تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم
.
لمؤلفه
المنتخب
.
المتوفي سنة 2008 هـ
عدد آيات هذه السورة سبع وسبعون آية، كلها مكية إلا الآيات رقم ٦٨، ٦٩، ٧٠.
بدأت السورة ببيان منزلة القرآن وسعة ملك منزله، الذي له ملك السماوات والأرض، ومع عظيم سلطانه يتخذ المشركون من دونه الأوثان، ويكذبون بالقرآن، وينكرون رسالة الرسول صلي الله عليه وسلم بحجة أنه بشر، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويطلبون تعنتا ملائكة تبلغهم الرسالة، ولو جعلهم ملائكة لجعلهم رجالا يمكنهم التفاهم مع البشر فيبقى الالتباس. وقد اعترضوا على نزول القرآن منجما، فأجيبوا بحكمة ذلك، وأتبع هذا العناد بأمثلة معبرة عن الأنبياء وأقوامهم. لكن القوم اتبعوا أهواءهم، فصاروا كالأنعام أو أضل سبيلا. وجاءت الآيات الكونية الدالة على كمال قدرته تعالي، الموجهة إلي النظر والمعرفة. وختمت السورة بأوصاف المؤمنين الذي يرثون غرف الجنة العالية، ويلقون فيها تحية وسلاما.
ﰡ
١- تعالي أمر الله وتزايد خيره، هو الذي نزل القرآن فارقاً بين الحق والباطل على عبده محمد - صلي الله عليه وسلم - ليكون نذيراً به مبلغاً إياه إلي العالمين.
٢- هو سبحانه الذي يملك - وحده - السماوات والأرض، والمنزه عن اتخاذ الولد، ولم يكن له أي شريك في ملكه، وقد خلق كل شيء وقدَّره تقديراً دقيقاً بنواميس تكفل له أداء مهمته بنظام.
٣- ومع ذلك ترك الكافرون عبادته، واتخذوا آلهة يعبدونها من دون الله من أصنام وكواكب وأشخاص وهم لا يستطيعون أن يخلقوا شيئاً ما، وهم مخلوقون لله، ولا يملكون دفع الضر عن أنفسهم ولا جلب خير لها، ولا يملكون إماتة أحد ولا إحياءه، ولا بعث الأموات من قبورهم، وكل من لا يملك شيئاً من ذلك لا يستحق أن يعبد، وما أجهل من يعبده، والمستحق للعبادة وحده هو مالك كل هذا.
٤- وطعن الكفار في القرآن وقالوا : إنه كذب اخترعه محمد من عند نفسه ونسبه إلي الله، وساعده في اختراعه جماعة آخرون من أهل الكتاب، فارتكب الكفار بقولهم هذا ظلماً في الحكم واعتداء على الحق، وجاءوا بزور لا دليل عليه، لأن من أشاروا إليهم من أهل الكتاب لسانهم أعجمي، والقرآن لسان عربي مبين.
٥- وقالوا عن القرآن أيضاً : إنه أكاذيب السابقين سطَّروها في كتبهم، ثم طلب منهم أن تُكتب له وتُقرأ عليه على الدوام صباحاً ومساء حتى يحفظها ويقولها.
٦- قل لهم - أيها النبي - : إن القرآن أنزله الله الذي يعلم الأسرار الخفية في السماوات والأرض، وقد أودعها في القرآن المعجز دليلا على أنه وحيه سبحانه، إن الله واسع المغفرة والرحمة، يتجاوز عن العاصين إذا تابوا ولا يعجل بعقوبتهم.
٧- وسَخِروا من محمد فقالوا : أي شيء يمتاز به هذا الذي يزعم أنه رسول حتى إنه يأكل الطعام كما نأكل، ويتردد في الأسواق لكسب عيشه كما يفعل سائر البشر ؟ لو كان رسولا لكفاه الله ذلك، ولسأل ربه أن ينزل له ملكاً من السماء يساعده على الإنذار والتبليغ ويصدقه في دعواه فنؤمن به.
