تفسير سورة الفرقان

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة الفرقان من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ

سورة الفرقان
مكية وهي سبعون وسبع آية
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (١) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (٢) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (٣)
قول الله سبحانه وتعالى: تَبارَكَ قال ابن عباس رضي الله عنه يعني: تعالى وتعظّم.
ويقال: تفاعل من البركة، وهذه لفظة مخصوصة، ولا يقال: يتبارك، كما يقال يتعالى. ولا يقال: متبارك، كما يقال متعالٍ. ويقال: تَبارَكَ أي ذو بركة. والبركة: هي كثرة الخير.
ويقال: أصله من بروك الإبل، يقال للواحد بارك، وللجماعة برك. وكان الإنسان إذا كان له إبل كثيرة وقد برّكهنّ على الباب يقولون: فلان ذو بركة، ويقولون للذي كان له إبل تحمل إليه الأموال من بلاد أخر: فلان ذو بركة، فصار ذلك أصلاً، حتى أنه لو كان له مال سوى الإبل لا يقال فلان ذو بركة. قال الله تعالى: تَبارَكَ أي ذو البركة. ويقال: أصله من الدوام. ويقال:
بارك في موضوع إذا دام فيه، ويقال: معناه البركة في اسمه، وفي الذي ذكر عليه اسمه.
ثم قال: الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ يعني: أنزل جبريل عليه السلام بالقرآن، والفرقان هو المخرج من الشبهات عَلى عَبْدِهِ يعني: محمدا صلّى الله عليه وسلّم لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً يعني: ليكون القرآن نذيراً للإنس والجن. ويقال: يعني النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويقال: يعني الله تبارك وتعالى لِلْعالَمِينَ وأراد هاهنا جميع الخلق، وقد يذكر العام ويراد به الخاص من الناس، كقوله عزّ وجل: وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ [البقرة: ٤٧ و ١٢٢] أي: على عالمي زمانهم، ويذكر ويراد به جميع الخلائق، كقوله: رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: ٢].
ثم قال عز وجل: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: خزائن السموات والأرض.
ويقال: له نفاذ الأمر في السموات والأرض. وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ليورثه ملكه وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ فينازعه في عظمته. وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ كما ينبغي أن يخلقهم. فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً يعني: بين الصلاح في كل شيء، وجعله مقدراً معلوماً. ويقال: كل شي خلقه من الخلق فقدره تقديراً، أي: قدر لكل ذكر وأنثى.
قوله عز وجل: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً يعني: تركوا عبادة الله الذي خلق هذه الأشياء، وعبدوا غيره. لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً يعني: عبدوا شيئاً لا يقدر أن يخلق ذباباً، ولا غيره وَهُمْ يُخْلَقُونَ يتخذونها بأيديهم وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا أي: لا تقدر الآلهة أن تمتنع ممن أراد بها سوءاً وَلا نَفْعاً أي لا تقدر أن تسوق إلى نفسها خيراً. ويقال: لا يملكون دفع مضرة، ولا جر منفعة. وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً يعني: لا يقدرون أن يميتوا أحداً وَلا حَياةً أي: ولا يحيون أحداً وَلا نُشُوراً يعني: بعث الأموات. ويقال: وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً يعني: الموت الذي كان قبل أن يخلقوا، وَلا حَياةً يعني: أن يزيدوا في الأجل، وَلا نُشُوراً بعد الموت.
ويقال: وَلا حَياةً يعني: أن يبقوا أحداً وَلا نُشُوراً يعني: أن يحيوه بعد الموت. وإنما ذكر الأصنام بلفظ العقلاء، لأن الكفار يجعلونهم بمنزلة العقلاء، فخاطبهم بلغتهم.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤ الى ٩]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (٤) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٥) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٦) وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (٧) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٨)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٩)
ثم قال عز وجل: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: كفار مكة إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ يعني: ما القرآن إلا كذب افْتَراهُ يعني: كذباً اختلقه من ذات نفسه وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ يعني: جبراً ويساراً فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً وقال بعضهم هذا قول الكفار، يعني: إنّ الذين أعانوه قد جَاءوا ظُلْماً وَزُوراً. وقال بعضهم: هذا قول الله تعالى ردّاً على الكفار بقولهم هذا فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً يعني: شركاً وكذباً وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها يعني: أباطيلهم اكتتبها، يعني: كتبها من جبر ويسار يعني: أساطير الأولين. فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ يعني: تقرأ وتملى عليه بُكْرَةً وَأَصِيلًا يعني: تقرأ عليه غدوة وعشية.
قوله عز وجل: قُلْ يا محمد أَنْزَلَهُ يعني: القرآن الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني: يعلم السِّرَّ والعلانية، ومعناه: لو كان هذا القول من ذات نفسه لعلمه الله تعالى، وإذا علمه لعاقبه، كما قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ [الحاقة: ٤٤] ثم قال إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فكأنه يقول: ارجعوا وتوبوا، فإنه كان غَفُوراً لمن تاب، رَحِيماً بالمؤمنين.
قوله عز وجل: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ مثل ما نأكل وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ يعني: يتردد في الطريق لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً يعني: معيناً يخبره بما يراد به من الشر أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ يعني: يعطى له كنز أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يعني: بستانا يَأْكُلُ مِنْها وذلك أن كفار قريش اجتمعوا في بيت، فبعثوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأتاهم، فقال له العاص بن وائل السهمي وقريش معه: قد تعلم يا محمد أن لا بلاد أضيق ساحة من بلادنا، ولا أقل أنهاراً ولا زرعاً، ولا أشدَّ عيشاً، فادع ربك أن يسير عنا هذه الجبال، حتى تنفسح لنا بلادنا، ثم يفجر لنا فيها أنهاراً، حتى نعرف فضلك عند ذلك، ونراك تمشي في الأسواق معنا تبتغي من يسير العيش، فاسأل ربك أن يجعل لك قصوراً أو جناناً، وليبعث معك ملكاً يصدقك، فنزل حكاية عن قولهم: أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها قرأ حمزة والكسائي: نأكل منها بالنون، وقرأ الباقون بالياء.
وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ يعني: ما تطيعون يا أصحاب محمد إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً يعني: مغلوب العقل. ويقال: مَسْحُوراً يعني: مخلوقا، لأن الذي تكون مخلوقاً يكون حياته بالمعالجة بالأكل والشرب، فيسمى مسحوراً. ويقال: مسحوراً أي: سحر به.
قوله عز وجل: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ يعني: انظر يا محمد كيف وصفوا لك الأشباه، إلى ماذا شبهك قومك بساحر وكاهن وكذاب فَضَلُّوا عن الهدى، ويقال: ذهبت حيلتهم، وأخطئوا في المقالة. فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا يعني: لا يجدون حيلة ولا حجة على ما قالوا لك، ولا مخرجا لتناقض كلامهم حيث قالوا مرة: مجنون، ومرة: ساحر.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٠ الى ١٤]
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (١٠) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لاَّ تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤)
ثم قال عز وجل: تَبارَكَ وتعالى، وقد ذكرناه الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ يعني: خيراً مما يقول الكفار في الآخرة جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً في الجنة، ويقال: في الدنيا إن شاء أعطاك. وروى سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: عن خيثمة قال: «قيل للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعط من قبلك أحداً، ولا نعطي من بعدك أحداً، ولا ينقص ذلك مما عند الله شيئاً. وإن شئت جمعناها لك في الآخرة. قال صلّى الله عليه وسلّم: «بل اجمعها لِي في الآخِرَة» فنزل تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ
الآية قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر وَيَجْعَلُ بضم اللام على معنى خبر الابتداء، وقرأ الباقون بالجزم لأنه جواب الشرط.
