تفسير سورة الحج

تفسير مقاتل بن سليمان
تفسير سورة سورة الحج من كتاب تفسير مقاتل بن سليمان .
لمؤلفه مقاتل بن سليمان . المتوفي سنة 150 هـ
سورة الحج مكية، إلا عشر آيات، فإنها نزلت بالمدينة، من قوله :﴿ يا أيها... ﴾ إلى قوله تعالى :﴿... شديد ﴾ [ الحج : ١-٢ ] نزلت في غزوة بني المصطلق بالمدينة.
وإلا قوله تعالى :﴿ سواء العاكف فيه... ﴾ [ الحج : ٢٥ ] الآية، نزلت في عبد الله ابن أنس بن خطل. قوله تعالى :﴿ وليعلم الذين أوتوا العلم... ﴾ [ آية : الحج : ٥٤ ] الآية نزلت في أهل التوراة.
وقوله تعالى :﴿ والذين هاجروا في سبيل الله ثم قتلوا أو ماتوا... ﴾ [ الحج : ٥٨، ٥٩ ] الآيتين وقوله تعالى :﴿ أذن للذين يقاتلون... ﴾ إلى قوله :﴿... قوي عزيز ﴾ [ الحج : ٣٩، ٤٠ ]، وقوله :﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف ﴾ الآية [ الحج : ١١ ] الآية.

حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، عن الهذيل، عن مقاتل.
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمْ ﴾ يخوفهم، يقول: اخشوا ربكم ﴿ إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ [آية: ١].
﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ ﴾ يقول: تدع البنين لشدة الفزع من الساعة، وذلك قبل النفخة الأولى ينادي مناد من السماء الدنيا، يا أيها الناس، جاء أمر الله، فيسمع صوته أهل الأرض جميعاً فيفزعون فزعاً شديداً، ويموج بعضهم فى بعض، ويشيب فيها الصغير، ويسكر فيها الكبير، وتضع الحوامل ما في بطونها، وتدع المراضع البنين من الفزع الشديد، فذلك قوله عز وجل: ﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ ﴾.
﴿ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ﴾ النساء والدواب حملها من شدة الفزع ﴿ وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ ﴾ من الخوف ﴿ وَمَا هُمْ بِسُكَارَىٰ ﴾ من الشراب ﴿ وَلَـٰكِنَّ عَذَابَ ٱللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [آية: ٢]" نزلت هاتان الآيتان ليلاً والناس يسيرون فى غزاة بني المصطلق، وهم حي خزاعة، فقرأها النبى صلى الله عليه وسلم تلك الليلة على الناس ثلاث مرات، ثم قال: " هل تدرون أي يوم هذا "؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " هذا يوم يقول الله عز وجل لآدم عليه السلام: قم فابعث بعث النار من ذريتك، فيقول: يا رب وما بعث النار، قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، إلى النار، وواحد إلى الجنة "، فلما سمع القوم ذلك اشتد عليهم وحزنوا، فلما أصبحوا أتوا النبى صلى الله عليه وسلم فقالوا: وما توبتنا وما حيلتنا، فقال لهم النبى صلى الله عليه وسلم: " أبشروا فإن معكم خليقتين لم يكونا فى أمة قط إلا كثرتها يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون، ما أنتم فى الناس إلا كشعرة بيضاء فى ثور أسود، أو كشعرة سوداء فى ثور أبيض، أو كالرقم فى ذراع الدابة، أو كالشامة فى سنام البعير، فأبشروا وقاربوا وسددوا واعملوا. ثم قال: " أيسركم أن تكونوا ربع أهل الجنة "؟ قالوا: من أين لنا ذلك يا رسول الله؟ قال: " أفيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة "؟ قالوا: من أين لنا ذلك يا رسول الله؟ قال: " أيسركم أن تكونوا شطر أهل الجنة "؟ قالوا: من أين لنا ذلك يا رسول الله، قال: " فإنكم أكثر أهل الجنة، أهل الجنة عشرون ومائة صف، أمتى من ذلك ثمانون صفاً، وسائر أهل الجنة أربعون صفا، ومع هؤلاء أيضاً سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب مع كل رجل سبعون ألفاً ". فقالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: " هم لا يرقون، ولا يسترقون، ولا يكتون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون ". فقام عكاشة بن محصن الأسدى، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلنى منهم، قال: " فإنك منهم "، فقام رجل آخر من رهط ابن مسعود من هذيل، فقال: يا رسول الله، ادع الله أن يجعلنى منهم، قال: " سبقك بها عكاشة " ".
قوله سبحانه: ﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ يعلمه نزلت فى النضر بن الحارث القرشى، وأمه، اسمها صفية بنت الحارث بن عثمان بن عبد الدار بن قصى، قال: ﴿ وَيَتَّبِعُ ﴾ النضر ﴿ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ ﴾ [آية: ٣] يعنى مارد.﴿ كُتِبَ عَلَيْهِ ﴾ يعنى قضى عليه، يعنى الشيطان ﴿ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ ﴾ يعنى من اتبع الشيطان ﴿ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ﴾ عن الهدى ﴿ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ﴾ ﴿ وَيَهْدِيهِ ﴾ يعنى ويدعوه ﴿ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلسَّعِيرِ ﴾ [آية: ٤] يعنى الوقود، ثم ذكر صنعه ليعتبروا فى البعث.
