ﰡ
[سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١ الى ٢]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) اللَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢)فيه خمس مسائل الاولى- قوله: (الم. اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) هَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ بِإِجْمَاعٍ. وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ اسْمَهَا فِي التَّوْرَاةِ طَيْبَةُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ وَعَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ وَأَبُو جَعْفَرٍ الرُّؤَاسِيُّ «١» " الم. اللَّهُ" بِقَطْعِ أَلِفِ الْوَصْلِ، عَلَى تَقْدِيرِ الْوَقْفِ عَلَى" الم" كَمَا يُقَدِّرُونَ الْوَقْفَ عَلَى أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ فِي نَحْوِ وَاحِدٌ، اثْنَانِ، ثَلَاثَةٌ، أَرْبَعَةٌ، وَهُمْ وَاصِلُونَ. قَالَ الْأَخْفَشُ سَعِيدٌ: وَيَجُوزُ" الم اللَّهُ" بِكَسْرِ الْمِيمِ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا خَطَأٌ، وَلَا تَقُولُهُ الْعَرَبُ لِثِقَلِهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: الْقِرَاءَةُ [الْأُولَى] «٢» قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهَا النَّحْوِيُّونَ الْقُدَمَاءُ، فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الْمِيمَ فُتِحَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَاخْتَارُوا لَهَا الْفَتْحَ لِئَلَّا يُجْمَعَ بَيْنَ كَسْرَةٍ وَيَاءٍ وَكَسْرَةٍ قَبْلَهَا. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: حُرُوفُ التَّهَجِّي إِذَا لَقِيَتْهَا أَلِفُ وَصْلٍ فَحُذِفَتْ أَلِفُ الْوَصْلِ حَرَّكْتَهَا بِحَرَكَةِ الْأَلِفِ فَقُلْتَ: الم اللَّهُ، والم اذْكُرْ، والم اقْتَرَبَتْ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَصْلُ" الم اللَّهُ" كَمَا قَرَأَ الرُّؤَاسِيُّ فَأُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ عَلَى الْمِيمِ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ" الْحَيُّ الْقَيَّامُ". وَقَالَ خَارِجَةُ: فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ" الْحَيُّ الْقَيِّمُ". وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا لِلْعُلَمَاءِ [مِنْ آرَاءٍ] «٣» فِي الْحُرُوفِ الَّتِي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ فِي أَوَّلِ" الْبَقَرَةِ" «٤». وَمِنْ حَيْثُ جَاءَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ:" اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" جُمْلَةٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا فَتُتَصَوَّرُ تِلْكَ الأقوال كلها.
(٢). التكملة عن إعراب القرآن للنحاس.
(٣). زيادة يقتضيها السياق.
(٤). راجع ج ١ ص ١٥٤
(٢). الجريري: بضم الجيم وفتح الراء الاولى وكسر الثانية وسكون ياء بينهما، وهو سعيد بن إياس، ينسب إلى جرير بن عباد. (عن تهذيب التهذيب). [..... ]
(٣). أبو السليل (بفتح المهملة وكسر اللام) هو ضريب (بالتصغير) بن نقير، ويقال نفير، ويقال نفيل. (عن تهذيب التهذيب)
(٢). في الأصول:" فرقان" بالفاء. والتصويب عن صحيح مسلم. والفرق: القطعة. والحزق والحزيقة: الجماعة من كل شي.
(٣). هو معاوية بن سلام أحد رجال سند هذا الحديث.
(٤). راجع ج ٢ ص ١٩٠.
(٥). كذا في نسخة: ج وهو الصحيح، وكشف الخلفاء ج، ١ ص ٤٢٤. وفى الأصول الأخرى: إن المؤمن (.)
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٣ الى ٤]
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤)
(٢). الثمال (بالكسر). الملجأ والغياث والمطعم في الشدة.
(٣). الحبرات (بكسر الحاء وفتح الباء جمع حيرة): ضرب من الثياب اليمانية.