ثم قال عز وجل: بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ معناه: ولكن كذبوا بالساعة يعني: بالقيامة وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً يعني: هيأنا لمن كذب بالقيامة وقوداً، وهُوَ نار جهنم إِذا رَأَتْهُمْ يعني: جهنم مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ يعني: من مسيرة خمسمائة سنة. ويقال: من مسيرة مائة سنة سَمِعُوا لَها يعني: منها تَغَيُّظاً على الكفار وَزَفِيراً يعني: صوتاً كصوت الحمار.
وقال قوم: معناه يسمعون منها تغيظ المعذبين وزفيرهم، كما قال: لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ [هود: ١٠٦] وقال عامة المفسرين: التغيظ والزفير يسمع من النار، ألا ترى أنه قال: سَمِعُوا لَها، ولم يقل: سمعوا منها، ولا فيها. وقال في آية أُخرى: وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الملك: ٨] وروي في الخبر: «أن جهنم تزفر زفرة لا يبقى ملك مقرَّب ولا نبيٌّ مرسل إلا خرَّ على وجهه ترعد فرائصهم حتى إن إبراهيم الخليل عليه السلام ليجثو على ركبتيه ويقول: يا رب يا رب لا أسألك إلا نفسي».
ثم قال عز وجل: وَإِذا أُلْقُوا مِنْها يعني: فيها مَكاناً ضَيِّقاً يعني: يضيق عليهم المكان كتضييق الزُّجِّ من الرُّمح مُقَرَّنِينَ يعني: مسلسلين في القيود، موثقين في الحديد، قرنوا مع الشياطين دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً فعند ذلك دعوا بالويل، يعني: يقولون وا هلاكاه، فتقول لهم الخزنة: لاَّ تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً يعني: ادعوا ويلاً كثيراً دائماً.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٥ الى ١٦]
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦)
قال الله تعالى للنبي صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ يا محمد لكفار مكة أَذلِكَ خَيْرٌ يعني: هذا الذي وصف من العذاب خير أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ فإن قيل: كيف يقال خير وليس في النار خير؟ قيل له:
قد يقال على وجه المجاز، وإن لم يكن فيه خير، والعرب تقول: العافية خير من البلاء، وإنما خاطبهم بما يتعارفون في كلامهم الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ يعني: الذين يتقون الشرك والكبائر.
كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً يعني: جزاء بأعمالهم الحسنة ومرجعاً إليها.
ثم قال عز وجل: لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ يعني: يحبون خالِدِينَ أي: دائمين في الجنة كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً منه في الدنيا مَسْؤُلًا يسأله المتقون. ويقال مَسْؤُلًا يسأل لهم الملائكة عليهم السلام، وهو قوله عز وجل: رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ [غافر: ٨] ويقال:
وعدوا على لسان رسلهم، وقد سألوا الله عز وجل ذلك، وهو قوله: رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ويقال: وعداً لا خلف فيه لمن سأله.

[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ١٧ الى ١٩]

وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩)
قوله عز وجل: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ يعني: نجمعهم وَما يَعْبُدُونَ يعني: ونحشر ما يعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: الأصنام. ويقال: المسيح وعزير. ويقال: الملائكة عليهم السلام فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ يعني: أأنتم أمرتم عِبادِي هؤُلاءِ أن يعبدوكم أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ يعني: أم هم أخطئوا الطريق، فتبرأت الملائكة والأصنام.
قوله تعالى: قالُوا سُبْحانَكَ أي: تنزيهاً لك مَا كانَ يَنْبَغِي لَنا أي: ما يجوز لنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وقرأ الحسن وأبو جعفر المدني أن نَّتَّخِذَ بضم النون ونصب الخاء، ومعناه: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك إلها فتعبد. وقراءة العامة: بنصب النون وكسر الخاء، يعني: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء فيعبدوننا. ويقال: معناه ما كان فينا روح نأمرهم بطاعتنا. ويقال: ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء فنعبدهم، فكيف نأمر غيرنا بعبادتنا؟ كقوله تعالى: سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ [سبأ: ٤١] قرأ ابن كثير وعاصم في رواية حفص: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ بالياء. فَيَقُولُ بالياء وقرأ الباقون: الأول بالنون والثاني بالياء.
ثم قال: وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ يعني: أن هذا كان بكرمك وفضلك، لما عصوك لم تمنع عنهم الدنيا حتى اغتروا بذلك، وظنوا أنهم على الحق، حيث لم يصبهم بلاء ولم تمنع منهم النعمة، فذلك قوله: وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ يعني: تركتهم في الدنيا يتمتعون، وأجلتهم وآباءهم في المتاع والسعة. حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ يعني: تركوا التوحيد والإيمان بالقرآن. وَكانُوا قَوْماً بُوراً أي هلكى فاسدين. وأصله: الكساد يقال: بارت السوق إذا كسدت. وقال الكلبي:
بُوراً يعني: هالكين، فاسدة قلوبهم، غير متقين ولا محسنين.
يقول الله تعالى لعبدة الأوثان: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ يعني: الأصنام، ويقال:
الملائكة فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً يعني: لا يستطيع الكفار انصرافاً إلى غير حجتهم التي تكلموا بها. ويقال: لا تستطيعون صرفاً أي: انصرافاً عن حجتهم وَلا نَصْراً يعني:
لا ينتصرون من آلهتهم حين كذّبتهم. ويقال: لا تقدر الأصنام ولا الملائكة صرف العذاب عنهم وَلا نَصْراً يعني: لا يمنعونهم منه. ويقال: الصرف الحيلة. ويقال: لا يقبل منهم فدية أن يصرفوا عن أنفسهم بالفدية.
قرأ عاصم في رواية حفص فَما تَسْتَطِيعُونَ بالتاء على معنى المخاطبة، يعني يقال لهم:
لا تستطيعون صرف ذلك. وقرأ الباقون بالياء ومعناه: أن الله تعالى يقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم: فما يستطيعون صرف ذلك عنهم.
ثم قال تعالى: وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ يعني: يشرك بالله في الدنيا. ويقال: يكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً في الآخرة، وهو عذاب النار.
[سورة الفرقان (٢٥) : آية ٢٠]
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠)
قوله عز وجل: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ جوابا لقولهم: مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ يعني: كانت الرسل من الآدميين، ولم يكونوا من الملائكة عليهم السلام.