فقال سبحانه: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾ يعنى كفار مكة ﴿ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ ﴾ يعنى فى شك من البعث بعد الموت، فانظروا إلى بدء خلقكم ﴿ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ ولم تكونوا شيئاً ﴿ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ﴾ مثل الدم ﴿ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ ﴾ يعنى من النطقة مخلقة ﴿ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ﴾ يعنى السقط يخرج من بطن أمه مصوراً، وغير مصور ﴿ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي ٱلأَرْحَامِ مَا نَشَآءُ ﴾ فلا يكون سقطاً ﴿ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ يقول: خروجه من بطن أمه ليعتبروا فى البعث، ولا يشكوا فيه أن الذى بدأ خلقكم، لقادر على أن يعيدكم بعد الموت. ثم قال سبحانه: ﴿ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ ﴾ من بطون أمهاتكم ﴿ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوۤاْ أَشُدَّكُمْ ﴾ ثمانى عشرة سنة إلى أربعين سنة ﴿ وَمِنكُمْ مَّن يُتَوَفَّىٰ ﴾ من قبل أن يبلغ أشده ﴿ ومِنكُمْ مَّن يُرَدُّ ﴾ بعد الشباب ﴿ إِلَىٰ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ ﴾ يعنى الهرم ﴿ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ ﴾ كان يعلمه ﴿ شَيْئاً ﴾ فذكر بدء الخلق، ثم ذكر الأرض الميتة كيف يحيها ليعتبروا فى البعث، فإن البعث ليس بأشد من بدء الخلق، ومن الأرض حين يحيها من بعد موتها، فذلك قوله سبحانه: ﴿ وَتَرَى ٱلأَرْضَ هَامِدَةً ﴾ يعنى ميتة ليس فيها نبت يعنى متهشمة ﴿ فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا ٱلْمَآءَ ﴾ يعنى المطر ﴿ ٱهْتَزَّتْ ﴾ الأرض، يعنى تحركت بالنبات، كقوله:﴿ تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ﴾[القصص: ٣١] أى تحرك كأنها حية. ثم قال للأرض: ﴿ وَرَبَتْ ﴾ يعنى وأضعفت النبات ﴿ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [آية: ٥] يعنى من كل صنف من النبات حسن.﴿ ذٰلِكَ ﴾ يقول: هذا الذى فعل، هذا الذى ذكر من صنعه، يدل على توحيده بصنعه ﴿ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ ﴾ وغيره من الآلهة باطل ﴿ وَأَنَّهُ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ ﴾ فى الآخرة ﴿ وَأَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آية: ٦] من البعث وغيره قدير.﴿ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ ﴾ يعنى لا شك ﴿ فِيهَا ﴾ أنها كائنة ﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ ﴾ فى الآخرة ﴿ مَن فِي ٱلْقُبُورِ ﴾ [آية: ٧] من الأموات، فلا تشكوا فى البعث.
﴿ ومِنَ ٱلنَّاسِ ﴾ يعنى النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن السياف بن عبد الدار ابن قصى بن كلاب بن مرة، ومن الناس ﴿ مَن يُجَادِلُ فِي ٱللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ يعنى يخاصم فى الله، عز وجل، أن الملائكة بنات الله تعالى: ﴿ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ ﴾ [آية: ٨] ﴿ وَلاَ هُدىً ﴾ ولا بيان معه من الله، عز وجل، بما يقول: ولا كتاب من الله تعالى: ﴿ مُّنِيرٍ ﴾ يعنى مضيئاً فيه حجة بأن الملائكة بنات الله فيخاصم بهذا. قال الفراء وأبو عبيدة فى قوله عز وجل: ﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ ﴾ يقول: يتبختر فى مشيته تكبراً. ثم أخبر عن النضر، فقال سبحانه: ﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ ﴾ يقول: يلوى عنقه عن الإيمان ﴿ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ يقول: ليستزل عن دين الإسلام ﴿ لَهُ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ ﴾ يعنى القتل ببدر ﴿ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ ﴾ [آية: ٩] يعنى نحرقه بالنار.﴿ ذٰلِكَ ﴾ العذاب ﴿ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ﴾ من الكفر والتكذيب ﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ ﴾ [آية: ١٠] فيعذب على غير ذنب.
﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ﴾ يعنى على شك، نزلت فى أناس من أعراب أسد بن خزيمة، وغطفان. قال مقاتل: إذا سألك رجل على كم حرف تعبد الله، عز وجل، فقل: لا أعبد الله على شىء من الحروف، ولكن أعبد الله تعالى ولا أشرك به شيئاً لأنه واحد لا شريك له. كان الرجل يهاجر إلى المدينة، فإن أخصبت أرضه، ونتجت فرسه، وولد له غلام، وصح بالمدينة، وتتابعت عليه الصدقات، قال: هذا دين حسن، يعنى الإسلام. فذلك قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ ﴾ يقول: رضى بالإسلام، وإن أجدبت أرضه، ولم تنتج فرسه، وولدت له جارية، وسقم بالمدينة، ولم يجد عليه بالصدقات، قال: هذا دين سوء، ما أصابنى من دينى هذا الذى كنت عليه إلا شراً فرجع عن دينه، فذلك قوله سبحانه: ﴿ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ﴾ يعنى بلاء ﴿ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ ﴾ يقول: رجعل إلى دينه الأول كافراً ﴿ خَسِرَ ٱلدُّنْيَا وَٱلآُخِرَةَ ﴾ خسر دنياه التى كان يحبها، فخرج منها ثم أفضى إلى الآخرة وليس له فيها شىء، مثل قوله:﴿ ... إِنَّ ٱلْخَاسِرِينَ ٱلَّذِينَ خَسِرُوۤاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ... ﴾[الزمر: ١٥] يقول الله عز وجل: ﴿ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْخُسْرَانُ ٱلْمُبِينُ ﴾ [آية: ١١] يقول: ذلك هو الغبن البين، ثم أخبر عن هذا المرتد عن الإسلام. فقال سبحانه: ﴿ يَدْعُوا ﴾ يعنى يعبد ﴿ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ يعنى الصنم ﴿ مَا لاَ يَضُرُّهُ ﴾ فى الدنيا إن لم يعبده ﴿ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ ﴾ فى الآخرة إن عبده ﴿ ذٰلِكَ هُوَ ٱلضَّلاَلُ ٱلْبَعِيدُ ﴾ [آية: ١٢] يعنى الطويل.﴿ يَدْعُوا ﴾ يعنى يعبد ﴿ لَمَنْ ضَرُّهُ ﴾ فى الآخرة ﴿ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ﴾ فى الدنيا ﴿ لَبِئْسَ ٱلْمَوْلَىٰ ﴾ يعنى الولى ﴿ وَلَبِئْسَ ٱلْعَشِيرُ ﴾ [آية: ١٣] يعنى الصاحب، كقوله سبحانه:﴿ ... وَعَاشِرُوهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ... ﴾[النساء: ١٩] يعنى وصاحبوهن بالمعروف.
ثم ذكر ما أعد للصالحين، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾ يقول: تجرى العيون من تحت البساتين ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ [آية: ١٤]
﴿ مَن كَانَ يَظُنُّ ﴾ يعنى يحسب ﴿ أَن لَّن يَنصُرَهُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ ﴾ يعنى النبى صل الله عليه وسلم ﴿ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى ٱلسَّمَآءِ ﴾ يعنى بحبل إلى سقف البيت ﴿ ثُمَّ لْيَقْطَعْ ﴾ يعنى ليختنق ﴿ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ﴾ يقول: فعله بنفسه إذا فعل ذلك هل يذهبن ذلك ما يجد فى قلبه من الغيظ بأن محمداً لا ينصر ﴿ مَا يَغِيظُ ﴾ [آية: ١٥] هل يذهب ذلك ما يجد فى قلبه من الغيظ، نزلت فى نفر من أسد وغطفان، قالوا: إنا نخاف ألا ينصر محمد فينقطع الذى بيننا وبين حلفائنا من اليهود، فلا يجيرونا ولا يأوونا.
