ﰡ
وفلاح المؤمنين مذكور ذكراً كثيراً في القرآن كقوله ﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً ﴾ [ الأحزاب : ٤٧ ].
أصل الخشوع : الكون، والطمأنينة، والانخفاض ومنه قول نابغة ذبيان :
رماد ككحل العين لأياً أبينه *** ونؤى كجذم الحوض أثلم خاشع
وهو في الشرع : خشية من الله تكون في القلب، فتظهر آثارها على الجوارح.
وقد عد الله الخشوع من صفات الذين أعد لهم مغفرة وأجراً عظيماً في قوله في الأحزاب ﴿ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ ﴾ [ الأحزاب : ٣٥ ] إلى قوله ﴿ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ﴾ [ الأحزاب : ٣٥ ].
وقد عد الخشوع في الصلاة هنا من صفات المؤمنين المفلحين، الذين يرثون الفردوس، وبين أن من لم يتصف بهذا الخشوع تصعب عليه الصلاة في قوله ﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [ البقرة : ٤٥ ] وقد استدل جماعة من أهل العلم بقوله ﴿ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ على أن من خشوع المصلي : أن يكون نظره في صلاته إلى موضع سجوده، قالوا : كان النَّبي صلى الله عليه وسلم ينظر إلى السماء في الصلاة، فأنزل الله ﴿ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر حيث يسجد.
وقال صاحب الدر المنثور : وأخرج ابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة «أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى رفع بصره إلى السماء فنزلت ﴿ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ فطأطأ رأسه » ا ه منه.
وأكثر أهل العلم على أن المصلي ينظر إلى موضع سجوده، ولا يرفع بصره. وخالف المالكية الجمهور، فقالوا : إن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده، واستدلوا لذلك بقوله تعالى ﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ [ البقرة : ١٤٤ ] قالوا : فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الانحناء، وذلك ينافي كمال القيام. وظاهر قوله تعالى ﴿ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ لأن المنحني بوجهه إلى موضع سجوده، ليس بمول وجهه شطر المسجد الحرام، والجمهور على خلافهم كما ذكرنا.
واعلم أن معنى أفلح : نال الفلاح، والفلاح يطلق في لغة العرب على معنيين :
الأول : الفوز بالمطلوب الأكبر، ومنه قول لبيد :
فاعقلي إن كنت لما تعقلي *** ولقد أفلح من كان عقل
أي فاز من رزق العقل بالمطلوب الأكبر.
والثاني : هو إطلاق الفلاح على البقاء السرمدي في النعيم، ومنه قول لبيد أيضاً في رجز له :
لو أن حياً مدرك الفلاح *** لناله ملاعب الرماح
يعني مدرك البقاء، ومنه بهذا المعنى قول كعب بن زهير، أو الأضبط بن قريع : لكل هم من الهموم سعه *** والمسى والصبح لا فلاح معه
أي لا بقاء معه، ولا شك أن من اتصف بهذه الصفات التي ذكرها الله في أول هذه السورة الكريمة دخل الجنة كما هو مصرح به في الآيات المذكورة، وأن من دخل الجنة نال الفلاح بمعنييه المذكورين، والمعنيان اللذان ذكرنا للفلاح بكل واحد منهما، فسر بعض العلماء حديث الأذان والإقامة في لفظة : حي على الفلاح.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من صفات المؤمنين المفلحين : إعراضهم عن اللغو. وأصل اللغو ما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال، فيدخل فيه اللعب واللهو والهزل، وما توجب المروءة تركه.
وقال ابن كثير ﴿ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ ﴾ أي عن الباطل، وهو يشمل الشرك كما قال بعضهم، والمعاصي كما قاله آخرون، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال ا ه منه.
وما أثنى الله به على المؤمنين المفلحين في هذه الآية. أشار له في غير هذا الموضع كقوله ﴿ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً ﴾ [ الفرقان : ٧٢ ] ومن مرورهم به كراماً إعراضهم عنه، وعدم مشاركتهم أصابه فيه وقوله تعالى ﴿ وَإِذَا سَمِعُواْ اللَّغْوَ أَعْرَضُواْ عَنْهُ ﴾.
في المراد بالزكاة هنا وجهان من التفسير معروفان عند أهل العلم.
أحدهما : أن المراد بها زكاة الأموال، وعزاه ابن كثير للأكثرين.
الثاني : أن المراد بالزكاة هنا : زكاة النفس أي تطهيرها من الشرك، والمعاصي بالإيمان بالله، وطاعته وطاعة رسله عليهم الصلاة والسلام، وعلى هذا فالمراد بالزكاة كالمراد بها في قوله ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴾ [ الشمس : ٩-١٠ ] وقوله ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى ﴾ [ الأعلى : ١٤ ]الآية وقوله ﴿ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً ﴾ [ النور : ٢١ ] وقوله ﴿ خَيْراً مِّنْهُ زَكَواةً ﴾ وقوله ﴿ وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِين َالَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَواةَ ﴾ [ فصلت : ٦-٧ ] على أحد التفسيرين. وقد يستدل لهذا القول الأخير بثلاث قرائن :
الأولى : أن هذه السورة مكية، بلا خلاف، والزكاة إنما فرضت بالمدينة كما هو معلوم. فدل على أن قوله ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَواةِ فَاعِلُونَ ﴾ نزل قبل فرض زكاة الأموال المعروفة، فدل على أن المراد به غيرها.
القرينة الثانية : هي أن المعروف في زكاة الأموال : أن يعبر عن أدائها بالإيتاء كقوله تعالى ﴿ وَآتُواْ الزَّكَواةَ ﴾ [ البقرة : ٤٣ ] وقوله ﴿ وَإِيتَآءَ الزَّكَواةِ ﴾ [ الأنبياء : ٧٣ ] ونحو ذلك. وهذه الزكاة المذكورة هنا، لم يعبر عنها بالإيتاء، بل قال تعالى فيها ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَواةِ فَاعِلُونَ ﴾ فدل على أن هذه الزكاة : أفعال المؤمنين المفلحين، وذلك أولى بفعل الطاعات، وترك المعاصي من أداء مال.
الثالثة : أن زكاة الأموال تكون في القرآن عادة مقرونة بالصلاة، من غير فصل بينهما كقوله ﴿ وَأَقِيمُواْ الصَّلواةَ وَآتُواْ الزَّكَواةَ ﴾ [ البقرة : ٤٣ ] وقوله ﴿ وَأَقَامُواْ الصَّلَواةَ وَآتَوُاْ الزَّكَواةَ ﴾ [ البقرة : ٢٧٧ ] وقوله ﴿ وَإِقَامَ الصَّلواة وَإِيتَآءَ الزَّكَواةِ ﴾ [ الأنبياء : ٧٣ ] وهذه الزكاة المذكورة هنا فصل بين ذكرها، وبين ذكر الصلاة بجملة ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُّعْرِضُونَ ﴾.
والذين قالوا المراد بها المراد بها زكاة الأموال قالوا : إن أصل الزكاة فرض بمكة قبل الهجرة، وأن الزكاة التي فرضت بالمدينة سنة اثنتين هي ذات النصب، والمقادير الخاصة.
وقد أوضحنا هذا القول في الأنعام في الكلام على قوله تعالى ﴿ وَءَاتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ [ الأنعام : ١٤١ ] وقد يستدل، لأن المراد بالزكاة في هذه الآية غير الأعمال التي تزكى بها النفوس من دنس الشرك والمعاصي، بأنا لو حملنا معنى الزكاة على ذلك، كان شاملاً لجميع صفات المؤمنين المذكورة في أول هذه السورة، فيكون كالتكرار معها، والحمل على التأسيس والاستقلال أولى من غيره، كما تقرر في الأصول. وقد أوضحناه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى ﴿ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواةً طَيِّبَةً ﴾ [ النحل : ٩٧ ] الآية والذين قالوا : هي زكاة الأموال قالوا : فاعلون أي مؤدون، قالوا : وهي لغة معروفة فصيحة، ومنها قول أمية بن أبي الصلت :
المطعمون الطعام في السنة الأز | مة والفاعلون للزكوات |
وقد قال ابن كثير رحمه الله : وقد يحتمل أن المراد بالزكاة هاهنا : زكاة النفس من الشرك، والدنس إلى أن قال ويحتمل أن يكون كلا الأمرين مراداً وهو زكاة النفوس، وزكاة الأموال فإنه من جملة زكاة النفوس، والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا والله أعلم. ا ه منه.
ذكر جل وعلا في هذه الآيات الكريمة : أن من صفات المؤمنين المفلحين الذين يرثون الفردوس ويخلدون فيها حفظهم لفروجهم : أي من اللواط والزنى، ونحو ذلك،
وبين أن حفظهم فروجهم، لا يلزمهم عن نسائهم الذين ملكوا الاستمتاع بهن بعقد الزواج أو بملك اليمين، والمراد به التمتع بالسراري، وبين أن من لم يحفظ فرجه عن زوجه أو سريته لا لوم عليه، وأن من ابتغى تمتعاً بفرجه، ورواء ذلك غير الأزواج والمملوكات فهو من العادين : أي المعتدين المتعدين حدود الله، المجاوزين ما أحله الله إلى ما حرمه.
وبين معنى العادين في هذه الآية قوله تعالى في قوم لوط :﴿ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ ﴾ [ الشعراء : ١٦٥-١٦٦ ] وهذا الذي ذكره هنا ذكره أيضاً في سورة سأل سائل لأنه قال فيها في الثناء على المؤمنين ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون ﴾ [ المعارج : ٢٩-٣١ ].
مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة
المسألة الأولى : اعلم أن ما في قوله ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ من صيغ العموم، والمراد بها من وهي من صيغ العموم. فآية ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ وآية ﴿ سَأَلَ سَآئِلٌ ﴾ تدل بعمومها المدلول عليه بلفظة ما، في قوله ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ في الموضعين على جواز جمع الأختين بملك اليمين في التسري بهما معاً لدخولهما في عموم ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ وبهذا قال داود الظاهري، ومن تبعه : ولكن قوله تعالى ﴿ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأخْتَيْنِ ﴾ [ النساء : ٢٣ ] يدل بعمومه على منع جمع الأختين، بملك اليمين، لأن الألف واللام في الأختين صيغة عموم، تشمل كل أختين. سواء كانتا بعقد أو ملك يمين ولذا قال عثمان رضي الله عنه، لما سئل عن جمع الأختين بملك اليمين : أحلتهما آية، وحرمتهما أخرى يعني بالآية المحللة ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ وبالمحرمة ﴿ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأخْتَيْنِ ﴾.
وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب وسنذكر هنا إن شاء الله المهم مما ذكرنا فيه ونزيد ما تدعو الحاجة إلى زيادته.
وحاصل تحرير المقام في ذلك : أن الآيتين المذكورتين بينهما عموم، وخصوص من وجه، يظهر للناظر تعارضهما في الصورة التي يجتمعان فيها كما قال عثمان رضي الله عنهما : أحلتهما آية، وحرمتهما أخرى وإيضاحه أن آية :﴿ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الاٍّخْتَيْنِ ﴾ تنفرد عن آية ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ في الأختين المجموع بينهما، بعقد نكاح وتنفرد آية ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ في الأمة الواحدة، أو الأمتين اللتين ليستا بأختين، ويجتمعان في الجمع بين الأختين، فعموم ﴿ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين ﴾ يقتضي تحريمه، وعموم ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ يقتضي إباحته، وإذا تعارض الأعمان من وجه في الصورة التي يجتمعان فيها : وجب الترجيح بينهما، والراجح منهما، يقدم ويخصص به عموم الآخر، كما أَشار له في مراقي السعود بقوله : وإن يك العموم من وجه ظهر *** فالحكم بالترجيح حتما معتبر
وإذا علمت ذلك فاعلم أن عموم ﴿ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين ﴾ مرجح من خمسة أَوجه على عموم ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ :
الأول : منها أن عموم ﴿ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين ﴾ نص في محل المدرك المقصود بالذات، لأن السورة سورة النساء : وهي التي بين الله فيها من تحل منهن، ومن لا تحل وآية ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ في الموضعين لم تذكر من أجل تحريم النساء، ولا تحليلهن بل ذكر الله صفات المؤمنين التي يدخلون بها الجنة. فذكر من جملتها حفظ الفرج، فاستطرد أنه لا يلزم حفظه عن الزوجة والسرية. وقد تقرر في الأصول : أن أخذ الأحكام من مظانها أولى من أخذها، لا من مظانها.
الوجه الثاني : أن آية ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ ليست باقية على عمومها بإجماع المسلمين، لأن الأخت من الرضاع لا تحل بملك اليمين، إجماعاً للإجماع على أن عموم أو ما ملكت أيمانهم يخصصه عموم ﴿ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ ﴾ [ النساء : ٢٣ ] وموطوءة الأب لا تحل بملك اليمين إجماعاً، للإجماع على أن عموم ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ يخصصه عموم ﴿ وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءَابَاؤُكُمْ مِّنَ النِّسَآءِ ﴾ [ النساء : ٢٢ ] الآية. والأصح عند الأصوليين في تعارض العام الذي دخله التخصيص، مع العام الذي لم يدخله التخصيص : هو تقديم الذي لم يدخله التخصيص، وهذا هو قول جمهور أهل الأصول، ولم أعلم أحداً خالف فيه، إلا صفي الدين الهندي، والسبكي.
وحجة الجمهور أن العام المخصص، اختلف في كونه حجة في الباقي، بعد التخصيص، والذين قالوا : هو حجة في الباقي. قال جماعة منهم : هو مجاز في الباقي، وما اتفق على أنه حجة، وأنه حقيقة، وهو الذي لم يدخله التخصيص أولى مما اختلف في حجيته، وهل هو حقيقة، أو مجاز، وإن كان الصحيح : أنه حجة في الباقي، وحقيقة فيه، لأن مطلق حصول الخلاف فيه يكفي في ترجيح غيره عليه، وأما حجة صفي الدين الهندي والسبكي، على تقديم الذي دخله التخصيص فهي أن الغالب في العام التخصيص، والحمل على الغالب أولى، وأن ما دخله التخصيص يبعد تخصيصه مرة أخرى، بخلاف الباقي على عمومه.
الوجه الثالث : أن عموم ﴿ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين ﴾ غير وارد في معرض مدح ولا ذم وعموم ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ وارد في معرض مدح المتقين، والعام الوارد في معرض المدح أو الذم.