ثم قال: وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ يقول: ابتلينا بعضكم ببعض، الفقير بالغني، والضعيف بالقوي. وذلك أن الشريف إذا رأى الوضيع قد أسلم أنف عن الإسلام وقال:
أأسلم، فأكون مثل هذا، فثبت على دينه حمية. يقول الله تعالى للشريف: أَتَصْبِرُونَ أن تكونوا شرعاً، سواء في الدين وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً يعني: عالما بمن يؤمن، وبمن لا يؤمن، ويقال: جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً يعني: بلية الغني للفقير، والقوي للضعيف. لأن ضعفاء المسلمين وفقراءهم، إذا رأوا الكفار في السعة والغنى، يتأذون منهم، وكان في ذلك بلية لهم، فقال تعالى: أَتَصْبِرُونَ اللفظ لفظ الاستفهام، والمراد به الأمر، يعني: اصبروا كقوله: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ [المائدة: ٧٤] يعني: توبوا إلى الله. ويقال: أهل النعم بلية لأهل الشدة، لأن أهل الشدة إذا رأوا أهل النعمة تنغص عيشهم، فأمرهم الله تعالى بالصبر.
وذكر عن بعض المتقدمين: أنه كان إذا رأى غنياً من الأغنياء يقول: نصبر يا رب، يريد:
جوابا لقوله: أَتَصْبِرُونَ ثم قال: وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً يعني: عالماً بمن يصلح له الغنى والفقر ويقال: وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً يعني: عالماً بثواب الصابرين.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢١ الى ٢٤]
وَقالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لاَ بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤)
قوله عز وجل: وَقالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقاءَنا يعني: لا يخافون البعث بعد الموت.
ويقال: لا يرجون الجنة والمغفرة، وهم كفار أهل مكة لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ يعني: هلا
533
أنزل علينا الملائكة، فيخبروننا بأنك رسول الله إلينا أَوْ نَرى رَبَّنا فيخبرنا بأنك نبيّ مرسل.
قال الله تعالى: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ يعني: تعظموا في أنفسهم، وأعرضوا عن الإيمان.
ويقال: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ يعني: وضعوا لأنفسهم قدراً ومنزلة، حيث أرادوا لأنفسهم الرسل من الملائكة عليهم السلام ورؤية الرب عز وجل: وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً يعني: أبوا إباءً كثيراً. ويقال: اجترءوا على الله اجتراء كثيراً. وقال أهل اللغة: العاتي الذي لا ينفعه الوعظ والنصيحة.
ثم أخبر متى يرون الملائكة فقال عز وجل: يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ يعني: يوم القيامة لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ يعني: للمشركين، وتكون البشارة للمؤمنين.
ثم قال: وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً يعني: تقول لهم الملائكة: حراماً محرماً، أن تكون لهم البشرى يومئذ بما يبشر به المتقون، وإنما قيل للحرام حجرا، لأنه حجر عليه.
وقال مجاهد: «تقول الملائكة: حراماً محرماً أن يدخلوا الجنة». وقال الحسن وقتادة:
هي كلمة كانت العرب تقولها. كان الرجل إذا نزلت به الشدة قال: حجراً محجوراً، أي: حراماً محرماً. ويقال: إن قريشاً كانوا إذا استقبلهم أحد كانوا يقولون له: حاجورا حاجورا، حتى يعرف أنهم من الحرم، فلا يضرونهم، وأخبر أنهم كانوا يقولون ذلك ولا ينفعهم.
ويقال: إن المشركين في الشهر الحرام إذا استقبلهم أحد يقولون: حجراً محجوراً، ويريدون أن يذكروه أنه في الشهر الحرام، وذلك القول لا ينفعهم يوم القيامة. وقرأ الحسن:
حِجْراً بضم الحاء، وقراءة العامة: بكسر الحاء.
ثم قال عز وجل: وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ قال الكلبي: يعني عمدنا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عمل لغير الله تعالى. ويقال: قصدنا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عمل، ومعناه: نظرنا في أعمالهم ولم نجد فيها خيراً، فأبطلناها، ولم نجعل لها ثواباً، فذلك قوله تعالى: فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً قال الضحاك: هو الغبار ما لا يستطاع جمعه، ولا أخذه بيد. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «الهباء المنثور الذي تراه في شعاع الشمس في الكوة»، وهذا قول عكرمة والكلبي. وقال قتادة: هو ما ذرت الريح من حطام الشجر. ويقال: الغبار الذي يسطع من حوافر الدواب.
ثم قال عز وجل: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا يعني: أفضل منزلاً وَأَحْسَنُ مَقِيلًا قال: كانوا يرون أنه يفرغ من حساب الناس إلى مقدار نصف النهار، فيقيل هؤلاء في الجنة، وهؤلاء فِي النَّارِ.
وروي عن ابن مسعود وابن عباس أنهما قالا: «لا ينتصف النهار من ذلك اليوم حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار»، عنيا بذلك: يوم القيامة، ولأن مقدار ذلك اليوم خمسون ألف سنة، وإنما أراد بتلك القيلولة القرار لا النوم، لأن لا يكون في الجنة نوم، ولا في النار نوم.
534

[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]

وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦)
قوله عز وجل: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ. قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر تَشَقَّقُ بتشديد الشين، لأن أصله يتشقق، فأدغم إحدى التاءين في الشين. وقرأ الباقون بالتخفيف، وهذا مثل الإختلاف في قوله تسئلون فقال: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ يعني: عن الغمام، والغمام: هو شيء مثل السحاب الأبيض فوق سبع سموات، كما روي في الخبر: «أن دعوة المظلوم ترفع فوق الغمام»، يعني: تتشقّ السماء، ويظهر بالغمام وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا. قرأ ابن كثير وننزل الملائكة بنونين ونصب الهاء، ومعناه: أن الله تعالى يقول: نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ وقرأ الباقون وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ على ما فعل ما لم يسم فاعله، معناه: أن الله تعالى ينزل ملائكة السموات.
وروي في الخبر: «أنه تشقق سماء الدنيا فينزل ملائكة سماء الدنيا، بمثلَيْ من في الأرض من الجن والإنس. ويقول لهم الخلائق: أفيكم ربنا؟ يعني: هل جاء أمر ربنا بالحساب؟
فيقولون: لا، وسوف يأتي. ثم تنزل ملائكة السماء الثانية بمثلي ما في الأرض من الملائكة والإنس والجن، ثم تنزل ملائكة كل سماء على هذا التضعيف حتى تنزل ملائكة سبع سموات عليهم السلام، فيظهر الغمام، وهو كالسحاب الأبيض فوق سبع سموات، ثم ينزل بالأمر بالحساب، فذلك قوله: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا ويقال: الغمام الذي قال في سورة البقرة: فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ.
ثم قال عز وجل: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وفي الآية تقديم، ومعناه: الملك يومئذ الحق للرحمن الحق صفة الملك، والمعنى: الملك الذي هو الملك حقاً ملك الرحمن، لأنه لا يدعي الملك يومئذ أحد. ويقال: الحق يومئذ الملك الخالص. ويقال: يعني: الملك الصدق.
ثم قال تعالى: وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً يعني: شديداً. وفي الآية دليل أن ذلك اليوم يكون على المؤمنين يسيراً، وهذا كما قال في آية أخرى: عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر: ١٠].
