم من الله تعالى للخلق أن يقولوا ذلك، قال ابن الأنباري: والمراد بالنسيان هاهنا: الترك مع العمد، لأن النسيان الذي هو بمعنى الغفلة قد أمنت الآثام من جهته. والخطأ أيضاً هاهنا من جهة العمد، لا من جهة السهو، يقال: أخطأ الرجل: إذا تعمد، كما يقال: أخطأ إذا أغفل. وفي «الإصر» قولان: أحدهما أنه العهد، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والسدي. والثاني: الثقل، أي: لا تثقل علينا من الفروض ما ثقلته على بني اسرائيل، قاله ابن قتيبة. قوله تعالى: وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ، فيه خمسة أقوال «٢» : أحدها: أنه ما يصعُب ويشق من الأعمال، قاله الضحاك، والسدي، وابن زيد، والجمهور. والثاني: أنه المحبة، رواه الثوري عن منصور عن إبراهيم. والثالث: الغلمة «٣»، قاله مكحول. والرابع: حديث النفس ووساوسها.
والخامس: عذاب النار.
قوله تعالى: أَنْتَ مَوْلانا، أي أنت ولينا فَانْصُرْنا أي: أعنا.
وكان معاذ إذا فرغ من هذه السورة، قال: آمين.
(١) الطارق: ١٧.
(٢) قال ابن كثير رحمه الله ١/ ٣٤٣: وقوله رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ أي من التكليف والمصائب والبلاء لا تبتلنا بما لا قبل لنا به اه. قلت: فالقول الأول هو الصواب إن شاء الله تعالى.
(٣) في «اللسان» : الغلمة: هيجان شهوة النكاح من المرأة والرجل.
256
Icon