اختلف العلماء في اعتبار عمومه، فأكثر العلماء : على أن عمومه معتبر كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الأبرار لفي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لفي جَحِيمٍ ﴾ [ الانفطار : ١٣-١٤ ] فإنه يعم كل بر مع أنه للمدح، وكل فاجر مع أنه للذم قال في مراقي السعود :
وما أتى للمدح أو للذم *** يعم عند جل أهل العلم
وخالف في ذلك بعض العلماء منهم : الإمام الشافعي رحمه الله، قائلاً : إن العام الوارد في معرض المدح، أو الذم لا عموم له، لأن المقصود منه الحث في المدح والزجر في الذم، ولذا لم يأخذ الإمام الشافعي بعموم قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [ التوبة : ٣٤ ] في الحلي المباح، لأن الآية سيقت الذم، فلا تعم عنده الحلي المباح.
وإذا علمت ذلك، فاعلم أن العام الذي لم يقترن بما يمنع اعتبار عمومه أولى من المقترن بما يمنع اعتبار عمومه، عند بعض العلماء.
الوجه الرابع : أنا لو سلمنا المعارضة بين الآيتين، فالأصل في الفروج التحريم، حتى يدل دليل لا معارض له على الإباحة.
الوجه الخامس : أن العموم المقتضي للتحريم أولى من المقتضي للإباحة، لأن ترك مباح أهو من ارتكاب حرام.
فهذه الأوجه الخمسة يرد بها استدلال داود الظاهري، ومن تبعه على إباحته جمع الأختين بملك اليمين، محتجاً بقوله :﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ ولكن داود يحتج بآية أخرى يعسر التخلص من الاحتجاج بها، بحسب المقرر في أصول الفقه المالكي والشافعي والحنبلي، وإيضاح ذلك أن المقرر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين أنه إن ورد استثناء بعد جمل متعاطفة، أو مفردات متعاطفة، أن الاستثناء المذكور يرجع لجميعها خلافاً لأبي حنيفة القائل يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط، قال في مراقي السعود :
وكل ما يكون فيه العطف *** من قبل الاستثنا فكلا يقفو
دون دليل العقل أو ذي السمع ***... الخ
وإذا علمت أن المقرر في أصول الأئمة الثلاثة المذكورين رجوع الاستثناء لكل المتعاطفات، وأنه لو قال الواقف في صيغة وقفه : هو وقف على بني تميم وبني زهرة والفقراء إلا الفاسق منهم، أنه يخرج من الوقف فاسق الجميع لرجوع الاستثناء إلى الجميع، وأن أبا حنيفة وحده هو القائل برجوعه إلى الجملة الأخيرة فقط. ولذلك لم يقبل شهادة القاذف، ولو تاب وأصلح، وصار أعدل أهل زمانه لأن قوله تعالى ﴿ وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ﴾ [ النور : ٤-٥ ] يرجع عنده الاستثناء فيه للأخيرة فقط وهي ﴿ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ ﴾ أي فقد زال عنهم اسم الفسق، ولا يقبل رجوعه لقوله تعالى ﴿ وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً ﴾ إلا الذين تابوا، فاقبلوا شهادتهم بل يقول : لا تقبلوا لهم شهادة أبداً مطلقاً بلا استثناء لاختصاص الاستثناء عنده بالجملة الأخيرة، ولم يخالف أبو حنيفة أصوله في قوله ﴿ وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَاهَا ءَاخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ التي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ ﴾ [ الفرقان : ٦٨ ] إلى قوله ﴿ إِلاَّ مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً ﴾ [ الفرقان : ٧٠ ]. فإن هذا الاستثناء راجع لجميع الجمل المتعاطفة قبله عند أبي حنيفة، وغيره.
ولكن أبا حنيفة لم يخالف فيه أصله لأن الجمل الثلاث المذكورة جمعت في الجملة الأخيرة، التي هي ﴿ وَمَن يَفْعَلْ ذالِكَ يَلْقَ أَثَاماً ﴾ [ الفرقان : ٦٨ ] لأن الإشارة في قوله : ذلك راجعة إلى الشرك، والقتل والزنى في الجمل المتعاطفة قبله فشملت الجملة الأخيرة معاني الجمل قبلها، فصار رجوع الاستثناء لها وحدها، عند أبي حنيفة، على أصله المقرر : مستلزماً لرجوعه للجميع.
وإذا حققت ذلك فاعلم أن داود يحتج لجواز جمع الأختين بملك اليمين أيضاً، برجوع الاستثناء في قوله ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ لقوله ﴿ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين ﴾ فيقول : قوله تعالى :﴿ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين ﴾ وقوله :﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ ﴾ [ النساء : ٢٤ ] يرجع لكل منهما استثناء في قوله :﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ فيكون المعنى : وحرم عليكم أن تجمعوا بين الأختين، إلا ما ملكت أيمانكم فلا يحرم عليكم فيه الجمع بينهما، وحرمت عليكم المحصنات من النساء، إلا ما ملكت أيمانكم، فلا يحرم عليكم.
وقد أوضحنا معنى الاستثناء من المحصنات في محله من هذا الكتاب المبارك، وبهذا تعلم أن احتجاج داود برجوع الاستثناء في قوله ﴿ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ﴾ إلى قوله :﴿ وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين ﴾ جار على أصول المالكية والشافعية والحنابلة، فيصعب عليهم التخلص من احتجاج داود هذا.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي أن الجواب عن استدلال داود المذكور من وجهين :
الأولى منهما : أن في الآية نفسها قرينة مانعة من رجوع الاستثناء
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الفردوس : أنهم راعون لأماناتهم وعهدهم : أي محافظون على الأمانات، والعهود. والأمانة تشمل : كل ما استودعك الله، وأمرك بحفظه، فيدخل فيها حفظ جوارحك من كل ما لا يرضي الله، وحفظ ما ائتمنت عليه من حقوق الناس، والعهود أيضاً تشمل : كل ما أخذ عليك العهد بحفظه، من حقوق الله، وحقوق الناس.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من حفظ الأمانات والعهود جاء مبيناً في آيات كثيرة كقوله تعالى ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [ النساء : ٥٨ ] وقوله تعالى :﴿ يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [ الأنفال : ٢٧ ] وقوله تعالى في سأل سائل ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لأماناتهم وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [ المعارج : ٣٢ ] وقوله في العهد ﴿ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ﴾ [ الإسراء : ٣٤ ] وقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ﴾ [ المائدة : ١ ]. وقوله :﴿ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [ الفتح : ١٠ ] وقوله تعالى :﴿ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ ﴾ [ النحل : ٩١ ] وقد أوضحنا هذا في سورة الأنبياء في الكلام على قوله ﴿ وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ ﴾ [ الأنبياء : ٧٨ ]. وقوله : راعون : جمع تصحيح للراعي، وهو القائم على الشيء، بحفظ أو إصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية، وفي الحديث «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته » الحديث، وقرأ هذا الحرف ابن كثير وحده : لأمانتهم بغير ألف بعد النون، على صيغة الإفراد والباقون بألف بعد النون، على صيغة الجمع المؤنث السالم.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من صفات المؤمنين المفلحين الوارثين الفردوس : أنهم يحافظون على صلواتهم والمحافظة عليها تشمل إتمام أركانها، وشروطها، وسننها، وفعلها في أوقاتها في الجماعات في المساجد، ولأجل أن ذلك من أسباب نيل الفردوس أمر تعالى بالمحافظة عليها في قوله تعالى :﴿ حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلَواةِ الْوُسْطَى ﴾ [ البقرة : ٢٣٨ ]. وقال تعالى في سورة المعارج ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ﴾ [ المعارج : ٣٤ ] وقال فيها أيضاً ﴿ إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ ﴾ [ المعارج : ٢٢-٢٣ ] وذم وتوعد من لم يحافظ عليها في قوله ﴿ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصَّلَواةَ وَاتَّبَعُواْ الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً ﴾ [ مريم : ٥٩ ].
وقد أوضحنا ذلك في سورة مريم، وقوله تعالى :﴿ فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ﴾ [ الماعون : ٤-٥ ]. وقال تعالى في ذم المنافقين ﴿ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلَواةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآءُونَ النَّاسَ ﴾ [ النساء : ١٤٢ ]. وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال «الصلاة على وقتها » الحديث. وقد قدمناه والأحاديث في فضل الصلاة والمحافظة عليها كثيرة جداً، ولكن موضوع كتابنا بيان القرآن بالقرآن، ولا نذكر غالباً البيان من السنة، إلا إذا كان في القرآن بيان غير وافٍ بالمقصود، فنتمم البيان من السنة كما قدمناه مراراً. وذكرناه في ترجمة هذا الكتاب المبارك.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المؤمنين المتصفين بالصفات، التي قدمناهم الوارثون، وحذف مفعول اسم الفاعل الذي هو الوارثون، لدلالة قوله :﴿ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ ﴾ عليه.
وقد أوضحنا معنى الوارثة والآيات الدالة على ذلك المعنى، كقوله تعالى :﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ﴾مريم : ٦٣ ] وقوله :﴿ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الأعراف : ٤٣ ] وقوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ الْحَمْدُ للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَآءُ ﴾ [ الزمر : ٧٤ ] في سورة مريم في الكلام على قوله :﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ﴾ [ مريم : ٦٣ ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا، وقرأ هذا الحرف : حمزة والكسائي : على صلاتهم بغير واو، بصيغة الإفراد وقرأ الباقون : على صلواتهم بالواو المفتوحة بصيغة الجمع المؤنث السالم والمعنى واحد، لأن المفرد الذي هو اسم جنس، إذا أضيف إلى معرفة، كان صيغة عموم كما هو معروف في الأصول. وقوله هنا :﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ أي بلا انقطاع أبداً، كما قال تعالى ﴿ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ ﴾ [ هود : ١٠٨ ] أي غير مقطوع. وقال تعالى :﴿ إِنَّ هَاذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ ﴾ [ ص : ٥٤ ] وقال تعالى :﴿ مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللَّهِ بَاقٍ ﴾ [ النحل : ٩٧ ] كما قدمناه مستوفى.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أطوار خلقه الإنسان ونقله له، من حال إلى حال، ليدل خلقه بذلك على كمال قدرته واستحقاقه للعبادة وحده جل وعلا. وقد أوضحنا في أول سورة الحج معنى النطفة، والعلقة، والمضغة، وبينا أقوال أهل العلم في المخلقة، وغير المخلقة. والصحيح من ذلك وأوضحنا أحكام الحمل إذا سقط علقة أو مضغة هل تنقضي به عدة الحامل أو لا ؟ وهل تكون الأمة به أم ولد إن كان من سيدها أو لا ؟ إلى غير ذلك من أحكام الحمل الساقط، ومتى يرث، ويورث، ومتى يصل عليه، وأقوال أهل العلم في ذلك في الكلام على قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ [ الحج : ٥ ]. وسنذكر هنا ما لم نبينه هنالك مع ذكر الآيات التي لها تعلق بهذا المعنى. أما معنى السلالة : فهي فعالة من سللت الشيء من الشيء، إذا استخرجته منه، ومنه قول أمية بن أبي الصلت :
خلق البرية من سلالة منتن | وإلى السلالة كلها ستعود |
ومنه قول حسان رضي الله عنه :
فجاءت به عضب الأديم غضنفرا | سلالة فرج كان غير حصين |
وقد أوضحنا فيما مضى أطوار ذلك التراب، وأنه لما بل بالماء صار طيباً ولما خمر صار طيناً لازباً يلصق باليد، وصار حمأً مسنوناً. قال بعضهم : طيناً أسود منتناً، وقال بعضهم : المسنون : المصور، كما تقدم إيضاحه في سورة الحجر، ثم لما خلقه من طين خلق منه زوجه حواء، كما قال في أول النساء ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ [ النساء : ١ ] وقال في الأعراف ﴿ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ [ الأعراف : ١٨٩ ] وقال في الزمر :﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا ﴾ [ الزمر : ٦ ] كما تقدم إيضاح ذلك كله، ثم لما خلق الرجل والمرأة، كان وجود جنس الإنسان منهما عن طريق التناسل، فأول أطواره : النطفة، ثم العلقة. الخ.
وقد بينا أغلب ذلك في أول سورة الحج، وقوله هنا :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ﴾ يعني : بدأه خلق نوع الإنسان بخلق آدم،
وما دخلت في الخدب حتى تنقضت | تآسير أعلى قده وتحطما |
قال الزمخشري : أي خلقاً مبايناً للخلق الأول مباينة ما أبعدها حيث جعله حيواناً، وكان جماداً وناطقاً، وكان أبكم وسميعاً، وكان أصم وبصيراً، وكان أكمه وأودع باطنه وظاهره، بل كل عضو من أعضائه وجزء من أجزائه عجائب فطرة، وغرائب حكمة، لا تدرك بوصف الواصف، ولا بشرح الشارح. انتهى منه.
وقال القرطبي : اختلف في الخلق الآخر المذكور، فقال ابن عباس، والشعبي وأبو العالية، والضحاك وابن زيد :«هو نفخ الروح فيه بعد أن كان جماداً » وعن ابن عباس :«خروجه إلى الدنيا »، وقال قتادة : عن فرقة نبات شعره. وقال الضحاك : خروج الأسنان، ونبات الشعر، وقال مجاهد : كمال شبابه. وروي عن ابن عمر والصحيح، أنه عام في هذا وفي غيره من النطق والإدراك، وتحصيل المعقولات إلى أن يموت. ا ه منه.
والظاهر أن جميع أقوال أهل العلم في قوله ﴿ خَلْقاً ءَاخَرَ ﴾ أنه صار بشراً سوياً بعد أن كان نطفة، ومضغةً، وعلقةً، وعظاماً كما هو واضح.
مسألة
وقد استدل بهذه الآية الإمام أبو حنيفة رحمه الله، على أن من غصب بيضة، فأفرخت عنه أنه يضمن البيضة، ولا يرد الفرخ، لأن الفرخ خلق آخر سوى البيضة، فهو غير ما غصب، وإنما يرد الغاصب ما غصب. وهذا الاستدلال له وجه من النظر، والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى في هذه الآية ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ وقوله ﴿ فَتَبَارَكَ اللَّهُ ﴾ قال أبو حيان في البحر المحيط : تبارك : فعل ماضٍ لا ينصرف، ومعناه : تعالى وتقدس. ا ه منه.