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٢٧ الى ٣١]
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١)
ثم قال تعالى: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يعني: عقبة بن أبي معيط، وذلك أن عقبة
535
كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاماً، وكان يدعو إلى الطعام من أهل مكة من أحب وأراد، وكان يكثر مجالسة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويعجبه حديثه. فقدم ذات يوم من سفره وصنع طعاماً، ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى طعامه، فأتاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما قدم الطعام إليه، فأبى أن يأكل وقال: ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وكان عندهم من العار أن يخرج من عندهم أحدهم قبل أن يأكل شيئاً، فألح على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يأكل، فلم يأكل، فشهد بذلك عقبة، فأكل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من طعامه، وكان أبيُّ بن خلف الجمحي غائباً، وكان خليله، فلما قدم أخبر ذلك، فأتاه فقال: صبوت يا عقبة. فقال: لا والله ما صبوت، ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل من طعامي إلا أن أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم، فشهدت، فطعم. فقال له: ما أنا بالذي أرضى عنك أبداً حتى تأتيه، فتبزق في وجهه، وتشتمه وتكذبه، ففعل ذلك «١». فنزلت هذه الآية: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ يعني: عقبة عَلى يَدَيْهِ يعني: على أنامله.
وروي عن أنس بن مالك أنه قال: يعض عقبة بن أبي معيط على يديه يوم القيامة، فيأكل لحم يديه حتى يبلغ العضد من الندامة، وهو يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يعني:
اتخذت طريق الهدى، وكنت معه على الإسلام.
قوله عز وجل: يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا يعني: أبيَّ بن خلف. ويقال: إنما قال فُلاناً ولم يذكر اسمه لحقارته لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ يعني: عن الإيمان بَعْدَ إِذْ جاءَنِي أي حين جاءني ويقال: إنه لم يذكر اسمه، لأنه دخل فيه جميع الظالمين، لأن مَنْ صَنَع مِثْلَ هَذَا الصَّنِيع يكون هذا جزاؤه، وقتل عقبة يوم بدر صبراً، وقتل أبيُّ بن خلف يوم أحد ويقال لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا، يعني: الشيطان بدليل قوله عز وجل: وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا يعني: يتبرأ منه يوم القيامة، ونزل فيه: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الزخرف:
٦٧].
ثم قال عز وجل: وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً يعني:
متروكاً لا يؤمنون به، ولا يعملون بما فيه. وقال القتبي: يعني: جعلوه كالهذيان. ويقال: فلان يهجر في منامه، أي يهذي. وقال مجاهد: يهجرون منه بالقول، يعني: يقولون فيه بالقبيح، فبين الشكاية من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الرب عز وجل، ثم أن الله عزَّ وجلَّ عزاه وأخبره أن الرسل من قبله كانوا يتأذون بقومهم، فذلك قوله عز وجل: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ يعني: من المشركين، فيهجرون الكتاب.
ثم قال: وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً يعني: هادِياً إلى دينه من كان أهلا لذلك.
(١) عزاه السيوطي: ٦/ ٢٥٠ إلى ابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل. [.....]
536
ويقال: وَكَفى بِرَبِّكَ حافظاً على الدين وَنَصِيراً، أي مانعاً. ويقال: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا يعني: فرعوناً، كما جعلنا أبا جهل فرعونك، ويقال: سلطنا على كل نبي متكبراً ليتكبر عليه ويكذبه ويؤذيه.
وروي في الخبر: «لو أن مؤمناً ارتقى على ذروة جبل، لقيّض الله تعالى إليه منافقاً يؤذيه، فيؤجر عليه وَكَفى بِرَبِّكَ يعني: اكتف بربك واصبر على أذاهم، صار هادِياً وَنَصِيراً نصباً على الحال، أي: وكفى بربك في حال الهداية والنصرة ويقال: الباء زائدة للصلة. ومعناه: كفى بربك هادِياً إلى دينه وَنَصِيراً أي مانعا.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤)
قوله عز وجل: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ يعني: هلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كما أنزلت التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى عليهما السلام.
يقول الله تعالى: كَذلِكَ يعني: هكذا أي أنزلناه متفرقاً لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ يعني:
لنحفظ ويقوى به قلبك ونفرحك، فلما دخل قلبه الغم نزلت عليه آية وآيتان، فيفرح بها. ويقال:
لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ يعني: ليكون قبوله على المسلمين أسهل، لأنه لو أنزلت الأحكام والشرائع كلها جملة واحدة، شق على المسلمين قبولها، كما شق على بني إسرائيل. ويقال: أنزلناه هكذا لنرسخ القرآن في قلبك، لكي تحفظ الآية والآيتين. ويقال: كَذلِكَ أنزلناه لتحكم عند كل حادثة، وعند كل واقعة، لتقوي به قلبك في ذلك.
ثم قال: وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا يعني: بيناه تبييناً. ويقال: شيء رتل ورتيل إذا كان مبيناً. وقال مجاهد: وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا أي: بعضه على أثر بعض.
وروى عكرمة عن ابن عباس قال: «أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا، ثم أنزل بعد ذلك جبريل عليه السلام به في عشرين سنة»
، وهو قوله تعالى: كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا [الإسراء: ١٠٦].
ثم قال عز وجل: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ يعني: لا يخاصمونك بمثل، مثل قوله: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الفرقان: ٣٢] ثم قال: إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ يعني: أنزلنا عليك جبريل عليه السلام بالقرآن فتخاصمهم به وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً يعني: وأحسن بياناً لترد به خصومهم.
ويقال: معناه ولا يأتونك بحجة، إلا بينا لك في القرآن ما فيه نقض لحجتهم، وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً أي جواباً لهم ويقال: ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بما هو أحسن من مثلهم. ويقال: كل
نبي إذا قال له قومه قولاً، كان هو الذي يرد عليهم، وأما النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قالوا له شيئاً، فالله تعالى هو الذي يرد عليهم.
ثم أخبرهم بمستقرهم في الآخرة فقال عز وجل: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ يعني:
يسبحون على وجوههم إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً يعني: منزلاً في النار وضيقاً في الدنيا وَأَضَلُّ سَبِيلًا يعني: أخطأ طريقاً. وذلك أن كفار مكة قالوا: ما كان محمد وأصحابه أولى بهذا الأمر منا، والله إنهم لشر خلق الله، فأنزل الله عز وجل: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ.
