تفسير سورة العنكبوت

فتح البيان
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
بسم الله الرحمان الرحيم
سورة العنكبوت
هي تسع وتسعون آية قيل : مكية كلها
قاله : ابن عباس، وابن الزبير، والحسن. وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد وقيل : أنها مدنية كلها، وهو أحد قولي ابن عباس. وقتادة. وهو قول يحيى بن سلام.
وعن علي ابن أبي طالب قال : نزلت بين مكة والمدينة وهذا قول ثابت.
وأخرج الدارقطني في السنن عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي في كسوف الشمس والقمر أربع ركعات وأربع سجدات يقرأ في الركعة الأولى العنكبوت أو الروم. وفي الثانية يس.

(الم) الله أعلم بمراده به وقد تقدم الكلام على فاتحة هذه السورة مستوفى في أول سورة البقرة.
(أحسب الناس) الاستفهام للتوبيخ والتقريع. أو للتقرير، والحسبان قوة أحد النقيضين على الآخر، كالظن بخلاف الشك فهو الوقوف بينهما والعلم هو القطع على أحدهما، ولا يصح تعليقهما بمعاني المفردات، ولكن بمضامين الجمل (أن يتركوا أن يقولوا) أي لأن يقولوا أو بأن يقولوا أو على أن يقولوا (آمنا) أي نطقوا بكلمة الشهادة.
(وهم لا يفتنون) أي يتركون بغير اختبار، ولا ابتلاء وليس الأمر كما حسبوا بل لا بد أن نختبرهم حتى يتبين المخلص من المنافق والصادق من الكاذب والثابت في الدين من المضارب فيه فالآية مسوقة لإنكار ذلك الحسبان واستبعاده، وبيان أنه لا بد من الامتحان بأنواع التكاليف وغيرها؛ قال الزجاج: المعنى أحسبوا أن نقنع منهم بأن يقولوا إنا مؤمنون فقط؟ ولا يمتحنون بما يتبين به حقيقة إيمانهم؟ بل يمتحنون لتميز الراسخ في الدين من غيره.
قال السدي، وقتادة، ومجاهد: أي لا يبتلون في أموالهم وأنفسهم بالقتل والتعذيب، وسيأتي في بيان سبب نزول هذه الآيات ما يوضح معنى ما ذكرنا قال ابن عطية: وهذه الآية وإن كانت نازلة في سبب خاص - فهي باقية في
163
أمة محمد - ﷺ -، موجود حكمها بقية الدهر، وذلك أن الفتنة من الله باقية في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو، وغير ذلك. والفتنة الامتحان بشدائد التكليف، من مفارقة الأوطان، والمهاجرة، ومجاهدة الأعداء، وسائر الطاعات الشاقة، وهجر الشهوات، وبالفقر والقحط وأنواع المصائب في الأنفس والأموال ومصابرة الكفار على أذاهم وكيدهم، لينالوا بالصبر عليها عوالي الدرجات، فإن مجرد الإيمان وإن كان عن خلوص لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب.
أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن جرير وغيرهم. أنها أنزلت في ناس كانوا بمكة وقد أقروا بالإسلام فكتب إليهم أصحاب رسول الله - ﷺ - من المدينة لما أنزلت آية الهجرة أنه لا يقبل منكم إقرار، ولا إسلام حتى تهاجروا، قال: " فخرجوا عامدين إلى المدينة فاتبعهم المشركون فردوهم، فنزلت فيهم هذه الآية فكتبوا إليهم أنه قد أنزل فيكم كذا وكذا، فقالوا: نخرج فإن اتبعنا أحد قتلناه، فخرجوا فاتبعهم المشركون، فقاتلوهم فمنهم من قتل ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)، وعن قتادة نحوه بأخصر منه، وقيل: نزلت في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله، وعن ابن مسعود قال: أول من أظهر الله إسلامه سبعة، رسول الله، وأبو بكر، وسمية أم عمار، وعمار، وصهيب، وبلال، والمقداد، فأما رسول الله فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فألبسوهم أدرع الحديد، وصهروهم في الشمس، فما منهم من أحد إلا وقد آتاهم على ما أرادوا إلا بلال فإنه هانت عليه نفسه في الله، وهان على قومه، فأخذوه وأعطوه الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وهو يقول: أحد أحد (١).
_________
(١) أنظر إلى قصص " ابتلاء الصحابة ومحنهم " في كتب السيرة. سيرة ابن هشام مثلاً.
164
وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (٣) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩)
165
(ولقد فتنا الذين من قبلهم) أي هذه سنة الله في عباده قديمة، جارية في الأمم كلها، وأنه يختبر مؤمني هذه الأمة كما اختبر من قبلهم من الأمم كما جاء في غير موضع من قصص الأنبياء، وما وقع لهم من قومهم من المحن، وما اختبر الله به أتباعهم، ومن آمن بهم، من تلك الأمور التي نزلت بهم، فمنهم من نشر بالمنشار، ومنهم من قتل، ومنهم من ألقي في النار ومنهم من مشط بأمشاط الحديد، ما يصرفه ذلك عن دينه، وابتلي بنو إسرائيل بفرعون فكان يسومهم العذاب، والمقصود التنبيه على خطئهم في هذا الحسبان، والمعنى: أحسبوا ذلك؟ وقد علموا أنه خلاف سنة الله، ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
(فليعلمن الله الذين صدقوا) في قولهم: آمنا، علم مشاهدة (وليعلمن الكاذبين) منهم في ذلك، أي ليظهر الله الصادق والكاذب في قولهم، ويميز بينهم، وقرئ بضم الياء وكسر اللام، والمعنى أنه يعلم
165
الطائفتين في الآخرة بمنازلهم، أو يعلم الناس بصدق من صدق، ويفضح الكاذبين بكذبهم، أو يضع لكل طائفة علامة تشتهر بها وتتميز عن غيرها. وقيل: إن علم صفة يظهر فيها كل ما يقع، وما هو واقع، إلا أن قبل التكليف يعلم أن زيداً مثلاً سيطيع وعمراً سيعصي، ثم بعد التكليف يعلم أنه مطيع، والآخر عاص، ولا يتغير علمه في شيء من الأحوال، وإنما المتغير هو المعلوم، وأتى بصيغة الفعل في (صدقوا) وباسم الفاعل في (الكاذبين). لأن اسم الفاعل يدل على ثبوت المصدر في الفاعل، ورسوخه فيه، والفعل الماضي لا يدل عليه لأن وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام، وعن قوم مستمرين على الكفر، فعبر في حق الأولين بلفظ الفعل، وفي حق الآخرين بالصيغة الدالة على الثبات: قاله زاده.
166
(أم حسب الذين يعملون السيئات) أي الشرك والمعاصي (أن يسبقونا) أي أن يفوتونا فلا ننتقم منهم، ويعجزونا قبل أن نؤاخذهم بما يعملون، و (أم) هي المنقطعة، ومعنى الإضراب فيها أن هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأول، لأن ذلك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه، وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه، وقالوا: الأول في المؤمنين، وهذا في الكافرين المشركين.
(ساء ما يحكمون) أي بئس الذي يحكمونه حكمهم هذا. وقال الزجاج: (ما) في موضع نصب بمعنى ساء شيئاًً أو حكماً يحكمون، قال: ويجوز أن تكون (ما) في موضع رفع بمعنى ساء الشيء، أو الحكم حكمهم. وقال ابن كيسان: ساء حكمهم.
(من كان يرجو لقاء الله) الرجاء بمعنى الطمع، قاله سعيد بن جبير، وقيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف، قال القرطبي: وأجمع أهل التفسير على أن المعنى من كان يخاف الموت، وقيل البعث والحساب قال الزجاج: أي ثواب المصير إليه تعالى، فالرجاء على هذا معناه الأمل و (من) موصولة، أو شرطية، والجزاء
166
قوله:
(فإن أجل الله) والراجح أنه ليس بجزاء، لأن أجله جاء لا محالة من غير تقييد بشرط، لأنه لو كان جواب الشرط لزم أن من لا يرجوه لا يكون أجل الله آتياً له، بل الجواب محذوف، أي فليعمل عملاً صالحاً، ولا يشرك بعبادة ربه أحداً، والمعنى من كان يرجو ويطمع لقاء الله فإن أجله المضروب للبعث والثواب والعقاب.
(لآت) أي لجاء لا محالة. قال مقاتل: يعني يوم القيامة. وفي الآية من الوعد والوعيد، والترهيب والترغيب ما لا يخفى (وهو السميع) لأقوال عباده (العليم) بما يسرونه وما يعلنونه.
167
(ومن جاهد) الكفار، وجاهد نفسه بالصبر على الطاعات، أو جاهد الشيطان بدفع وساوسه (فإنما يجاهد لنفسه) أي ثواب ذلك له لا لغيره، ولا يرجع إلى الله سبحانه من نفع ذلك شيء، وهذا بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق فإن الكريم إذا وعد وفى، فالحصر إضافي، فلا يقال كيف يستقيم الحصر؟ مع أن جهاد الشخص قد ينتفع به غيره، كما ينتفع الآباء بصلاح الأولاد، وينتفع من سن سنة حسنة بفعل من استن بها، وقيل: المعنى ومن جاهد عدوه لنفسه لا يريد بذلك وجه الله فليس لله حاجة بجهاده، والأول أولى، وفيه بشارة وتخويف (إن الله لغني عن العالمين) من الإنس، والجن والملائكة، فلا يحتاج إلى طاعاتهم، كما لا تضره معاصيهم، وإنما أمر ونهى رحمة لعباده.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ) أي لنبطلنها حتى تصير بمنزلة ما لم يعمل؛ والتكفير إذهاب السيئة بالحسنة، والمراد بالسيئة الشرك والمعاصي وتكفيرها هو الإيمان والتوبة والآية تستدعي وجود السيئات
167
حتى تكفر والوجه فيه أنه ما من مكلف إلا وله سيئة أما غير الأنبياء فظاهر وأما الأنبياء فلأن ترك الأفضل منهم كالسيئة من غيرهم، ولهذا قال تعالى: (عفا الله عنك لم أذنت لهم)؟
(ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون) أي: بأحسن جزاء أعمالهم، وقيل: بجزاء أحسن أعمالهم والمراد بأحسن مجرد الوصف لا التفضيل، لئلا يكون جزاؤهم بالحسن مسكوتاً عنه، وهذا ليس بشيء لأنه من باب الأولى فإنه إذا جازاهم بالأحسن جازاهم بما دونه فهو من التنبيه على الأدنى بالأعلى، وقيل: معناه نعطيهم أكثر مما عملوا، وأحسن منه كما في قوله: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها).
168
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) أي إيصاء حسناً على المبالغة قاله الكواشي، أو ذا حسن، وهذا مذهب البصريين، أو أن يفعل حسناً قاله الكوفيون قال الزجاج: إن يفعل بوالديه ما يحسن وقيل: وصيناه أمراً ذا حسن؛ وقيل: ألزمناه حسناً، وقيل: وصيناه بحسن، وقيل: يحسن حسناً ومعنى الآية: التوصية للإنسان بوالديه؛ بالبر لهما والعطف عليهما والإحسان إليهما بكل ما يمكنه من وجوه الإحسان فيشمل ذلك إعطاء المال والخدمة ولين القول، وعدم المخالفة لهما وغير ذلك، قرئ حسناً بضم الحاء وإسكان السين، وبفتحهما، وقرئ إحساناً وكذا في مضحف أبيّ.
(وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم) أي: إن طلبا منك وألزماك أن تشرك بي إلهاً ليس لك علم بكونه إلهاً، وفي سورة لقمان (على أن تشرك بي) لأن ما هنا وافق ما قبله لفظاً وهو: (من جاهد فإنما يجاهد لنفسه) وما هناك محمول على المعنى لأن التقدير: وإن حملاك على أن تشرك، قاله الكرماني.
168
(فلا تطعهما) في الإشراك وعبر بنفي العلم عن نفي الإله لأن ما لم يعلم صحته لا يجوز اتباعه فكيف بما علم بطلانه، وإذا لم تجز طاعة الأبوين في هذا المطلب مع المجاهدة منهما له فعدم جوازها مع مجرد الطلب بدون مجاهدة منهما أولى، ويلحق بطلب الشرك منهما سائر معاصي الله سبحانه. فلا طاعة لهما فيما هو معصية لله، كما صح ذلك عن رسول الله - ﷺ -.
أخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: قالت أمي: لا آكل طعاماً، ولا أشرب شراباً حتى تكفر بمحمد - ﷺ - فامتنعت من الطعام والشراب حتى جعلوا يشجرون فاها بالعصا، فنزلت هذه الآية إلى قوله: فلا تطعهما، وأخرجه أيضاً الترمذي من حديثه، وقال نزلت في أربع آيات، وذكر نحو هذه القصة، وقال: حسن صحيح، وقد أخرج هذا الحديث أحمد ومسلم، وأبو داود والنسائي أيضاً قال القرطبي: فلم يطعها سعد وقال لها: والله لو كان لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما كفرت بمحمد - ﷺ -، فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي، فلما رأت ذلك أكلت قال الكرخي: هذا وما في لقمان والأحقاف نزل في سعد بن أبي وقاص.
(إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي أخبركم بصالح أعمالكم وطالحها، فأجازي كُلاًّ منكم بما يستحقه، وفي ذكر المرجع والوعيد تحذير من متابعتهما على الشرك، وحث على الثبات والاستقامة في الإيمان.
169
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين) أي في زمرة الراسخين في الصلاح، وهذا أبلغ صفات المؤمنين، وهو متمنى الأنبياء عليهم السلام، قال سليمان عليه السلام: (وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) وقال يوسف عليه السلام: (توفني مسلماً وألحقني بالصالحين) وقيل: لندخلنهم في مدخل الصالحين وهو الجنة. كذا قيل والأول أولى ومعنى إدخالهم فيهم كونهم معدودين من جملتهم لا اتصافهم أي نحشرهم معهم اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين وارزقنا لسان صدق في الآخرين.
169
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (١١) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (١٤)
170
(ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي) أي أصابه بلاء من الناس أو أذى من الكفار (في الله) أي في دين الله وسبيله ولأجله، كما يفعله أهل الكفر مع أهل الإيمان وكما يفعله أهل المعاصي مع أهل الطاعات وأصحاب البدع مع أصحاب السنة وأهل التقليد مع أهل الاتباع بل كل مبطل مع كل محق من إيقاع أنواع الأذى عليهم لأجل الإيمان بالله والعمل بما أمر به من كتاب وسنة.