٨- وهلا سأل أن يكفيه مؤونة التردد على الأسواق فيلقى إليه كنزاً من السماء ينفق منه، أو يجعل له حديقة يقتات من ثمارها ؟ وقال كبار الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر صادين الناس عن الإيمان بمحمد، ومحاولين تشكيك المؤمنين : ما تتبعون إلا رجلاً مسحوراً عقلُه، فهو يهذى بما لا حقيقة له.
٩- انظر - أيها النبي - كيف ضربوا لك الأمثال، فمثلوك مرة بمسحور، وأخرى بمجنون، وثالثة بكذاب، ورابعة بتلقي القرآن عن أعاجم، إنهم بذلك قد ضلوا طريق الحق والمحاجة الصحيحة فلا يجدون إليهما سبيلا.
١٠- تعالي الله وتزايد خيره، هو الذي إن شاء جعل لك في الدنيا أحسن مما اقترحوا، فيجعل لك فيها مثل ما وعدك في الآخرة من جنات كثيرة تجرى الأنهار في جنباتها وخلال أشجارها، ومن قصور مشيدة.
١١- والحقيقة أنهم جاحدون بكل آية، لأنهم كذَّبوا بالبعث ويوم القيامة، فهم لهذا يتعللون بهذه المطالب ليصرفوا الناس إلي باطلهم، وقد أعددنا لمن كذب بيوم القيامة ناراً مستعرة شديدة الالتهاب.
١٢- إذا رأوها ورأتهم من بعيد سمعوا لها صوتاً متغيظاً متحفزاً لإهلاكهم، وفيه مثل الزفرات التي تخرج من صدر متغيظ علامة على ما هي عليه من شدة.
١٣- وإذا ألقوا في مكان ضيق منها يتناسب مع جرمهم وهم مقرونة أيديهم إلي أعناقهم بالأغلال، نادوا هناك طالبين تعجيل هلاكهم ليستريحوا من هول العذاب.
١٤- فيقال لهم توبيخاً وسخرية : لا تطلبوا هلاكاً واحداً بل اطلبوه مراراً، فلن تجدوا خلاصاً مما أنتم فيه، وإن أنواع عذابهم كثيرة.
١٥- قل - يا أيها النبي - للكافرين : أهذا المصير الذي أوعد به الكافرون خير، أم الجنة الدائم نعيمها والتي وعد المؤمنون الأتقياء بأن تكون لهم ثواباً ومصيراً يصيرون إليه بعد البعث والحساب ؟.
١٦- لهم فيها ما يرغبون وينعمون به نعيماً دون انقطاع، وكان هذا النعيم وعداً من الله لهم، سألوا ربهم تحقيقه فأجابهم إلي ما سألوه، لأن وعده لا يتخلف.
١٧- واذكر - للعظة - يوم يحشر الله المشركين للحساب في يوم القيامة مع مَن عبدوهم في الدنيا من دون الله، كعيسى وعزير والملائكة، فيسأل الله المعبودين : أأنتم الذين أضللتم عبادي فأمرتموهم بأن يعبدوكم، أم هم الذين ضلوا السبيل باختيارهم فعبدوكم ؟.
١٨- فيكون جوابهم : تنزَّهت وتقَّدست، ما كان يحق لنا أبداً أن نطلب من دونك ولياً ينصرنا ويتولي أمرنا، فكيف مع هذا ندعو أحداً أن يعبدنا دونك ؟ ولكن السبب في كفرهم هو إنعامك عليهم بأن متّعتهم طويلا بالدنيا هم وآباؤهم، فأطغاهم ذلك ونسوا شكرك والتوجه إليك - وحدك - بالعبادة، وكانوا بذلك الطغيان والكفر قوماً مستحقين للهلاك.
١٩- فيقال للعابدين المشركين : لقد كذَّبكم مَن عبدتموه فيما زعمتم من إضلالهم إياكم. فأنتم اليوم إلي العذاب صائرون، لا تملكون حيلة لصرفه عنكم، ولا تجدون نصراً من أحد يخلصكم منه، وليعلم العباد جميعاً أن من يظلم نفسه بالكفر والطغيان كما فعل أولئك فإننا نعذَّبه عذاباً شديداً.