﴿ وَكَذٰلِكَ ﴾ يعنى وهكذا ﴿ أَنزَلْنَاهُ ﴾ يعنى القرآن ﴿ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ يعنى واضحات ﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي ﴾ إلى دينه ﴿ مَن يُرِيدُ ﴾ [آية: ١٦].
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئِينَ ﴾ قوم يعبدون الملائكة، ويصلون للقبلة، ويقرأون الزبور ﴿ وَٱلنَّصَارَىٰ وَٱلْمَجُوسَ ﴾ يعبدون الشمس، والقمر والنيران.
﴿ وَٱلَّذِينَ أَشْرَكُوۤاْ ﴾ يعنى مشركى العرب يعبدون الأوثان، فالأديان ستة، فواحد لله، عز وجل، وهو الإسلام، وخمسة للشيطان ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْصِلُ ﴾ يعنى يحكم ﴿ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيامَةِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ من أعمالهم ﴿ شَهِيدٌ ﴾ [آية: ١٧].
﴿ أَلَمْ تَرَ ﴾ يعنى ألم تعلم ﴿ أَنَّ ٱللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ ﴾ من الملائكة وغيرهم ﴿ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ وَٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ وَٱلنُّجُومُ ﴾ سجود هؤلاء الثلاثة حين تغرب الشمس قبل المغرب لله تعالى تحت العرش ﴿ وَ ﴾ يسجد ﴿ وَٱلْجِبَالُ وَٱلشَّجَرُ وَٱلدَّوَآبُّ ﴾ ظلهم حين تطلع الشمس، وحين تزول إذا تحول ظل كل شىء فهو سجوده، ثم قال سبحانه: ﴿ وَ ﴾ يسجد ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ ٱلنَّاسِ ﴾ يعنى المؤمنين ﴿ وَ ﴾ يسجد ﴿ وَكَثِيرٌ ﴾ ممن ﴿ حَقَّ عَلَيْهِ ٱلْعَذَابُ ﴾ من كفار الإنس والجن سجودهم هو سجود ظلالهم ﴿ وَمَن يُهِنِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ ﴾ [آية: ١٨] فى خلقه، فقرأ النبى صلى الله عليه وسلم هذه الآية فسجد لها هو وأصحابه، رضى الله عنهم.
﴿ هَـٰذَانِ خَصْمَانِ ٱخْتَصَمُواْ فِي رَبِّهِمْ ﴾ نزلت فى المؤمنين وأهل الكتاب، ثم بين ما أعد للخصمين، فقال: ﴿ فَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ يعنى اليهود والنصارى ﴿ قُطِّعَتْ لَهُمْ ﴾ يعنى جعلت لهم ﴿ ثِيَابٌ مِّن نَّارِ ﴾ يعنى قمصاً من نحاس من نار، فيها تقديم ﴿ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ ٱلْحَمِيمُ ﴾ [آية: ١٩] إذا ضربه الملك بالمقمعة ثقب رأسه، ثم صب فيه الحميم الذي قد انتهى حره.
﴿ يُصْهَرُ ﴾ يعنى يذاب ﴿ بِهِ ﴾ يعني بالحميم ﴿ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ ﴾ [آية: ٢٠] يقول: وتنضج الجلود.
﴿ وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ ﴾ [آية: ٢١] ﴿ كُلَّمَآ أَرَادُوۤاْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا ﴾ وذلك إذا جاشت جهنم ألقت الرجال فى أعلى الأبواب فيريدون الخروج فتعيدهم الملائكة، يعنى الخزان فيها بالمقامع، وتقول لهم الخزنة إذا ضربوهم بالمقامع ﴿ وَذُوقُواْ عَذَابَ ٱلْحَرِيقِ ﴾ [آية: ٢٢] يعنى النار، ثم ذكر ما أعد الله، عز وجل، للمؤمنين، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾ يقول: تجرى العيون من تحت البساتين ﴿ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً ﴾ أى أساور من لؤلؤ ﴿ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾ [آية: ٢٣] مما يلي الجسد الحرير، وأعلاه السندس والاستبرق.
﴿ وَهُدُوۤاْ ﴾ فى الدنيا ﴿ إِلَى ٱلطَّيِّبِ مِنَ ٱلْقَوْلِ ﴾ يعنى التوحيد، وهو قول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كقوله:﴿ كَلِمَةً طَيِّبَةً ﴾[إبراهيم: ٢٤] يعني التوحيد ﴿ وَهُدُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطِ ﴾ يعنى دين الإسلام ﴿ ٱلْحَمِيدِ ﴾ [آية: ٢٤] عند خلقه يحمده أولياؤه.
﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ يقول: ويمنعون الناس عن دين الله، عز وجل.
﴿ وَ ﴾ عن ﴿ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ ٱلَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً ٱلْعَاكِفُ فِيهِ ﴾ يعنى المقيم فى الحرم، وهم أهل مكة ﴿ وَٱلْبَادِ ﴾ يعنى من دخل مكة من غير أهلها ﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ ﴾ يقول: من لجأ إلى الحرم يميل فيه بشرك ﴿ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [آية: ٢٥] يعنى وجيعاً نزلت فى عبد الله بن أنس بن خطل القرشى من بنى تيم بن مرة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله مع رجلين أحدهما مهاجر، والآخر من الأنصار، فافتخروا فى الأنساب، فغضب ابن خطل، فقتل الأنصاري، ثم هرب إلى مكة، ورجع المهاجر إلى المدينة، فأمر النبى صلى الله عليه وسلم بقتل عبد الله يوم فتح مكة، فقتله أبو برزة الأسلمى، وسعد بن حريث القرشي، أخو عمرو بن حريث.
قوله عز وجل: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ ٱلْبَيْتِ ﴾ المعمور، قال: دللنا إبراهيم عليه، فبناه مع ابنه إسماعيل، عليهما السلام، وليس له أثر ولا أساس، كان الطوفان محا أثره، ورفعه الله، عز وجل، ليالي الطوفان إلى السماء فعمرته الملائكة، وهو البيت المعمور، قال الله عز وجل لإبراهيم: ﴿ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ﴾ من الأوثان لا تنصب حوله وثناً ﴿ لِلطَّآئِفِينَ ﴾ بالبيت ﴿ وَٱلْقَآئِمِينَ ﴾ يعني المقيمين بمكة من أهلها ﴿ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ ﴾ [آية: ٢٦] يعنى فى الصلوات الخمس، وفى الطواف حول البيت من أهل مكة وغيرهم، والبيت الحرام اليوم مكان البيت المعمور، ولو أن حجراً وقع من البيت المعمور وقع على البيت الحرام، وهو فى العرض والطول مثله، إلا أن قامته كما بين السماء والأرض.