وروي في الخبر: «أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أصناف: فصنف على النجائب، وصنف على أرجلهم، وصنف على وجوههم، فقيل: يا رسول الله كيف يحشرون على وجوههم؟ فقال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم، فهو قادر على أن يمشيهم على وجوههم» فذلك قوله» : أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦)
قوله عز وجل: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني: أعطينا موسى التوراة وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً أي معيناً فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ يعني: به موسى، كقوله عز وجل في سورة طه: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ [طه: ٤٢] خاطب موسى خاصة إلى القوم يعني: فرعون وقومه الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي بتوحيدنا وديننا. وقال الكلبي: يعني كذبوا بآياتنا التسع. وقال بعضهم: هذا التفسير خطأ، لأن الآيات التسع أعطاها الله تعالى موسى بعد ذهابه إليه، وقد قيل: معناه اذهبا إلى القوم، وهذا الخطاب لموسى عليه السلام. ثم قال الله تعالى للنبي صلّى الله عليه وسلّم: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني: بالرسل، وبكتب الأنبياء عليهم السلام الذين قبل موسى، ثم قال: فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً يعني: كذبوهما فأهلكناهم إهلاكاً. ويقال: في الآية تقديم قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني: التوراة بعد ما هلك فرعون وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هارون وزيرا، يعني: في أوّل نبوته. ويقال: الْكِتابَ يعني: كتاباً قبل التوراة.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٣٧ الى ٣٩]
وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩)
قوله عز وجل: وَقَوْمَ نُوحٍ يعني: واذكر قوم نوح عليه السلام لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ يعني: نوحاً وحده كما قال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ [المؤمنون: ٥١] ولم يكن وقت هذا الخطاب إلا واحد، فيجوز أن يذكر الجماعة ويراد به الواحد، كما يذكر الواحد ويراد به الجماعة كقوله:
وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: ١] وإنما أراد به الناس، ألا ترى أنه استثنى منه جماعة. ويقال: إن نوحاً كان يدعو قومه إلى الإيمان به، وبالأنبياء الذين بعده، فلما كذبوه فقد كذبوا جميع الرسل، فلهذا قال: لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً يعني:
عبرة لمن بعدهم وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً أي: وجيعاً.
ثم قال عز وجل: وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ يعني: واذكر عاداً وثمود وأصحاب الرس، وهم قوم قد نزلوا عند بئر كان يسمّى: الرس، فكذبوا رسلهم، فأهلكهم الله تعالى، ويقال: إنما سُمُّوا أصحاب الرس، لأنهم قتلوا نبيهم ورسولهم في بئر لهم، وقال مقاتل: يعني:
البئر التي كان فيها أصحاب ياسين بأنطاكية التي بالشام وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً يعني: أهلكنا أمماً بين قوم نوح وعاد، وبين عاد وثمود إلى أصحاب الرس كثيراً وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ يعني: بينا لهم العذاب أنه نازل بهم في الدنيا وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً أي: دمرناهم بالعذاب تدميراً، يقال: تبره إذا أهلكه.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤٠ الى ٤٢]
وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠) وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢)
ثم قال عز وجل: وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ يعني: أهل مكة مروا على القرية الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعني: قريات لوط أمطرنا عليهم الحجارة: أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها يعني:
أفلم يبصروها، فيعتبروا بها بَلْ كانُوا لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً يعني: بل كانوا لا يخافون البعث.
ويقال: لا يرجون ثواب الآخرة، وإنما جاز أن يعبر عنهما، لأن في الرجاء طرفاً من الخوف، لأن كل من يرجو شيئاً فإنه يخاف، وربما يدرك، وربما لا يدرك.
قوله عز وجل: وَإِذا رَأَوْكَ يعني: أهل مكة إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً يعني: ما يقولون لك إلا سخرية فيما بينهم ويقولون: أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا يعني: إلينا، وهو قول أبي جهل حين قال لأبي سفيان بن حرب: أهذا نبي بني عبد مناف إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا يعني: أراد أن يصرفنا عَنْ آلِهَتِنا يعني: عن عبادة آلهتنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها يعني: ثبتنا على عبادتها لأدخلنا في دينه. حكى قولهم ثم بين مصيرهم فقال: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ يعني: يوم القيامة مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا يعني: أخطأ طريقاً، يعني: يبيّن لهم أن الذي قلت لهم كان حقا.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤٣ الى ٤٦]
أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤) أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦)
قوله عز وجل: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ يعني: اتخذ هوى نفسه إلهاً، يعني: يعمل بكل ما يدعوه إليه هواه. ويقال: إنهم كانوا يعبدون حجرا، فإذا رأوا أحسن منه تركوا الأول، وعبدوا الثاني أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا يعني: أتريد أن تكون بيدك المشيئة في الهدى والضلالة، ويقال: معناه أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا يعني: أتريد أن تكون رباً لهم، فتجزيهم بأعمالهم، يعني: لست كذلك، فأنذرهم، فإنما أنت منذر.
ثم قال عز وجل: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يعني: أتظن أنهم يريدون الهدى يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ الهدى إِنْ هُمْ يعني: ما هم إِلَّا كَالْأَنْعامِ في الأكل والشرب، ولا يتفكرون في أمر الآخرة، بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا يعني: أخطأ طريقاً من البهائم، لأن البهائم ليسوا بمأمورين ولا منهيين.
وقال مقاتل: البهائم تعرف ربها وتذكره، وكفار مكة لا يعرفون ربهم، فيوحدونه.
قوله عز وجل: أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ قال بعضهم: فيه تقديم، ومعناه: ألم تر إلى الظل كيف مده ربك. وقال بعضهم: فيه مضمر، ومعناه: ألم تر إلى صنع ربك كيف مد الظل؟ يعني: بسط الظل بعد انفجار الصبح إلى طلوع الشمس وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً يعني:
دائماً كما هو لا شمس معه، كما يكون في الجنة ظل ممدود، ويقال: تلك الساعة تشبه ساعات الجنة إلا أن الجنة أنور ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا حيث ما تكون الشمس يظهر الظل.
وقال القتبي: إنما يكون دليلاً، لأنه لو لم تكن الشمس لم يعرف الظل، لأن الأشياء تعرف بأضدادها ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً أي: الظل بعد غروب الشمس، وذلك أن الشمس إذا غابت عاد الظل، وذلك وقت قبضه، لأن ظل الشمس بعد غروب الشمس لا يذهب كله جملة، وإنما يقبض الله ذلك الظلّ قبضاً خفياً شيئاً بعد شيء، فدلّ الله تعالى بهذا الوصف على قدرته، ولطفه في معاقبته بين الظل والشمس لمصالح عباده، وبلاده. ويقال: ثم قَبَضْناهُ، أي:
قبضناه سهلاً. ويقال: يسيراً عند طلوع الشمس، ويقال: ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً يعني: هيناً سهلاً.
ويقال: يَسِيراً يعني: خفياً، فلا يدري أحد أين يصير، وكيف يصير ويقال: ثُمَّ قَبَضْناهُ يعني: رفعناه رفعاً خفيفاً.
ويقال قوله: ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا أي: على الأوقات في النهار ليعرف زوال الشمس وأوقات الصلاة.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٤٧ الى ٥٢]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَآءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١)
فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢)
540
قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً يعني: سكناً لتسكنوا فيه. ويقال:
لِباساً يعني: ستراً يستر جميع الأشياء وَالنَّوْمَ سُباتاً يعني: راحة للخلق ليستريحوا فيه بالنوم وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً أي: للنشور ينتشرون فيه لابتغاء الرزق.