٢٠- وإذا كان المشركون يعيبونك - أيها النبي - بأكلك الطعام ومشيك في الأسواق للعمل والكسب فتلك سنة الله في المرسلين من قبلك، ما أرسلنا أحداً منهم إلا كان يأكل الطعام ويتردد في الأسواق. وجعلنا بعضكم - أيها الناس - ابتلاء لبعض، والمفسدون يحاولون سد الطريق إلي الهداية والحق بشتى الأساليب، فهل تصبرون على حقكم - أيها المؤمنون - وتتمسكون بدينكم حتى يأتي أمر الله بالنصر ؟ اصبروا فالله مطلع على كل شيء ويجازى كلا بما عمل.
٢١- وقال الذين ينكرون البعث ولا يتوقعون الجزاء على أعمالهم : لماذا لا تنزل علينا الملائكة بتأييدك، أو يتراءى لنا الله فيخبرنا بأنه أرسلك ؟. لقد تمكن الكبر من نفوسهم وجاوزوا الحد في الظلم والطغيان.
٢٢- يوم القيامة يرون الملائكة كما تمنوا، وسيكون ذلك مصدر تنفير لهم لا بشارة. يستعيذون منهم كما كانوا يستعيذون مما يفزعهم في الدنيا.
٢٣- ويوم القيامة نأتي إلي ما عملوه من مظاهر البر والإحسان في الدنيا فنحبطه ونحرمهم ثوابه، لعدم إيمانهم الذي به تعتبر الأعمال.
٢٤- أصحاب الجنة يوم القيامة خير مستقراً وأحسن منزلا ومأوى للاسترواح، لأنه الجنة المعدة للمؤمنين لا النار المعدة للكافرين.
٢٥- واذكر - أيها النبي - يوم تنفرج السماء وتنفتح، ويظهر من فُرَجها الغمام، وتنزل الملائكة نزولاً مؤكداً.
٢٦- في هذا اليوم تبطل أملاك المالكين من الناس وتنقطع دعاواهم، ويخلص الملك للرحمن - وحده - ويكون يوماً شديداً عصيباً على الكافرين.
٢٧- يوم القيامة يعض الظالم لنفسه - بالكفر ومخالفة الرسل - على يديه أسفاً وندماً يقول متمنياً : يا ليتني اتبعت الرسل فسلكت طريق الجنة وتجنبت طريق النار.
٢٨- يقول نادماً على اتِّباع مَنْ أضلوه : يا ليتني لم أصادق فلاناً الذي ملَّكته قيادي.
٢٩- لقد أبعدني هذا الصديق عن ذكر الله وذكر القرآن بعد أن يُسِّر لي، وهكذا يخذل الشيطان الإنسان ويسلمه إلي ما فيه هلكته.
٣٠- وقال الرسول يشكو إلي الله ما يلاقيه من تعنت قومه : إنهم تركوا القرآن وهجروه، وتمادوا في إعراضهم وعنادهم وعدائهم.
٣١- كما جعلنا قومك - يا محمد - يعادونك ويُكذِّبوك، جعلنا لكل نبي عدواً من المجرمين يعادونه ويقاومون دعوته، وسينصرك الله ويهديك إلي قهرهم، وحسبُك به هادياً ونصيراً.
٣٢- وقال الذين كفروا طعناً في القرآن : لِمَ لَمْ ينزل دفعة واحدة ؟ لقد أنزلناه كذلك مفرقاً ليثبت به فؤادك بأُنسك به وحفظك له، ورتَّلناه : فرقنا آيه، أو قرأناه على لسان جبريل شيئاً فشيئاً على تؤدة وتمهل.
٣٣- ولا يأتونك بحال من الاعتراضات الواهية إلا جئناك بالحق نبيِّنه ونُفسِّره أحسن تفسير.
٣٤- والذين كفروا برسالتك سيُسحبون إلي النار على وجوههم أذلاء، وهم شر الناس منزلة وأوغلُهم في الضلال.