(جعل فتنة الناس) التي هي ما يوقعونه عليه من الأذى وجزع من أذاهم فلم يصبر عليه وجعله في الشدة والعظم (كعذاب الله) فأطاع الناس كما يطيع الله من يخاف عقابه، وقيل: وهو المنافق إذا أوذي في الله رجع عن الدين فكفر وكان يمكنه أن يصبر على الأذى إلى حد الإكراه، ويكون قلبه مطمئناً بالإيمان، فجعل المنافقون فتنة الناس صارفة عن الإيمان كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر، فعذاب الناس له دافع وعذاب الله ما له من دافع،
170
وأيضاً عذاب الناس يترتب عليه ثواب عظيم، وعذاب الله بعده عقاب أليم، والمشقة إذا كانت مستتبعة للراحة العظيمة تطيب النفس لها، ولا تعدها عذاباً.
قال الزجاج: ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذية في الله.
أخرج أحمد والترمذي، وصححه، وابن ماجة وأبو يعلى وابن حبان، والبيهقي وغيرهم عن أنس قال: قال رسول الله - ﷺ -: " لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله وما يخاف أحد، ولقد أتت علي ثالثة ومالي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما وارى إبط بلال ".
(ولئن جاء نصر من ربك) أي فتح من الله للمؤمنين وغلبة على الأعداء وغنيمة يغنمونها منهم (ليقولن) بضم اللام حملاً على المعنى بعد الحمل على اللفظ، ونقل أبو معاذ النحوي أنه قرئ بالفتح جرياً على مراعاة لفظها أيضاً وقراءة العامة أحسن لقوله:
(إنا كنا معكم) في دينكم فأشركونا في الغنيمة، فالمراد المعية في الإيمان دون الصحبة في القتال لأنها غير واقعة، قاله الشهاب فكذبهم الله فقال:
(أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين)؟ من الإيمان به أي هو سبحانه أعلم بما فيها من خير وشر فكيف يدعون هذه الدعاوى الكاذبة، قيل: هم قوم ممن كان في إيمانهم ضعف. كانوا إذا مسهم الأذى من الكفار أو لم يجدوا من قوة الإسلام ونصر الله المؤمنين في موطن من المواطن قالوا: إنا كنا معكم يرضون بهذا وما قبله المنافقون، قال مجاهد: نزلت في ناس كانوا يؤمنون بالله بألسنتهم فإذا أصابهم بلاء من الله أو مصيبة في أنفسهم افتتنوا. وقال الضحاك: نزلت في ناس من المنافقين كانوا يؤمنون، فإذا أوذوا رجعوا إلى الشرك، وقيل: نزلت في الذين أخرجهم المشركون معهم إلى بدر، والظاهر أن هذا النظم من قوله: ومن الناس من يقول، إلى قوله: وقال الذين كفروا، نازلٌ في المنافقين لما يظهر من السياق، ولقوله.
171
(وليعلمن الله الذين آمنوا) بقلوبهم أي صدقوا فثبتوا على الإسلام عند البلاء (وليعلمن المنافقين) بترك الإيمان عند البلاء فإنه لتقرير ما قبله وتأكيده واللام في الفعلين لام قسم أي والله ليميزن الله بين الطائفتين ويظهر إخلاص المخلصين ونفاق المنافقين فيجازي الفريقين، فالمخلص الذي لا يتزلزل بما يصيبه من الأذى ويصبر في الله حق الصبر، ولا يجعل فتنة الناس كعذاب الله والمنافق الذي يميل هكذا وهكذا فإن أصابه أذى من الكافرين وافقهم وتابعهم، وكفر بالله عز وجل؛ وإن خفقت ريح الإسلام، وطلع نصره، ولاح فتحه رجع إلى الإسلام وزعم أنه من المسلمين وتغيير الأسلوب حيما عبر في الأول بالفعل، وفي الثاني باسم الفاعل تفنن لرعاية الفاصلة. قيل: هذه الآيات العشر من أول السورة إلى هاهنا مدنية، وباقي السورة مكي. قاله يحيى بن سلام.
(وقال الذين كفروا) من أهل مكة كأبي سفيان وأتباعه (للذين آمنوا) اللام لام التبليغ أي قالوا مخاطبين لهم سبق بيانه في غير موضع، أي قالوا لهم:
(اتبعوا سبيلنا) أي اسلكوا طريقتنا، أو ادخلوا في ديننا (ولنحمل خطاياكم) أي إن كان اتباع سبيلنا خطيئة تؤاخذون بها عند البعث والنشور كما تقولون فلنحمل ذلك عنكم فنؤاخذ بها دونكم، قال مقاتل: يعني قولهم نحن الكفلاء بكل تبعة تصيبكم من الله واللام في لنحمل لام الأمر كأنهم أمروا أنفسهم بذلك. وقال الزمخشري: الأمر بمعنى الخبر وقرئ بكسر اللام وهو لغة الحجاز، ثم رد عليهم بقوله:
(وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء) (من) الأولى بيانية، والثانية مزيدة للاستغراق، أي وما هم بحاملين شيئاًً من خطيئاتهم التي التزموا بها، وضمنوا لهم حملها، ثم وصفهم الله سبحانه بالكذب في هذا التحمل فقال:
(إنهم لكاذبون) فيما ضمنوا به من حمل خطاياهم، قال المهدوي هذا
172
التكذيب لهم من الله عز وجل حمل على المعنى، لأن المعنى أن اتبعتم سبيلنا حملنا خطاياكم، فلما كان الأمر يرجع في المعنى إلى الخبر أوقع عليه التكذيب كما يوقع على الخبر.
173
(وليحملن أثقالهم) أي: أوزارهم التي عملوها، والتعبير عنها بالأثقال للإيذان بأنها ذنوب عظيمة (وأثقالاً مع أثقالهم) أي أوزاراً مع أوزارهم وهي أوزار من أضلوهم وأخرجوهم عن الهدى إلى الضلالة، ومثله قوله سبحانه: (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ). ومثله قوله - ﷺ -: " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها " كما في حديث أبي هريرة الثابت في صحيح مسلم وغيره.
(وليسألن يوم القيامة) سؤال تقريع وتوبيخ (عما كانوا يفترون) أي: يختلقونه من الأكاذيب والأباطيل التي كانوا يأتون بها في الدنيا وأضلوهم بها، ومن جملتها هذا الوعد.
(ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه) وعمره أربعون سنة أو أكثر، وبينه وبين آدم (١) ألف سنة، أجمل سبحانه قصة نوح تصديقاً لقوله في أول السورة (ولقد فتنا الذين من قبلهم) (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً) فيه تثبيت للنبي - ﷺ - كأنه قيل له: إن نوحاً لبث هذه المدة الكثيرة يدعو قومه ولم يؤمن منهم إلا قليل، فصبر وما ضجر، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك، وكثرة عدد أمتك، قيل: ووقع في النظم:
(إلا خمسين عاماً) ولم يقل تسعمائة سنة وخمسين، لأن في الاستثناء تحقيق العدد بخلاف الثاني فقد يطلق على ما يقرب منه وذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض. وجيء بالمميز أولاً بالسنة، ثم بالعام لأن تكرار لفظ واحد في كلام واحد حقيق بالاجتناب في البلاغة، ثم إنه خص لفظ العام بالخمسين إيذاناً بأن نبي الله لما استراح منهم بقي في زمن حسن، والعرب
_________
(١) لا دليل على هذا التحديد من كتاب ولا سنة. المطيعي.
173
تعبر عن الخصب بالعام، وعن الجدب بالسنة.
وقد اختلف في مقدار عمر نوح عليه السلام، وليس في الآية إلا أنه لبث فيهم هذه المدة، وهي لا تدل على أنها جميع عمره، فقد تلبث في غيرهم قبل اللبث فيهم، وقد تلبث في الأرض من بعد هلاكهم بالطوفان، فقال ابن عباس: بعث الله نوحاً وهو ابن أربعين سنة، ولبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله وعاش بعد الطوفان ستين سنة حتى كثر الناس، وفشوا.
وعن عكرمة قال: كان عمر نوح قبل أن يبعث إلى قومه، وبعد ما بعث ألفا وسبعمائة سنة، وعن عوف بن شداد قال: إن الله أرسل نوحاً إلى قومه وهو ابن خمسين سنة وثلثمائة سنة فلبث فيهم ألفاً إلا خمسين عاماً، ثم عاش بعد ذلك خمسين وثلثمائة سنة، وقال أبو السعود: عاش نوح بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة فكان عمره ألفاً ومائتين سنة وأربعين وعن أنس ابن مالك قال: جاء ملك الموت إلى نوح فقال: يا أطول النبيين عمراً كيف وجدت الدنيا ولذتها؟ قال كرجل دخل بيتاً له بابان فقال (١) في وسط البيت هنية ثم خرج من الباب الآخر.
(فأخذهم الطوفان) أي الماء الكثير، طاف بهم وعلاهم فغرقوا، وارتفع على أعلى جبل أربعين ذراعاً، وقيل: خمسة عشر حتى غرق كل شيء غير من في السفينة والفاء للتعقيب، أي أخذهم عقب تمام المدة المذكورة، والطوفان يقال لكل شيء كثير، مطيف بجمع: محيط بهم، من مطر أو قتل أو موت، قاله النحاس. وقال سعيد بن جبير، وقتادة والسدي: هو المطر، وقال الضحاك: الغرق، وقيل: الموت، قال الشهاب: ولكنه غلب في الماء كما هو المراد هنا.
(وهم ظالمون) أي مستمرون على الظلم والشرك ولم ينجع فيهم ما وعظهم به نوح وذكرهم هذه المدة بطولها.
_________
(١) قال بمعنى القيلولة، وهي النوم في الظهيرة، تقول: قال يقيلُ قيلولةً معجم الصحاح للجوهري، باب اللام، فصل القاف، ٥/ ١٨٠٨، طبعة دار العلم للملايين، بيروت.
174
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (١٥) وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (١٨)
175
(فأنجيناه وأصحاب السفينة) أي أنجينا نوحاً، وأنجينا من معه في السفينة من أولاده وأتباعه، واختلف في عددهم على أقوال، قيل: كانوا ثمانية وسبعين نفساً نصفهم ذكور ونصفهم إناث منهم أولاد نوح، سام، وحام، ويافث ونساؤهم.
(وجعلناها) أي السفينة (آية للعالمين) أي عبرة عظيمة لهم ولمن بعدهم من الناس إن عصوا رسولهم، وفي كونها آية وجوه:
أحدها: أنها كانت باقية على الجودي مدة مديدة، كذا قال قتادة.
وثانيها: إن الله سلم السفينة بأن جعلها آية وقيل: إن الضمير راجع في جعلناها إلى الواقعة أو القصة أو الحادثة أو إلى النجاة أو إلى العقوبة بالغرق.
(وإبراهيم) انتصابه بالعطف على (نوحاً) وقال الكسائي: هو معطوف على الهاء في (جعلناها) وقيل: منصوب بمقدر، أي واذكر، وقرأ إبراهيم: النخعي، وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنهما (وإبراهيم) بالرفع على معنى ومن المرسلين إبراهيم.
175
(إذ قال) منصوب على الظرفية، أي وأرسلنا إبراهيم وقت قوله أو وجعلنا إبراهيم آية وقت قوله، أو اذكر إبراهيم وقت قوله (لقومه اعبدوا الله) أي أطيعوه وأفردوه بالعبادة وخصوه بها ووحدوه، وفيه إشارة إلى إثبات الإله (واتقوه) أن تشركوا به شيئاًً وفيه إشارة إلى نفي الغير لأن من يشرك مع الملك غيره في ملكه فقد أتى بأعظم الجرائم، وقيل: اعبدوا الله إشارة إلى الإتيان بالواجبات، وقوله: اتقوه إشارة إلى الامتناع من المحرمات، ثم يدخل في الأول الاعتراف بالله، وفي الثاني الامتناع من الشرك.
(ذلكم) أي عبادة الله وتقواه (خير لكم) من الشرك ولا خير في الشرك أبداً، ولكنه خاطبهم باعتبار اعتقادهم، وقيل: خير من كل شيء لأن حذف المفضل عليه يقتضي العموم مع عدم احتياجه إلى التأويل، إذ المراد بكل شيء كل شيء فيه خيرية، ويجوز كونه صفة لا اسم تفضيل (إن كنتم تعلمون) شيئاًً من العلم أو تعلمون علماً تميزون به بين ما هو خير وما هو شر وأن من المرسلين إبراهيم ثم ذكر إبراهيم بطلان مذهبهم بأبلغ وجه بقوله:
176
(إنما تعبدون من دون الله أوثاناً) وبيَّن لهم أنهم يعبدون ما لا ينفع ولا يضر ولا يسمع ولا يبصر، والأوثان هي الأصنام، وقال أبو عبيدة: الصنم ما يتخذ من ذهب أو فضة أو نحاس: والوثن ما يتخذ من جص أو حجارة، وقال الجوهري: الوثن الصنم والجمع أوثان.
(وتخلقون إفكاً) أي وتكذبون كذباً على أن معنى تخلقون تكذبون قال الحسن: معنى تخلقون تنحون، أي إنما تعبدون أوثاناً وأنتم تصنعونها وهذا على قراءة الجمهور بفتح الفوقية وسكون الخاء وضم اللام مضارع خلق؛ وإفكاً بكسر الهمزة وسكون الفاء وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن علي والسلمي وقتادة بفتح الخاء واللام مشددة، والأصل تتخلقون، وروي عن زيد بن علي أنه
176
قرأ بضم التاء وتشديد اللام مكسورة، وقرأ ابن الزبير، وفضيل بن ورقان: أَفِكاً بفتح الهمزة وكسر الفاء وهو مصدر كالكذب، أو صفة لمصدر محذوف، أي خلقاً أفكاً.
(إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً) أي لا يقدرون على أن يرزقوكم شيئاًً من الرزق (فابتغوا عند الله الرزق) أي اصرفوا رغبتكم في أرزاقكم إلى الله فهو الذي عنده الرزق كله، فاسألوه، واطلبوه من فضله.
(واعبدوه) أي وحدوه دون غيره (واشكروا له) على نعمائه ذكرهما بعد طلب الرزق لأن الأول أي العبادة سبب لحدوث الرزق والثاني أي الشكر موجب لبقائه وسبب لمزيد عليه، يقال شكرته وشكرت له.