ثم قال عز وجل: وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً يعني: تنشر السحاب، والاختلاف في القراءات كما ذكرنا في سورة الأعراف بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعني: قدام المطر وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَآءً طَهُوراً يعني: مطهراً يطهر به الأشياء، ولا يطهر بشيء لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً يعني:
أرضاً لا نبات فيها، فينبت بالمطر وَنُسْقِيَهُ يعني: نسقي بالمطر مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً وهو جماعة الإنس يعني: نسقي به الناس والدواب، لفظ البلدة مؤنث، إلا أن معنى البلدة والبلد واحد، فانصرف إلى المعنى، ولو قال: ميتة، لجاز إلا أنه لم يقرأ.
ثم قال عز وجل: وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ يعني: قسمناه بين الخلق. ويقال: نصرفه من بلد إلى بلد، مرة بهذا البلد، ومرة ببلد آخر. كما روي عن ابن مسعود أنه قال: «ما من عام بأمطر من عام، ولكن الله تعالى يصرفه حيث يشاء»، فذلك قوله وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ- وكما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من سنة بأمطر من الأخرى ولكن إذَا عَمِلَ قَوْمٌ بِالمَعَاصِي، حَوَّلَ الله ذلك إلَى غَيْرِهِمْ، فَإذَا عَصَوْا جَمِيعاً، صَرَفَ الله ذلك إلَى الفَيَافِي وَالبِحَارِ» وقال ابن عباس رضي الله عنه: «ما من عام، بأكثر من عام ولكن يصرفه حيث يشاء» فذلك قوله: ولكن يصرفه حيث يشاء «١» -.
لِيَذَّكَّرُوا يعني: ليتعظوا في صنعه، فيعتبروا في توحيد الله تعالى، فيوحدوه. وقرأ حمزة والكسائي لّيَذْكُرُواْ بالتخفيف، وضم الكاف. وقرأ الباقون بالتشديد والنصب.
ثم قال: فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً يعني: كفراناً في النعمة، وهو قولهم: مطرنا بنوء كذا، ويقال: إلا جحوداً وثباتاً على الكفر.
قوله عز وجل: وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا قال مقاتل: ولو شئنا لبعثنا في زمانك فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً يعني: رسولاً، ولكن بعثناك إلى القرى كلها رسولاً اختصصناك بها فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وذلك حين دعوه إلى ملة آبائهم وَجاهِدْهُمْ بِهِ أي بالقرآن جِهاداً كَبِيراً يعني: شديداً.
(١) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «أ».
541

[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٥٣ الى ٥٧]

وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧)
قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يعني: أرسل. ويقال: حلى البحرين.
ويقال: فلق البحرين. ويقال: خلق البحرين العذب والمالح هذا عَذْبٌ فُراتٌ يعني: حلو وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ أي: مرّ مالح وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً أي حاجزاً وَحِجْراً مَحْجُوراً أي حرم على العذب أن يملح، وحرم على المالح أن يعذب، وحرم على كل واحد منهما أن يختلط بصاحبه، وأن يغير كل واحد منهما طعم صاحبه.
قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً أي من النطفة إنساناً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً فالنسب: ما لا يحل لك نكاحه من القرابة، والصهر: ما يحل لك نكاحه من القرابة وغير القرابة، وهذا قول الكلبي.
وقال الضحاك: النسب القرابة، والصهر الرضاع، ويحرم من الصهر مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ.
ويقال: النسب الذي يحرم بالقرابة، والصهر الذي يحرم بالنسب، وهو ما ذكر في قوله تعالى:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ [النساء: ٢٣] فهذه السبع تحرم بالقرابة، والسبع التي تحرم بالنسب، فهو ما ذكر بعده وهو قوله تعالى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ [النساء: ٢٣] إِلى آخر الآية. وامرأة الأب ثم قال تعالى:
وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً فيما أحل من النكاح، وفيما حرم. ويقال: قَدِيراً على ما أراد.
قوله عز وجل: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: الأصنام مَا لاَ يَنْفَعُهُمْ إن عبدوهم وَلا يَضُرُّهُمْ إن لم يعبدوهم وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً يعني: عوناً للشياطين على ربه.
قال بعضهم: نزلت في شأن أبي جهل بن هشام، ويقال: في شأن جميع الكفار.
ثم قال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً يعني: ما أرسلناك يا محمد إلا مبشراً بالجنة لمن أطاع الله عز وجل، ونذيراً بالنار لمن عصاه، قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ يعني: قل لكفار مكة:
ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ يعني: على القرآن والإيمان مِنْ أَجْرٍ يعني: من جُعل إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا يعني: إلا من شاء أن يؤخذ، ويتخذ إلى ربه بذلك التوحيد سبيلاً، يعني:
مرجعاً. ويقال: يعمل، فيتخذ عند ربه مرجعاً صالحاً، فيدخل به الجنة. يعني: لا أريد الأجر، ولكن أريد لكم هذا الذي ذكر، وقصدي هذا لا أَنْ آخذ منكم شيئا.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٥٨ الى ٦٠]
وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠)
قوله عز وجل: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وذلك حين دعي إلى ملة آبائه، فأمره الله تعالى بأن يتوكل على ربه الكريم وقال: وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ قال مقاتل: واذكر بأمره وقال الكلبي: صلِّ بأمره وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً يعني: عالماً معناه، وكفى بالله عالماً بذنوب عباده وبمجازاتهم، فلا أحد أعلم بذنوب عباده ومجازاتهم منه.
ثم قال عز وجل: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وقد ذكرناه وتمّ الكلام، ثم قال الرَّحْمنُ قال الزجاج: الرَّحْمنُ رفعه من جهتين. أحدهما: على البدل مما في قوله: ثُمَّ اسْتَوى فبيّن بقوله: الرَّحْمنُ يعني استوى الرحمن على العرش. قال: ويجوز أن يكون على معنى الابتداء. فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً يعني:
فاسأل عنه عالماً. ويقال: معناه ما أخبرتك به من شيء، فهو كما أخبرتك، فاسأل بذلك عالماً حتى يبين لك ذلك كقوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ [يونس: ٩٤] الآية. خاطب به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأراد به أمته.
قوله عز وجل: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ أي صلوا للرحمن، ويقال: اخضعوا له ووحدوه قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ يعني: ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة الكذاب. قالوا: أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا لذلك الكذاب. قرأ حمزة والكسائي يأمرنا بالياء على معنى المغايبة وقرأ الباقون على المخاطبة وَزادَهُمْ نُفُوراً يعني: زادهم ذكر الرحمن تباعداً عن الإيمان. فمن قرأ بالياء، فمعناه: لما يأمرنا الرحمن بالسجود، ويقال: لما يأمرنا محمد، يعني: لا نسجد لما يأمرنا كقوله: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ [النساء: ٣] يعني: من طاب لكم. ومن قرأ بالتاء، أراد به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
قال أبو عبيد: هذا هو الوجه، لأن المشركين خاطبوه بذلك، وكانوا غير مقرين بالرحمن.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦١ الى ٦٧]
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥)
إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧)
قوله عز وجل: تَبارَكَ وقد ذكرناه الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً يعني: خلق في السماء بروجاً، يعني: نجوماً وكواكب. ويقال: قصوراً. وذكر أنه جعل في القصور حراساً، كما قال في موضع آخر: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً [الجن: ٨] الآية.