٣٥- ويُسَلي الرسول مما وقع للرسل قبله، ولقد نزلنا على موسى التوراة وكلفناه أن يقوم بتبليغ رسالتنا، وأيدناه بأخيه هارون وزيراً له ومعيناً في أمره.
٣٦- فقلنا : اذهب أنت وأخوك إلي فرعون وقومه. وأيدناه بالمعجزات التي تدل على صدقه، فلم يؤمنوا بها وكذبوه، فكان عاقبتهم أن أهلكناهم ومحقناهم محقاً.
٣٧- وكذلك فعلنا من قبل موسى مع قوم نوح لما كذَّبوه - ومن كذَّب رسولا فقد كذّب الرسل أجمعين - فقد أغرقناهم بالطوفان وجعلناهم عبرة للناس، وجعلنا لهم ولكل مشرك في الآخرة عذاباً أليماً.
٣٨- وكذلك أهلكنا عادا وثمود وأصحاب الرَّسَ لما كذبوا رسلهم، وأهلكنا أمماً كثيرة كانوا بين أمة نوح وبين عاد فأصابهم جزاء الظالمين.
٣٩- ولقد أنذرنا هؤلاء الأقوام كلهم، وذكرنا لهم العظات والأمثال الصحيحة النافعة، ولكنهم لم يتعظوا فأخذناهم كلهم بالعذاب وأهلكناهم ودمرنا ديارهم تدميراً.
٤٠- وهؤلاء - قريش - يمرون في أسفارهم إلي الشام على قرية قوم لوط التي أمطرنا عليها شر مطر وأسوأه - حجارة من سجيل - أفلم يروا هذه القرية فيتعظوا بما حل لأهلها ؟ إنهم يرونها ولكن لا بأعين الاتعاظ والاعتبار، إذ كانوا لا يؤمنون بمعاد ولا بعث، ولا يتوقعون يوماً ينشرون فيه إلي الحساب.
٤١- وإذا أبصرك هؤلاء لا يتخذونك إلا موضع هزؤ وسخرية، ويقول بعضهم لبعض : أهذا هو الذي بعثه الله رسولاً إلينا نتبعه ونسير وراءه ؟ !
٤٢- لقد أوتى هذا الرجل من حُسْن البيان وقوة الحُجة ما يجذب السامعين، ولقد نال من عقائدنا حتى لقد كاد يُزحزحنا عن آلهتنا ويميلنا إلي إلهه، ولكننا ثبتنا على آلهتنا وديننا. سنبين لهم جلية الأمر حين يرون العذاب يوم القيامة ويعلمون من هو أثبت في الضلال والغواية.
٤٣- أرأيت - أيها الرسول - ضلال من اتَّبع هواه وشهواته حتى إنه ليعبد حجارة لا تضر ولا تنفع ؟ وأنت قد بعثت نذيراً وبشيراً ولست موكلا بإيمانهم وهدايتهم.
٤٤- وهل تظن أن أكثرهم يسمعون سماع الفهم أو يهتدون بعقولهم ؟ ! لقد نفذوا ما تأمرهم به أحلامهم، وصاروا كالبهائم لا همّ لهم إلا الأكل والشرب ومتاع الحياة الدنيا، ولا تفكير لهم فيما وراء ذلك، بل هم شر مكاناً من البهائم، فالبهائم تنقاد لأصحابها إلي ما فيه خيرها، وتنأي عما يضرها، وهؤلاء يلقون بأنفسهم فيما يهلكهم.
٤٥- لقد نصبنا من الدلائل على التوحيد ما يهدى ذوى الألباب، انظر إلي الظل فقد بسطه الله وجعله ساكناً أول النهار، ثم سلطنا الشمس تزيل منه بما يحل محله من أشعتها، فكانت الشمس دالة عليه ولولاها ما عرف الظل، ولو شاء الله لجعل الظل ساكناً مطبقاً على الناس فتفوت مصالحهم ومرافقهم.
٤٦- ولقد كان نسخنا للظل بالشمس تدريجياً بمقدار ولم يكن دفعة واحدة، وفي ذلك منافع للناس.