(٤). في الأصول: الابتهال، والصواب ما أثبت، باهل القوم بعضهم بعضا وتباهلوا وتبهلوا: تلاعنوا. والمباهلة: أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شي فيقولوا: لعنة الله على الظالم منا.
(٥). راجع سيرة ابن هشام ص ٤٠١ طبع أور با
إِلَى مَعْشَرٍ لَمْ يُورِثِ اللُّؤْمَ جدهم | أصاغرهم وكل فحل لهم نجل |
(٢). التولج: كناس الظبى أو الوحش الذي يلج فيه.
(٣). راجع ج ١١ ص ٢٩٥ [..... ]
رُبَّمَا ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ صَقِيلٍ | بَيْنَ بُصْرَى وَطَعْنَةٍ نَجْلَاءَ |
وَأَنْجِلْ فِي ذَاكَ الصَّنِيعِ كَمَا نَجَلْ
أَيِ اعْمَلْ وَاصْنَعْ. وَقِيلَ: التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ مِنَ اللُّغَةِ السُّرْيَانِيَّةِ. وَقِيلَ: الْإِنْجِيلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ إِنْكِلْيُونَ «١»، حَكَاهُ الثَّعْلَبِيُّ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْإِنْجِيلُ كِتَابُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، فَمَنْ أَنَّثَ أَرَادَ الصَّحِيفَةَ، وَمَنْ ذَكَّرَ أَرَادَ الْكِتَابَ. قَالَ غَيْرُهُ: وَقَدْ يُسَمَّى الْقُرْآنُ إِنْجِيلًا أَيْضًا، كَمَا رُوِيَ فِي قِصَّةِ مُنَاجَاةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ:" يَا رَبِّ أَرَى فِي الْأَلْوَاحِ أَقْوَامًا أَنَاجِيلُهُمْ فِي صُدُورِهِمْ فَاجْعَلْهُمْ أُمَّتِي". فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ:" تِلْكَ أُمَّةُ أَحْمَدَ" صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْأَنَاجِيلِ الْقُرْآنَ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ:" وَالْأَنْجِيلَ" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالْبَاقُونَ بِالْكَسْرِ مِثْلَ الْإِكْلِيلِ، لُغَتَانِ. وَيُحْتَمَلُ [إِنْ سُمِعَ] «٢» أَنْ يَكُونَ مِمَّا عَرَّبَتْهُ الْعَرَبُ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْأَعْجَمِيَّةِ، وَلَا مِثَالَ لَهُ فِي كَلَامِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ قَبْلُ) يَعْنِي الْقُرْآنَ (هُدىً لِلنَّاسِ) قَالَ ابْنُ فُورَكَ «٣»: التَّقْدِيرُ هُدًى لِلنَّاسِ الْمُتَّقِينَ، دَلِيلُهُ فِي الْبَقَرَةِ" هُدىً لِلْمُتَّقِينَ" فَرَدَّ هَذَا الْعَامَّ إِلَى ذَلِكَ الْخَاصِّ. وَ" هُدًى" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَ (الْفُرْقانَ) الْقُرْآنُ. وَقَدْ تقدم.
(٢). الزيادة من نسخة: ب.
(٣). ابن فورك (بضم الفاء وسكون الواو وفتح الراء) هو أبو بكر بن محمد بن الحسن بن فورك، المتكلم الأصولي الأديب النحوي الواعظ الأصبهاني، توفي سنة ست وأربعمائة. (عن ابن خلكان)
[سورة آل عمران (٣): آية ٥]
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥)هَذَا خَبَرٌ عَنْ عِلْمِهِ تَعَالَى بِالْأَشْيَاءِ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ. فَهُوَ الْعَالِمُ بِمَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَا يَكُونُ، فَكَيْفَ يَكُونُ عِيسَى إِلَهًا أَوِ ابْنَ إِلَهٍ وَهُوَ تَخْفَى عَلَيْهِ الأشياء!.