543
ويقال: البروج الكواكب العظام، وكل ظاهر مرتفع فهو برج، وإنما قيل لها بروج لظهورها وارتفاعها، ثم قال تعالى: وَجَعَلَ فِيها يعني: خلق فيها سِراجاً يعني: شمساً وَقَمَراً مُنِيراً يعني: منوراً مضيئاً. قرأ حمزة والكسائي سُرُجاً بلفظ الجمع، يعني:
الكواكب. وقرأ الباقون سِراجاً وبه قال أبو عبيدة: بهذا نقرأ. كقوله: وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً ولأنه قد ذكر الكواكب بقوله: بُرُوجاً.
ثم قال عز وجل: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي: خلق الليل والنهار خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي خليفة يخلف كل واحد منهما صاحبه. يذهب الليل ويجيء النهار، ويذهب النهار ويجيء الليل، ويقال: خِلْفَةً يعني: مخالفاً بعضه لبعض، أحدهما أبيض، والآخر أسود، فهما مختلفان كقوله عز وجل: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ الآية.
وروي عن الحسن أنه قال: النهار خلف من الليل لمن أراد أن يعمل بالليل فيفوته فيقضي، فإذا فاته بالنهار يقضي بالليل لمن أراد أن يذكر. قرأ حمزة يَذَّكَّرَ بالتخفيف في الذال، وضم الكاف. يعني: يذكر ما نسي إذا رأى اختلاف الليل والنهار. وقرأ الباقون بالتشديد وأصله: يتذكر يعني: يتعظ في اختلافهما، ويستدل بهما أَوْ أَرادَ شُكُوراً يعني: العمل الصالح ويترك ما هو عليه من المعصية. ويقال: أَوْ أَرادَ شُكُوراً، أي توحيداً وإقراراً، فيمكنه ذلك.
قوله عز وجل: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ يعني: وإن من عباد الرحمن عباداً يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً يعني: يمضون متواضعين، وهذا جواب لقولهم وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ؟
فقال: الرحمن الذي جعل في السماء بروجاً، وهو الذي له عباد مثل هؤلاء. يعني: أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومن كان مثل حالهم، وهذا كقوله: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ [مريم: ٦١] وكقوله: فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ [الزمر: ١٧] الآية.
وقال مجاهد: يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً قال: في طاعة الله متواضعين. ويقال:
هَوْناً، أي: هيناً لا جور منهم على أحد ولا أذى. ويقال: هَوْناً يعني: سكينة ووقاراً وحلماً. وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ يعني: كلمهم الجاهلون بالجهل قالُوا سَلاماً يعني:
سداداً من القول. ويقال: ردوا إليهم بالجميل. وقال الحسن: يعني: حلماً لا يجهلون، وإن جهل عليهم حلموا. وقال الكلبي: نسخت بآية القتال. وقال بعضهم: هذا خطأ، لأن هذا ليس بأمر، ولكنه خير من حالهم، والنسخ يجري في الأمر والنهي.
ثُمَّ وصف حال لياليهم فقال عز وجل: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً يعني: يقومون بالليل في الصلاة سجداً وَقِياماً يعني: يكونون في ليلتهم مرة ساجدين، ومرة قائمين. وروي عن ابن عباس أنه كان يقول: «من صلى ركعتين أو أربعاً بعد العشاء، فقد بات لله ساجداً وقائماً».
544
ثم وصف خوفهم فقال: إنهم مع جهدهم خائفون من عذاب الله عز وجل، ويتعوذون منه فقال عز وجل: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ يعني: عباد الرحمن رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً يعني: لازماً لا يفارق صاحبه. وقال بعض أهل اللغة: الغرام في اللغة أشد العذاب. وقال محمد بن كعب القرظي: إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً. قال: سألهم ثمن النعم، فلم يأتوا بثمنها، فأغرمهم ثمن النعم، وأدخلهم النار، ثم قال: إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً يعني:
بئس المستقر، وبئس الخلود، والمقام الخلود كقوله: دارَ الْمُقامَةِ [فاطر: ٣٥] يعني: دار الخلود. ويقال: نصب المستقر للتمييز، ومعناه: لأنها ساءت في المستقر.
ثم قال عز وجل: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وقرأ نافع وابن عامر يَقْتُرُوا بضم الياء وكسر التاء. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو لَمْ يَقْتُرُوا بنصب الياء وكسر التاء.
وقرأ أهل الكوفة بنصب الياء وضم التاء، ومعنى ذلك كله واحد. يعني: لم يسرفوا، فينفقوا في معصية الله تعالى، ولم يقتروا فيمسكوا عن الطاعة وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً يعني: بين ذلك عدلاً ووسطاً. وقال الحسن: ما أنفق الرجل على أهله في غير إسراف ولا فساد ولا إقتار، فهو في سبيل الله تعالى. وقال مجاهد: لو كان لرجل مثل أبي قبيس ذهباً، فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفاً، ولو أنفق درهماً في معصية الله تعالى كان مسرفا.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٦٨ الى ٧٠]
وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠)
ثم قال عز وجل: وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ يعني: لا يشركون بالله. ويقال:
الشرك ثلاثة: أولها أن يعبد غير الله تعالى، والثاني أن يطيع مخلوقاً بما يأمره من المعصية، والثالث أن يعمل لغير وجه الله تعالى. فالأول كفر، والآخران معصية.
ثم قال: وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا بإحدى خصال ثلاث وقد ذكرناه. وَلا يَزْنُونَ يعني: لا يستحلون الزنى، ولا يقتلون النفس وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يعني:
الشرك والقتل والزنى يَلْقَ أَثاماً قال الكلبي يعني: عقاباً في النار، وذكر عن سيبويه والخليل أنهما قالا: معناه جزاء الآثام. ويقال: الآثام العقوبة وقال الشاعر:
جَزَى الله ابْنَ عُرْوَةَ حِينَ أَمْسَى عَقُوقاً فَالْعُقُوقُ لَهُ أَثَامُ
أي: عقوبة.
ثم قال عز وجل: يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً يعني: في العذاب
صاغراً يهان فيه. قرأ عاصم يُضاعَفْ لَهُ بالألف، وضم الفاء. وقرأ ابن عامر وابن كثير:
يضعّف بغير ألف، والتشديد، وجزم الفاء. وقرأ الباقون بالألف، وجزم الفاء. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر وابن عامر، وَيَخْلُدْ بضم الدال.
وروى حفص عن عاصم وابن كثير، وَيَخْلُدْ بالإشباع، وقرأ الباقون يَخْلُدْ بجزم الدال. فمن قرأ يُضاعَفْ ويَخْلُدْ بالرفع فالوقف هنا على قوله: أَثاماً ومن قرأهما بالجزم فلا يقف على أَثاماً لأنهما جوابا الشرط، والشرط والجواب هما مجزومان.