وقوله في هذه الآية ﴿ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ﴾ أي المقدرين والعرب تطلق الخلق وتريد التقدير. ومنه قول زهير :
ولأنت تفري ما خلقت وبعض | القوم يخلق ثم لا يفري |
وقد قدمنا بإيضاح في أول سورة الحج وغيرها أن المفرد إن كان اسم جنس، قد تطلقه العرب، وتريد به معنى الجمع. وأكثرنا من أمثلته في القرآن، وكلام العرب مع تعريفه وتنكيره وإضافته، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنهم بعد أن أنشأهم خلقاً آخر، فأخرج الواحد منهم من بطن أمه صغيراً، ثم يكون محتلماً، ثم يكون شاباً، ثم يكون كهلاً، ثم يكون شيخاً، ثم هرماً أنهم كلهم صائرون إلى الموت من عمر منهم ومن لم يعمر، ثم هم بعد الموت يبعثون أحياءً، يوم القيامة للحساب والجزاء، وهذا الموت والحياة المذكوران هنا كل واحد منهما له نظير آخر، لأنهما إماتتان وإحياتان ذكر من كل منهما واحدة هنا، وذكر الجميع في قوله تعالى :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٨ ] وقوله :﴿ قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ﴾ [ غافر : ١١ ] كما قدمنا إيضاحه في سورة الحج والبقرة، وكل ذلك دليل على كمال قدرته، ولزوم الإيمان به، واستحقاقه للعبادة وحده سبحانه وتعالى علواً كبيراً.
في قوله تعالى طرائق، وجهان من التفسير :
أحدهما : أنها قيل لها طرائق، لأن بعضها فوق بعض من قولهم : طارق النعل إذا صيرها طاقاً فوق طاق، وركب بعضها عَلَى بعض، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «كأن وجوههم المجان المطرقة » أي التراس التي جعلت لها طبقات بعضها فوق بعض، ومنه قول الشاعر يصف نعلاً له مطارقة :
وطراق من خلفهن طراق | ساقطات تلوي بها الصحراء |
أهوى لها أسفع الخدين مطرق | ريش القوادم لم تنصب له الشبك |
طراق الخوافي واقع فوق ريعه | ندى ليله في ريشه يترقرق |
سكاء مخطومة في ريشها طرق | سود قوادمها كدر خوافيها |
الوجه الثاني : أنها قيل لها طرائق، لأنها طرق الملائكة في النزول والعروج، وقيل : لأنها طرائق الكواكب في مسيرها، وأما قول من قال قيل لها طرائق لأن الكل سماء طريقة، وهيأة غير هيأة الأخرى وقول من قال : طرائق ؟ أي مبسوطات فكلاهما ظاهر البعد، وقوله تعالى :﴿ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ﴾ قد قدمنا أن معناه كقوله ﴿ وَيُمْسِكُ السَّمَآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الأرض ﴾ [ الحج : ٦٥ ] لأن من يمسك السماء لو كان يغفل لسقطت فأهلكت الخلق كما تقدم إيضاحه وقال بعضهم ﴿ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ ﴾ بل نحن القائمون بإصلاح جميع شؤونهم، وتيسير كل ما يحتاجون إليه وقوله ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ ﴾ يعني السموات برهان على قوله قبله ﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١٦ ] لأن من قدر على خلق السموات، مع عظمها فلا شك أنه قادر على خلق الإنسان كقوله تعالى ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ﴾ [ غافر : ٥٧ ] وقوله تعالى :﴿ أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا ﴾ [ النازعات : ٢٧ ]. وقوله :﴿ أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السَّمَاواتِ والأرض بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم ﴾ والآيات بمثل هذا متعددة.
وقد قدمنا براهين البعث التي هذا البرهان من جملتها، وأكثرنا من أمثلتها وهي مذكورة هنا، ولم نوضحها هنا لأنا أوضحناها فيما سبق في النحل والبقرة. والعلم عند الله تعالى.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أنزل من السماء ماء معظماً نفسه جل وعلا بصيغة الجمع المراد بها التعظيم وأن ذلك الماء الذي أنزله من السماء أسكنه في الأرض لينتفع به الناس في الآبار، والعيون، ونحو ذلك. وأنه جل وعلا قادر على إذهابه لو شاء أن يذهبه فيهلك جميع الخلق بسبب ذهاب الماء من أصله جوعاً وعطشاً وبين أنه أنزله بقدر أي بمقدار معين عنده يحصل به نفع الخلق ولا يكثره عليهم، حتى يكون كطوفان نوح لئلا يهلكهم، فهو ينزله بالقدر الذي فيه المصلحة، دون المفسدة سبحانه جل وعلا ما أعظمه وما أعظم لطفه بخلقه. وهذه المسائل الثلاث التي ذكرها في هذه الآية الكريمة، جاءت مبينة في غير هذا الموضع.
الأولى : التي هي كونه : أنزله بقدر أشار إليها في قوله :﴿ وَإِن مِّن شيء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾ [ الحجر : ٢١ ].
والثانية : التي هي إسكانه الماء المنزل من السماء في الأرض بينها في قوله جل وعلا ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السماء مَآءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ في الأرض ﴾ [ الزمر : ٢١ ] والينبوع : الماء الكثير وقوله :﴿ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [ الحجر : ٢٢ ] على ما قدمنا في الحجر.
والثالثة : التي هي قدرته على إذهابه أشار لها في قوله تعالى :﴿ قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ ﴾ [ الملك : ٣٠ ] ويشبه معناها قوله تعالى :﴿ لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ ﴾ [ الواقعة : ٧٠ ] لأنه إذا صار ملحاً أجاجاً لا يمكن الشرب منه، ولا الانتفاع به صار في حكم المعدوم، وقد بين كيفية إنزاله الماء من السماء في قوله تعالى ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ﴾ [ النور : ٤٣ ] فصرح بأن الودق الذي هو المطر يخرج من خلال السحاب الذي هو المزن، وهو الوعاء الذي فيه الماء وبين أن السحابة تمتلئ من الماء حتى تكون ثقيلة لكثرة ما فيها من الماء في قوله تعالى :﴿ حَتَّى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ ﴾ [ الأعراف : ٥٧ ] فقوله : ثقالاً جمع تقيلة، وثقلها إنما هو بالماء الذي فيها وقوله تعالى :﴿ وينشئ السَّحَابَ الثِّقَالَ ﴾ [ الرعد : ١٢ ] جمع سحابة ثقيلة.
وهذه الآيات القرآنية تدل على أن الله يجمع الماء في المزن، ثم يخرجه من خلال السحاب، وخلال الشيء ثقوبه وفروجه التي هي غير مسدودة، وبين جل وعلا أنه هو الذي ينزله ويصرفه بين خلقه كيف يشاء، فيكثر المطر في بلاد قوم سنة، حتى يكثر فيها الخصب وتتزايد فيها النعم، ليبتلي أهلها في شكر النعمة، وهل يعتبرون بعظم الآية في إنزال الماء، ويقل المطر عليهم في بعض السنين، فتهلك مواشيهم من الجدب ولا تنبت زروعهم، ولا تثمر أشجارهم، ليبتليهم بذلك، هل يتوبون إليه، ويرجعون إلى ما يرضيه.
وبين أنه مع الإنعام العام على الخلق بإنزال المطر بالقدر المصلح وإسكان مائة في الأرض ليشربوا منه هم، وأنعامهم، وينتفعوا به أبى أكثرهم إلا الكفر به، وذلك في قوله تعالى :﴿ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ مَآءً طَهُوراً * لِّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِىَّ كَثِيراً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ﴾ [ الفرقان : ٤٨-٥٠ ].
ولا شك أن من جملة من أبى منهم إلا كفوراً الذين يزعمون أن المطر لم ينزله منزل هو فاعل مختار، وإنما نزل بطبيعته، فالمنزل له عندهم : هو الطبيعة، وأن طبيعة الماء التبخر، إذا تكاثرت عليه درجات الحرارة من الشمس أو الاحتكاك بالريح، وأن ذلك البخار يرتفع بطبيعته ؛ ثم يجتمع، ثم يتقاطر. وأن تقاطره ذلك أمر طبيعي لا فاعل له، وأنه هو المطر. فينكرون نعمة الله في إنزاله المطر وينكرون دلالة إنزاله على قدرة منزله، ووجوب الإيمان به واستحقاقه للعبادة وحده، فمثل هؤلاء داخلون في قوله ﴿ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ﴾ [ الفرقان : ٥٠ ] بعد قوله :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ ﴾. وقد صرح في قوله :﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ ﴾ أنه تعالى، هو مصرف الماء، ومنزلة حيث شاء كيف شاء. ومن قبيل هذا المعنى : ما ثبت في صحيح مسلم من حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية في أثر السماء كانت من الليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : قال أصبح من عبادي مؤمن بي، وكافر بي : فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب » هذا لفظ مسلم رحمه الله في صحيحه، ولا شك أن من قال : مطرنا ببخار كذا مسنداً ذلك للطبيعة، أنه كافر بالله مؤمن بالطبيعة والبخار ؛ والعرب كانوا يزعمون أن بعض المطر أصله من البحر، إلا أنهم يسندون فعل ذلك الفاعل المختار جل وعلا، ومن أشعارهم في ذلك قول طرفة بن العبد :
لا تلمني إنها من نسوة *** رقد الصيف مقاليت نزر
كبنات البحر يمأدن إذا *** أنبت الصيف عساليج الخضر
فقوله : بنات البحر يعني : المزن التي أصل مائها من البحر.
وقول أبي ذؤيب الهذلي.
سقى أم عمرو كل آخر ليلة *** حناتم غرماؤهن نجيج
شربن بماء البحر ثم ترفعت *** متى لجج خضر لهن نئيج
ولا شك أن خالق السموات والأرض جل وعلا، هو منزل المطر على القدر الذي يشاء كيف يشاء سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
قد قدمنا الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية الكريمة في سورة النحل، في الكلام على قوله تعالى :﴿ يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ ﴾ [ النحل : ١١ ] وغيرها، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم | قطيناً بها حتى إذا أنبت البقل |
وفي حديث أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة » رواه أحمد ورواه الترمذي، وغيره عن عمر، والظاهر أنه لا يخلو من مقال، وقال فيه العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الإلباس رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن عمر وابن ماجه فقط عن أبي هريرة، وصححه الحاكم على شرطهما ثم قال : وفي الباب عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. ا ه منه والعلم عند الله تعالى.
قد قدمنا الآيات الموضحة لمعنى هذه الآية، وما يستفاد منها من الأحكام الفقيهة في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَإِنَّ لَكُمْ في الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا في بُطُونِهَا ﴾ مع بيان أوجه القراءة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
الضمير في قوله : عليها راجع إلى الأنعام المذكورة في قوله :﴿ وَإِنَّ لَكُمْ في الأنعام ﴾ وقد بين تعالى في هذه الآية : أنه يحمل خلقه على الأنعام، والمراد بها هنا الإبل، لأن الحمل عليها هو الأغلب، وعلى الفلك : وهي السفن ولفظ الفلك، يطلق على الواحد والجمع من السفن، وما ذكره تعالى في هذه الآية الكريمة من الامتنان على خلقه بما يسر لهم من الركوب والحمل، على الأنعام والسفن جاء موضحاً في آيات أخر كقوله تعالى ﴿ اللَّهُ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً في صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾ [ غافر : ٧٩-٨٠ ] وقوله في الأنعام ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴾ [ يس : ٧١-٧٢ ] وقوله فيها ﴿ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ النحل : ٧ ] وقوله في الفلك والأنعام معاً ﴿ والذي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ والأنعام مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُواْ عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هَاذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ﴾ [ الزخرف : ١٢-١٤ ] وقوله في السفن ﴿ وَءَايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ في الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴾ [ يس : ٤١-٤٢ ] وقوله :﴿ سَخَّرَ لَكُم مَّا في الأرض وَالْفُلْكَ تَجْرِى في الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ﴾ [ الحج : ٦٥ ] وقوله تعالى :﴿ وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ [ فاطر : ١٢ ] والآيات بمثل هذا كثيرة، وهذا من نعمه وآياته، وقرن الأنعام بالفلك في الآيات المذكورة لأن الإبل سفائن البر، كما قال ذو الرمة :
ألا خيلت مني وقد نام صحبتي | فما نفر التهويم إلا سلامها |
طروقاً وجلب الرحل مشدودة بها | سفينة بر تحت خدي زمامها |
بين تعالى في هذه الآية الكريمة : أنه بعد إرسال نوح والرسول المذكور بعده أرسل رسله تترى : أي متواترين واحداً بعد واحداً، وكل متتابع متتال تسميه العرب متواتراً، ومنه قول لبيد في معلقته :
يعلو طريقة متنها متواتر | في ليلة كفر النجوم غمامها |
أما الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية فهي كثيرة جداً كقوله تعالى ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ﴾ [ سبأ : ٣٤ ] وقوله تعالى :﴿ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ في قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٢٣ ] وقوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مِّن نبي إِلاَ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَآءِ وَالضَّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ * ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ ءَابَاءَنَا الضَّرَّآءُ وَالسَّرَّآءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾ [ الأعراف : ٩٤-٩٥ ] والآيات بمثل هذا كثيرة جداً.