[سورة آل عمران (٣): آية ٦]
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ) أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْ تَصْوِيرِهِ لِلْبَشَرِ فِي أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ وَأَصْلُ الرَّحِمِ مِنَ الرَّحْمَةِ، لِأَنَّهَا مِمَّا يُتَرَاحَمُ بِهِ. وَاشْتِقَاقُ الصُّورَةِ مِنْ صَارَهُ إِلَى كَذَا إِذَا أَمَالَهُ، فَالصُّورَةُ مَائِلَةٌ إِلَى شَبَهٍ وَهَيْئَةٍ. وَهَذِهِ الْآيَةُ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَفِي ضِمْنِهَا الرَّدُّ عَلَى نَصَارَى نَجْرَانَ، وَأَنَّ عِيسَى مِنَ الْمُصَوَّرِينَ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ. وَأَشَارَ تَعَالَى إِلَى شَرْحِ التَّصْوِيرِ فِي سُورَةِ" الْحَجِّ" «١» وَ" الْمُؤْمِنُونَ". وَكَذَلِكَ شَرَحَهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ، عَلَى مَا يَأْتِي هُنَاكَ [بَيَانُهُ] «٢» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَفِيهَا الرَّدُّ عَلَى الطَّبَائِعِيِّينَ أَيْضًا إِذْ يَجْعَلُونَهَا فَاعِلَةً مُسْتَبِدَّةً. وَقَدْ مَضَى الرَّدُّ عَلَيْهِمْ فِي آيَةِ التَّوْحِيدِ «٣» وَفِي مُسْنَدِ ابْنِ سَنْجَرَ- وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَنْجَرَ- حَدِيثٌ" إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ عِظَامَ الْجَنِينِ وَغَضَارِيفَهُ «٤» مِنْ مَنِيِّ الرَّجُلِ وَشَحْمَهُ وَلَحْمَهُ مِنْ مَنِيِّ الْمَرْأَةِ". وَفِي هَذَا أَدَلُّ دَلِيلٍ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَهُوَ صَرِيحٌ [في] «٥» قول تَعَالَى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى " «٦». وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ ثَوْبَانَ وَفِيهِ: أَنَّ الْيَهُودِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وجئت أسألك عن شي لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ. قَالَ:" يَنْفَعُكَ إن حدثتك"؟.
(٢). الزيادة من نسخة: ب.
(٣). راجع ج ٢ ص ٢٠١.
(٤). الغضاريف: جمع غضروف (بضم الغين) وهو كل عظم وخص يؤكل، وهو مارن الأنف، ونغض الكتف؟ (العظم الرقيق على طرفها)، ورءوس الأضلاع، ورهابة الصدر (عظيم في الصدر مشرف على البطن)، وداخل قوف الاذن.
(٥). الزيادة في: ج.
(٦). راجع ج ١٦ ص ٣٤٠
الأولى : قوله تعالى :" هو الذي يصوركم " أخبر تعالى عن تصويره للبشر في أرحام الأمهات وأصل الرحِم من الرحمة ؛ لأنها مما يتراحم به. واشتقاق الصورة من صاره إلى كذا إذا أماله، فالصورة مائلة إلى شَبَه وهيئة. وهذه الآية تعظيم لله تعالى، وفي ضمنها الرد على نصارى نجران، وأن عيسى من المصَوَّرين، وذلك مما لا ينكره عاقل. وأشار تعالى إلى شرح التصوير في سورة " الحج " ١ و " المؤمنون ". وكذلك شرحه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود، على ما يأتي هناك بيانه٢ إن شاء الله تعالى وفيها الرد على الطبائعيين أيضا إذ يجعلونها فاعلةً مستبِدَّة. وقد مضى الرد عليهم في آية التوحيد٣ وفي مسند ابن سنجر - واسمه محمد بن سَنْجر - حديث ( إن الله تعالى يخلق عظام الجنين وغضاريفه٤ من مني الرجل وشحمه ولحمه من مني المرأة ). وفي هذا أدل دليل على أن الولد يكون من ماء الرجل والمرأة، وهو صريح٥ في قوله تعالى :" يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى " ٦[ الحجرات : ١٣ ] وفي صحيح مسلم من حديث ثوبان وفيه : أن اليهودي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال :( ينفعك إن حدثتك ) ؟. قال : أسمع بأذني، قال : جئتك أسألك عن الولد. فقال النبي صلى الله عليه وسلم :( ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة أذْكَرا بإذن الله تعالى، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله. . . )٧ الحديث. وسيأتي بيانه آخر " الشورى " ٨ إن شاء الله تعالى.