ثم قال عز وجل: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ يعني: تاب من الشرك والزنى والقتل، وصدَّق بتوحيد الله تعالى: وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ يعني: مكان الشرك الإيمان، ومكان القتل الكف، ومكان الزنى العفاف، ومكان المعصية العصمة والطاعة. ويقال:
إنه يبدل في الآخرة مكان عمل السيئات الحسنات.
وروي عن ابن مسعود أنه قال: «إن يوم القيامة إذا أعطي الإنسان كتابه في الآخرة فيرى في أوله معاصي، وفي الآخر الحسنات، فلما رجع إلى أول الكتاب، رآه كله حسنات».
روى أبو ذر رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يُعْرَضُ عَلَيْهِ صغار ذُنُوبِهِ، وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنَ الكتاب أَنْ تَجِيءَ ذُنُوبُهُ العِظَامُ، فإذا أريد به خير قِيلَ: أَعْطُوهُ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً. فَيَقُولُ:
يَا ربّ إِنَّ لِي ذُنُوباً ما أراها هانا»
. قال: ولقد رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يضحك «١»، ثم تلا: هذه الآية: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ. وذكر عن أبي هريرة أنه قال: «خرجت من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسألتني امرأة في الطريق فقالت: زنيت، ثم قتلت الولد، فهل لي من توبة؟
فقلت: لا توبة لك أبداً. ثم قلت: أفتيتها ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرنا؟ فرجعت إليه فأخبرته بذلك فقال: «هَلِكْتَ وَأهْلَكْتَ، فَأَيْنَ أَنْتَ مِنْ هذه الآية؟ وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى قوله: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ فخرجت وقلت: من يدلني على امرأة سألتني مسألة، والصبيان يقولون: جن أبو هريرة حتى أدركتها وأخبرتها بذلك فسرت وقالت: إن لي حديقة جعلتها لله ولرسوله»
«٢». وقال بعضهم: هذه الآية مدنية نزلت في شأن وحشي، وقال بعضهم: الآية قد كانت نزلت بمكة فكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة إلى وحشي ثم قال تعالى:
وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يعني: غَفُوراً لما فعلوا قبل التوبة لمن تاب، رَحِيماً بالمؤمنين بعد التوبة.
[سورة الفرقان (٢٥) : الآيات ٧١ الى ٧٧]
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥)
خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (٧٧)
(١) حديث أبي ذر: أخرجه مسلم (١٩٠) (٣١٤) (٣١٥) والترمذي (٢٥٩٦) وأحمد: ٥/ ١٧٠ والبغوي (٤٣٦٠).
(٢) عزاه السيوطي: ٦/ ٢٧٩ إلى ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه بسند ضعيف عن أبي هريرة.
546
ثم قال عز وجل: وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً يعني: تاب من الشرك والمعاصي، وعمل صالحاً بعد التوبة، فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً يعني: مناصحاً لا يرجع. ويقال: مَتاباً له في الجنة. ويقال: مَتاباً. يعني: توبة. يعني: يتوب توبة مخلصة.
ثم قال: وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ يعني: لا يحضرون مجالس الكذب والفحش والكفر وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ يعني: مجالس اللهو والباطل مَرُّوا كِراماً يعني: حلماء معرضين عنها.
وقال القتبي: مَرُّوا كِراماً لم يخوضوا فيه، وأكرموا أنفسهم.
ثم قال عز وجل: وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ يعني: وعظوا بالقرآن لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها يعني: لم يقعوا عليها صُمًّا يعني: لا يسمعون وَعُمْياناً ولا يبصرون، ولكنهم سمعوا وانتفعوا به، وهذا قول مقاتل. وقال القتبي: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها أي: لم يتغافلوا عنها، فكأنهم صم لم يسمعوها، عمي لم يروها.
ثم قال عز وجل: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ يعني:
اجعل أزواجنا وذريتنا من الصالحين، تقر أعيننا بذلك. ويقال: وفقهم للطاعة، واعصمهم من المعصية، ليكونوا معنا في الجنة، فتقر بهم أعيننا. قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر، وذريتنا بلفظ الوحدان. وقرأ الباقون وَذُرِّيَّاتِنا بلفظ الجماعة، ثم قال:
وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً يعني: اجعلنا أئمة في الخير يقتدي بنا المؤمنون، كما قال: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [الأنبياء: ٧٣] أي: قادة في الخير.
وروي عن عروة: أنه كان يدعو بأن يجعله الله ممن يحمل عنه العلم، فاستجيب دعاؤه.
وروي عن مجاهد: معناه، «اجعلنا ممن نقتدي بمن قبلنا، حتى يقتدي بنا من بعدنا». ويقال:
معناه اجعلنا ممن يقتدي بالمتقين، ويقتدي بنا المتقون، فهذا كله من خصال عباد الرحمن، من قوله: وَعِبادُ الرَّحْمنِ إلى هاهنا. فوصف أعمالهم.
ثم بين ثوابهم فقال عز وجل: أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ يعني: غرف الجنة كقوله: غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ [الزمر: ٢٠] بِما صَبَرُوا يعني: صبروا على أمر الله تعالى في الدنيا، وعلى الطاعة وَيُلَقَّوْنَ فِيها يعني: في الجنة تَحِيَّةً يعني: التسليم وَسَلاماً يعني: سلام
547
الله تعالى لهم. قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر، وإحدى الروايتين عن ابن عباس، وَيُلَقَّوْنَ فِيها بنصب الياء، وجزم اللام، والتخفيف. وقرأ الباقون وَيُلَقَّوْنَ بضم الياء ونصب اللام، وتشديد القاف، فمن قرأ بالتخفيف، يعني: يلقي بعضهم بعضاً بالسلام، ومن قرأ بالتشديد يعني: يجيء إليهم سلام الله تعالى، يعني: يلقى إليهم السلام من الله تعالى.
ثم قال عز وجل: خالِدِينَ فِيها يعني: دائمين في الجنة حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً يعني: موضع القرار، وموضع الخلود.
قوله عز وجل: قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ يقول: ما يفعل بكم ربي لَوْلا دُعاؤُكُمْ يعني: لولا عبادتكم. ويقال: ما يفعل بعذابكم لولا عبادتكم غير الله تعالى. ويقال:
مَا ينتظر بهلاككم، لولا عبادة من يعبدوني، لأنزلت عذابي- ويقال: لَوْلا دُعاؤُكُمْ يعني:
يقول، لولا إيمانكم «١» -.
ثم قال: عز وجل فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً يعني: عذاباً يلزمهم، فقتلوا ببدر، وعجلت أرواحهم إلى النار، فتلك عقوبتهم فيها. ويقال: لِزاماً يعني: موتاً. وقال ابن مسعود رضى الله تعالى عنه: «خمس قد مضين من ذلك: اللزام، والروم والقمر والدخان والبطشة». - ويقال: ما يحتاج بعذابكم لولا عبادتكم الأصنام. ويقال مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ لولا عبادتكم غير الله. ويقال: ما ينتظر بهلاككم لولا عبادة من يعبدني، لأنزلت عذابي إلى غير ذلك، والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد «٢» -.
(١) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «أ».
(٢) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «أ».
548
Icon