(إليه) أي إلى محل جزائه تعالى (ترجعون) بالموت ثم بالبعث لا إلى غيره، فاستعدوا للقائه بعبادته: والشكر له على أنعمه، ولما فرغ من بيان التوحيد أتى بعده بالتهديد وقال:
177
(وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم) أي وإن تكذبوني فقد وقع ذلك لغيري ممن قبلكم فهو من قول إبراهيم، وقيل: هو من قول الله سبحانه، أي وإن تكذبوا محمد - ﷺ - فذلك عادة الكفار مع من سلف كقوم شيث وإدريس ونوح وغيرهم، وقيل: هذا اعتراض متصل إلى قوله عذاب أليم، وقع تذكيراً لأهل مكة، وتحذيراً لهم.
(وما على الرسول إلا البلاغ المبين) لقومه الذين أرسل إليهم وليس عليه هدايتهم، وليس ذلك في وسعه، ولما بين الله تعالى الأصل الأول، وهو التوحيد وأشار إلى الثاني وهو الرسالة بقوله: ما على الرسول الخ شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر، وهذه الأصول الثلاثة لا ينفك بعضها عن بعض في الذكر الإلهي فقال:
177
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (٢٢)
178
(أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده)؟ قرئ بالتحتية على الخبر قال أبو عبيدة: كأنه قال أولم يَرَ الأمم، وقرئ بالفوقية على الخطاب من إبراهيم لقومه، وقيل هو خطاب من الله لقريش، وقرئ يبدي من أبدى يبدي ومن بدأ يبدئ، وقرئ (كيف بدأ) والمعنى: ألم يروا كيف يخلقهم الله ابتداء نطفة، ثم علقة، ثم مضغة ثم ينفخ فيهم الروح، ثم يخرجهم إلى الدنيا ثم يتوفاهم بعد ذلك. ثم هو يعيدهم كما بدأهم، وكذلك سائر الحيوانات وسائر النباتات.
فإذا رأيتم قدرة الله سبحانه على الابتداء والإيجاد فهو القادر على الإعادة والهمزة لإنكار عدم رؤيتهم، والواو للعطف على مقدر، والمراد بالرؤية العلم الواضح الذي هو كالرؤية، والعاقل يعلم أن البدء من الله لأن الخلق الأول لا يكون من مخلوق، وإلا لما كان الخلق الأول خلقاً أول فهو من الله.
(إن ذلك) أي الخلق الأول والثاني (على الله يسير) لأنه إذا أراد أمراً قال له كن فيكون، فكيف ينكرون الثاني، ثم أمر سبحانه إبراهيم أن يأمر قومه بالمسير في الأرض ليتفكروا ويعتبروا، فقال:
(قل) لمنكري البعث (سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) على كثرتهم؛ واختلاف ألوانهم وطبائعهم، وألسنتهم، وانظروا إلى مساكن القرون الماضية، والأمم الخالية، وآثارهم، لتعلموا بذلك كمال قدرة الله، فإن من قدر على إنشائها بدءاً يقدر على إعادتهم، وقيل: إن المعنى قل لهم يا محمد سيروا ومعنى قوله (ثم الله ينشئ النشأة الآخرة) إن الله الذي بدأ النشأة الأولى وخلقها على تلك الكيفية، ينشئها نشأة ثانية عند البعث، أي فكما لم يتعذر عليه إحداثهم مبدئاً كذلك لا يتعذر عليه إنشاؤهم معيداً بعد الموت. ثانياً وهذا دليل على أنهما نشأتان وأن كل واحد منهما إنشاء أي ابتداء واختراع، وإخراج من العدم إلى الوجود، غير أن الآخرة إنشاء بعد إنشاء مثله، والأولى ليست كذلك، والجملة عطف على جملة: سيروا في الأرض داخلة معها في حيز القول.
قال ابن عباس: النشأة الآخرة: هي الحياة بعد الموت وهو النشور، قرئ النشأة بالقصر وسكون الشين، وبالمد وفتح الشين وهما لغتان كالرأفة والرآفة، وهي منتصبة على المصدرية بحذف الزوائد، والأصل الإنشاءة أو على حذف العامل أي ينشئ فينشئون النشأة (إن الله على كل شيء) من البداءة والإعادة (قدير) والجملة تعليل لما قبلها.
(يعذب من يشاء) تعذيبه بعد النشأة الآخرة بالخذلان، وهم الكفار والعصاة (ويرحم) بالهداية (من يشاء) رحمته وهم المؤمنون به، المصدقون لرسله، العاملون بأوامره ونواهيه، أو المعنى: يعذب بالحرص، ويرحم بالقناعة، أو بسوء الخلق وحسنه، أو بالإعراض عن الله، وبالإقبال عليه، أو بمتابعة البدع، وبملازمة السنة، وقدم التعذيب في الذكر على الرحمة مع أن رحمته سابقة لأن السابق ذكر الكفار فذكر العذاب أولاً لسبق ذكر مستحقيه (وإليه) لا إلى غيره (تقلبون) أي ترجعون وتردون.
(وما أنتم) الخطاب لبني آدم وهم من أهل الأرض وليس في وسعهم الهرب في السماء لكن المقصود امتناع الفوات على جميع الأحوال (بمعجزين) ربكم عن إدراككم (في الأرض) الفسيحة (ولا في السماء) التي هي أفسح منها، قال الفراء: ولا من في السماء بمعجزين الله فيها قال: وهو كما في قول حسان:
فمن يهجو رسول الله منكم... ويمدحه وينصره سواء
أي: ومن يمدحه وينصره سواء، ومثله قوله تعالى: (وما منا إلا له مقام معلوم) أي إلا من له مقام معلوم، والمعنى أنه لا يعجزه سبحانه أهل الأرض في الأرض، ولا أهل السماء في السماء، إن عصوه. وقال قطرب: إن معنى الآية ولا في السماء لو كنتم فيها، كما تقول: لا يفوتني فلان هاهنا ولا بالبصرة، يعني ولا بالبصرة ولو صار إليها، وقال المبرد: المعنى ولا من في السماء، على أن من ليست موصولة بل نكرة، وفي السماء صفة لها فأقيمت مقام الموصوف ورده الأخفش ورجح ما قاله قطرب.
والمقصود بيان امتناع الفوات على جميع التقادير، ممكناً كان أو مستحيلاً وهذا إن حملت الأرض والسماء على المشهور من معناهما، ويجوز أن يراد بهما جهة السفل وجهة العلو، وقال هنا: (في الأرض ولا في السماء)، واقتصر في الشورى على الأرض لأن ما هنا خطاب لقوم فيهم النمرود الذي حاول الصعود إلى السماء، وقد حذفا معاً للاختصار في قوله في الزمر: (وما هم بمعجزين).
(وما لكم من دون الله) أي غيره (من ولي ولا نصير) من مزيدة للتأكيد، أي: ليس له ولي يواليه، ولا نصير ينصره، ويدفع عنه عذاب الله.
180
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (٢٥) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (٢٨)
181
(والذين كفروا بآيات الله) أي التنزيلية أو التكوينية، أو جميعهما (ولقائه) أي أنكروا البعث وما بعده، ولم يعملوا بما أخبرتهم به رسل الله سبحانه، والإشارة بقوله (أولئك) إلى الكافرين بالآيات واللقاء.
(يئسوا من رحمتي) في الدنيا، ولم ينجع فيهم ما نزل من كتب الله، ولا ما أخبرتهم به رسله، وقيل: المعنى أنهم ييأسون يوم القيامة من رحمة الله وهي الجنة، وصيغة الماضي لدلالة علمه على تحقق وقوعه، وأضاف الرحمة إلى نفسه، ولم يضف العذاب إليها لسبق رحمته، وإعلاماً لعباده بعمومها لهم.
(وأولئك لهم عذاب أليم) تكرير الإشارة للتأكيد، ووُصف العذاب
181
بكونه أليماً للدلالة على أنه في غاية الشدة وهذا آخر الآيات في تذكير أهل مكة، وقوله:
182
(فما كان جواب قومه إلا أن قالوا) رجوع إلى خطاب إبراهيم بعد الاعتراض بما تقدم من خطاب محمد - ﷺ - على قول من قال: إن قوله: (قل سيروا في الأرض) خطاب لمحمد - ﷺ -، وأما على قول من قال: إنه خطاب لإبراهيم عليه السلام، فالكلام في سياقه سابقاً ولاحقاً: أي قال بعضهم لبعض عند المشاورة بينهم: لا تجيبوا عن براهينه الثلاثة الدالة على الأصول وهي التوحيد والنبوة والحشر، وافعلوا بإبراهيم أحد الأمرين.
(اقتلوه) بالسيف أو نحوه فتستريحوا منه عاجلاً (أو حرقوه) بالنار فإما أن يرجع إلى دينكم إذا أوجعته النار، وإما أن يموت بها إذا أصر على قوله ودينه وإنما أجابوا بذلك لعدم قدرتهم على الجواب الصحيح، ثم اتفقوا على تحريقه فقذفوه في النار.
(فأنجاه الله من النار) بأن جعلها عليه برداً وسلاماً، قيل: إن ذلك اليوم لم ينتفع أحد بنار، وذلك لذهاب حرها (إن في ذلك) أي في إنجاء الله لإبراهيم بعد إلقائه في النار (لآيات) أي: دلالات واضحة وعلامات ظاهرة، على عظيم قدرة الله، وبديع صنعه، حيث أضرموا تلك النار العظيمة، وألقوه فيها، ولم تحرقه، ولا أثرت فيه أثراً، بل صارت إلى حالة مخالفة لما هو شأن عنصرها، من الحرارة والإحراق. قال المحلي: هي عدم تأثيرها فيه، وإخمادها، وإنشاء روض مكانها في زمن يسير، انتهى. أي مقدار طرفة عين بحيث إنها لم تؤذه. ولكن أحرقت وثاقه لينحل.
(لقوم يؤمنون) أي يصدقون بتوحيد الله وقدرته، وإنما خص المؤمنون لأنهم الذين يعتبرون بآيات الله سبحانه، وينتفعون بها، وأما من عداهم فهم عن ذلك غافلون.
(وقال) إبراهيم لقومه بعد الإنجاء من النار، ولم يحصل له منهم رعب ولا مهابة (إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم) أي للتودد بينكم والتواصل لاجتماعكم على عبادتها، وللخشية من ذهاب المودة فيما بينكم إن تركتم عبادتها، قرئ برفع مودة، وإضافتها إلى بينكم، وبالنصب منونة، ونصب بينكم على الظرفية (في الحياة الدنيا) أي ثم تنقطع ولا تنفع في الآخرة.
(ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض) أي يكفر بعض هؤلاء المتخذين للأوثان العابدين لها بالبعض الآخر منهم، فيتبرأ القادة من الأتباع والأتباع من القادة، وقيل: المعنى يتبرأ العابدون للأوثان من الأوثان، والأوثان من العابدين لها، يقولون، لا نعرفكم.
(ويلعن بعضكم بعضاً) أي كل فريق الآخر على التفسيرين المذكورين (ومأواكم النار) أي مأوى الكفار جميعاً، وقيل: يدخل في ذلك الأوثان (وما لكم من ناصرين) يخلصونكم منها بنصرتهم لكم.
(فآمن له) أي لإبراهيم (لوط) فصدقه في جميع ما جاء به، وقيل: إنه لم يؤمن به إلا حين رأى النار لا تحرقه، وكأن لوط ابن أخي إبراهيم هاران، وقيل: ابن أخته، والأول أولى قال ابن عباس: آمن أي: صدق برسالته.
(وقال إني مهاجر إلى ربي) قال النخعي، وقتادة: الذي قال إني مهاجر هو إبراهيم. قيل: هو أول من هاجر إلى الله وترك بلده، وسار إلى حيث أمره الله بالمهاجرة إليه، قيل: هاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة، وقال قتادة: هاجر من كوثى وهي قرية من سواد الكوفة إلى حران، ثم منها إلى فلسطين، وهي برية الشام، ثم إلى الشام ومعه ابن أخيه لوط، وامرأته سارة، وقد تزوجها ومن ثم قالوا: لكل نبي هجرة ولإبراهيم هجرتان، والمعنى إني مهاجر عن دار قومي إلى حيث أعبد ربي.
183
عن أنس قال: أول من هاجر من المسلمين إلى الحبشة بأهله عثمان بن عفان، فقال النبي - ﷺ - صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط أخرجه أبو يعلى، وابن مردويه، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: هاجر عثمان إلى الحبشة فقال النبي - ﷺ -: " إنه أول من هاجر بعد إبراهيم ولوط " أخرجه ابن منده؛ وابن عساكر، عن زيد بن ثابت قال: قال رسول الله - ﷺ -: " ما كان بين عثمان وبين رقية وبين لوط، مهاجر "، أخرجه الطبراني، والحاكم في الكنى وابن عساكر.
(إنه هو العزيز الحكيم) أي: الغالب الذي أفعاله جارية على مقتضى الحكمة، وقيل: إن القائل: إني مهاجر إلى ربي هو لوط، والأول أولى لرجوع الضمير في قوله: (
184
وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ) إلى إبراهيم وكذا الضمير في قوله:
قوله: (وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب، وآتيناه أجره في الدنيا) فإن هذه الضمائر كلها لإبراهيم بلا خلاف، يعني منَّ الله عليه بالأولاد فوهب له بعد إسماعيل بأربع عشرة سنة إسحاق ولداً له، ويعقوب ولداً لولده إسحق، وقول ابن عباس: هما ولدا إبراهيم لعله يريد ولده وولد ولده، لأن ولد الولد بمنزلة الولد، ومثل هذا لا يخفى على مثل ابن عباس، وهو حبر الأمة، وهذه عنه من رواية العوفي.
وفي الصحيحين: " إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف عليه السلام بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وجعل من ذريته النبوة فلم يبعث الله نبياً بعد إبراهيم إلا من صلبه ونسله ".
ووحد الكتاب لأن الألف واللام فيه للجنس الشامل للكتب، والمراد التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، ومعنى إيتاء الأجر في الدنيا أنه أعطي فيها
184
الأولاد في غير أوانه وأخبر الله باستمرار النبوة فيهم، وذلك مما تقر به عينه، ويزداد به سروره. وقيل: أجره في الدنيا: إن أهل الملل كلها تدعيه، وتقول: هو منهم، ويثنون عليه الثناء الحسن، ويذكره أهل الإسلام في آخر كل تشهد إلى آخر الدهر، وقيل: أعطاه في الدنيا عملاً صالحاً، وعاقبة حسنة، وفيه دليل على أن الله تعالى قد يعطي الأجر في الدنيا. وعن ابن عباس قال: إن الله وصى أهل الأديان بدينه، فليس من أهل الأديان دين إلا وهم يقولون إبراهيم ويرضون به، وقال: أجر الدنيا الذكر الحسن، وقال أيضاً: الولد الصالح والثناء.