أما الآية التي بينت استثناء أمة واحدة من هذه الأمم فهي قوله تعالى :﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ ءَامَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ ءَامَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي في الْحَيَواةَ الدُّنْيَا ﴾ [ يونس : ٩٨ ]. وظاهر آية الصافات أنهم آمنوا إيماناً حقاً، وأن الله عاملهم به معاملة المؤمنين، وذلك في قوله في يونس ﴿ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَأامَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ﴾ [ الصافات : ١٤٧-١٤٨ ] لأن ظاهر إطلاق قوله : فآمنوا، يدل على ذلك. والعلم عند الله تعالى. ومن الأمم التي نص على أنه أهلكها وجعلها أحاديث سبأ، لأنه تعالى قال فيهم :﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ ﴾ [ سبأ : ١٩ ] وقوله ﴿ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ ﴾ أي أخباراً وقصصاً يسمر بها، ويتعجب منها، كما قال ابن دريد في مقصورته :
وإنما المرء حديث بعده | فكن حديثاً حسناً لمن وعى |
قل الغناء إذا لاقى الفتى تلفا | قول الأحبة لا تبعد وقد بعدا |
نبئت نعما على الهجران عاتية | سقيا ورعيا لذاك العاتب الزاري |
أحدهما : أنه جمع حديث كما تقول : هذه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، تريد بالأحاديث جمع حديث، وعلى هذا فهو من الجموع الجارية على غير القياس المشار لها بقول ابن مالك في الخلاصة :
وحائد عن القياس كل ما | خالف في البابين حكماً رسما |
الوجه الثاني : أن الأحاديث جمع أحدوثة التي هي مثل : أضحوكة، وألعوبة، وأعجوبة بضم الأول، وإسكان الثاني : وهي ما يتحدث به الناس تلهياً، وتعجباً ومنه بهذا المعنى قول توبة بن الحمير :
من الخفرات البيض ود جليسها | إذا ما انقضت أحدوثة لو تعيدها |
أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة رسله عليهم الصلاة والسلام مع أن الموجود منهم، وقت نزولها واحد، وهو نبينا صلى الله عليه وسلم، بالأكل من الطيبات : وهي الحلال الذي لا شبهة فيه على التحقيق، وأن يعلموا العمل الصالح، وذلك يدل على أن الأكل من الحلال له أثر في العمل الصالح، وهو كذلك، وهذا الذي أمر به الرسل في هذه الآية الكريمة، أمر به المؤمنين من هذه الأمة التي هي خير الأمم، وذلك في قوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [ البقرة : ١٧٢ ] والآية تدل على أن كل رسول أمر في زمنه بالأكل من الحلال، والعمل الصالح، وتأثير الأكل من الحلال في الأعمال معروف. وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وأن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال :﴿ يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُواْ صَالِحاً إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ [ المؤمنون : ٥١ ] وقال :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٧٢ ] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر. ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام، وغذي بالحرامِ يمد يديه إلى السماء، يا رب يا رب فأنى يستجاب له » وهو يدل دلالة واضحة أن دعاءه الذي هو أعظم القرب لم ينفعه، لأنه لم يأكل من الحلال ولم يشرب منه، ولم يركب منه.
قد أوضحنا معنى هاتين الآيتين، وفسرنا ما يحتاج منهما إلى تفسير وبينا الآيات الموضحة لمعناهما في سورة الأنبياء في الكلام على قوله :﴿ إِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ﴾ وبينا المراد بالأمة مع بعض الشواهد العربية، وبينا جمع معاني الأمة في القرآن في أول سورة هود في الكلام على قوله :﴿ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ ﴾ فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قد أوضحنا معنى هاتين الآيتين، وفسرنا ما يحتاج منهما إلى تفسير وبينا الآيات الموضحة لمعناهما في سورة الأنبياء في الكلام على قوله :﴿ إِنَّ هَاذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ * وَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ﴾ وبينا المراد بالأمة مع بعض الشواهد العربية، وبينا جمع معاني الأمة في القرآن في أول سورة هود في الكلام على قوله :﴿ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ ﴾ فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
أمر جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذر الكفار أي يتركهم في غمرتهم إلى حين، أي وقت معين عند الله، والظاهر أنه وقت انقضاء آجالهم بقتل أو موت، وصيرورتهم إلى ما هم صائرون إليه بعد الموت من العذاب البرزخي، والأخروي، وكون المراد بالحين المذكور : وقت قتلهم، أو موتهم ذكره الزمخشري عن علي رضي الله عنه، بغير سند.
وأقوال أهل العلم في معنى غمرتهم راجعة إلى شيء واحد كقول الكلبي في غمرتهم : أي جهالتهم : وقول ابن بحر : في حيرتهم، وقول ابن سلام : في غفلتهم، وقول بعضهم : في ضلالتهم فمعنى كل هذه الأقوال واحد، وهو أنه، أمره أن يتركهم فيما هم فيه من الكفر والضلال، والغي والمعاصي قال الزمخشري : الغمرة : الماء الذي يغمر القامة فضربت مثلاً لما هم مغمورون فيه من جهلهم، وعمايتهم أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل، قال ذو الرمة :
ليالي اللهو يطبيني فأتبعه | كأنني ضارب في غمرة لعب |
وقد أوضحنا الآيات الدالة على هذا المعنى في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى :﴿ ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل ﴾ [ الحجر : ٣ ]، وتكلمنا هناك على لفظ ذرهم.
قد أوضحنا الكلام على الآيات الموضحة لهاتين الآيتين في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً ﴾ فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قد أوضحنا الكلام على الآيات الموضحة لهاتين الآيتين في سورة الكهف في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّى لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً ﴾ فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى :﴿ وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾. الحق أن المراد بهذا الكتاب : كتاب الأعمال الذي يحصيها الله فيه، كما يدل عليه قوله تعالى ﴿ هَاذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّ كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا المعنى في الكهف، في الكلام على قوله :﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ﴾ [ الكهف : ٤٩ ]، وفي سورة الإسراء في الكلام على قوله :﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ﴾ [ الإسراء : ١٣ ].
والظاهر أن معنى نطق الكتاب بالحق : أن جميع المكتوب فيه حق، فمن قرأ المكتوب فيه، كأنه لا ينطق في قراءته له إلا بالحق، وربما أطلقت العرب اسم الكلام على الخط، كما روي عن عائشة أنها قالت : ما بين دفتي المصحف كلام الله، والله تعالى أعلم.
حتى هنا في هذه الآية التي يبتدأ بعدها الكلام، والكلام الجملة الشرطية، والعذاب الذي أخذهم ربهم به، قيل : هو عذاب يوم بدر بالقتل والأسر، وقيل : الجوع والقحط الشديد الذي أصابهم، لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف » فأصابهم بسبب دعوته صلى الله عليه وسلم من الجوع الشديد، عذاب أليم، وأظهرها عندي أنه أخذهم بالعذاب يوم القيامة. وقد بين تعالى في هاتين الآيتين أنه أخذ مترفيهم بالعذاب، والمترفون هم أصحاب النعمة والرفاهية في دار الدنيا. وهذا المعنى أشار له بقوله :﴿ وَذَرْنِى وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِى النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً * إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً ﴾ [ المزمل : ١١-١٣ ] فقوله : أولي النعمة يريد بهم : المترفين في الدنيا، وبين أنه سيعذبهم بعد التهديد بقوله :﴿ إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً ﴾ وقوله : يجأرون، الجؤار : الصراخ باستغاثة، والعرب تقول : جأر الثور يجأر : صاح، فالجؤار كالخوار وفي بعض القراءات عجلاً جسداً له جؤار بالجيم والهمزة : أي خوار، وجأر الرجل إلى الله : تضرع بالدعاء.
فمعنى الآية الكريمة : أن المنعمين في الدنيا من الكفار، إذا أخذهم الله بالعذاب يوم القيامة، صاحوا مستصرخين مستغيثين، يطلبون الخلاص مما هم فيه، وصراخهم واستغاثتهم المشار له هنا، جاء في آيات أخر كقوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ [ فاطر : ٣٧ ] فقوله : يصطرخون : يفتعلون من الصراخ، مستغيثين يريدون الخروج مما هم فيه، بدليل قوله تعالى عنهم ﴿ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ [ فاطر : ٣٧ ] فهذا الصراخ المذكور في هذه الآية العام للمترفين وغيرهم، هو الجؤار المذكور عن المترفين هنا، ومن إطلاق العرب الجؤار على الصراخ والدعاء للاستغاثة قول الأعشى :
يراوح من صلوات المليك | فطورا سجودا وطورا جؤارا |
زعموا بأنهم على سبل النجا | ة وإنما نكص على الأعقاب |
يتضمن حضهم، على تدبر هذا القول الذي هو القرآن العظيم، لأنهم إن تديروه تدبراً صادقاً، علموا أنه حق، وأن اتباعه واجب وتصديق من جاء به لازم. وقد أشار لهذا المعنى في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً ﴾ [ النساء : ٨٢ ] وقوله :﴿ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ ﴾ [ محمد : ٢٤ ] وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ أَمْ جَآءَهُمْ مَّا لَمْ يَأْتِ ءَابَآءَهُمُ الاٌّوَّلِينَ ﴾ [ المؤمنون : ٦٨ ] قال القرطبي : فأنكروه، وأعرضوا عنه، وقيل : أم بمعنى : بل جاءهم مالاً عهد لآبائهم به، فلذلك أنكروه، وتركوا التدبر له
وقال ابن عباس : وقيل المعنى : أم جاءهم أمان من العذاب، وهو شيء لم يأت آباءهم الأولين، قال أبو حيان في تفسير هذه الآية : قرعهم أولاً بترك الانتفاع بالقرآن، ثم ثانياً بأن ما جاءهم جاء آباءهم الأولين : أي إرسال الرسل ليس بدعا، ولا مستغرباً، بل أرسلت الرسل للأمم قبلهم، وعرفوا ذلك بالتواتر ونجاة من آمن، واستئصال من كذب وآباؤهم إسماعيل وأعقابه إلى آخر كلامه. وهذا الوجه من التفسير له وجه من النظر وعليه فالآية كقوله :﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ ﴾ [ الأحقاف : ٩ ] ونحوها من الآيات.
قد قدمنا الآيات الموضحة لهذه الآية في سورة يونس، في الكلام على قوله تعالى :﴿ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ ﴾ فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
الأول : أن تكون بمعنى : بل الإضرابية.
الثاني : أن تكون بمعنى همزة استفهام الإنكار.
الثالث : أن تكون بمعناهما معاً فتكون جامعة بين الإضراب والإنكار، وهذا الأخير هو الأكثر في معناها، خلافاً لابن مالك في الخلاصة في اقتصاره على أنها بمعنى : بل في قوله :
وبانقطاع وبمعنى بل وفت *** إن تك مما قيدت به خلت
ومراده بخلوها مما قيدت به : ألا تسبقها إحدى الهمزتين المذكورتين، فإن سبقتها إحداهما، فهي المتصلة كما تقدم قريباً، وعلى ما ذكرنا فيكون المعنى متضمناً للإضراب عما قبله إضراباً انتقالياً، مع معنى استفهام الإنكار، فتضمن الآية الإنكار على الكفار في دعواهم : أن نبينا صلى الله عليه وسلم به جنة : أي جنون يعنون : أن هذا الحق الذي جاءهم به هذيان مجنون، قبحهم الله ما أجحدهم للحق، وما أكفرهم ودعواهم عليه هذه أنه مجنون كذبها الله هنا بقوله :﴿ بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ ﴾ فالإضراب ببل إبطالي.
والمعنى : ليس بمجنون بل هو رسول كريم جاءكم بالحق الواضح، المؤيد بالمعجزات الذي يعرف كل عاقل، أنه حق، ولكن عاندتم وكفرتم لشدة كراهيتكم للحق، وما نفته هذه الآية الكريمة من دعواهم عليه الجنون صرح الله بنفيه في مواضع أخر كقوله تعالى :﴿ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ﴾ [ التكوير : ٢٢ ] وقوله تعالى :﴿ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ ﴾ [ الطور : ٢٩ ] وهذا الجنون الذي افترى على آخر الأنبياء، افترى أيضاً على أولهم، كما تعالى في هذه السورة الكريمة عن قوم نوح أنهم قالوا فيه ﴿ إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حَتَّى حِينٍ ﴾ [ المؤمنون : ٢٥ ] وقد بين في موضع آخر أن الله لم يرسل رسولاً إلا قال قومه : إنه ساحر، أو مجنون، كأنهم اجتمعوا فتواصوا على ذلك لتواطئ أقوالهم لرسلهم عليه، وذلك في قوله تعالى :﴿ كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْاْ بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ﴾ [ الذاريات : ٥٢-٥٣ ] فبين أن سبب تواطئهم على ذلك ليس التواصي به، لاختلاف أزمنتهم، وأمكنتهم. ولكن الذي جمعهم على ذلك مشابهة بعضهم لبعض في الطغيان، وقد أوضح هذا المعنى في سورة البقرة في قوله ﴿ كَذَالِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [ البقرة : ١١٨ ] فهذه الآيات تدل على أن سبب تشابه مقالاتهم لرسلهم، هو تشابه قلوبهم في الكفر والطغيان، وكراهية الحق وقوله :﴿ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ ذكر نحو معناه في قوله تعالى :﴿ لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ [ الزخرف : ٧٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ في وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ ﴾ [ الحج : ٧٢ ]، وذلك المنكر الذي تعرفه في وجوههم، إنما هو لشدة كراهيتهم للحق، ومن الآيات الموضحة لكراهيتهم للحق. أنهم يمتنعون من سماعه، ويستعملون الوسائل التي تمنعهم من أن يسمعوه، كمال قال تعالى في قصة أول الرسل الذين أرسلهم بتوحيده والنهي عن الإشراك به، وهو نوح :﴿ وإني كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُواْ أَصَابِعَهُمْ في ءَاذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْاْ ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّواْ وَاسْتَكْبَرُواْ اسْتِكْبَاراً ﴾ [ نوح : ٧ ] وإنما جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم خوف أن يسمعوا ما يقوله لهم نبيهم نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، من الحق، والدعوة إليه. وقال تعالى في أمة آخر الأنبياء صلى الله عليه وسلم ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَاذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ ﴾ [ فصلت : ٢٦ ]. فترى بعضهم ينهى بعضاً عن سماعه، ويأمرهم باللغو فيه، كالصياح والتصفيق المانع من السماع لكراهتهم للحق، ومحاولتهم أن يغلبوا الحق بالباطل.
وهذه الآية الكريمة سؤال معروف وهو أن يقال : قوله :﴿ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ يفهم من مفهوم مخالفته، أن قليلاً من الكفار، ليسوا كارهين للحق. وهذا السؤال وارد أيضاً على آية الزخرف التي ذكرنا آنفاً، وهي قوله تعالى :﴿ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ [ الزخرف : ٧٨ ].
والجواب عن هذا السؤال : هو ما أجاب به بعض أهل العلم بأن قليلاً من الكفار. كانوا لا يكرهون الحق، وسبب امتناعهم عن الإيمان بالله ورسوله ليس هو كراهيتهم للحق، ولكن سببه الأنفة والاستنكاف من توبيخ قومهم، وأن يقولوا صبأوا وفارقوا دين آبائهم، ومن أمثلة من وقع له هذا أبو طالب فإنه لا يكره الحق، الذي جاء به النَّبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان يشد عضده في تبليغه رسالته كما قدمنا في شعره في قوله :
اصدع بأمرك ما عليك غضاضة ***...