الثانية : قوله تعالى :" كيف يشاء " يعني من حسن وقبح وسواد وبياض وطول وقصر وسلامة وعاهة، إلى غير ذلك من الشقاء والسعادة. وذكر عن إبراهيم بن أدهم أن القراء اجتمعوا إليه ليسمعوا ما عنده من الأحاديث، فقال لهم : إني مشغول عنكم بأربعة أشياء، فلا أتفرغ لرواية الحديث. فقيل له : وما ذاك الشغل ؟ قال : أحدها : أني أتفكر في يوم الميثاق حيث قال :( هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي ) فلا أدري من أي الفريقين كنت في ذلك الوقت. والثاني : حيث صورت في الرحم فقال الملك الذي هو موكل على الأرحام :( يا رب شقي هو أم سعيد ) فلا أدري كيف كان الجواب في ذلك الوقت. والثالث : حين يقبض ملك الموت روحي فيقول :( يا رب مع الكفر أم مع الإيمان ) فلا أدري كيف يخرج الجواب. والرابع : حيث يقول :" وامتازوا اليوم أيها المجرمون " ٩ [ يس : ٥٩ ] فلا أدري في أي الفريقين أكون. ثم قال تعالى :" لا إله إلا هو " أي لا خالق ولا مصور سواه١٠ وذلك دليل على وحدانيته، فكيف يكون عيسى إلها مصورا وهو مصور. " العزيز " الذي لا يغالب. " الحكيم " ذو الحكمة أو المحكم، وهذا أخص بما ذكر من التصوير.
٢ - الزيادة من نسخة: ب..
٣ - راجع جـ٢ ص ٢٠١..
٤ - الغضاريف: جمع غضروف (بضم الغين) وهو كل عظم رخص يؤكل، وهو مارن الأنف، ونغض الكتف (العظم الرقيق على طرقها)، ورؤوس الأضلاع، ورهابة الصدر (عظيم في الصدر مشرف على البطن)، وداخل فوق الأذن..
٥ - الزيادة في: جـ..
٦ - راجع جـ١٦ ص ٣٤٠..
٧ - راجع الحديث في صحيح مسلم جـ١ ص ٩٩ طبع بولاق..
٨ - راجع جـ١٦ ص ٤٨ فما بعد..
٩ - راجع جـ ١٥ ص ٤٦..
١٠ - زيادة لا بد منها..
[سورة آل عمران (٣): آية ٧]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧)
(٢). راجع ج ١٦ ص ٤٨ فما بعد.
(٣). راجع ج ١٥٠ ص ٤٦.
(٤). زيادة لأبد منها.
(٢). راجع ج ١٥ ص ١٤٨.
(٣). راجع ج ١ ص ٤٥١.
(٤). راجع ج ٧ ص ١٣٠ فما بعد.
(٥). راجع ج ١٠ ص ٢٤٨
(٢). راجع ج ١١ ص ١٢٣.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٢٦٧.
(٤). راجع ج ٥ ص ٢٤٥.
(٥). هي سورة الطلاق. ومراده منها" وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ" آية ٤.
(٦). راجع ج ٥ ص ١١٦ و١٢٤.