٤٧- ومن آيات التوحيد أن جعل الليل ستراً بظلامه، يدخل فيه الخلق فيحيطهم إحاطة الثوب بلابسه. وهيَّأ الناس للنوم فكان راحة لهم يستجمون به من التعب، ثم يأتي النهار بضيائه ناشراً للناس باحثين عن معايشهم طالبين لرزقهم.
٤٨- وهو الذي سخر الرياح فتسوق السحب وتبشر الناس بالمطر الذي هو رحمة منه لهم، ولقد أنزلنا من السماء ماء طاهراً مُطهراً مزيلا للأنجاس والأوساخ.
٤٩- أنزلنا المطر لينبت به الزرع، فتحيا به الأرض الجدبة بعد موتها، وينتفع به السقيا مما خلق أنعاماً وأناسي كثيراً.
٥٠- وهذا القرآن قد بيَّنا آياته وصرَّفناها، ليتذكر الناس ربهم وليتعظوا ويعملوا بموجبه، ولكن أكثر الناس أبوا إلا الكفر والعناد.
٥١- ولو شئنا لبعثنا في كل بلدة نذيراً، فاجتهد في دعوتك، ودع كلام الكافرين، وانبذ ما يأتون به.
٥٢- واستمر في دعوتك إلي الحق وتبليغ رسالة ربك، وإن قاوموا دعوتك واعتدوا على المؤمنين فحاربهم وجاهد في ذلك جهاداً عظيماً.
٥٣- والله هو الذي أجرى البحرين : البحر العذب والبحر الملح، وجعل المجرى لكل واحد يجاور المجرى الآخر، ومع ذلك لا يختلطان، نعمة ورحمة بالناس.
٥٤- والله هو الذي خلق من النطفة هؤلاء الناس، وجعلهم ذكوراً وإناثاً ذوي قرابات بالنسب أو المصاهرة، وكان الله قديراً على ما يريد إذ خلق من النطفة الواحدة نوعين متمايزين.
٥٥- وبعد هذه الآيات الدالة على استحقاق الله - وحده - العبادة، وأن لا إله سواه، يعبد فريق من الناس ما لا ينفع ولا يضر من الأوثان، وهؤلاء بعملهم هذا يعاونون الشيطان وهو يضلهم، فهم متظاهرون على الحق الذي دعاهم إليه الله.
٥٦- وليس عليك - أيها النبي - إلا تبليغ ما أرسلت به، وتبشير المؤمنين بالجنة، وتخويف الكافرين ما سيلقونه، وليس عليك بعد ذلك شيء تطالب به.
٥٧- وقل لهم : إني لا أبتغي على دعوتكم إلي الإسلام أجراً وجزاء، إلا أن يهتدي أحدكم ويسلك سبيل الحق ويرجع إلي ربه.
٥٨- وتوكل في أمورك على الله الحي الذي لا يمكن أن يموت، ونزّهه وقدسه حامداً أنعمه، ودع من خرج عن الجادة، فالله خبير بهم مكافئ لهم على ذنوبهم.
٥٩- والله هو الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وقد استولي على العرش والملكوت وعم سلطانه كل شيء، وهو الرحمن، وإن ابتغيت أن تعرف شيئاً من صفاته فاسأل الخبير عنه يجبك وهو الله العليم الحكيم.
٦٠- وإذا قيل لهؤلاء الكفار : اخضعوا للرحمن واعبدوه. كان جوابهم بالإنكار وتجاهل الرحمن وقالوا : من هو الرحمن ؟ ! نحن لا نعلمه حتى نسجد له، فهل نخضع لأمرك وحسب ؟، وازدادوا عن الإيمان بُعْداً ونفوراً.
٦١- تعالي الرحمن وتزايد فضله، أنشأ الكواكب في السماوات وجعل لها منازل تسير فيها، وجعل من الكواكب الشمس سراجاً مضيئاً والقمر منيراً.
٦٢- والرحمن هو الذي جعل الليل والنهار متعاقبين : يخلف أحدهما الآخر، وقد دبرنا هذا ليتذكر من شاء هذا التدبير، فيعرف حكمة الله وقدرته، أو يشكره على هذه النعمة الجليلة.