الأبيات وقال فيها،
ولقد علمت بأن دين محمد *** من خير أديان البرية دينا
وقال فيه صلى الله عليه وسلم أيضاً :
لقد علموا أن ابننا لا مكذب *** لدينا ولا يعني بقول الأباطل
وقد بين أبو طالب في شعره : أن السبب المانع له من اعتناق الإسلام ليس كراهية الحق، ولكنه الأنفة والخوف من ملامة قومه أو سبهم له كما في قوله :
لولا الملامة أو حذار مسبة *** لوجدتني سمعاً بذاك يقينا
اختلف العلماء في المراد بالحق في هذه الآية، فقال بعضهم : الحق : هو الله تعالى، ومعلوم أن الحق من أسمائه الحسنى، كما في قوله تعالى :﴿ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾ [ النور : ٢٥ ] وقوله :﴿ ذالِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ﴾ [ الحج : ٦٢ ] وكون المراد بالحق في الآية : هو الله عزاه القرطبي للأكثرين، وممن قال به : مجاهد وابن جريح، وأبو صالح، والسدي. وروي عن قتادة، وغيرهم.
وعلى هذا القول فالمعنى لو أجابهم الله إلى تشريع ما أحبوا تشريعه وإرسال من اقترحوا إرسالة، بأن جعل أمر التشريع وإرسال الرسل ونحو ذلك تابعاً لأهوائهم الفاسدة، لفسدت السماوات والأرض، ومن فيهن، لأن أهواءهم الفاسدة وشهواتهم الباطلة، لا يمكن أن تقوم عليها السماء والأرض وذلك لفساد أهوائهم، واختلافها. فالأهواء الفاسدة المختلفة لا يمكن أن يقوم عليها نظام السماء والأرض ومن فيهن، بل لو كانت هي المتبعة لفسد الجميع.
ومن الآيات الدالة على أن أهواءهم لا تصلح، لأن تكون متبعة قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَاذَا الْقُرْءَانُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [ الزخرف : ٣١ ] لأن القرآن لو أنزل على أحد الرجلين المذكورين، وهو كافر يعبد الأوثان فلا فساد أعظم من ذلك. وقد رد الله عليهم بقوله :﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ﴾ [ الزخرف : ٣٢ ] وقال تعالى :﴿ قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّى إِذًا لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنْسَانُ قَتُورًا ﴾ [ الإسراء : ١٠٠ ] وقال تعالى :﴿ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ﴾ [ النساء : ٥٣ ] قال ابن كثير رحمه الله : ففي هذا كله تبيين عجز العباد، واختلاف آرائهم وأهوائهم، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله وشرعه وقدره وتدبيره لخلقه سبحانه وتعالى علواً كبيراً.
ومما يوضح أن الحق لو اتبع الأهواء الفاسدة المختلفة لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن قوله تعالى :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ] فسبحان الله رب العرش عما يصفون.
القول الثاني : أن المراد بالحق في الآية : الحق الذي هو ضد الباطل المذكور في قوله قبله :﴿ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ﴾ وهذا القول الأخير اختاره ابن عطية، وأنكر الأول.
وعلى هذا القول فالمعنى : أنه لو فرض كون الحق متبعاً لأهوائهم، التي هي الشرك بالله، وادعاء الأولاد، والأنداد له ونحو ذلك : لفسد كل شيء لأن هذا الغرض يصير به الحق، هو أبطل الباطل، ولا يمكن أن يقوم نظام السماء والأرض على شيء، هو أبطل الباطل، لأن استقامة نظام هذا العالم لا تمكن إلا بقدرة وإرادة إله هو الحق منفرد بالتشريع، والأمر والنهي كما لا يخفى على عاقل والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ ﴾.
اختلف العلماء في الذكر في الآية فمنهم من قال : ذكرهم : فَخْرُهُمْ، وشَرَفُهُمْ، لأن نزول هذا الكتاب على رجل منهم فيه لهم أكبر الفخر والشرف، وعلى هذا، فالآية كقوله :﴿ وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾ [ الزخرف : ٤٤ ] على تفسير الذكر بالفخر والشرف، وقال بعضهم : الذكر في الآية : الوعظ والتوصية، وعليه فالآية كقوله :﴿ ذالِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ﴾ [ آل عمران : ٥٨ ] وقال بعضهم : الذكر هو ما كانوا يتمنونه في قوله :﴿ لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الاٌّوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ الصافات : ١٦٨-١٦٩ ] وعليه، فالآية كقوله تعالى :﴿ وَأَقْسَمُواْ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأمم ﴾ [ فاطر : ٤٢ ] وعلى هذا القول فقوله :﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً ﴾ [ فاطر : ٤٢ ] كقوله هنا، فهم عن ذكرهم معرضون. وكقوله :﴿ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٥٧ ] والآيات بمثل هذا على القول الأخير كثيرة والعلم عند الله تعالى.
المراد بالخرج والخراج هنا : الأجر والجزاء.
والمعنى : أنك لا تسألهم على ما بلغتهم من الرسالة المتضمنة لخيري الدنيا والآخرة، أجرة ولا جعلا، وأصل الخرج والخراج : هو ما تخرجه إلى كل عامل في مقابلة أجرة، أو جعل. وهذه الآية الكريمة تتضمن أنه صلى الله عليه وسلم، لا يسألهم أجراً، في مقابلة تبليغ الرسالة.
وقد أوضحنا الآيات القرآنية الدالة على أن الرسل لا يأخذون الأجرة على التبليغ في سورة هود، في الكلام على قوله تعالى عن نوح :﴿ وَيا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ ﴾ [ هود : ٢٩ ]. وبينا وجه الجمع بين تلك الآيات، مع آية :﴿ قُل لاَّ أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ في الْقُرْبَى ﴾ وبينا هناك حكم أخذ الأجرة، على تعليم القرآن وغيره، فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقرأ هذين الحرفين ابن عامر : خرجا فخرج ربك، بإسكان الراء فيهما معاً، وحذف الألف فيهما، وقرأ حمزة والكسائي : خراجاً فخراج ربك بفتح الراء بعدها ألف فيهما معاً، وقرأ الباقون : خرجا فخراج ربك بإسكان الراء، وحذف الألف في الأول، وفتح الراء وإثبات الألف في الثاني، والتحقيق : أن معنى الخرج والخراج واحد، وأنهما لغتان فصيحتان وقراءتان سبعيتان، خلافاً لمن زعم أن بين معناهما فرقاً زاعماً أن الخرج ما تبرعت به، والخراج : ما لزمك أداؤه.
ومعنى الآية : لا يساعد على هذا الفرق كما ترى، والعلم عند الله تعالى. وصيغة التفضيل في قوله :﴿ وَهُوَ خَيْرُ الرَازِقِينَ ﴾ نظراً إلى أن بعض المخلوقين يرزق بعضهم كقوله تعالى :﴿ وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ ﴾ [ النساء : ٥ ] وقوله تعالى :﴿ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٣٣ ]. ولا شك أن فضل رزق الله خلقه، على رزق بعض خلقه بعضهم كفضل ذاته، وسائر صفاته على ذوات خلقه، وصفاتهم.
قد قدمنا الآيات الموضحة، لمعنى هذه الآية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ﴾ [ الحج : ٦٧ ] فأغنى عن إعادته هنا.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الذين لا يؤمنون بالآخرة لإنكارهم البعث والجزاء، ناكبون عن الصراط، والمراد بالصراط، الذي هم ناكبون عنه : الصراط المستقيم الموصل إلى الجنة المذكور في قوله قبله :﴿ وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ ومن نكب عن هذا الصراط المستقيم، دخل النار بلا شك.
والآيات الدالة على ذلك كثيرة كقوله تعالى في سورة الروم :﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا وَلِقَاءِ الآخرة فَأُوْلَئِكَ في الْعَذَاب ِمُحْضَرُونَ ﴾ [ الروم : ١٦ ] ومعنى قوله : لناكبون : عادلون عنه، حائدون غير سالكين إياه وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول نصيب :
خليلي من كعب ألماً هديتما | بزينب لا تفقد كما أبداً كعب |
من اليوم زوراها فإن ركابنا | غداة غد عنها وعن أهلها نكب |
قد بينا الآيات الموضحة لما دلت عليه هذه الآية من أنه تعالى يعلم المعدوم الذين سبق في علمه أنه لا يوجد أن لو وجد، كيف يكون في سورة الأنعام في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٢٨ ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وقوله في هذه الآية :﴿ لَّلَجُّواْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٧٥ ] اللجاج هنا : التمادي في الكفر والضلال. والطغيان : مجاوزة الحد، وهو كفرهم بالله، وادعاؤهم له الأولاد والشركاء، وقوله : يعمهون : يترددون متحيرين لا يميزون حقاً، من باطل. وقال بعض أهل العلم : العمه : عمى القلب، والعلم عند الله تعالى.
قد ذكرنا الآيات التي فيها إيضاح لمعنى هذه الآية في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ والأبصار وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [ النحل : ٧٨ ] وبينا هناك وجه أفراد السمع مع الجمع للأبصار والأفئدة، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
ذرأكم معناه : خلقكم، ومنه قوله تعالى :﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ ﴾ [ الأعراف : ١٧٩ ] وقوله في الأرض : أي خلقكم وبثكم في الأرض، عن طريق التناسل، كما قال تعالى :﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً ونساء ﴾ [ النساء : ١ ] وقال :﴿ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ﴾ [ الروم : ٢٠ ] وقوله :﴿ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾ أي إليه وحده، تجمعون يوم القيامة أحياء بعد البعث للجزاء والحساب.
وما تضمنته هذه الآية، من أنه خلقهم، وبثهم في الأرض. وأنه سيحشرهم إليه يوم القيامة. جاء معناه في آيات كثيرة كقوله في أول هذه السورة ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ ﴾ [ المؤمنون : ١٢ ] إلى قوله :﴿ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ ﴾ [ المؤمنون : ١٦ ] وذكر جل وعلا أيضاً هاتين الآيتين في سورة الملك في قوله تعالى :﴿ قُلْ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ * قُلْ هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ في الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَاذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ الملك : ٢٣-٢٥ ] والآيات في هذا المعنى كثيرة.
قد قدمنا الآيات الدالة على الإماتتين والإحياءتين، وأن ذلك من أكبر الدواعي للإيمان به جل وعلا في سورة الحج في الكلام على قوله :﴿ وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ [ الحج : ٦٦ ] وفي سورة البقرة في الكلام على قوله تعالى :﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٨ ]. فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قوله تعالى :﴿ وَلَهُ اخْتِلَافُ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن له اختلاف الليل والنهار، يعني : أن ذلك هو الفاعل له وهو الذي يذهب بالليل، ويأتي بالنهار، ثم يذهب بالنهار ويأتي بالليل، واختلاف الليل والنهار، من أعظم آياته الدالة على كما قدرته، ومن أعظم مننه على خلقه كما بين الأمرين في سورة القصص في قوله تعالى ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَاهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [ القصص : ٧١-٧٣ ]. أي لتسكنوا في الليل وتطلبوا معايشكم بالنهار. والآيات الدالة على اختلاف الليل والنهار، من أعظم الآيات الدالة على عظمة الله، واستحقاقه للعبادة وحده كثيرة جداً كقوله تعالى :﴿ وَمِنْ ءَايَاتِهِ الَّيْلُ وَالنَّهَارُ ﴾ [ فصلت : ٣٧ ] وقوله :﴿ وَءَايَةٌ لَّهُمُ الَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ﴾ [ يس : ٤٠ ] وقوله ﴿ يُغْشِى الَّيْلَ النَّهَارَ ﴾ [ الأعراف : ٥٤ ] وقوله ﴿ وَلاَ الَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ ﴾ [ يس : ٤٠ ] وقوله تعالى :﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ ﴾ [ إبراهيم : ٣٣ ]. وقوله تعالى :﴿ إِنَّ في اخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ في السَّمَاوَاتِ والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ ﴾ [ يونس : ٦ ] والآيات بمثل هذا كثيرة جداً، وقوله تعالى : أفلا تعقلون : أي تذكرون بعقولكم أن الذي ينشىء السمع والأبصار والأفئدة، ويذرؤكم في الأرض وإليه تحشرون، وهو الذي يحيي ويميت ويخالف بين الليل والنهار أنه الإله الحق المعبود وحده جل وعلا، الذي لا يصح أن يسوى به غيره سبحانه وتعالى علواً كبيراً.
لفظة بل هنا للإضراب الانتقالي.
والمعنى : أن الكفار الذين كذبوا نبينا صلى الله عليه وسلم، قالوا مثل ما قالت الأمم قبلهم، من إنكار البعث، لأن الاستفهام في قوله :﴿ أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ إنكار منهم للبعث.
والآيات الدالة على إنكارهم للبعث كثيرة كقوله تعالى عنهم :﴿ مَن يُحىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٨ ] وكقوله عنهم :﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٩ ] ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ ﴾ [ الدخان : ٣٥ ] وقوله عنهم :﴿ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً * قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ﴾ [ النازعات : ١١-١٢ ]. والآيات بمثل هذا في إنكارهم البعث كثيرة : وقد بينا في سورة البقرة، في الكلام على قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١ ]. وفي أول سورة النحل، وغيرهما الآيات الدالة على البعث بعد الموت، وأوردنا منها كثيراً كقوله :﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ يس : ٧٩ ]. وقوله :﴿ وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ] وقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ [ الحج : ٥ ]. وأوضحنا أربعة براهين قرآنية دالة على البعث بعد الموت، وأكثرنا من ذكر الآيات الدالة على ذلك. فأغنى ذلك عن التطويل هنا. وقوله تعالى في هذه الآية ﴿ أَءِذَا مِتْنَا ﴾ قرأ نافع والكسائي، بالاستفهام في : أئذا متنا، وحذف همزة الاستفهام، في أئنا لمبعوثون، بل قرأ إنا لمبعوثون بصيغة الخبر لدلالة الاستفهام الأول، على الاستفهام الثاني المحذوف وقرأه ابن عامر بالعكس، فحذف همزة الاستفهام، من أئذا، وقرأ إذا بدون استفهام، وأثبت همزة الاستفهام في قوله :﴿ أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ وقد دل الاستفهام الثاني المثبت في قراءة ابن عامر، على الاستفهام الأول المحذوف فيها، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة بالاستفهام فيهما معاً :﴿ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ وهم على أصولهم في الهمزتين، فنافع وابن كثير وأبو عمرو يسهلون الثانية، والباقون يحققونها، وأدخل قالون، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر ألفاً بين الهمزتين. وقرأ الباقون بالقصر دون الألف، وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص، عن عاصم : متنا بكسر الميم، والباقون : بضم الميم. وقد قدمنا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى :﴿ قَالَتْ يا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَاذَا ﴾ [ مريم : ٣٢ ] الآية وجه كسر الميم في إسناد الفعل الذي هو مات إلى تاء الفاعل، وبينا أنه يخفى على كثير من طلبة العلم. وأوضحنا وجهة غاية مع بعض الشواهد العربية، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
لفظة بل هنا للإضراب الانتقالي.