(٧). راجع ج ٥ ص ١١٦ و١٢٤.
(٨). في نسخة: ب، الامر.
(٢). الحديث في البخاري في كتاب التفسير (سورة السجدة). وبين ما في البخاري وما في الأصول اختلاف في بعض الكلمات.
(٣). هو نافع ابن الأزرق الذي صار بعد ذلك رأس الازارقة من الخوارج (القسطلاني).
(٤). راجع ج ١٢ ص ١٥١.
(٥). راجع ج ١٥ ص ٨١.
(٦). راجع ج ٥ ص ١٩٨.
(٧). راجع ج ٦ ص ٤٠١.
(٨). راجع ج ١٩ ص ٢٠١ فما بعد.
(٩). راجع ج ١٥ ص ٣٤٢.
(١٠). سورة النساء
(١١) سورة النساء
(١٢) سورة النساء
(١٣) عبارة البخاري (سمى نفسه).
(٢). راجع ج ١٨ ص ٨٢. [..... ]
(٣). راجع الهامشة ٢ ج ٢ ص ٢٥١
(٢). (٢٧٨) صبيغ (وزان أمير) بن شريك بن المنذر بن قطن بن قشع بن عسل (بكسر العين) بن عمرو بن يربوع التميمي، وقد ينسب إلى جده الأعلى فيقال: صبيغ بن عمل. راجع القاموس وشرحة مادة" صبغ وعسل".
(٣). الزيادة من نسخ: ب، ز، د.
أَرْسَلْتُ فِيهَا قَطِمًا لُكَالِكَا «١» | يَقْصُرُ يَمْشِي وَيَطُولُ بَارِكَا |
الرِّيحُ تَبْكِي شَجْوَهَا | وَالْبَرْقُ يَلْمَعُ فِي الْغَمَامَهْ |
(٢). راجع ج ١٣ ص ٢٢٥.
(٣). راجع ج ٧ ص ٣٣٥.
(٤). راجع ج ١٣ ص ٣٢٢.
(٥). في الأصول:" والراسخون معا للنسق".
لَقَدْ رَسَخَتْ فِي الصَّدْرِ مِنِّي مَوَدَّةٌ | لِلَيْلَى أَبَتْ آيَاتُهَا أَنْ تَغَيَّرَا |
[سورة آل عمران (٣): آية ٨]
رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (رَبَّنا لَا تُزِغْ قُلُوبَنا) فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ يَقُولُونَ. وَهَذَا حِكَايَةٌ عَنِ الرَّاسِخِينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ، وَيُقَالُ: إِزَاغَةُ القلب فساد
(٢). كذا وردت هذه الكلمة في أكثر الأصول، وفى بعضها وردت بهذا الرسم من غير إعجام، ومعناها: الجماعة. [..... ]
(٢). راجع ج ١٦ ص ٨٢.
(٣). هو أحد رجال سند هذا الحديث.
(٤). يعنى قولهم إن العباد هم الخالقون لأفعالهم.
[سورة آل عمران (٣): آية ٩]
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩)
أَيْ بَاعِثُهُمْ وَمُحْيِيهِمْ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمْ، وَفِي هَذَا إِقْرَارٌ بِالْبَعْثِ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا هُوَ التَّأْوِيلُ الَّذِي عَلِمَهُ الرَّاسِخُونَ وَأَقَرُّوا بِهِ، وَخَالَفَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا مَا تَشَابَهَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْرِ الْبَعْثِ حَتَّى أَنْكَرُوهُ. وَالرَّيْبُ الشَّكُّ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ مَحَامِلُهُ فِي الْبَقَرَةِ «١». وَالْمِيعَادُ مِفْعَالٌ مِنَ الْوَعْدِ.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠)
مَعْنَاهُ بَيِّنٌ، أَيْ لَنْ تَدْفَعَ عَنْهُمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا أَوْلَادَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ «٢» " لَنْ يُغْنِيَ" بِالْيَاءِ لِتَقَدُّمِ الْفِعْلِ وَدُخُولِ الْحَائِلِ بَيْنَ الِاسْمِ وَالْفِعْلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" يُغْنِي" بِالْيَاءِ وَسُكُونِ الْيَاءِ الْآخِرَةِ لِلتَّخْفِيفِ، كقول الشاعر:
(٢). السلمى (بضم السين) هو أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين الصوفي الأزدي. (عن تذكرة الحفاظ وأنساب السمعاني).