﴿ وَأَذِّن ﴾ يا إبراهيم ﴿ فِي ٱلنَّاسِ ﴾ يعني المؤمنين ﴿ بِٱلْحَجِّ ﴾ فصعد أبا قبيس، وهو الجبل الذي الصفا في أصله، فنادى يا أيها الناس أجيبوا ربكم، إن الله عز وجل يأمركم أن تحجوا بيته، فسمع نداء إبراهيم، عليه السلام، كل مؤمن على ظهر الأرض، ويقال: فى أصلاب الرجال وأرحام النساء، فالتلبية اليوم جواب نداء إبراهيم، عليه السلام، عن أمر ربه، عز وجل، فذلك قوله سبحانه: ﴿ يَأْتُوكَ رِجَالاً ﴾ يعنى على أرجلهم مشاة ﴿ وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ ﴾ يعنى الإبل ﴿ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ ﴾ [آية: ٢٧] يعنى يجىء من كل مكان بعيد.
﴿ لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ ﴾ يعنى الأجر فى الآخرة فى مناسكهم ﴿ وَ ﴾ لكى ﴿ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِيۤ أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ﴾ يعنى ثلاثة أيام، يوم النحر، ويومين بعده إلى غروب الشمس ﴿ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْبَآئِسَ ﴾ يعنى الضرير الزمن ﴿ ٱلْفَقِيرَ ﴾ [آية: ٢٨] الذي ليس له شىء.
﴿ ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ ﴾ يعنى حلق الرأس، والذبح، والجمار.
﴿ وَلْيُوفُواْ ﴾ يعنى لكى يوفوا ﴿ نُذُورَهُمْ ﴾ فى حج، أو عمرة بما أوجبوا على أنفسهم من هدى، أو غيره.
﴿ وَلْيَطَّوَّفُواْ بِٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ ﴾ [آية: ٢٩] أعتق فى الجاهلية من القتل، والسبى، والخراب. قال الفراء: أعتق من الفرق، ومن أن يدعى ملكه أحد من الجبابرة، ويقال: العتيق القديم.
﴿ ذٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ ٱللَّهِ ﴾ يعنى أمر المناسك كلها ﴿ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ﴾ فى الآخرة ﴿ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ ﴾ بهيمة ﴿ ٱلأَنْعَامُ ﴾ التى حرموا للآلهة فى سورة الأنعام ﴿ إِلاَّ مَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ ﴾ من التحريم فى أول سورة المائدة ﴿ فَٱجْتَنِبُواْ ٱلرِّجْسَ مِنَ ٱلأَوْثَانِ ﴾ فيها تقديم يقول: اتقوا عبادة اللات والعزى ومناة، وهي الأوثان ﴿ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ ﴾ [آية: ٣٠] يقول: اتقوا الكذب، وهو الشرك. حدثنا أبو محمد، قال: حدثنى أبي، قال: حدثنا الهذيل، عن مقاتل، عن محمد بن على، فى قوله تعالى: ﴿ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ ﴾ قال: الكذب وهو الشرك فى التلبية، وذلك أن الخمس قريش، وخزاعة، وكنانة، وعامر بن صعصعة، فى الجاهلية كانوا يقولون فى التلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك، يعنون الملائكة التى تعبد هذا هو قول الزور لقولهم: إلا شريكاً هو لك. وكان أهل اليمن فى الجاهلية يقولون فى التلبية: نحن عرابا عك عك إليك عانية، عبادك اليمانية، كيما نحج الثانية، على القلاص الناحية. وكانت تميم تقول في إحرامها: لبيك ما نهارنا نجره، إدلاجه وبرده وحره، لا يتقي شيئاً ولا يضره، حجاً لرب مستقيم بره. وكانت ربيعة تقول: لبيك اللهم حجاً حقاً، تعبداً ورقاً، لم نأتك للمناحة، ولا حباً للرباحة. وكانت قيس عيلان تقول: لبيك لولا أن بكراً دونكا، بنو أغيار وهم يلونكا، ببرك الناس ويفخرونكا، ما زال منا عجيجاً يأتونكا. وكانت جرهم تقول فى إحرامها: لبيك إن جرهما عبادك، والناس طرف وهم تلادك، وهم لعمرى عمروا بلادك، لا يطاق ربنا يعادك، وهم الأولون على ميعادك، وهم يعادون كل من يعادك، حتى يقيموا الدين فى وادك. وكانت قضاعة تقول: لبيك رب الحل والإحرام، ارحم مقام عبد وآم، أتوك يمشون على الأقدام. وكانت أسد وغطفان تقول فى إحرامها بشعر اليمن: لبيك، إليك تعدوا قلقا وضينها، معترضا فى بطنها جنينها، مخالفاً دين النصارى دينها. وكانت النساء تطفن بالليل عراة، وقال بعضهم: لا بل نهاراً تأخذ إحداهن حاشية برد تستر به، وتقول: اليوم يبدوا بعضه أو كله، وما بدا منه فلا أحله، كم من لبيب عقله يضله، وناظر ينظر فيما يمله ضخم من الجثم عظيم ظله. وكانت تلبية آدم، عليه السلام: لبيك الله لبيك عبد خلقته بيديك، كرمت فأعطيت، قربت فأدنين، تباركت وتعاليت، أنت رب البيت. فأنزل الله عز وجل: ﴿ وَٱجْتَنِبُواْ قَوْلَ ٱلزُّورِ ﴾ يعنى الكذب، وهو الشرك فى الإحرام.
﴿ حُنَفَآءَ للَّهِ ﴾ يعنى مخلصين لله بالتوحيد ﴿ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ﴾ ثم عظم الشرك، فقال: ﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ ﴾ يعني فتذهب به الطير النسور ﴿ أَوْ تَهْوِي بِهِ ٱلرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ [آية: ٣١] يعنى بعيداً، فهذا مثل الشرك فى البعد من الله، عز وجل.
﴿ ذٰلِكَ ﴾ يقول: هذا الذى أمر اجتناب الأوثان ﴿ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ ٱللَّهِ ﴾ يعني البدن من أعظمها وأسمنها ﴿ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ ﴾ [آية: ٣٢] يعني من إخلاص القلوب.