والمعنى : أن الكفار الذين كذبوا نبينا صلى الله عليه وسلم، قالوا مثل ما قالت الأمم قبلهم، من إنكار البعث، لأن الاستفهام في قوله :﴿ أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ إنكار منهم للبعث.
والآيات الدالة على إنكارهم للبعث كثيرة كقوله تعالى عنهم :﴿ مَن يُحىِ الْعِظَامَ وَهِىَ رَمِيمٌ ﴾ [ يس : ٧٨ ] وكقوله عنهم :﴿ وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [ الأنعام : ٢٩ ] ﴿ وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ ﴾ [ الدخان : ٣٥ ] وقوله عنهم :﴿ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً * قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ ﴾ [ النازعات : ١١-١٢ ]. والآيات بمثل هذا في إنكارهم البعث كثيرة : وقد بينا في سورة البقرة، في الكلام على قوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِىْ خَلَقَكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢١ ]. وفي أول سورة النحل، وغيرهما الآيات الدالة على البعث بعد الموت، وأوردنا منها كثيراً كقوله :﴿ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِى أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ يس : ٧٩ ]. وقوله :﴿ وَهُوَ الَّذِى يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾ [ الروم : ٢٧ ] وقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ في رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ﴾ [ الحج : ٥ ]. وأوضحنا أربعة براهين قرآنية دالة على البعث بعد الموت، وأكثرنا من ذكر الآيات الدالة على ذلك. فأغنى ذلك عن التطويل هنا. وقوله تعالى في هذه الآية ﴿ أَءِذَا مِتْنَا ﴾ قرأ نافع والكسائي، بالاستفهام في : أئذا متنا، وحذف همزة الاستفهام، في أئنا لمبعوثون، بل قرأ إنا لمبعوثون بصيغة الخبر لدلالة الاستفهام الأول، على الاستفهام الثاني المحذوف وقرأه ابن عامر بالعكس، فحذف همزة الاستفهام، من أئذا، وقرأ إذا بدون استفهام، وأثبت همزة الاستفهام في قوله :﴿ أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ وقد دل الاستفهام الثاني المثبت في قراءة ابن عامر، على الاستفهام الأول المحذوف فيها، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة بالاستفهام فيهما معاً :﴿ أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ وهم على أصولهم في الهمزتين، فنافع وابن كثير وأبو عمرو يسهلون الثانية، والباقون يحققونها، وأدخل قالون، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر ألفاً بين الهمزتين. وقرأ الباقون بالقصر دون الألف، وقرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص، عن عاصم : متنا بكسر الميم، والباقون : بضم الميم. وقد قدمنا في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى :﴿ قَالَتْ يا لَيْتَنِى مِتُّ قَبْلَ هَاذَا ﴾ [ مريم : ٣٢ ] الآية وجه كسر الميم في إسناد الفعل الذي هو مات إلى تاء الفاعل، وبينا أنه يخفى على كثير من طلبة العلم. وأوضحنا وجهة غاية مع بعض الشواهد العربية، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن الكفار المنكرين للبعث قالوا : إنهم وعدوا بالبعث، ووعد به آباؤهم من قبلهم. والظاهر أنهم يعنون أجدادهم، الذين جاءتهم الرسل، وأخبرتهم بأنهم يبعثون بعد الموت للحساب والجزاء، وقالوا : إن البعث الذي وعدوا به هم وآباؤهم كذب لا حقيقة له، وأنه ما هو إلا أساطير الأولين : أي ما سطروه وكتبوه من الأباطيل والترهات، والأساطير : جمع أسطورة، وقيل : جمع أسطارة. وهذا الذي ذكره عنهم من إنكارهم البعث ذكر مثله في سورة النمل في قوله :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَءِذَا كُنَّا تُرَاباً وَءَابَآؤُنَآ أَءِنَّا لَمُخْرَجُونَ * لَقَدْ وُعِدْنَا هَاذَا نَحْنُ وَءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ﴾ [ النمل : ٦٧-٦٨ ] ثم إنه تعالى أقام البرهان على البعث، الذي أنكروه في هذه الآية بقوله :﴿ قُل لِّمَنِ الاٌّرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ إلى قوله :﴿ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ لأن من له الأرض، ومن فيها، ومن هو رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، ومن بيده ملكوت كل شيء، وهو يجبر ولا يجاز عليه، لا شك أنه قادر على بعث الناس بعد الموت، كما أوضحنا فيما مر البراهين القرآنية القطعية، الدالة على ذلك.
قدمنا ما دلت عليه هذه الآيات الكريمة، من كماله وجلاله وأوصاف ربوبيته المستلزمة لإخلاص العبادة له وحده، في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ والأرض أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبصار وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الحي وَمَن يُدَبِّرُ الأمر فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ [ يونس : ٣١ ] وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله :﴿ إِنَّ هَاذَا الْقُرْءَانَ يِهْدِى للتي هي أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ] وأوضحنا دلالة توحيده في ربوبيته، على توحيده في عبادته وقد ذكرنا كثيراً من الآيات القرآنية الدالة على ذلك، مع الإيضاح، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قدمنا ما دلت عليه هذه الآيات الكريمة، من كماله وجلاله وأوصاف ربوبيته المستلزمة لإخلاص العبادة له وحده، في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ والأرض أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبصار وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الحي وَمَن يُدَبِّرُ الأمر فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ [ يونس : ٣١ ] وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله :﴿ إِنَّ هَاذَا الْقُرْءَانَ يِهْدِى للتي هي أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ] وأوضحنا دلالة توحيده في ربوبيته، على توحيده في عبادته وقد ذكرنا كثيراً من الآيات القرآنية الدالة على ذلك، مع الإيضاح، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قدمنا ما دلت عليه هذه الآيات الكريمة، من كماله وجلاله وأوصاف ربوبيته المستلزمة لإخلاص العبادة له وحده، في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ والأرض أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبصار وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الحي وَمَن يُدَبِّرُ الأمر فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ [ يونس : ٣١ ] وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله :﴿ إِنَّ هَاذَا الْقُرْءَانَ يِهْدِى للتي هي أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ] وأوضحنا دلالة توحيده في ربوبيته، على توحيده في عبادته وقد ذكرنا كثيراً من الآيات القرآنية الدالة على ذلك، مع الإيضاح، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
قدمنا ما دلت عليه هذه الآيات الكريمة، من كماله وجلاله وأوصاف ربوبيته المستلزمة لإخلاص العبادة له وحده، في سورة يونس في الكلام على قوله تعالى :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ والأرض أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبصار وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الحي وَمَن يُدَبِّرُ الأمر فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ [ يونس : ٣١ ] وفي سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله :﴿ إِنَّ هَاذَا الْقُرْءَانَ يِهْدِى للتي هي أَقْوَمُ ﴾ [ الإسراء : ٩ ] وأوضحنا دلالة توحيده في ربوبيته، على توحيده في عبادته وقد ذكرنا كثيراً من الآيات القرآنية الدالة على ذلك، مع الإيضاح، فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ ﴾ أي هو يمنع من شاء ممن شاء، ولا يمنع أحد منه أحداً شاء أن يهلكه أو يعذبه، لأنه هو القادر وحده، على كل شيء، وهو القاهر فوق عباده، وهو الحكيم الخبير. ومنه قول الشاعر.
أراك طفقت تظلم من أجرنا | وظلم الجار إذلال المجير |
وقوله تعالى :﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ جاء في هذه الآيات ثلاث مرات. الأول :﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾. وهذه اتفق جميع السبعة على قراءتها بلام الجر الداخلة على لفظ الجلالة، لأنها جواب المجرور بلام الجر، وهو قوله :﴿ قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ ﴾ فجواب لمن الأرض، هو أن تقول : لله، وأما الثاني الذي هو ﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ والثالث : الذي هو قوله ﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ فقد قرأهما أبو عمرو بحذف لام الجر ورفع الهاء من اللفظ الجلالة.
والمعنى : على قراءة أبي عمرو المذكورة واضح لا إشكال فيه، لأن الظاهر في جواب من رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، أن تقول : الله بالرفع أي رب ما ذكر هو الله، وكذلك جواب قوله :﴿ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ ﴾. فالظاهر في جوابه أيضاً أن يقال : الله بالرفع : أي الذي بيده ملكوت كل شيء هو الله، فقراءة أبي عمرو جارية على الظاهر، الذي لا إشكال فيه. وقرأ الحرفين المذكورين غيره من السبعة، بحرف الجر وخفض الهاء من لفظ الجلالة كالأول.
وفي هذه القراءة التي هي قراءة الجمهور سؤال معروف : وهو أن يقال : ما وجه الإتيان بلام الجر، مع أن السؤال لا يستوجب الجواب بها، لأن قول :﴿ مَن رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ الظاهر أن يقال في جوابه : ربهما الله، وإذا يشكل وجه الإتيان بلام الجر. والجواب عن هذا السؤال معروف واضح، لأن قوله تعالى :﴿ مَن رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ ﴾ وقوله :﴿ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شيء ﴾ فيه معنى من هو مالك السموات والأرض، والعرش، وكل شيء فيحسن الجواب بأن يقال : لله : أي كل ذلك مالك لله، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر :
إذا قيل من رب المزالف والقرى | ورب الجياد الجرد قلت لخالد |
وقد قدمنا الكلام على السحر مستوفى في سورة طه في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ﴾ والظاهر أن معنى تسحرون هنا : تخدعون بالشبه الباطلة فيذهب بعقولكم، عن الحق كما يفعل بالمسحور. والله تعالى أعلم.
وقوله تعالى :﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ جاء في هذه الآيات ثلاث مرات. الأول :﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾. وهذه اتفق جميع السبعة على قراءتها بلام الجر الداخلة على لفظ الجلالة، لأنها جواب المجرور بلام الجر، وهو قوله :﴿ قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ ﴾ فجواب لمن الأرض، هو أن تقول : لله، وأما الثاني الذي هو ﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ والثالث : الذي هو قوله ﴿ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ فقد قرأهما أبو عمرو بحذف لام الجر ورفع الهاء من اللفظ الجلالة.
والمعنى : على قراءة أبي عمرو المذكورة واضح لا إشكال فيه، لأن الظاهر في جواب من رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، أن تقول : الله بالرفع أي رب ما ذكر هو الله، وكذلك جواب قوله :﴿ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَىْءٍ ﴾. فالظاهر في جوابه أيضاً أن يقال : الله بالرفع : أي الذي بيده ملكوت كل شيء هو الله، فقراءة أبي عمرو جارية على الظاهر، الذي لا إشكال فيه. وقرأ الحرفين المذكورين غيره من السبعة، بحرف الجر وخفض الهاء من لفظ الجلالة كالأول.
وفي هذه القراءة التي هي قراءة الجمهور سؤال معروف : وهو أن يقال : ما وجه الإتيان بلام الجر، مع أن السؤال لا يستوجب الجواب بها، لأن قول :﴿ مَن رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ الظاهر أن يقال في جوابه : ربهما الله، وإذا يشكل وجه الإتيان بلام الجر. والجواب عن هذا السؤال معروف واضح، لأن قوله تعالى :﴿ مَن رَّبُّ السَّمَـاوَاتِ ﴾ وقوله :﴿ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شيء ﴾ فيه معنى من هو مالك السموات والأرض، والعرش، وكل شيء فيحسن الجواب بأن يقال : لله : أي كل ذلك مالك لله، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر :
إذا قيل من رب المزالف والقرى | ورب الجياد الجرد قلت لخالد |
بين الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل :
الأولى : أنه لم يتخذ ولداً سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
الثانية : أنه لم يكن معه إله آخر سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
والثالثة : أنه أقام البرهان على استحالة تعدد الآلهة بقوله :﴿ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَاهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ أما ادعاؤهم له الأولاد، فقد بينا الآيات الدالة على عظم فريتهم في ذلك، وظهور بطلان دعواهم، ورد الله عليهم في ذلك مواضع متعددة، فقد أوضحناه في سورة النحل في الكلام، على قوله تعالى :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ﴾ [ النحل : ٥٧-٥٨ ]. وذكرنا طرفاً منه في أول الكهف في الكلام على قوله :﴿ وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ﴾ [ الكهف : ٤ ] وفي مواضع غير ما ذكر، فأغنى ذلك عن إعادته.
وأما تفرده تعالى بالألوهية مع إقامة الدليل على ذلك فقد بيناه، وذكرنا ما يدل عليه من الآيات في سورة بني إسرائيل، في الكلام على قوله تعالى :﴿ قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءَالِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٤٢ ] ولم نتعرض لما يسميه المتكلمون دليل التمانع، لكثرة المناقشات الواردة على أهل الكلام فيه، وإنما بينا الآيات، بالقرآن على طريق الاستدلال القرآني بها فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
أمر جلا وعلا نبيه في هاتين الآيتين الكريمتين أن يقول : رب إما تريني ما يوعدون : أي أن ترني ما توعدهم من العذاب، بأن تنزله بهم، وأنا حاضر شاهد أرى نزوله بهم.
أي لا تجعلني في جملة المعذبين الظالمين، بل أخرجني منهم، ونجني من عذابهم، وقد بين تعالى في مواضع أخر : أنه لا ينزل بهم العذاب، وهو فيهم وذلك في قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ﴾ [ الأنفال : ٣٣ ]، وبين هنا أنه قادر على أنه يره العذاب، الذي وعدهم به في قوله :﴿ وَإِنَّا عَلَى أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٩٥ ] وبين في سورة الزخرف، أنه إن ذهب به قبل تعذيبهم، فإنه معذب لهم ومنتقم منهم لا محالة، وأنه إن عذبهم، وهو حاضر فهو مقتدر عليهم. وذلك في قوله تعالى :﴿ فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ * أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ ﴾ [ الزخرف : ٤١-٤٢ ].