(وإنه في الآخرة لمن الصالحين) أي الكاملين في الصلاح المستحقين لتوفير الأجرة، وكثرة العطاء، والفوز بالدرجات العلا من الرب سبحانه
185
(و) اذكر (لوطاً) وقال الكسائي: المعنى وأنجينا لوطاً، أو أرسلنا لوطاً (إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ) أي الخصلة المتناهية في القبح، وهي اللواطة قرئ بالاستفهام وبغيره.
(ما سبقكم بها من أحد من العالمين) الإنس والجن، مستأنفة مقررة لكمال قبح هذه الخصلة، وأنهم منفردون بذلك لم يسبق إلى عملها أحد من الناس على اختلاف أجناسهم قيل: لم ينز (١) ذكر على ذكر قبل قوم لوط من حيث إنها مما اشمأزت منه الطباع، وتحاشت عنه النفوس، حتى قدموا عليها لخبث طينتهم.
وهذه الآية دالة على وجوب الحد في اللواطة، لأنها اشتركت مع الزنا في كونها فاحشة، وقد قال تعالى: (ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة) هذا وإن كان قياساً إلا أن الجامع مستفاد من الآية، قاله الرازي، ثم بين سبحانه هذه الفاحشة فقال:
_________
(١) نزا ينزو نزواً ونزاء أي وثب. المطيعي.
185
أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠)
186
(أئنكم لتأتون الرجال) أي: تلوطون بهم (وتقطعون السبيل) قيل: إنهم كانوا يفعلون الفاحشة بمن يمر بهم من المسافرين، فلما فعلوا ذلك ترك الناس المرور بهم، فقطعوا السبيل بهذا السبب، قال الفراء: كانوا يعترضون الناس في الطرق بعملهم الخبيث. وقيل: كانوا يقطعون الطريق على المارة: بقتلهم ونهبهم، والظاهر أنهم كانوا يفعلون ما يكون سبباً لقطع الطريق، من غير تقييد بسبب خاص، وقيل: إن معنى قطع الطريق قطع النسل بالعدول عن النساء إلى الرجال.
(وتأتون في ناديكم المنكر) النادي والندى والمنتدى مجلس القوم ومتحللهم، ولا يقال للمجلس ناد إلا ما دام فيه أهله، واختلف في المنكر الذي كانوا يأتونه فيه، فقيل: كانوا يحذفون الناس بالحصباء ويستخفون بالغريب.
وعن أم هاني بنت أبي طالب قالت: سألت رسول الله - ﷺ - عن هذه الآية قال: " كانوا يجلسون بالطريق، فيخذفون أبناء السبيل، ويسخرون منهم ". أخرجه أحمد، والترمذي وحسنه، وقال: لا نعرفه إلا من حديث حاتم بن أبي صغيرة عن سماك.
وأخرج ابن مردويه عن جابر أن النبي - ﷺ -: " نهى عن الخذف "، وهو قول الله سبحانه (وتأتون في ناديكم المنكر) وعن ابن عمر قال: في
186
الآية هو الخذف، وعن ابن عباس مثله. وقيل: كانوا يتضارطون في مجالسهم قالته عائشة، وقيل: كانوا يأتون الرجال في مجالسهم، وبعضهم يرى بعضاً، وقيل: كانوا يلعبون بالحمام، وقيل: كانوا يناقرون بين الديكة ويناطحون بين الكباش وقيل: يبزق بعضهم على بعض، ويلعبون بالنرد والشطرنج، ويلبسون المصبغات، وكان من أخلاقهم مضغ العلك وتطريف الأصابع بالحناء، وحل الإزار، والصفير، ولا مانع من أنهم كانوا يفعلون جميع هذه المنكرات، قال الزجاج: في هذا إعلام أنه لا ينبغي أن يتعاشر الناس على المنكر، وأن لا يجتمعوا على الهزء والمناهي، ولما أنكر لوط عليهم ما كانوا يفعلون أجابوا بما حكى الله عنهم بقوله:
(فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين) أي: فما أجابوا بشيء إلا بهذا القول، رجوعاً منهم إلى التكذيب واللجاج والعناد، وقد تقدم الكلام على هذه الآية، وقد تقدم في سورة النمل (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم) وتقدم في الأعراف: (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم) وقد جمع بين هذه الثلاثة المواضع بأن لوطاً كان ثابتاً على الإرشاد ومكرراً للنهي لهم، والوعيد عليهم، فقالوا له أولاً، إئتنا بعذاب الله، كما في هذه الآية.
فلما كثر منه ذلك ولم يسكت عنهم قالوا: أخرجوهم كما في الأعراف والنمل، وقيل: أنهم قالوا أولاً أخرجوهم من قريتكم؛ ثم قالوا ثانياً: إئتنا بعذاب الله، ثم إن لوطاً لما يئس منهم طلب النصرة عليهم من الله سبحانه.
187
(قال رب انصرني على القوم المفسدين) بإنزال عذابك عليهم، وتحقيق قولي: إن العذاب نازل بهم. وإفسادهم هو ما سبق من إتيان الرجال، وعمل المنكر في ناديهم، فاستجاب الله سبحانه دعاءه، وبعث لعذابهم ملائكة، وأمرهم بتبشير إبراهيم قبل عذابهم ولهذا قال:
187
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (٣١) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤)
188
(ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) أي: بالبشارة بالولد وهو إسحاق وبولد الولد وهو يعقوب (قالوا) لإبراهيم: (إنا مهلكو أهل هذه القرية) وهي سدوم التي كان فيها قوم لوط قيل: كانت على مسيرة يوم وليلة من موضع إبراهيم عليه السلام (إن أهلها كانوا ظالمين) تعليل للإهلاك أي: إهلاكنا لهم بهذا السبب.
(قال) لهم إبراهيم (إن فيها) أي: في هذه القرية (لوطاً) وهو غير ظالم فكيف تهلكونها؟ (قالوا نحن أعلم بمن فيها) من الأخيار والأشرار، ونحن أعلم من غيرنا بمكان لوط (لننجينه وأهله) من العذاب، قرئ لننجينه بالتخفيف والتشديد، وهما قراءتان سبعيتان.
(إلا امرأته كانت) في علم الله وحكمه الأزلي (من الغابرين) أي الباقين في العذاب، المنغمسين فيه، الذين لم يخلصوا منه بسبب أن الدال على الشر له نصيب كفاعله كما أن الدال على الخير كفاعله وهي كانت تدل القوم على أضياف لوط فصارت واحدة منهم، بسبب الدلالة وقيل: المعنى من الباقين في
188
القرية التي سينزل بها العذاب فتعذب من جملتهم، ولا تنجو فيمن نجا، والغابر لفظ مشترك بين الماضي والباقي وقد تقدم تحقيقه.
189
(ولما أن جاءت رسلنا لوطاً) بعد مفارقتهم إبراهيم و (أن) زائدة وهو مطرد (سيء بهم) أي: جاءه ما ساءه وأخافه، لأنه ظنهم من البشر فخاف عليهم من قومه لكونهم في أحسن صورة من الصور البشرية.
(وضاق بهم ذرعاً) أي: عجز عن تدبيرهم، وحزن وضاق صدره وضيق الذراع كناية عن العجز وفقد الطاقة، كما يقال في الكناية عن الفقر: ضاقت يده، ومقابله رحب ذرعه بكذا إذا كان مطيقاً له، وذلك لأن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصير الذراع، وقد تقدم تفسير هذا مستوفى في هود، ولما شاهدت الملائكة ما حل به من الحزن والتضجر.
(قالوا لا تخف) علينا من قومك (ولا تحزن) فإنهم لا يقدرون علينا (إنا منجوك وأهلك) من العذاب الذي أمرنا الله بأن ننزله بهم، قرئ منجوك بالتخفيف والتشديد، قال المبرد: التقدير وننجي أهلك (إلا امرأتك كانت من الغابرين) في العذاب.
(إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزاً من السماء) مستأنفة لبيان هلاكهم المفهوم من تخصيص التنجية به وبأهله، والرجز العذاب، أي: عذاباً من السماء، وهو الرمي بالحجارة، وقيل: إحراقهم بنار نازلة من السماء وقيل: هو الخسف والحصب كما في غير هذا الموضع، ومعنى كون الخسف من السماء: إن الأمر به نزل من السماء: وسمي العذاب بالرجز لأنه يقلق المعذب من قولهم: ارتجز إذا ارتجس، أي اضطرب، قرأ ابن عباس: منزلون بالتشديد وقرئ بالتخفيف (بما كانوا يفسقون) أي بسبب فسقهم.
189
وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (٣٧) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (٣٩)
190
(ولقد تركنا منها آية بينة) أي أبقينا من القرية علامة ودلالة بينة وهي الآثار التي بها من الحجارة التي رجموا بها، حتى أدركها أوائل هذه الأمة وخراب الديار، وآثار منازلهم الخربة: وقال مجاهد: هو الماء الأسود الباقي على وجه أرضهم، ولا مانع من حمل الآية. على جميع ما ذكر (لقوم) متعلق بتركنا أو بآية أو بينة وهو أظهر (يعقلون) أي: يتدبرون الآيات تدبر ذوي العقول، وخص من يعقل لأنه الذي يفهم أن تلك الآثار عبرة يعتبر بها من يراها.
(وإلى مدين) هو اسم رجل، وقيل: اسم المدينة، فعلى الأول المعنى وأرسلنا إلى مدين وأولاده؛ وعلى الثاني: أرسلنا إلى أهل مدين (أخاهم شعيباً) قد تقدم ذكره، وذكر نسبه، وذكر قومه في سورة الأعراف وسورة هود، وأضيف شعيب هنا إليهم، بخلافه في قصة نوح وإبراهيم ولوط حيث ذكر قوم مؤخراً عنهم، معرفاً بالإضافة إلى ضمير كل واحد منهم، لأن الأصل في جميع المواضع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأن الله لا يبعث رسولاً إلى غير معين.
غير أن قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاص ولا نسبة
190
مخصوصة يعرفون بها فعرفوا بالإضافة لنبيهم، فقيل: قوم نوح، وقوم لوط، وقوم إبراهيم، وأما قوم شعيب، وهود وصالح، فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس، فجرى الكلام على أصله، فقال: وإلى مدين أخاهم شعيباً، وإلى عاد أخاهم هوداً ذكره الرازي.
(فقال يا قوم اعبدوا الله) أي: أفردوه بالعبادة وخصوه بها، ولم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد، وذكر عن غيره ذلك لأن لوطاً كان في زمن إبراهيم، وإبراهيم سبقه بذلك حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق وإنما ذكر عنه ما اختص به من النهي عن الفاحشة وأما غيره فجاءوا في زمن غير مشتهر بالتوحيد؛ فأمروا به.
(وارجوا اليوم الآخر) أي: توقعوه وافعلوا اليوم من الأعمال ما يدفع عذابه عنكم، قال يونس النحوي: معناه اخشوا الآخرة التي فيها الجزاء على الأعمال وخافوه (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) حال مؤكدة لعاملها، والعثو، والعثي أشد الفساد، وقد تقدم تفسيره.
191
(فكذبوه) والتكذيب راجع إلى الإخبارات الضمنية، كأنه قال: الله واحد فاعبدوه، والحشر كائن فارجوه، والفساد محرم فلا تقربوه فلا يقال: إنه لا يكذب الآمر ولا الناهي وإنما يكذب المخبر.
(فأخذتهم الرجفة) أي: الزلزلة الشديدة وكذا في الأعراف، وقال في سورة هود: الصيحة، والقصة واحدة، قال ابن عباس: أي صيحة جبريل، وهي سبب الرجفة فرجفت الأرض من صيحته، والقلوب رجفت بها والإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب.
(فأصبحوا في دارهم) أي في بلدهم وأرضهم أو منازلهم (جاثمين) أي: باركين على الركب ميتين.
(وعاداً وثمود) بالصرف وتركه، بمعنى الحي والقبيلة، قال الكسائي: قال بعضهم: هو راجع إلى أول السورة أي ولقد فتنا الذين من قبلهم وفتنا عاداً
191
وثمود، قال: وأحب إلي أن يكون معطوفاً على: فأخذتهم الرجفة، أي: وأخذت عاداً وثمود، وقال الزجاج التقدير: وأهلكنا عاداً وثمود. وقيل: المعنى اذكر عاداً وثمود إذا أرسلنا إليهم هوداً وصالحاً.
(وقد تبين) أي: ظهر (لكم) يا معشر الكفار، ويا أهل مكة (من مساكنهم) أي منازلهم الكائنة بالحجر والأحقاف واليمن آيات بينات تتعظون بها وتتفكرون فيها، وكانوا يمرون عليها في أسفارهم فيبصرونها.
(وزين لهم الشيطان أعمالهم) التي يعملونها من الكفر ومعاصي الله (فصدهم) بهذا التنزيين (عن السبيل) أي: الطريق الواضح الموصل إلى الحق (وكانوا مستبصرين) بواسطة الرسل؛ يعني لم يكن لهم في ذلك عذر لأن الرسل أوضحوا السبيل قاله الرازي. وقيل: مستبصرين في الضلالة، قاله ابن عباس، أي أهل بصائر يتمكنون بها من معرفة الحق بالاستدلال لكنهم لم يفعلوا. وقال الفراء: كانوا عقلاء ألباء ذوي بصائر في أمور الدنيا، فلم ينفعهم بصائرهم، وقيل: المعنى كانوا مستبصرين في كفرهم وضلالتهم معجبين بها، يحسبون أنهم على هدى، ويرون أن أمرهم حق، فوصفهم بالاستبصار على هذا باعتبار ما عند أنفسهم، أو متبينين أن العذاب لاحق لهم بإخبار الرسل لهم، ولكنهم لجوا حتى هلكوا.
192
(وقارون وفرعون وهامان) قال الكسائي: إن شئت كان معطوفاً على عاد، وكان فيه ما فيه؛ وإن شئت كان على: (فصدهم عن السبيل) أي وصد قارون الخ. وقيل: التقدير: وأهلكنا هؤلاء بعد أن جاءتهم الرسل. وقدم قارون على فرعون، لشرف نسبه بقرابته من موسى، لكونه ابن عمه، وهامان هو وزير فرعون.