﴿ لَكُمْ فِيهَا ﴾ فبى البدن ﴿ مَنَافِعُ ﴾ فى ظهورها وألبانها ﴿ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ يقول: إلى أن تقلد، أو تشعر، أو تسمى هديا، فهذا الأجل المسمى، فإذا فعل ذلك بها لا يحمل عليها إلا مضطراً ويركبها بالمعروف، ويشرب فضل ولدها من اللبن، ولا يجهد الحلب حتى لا ينهك أجسامها.﴿ ثُمَّ مَحِلُّهَآ إِلَىٰ ٱلْبَيْتِ ٱلْعَتِيقِ ﴾ [آية: ٣٣] يعنى منحرها إلى أرض الحرم كله كقوله سبحانه: ﴿ فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ ﴾ يعنى أرض الحرم كله، ثم ينحر ويأكل ويطعم، إن شاء نحر الإبل، وإن شاء ذبح الغنم، أو البقر، ثم تصدق به كله، وإن شاء أكل وأمسك منه، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون شيئاً من البدن، فأنزل الله، عز وجل، فكلوا منها وأطعموا، فليس الأكل بواجب، ولكنه رخصة، كقوله سبحانه وتعالى:﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ ﴾[المائدة: ٢] وليس الصيد بواجب ولكنه رخصة.
﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ﴾ يعني لكل قوم من المؤمنين فيما خلا، كقوله سبحانه:﴿ ... أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ... ﴾[النحل: ٩٢] أن يكون قوم أكثر من قوم، ثم قال: ﴿ جَعَلْنَا مَنسَكاً ﴾ يعنى ذبحاً، يعنى هراقة الدماء ﴿ لِّيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ ٱلأَنْعَامِ ﴾ وإنما خص الأنعام من البهائم؛ لأن من البهائم ما ليس من الأنعام، وإنما سميت البهائم؛ لأنها لا تتكلم ﴿ فَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ ﴾ ليس له شريك يقول: فربكم رب واحد ﴿ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ ٱلْمُخْبِتِينَ ﴾ [آية: ٣٤] يعنى المخلصين بالجنة. ثم نعتهم فقال: ﴿ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ ﴾ يعنى خافت ﴿ قُلُوبُهُمْ وَٱلصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَآ أَصَابَهُمْ ﴾ من أمر الله ﴿ وَٱلْمُقِيمِي ٱلصَّلاَةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ [آية: ٣٥] من الأموال.
قوله عز وجل: ﴿ وَٱلْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ ٱللَّهِ ﴾ يعنى من أمر المناسك ﴿ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ﴾ يقول: لكم فى نحرها أجر فى الآخرة ومنفعة فى الدنيا، وإنما سميت البدن؛ لأنها تقلد وتشعر وتساق إلى مكة، والهدي الذي ينحر بمكة، ولم يقلد، ولم يشعر والجزور البعير الذي ليس ببدنه، لوا بهدى.﴿ فَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا ﴾ إذا نحرت ﴿ صَوَآفَّ ﴾ يعنى معقولة يدها اليسرى قائمة على ثلاثة قوائم مستقبلات القبلة. قال الفراء: صواب، يعنى يصفها، ثم ينحرها، فهذا تعليم من الله، عز وجل، فمن شاء نحرها على جنبها.﴿ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ﴾ يعنى فإذا خرت لجنبها على الأرض بعد نحرها ﴿ فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ ٱلْقَانِعَ ﴾ يعنى الراضي الذي يقنع بما يعطى، وهو السائل ﴿ وَٱلْمُعْتَرَّ ﴾ الذي يتعرض للمسألة، ولا يتكلم فهذا تعليم من الله، عز وجل، فمن شاء أكل، ومن لم يسأل لم يأكل، ومن شاء أطعم، ثم قال سبحانه: ﴿ كَذٰلِكَ سَخَّرْنَاهَا ﴾ يعنى هكذا ذللناها ﴿ لَكُمْ ﴾ يعنى المدن ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [آية: ٣٦] ربكم عز وجل، فى نعمه.
﴿ لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ﴾ وذلك أن كفار العرب كانوا فى الجاهلية إذا نحروا البدن عند زمزم أخذوا دماءها فنضحوها قبل الكعبة، وقالوا: اللهم تقبل منا، فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فأنزل الله، عز وجل: ﴿ لَن يَنَالَ ٱللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ﴾ ﴿ وَلَـٰكِن يَنَالُهُ ٱلتَّقْوَىٰ مِنكُمْ ﴾ يقول: النحر هو تقوى منكم، فالتقوى هو الذى ينال الله ويرفعه إليه، فأما اللحوم والدماء فلا يرفعه إليه.
﴿ كَذٰلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ ﴾ يعنى البدن ﴿ لِتُكَبِّرُواْ ﴾ لتعظموا ﴿ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ ﴾ لدينه ﴿ وَبَشِّرِ ٱلْمُحْسِنِينَ ﴾ [آية: ٣٧] بالجنة فمن فعل ما ذكر الله فى هذه الآيات فقد أحسن.
قوله عز وجل: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يُدَافِعُ ﴾ كفار مكة ﴿ عَنِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ ﴾ بمكة، هذا حين أمر المؤمنين بالكف عن كفار مكة قبل الهجرة حين آذوهم، فاستشاروا النبى صلى الله عليه وسلم فى قتالهم فى السر، فنهاهم الله عز وجل ثم قال: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ ﴾ يعنى كل عاص ﴿ كَفُورٍ ﴾ [آية: ٣٨] بتوحيد الله، عز وجل، يعنى كفار مكة. فلما قدموا المدينة أذن الله، عز وجل، للمؤمنين فى القتال بعد النهي بمكة، فقال سبحانه: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ﴾ فى سبيل الله ﴿ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ ﴾ ظلمهم كفار مكة ﴿ وَإِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ [آية: ٣٩] فنصرهم الله تعالى على كفار مكة بعد النهى.