هذا الذي تضمنته هذه الآيات الثلاث مما ينبغي أن يعامل به شياطين الإنس وشياطين الجن. قد قدمنا الآيات الدالة عليه بإيضاح عليه بإيضاح في آخر سورة الأعراف، في الكلام على قوله تعالى :﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِض عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ ﴾ [ الأعراف : ١٩٩-٢٠٠ ]. وقوله في هذه الآية :﴿ بالتي هي أَحْسَنُ ﴾ أي بالخصلة التي هي أحسن الخصال، والسيئة مفعول ادفع ووزن السيئة، فيعلة أصلها : سيوئة وحروفها الأصلية السين والواو والهمزة، وقد زيدت الياء الساكنة بين الفاء والعين، فوجب إبدال الواو التي هي عين الكلمة ياء وإدغام ياء الفيعلة الزائدة فيها على القاعدة التصريفية المشارك بقول ابن مالك في الخلاصة :
إن يسكن السابق من واو ويا | واتصلاومن عروض عريا |
فياء الواو اقلبن مدغما | وشذ معطى غير ما قد رسما |
الظاهر عندي : أن حتى في هذه الآية : هي التي يبتدأ بعدها الكلام، ويقال لها : حرف ابتداء، كما قاله ابن عطية، خلافاً للزمخشري القائل : إنها غاية لقوله :﴿ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٩٦ ] ولأبي حيان القائل : إن الظاهر له أن قبلها جملة محذوفة هي غاية له يدل عليها ما قبلها، وقدر الجملة المذكورة بقوله فلا أكون كالكفار الذين تهمزهم الشياطين ويحضرونهم، حتى إذا جاء أحدهم الموت قال : رب ارجعون. ونظير حذف هذه الجملة قول الشاعر وهو الفرزدق :
فواعجبا حتى كليب تسبني | كأن أباها نهشل أو مجاشع |
بل الأظهر عندي : هو ما قدمتها وهو قول ابن عطية، وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من أن الكافر والمفرط في عمل الخير إذا حضر أحدهما الموت طلبا الرجعة إلى الحياة، ليعملا العمل الصالح الذي يدخلهما الجنة، ويتداركا به ما سلف منهما من الكفر والتفريط وأنهما لا يجابان لذلك، كما دل عليه حرف الزجر والردع الذي هو كلا جاء موضحاً في مواضع أخر كقوله تعالى :﴿ وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يأتي أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ ﴾ [ المنافقون : ١٠-١١ ]. وقوله تعالى :﴿ وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ ﴾ [ إبراهيم : ٤٤ ] إلى غير ذلك من الآيات، وكما أنهم يطلبون الرجعة عند حضور الموت، ليصلحوا أعمالهم فإنهم يطلبون ذلك يوم القيامة ومعلوم أنهم لا يجابون إلى ذلك.
ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :﴿ يَوْمَ يأتي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ [ الأعراف : ٥٣ ] وقوله تعالى :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ ﴾ [ السجدة : ١٢ ] وقوله تعالى :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بآيات رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾ [ الأنعام : ٢٧-٢٨ ] وقوله تعالى :﴿ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ﴾ [ الشورى : ٤٤ ] وقوله تعالى :﴿ قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ﴾ [ غافر : ١١ ] وقوله تعالى :﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴾ [ فاطر : ٣٧ ] وقوله تعالى :﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ * وَقَالُواْ ءَامَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ ﴾ [ سبأ : ٥١-٥٣ ]. وقد تضمنت هذه الآيات التي ذكرنا، وأمثالها في القرآن : أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون عند حضور الموت، ويوم النشور ووقت عرضهم على الله تعالى، ووقت عرضهم على النار.
وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف : وهو أن يقال : ما وجه صيغة الجمع في قوله :﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ ﴾ ولم يقل : رب ارجعني بالإفراد.
وقد أوضحنا الجواب عن هذا في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وبيَّنَّا أنه يجاب عنه من ثلاثة أوجه :
الأول : وهو أظهرها : أن صيغة الجمع في قوله : ارجعون، لتعظيم المخاطب وذلك النادم السائل الرجعة يظهر في ذلك الوقت تعظيمه ربه، ونظير ذلك من كلام العرب قول الشاعر حسان بن ثابت أو غيره :
ألا فارحموني يا إله محمد | فإن لم أكن أهلاً فأنت له أهل |
وإن شئت حرمت النساء سواكم | وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا |
الوجه الثاني : قوله : رب استغاثة به تعالى، وقوله : ارجعون : خطاب للملائكة، ويستأنس لهذا الوجه بما ذكره ابن جرير، عن ابن جريج قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة :«إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى دار الدنيا فيقول : إلى دار الهموم والأحزان، فيقول : بل قدموني إلى الله وأما الكافر فيقولون له : نرجعك ؟ فيقول : رب ارجعون ».
الوجه الثالث : وهو قول المازني : إنه جمع الضمير ليدل على التكرار فكأنه قال : رب ارجعني ارجعني ارجعني، ولا يخفى بعد هذا القول كما ترى. والعلم عند الله تعالى.
السؤال الأول : أنه تعالى ذكر في هذه الآية : أنه إذا نفخ في الصور، والظاهر أنها النفخة الثانية، أنهم لا أنساب بينهم يومئذ، فيقال : ما وجه نفي الأنساب بينهم، مع أنها باقية كما دل عليه قوله تعالى :﴿ فَإِذَا جَآءَتِ الصَّآخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ ﴾ [ عبس : ٣٣-٣٦ ] ففي هذه الآية ثبوت الأنساب بينهم.
السؤال الثاني : أنه قال :﴿ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ مع أنه ذكر في آيات أخر أنهم في الآخرة يتساءلون، كقوله في سورة الطور ﴿ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ [ الطور : ٢٥ ] وقوله في الصافات ﴿ فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ ﴾ [ الصافات : ٥٠ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد ذكرنا الجواب عن هذين السؤالين في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب بما حاصله :
إن الجواب عن السؤال الأول : هو أن المراد بنفي الأنساب انقطاع آثارها، التي كانت مترتبة عليها في دار الدنيا، من التفاخر بالآباء، والنفع والعواطف والصلات. فكل ذلك ينقطع يوم القيامة، ويكون الإنسان لا يهمه إلا نفسه، وليس المراد نفي حقيقة الأنساب، من أصلها بدليل قوله :﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ﴾ [ عبس : ٣٤-٣٥ ].
وإن الجواب عن السؤال الثاني من ثلاثة أوجه :
الأول : هو قول من قال : إن نفي السؤال بعد النفخة الأولى، وقبل الثانية، وإثباته بعدهما معاً. وهذا الجواب فيما يظهر لا يخلو من نظر.
الثاني : أن نفي السؤال عند اشتغالهم بالصعق والمحاسبة، والجواز على الصراط وإثباته فيما عدا ذلك وهو عن السدي، من طريق علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس.
الثالث : أن السؤال المنفي سؤال خاص، وهو سؤال بعضهم العفو من بعض، فيما بينهم من الحقوق، لقنوطهم من الإعطاء، ولو كان المسؤول أباً أو ابناً أو أماً أو زوجة، ذكر هذه الأوجه الثلاثة صاحب الإتقان.
قد قدمنا الآيات الموضحة، لمعنى هاتين الآيتين في سورة الأعراف في الكلام على قوله :﴿ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴾ [ الأعراف : ٨-٩ ]. وقوله في سورة الكهف :﴿ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ﴾ [ الكهف : ١٠٥ ] وغير ذلك. فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكفار تلفح وجوههم النار : أي تحرقها إحراقاً شديداً، جاء موضحاً في غير هذا الموضع، كقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ في النَّارِ ﴾ [ الأحزاب : ٦٦ ]. وقوله تعالى :﴿ وَمَن جَآءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ في النَّارِ ﴾ [ النمل : ٩٠ ]. وقوله تعالى :﴿ لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ ﴾ [ الأنبياء : ٣٩ ]. وقوله تعالى :﴿ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ ﴾ [ إبراهيم : ٥٠ ]. وقوله تعالى :﴿ أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ الزمر : ٢٤ ] وقوله :﴿ يَشْوِى الْوجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ ﴾ [ الكهف : ٢٩ ]. إلى غير ذلك من الآيات وقوله :﴿ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ﴾ الكالح : هو الذي تقلصت شفتاه حتى بدت أسنانه، والنار والعياذ بالله تحرق شفاههم، حتى تتقلص عن أسنانهم، كما يشاهد مثله في رأس الشاة المشوي في نار شديدة الحر، ومنه قول الأعشى :
وله المقدم لا مثل له | ساعة الشدق عن الناب كلح |
ما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من أن أهل النار يسألون يوم القيامة، فيقول لهم ربهم ﴿ أَلَمْ تَكُنْ ءَايَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ أي في دار الدنيا على ألسنة الرسل فكنتم بها تكذبون، وأنهم اعترفوا بذلك، وأنهم لم يجيبوا الرسل لما دعوهم إليه من الإيمان، لأن الله أراد بهم الشقاء وهم ميسرون لما خلقوا له، فلذلك كفروا، وكذبوا الرسل.
قد أوضحنا الآيات الدالة عليه في سورة بني إسرائيل في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٥ ] فأغنى ذلك عن إعادته هنا.
وهذا الذي فسرنا به الآية، هو الأظهر الذي دل عليه الكتاب والسنة، وبه تعلم أن قول أبي عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية، وأحسن ما قيل في معناه : غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا، فسمى اللذات والأهواء شقوة لأنهما يؤديان إليها كما قال الله عز وجل :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نَاراً ﴾ [ النساء : ١٠ ] لأن ذلك يؤديهم إلى النار ا ه تكلف مخالف للتحقيق.
ثم حكى القرطبي ما ذكرنا أنه الصواب بقيل ثم قال : وقيل حسن الظن بالنفس، وسوء الظن بالخلق ا ه.
ولا يخفى أن الصواب هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى، وقوله هنا :﴿ قَوْماً ضَآلِّينَ ﴾ أي عن الإسلام إلى الكفر، وعن طريق الجنة إلى طريق النار، وقرأ هذا الحرف : حمزة، والكسائي : شقاوتنا بفتح الشين، والقاف وألف بعدها، وقرأه الباقون : بكسر الشين، وإسكان القاف وحذف الألف.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن أهل النار يدعون ربهم فيها فيقولون : ربنا أخرجنا منها فإن عدنا إلى ما لا يرضيك بعد إخراجنا منها، فإنا ظالمون،
وهذا الخروج من النار الذي طلبوه قد بين تعالى أنهم لا ينالونه كقوله تعالى ﴿ يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴾ [ المائدة : ٣٧ ] وقوله تعالى :﴿ كَذَالِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ﴾ [ البقرة : ١٦٧ ] وقوله تعالى :﴿ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا ﴾ [ الحج : ٢٢ ]، وقوله تعالى :﴿ كُلَّمَآ أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا ﴾ [ السجدة : ٢٠ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقد جاء في القرآن أجوبة متعددة لطلب أهل النار فهنا قالوا :﴿ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا ﴾ فأجيبوا ﴿ اخْسَئُواْ فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ ﴾ وفي السجدة ﴿ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً ﴾ [ السجدة : ١٢ ] فأجيبوا ﴿ وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنْى لاّمْلأَنَّ جَهَنَّمَ ﴾ [ السجدة : ١٣ ]، وفي سورة المؤمن ﴿ قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ ﴾ [ غافر : ١١ ] فأجيبوا ﴿ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِي اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ ﴾ [ غافر : ١٢ ] وفي الزخرف ﴿ وَنَادَوْاْ يا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ﴾ [ الزخرف : ٧٧ ] فأجيبوا ﴿ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ ﴾ [ الزخرف : ٧٧ ] وفي سورة إبراهيم ﴿ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ﴾ [ إبراهيم : ٤٤ ] فيجابون ﴿ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ ﴾ [ إبراهيم : ٤٤ ] وفي سورة فاطر ﴿ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِى كُنَّا نَعْمَلُ ﴾ [ فاطر : ٣٧ ] فيجابون ﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴾ [ فاطر : ٣٧ ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على مثل هذه الأجوبة.
وعن ابن عباس : أن بين كل طلب منها وجوابه ألف سنة والله أعلم. وقوله في هذه الآية : ولا تكلمون : أي في رفع العذاب عنكم، ولا إخراجكم من النار أعاذنا الله، وإخواننا المسلمين منها.
قد تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، أن إن المكسورة المشددة من حروف التعليل، كقولك : عاقبه إنه مسيء : أي لأجل إساءته. وقوله في هذه الآية :﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي ﴾. يدل فيه لفظ إن المكسورة المشددة، على أن الأسباب التي أدخلتهم النار هو استهزاؤهم، وسخريتهم من هذا الفريق المؤمن الذي يقول :﴿ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَاحِمِينَ ﴾ فالكفار يسخرون من ضعفاء المؤمنين في الدنيا حتى ينسيهم ذلك ذكر الله، والإيمان به فيدخلون بذلك النار.
وما ذكره تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين أشار له في غير هذا الموضع، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾ [ المطففين : ٢٩-٣٠ ] وكقوله تعالى :﴿ وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ ﴾ [ الأنعام : ٥٣ ] وكل ذلك احتقار منهم لهم، وإنكارهم أن الله يمن عليهم بخير، وكقوله تعالى :﴿ أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ﴾ [ الأعراف : ٤٩ ]. وقوله تعالى عنهم :﴿ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ ﴾ [ الأحقاف : ١١ ] وكل ذلك احتقار منهم لهم. وقوله :﴿ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً ﴾ والسخري بالضم والكسر : مصدر سخر منه، إذا استهزأ به على سبيل الاحتقار. قال الزمخشري في ياء النسب : زيادة في الفعل، كما قيل في الخصوصية بمعنى الخصوص، ومعناه : أن الياء المشددة في آخره تدل على زيادة سخرهم منهم : ومبالغتهم في ذلك، وقرأ نافع وحمزة والكسائي : سخريا بضم السين، والباقون بكسرها ومعنى القراءتين واحد، وهو سخرية الكفار واستهزاؤهم بضعفاء المؤمنين، كما بينا. وممن قال بأن معناهما واحد : الخليل وسيبويه، وهو الحق إن شاء الله تعالى. وعن الكسائي والفراء : أن السخري بكسر السين من قبيل ما ذكرنا من الاستهزاء، وأن السخري بضم السين من التسخير، الذي هو التذليل والعبودية.
والمعنى : أن الكفار يسخرون ضعفاء المؤمنين، ويستعبدونهم كما كان يفعله أمية بن خلف ببلال، ولا يخفى أن الصواب هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى، وحتى في قوله :﴿ حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى ﴾ حرف غاية، لاتخاذهم إياهم سخرياً : أي لم يزالوا كذلك، حتى أنساهم ذلك ذكر الله والإيمان به، فكان مأواهم النار، والعياذ بالله.