٦٣- فعباد الرحمن هم الذين يتواضعون في الدنيا، إذا مَشوْا على الأرض مشوا في سكينة ووقار، وكذلك في سائر أعمالهم، وإذا سابَّهم السفهاء من المشركين تركوهم وشأنهم وقالوا لهم : لا شأن لنا بكم بل أمرنا سلام عليكم.
٦٤- والذين يبيتون على التعبد والصلاة ويذكرون الله كثيراً.
٦٥- والذين يغلِّبون الخوف على الرجاء - شأن الأتقياء - فيخافون عذاب الآخرة، يكون دأبهم أن يدعوا الله أن ينجيهم من عذاب جهنم، فإن عذابها إذا نزل بمجرم يلزمه ولا يفارقه.
٦٦- وأن جهنم شر مستقر لمن يستقر فيها، وشر مقام لمن يقيم.
٦٧- ومن سمات عباد الرحمن : الاعتدال في إنفاقهم المال على أنفسهم وأسرهم، فهم لا يبذرون ولا يضيقون في النفقة، بل نفقتهم وسط بين الأمرين.
٦٨- ومن شأنهم أنهم أخلصوا التوحيد، ونبذوا كل أثر للشرك في عبادة ربهم، وتنزَّهوا عن قتل النفوس التي نهي الله عن قتلها. لكن إن اعتدت قُتِلَتْ بالحق. وقد تجنبوا الزنا، وقصروا أنفسهم على الحلال من أوجه المتاع، لينجوا من عقاب هذه الملهكات، فإن من يفعل هذه الأمور يلق منها شرا وعذاباً.
٦٩- فإنه سيلقى يوم القيامة عذاباً مضاعفاً، ويخلد فيه ذليلا مهاناً.
٧٠- ولكن مَن تاب من هذه الذنوب، وصدق في إيمانه، وأَتبعَ ذلك بالطاعات والأعمال الصالحة، فهؤلاء يغفر لهم رحمة منه، ويجعل لهم مكان السيئات السالفة حسنات يثيبهم عليها أجزل الثواب، وأن الله من شأنه الرحمة والغفران.
٧١- وهكذا مضى أمرنا : أن من تاب من إثمه وظهر أثر ذلك في إقباله على الطاعة واجتنابه المعصية، فهو الذي يقبل الله توبته. وبها يرجع إلي ربه بعد نِفاره.
٧٢- ومن أخلاق عباد الرحمن : أنهم يتنزَّهون عن شهادة الزور، وأنهم إذا صادفوا من إنسان ما لا يُحمد من قول أو فعل لم يشتركوا فيه، ورفعوا أنفسهم عن مقارنته.
٧٣- ومن صفاتهم : أنهم إذا وعظهم واعظ وتلا عليهم آيات الله ألقوا بمسامعهم إليها، فوعتها قلوبهم، وتفتحت لها بصائرهم، ولم يكونوا كأولئك الذين يضطربون عند سماعها معرضين عنها، لا تخرق آذانهم وتنسد عنها أبصارهم.
٧٤- وهم يسألون ربهم أن يجعل نساءهم وأولادهم موضع أنس أنفسهم بما يعملون من خير، وأن يجعلهم أئمة في الخير يقتدي بهم الصالحون.
٧٥- هؤلاء الموصوفون بما وصفناهم عباد الله حقاً، وجزاؤهم غرف الجنة العالية كفاء صبرهم على الطاعات، وسيلقون في الجنة التحية والتسليم.
٧٦- ونعيمهم في الجنة خالد لا انقطاع له، فنعم الجنة مستقراً ومقاماً.
٧٧- قل - أيها الرسول - للناس : إن الله لا يعنيه منكم إلا أن تعبدوه وتدعوه في شئونكم ولا تدعوا غيره، ولذلك خلقكم، ولكن الكافرين منكم كذبوا ما جاء به الرسل، فسيكون عذابهم لازماً لا منجي لهم منه.