(ولقد جاءهم موسى بالبينات) أي بالحجج الظاهرات، والدلالات الواضحات الباهرات (فاستكبروا في الأرض) عن عبادة الله (وما كانوا سابقين) أي فائتين عذابنا، فارين منه، يقال: سبق طالبه إذ فاته، وقيل: سابقين في الكفر، بل قد سبقهم إليه قرون كثيرة.
192
فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢)
193
(فكُلاًّ) من المذكورين (أخذنا بذنبه) أي عاقبنا بسبب كفره وتكذيبه، قال الكسائي: أي فأخذنا كُلاًّ بذنبه وفيه رد على من يجوز العقوبة بغير ذنب.
(فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً) أي ريحاً تأتي بالحصباء، وهي الحصى الصغار فترجمهم بها. وهم قوم لوط، قاله ابن عباس.
(ومنهم من أخذته الصيحة) وهو ثمود وأهل مدين، قاله ابن عباس.
(ومنهم من خسفنا به الأرض) وهو قارون وأصحابه. قاله ابن عباس.
(ومنهم من أغرقنا) وهم قوم نوح؛ وفرعون قاله ابن عباس.
(وما كان الله ليظلمهم) بما فعل بهم فيعذبهم بغير ذنب لأنه قد أرسل إليهم رسله وأنزل إليهم كتبه (ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) باستمرارهم على الكفر، وتكذيبهم للرسل، وعملهم بمعاصي الله وارتكابهم الذنوب.
(مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء) يوالونهم، ويتكلون عليهم في حاجاتهم من دون الله سواء كانوا من الجماد أو الحيوان، ومن الأحياء أو من الأموات (كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً) لنفسها، تأوي إليه، وإن بيتها في
193
غاية الضعف والوهن، لا يغني عنها شيئاًً لا في حر، ولا قر، ولا مطر كذلك ما اتخذوه ولياً من دون الله. فإنه لا ينفعهم بوجه من وجوه النفع ولا يغني عنهم شيئاًً شبه حال من اتخذ الأصنام والأوثان والأحبار والرهبان أولياء وعبدها، واعتمد عليها، راجياً لنفعها وشفاعتها، بحال العنكبوت التي اتخذت بيتاً لا يغني عنها في مطر ولا أذى. قال الفراء: هو مثل ضربه الله لمن اتخذ من دونه آلهة لا تنفعه ولا تضره، كما أن بيت العنكبوت لا يقيها حراً ولا برداً. قال: ولا يحسن الوقف على العنكبوت، لأنه لما قصد بالتشبيه لبيتها الذي لا يقيها من شيء، شبهت الآلهة التي لا تنفع ولا تضر به، وقد جوز الوقف على العنكبوت الأخفش وغلطه ابن الأنباري، قال لأن (اتخذ) صلة للعنكبوت. كأنه قال: كمثل العنكبوت التي اتخذت بيتاً، فلا يحسن الوقف على الصلة دون الموصول.
والعنكبوت تقع على الواحد والجمع؛ والمذكر والمؤنث، ونونه أصلية والواو والتاء مزيدتان، بدليل قولهم في الجمع عناكيب وفي التصغير عنيكيب، وهذا مطرد في أسماء الأجناس؛ ويجمع على عكاب وعكبة وأعكاب وعناكب. وعنكبوتات أيضاً وهي الدويبة الصغيرة التي تنسج نسجاً رقيقاً، وقد يقال لها عنكبات، والغالب في استعماله التأنيث.
(وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت) لا بيت أضعف منه، مما يتخذه الهوام بيتاً، ولا يدانيه في الوهن، والوهن شيء من ذلك، فإن الريح إذا هبت عليه أو لمسه لامس فلا يبقى له عين ولا أثر فكما أن أوهن البيوت بيته كذلك أضعف الأديان دين عبدة الأوثان، ومن يعبد غير الله أو يتخذه ولياً وأرباباً من دونه كمقتدي الأحبار والرهبان ومقلديهم.
(لو كانوا يعلمون) أن اتخاذهم الأولياء من دون الله كاتخاذ العنكبوت بيتاً، وأن أمر دينهم بلغ هذه الغاية من الوهن ما عبدوها، أو لو كانوا يعلمون شيئاًً من العلم لعلموا بهذا. قال ابن عباس في الآية: ذاك مثل
194
ضربه الله لمن عبد غيره أن مثله كمثل بيت العنكبوت.
وأخرج أبو داود في مراسيله. عن يزيد بن مرثد قال: قال رسول الله - ﷺ -: " العنكبوت شيطان مسخه الله، فمن وجدها فليقتلها " وعن يزيد بن ميسرة قال " العنكبوت شيطان ".
وأخرج الخطيب عن عليّ قال: قال رسول الله - ﷺ -: " دخلت أنا وأبو بكر الغار، فاجتمعت العنكبوت فنسجت بالباب فلا تقتلوهن ".
وروى القرطبي في تفسيره عن عليّ أنه قال: طهروا بيوتكم من نسج العنكبوت فإن تركه في البيوت يورث الفقر، وعن عطاء الخراساني قال: نسجت العنكبوت مرتين مرة على داود عليه السلام، ومرة على النبي صلى الله عليه وسلم.
195
(إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء) ما استفهامية، أو نافية أو موصولة، ومن للتبيين، أو مزيدة للتأكيد. وقيل: التقدير قل للكافرين إن الله يعلم أي شيء تدعون من دونه من إنس وجن وملك وحبر، وراهب وغير ذلك، وجزم أبو علي الفارسي بأنها استفهامية، وعلى تقدير النفي كأنه قيل: يعلم أنكم لا تدعون من دونه من شيء يعني ما تدعونه ليس بشيء وهذا تأكيد للمثل وزيادة عليه، وعلى تقدير الموصولة: إن الله يعلم الذين تدعونهم من دونه، وهذا أظهر الأوجه فيها، كما قال الكرخي ويجوز أن تكون (ما) مصدرية و (من شيء) عبارة عن المصدر، وقرئ يدعون بالتحتية لذكر الأمم قبل هذه الآية وقرئ بالفوقية على الخطاب.
(وهو العزيز) الغالب المصدر أفعاله على غاية الإحكام والإتقان، وفيه تجهيل لهم حيث عبدوا جماداً وحيواناً لا علم له، ولا قدرة، وتركوا عبادة القادر القاهر على كل شيء (الحكيم) الذي لا يفعل كل شيء إلا بحكمة وتدبير.
195
وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (٤٥)
196
(وتلك الأمثال) أي هذا المثل وغيره من الأمثال التي في القرآن (نضربها للناس) تنبيهاً لهم وتقريباً لما بعد من أفهامهم (وما يعقلها) أي: ما يفهم صحتها وحسنها وفائدتها، ويتعقل الأمر الذي ضربناها لأجله (إلا العالمون) بالله وبأسمائه وصفاته، الراسخون في العلم، المتدبرون المتفكرون لما يتلى عليهم، وما يشاهدونه. لأن الأمثال والتشبيهات إنما هي الطرق إلى المعاني المستورة حتى تبرزها وتصورها للأفهام، كما صور هذا التشبيه بين حال المشرك وحال الموحد، ودلت الآية على فضل العلم على العقل ثم إنه تعالى لما أمر الخلق بالإيمان، وأظهر الحق بالبرهان، ولم يأت الكفار بما أمرهم، ولم يهتدوا بذلك إلى سواء السبيل، وحصل يأس الناس عنهم سلى المؤمنين بقوله:
(خلق الله السماوات والأرض بالحق) أي: خلقهما متلبساً بالعدل والقسط مراعياً في خلقهما مصالح عباده، غير قاصد به باطلاً. وقيل: المراد بالحق كلامه وقدرته، والأول أولى، لأن المقصود بالذات من خلقهما إفاضة الخير والدلالة على ذاته وصفاته، كما أشار له بقوله:
(إن في ذلك لآية للمؤمنين) أي لدلالة عظيمة وعلامة ظاهرة على قدرته؛ وتفرده بالإلهية وخص المؤمنين لأنهم الذين ينتفعون بذلك بخلاف الكافرين، أي: فإن لم يؤمنوا فلا يضر ذلك في يقينكم وإيمانكم.
(اتل ما أوحي إليك من الكتاب) أي القرآن وفيه الأمر بالتلاوة للقرآن، والمحافظة على قراءته تقرباً إليه مع التدبر لآياته، والتفكر في معانيه من الأوامر والنواهي. (وأقم الصلاة) أي دم على إقامتها وجملة (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) تعليل لما قبلها، كأنه قيل: صل بهم إن الصلاة الخ والفحشاء ما قبح من العمل، كالزنا مثلاً؛ والمنكر ما لا يعرف في الشريعة أي تمنعه عن معاصي الله، وتبعده منها، ومعنى نهيها عن ذلك أن فعلها يكون سبباً للانتهاء عنهما، والمراد هنا الصلوات المفروضة المكتوبة، المؤداة بالجماعة قال ابن عباس وابن مسعودة في الصلاة منتهى ومزدجر عن المعاصي.
أخرج ابن مردويه، وابن أبي حاتم عن عمران بن حصين قال: سئل النبي - ﷺ - عن قول الله هذا فقال: " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ".
وأخرج الطبراني، وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله - ﷺ -: " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعداً ".
وعن الحسن قال: قال رسول الله - ﷺ -: " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ". أخرجه عبد بن حميده، وابن جرير، والبيهقي، وأخرج الخطب عن ابن عمر مرفوعاً نحوه. وأخرج عبد بن حميد، وغيره عن ابن مسعود مرفوعاً نحوه. قال السيوطي: وسنده ضعيف. قال ابن كثير في تفسيره: والأصح في هذا كله الموقوفات عن ابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وقتادة، والأعمش، وغيرهم.
وقيل: من داوم على الصلاة جره ذلك إلى ترك المعاصي والسيئات كما روي عن أنس قال: كان فتى من الأنصار يصلي الصلوات مع رسول الله - ﷺ -، ثم لم يدع من الفواحش شيئاًً إلا ركبه فذكر ذلك لرسول الله - ﷺ - فقال: إن صلاته ستنهاه يوماً، فلم يلبث أن تاب وحسنت حاله.
197
وقيل: معنى الآية أنه ما دام في صلاته فإنها تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ومنه قوله: إن في الصلاة لشغلاً، وقيل: تنهى عنهما مطلقاً في سائر الأوقات لأن الصلاة تشغل جميع بدن المصلي، فإذا دخل في المحراب خشع، وأخبت لربه، وتذكر أنه واقف بين يدي مولاه، وأنه تعالى مطلع عليه، وأنه يراه فصلحت لذلك نفسه، وتذللت، وخامرها ارتقاب الله تعالى، وظهرت على جوارحه هيئتها، ولو بعد خروجه منها، ولم يكد يفتر عن ذلك حتى تظله صلاة أخرى، يرجع بها إلى أفضل حاله، فهذا معنى هذه الآية، لأن صلاة المؤمن هكذا ينبغي أن تكون.
لا سيما وإن أشعر نفسه أن هذا ربما يكون آخر عمله، فهو أبلغ في المقصود، وأتم في المراد، فإن الموت ليس له سن محدود، ولا زمن مخصوص، ولا مرد معلوم، وهذا مما لا خلاف فيه. روي عن بعض السلف أنه كان إذا قام إلى الصلاة ارتعد واصفر لونه، فكلم في ذلك فقال: إني واقف بين يدي الله، وحق لي هذا مع ملوك الدنيا، فكيف مع ملك الملوك، فهذه صلاة تنهى ولا بد عن الفحشاء والمنكر، ومن صلاته قاصرة على الإجزاء، أي إسقاط الطلب عن المكلف، ولا خشوع فيها، ولا تذكر، ولا فضائل كصلاتنا، فتلك تنزل صاحبها من منزلته حيث كان.
فإن كان مرتكباً للمعاصي قد بعد من الله بسببها، فتلك الصلاة تتركه يتمادى على بعده. وقيل لابن مسعود: إن فلاناً كثير الصلاة، فقال: إنها لا تنفع إلا من أطاعها، ذكره القرطبي. ويل: أراد بالصلاة القرآن، وفيه ضعف، لتقدم ذكر القرآن، والأول أولى، وعلى كل حال فإن المراعي للصلاة لا بد وأن يكون أبعد عن الفحشاء والمنكر ممن لا يراعيها.
(ولذكر الله) بسائر أنواعه من تحميد، وتهليل، وتسبيح، وغير ذلك (أكبر) من كل شيء أي: أفضل من العبادات كلها بغير ذكر، وقد نقل القرطبي هذا التقييد عن ابن زيد وقتادة. قال ابن عطية: وعندي أن المعنى
198
ولذكر الله أكبر على الإطلاق، أي هو الذي ينهى عن الفحشاء والمنكر، فالجزء الذي منه في الصلاة يفعل ذلك، وكذلك يفعل ما لم يكن منه في الصلاة لأن الانتهاء لا يكون إلا ممن ذكر الله مراقباً له وقيل: ذكر الله أكبر من الصلاة في النهي عن الفحشاء والمنكر، مع المداومة عليه، قال الفراء وابن قتيبة: المرد بالذكر هنا الصلاة، والصلاة أكبر من سائر الطاعات وعبر عنها بالذكر كما في قوله فاسعوا إلى ذكر الله للدلالة على أن ما فيها من الذكر هو العمدة في تفضيلها على سائر الطاعات، وكونها ناهية عن السيئات وقيل: عبر عنها بالذكر ليستقل بالتعليل كأنه قال: والصلاة أكبر لأنها ذكر الله.
وقيل: المعنى ولذكر الله لكم بالثواب والثناء عليكم منه أكبر من ذكركم له في عبادتكم وصلواتكم، واختار هذا ابن جرير، ويؤيده حديث من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم. وقال ابن عباس: يقول ولذكر الله لعباده إذ ذكروه أكبر من ذكرهم إياه.
وعن عبد الله بن ربيعة قال: سألني ابن عباس عن قول الله ولذكر الله أكبر فقلت: ذكر الله بالتسبيح، والتهليل، والتكبير، قال: ولذكر الله إياكم أكبر من ذكركم إياه، ثم قال اذكروني اذكركم.
وعن ابن مسعود قال: ذكر الله العبد أكبر من ذكر العبد لله، وعن ابن عمر نحوه، وعن ابن عباس أيضاً قال لها وجهان ذكر الله أكبر مما سواه، (وفي لفظ ذكر الله عندما حرمه)، وذكر الله إياكم أعظم من ذكركم إياه.
وعن معاذ بن جبل قال: ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال لا، إلا أن يضرب بسيفه حتى ينقطع لأن الله يقول في كتابه العزيز (ولذكر الله أكبر).