قد تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه، أن إن المكسورة المشددة من حروف التعليل، كقولك : عاقبه إنه مسيء : أي لأجل إساءته. وقوله في هذه الآية :﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي ﴾. يدل فيه لفظ إن المكسورة المشددة، على أن الأسباب التي أدخلتهم النار هو استهزاؤهم، وسخريتهم من هذا الفريق المؤمن الذي يقول :﴿ رَبَّنَآ ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَاحِمِينَ ﴾ فالكفار يسخرون من ضعفاء المؤمنين في الدنيا حتى ينسيهم ذلك ذكر الله، والإيمان به فيدخلون بذلك النار.
وما ذكره تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين أشار له في غير هذا الموضع، كقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ﴾ [ المطففين : ٢٩-٣٠ ] وكقوله تعالى :﴿ وَكَذالِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ ﴾ [ الأنعام : ٥٣ ] وكل ذلك احتقار منهم لهم، وإنكارهم أن الله يمن عليهم بخير، وكقوله تعالى :﴿ أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ﴾ [ الأعراف : ٤٩ ]. وقوله تعالى عنهم :﴿ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ ﴾ [ الأحقاف : ١١ ] وكل ذلك احتقار منهم لهم. وقوله :﴿ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً ﴾ والسخري بالضم والكسر : مصدر سخر منه، إذا استهزأ به على سبيل الاحتقار. قال الزمخشري في ياء النسب : زيادة في الفعل، كما قيل في الخصوصية بمعنى الخصوص، ومعناه : أن الياء المشددة في آخره تدل على زيادة سخرهم منهم : ومبالغتهم في ذلك، وقرأ نافع وحمزة والكسائي : سخريا بضم السين، والباقون بكسرها ومعنى القراءتين واحد، وهو سخرية الكفار واستهزاؤهم بضعفاء المؤمنين، كما بينا. وممن قال بأن معناهما واحد : الخليل وسيبويه، وهو الحق إن شاء الله تعالى. وعن الكسائي والفراء : أن السخري بكسر السين من قبيل ما ذكرنا من الاستهزاء، وأن السخري بضم السين من التسخير، الذي هو التذليل والعبودية.
والمعنى : أن الكفار يسخرون ضعفاء المؤمنين، ويستعبدونهم كما كان يفعله أمية بن خلف ببلال، ولا يخفى أن الصواب هو ما ذكرنا إن شاء الله تعالى، وحتى في قوله :﴿ حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِى ﴾ حرف غاية، لاتخاذهم إياهم سخرياً : أي لم يزالوا كذلك، حتى أنساهم ذلك ذكر الله والإيمان به، فكان مأواهم النار، والعياذ بالله.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه جزى أولئك المؤمنين المستضعفين في الدنيا بالفوز بالجنة في الآخرة. وقوله :﴿ بِمَا صَبَرُواْ ﴾ أي بسبب صبرهم في دار الدنيا، على أذى الكفار الذين اتخذوهم سخرياً، وعلى غير ذلك من امتثال أمر الله، واجتناب نهيه، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة، من أن أولئك المستضعفين الذين كان الكفار يستهزؤون بهم، جزاهم الله يوم القيامة الفوز بجنته، ورضوانه، جاء مبيناً في مواضع أخر مع بيان أنهم يوم القيامة يهزؤون بالكفار، ويضحكون منهم، والكفار في النار. والعياذ بالله كقوله تعالى :﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [ المطففين : ٣٤-٣٦ ] ﴿ أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ﴾ [ الأعراف : ٤٩ ] وقوله :﴿ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَواةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [ البقرة : ٢١٢ ] إلى غير ذلك من الآيات. وقرأ حمزة والكسائي : إنهم هم الفائزون بكسر همزة إن، وعلى قراءتهما فمفعول جزيتهم : محذوف : أي جزيتهم جنتي إنهم هم الفائزون، وعلى هذه القراءة فإن لاستئناف الكلام، وقرأ الباقون : أنهم هم الفائزون. بفتح همزة أن، وعلى قراءة الجمهور هذه فالمصدر المنسبك، من أن وصلتها : مفعول به لجزيتهم : أي جزيتهم فوزهم كما لا يخفى. والفوز نيل المطلوب الأعظم.
في هذه الآية سؤال معروف : وهو أنهم لما سئلوا يوم القيامة عن قدر مدة لبثهم في الأرض في الدنيا أجابوا بأنهم لبثوا يوماً أو بعض يوم، مع أنه قد دلت آيات أخر على أنهم أجابوا بغير هذا الجواب كقوله تعالى :﴿ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً ﴾ [ طه : ١٠٣ ] والعشر أكثر من يوم أو بعضه، وكقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ ﴾ [ الروم : ٥٥ ]
والساعة : أقل من يوم أو بعضه، وقوله :﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾ [ النازعات : ٤٦ ] وقوله :﴿ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ﴾ [ يونس : ٤٥ ] وقوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ].
وقد بينا الجواب عن هذا السؤال في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الكلام على هذه الآية بما حاصله : أن بعضهم يقول لبثنا يوماً أو بعض يوم، ويقول بعض آخر منهم : لبثنا ساعة ويقول بعض الآخر منهم : لبثنا عشراً.
والدليل على هذا الجواب من القرآن أنه تعالى بين أن أقواهم إدراكاً، وأرجحهم عقلاً، وأمثلهم طريقة هو من يقول : إنهم ما لبثوا إلا يوماً واحداً، وذلك في قوله تعالى :﴿ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً * نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً ﴾ [ طه : ١٠٣-١٠٤ ] فالآية صريحة في اختلاف أقوالهم، وعلى ذلك فلا إشكال والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ فَاسْأَلِ الْعَآدِّينَ ﴾ أي الحاسبين، الذين يضبطون مدة لبثنا، وقرأ ابن كثير والكسائي بنقل حركة الهمزة إلى السين، وحذف الهمزة. والباقون : فاسأل بغير نقل، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : قل كم لبثتم بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر، وقرأ الباقون : قال كم لبثتم بفتح القاف بعدها ألف وفتح اللام بصيغة الفعل الماضي.
وقال الزمخشري ما حاصله : إنه على قراءة قال بصيغة الماضي فالفاعل ضمير يعود إلى الله، أو إلى من أمر بسؤالهم من الملائكة، وعلى قراءة قل بصيغة الأمر، فالضمير راجع إلى الملك المأمور بسؤالهم أو بعض رؤساء أهل النار هكذا قال. والله تعالى أعلم. وقد صدقهم الله جل وعلا في قلة لبثهم في الدنيا بقوله :﴿ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ لأن مدة مكثهم في الدنيا قليلة جداً. بالنسبة إلى طول مدتهم خالدين في النار، والعياذ بالله. وقرأ حمزة والكسائي : قل إن لبثتم إلا قليلاً بصيغة الأمر والباقون بصيغة الماضي.
في هذه الآية سؤال معروف : وهو أنهم لما سئلوا يوم القيامة عن قدر مدة لبثهم في الأرض في الدنيا أجابوا بأنهم لبثوا يوماً أو بعض يوم، مع أنه قد دلت آيات أخر على أنهم أجابوا بغير هذا الجواب كقوله تعالى :﴿ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً ﴾ [ طه : ١٠٣ ] والعشر أكثر من يوم أو بعضه، وكقوله تعالى :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ ﴾ [ الروم : ٥٥ ]
والساعة : أقل من يوم أو بعضه، وقوله :﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾ [ النازعات : ٤٦ ] وقوله :﴿ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ﴾ [ يونس : ٤٥ ] وقوله تعالى :﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [ الأحقاف : ٣٥ ].
وقد بينا الجواب عن هذا السؤال في كتابنا : دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب في الكلام على هذه الآية بما حاصله : أن بعضهم يقول لبثنا يوماً أو بعض يوم، ويقول بعض آخر منهم : لبثنا ساعة ويقول بعض الآخر منهم : لبثنا عشراً.
والدليل على هذا الجواب من القرآن أنه تعالى بين أن أقواهم إدراكاً، وأرجحهم عقلاً، وأمثلهم طريقة هو من يقول : إنهم ما لبثوا إلا يوماً واحداً، وذلك في قوله تعالى :﴿ يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً * نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً ﴾ [ طه : ١٠٣-١٠٤ ] فالآية صريحة في اختلاف أقوالهم، وعلى ذلك فلا إشكال والعلم عند الله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ فَاسْأَلِ الْعَآدِّينَ ﴾ أي الحاسبين، الذين يضبطون مدة لبثنا، وقرأ ابن كثير والكسائي بنقل حركة الهمزة إلى السين، وحذف الهمزة. والباقون : فاسأل بغير نقل، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : قل كم لبثتم بضم القاف وسكون اللام بصيغة الأمر، وقرأ الباقون : قال كم لبثتم بفتح القاف بعدها ألف وفتح اللام بصيغة الفعل الماضي.
وقال الزمخشري ما حاصله : إنه على قراءة قال بصيغة الماضي فالفاعل ضمير يعود إلى الله، أو إلى من أمر بسؤالهم من الملائكة، وعلى قراءة قل بصيغة الأمر، فالضمير راجع إلى الملك المأمور بسؤالهم أو بعض رؤساء أهل النار هكذا قال. والله تعالى أعلم. وقد صدقهم الله جل وعلا في قلة لبثهم في الدنيا بقوله :﴿ قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ لأن مدة مكثهم في الدنيا قليلة جداً. بالنسبة إلى طول مدتهم خالدين في النار، والعياذ بالله. وقرأ حمزة والكسائي : قل إن لبثتم إلا قليلاً بصيغة الأمر والباقون بصيغة الماضي.
الاستفهام في قوله : أفحسبتم للانكار، والحسبان هنا معناه : الظن. يعني : أظننتم أنا خلقناكم عبثاً لا لحكمة، وأنكم لا ترجعون إلينا يوم القيامة، فنجازيكم على أعمالكم، إن خيراً فخير، وإن شراً شر، ثم نزَّه جل وعلا نفسه، عن أن يكون خلقهم عبثاً، وأنهم لا يرجعون إليه للحساب والجزاء.
وما تضمنته هذه الآية من إنكار الظن المذكور جاء موضحاً في غير هذا الموضع كقوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَآءَ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَالِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النَّارِ ﴾ [ ص : ٢٧ ] وقوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ ﴾ [ الدخان : ٣٨-٣٩ ] وقوله تعالى :﴿ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِىٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأنثى ﴾ [ القيامة : ٣٦-٣٩ ] وقوله : سدى : أي مهملاً لا يحاسب ولا يجازي، وهو محل إنكار ظن ذلك في قوله :﴿ أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى ﴾ [ القيامة : ٣٦ ] وقوله : عبثاً : يجوز إعرابه حالاً، لأنه مصدر منكر أي إنما خلقناكم في حال كوننا عابثين، ويجوز أن يعرب مفعولاً من أجله : أي إنما خلقناكم، لأجل العبث لا لحكمة اقتضت خلقنا إياكم، وأعربه بعضهم مفعولاً مطلقاً، وليس بظاهر. قال القرطبي عبثاً : أي مهملين، والعبث في اللغة : اللعب، ويدل على تفسيره في الآية باللعب قوله تعالى :﴿ وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴾ [ الدخان : ٣٨ ] وقوله :﴿ الْمَلِكُ الْحَقُّ ﴾ قال بعضهم أي الذي يحق له الملك، لأن كل شيء منه وإليه. وقال بعضهم : الملك الحق : الثابت الذي لا يزول ملكه، كما قدمنا إيضاحه في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى :﴿ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا ﴾ [ النحل : ٥٢ ] وإنما وصف عرشه بالكرم لعظمته وكبر شأنه والظاهر أن قوله :﴿ وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ ﴾ معطوف على قوله :﴿ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً ﴾ خلافاً لمن قال : إنه معطوف على قوله : عبثاً، لأن الأول أظهر منه والعلم عند الله تعالى.
البرهان : الدليل الذي لا يترك في الحق لبساً، وقوله : لا برهان له به كقوله ﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً ﴾ [ الحج : ٧١ ]. والسلطان : هو الحجة الواضحة وهو بمعنى : البرهان وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ ﴾ قد بين أن حسابه الذي عند ربه، لا فلاح له فيه بقوله بعده ﴿ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ وأعظم الكافرين كفراً هو من يدعو مع الله إلهاً آخر، لا برهان له به، ونفي الفلاح عنه يدل على هلاكه وأنه من أهل النار، وقد حذر الله من دعاء إله معه في آيات كثيرة كقوله :﴿ وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءَاخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ [ الذاريات : ٥١ ] وقوله :﴿ وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَاهاً ءَاخَرَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شيء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [ القصص : ٨٨ ] وقوله تعالى :﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَاهًا ءَاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً ﴾ [ الإسراء : ٢٢ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً، ولا خلاف بين أهل العلم أن قوله هنا :﴿ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ﴾ لا مفهوم مخالفة له، فلا يصح لأحد أن يقول : أما من عبد معه إلهاً آخر له برهان به فلا مانع من ذلك، لاستحالة وجود برهان على عبادة آله آخر معه، بل البراهين القطعية المتواترة، دالة على أنه هو المعبود وحده جل وعلا ولا يمكن أن يوجد دليل على عبادة غيره البتة.
وقد تقرر في فن الأصول أن من موانع اعتبار مفهوم المخالفة، كون تخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع فيرد النص ذاكراً لوصف الموافق للواقع ليطبق عليه الحكم، فتخصيصه بالذكر إذاً ليس لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق، بل لتخصيص الوصف بالذكر لموافقته للواقع.
ومن أمثلته في القرآن هذه الآية لأن قوله :﴿ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ ﴾ وصف مطابق للواقع، لأنهم يدعون معه غيره بلا برهان، فذكر الوصف لموافقته الواقع، لا لإخراج المفهوم عن حكم المنطوق.
ومن أمثلته في القرآن أيضاً قوله تعالى :﴿ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ آل عمران : ٢٨ ] لأنه نزل في قوم والوا اليهود دون المؤمنين، فقوله ﴿ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ذكر لموافقته للواقع لا لإخراج المفهوم، عن حكم المنطوق ومعلوم أن اتخاذ المؤمنين الكافرين أولياء، ممنوع على كل حال، وإلى هذا أشار في مراقي السعود في ذكره موانع اعتبار مفهوم المخالفة بقوله :
أو امتنان أو وفاق الواقع | والجهل والتأكيد عند السامع |