ثم أخبر عن ظلم كفار مكة، فقال سبحانه: ﴿ ٱلَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم ﴾ وذلك أنهم عذبوا منهم طائفة، وآذوا بعضهم بالألسن، حتى هربوا من مكة إلى المدينة ﴿ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ ﴾ يقول: لم يخرج كفار مكة المؤمنين من ديارهم، إلا أن يقولوا: ﴿ رَبُّنَا ٱللَّهُ ﴾ فعرفوه ووحدوه، ثم قال سبحانه: ﴿ وَلَوْلاَ دَفْعُ ٱللَّهِ ٱلنَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ﴾ يقول: لولا أن يدفع الله المشركين بالمسلمين لغلب المشركون فقتلوا المسلمين ﴿ لَّهُدِّمَتْ ﴾ يقول: لخربت ﴿ صَوَامِعُ ﴾ الرهبان ﴿ وَبِيَعٌ ﴾ النصارى ﴿ وَصَلَوَاتٌ ﴾ يعنى اليهود ﴿ وَمَسَاجِدُ ﴾ المسلمين ﴿ يُذْكَرُ فِيهَا ٱسمُ ٱللَّهِ كَثِيراً ﴾ كل هؤلاء الملل يذكرون الله كثيراً فى مساجدهم، فدفع الله، عز وجل، بالمسلمين عنها. ثم قال سبحانه وتعالى: ﴿ وَلَيَنصُرَنَّ ٱللَّهُ ﴾ على عدوه ﴿ مَن يَنصُرُهُ ﴾ يعن من يعينه حتى يوحد الله، عز وجل.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ ﴾ فى نصر أوليائه ﴿ عَزِيزٌ ﴾ [آية: ٤٠] يعني منيع فى ملكه وسلطانه نظيرها فى الحديد﴿ ... وَلِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَنصُرُهُ... ﴾[الحديد: ٢٥] يعني من يوحده، وغيرها فى الأحزاب، وهود. وهو سبحانه أوقى وأعز من خلقه.
﴿ ٱلَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ يعنى أرض المدينة وهم المؤمنون بعد القهر بمكة، ثم أخبر عنهم، فقال تعالى: ﴿ أَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتَوُاْ ٱلزَّكَـاةَ وَأَمَرُواْ بِٱلْمَعْرُوفِ ﴾ يعنى التوحيد الذي يعرف ﴿ وَنَهَوْاْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ ﴾ الذي لا يعرف، وهو الشرك ﴿ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ ٱلأُمُورِ ﴾ [آية: ٤١] يعني عاقبة أمر العباد إليه فى الآخرة.
﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ ﴾ يا محمد يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ليصبر على تكذيبهم إياه بالعذاب ﴿ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ ﴾ يعني قبل أهل مكة ﴿ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ﴾ [آية: ٤٢] ﴿ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ﴾ [آية: ٤٣]
﴿ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ ﴾ يعني قوم شعيب، عليه السلام، كل هؤلاء كذبوا رسلهم ﴿ وَكُذِّبَ مُوسَىٰ ﴾ يعني عصى موسى، عليه السلام، لأنه ولد فيهم كما ولد محمد صلى الله عليه وسلم فيهم ﴿ فَأمْلَيْتُ ﴾ يعنى فأمهلت ﴿ لِلْكَافِرِينَ ﴾ فلم أعجل عليهم بالعذاب ﴿ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ﴾ بعد الإمهال بالعذاب ﴿ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ [آية: ٤٤] يعنى تغييري أليس وجدوه حقاً، فكذلك كذب كفار مكة كما كذبت مكذبي الأمم الخالية.
﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ ﴾ يعني وكم من قرية أهلكناها بالعذاب فى الدنيا ﴿ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ ﴾ يعنى خربة ﴿ عَلَىٰ عُرُوشِهَا ﴾ يعني ساقطة من فوقها، يعني بالعروش سقوف البيت، أى ليس فيها مساكن ﴿ وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ ﴾ يعني خالية لا تستعمل ﴿ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ﴾ [آية: ٤٥] يعنى طويلاً فى السماء ليس له أهل.
﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ﴾ يقول: فلو ساروا فى الأرض فتفكروا ﴿ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ ﴾ المواعظ ﴿ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ ﴾ [آية: ٤٦].
﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِٱلْعَذَابِ ﴾ نزلت فى النضر بن الحارث القرشي يقول الله تعالى: ﴿ وَلَن يُخْلِفَ ٱللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ فى العذاب بأنه كائن ببدر، يعني القتل ﴿ وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ [آية: ٤٧] وهي الأيام الست التى خلق الله فيهن السموات والأرض، وإنما قال الله تعالى ذلك لاستعجالهم بالعذاب، فاليوم عند الله، عز وجل، كألف سنة.
فمن ثم قال: ﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا ﴾ يعني أمهلت لها، فلم أعجل عليها بالعذاب ﴿ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا ﴾ بعد الإملاء بالعذاب.
﴿ وَإِلَيَّ ﴾ إلى الله ﴿ ٱلْمَصِيرُ ﴾ [آية: ٤٨] يقول: إلى الله يصيرون.
﴿ قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾ يعنى كفار مكة ﴿ إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ [آية: ٤٩] يعنى بين ﴿ فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ [آية: ٥٠] ﴿ وَٱلَّذِينَ سَعَوْاْ فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ﴾ يعني فى القرآن مثبطين، يعني كفار مكة يثبطون الناس عن الإيمان بالقرآن.﴿ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ ﴾ [آية: ٥١]
﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّىٰ ﴾ يعنى إذا حدث نفسه ﴿ أَلْقَى ٱلشَّيْطَانُ فِيۤ أُمْنِيَّتِهِ ﴾ يعني في حديثه مثل قوله:﴿ ... وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ... ﴾[البقرة: ١٧٨] يقول: إلا ما يحدثوا عنها، يعنى التوراة وذلك" أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فى الصلاة عند مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم فنعس، فقال: أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، تلك الغرانيق العلى، عندها الشفاعة ترتجى "، فلما سمع كفار مكة أن لآلهتهم شفاعة فرحوا، ثم رجع النبى صلى الله عليه وسلم فقال: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ ﴾ [النجم: الآية ١٩- ٢٢] "فذلك قوله سبحانه: ﴿ فَيَنسَخُ ٱللَّهُ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ ﴾ على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ ثُمَّ يُحْكِمُ ٱللَّهُ آيَاتِهِ ﴾ من الباطل الذي يلقى الشيطان على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [آية: ٥٢].
﴿ لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي ٱلشَّيْطَانُ ﴾ على لسان النبى صلى الله عليه وسلم وما يرجون من شفاعة آلهتهم ﴿ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ يعني الشك ﴿ وَٱلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾ يعني الجافية قلوبهم عن الإيمان، فلم تلن له ﴿ وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ ﴾ يعني كفار مكة ﴿ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ﴾ [آية: ٥٣] يعني لفي ضلال بعيد، يعني طويل.