وعن عنترة قال: قلت لابن عباس أي العمل أفضل؟ قال ذكر الله.
وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - ﷺ -: " ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم؟ وأرفعها في درجاتكم؟ وخير لكم من إعطاء الذهب
199
والورق، وخير لكم من أن تلقوا أعداءكم، فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: ذكر الله " أخرجه الترمذي.
وله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله - ﷺ - سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: " الذاكرون الله كثيراً، قالوا: يا رسول الله ومن الغازي في سبيل الله؟ فقال: لو ضرب بسيفه الكفار والمشركين حتى ينكسر، ويختضب دماً لكان الذاكرون الله كثيراً أفضل منه درجة ".
وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - ﷺ -: " سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات ". وأخرج البخاري عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما شهدا على رسول الله - ﷺ - أنه قال: " لا يقعد قوم يذكرون الله، إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده ".
وروي أن أعرابياً قال: يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟ قال: " تفارق الدنيا ولسانك رطب بذكر الله " وفي الباب أحاديث كثيرة لا نطول بذكرها. قال ابن عطاء: أكبر أي أن تبقى معه معصية، وقيل: ذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته. وقيل: لأن ذكره بلا علة وذكركم مشوب بالعلل والأماني، ولأن ذكره لا يفنى وذكركم لا يبقى أو ذكره أكبر من أن تحويه أفهامكم وعنولكم، والذكر النافع هو الذي يكون مع العلم، وإقبال القلب وتفرغه مما سوى الله تعالى، وأما ما لا يتجاوز اللسان ففي رتبة أخرى.
(والله يعلم ما تصنعون) من الذكر ومن سائر الطاعات لا يخفى عليه من ذلك خافية فهو مجازيكم بالخير خيراً وبالشر شراً، ثم شرع سبحانه في بيان إرشاد أهل الكتاب بعد بيان إرشاد أهل الشرك فقال:
200
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (٤٧)
201
(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) أي: بالخصلة التي هي أحسن للثواب، وذلك على سبيار الدعاء لهم إلى الله عز وجل، والتنبيه لهم على حججه وبراهينه رجاء إجابتهم إلى الإسلام لا على طريق الإغلاظ والمخاشنة، وعن ابن عباس قال: بالتي هي أحسن، بلا إله إلا الله.
(إلا الذين ظلموا منهم) بأن أفرطوا في المجادلة، ولم يتأدبوا مع المسلمين فلا بأس بالإغلاظ عليهم، والتخشين في مجادلتهم، هكذا فسر الآية أكثر المفسرين بأن المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وقيل: معنى الآية لا تجادلوا من آمن بمحمد - ﷺ -. من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام، وسائر من آمن منهم إلا بالتي هي أحسن، يعني بالموافقة فيما حدثوكم به، من أخبار أهل الكتاب، ويكون المراد بالذين ظلموا على هذا هم الباقون على كفرهم.
قال مجاهد: هذه الآية محكمة فيجوز مجادلتهم بها، وقيل: هي منسوخة بآية القتال، وبذلك قال قتادة ومقاتل، قال النحاس وغيره: من قال هي منسوخة احتج بأن الآية مكية ولم يكن في ذلك الوقت قتال مفروض، ولا طلب جزية ولا غير ذلك. وقول مجاهد حسن، لأن أحكام الله عز وجل لا يقال فيها إنها منسوخة، إلا بخبر يقطع العذر أو حجة من معقول، واختار هذا
201
القول ابن العربي.
قال سعيد بن جبير ومجاهد: المراد بالذين ظلموا منهم الذين نصبوا القتال للمسلمين، وآذوا رسول الله - ﷺ - فجادلهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية. وقيل: إلا الذين أثبتوا الولد والشريك فيدخل فيه أهل الشرك وعبدة الأوثان، والآية تدل على جواز المناظرة مع الكفرة في الدين وعلى جواز تعلم علم الكفار الذي به تتحقق المجادلة الحقة بالتي هي أحسن، قال السمين: الاستثناء متصل وفيه معنيان: أحدهما: إلا الظلمة، فلا تجادلوهم البتة بل جادلوهم بالسيف والثاني: جادلوهم بغير التي هي أحسن أي: اغلظوا لهم كما اغلظوا عليكم وقرأ ابن عباس (ألا) حرف تنبيه أي: فجادلوهم:
(وقولوا) هذا تبيين لمجادلتهم بالتي هي أحسن: (آمنا بالذي أنزل إلينا) من القرآن (وأنزل إليكم) من التوراة والإنجيل، أي بأنهما منزلان من عند الله وأنهما شريعة ثابتة إلى قيام الشريعة الإسلامية، والبعثة المحمدية، ولا يدخل في ذلك ما حرفوه وبدلوه.
أخرج البخاري والنسائي وابن جرير والبيهقي وغيرهم عن أبي هريرة قال: كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله - ﷺ -: " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا وإليكم ".
وأخرج البيهقي وأبو نصر السجزي في الإبانة عن جابر ابن عبد الله قال: قال: رسول الله - ﷺ -: " لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تصدقوا بباطل أو تكذبوا بحق، والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني ".
وعن ابن مسعود قال: لا تسألوا أهل الكتاب، وذكر نحو حديث جابر، ثم قال: فإن كنتم سائليهم لا محالة فانظروا ما واطأ كتاب الله فخذوه،
202
وما خالف كتاب الله فدعوه وهذه الآية من جنس المجادلة بالأحسن.
(وإلهنا وإلهكم واحد) لا شريك له، ولا ند، ولا ضد (ونحن له مسلمون) أي: ونحن معاشر أمة محمد - ﷺ - مطيعون له خاصة لم نقل عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله، ولا اتخذنا أحبارنا ورهباننا أرباباً من دون الله، ويحتمل أن يراد ونحن جميعاً منقادون له، ولا يقدح في هذا الوجه كون انقياد المسلمين أتم من انقياد أهل الكتاب، وطاعتهم أبلغ من طاعتهم.
203
(وكذلك أنزلنا) هذا خطاب لرسول الله - ﷺ - والإشارة إلى مصدر الفعل كما بيناه في مواضع كثيرة أي ومثل ذلك الإنزال البديع أنزلنا (إليك الكتاب) وهو القرآن، وقيل: المعنى كما أنزلنا الكتاب عليهم أنزلنا عليك القرآن.
(فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به) يعني مؤمني أهل الكتاب كعبد الله ابن سلام وغيره، وخصهم بإيتائهم الكتاب لكونهم العاملين به، وكأن غيرهم لم يؤتوه لعدم عملهم بما فيه، وجحدهم لصفات رسول الله - ﷺ - المذكورة فيه، وكان إسلامهم بالمدينة والسورة مكيّة، فهذا من قبيل الإخبار بالغيب أخبره تعالى بحالهم قبل وقوعه.
(ومن هؤلاء) إشارة إلى أهل مكة، والمراد أن منهم وهو من قد أسلم (من يؤمن به) أي بالقرآن، وقيل: إشارة إلى جميع العرب (وما يجحد بآياتنا) أي القرآن، والجحود إنما يكون بعد المعرفة، وعبر عن الكتاب بالآيات للتنبيه على ظهور دلالتها على معانيها، وعلى كونها من عند الله تعالى وأضيفت إلى نون العظمة لمزيد تفخيمها، وغاية التشنيع على من يجحد بها.
(إلا الكافرون) المصممون على كفرهم المتوغلون فيه من المشركين، ومن أهل الكتاب ككعب بن الأشرف وأضرابه فإن ذلك يصدهم عن التأمل فيما يؤديهم إلى معرفة حقيقتها.
203
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠)
204
(وما كنت) يا محمد (تتلو من قبله من كتاب) أي من قبل القرآن كتاباً، ولا تقدر على ذلك، لأنك أميّ لا تقرأ ولا تكتب. و (من) زائدة. (ولا تخطه بيمينك) أي ولا تكتبه لأنك لا تقدر على الكتابة، وخص اليمين لأن الكتابة، غالباً تكون باليمين، أي ولا كنت كاتباً، قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمداً - ﷺ - لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية قال النحاس: وذلك دليل على نبوته لأنه لا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب ولم يكن بمكة أهل الكتاب، فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم.
قال ابن عباس: لم يكن رسول الله - ﷺ - يقرأ ولا يكتب، وكان أمياً، قال الحافظ بن حجر في تخريج أحاديث الرافعي: قال البغوي في التهذيب: هل كان النبي - ﷺ - يحسن الخط ولا يكتب ويحسن الشعر ولا يقوله أو لا؟ والأصح أنه كان لا يحسنهما ولكن كان يميز بين رديء الشعر وجيده، ذكره الشهاب وما أحسن ما قال آزاد رحمه الله:
ما كان يعرف ألواحاً ولا قلماً وكان يعرف ما في اللوح والقلم
وهذا شروع في الدليل على كون القرآن معجزاً (إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) أي لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط لقالوا لعله وجد ما يتلوه علينا من كتب الله السابقة من الكتب المدونة في أخبار الأمم، فلما كنت أمياً لا تقرأ ولا تكتب لم يكن هناك موضع للريبة، ولا محل للشك أبداً، بل إنكار من أنكر وكفر من كفر، مجرد عناد وجحود بلا شبهة، وسماهم المبطلين لأن ارتيابهم
204
على تقدير أنه - ﷺ - يقرأ ويكتب ظلم منهم، لظهور نزاهته، ووضوح معجزاته.
205
(بل هو) أي القرآن الذي جئت به (آيات بينات) وقال قتادة ومقاتل: إن الضمير يرجع إلى النبي - ﷺ - أي بل محمد آيات، أي ذو آيات، وقرأ ابن مسعود: بل هي آيات بينات، قال الفراء معنى هذه القراءة بل آيات القرآن آيات بينات، واختار ابن جرير ما قاله قتادة ومقاتل، وقد استدل لما قالاه بقراءة ابن السميفع بل هذا آيات بينات، ولا دليل في هذه على ذلك، لأن الإشارة يجوز أن تكون إلى القرآن كما جاز أن تكون إلى النبي - ﷺ -، بل رجوعها إلى القرآن أظهر لعدم احتياج ذلك إلى التأويل؛ وهو إضراب عن ارتيابهم أي ليس القرآن مما يرتاب فيه لكونه محفوظاً.
(في صدور الذين أوتوا العلم) يعني العلماء المؤمنين الذين حفظوا القرآن على عهده - ﷺ -، وحفظوه بعده عن ظهر قلب، وهذا من خصائص القرآن بخلاف سائر الكتب فإنها لم تكن معجزات، ولا كانت تقرأ إلا من المصاحف، ولذا جاء في وصف هذه الأمة صدورهم أناجيلهم، ولذلك لا يقدرون على تحريفه ولا تغييره، والمراد أنهم يحفظونه تلقيناً منك، وبعضهم من بعض، وأنت تلقيته عن جبريل عن اللوح المحفوظ فلم تأخذه من كتاب بطريق تلقيه منه.
(وما يجحد بآياتنا) أي القرآن الكريم (إلا الظالمون) أي المجاوزون للحد، والمتوغلون في الظلم،
(وقالوا) أي المشركون (لولا أنزل عليه آيات من ربه) المعنى هَلا أنزلت عليه آيات كآيات الأنبياء وذلك كآيات موسى، وناقة صالح، وإحياء المسيح للموتى، ثم أمره الله سبحانه أن يجيب عليهم فقال:
(قل إنما الآيات عند الله) ينزلها على من يشاء من عباده، ولا قدرة لأحد على ذلك (وإنما أنا نذير مبين) أنذركم بما أمرت وأبين لكم كما ينبغي ليس في قدرتي غير ذلك.
205
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٥٢)
206
(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ) مستأنفة للرد على اقتراحهم، وبيان بطلانه أي أو لم يكف المشركين من الآيات التي اقترحوها هذا الكتاب المعجز الذي قد تحديتهم بأن يأتوا بمثله أو بسورة منه فعجزوا ولو أتيتهم بآيات موسى أو بآيات غيره من الأنبياء لقالوا: سحر، ونحن لا نعرف السحر والكلام مقدور لهم ومع ذلك عجزوا عن المعارضة ولما آمنوا كما لم يؤمنوا بالقرآن الذي يتلى عليهم في كل زمان ومكان فلا تزال معهم آية ثابتة لا تزول كما تزول كل آية بعد كونها، أو تكون في مكان دون مكان، والمعنى أن القرآن معجزة أتم من معجزة من تقدم من الأنبياء، مغنية عن سائر الآيات، لأن معجزة القرآن تدوم على مر الدهور والزمان، ثابتة لا تضمحل كغيرها من الآيات.
(إن في ذلك) الكتاب الموجود في كل مكان وزمان إلى آخر الدهور الموصوف بما ذكر (لرحمة) عظيمة في الدنيا والآخرة (وذكرى) في الدنيا يتذكرون بها وترشدهم إلى الحق (لقوم يؤمنون) أي لقوم يصدقون بما جئت به من عند الله فإنهم هم الذين ينتفعون بذلك.
أخرج الدارمي وأبو داود في مراسيله وغيرهما. عن يحيى بن جعدة قال: جاء أناس من المسلمين بكتب قد كتبوها، فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي - ﷺ -: " كفى بقوم حمقاً أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم، فنزلت، أو لم يكفهم الآية ".
وعن الزهري: إن حفصة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكتاب من قصص يوسف في كتف فجعلت تقرؤه، والنبي - ﷺ - يتلون وجهه
206
فقال: " والذي نفسي بيده لو أتاكم يوسف وأنا بينكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم ".
وعن عبد الله بن الحرث الأنصاري قال: دخل عمر بن الخطاب على النبي - ﷺ - بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال: هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك: فتغير وجه رسول الله - ﷺ - تغيراً شديداً لم أر مثله قط فقال عبد الله بن الحرث لعمر: أما ترى وجه رسول الله - ﷺ -؟ فقال عمر: رضينا بالله رباً؛ وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً فسرى عن رسول الله - ﷺ - وقال " لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النبيين، وأنتم حظي من الأمم ". أخرجه عبد الرازق وابن سعد وابن الضريس.
وأخرج البيهقي وضعفه، عن عمر بن الخطاب قال: سألت رسول الله - ﷺ - عن تعلم التوراة فقال: لا تتعلمها وآمن بها، وتعلموا ما أنزل إليكم وآمنوا به ".