ذكر المؤمنين سبحانه: ﴿ وَلِيَعْلَمَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ﴾ بالله عز وجل ﴿ أَنَّهُ ﴾ يعني القرآن ﴿ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ ﴾ يعنى فيصدقوا به ﴿ فَتُخْبِتَ ﴾ يعني فتخلص ﴿ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهَادِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [آية: ٥٤] يعني ديناً مستقيماً.
﴿ وَلاَ يَزَالُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ من أهل مكة أبو جهل وأصحابه ﴿ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ ﴾ يعنى فى شك من القرآن ﴿ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ ٱلسَّاعَةُ بَغْتَةً ﴾ يعنى فجأة ﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ﴾ [آية: ٥٥] يعني بلا رأفة ولا رحمة القتل ببدر، ثم قال في التقديم: ﴿ ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للَّهِ ﴾ يعني يوم القيامة لا ينازعه فيه أحد، واليوم فى الدنيا ينازعه غيره فى ملكه.﴿ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾ ثم بين حكمه في كفار مكة، فقال سبحانه: ﴿ فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ ﴾ [آية: ٥٦]
﴿ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ بتوحيد الله ﴿ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا ﴾ بالقرآن بأنه ليس من الله عز وجل: ﴿ فَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ [آية: ٥٧] يعني الهوان.
﴿ وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ﴾ إلى المدينة ﴿ ثُمَّ قُتِلُوۤاْ أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ ٱللَّهُ ﴾ في الآخرة ﴿ رِزْقاً حَسَناً ﴾ يعني كريماً ﴿ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ ﴾ [آية: ٥٨] وذلك أن نفراً من المسلمين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم نحن نقاتل المشركين، فنقتل منهم ولا نستشهد، فما لنا شهادة، فأشركهم الله عز وجل جميعاً فى الجنة، فنزلت فيهم آيتان.
فقال: ﴿ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَلِيمٌ ﴾ لقولهم: ﴿ حَلِيمٌ ﴾ [آية: ٥٩] عنهم. لقولهم: أنا نقاتل ولا نستشهد.
﴿ ذٰلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ ﴾ وذلك أن مشركي مكة لقوا المسلمين لليلة بقيت من المحرم، فقال بعضهم لبعض: إن أصحاب محمد يكرهون القتال فى الشهر الحرام، فاحملوا عليم فناشهدهم المسلمون أن يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبى المشركون إلا القتال. فبغوا على المسلمين فقاتلوهم وحملوا عليهم وثبت المسلمون فنصر الله، عز وجل، المسلمين عليهم، فوقع فى أنفس المسلمين من القتال فى الشهر الحرام، فأنزل الله عز وجل ذلك ومن عاقب، هذا جزاء من عاقب.﴿ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ ﴾ عنهم ﴿ غَفُورٌ ﴾ [آية: ٦٠] لقتالهم فى الشهر الحرام
﴿ ذٰلِكَ ﴾ يعنى هذا الذي فعل من قدرته، ثم بين قدرته، جل جلاله، فقال سبحانه: ذلك ﴿ بِأَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱللَّيْلِ ﴾ يعني انتقاص كل واحد منهما من الآخر، حتى يكون النهار خمس عشرة ساعة، والليل تسع ساعات فى كل سنة ﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ ﴾ بأعمالهم ﴿ بَصِيرٌ ﴾ [آية: ٦١] بها.
﴿ ذٰلِكَ ﴾ يعني هذا الذي فعل ذلك، يدل على توحيده بصنعه ﴿ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ﴾ يعني يعبدون من دونه من الآلهة ﴿ هُوَ ٱلْبَاطِلُ ﴾ الذي ليس بشىء، ولا ينفعهم عبادتهم، ثم عظم نفسه تبارك اسمه، فقال: ﴿ وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْعَلِيُّ ﴾ يعني الرفيع فوق خلقه ﴿ ٱلْكَبِيرُ ﴾ [آية: ٦٢] فلا شيء أعظم منه.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً ﴾، يعنى المطر.
﴿ فَتُصْبِحُ ٱلأَرْضُ مُخْضَرَّةً ﴾ من النبات ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ ﴾ باستخراج النبت ﴿ خَبِيرٌ ﴾ [آية: ٦٣]
ثم قال تعالى: ﴿ لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ عبيده، وفي ملكه ﴿ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلْغَنِيُّ ﴾ من عباده خلقه ﴿ ٱلْحَمِيدُ ﴾ [آية: ٦٤] عند خلقه فى سلطانه.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ ﴾ يعنى ذلك ﴿ لَكُم مَّا فِي ٱلأَرْضِ وَٱلْفُلْكَ ﴾ يقول: وسخر الفلك، يعني السفن ﴿ تَجْرِي فِي ٱلْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ ٱلسَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى ٱلأَرْضِ ﴾ يقول: لئلا تقع على الأرض ﴿ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ ﴾ يعني لرفيق ﴿ رَّحِيمٌ ﴾ [آية: ٦٥] بهم، فيما سخر لهم، وحبس عنهم السماء، فلا تقع عليهم فيهلكوا.
﴿ وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَحْيَاكُمْ ﴾ يعني خلقكم، ولم تكونوا شيئاً ﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾ عند آجالكم ﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ بعد موتكم في الآخرة ﴿ إِنَّ ٱلإِنْسَانَ لَكَفُورٌ ﴾ [آية: ٦٦] لنعم الله، عز وجل، في حسن خلقه حين لا يوحده.
قال سبحانه: ﴿ لِّكُلِّ أُمَّةٍ ﴾ يعنى لكل قوم فيما خلا ﴿ جَعَلْنَا مَنسَكاً ﴾ يعنى ذبحاً، يعنى هراقة الدماء ذبيحة فى عيدهم ﴿ هُمْ نَاسِكُوهُ ﴾ يعني ذابحوه كقوله:﴿ ... إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي... ﴾[الأنعام: ١٦٢] يعني ذبيحتي ﴿ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي ٱلأَمْرِ ﴾ يعنى فى أمر الذبائح، فإنك أولى بالأمر منهم، أي من كفار خزاعة وغيرهم، نزلت فى بديل بن ورقاء الخزاعى، وبشر بن سفيان الخزاعي، ويزيد بن الحلبس، من بني الحارث بن عبد مناف لقولهم للمسلمين، فى الأنعام، ما قتلتم أنتم بأيديكم فهو حلال وما قتل الله فهو حرام يعنون الميتة، ثم قال سبحانه: ﴿ وَٱدْعُ إِلَىٰ رَبِّكَ ﴾ يعني إلى معرفة ربك وهو التوحيد ﴿ إِنَّكَ لَعَلَىٰ هُدًى ﴾ يعني لعلى دين ﴿ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [آية: ٦٧].