207
(قل كفى بالله بيني وبينكم شهيداً) أي قل للمكذبين: كفى الله شهيداً بما وقع بيني وبينكم، وقال ابن عباس: معناه يشهد لي إني رسوله والقرآن كتابه ويشهد عليكم بالتكذيب، وشهادة الله إثبات المعجزة له بإنزال الكتاب عليه والقرآن وحده كاف واف لا حاجة معه إلى غيره من الكتب لمن آمن به وعمل صالحاً.
(يعلم ما في السماوات والأرض) لا تخفى عليه من ذلك خافية، ومن جملته ما صدر بينكم وبين رسوله - ﷺ - (والذين آمنوا بالباطل) أي بما يعبدونه من دون الله، قال ابن عباس: بالباطل أي بغير الله، وقيل: بعبادة الشيطان وقيل: بما سوى الله، والمعاني متقاربة، ثم ذكر الكفر بعد الباطل لبيان قبح الأول فقال:
(وكفروا بالله) وآياته، والجملة مؤكدة لما قبلها (أولئك هم الخاسرون) الجامعون بين خسران الدنيا والآخرة في صفقتهم حيث اشتروا الكفر بالإيمان.
207
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥)
208
(ويستعجلونك بالعذاب) استهزاء وتكذيباً منهم بذلك، كقولهم أمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم (ولولا أجل مسمى) قد جعله الله لعذابهم، وعينه، وهو القيامة، وقال الضحاك: الأجل مدة أعمارهم لأنهم إذا ماتوا صاروا إلى العذاب؛ وقيل. المراد بالأجل المسمى النفخة الأولى، وقيل: الوقت الذي قدره الله لعذابهم في الدنيا بالقتل أو الأسر يوم بدر، والحاصل أن لكل عذاب أجلاً لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه، كما في قوله سبحانه (لكل نبأ مستقر).
(لجاءهم العذاب) أي لولا ذلك الأجل المضروب لجاءهم العذاب الذي يستحقونه بذنوبهم عاجلاً (وليأتينهم بغتة) أي فجأة كوقعة بدر فإنها أتتهم بغتة والجملة مستأنفة مبينة لمجيء العذاب المذكور قبلها (وهم لا يشعرون) أي حال كونهم لا يعلمون بإتيانه على ما تشهد لهم كتب السير، ثم ذكر سبحانه أن موعد عذابهم النار فقال:
(يستعجلونك بالعذاب) أي يطلبون منك تعجيل عذابهم في الدنيا، ذكر هذا للتعجب لأن من توعد بأمر فيه ضرر يسير كلطمة أو لكمة، قد يرى من نفسه الجلد ويقول: باسم الله هات وأما من توعد بإغراق أو إحراق ويقطع بأن المتوعد قادر لا يخلف الميعاد، فلا يخطر بباله أن يقول هات ما توعدتني به فقوله ويستعجلونك بالعذاب أولا إخبار عنهم، وقوله ثانياً: يستعجلونك بالعذاب تعجب منهم وقيل: التكرير للتأكيد.
(وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) أي: والحال أن مكان العذاب محيط
208
بهم أي سيحيط بهم عن قرب، فإن ما هو آت قريب فعبر عن الاستقبال بالحال للدلالة على التحقق والمبالغة أو يراد بجهنم أسبابها الموصلة إليها فلا تأويل في قوله: محيطة، والأول أظهر، والمراد بالكافرين جنسهم، فيدخل فيه هؤلاء المستعجلون دخولاً أولياً، والمعنى أن جهنم جامعة لهم لا يبقى منهم أحد إلا دخلها.
قال ابن عباس: جهنم هو هذا البحر الأخضر تنتثر الكواكب فيه، وتكون فيه الشمس والقمر، ثم يستوقد فيكون هو جهنم، وفي هذا نكارة شديدة! فإن الأحاديث الكثيرة الصحيحة ناطقة بأن جهنم موجودة مخلوقة على الصفات التي ورد بها الكتاب والسنة، ثم ذكر سبحانه كيفية إحاطة العذاب بهم فقال:
209
(يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم) أي من جميع جهاتهم لقوله تعالى (من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل)، فإذا غشيهم العذاب على هذه الصفة فقد أحاطت بهم جهنم. قيل: خص الجانبين ولم يذكر اليمين ولا الشمال، ولا الخلف ولا الأمام، لأن المقصود ذكر ما تتميز به نار جهنم عن نار الدنيا، فنار الدنيا تحيط بالجوانب الأربع، فإن من دخلها تكون الشعلة قدامه وخلفه ويمينه وشماله، وأما النار من فوق فلا تنزل وإنما تصعد من أسفل في العادة، وتحت الأقدام لا تبقى الشعلة التي تحت القدم بل تطفأ، ونار جهنم تنزل من فوق ولا تطفأ بالدوس عليها بوضع القدم، ذكره الرازي.
(ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون) والقائل هو الله سبحانه وتعالى أو بعض ملائكته بأمره في ذلك اليوم، أي ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون من الكفر والمعاصي، فلا تفوتوننا قرئ: نقول بالنون وبالتحتية لقوله: قل كفى بالله، وقرئ: ويقال ذوقوا، ولما ذكر سبحانه حال الكفرة من أهل الكتاب ومن المشركين وجمعهم في الإنذار، وجعلهم من أهل النار اشتد عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المسلمين بكل وجه فقال الله سبحانه:
209
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (٥٧)
210
(يا عبادي الذين آمنوا) أضافهم إليه بعد خطابه لهم تشريفاً وتكريماً، والموصول صفة موضحة أو مميزة (إن أرضي واسعة) قيل: نزلت في ضعفاء مسلمي أهل مكة، يقول الله: إن كنتم في ضيق في مكة من إظهار الإيمان، وفي مكايدة للكفار فأخرجوا منها لتتيسر لكم عبادتي وحدي، وتتسهل عليكم.
وقيل: نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة، وقالوا: نخشى إن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة، فأنزل الله هذه الآية ولم يعذر لهم بترك الخروج. قال الزجاج: أمروا بالهجرة من الموضع الذي لا تمكنهم فيه عبادة الله، وكذلك يجب على كل من كان في بلد يعمل فيها بالمعاصي ولا يمكنه تغيير ذلك أن يهاجر إلى حيث يتهيأ أن يعبد الله حق عبادته، وقال مطرف بن الشخير: المعنى أن رحمتي واسعة ورزقي لكم واسع، فابتغوه في الأرض. وقيل: البلاد والبقاع تتفاوت في ذلك تفاوتاً كثيراً، قال علي القارى رحمه الله: وأما اليوم فإنا بحمد الله لم نجد أعون على قهر النفس، وأجمع للقلب، وأحث على القناعة، وأطرد للشيطان، وأبعد من الفتن وأربط للأمر الديني، وأظهر له من مكة حرسها الله تعالى (١).
أقول: لولا ما فيها الآن من استطالة أهل البدع على أهل السنة وإيثار التنظيمات السلطانية على الأحكام الرحمانية، وظلم أهل المكس على الحجاج، وعدم الانتصاف من أهل الاعتساف، والحجر على العمل بالسنة، والتمسك بالحق، والله يفعل ما يشاء ويحكم على ما يريد.
_________
(١) من أول (أقول) كلام المصنف الذي ينعي على الحجاز ما كان في عهده من فراهة الشر واستفحال أهل الحرابة وقطاع الطرق. المطيعي.
210
قال سهل: إذا ظهرت المعاصي والبدع في أرض فأخرجوا منها إلى أرض المطيعين، قلت وأنى لنا هذا اليوم؟ ولو علمنا أرضاً طائعة على وجه البسيطة على حسب ما نطق به الكتاب والسنة أو ما ذهب إليه فقهاء الأمة لخرجنا إليها إن شاء الله تعالى، ولكن كم من أمنية ضاعت فإنا لله وإنا إليه راجعون، وروي مرفوعاً: من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبراً من الأرض استوجب الجنة، ولينظر في سنده وتخريجه، وقيل: المعنى: إن أرضي التي هي أرض الجنة واسعة.
(فإياي فاعبدون) حتى أورثكموها، وانتصاب إياي بفعل مضمر، أي: فاعبدوا إياي، ثم لما صعب على المؤمنين ترك الأوطان، ومفارقة الإخوان، خوفهم سبحانه بالموت ليهون عليهم أمر الهجرة، وشجع المهاجرين لئلا يقيموا بدار الشرك خوفاً من الموت فقال:
211
(كل نفس) من النفوس (ذائقة الموت) أي: واجدة مرارة الموت وكربه ومشاقه لا محالة كما يجد الذائق طعم المذوق فلا يصعب عليكم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان، وهجر الخلان، بل الأولى أن يكون ذلك في سبيل الله فيجازيكم عليه، فلا تخافوا من بعد الشقة ومقاساة المشقة (ثم إلينا) لا إلى غيرنا.
(ترجعون) بالموت والبعث إلينا فكل حي في سفر إلى دار القرار، وإن طال لبثه في هذه الدار.
عن عليّ قال: قال رسول الله - ﷺ - لما نزلت: (إنك ميت وإنهم ميتون) قلت: يا رب أيموت الخلائق كلهم ويبقى الأنبياء؟ فنزلت كل نفس ذائقة الموت، الآية أخرجه ابن مردويه، وينظر كيف صحته؟ فإن النبي - ﷺ - بعد أن يسمع قول الله سبحانه: (إنك ميت وإنهم ميتون) يعلم أنه ميت، وقد علم أن من قبله من الأنبياء قد ماتوا، وأنه خاتم الأنبياء، فكيف ينشأ عن هذه الآية ما نقل عنه علي رضي الله عنه من قوله أيموت الخلائق ويبقى الأنبياء؟ فلعل هذه الرواية لا تصح مرفوعة ولا موقوفة.
211
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٦٣)
212
(والذين آمنوا وعملوا الصالحات) في هذا ترغيب إلى الهجرة، وأن جزاء من هاجر أن يكون في غرف الجنة كما قال (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) أي لننزلنهم، وهو مأخوذ من المباءة وهي الإنزال، وقرئ لنثوينهم بالثاء، والمعنى لنعطينهم غرفاً يثوون فيها من الثوى، وهو الإقامة قال الزجاج: يقال: ثوى الرجل إذا أقام وأثويته إذا أنزلته منزلاً يقيم فيه. قال الأخفش: لا تعجبني هذه القراءة لأنك لا تقول: أثويته الدار، بل تقول: في الدار، وليس في الآية حرف جر في الفعول الثاني.
(من الجنة غرفاً) أي: غرف الجنة وهي علاليها جمع علية، ثم وصف سبحانه تلك الغرف فقال (تجري من تحتها الأنهار) أي من تحت الغرف (خالدين فيها) أي مقدرين الخلود في الغرف، لا يموتون أبداً، أو في الجنة، والأول أولى.
(نعم أجر العاملين) للأعمال الصالحة أجرهم، بيَّن في هذه الآية: أن للمؤمنين الجنات في مقابلة أن للكافرين النيران، وأن فيها غرفاً تحتها الأنهار: في مقابلة أن تحت الكافرين النار، وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله: نعم أجر العاملين في مقابلة ما تقدم للكفار بقوله: ذوقوا ما كنتم تعملون، ولم يذكر
212
ما فوق المؤمنين لأنهم في أعلى عليين فلم يذكر فوقهم شيئاًً إشارة إلى علو مرتبتهم، وارتفاع منزلتهم، ولم يجعل الماء من تحت أقدامهم، بل من تحت غرفهم لأن الماء يكون ملتذاً به في أي جهة كان، وعلى أي بعد كان إذا كان تحت الغرفة ذكره الرازي، ثم وصف هؤلاء العاملين بقوله:
213
(الذين صبروا) على مشاق التكاليف، وعلى أذية المشركين لهم، والهجرة لإظهار الدين وعلى الطاعة، وعن المعاصي، ولم يتركوا دينهم لشدة لحقتهم (وعلى ربهم يتوكلون) أي: يفوضون أمورهم إليه في كل إقدام وإحجام، ثم ذكر سبحانه ما يعين على الصبر والتوكل، وهو النظر في حال الدواب فقال:
(وكأين) قد تقدم الكلام فيها وأنها أي دخلت عليها كاف التشبيه، وصار فيها معنى كم كما صرح به الخليل وسيبويه، وتقديرها عندهما كشيء كثير من العدد (من دابة) وقيل: المعنى وكم من دابة ذات حاجة إلى غذاء (لا تحمل رزقها) أي لا تطيق حمله لضعفها، ولا تدخره لغد، ولا ترفعه معها مثل البهائم والطير.
(الله يرزقها وإياكم) أي إنما يرزقها الله من فضله ويرزقكم، فكيف لا تتوكلون على الله مع قوتكم وقدرتكم على أسباب العيش كتوكلها على الله مع ضعفها وعجزها. قال الحسن: تأكل لوقتها لا تدخر شيئاًً، وقال مجاهد: يعني الطير والبهائم تأكل بأفواهها ولا تحمل شيئاًً.
وعن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله - ﷺ - يقول: " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً " أخرجه الترمذي وقال حديث حسن، والمعنى أنها تذهب أول النهار جياعاً ضامرة البطون وتروح آخر النهار إلى أوكارها شباعاً ممتلئة البطون، ولا تدخر شيئاًً. قال سفيان بن عيينة: ليس شيء من خلق الله يخبئ إلا الإنسان والفأرة والنملة، سوى سبحانه وتعالى في هذه الآية بين الحريص والمتوكل في الرزق، وبين الراغب والقانع، وبين الجلد والعاجز يعني أن الجلد لا يتصور
213
أنه مرزوق بجلده، ولا يتصور العاجز أنه ممنوع من الرزق بعجزه.
(وهو السميع) الذي يسمع كل مسموع (العليم) بكل معلوم.
أخرج عبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي، وابن عساكر، قال السيوطي: بسند ضعيف عن ابن عمر قال: خرجت مع رسول الله - ﷺ - حتى دخل بعض حيطان المدينة فجعل يلتقط التمر ويأكل، قال لي: مالك لا تأكل؟ قلت: لا أشتهيه يا رسول الله، قال: لكني أشتهيه، وهذه صبح رابعة منذ لم أذق طعاماً، ولم أجده، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم ويضعف اليقين؟ قال: فوالله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت:
214
(وكأين من دابة لا تحمل رزقها)، فقال رسول الله - ﷺ -: " إن الله لم يأمرني بكنز الدنيا ولا باتباع الشهوات، ألا وإني لا أكنز ديناراً ولا درهماً؛ ولا أخبئ رزقاً لغد "، وهذا الحديث فيه نكارة شديدة لمخالفته ما كان عليه النبي - ﷺ - فقد كان يعطي نساءه قوت العام كما ثبت ذلك في كتب الحديث المعتبرة، وفي إسناده أبو العطوف (١) الجوزي وهو ضعيف. ثم إنه سبحانه ذكر حال المشركين من أهل مكة وغيرهم، وعجب السامع من كونهم يقرون بأنه خالقهم ورازقهم ولا يوحدونه ولا يتركون عبادة غيره فقال:
_________
(١) كذا بالأصل وصوابه: أبو العطوف الجزري وهو الجراح بن منهال روى عن الزهري قال أحمد: كان صاحب غفلة، وقال ابن المديني: لا يكتب حديثه. وقال البخاري ومسلم: منكر الحديث. وقال النسائي، والدارقطني: متروك. وقال ابن حبان: كان يكذب في الحديث ويشرب الخمر. مات سنة سبع وستين ومائة؟ المطيعي.
(ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض) أتى بشيئين، أحدهما يتعلق بالذوات؛ وهو هذا، والثاني يتعلق بالصفات، وهو قوله (وسخر الشمس والقمر ليقولن الله)، خلقها، لا يقدرون على إنكار ذلك، ولا يتمكنون من جحوده. (فأنى يأفكون)؟ أي: فكيف يصرفون عن الإقرار بتفرده بالإلهية؟
214
وأنه وحده لا شريك له؟ والاستفهام للإنكار والاستبعاد. ذكر في السماوات والأرض الخلق، وفي الشمس والقمر التسخير، لأن مجرد خلقهما ليس حكمة، فإن الشمس لو كانت مخلوقة بحيث تكون في موضع واحد لا تتحرك ما حصل الليل والنهار، ولا الصيف ولا الشتاء، فحينئذ الحكمة إنما هي في تحريكهما وتسخيرهما، ولما قال المشركون لبعض المؤمنين: لو كنتم على حق لم تكونوا فقراء دفع الله سبحانه ذلك بقوله:
215
(الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له) أي التوسيع في الرزق والتقتير له هو من الله الباسط القابض، يبسطه لمن يشاء، ويضيقه على من يشاء، على حسب ما تقتضيه حكمته، وما يليق بأحوال عباده من القبض والبسط، ولهذا قال: (إن الله بكل شيء عليم) يعلم ما فيه صلاح عباده وفسادهم ومنه البسط والتضييق.
(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا) أي جدبها، وقحط أهلها (ليقولن الله) أي يعترفون بذلك لا يجدون إلى إنكاره سبيلاً فكيف يشركون به بعد هذا الإقرار؟ ثم لما اعترفوا هذا الاعتراف في هذه الآيات؛ وهو يقتضي بطلان ما هم عليه من الشرك وعدم إفراد الله سبحانه بالعبادة أمر الله رسوله - ﷺ - أن يحمد الله على إقرارهم بذلك وعدم جحودهم، مع تصلبهم في العناد، وتشددهم في رد كل ما جاء به رسول الله - ﷺ - من التوحيد، فقال:
(قل الحمد لله) أي: أحمد الله على أن جعل الحق معك، وأظهر حجتك عليهم، وقيل: على إنزال الماء، وإحياء الأرض بالنبات، والأول أولى، ثم ذمهم فقال: (بل أكثرهم لا يعقلون) الأشياء التي يتعقلها العقلاء فلذلك لا يعلمون بمقتضى ما اعترفوا به مما يستلزم بطلان ما هم عليه عند كل عاقل، ثم أشار سبحانه إلى تحقير الدنيا وتصغيرها، وأنها من جنس اللعب واللهو، وهي لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأن الدار على الحقيقة هي الدار الآخرة فقال:
215
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦)
216
(وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب) أي: من جنس ما يلهو به الصبيان ويلعبون به، وأما القرب، كالصلاة، والصوم والحج والاستغفار، والتسبيح فمن أمور الآخرة لظهور ثمرتها فيها. واللهو هو الاستمتاع بلذات الدنيا وقيل: هو الاشتغال بما لا يعنيه وما لا يهمه، واللعب هو العبث، وقيل: اللهو هو الإعراض عن الحق بالكلية، واللعب: الإقبال على الباطل، قاله الرازي. وفي هذا تصغير للدنيا وازدراء بها، ومعنى الآية أن سرعة زوال الدنيا عن أهلها، وتقلبهم فيها، وموتهم عنها، كما يلعب الصبيان ساعة ثم ينصرفون.
(وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ) أي الحياة الدائمة الخالدة التي لا موت فيها، قال أبو عبيدة، وابن قتيبة: إن الحيوان الحياة، قال الواحدي وهو قول جميع المفسرين، ذهبوا إلى أن معنى الحيوان هاهنا الحياة، وأنه مصدر، بمنزلة الحياة فيكون كالنزوان والغليان، وواو الحيوان مقلوبة عن ياء عند سيبويه وأتباعه، وقال أبدلت شذوذاً وكذا في حياة علماً (١) وقال أبو البقاء: لئلا يلتبس بالتثنية، وغير سيبويه، حمل ذلك على ظاهره، فالحياة عنده لامها واو، ولا دليل لسيبويه في حي، لأن الواو متى انكسر ما قبلها قلبت ياء نحو: عرى ورعى ورضى، والتقدير لهي دار الحيوان أو ذات الحيوان، أي: دار الحياة الباقية التي لا تزول، أو لا ينغصها موت ولا مرض ولا هم ولا غم، وقدر أبو البقاء أن حياة الدار وذلك ليتطابق المبتدأ والخبر والمبالغة أحسن: قال ابن عباس هي الحيوان؛ أي الباقية.
_________
(١) فعل ماض مبني للمجهول والألف للإطلاق، ويبدو أنها شطرة من رجز. المطيعي.
216
وعن أبي جعفر قال: قال رسول الله - ﷺ -: " يا عجباً كل العجب من مصدق بدار الحيوان، وهو ليسعى لدار الغرور " أخرجه ابن أبي الدنيا والبيهقي في الشعب وهو مرسل (لو كانوا يعلمون) أن الحياة هي حياة الآخرة، أو يعلمون شيئاًً من العلم لما آثروا الدار الفانية المنغصة على الآخرة الباقية، ثم بين سبحانه أنه ليس المانع لهم من الإيمان إلا مجرد تأثير الحياة فقال:
217
(فإذا ركبوا في الفلك) أي: إذا انقطع رجاؤهم من الحياة وخافوا الغرق فقال: رجعوا إلى الفطرة، والركوب هو الاستعلاء وهو متعد بنفسه، وإنما عدى بكلمة (في) للإشعار بأن المركوب في نفسه من قبيل الأمكنة (دعوا الله) وحده (مخلصين له الدين) بصدق نياتهم، وتركهم عند ذلك لدعاء الأصنام لعلمهم أنه لا يكشف هذه الشدة العظيمة النازلة بهم غير الله سبحانه.
(فلما نجاهم إلى البر) وآمنوا (إذا هم يشركون) أي فاجأوا المعاودة إلى الشرك ودعوا غير الله سبحانه، وعادوا إلى ما كانوا عليه من العناد. وقيل: كان أهل الجاهلية إذا ركبوا البحر حملوا الأصنام، فإذا اشتد الريح ألقوها في البحر، وقالوا يا رب يا رب
(ليكفروا بما آتيناهم) من نعمة الإنجاء.
(وليتمتعوا) أي فاجأوا الشرك بالله ليكفروا ويجحدوا بنعمة الله وليتمتعوا بها، فاللام في الفعلين لام كي، وفيه شيء لأنه ليس الحامل لهم على الإشراك قصد الكفر، والظاهر أنها لام العاقبة والمآل، كما أشار له الشهاب، وقيل: اللام للتعليل، والمعنى لا فائدة لهم في الإشراك إلا التمتع به في العاجلة ولا نصيب لهم في الآخرة. وقيل: هما لاما الأمر تهديداً ووعيداً أي: اكفروا بما أعطيناكم من النعمة، وتمتعوا. ويدل على هذا المعنى قراءة أبيّ وتمتعوا، وهذا الاحتمال للأمرين إنما هو على قراءة أبي عمرو، وورش بكسر اللام، وأما على قراءة الجمهور بسكونها، فلا خلاف أنها لام الأمر.
(فسوف يعلمون) عاقبة ذلك الأمر وما فيه من الوبال عليهم، وفيه تهديد لهم عظيم.
217
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)
218
(أولم يروا) أي ألم ينظر كفار قريش (أنا جعلنا) حرمهم أي بلدهم مكة (حرماً آمناً) يأمن فيه ساكنه من الغارة، والقتل، والسبي، والنهب، فصاروا في سلامة وعافية مما صار فيه غيرهم من العرب، فإنهم في كل حين تطرقهم الغارات، ويجتاح أموالهم الغزاة، وتسفك دماءهم الجنود وتستبيح حرمهم وأموالهم شطار العرب وشياطينها.
(ويتخطف الناس) جملة حالية، أي وهم يتخطف الناس (من حولهم) بالقتل والسبب والنهب والخطف: الأخذ بسرعة، وقد مضى تحقيق معناه في سورة القصص، والجملة حالية (أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ)؟ وهو الشرك والأصنام والشيطان بعد ظهور حجة الله عليهم وإقرارهم بما يوجب التوحيد (وبنعمة الله يكفرون) أي بمحمد ﷺ والإسلام ويجعلون كفرها مكان شكرها وفي هذا الاستفهام من التقريع والتوبيخ ما لا يقادر قدره.
(ومن) أي: لا أحد (أظلم ممن افترى على الله كذباً)؟ وهو من زعم أن لله شريكاً (أو كذب بالحق لما جاءه) أي كذب بالرسول الذي أرسل إليه، أو الكتاب الذي أنزله على رسوله. وقال السدي: بالتوحيد والظاهر شموله لما يصدق عليه أنه حق، ثم هدد المكذبين وتوعدهم فقال:
(أليس في جهنم مثوى للكافرين)؟ أي مكان يستقرون فيه،
218
والاستفهام للتقرير، والمعنى أليس يستحقون الاستقرار فيها؟ وقد فعلوا ما فعلوا لأن همزة الإنكار، إذا دخلت على النفي صار إيجاباً فيرجع إلى معنى التقرير. أو ألم يصح عندهم أن جهنم مثواهم حين اجترأوا مثل هذه الجرأة؟ ثم لما ذكر حال المشركين الجاحدين التوحيد، الكافرين بنعم الله، أردفه بحال عباده الصالحين فقال:
219
(والذين جاهدوا) أي: أوقعوا الجهاد بغاية جهدهم، على ما دل عليه بالمفاعلة (فينا) أي: في شأن الله لطلب مرضاته، ورجاء ما عنده من الخير وقيل: في حقنا ومن أجلنا ولوجهنا خالصا، ومراقبتنا، خاصة بلزوم الطاعات من جهاد الكفار، وغيرهم من كل ما ينبغي الجهاد فيه، بالقول والفعل، في الشدة والرخاء، ومخالفة الهوى عند هجوم الفتن، وشدائد المحن مستحضرين لعظمتنا.
(لنهدينهم سبلنا) أي سبل السير والطريق الموصل إلينا وقيل: لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير، وتوفيقاً. وعن ابن عطاء: جاهدوا في رضانا لنهدينهم إلى الوصول إلى محل الرضوان، وعن الجنيد: جاهدوا في التوبة لنهدينهم سبل الإخلاص أو جاهدوا في خدمتنا لنفتحن عليهم سبل المناجاة معنا، والأنس بنا، قال ابن عطية: هي مكيّة نزلت قبل فرض الجهاد العرفي، وإنما هو جهاد عام في دين الله، وطلب مرضاته.
وقيل: الآية هذه نزلت في العباد، قال سفيان بن عيينة إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور، فإن الله تعالى يقول: والذين جاهدوا فينا الخ وقيل: المجاهدة الصبر على الطاعات، والمخالفة للهوى. وقال الفضيل بن عياض: والذين جاهدوا فينا أي: في طلب العلم لنهدينهم سبل العلم والعمل به. وقال سهل بن عبد الله: الذين جاهدوا بإقامة السنة وإماتة البدعة لنهدينهم سبل الجنة، وقال ابن عباس: الذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا وقال أبو سليمان الداراني: الذين جاهدوا فيما علموا لنهدينهم إلى ما لم يعلموا أو عن بعضهم: من عمل بما علم وفق لعلم ما لم يعلم.
219
وقال إبراهيم بن أدهم: هي في الذين يعملون بما يعلمون، وقال الداراني أيضاً: ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط بل هو نصر الدين والرد على المبطلين، وقمع الظالمين وأعظمه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله.
قال ابن عيينة: مثل السنة في الدنيا، كمثل الجنة في العقبى من دخل الجنة في العقبى سلم، فكذلك من لزم السنة في الدنيا سلم وظاهر الآية. العموم فيدخل تحته كل ذلك، قال النسفي: أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمفعول، ليتناول كل ما تجب مجاهدته من النفس، والشيطان، وأعداء الدين.
(وإن الله لمع المحسنين) بالنصر والعون في دنياهم والمغفرة في عقباهم، وثوابهم الجنة في الآخرة، ومن كان الله معه لا يخذل أبداً ودخلت لام التوكيد على (مع) بتأويل كونها اسماً أو على أنها حرف ودخلت عليها لإفادة معنى الاستقرار، كما تقول: إن زيداً لفي الدار والبحث مقرر في علم النحو، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر إظهاراً لشرفهم بوصف الإحسان.
220

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الروم
(هي ستون أو تسع وخمسون آية) قال القرطبي: كلها مكيّة بلا خلاف، قال ابن عباس: نزلت بمكة، وعن ابن الزبير مثله، وقال البيضاوي، إلا قوله: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ)، والأول أولى.
وأخرج عبد الرزاق، وأحمد -قال السيوطي بسند حسن- عن رجل من الصحابة: أن رسول الله - ﷺ - صلى بهم الصبح فقرأ فيها سورة الروم، وأخرج البزار عن أغر المزني مثله، وعن عبد الملك بن عمير أن النبي - ﷺ - قرأ في الفجر يوم الجمعة بسورة الروم، وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وأحمد بن قانع من طريق ابن عمير مثل حديث الرجل الذي من الصحابة، وزاد فتردد فيها فلما انصرف قال: " إنما يلبس علينا في صلاتنا قوم يحضرون الصلاة بغير طهور، من شهد الصلاة فليحسن الطهور ".
221

بسم الله الرحمن الرحيم

الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (٦)
223
Icon