﴿ وَإِن جَادَلُوكَ ﴾ في أمر الذبائح، يعنى هؤلاء النفر ﴿ فَقُلِ ٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [آية: ٦٨] وبما نعمل، وذلك حين اختلفوا فى أمر الذبائح.
فذلك قوله عز وجل: ﴿ ٱللَّهُ يَحْكُمُ ﴾ يعني يقضي ﴿ بَيْنَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ [آية: ٦٩] من الدين. نسختها آية السيف.
قوله عز وجل: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ ﴾ يا محمد ﴿ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِنَّ ذٰلِكَ ﴾ العلم ﴿ فِي كِتَابٍ ﴾ يعني اللوح المحفوظ ﴿ إِنَّ ذٰلِكَ ﴾ الكتاب ﴿ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [آية: ٧٠] يعني هيناً.
﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ من الآلهة ﴿ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً ﴾ يعني ما لم ينزل به كتاباً من السماء لهم فيه حجة بأنها آلهة ﴿ وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ ﴾ أنها آلهة ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴾ [آية: ٧١] يقول: وما للمشركين من مانع من العذاب.
﴿ وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ﴾ يعنى واضحات ﴿ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلْمُنْكَرَ ﴾ ينكرون القرآن أن يكون من الله عز وجل: ﴿ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِٱلَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا ﴾ يقول: يكادون يقعون بمحمد صلى الله عليه وسلم من كراهيتهم للقرآن، وقالوا: ما شأن محمد وأصحابه أحق بهذا الأمر منا، والله إنهم لأشر خلق الله، فأنزل الله عز وجل: ﴿ قُلْ ﴾ لهم يا محمد: ﴿ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكُمُ ٱلنَّارُ ﴾ يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ﴿ وَعَدَهَا ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ من وعده الله النار وصار إليها، يعني الكفار، فهم شرار الخلق ﴿ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ ﴾ [آية: ٧٢] النار حين يصيرون إليها، ونزل فيهم فى الفرقان:﴿ ٱلَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً... ﴾[الفرقان: ٣٤].
﴿ يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ﴾ يعني كفار مكة ﴿ ضُرِبَ مَثَلٌ ﴾ يعني شبهاً وهو الصنم ﴿ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ ﴾ ثم أخبر عنه، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ ﴾ من الأصنام يعني اللات والعزى ومناة وهبل ﴿ لَن ﴾ يستطيعوا أن ﴿ يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ ٱجْتَمَعُواْ لَهُ ﴾ يقول: لو اجتمعت الآلهة على أن يخلقوا ذباباً ما استطاعوا، ثم قال عز وجل: ﴿ وَإِن يَسْلُبْهُمُ ٱلذُّبَابُ شَيْئاً ﴾ مما على الآلهة من ثياب أو حلي أو طيب ﴿ لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ﴾ يقول: لا تقدر الآلهة أن تستنقذ من الذباب ما أخذ منها، ثم قال: ﴿ ضَعُفَ ٱلطَّالِبُ وَٱلْمَطْلُوبُ ﴾ [آية: ٧٣] فأما الطالب فهو الصنم، وأما المطلوب فهو الذباب، فالطالب هو الصنم الذي يسلبه الذباب ولا يمتنع منه، والمطلوب هو الذباب، فأخبر الله عن الصنم أنه لا قوة له، ولا حيلة، فكيف تعبدون ما لا يخلق ذباب، ولا يمتنع من الذباب.
قوله عز وجل: ﴿ مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ يقول: ما عظموا الله حق عظمته حين أشركوا به ولم يوحدوه ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ ﴾ فى أمره ﴿ عَزِيزٌ ﴾ [آية: ٧٤] أي منيع في ملكه،
قوله عز وجل: ﴿ ٱللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ رُسُلاً ﴾ وهم: جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت، والحفظة الذين يكتبون أعمال بني آدم.﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ ﴾ رسلاً، منهم محمد صلى الله عليه وسلم فيجعلهم أنبياء ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ ﴾ بمقالتهم ﴿ بَصِيرٌ ﴾ [آية: ٧٥] بمن يتخذه رسولاً
﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ يقول: يعلم ما كان قبل خلق الملائكة والأنبياء، ويعلم ما يكون من بعدهم ﴿ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ ﴾ [آية: ٧٦] فى الآخرة.
قوله عز وجل: ﴿ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱرْكَعُواْ وَٱسْجُدُواْ ﴾ يأمرهم بالصلاة ﴿ وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ ﴾ يعني وحدوا ربكم ﴿ وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ ﴾ الذي أمركم به ﴿ لَعَلَّكُمْ ﴾ يعني لكي ﴿ تُفْلِحُونَ ﴾ [آية: ٧٧] يقول: من فعل ذلك فقد أفلح.
﴿ وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ ﴾ يأمرهم بالعمل ﴿ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾ يقول: اعملوا لله بالخير حق عمله نسختها الآية التي في التغابن، وهي:﴿ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ... ﴾[التغابن: ١٦].
ثم قال: ﴿ هُوَ ٱجْتَبَاكُمْ ﴾ يقول الله عز وجل: استخلصكم لدينه ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي ٱلدِّينِ ﴾ يعني في الإسلام ﴿ مِنْ حَرَجٍ ﴾ يعني من ضيق، ولكن جعله واسعاً هو ﴿ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ ﴾ يقول الله عز وجل: سماكم ﴿ ٱلْمُسْلِمِينَ ﴾ فيها تقديم ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ قرآن محمد صلى الله عليه وسلم في الكتب الأولى ﴿ وَفِي هَـٰذَا ﴾ القرآن أيضاً سماكم المسلمين ﴿ لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ ﴾ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ﴿ شَهِيداً عَلَيْكُمْ ﴾ أنه بلغ الرسالة ﴿ وَتَكُونُواْ ﴾ أنتم يا معشر أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يعني مؤمنيهم ﴿ شُهَدَآءَ عَلَى ٱلنَّاسِ ﴾ يعني شهداء للرسل أنهم بلغوا قومهم الرسالة ﴿ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ ﴾ يقول: أتموها ﴿ وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ ﴾ يقول: أعطوا الزكاة من أموالكم ﴿ وَٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ ﴾ يقول: وثقوا بالله، فإذا فعلتم ذلك ﴿ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ ﴾ [آية: ٧٨] يقول: نعم المولى هو لكم، ونعم النصير هو لكم.
Icon