كفى باليأس من أسماءَ كافي | وليس لسُقمها إذ طالَ شافي |
كأن أيديهن بالقاع القَرِقْ | أيدي جوار يتعاطين الوَرِق |
٢ - كذا في الأصول. والذي في لسان الغرب وغيره من معجمات اللغة أنه القرق (بفتح القاف وكسر الراء). والقرق (بفتح القاف والراء) والقرق (بكسر القاف وسكون الراء). والقاع القرق: الطيب الذي لا حجارة فيه..
٣ - راجع جـ١ ص ٢٣٥..
كَفَى بِالْيَأْسِ مِنْ أَسْمَاءَ كَافِي | وَلَيْسَ لِسُقْمِهَا إِذْ طَالَ شَافِي |
كان أيديهن بالقاع الفرق | أَيْدِي جَوَارٍ يَتَعَاطَيْنَ الْوَرِقْ |
[سورة آل عمران (٣): آية ١١]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١)
الدَّأْبُ الْعَادَةُ وَالشَّأْنُ. وَدَأَبَ الرَّجُلُ فِي عَمَلِهِ يدأب دأبا ودءوبا إِذَا جَدَّ وَاجْتَهَدَ، وَأَدْأَبْتُهُ أَنَا. وَأَدْأَبَ بَعِيرَهُ إِذَا جَهِدَهُ فِي السَّيْرِ. وَالدَّائِبَانِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَسَمِعْتُ يَعْقُوبَ يَذْكُرُ" كَدَأَبِ" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَقَالَ لِي وَأَنَا غُلَيِّمٌ: عَلَى أي شي يَجُوزُ" كَدَأَبِ"؟ فَقُلْتُ لَهُ: أَظُنُّهُ مِنْ دَئِبَ يَدْأَبُ دَأَبًا. فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنِّي وَتَعَجَّبَ مِنْ جَوْدَةِ تَقْدِيرِي عَلَى صِغَرِي، وَلَا أَدْرِي أَيُقَالُ أَمْ لَا. قَالَ النَّحَّاسُ:" وَهَذَا الْقَوْلُ خَطَأٌ، لا يقال
(٢). راجع ج ١ ص ٢٣٥
كَدَأْبِكِ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا | وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ «٢» |
(٢). أم الحويرث: هي" هر" أم الحارث بن حصين ابن ضمضم الكلابي، وكان امرؤ القيس يشبب بها في أشعاره. وام الرباب من كلب أيضا. ومأسل: موضع. يقول: لقيت من وقوفك على هذه الديار وتذكرك أهلها كما لقيت من أم الحويرث وجارتها. (عن شرح المعلقات).
(٣). راجع ج ١٥ ص ٣١٨.
(٤). راجع ج ٨ ص ٢٩.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٢]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢)يَعْنِي الْيَهُودَ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمَّا أَصَابَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا بِبَدْرٍ وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ جَمَعَ الْيَهُودَ فَقَالَ:" يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ احْذَرُوا مِنَ اللَّهِ مِثْلَ مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ يَوْمَ بَدْرٍ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمْ مَا نَزَلَ بِهِمْ فَقَدْ عَرَفْتُمْ أَنِّي نَبِيٌّ مُرْسَلٌ تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ وَعَهْدِ اللَّهِ إِلَيْكُمْ"، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، لَا يَغُرَّنَّكَ أَنَّكَ قَتَلْتَ أَقْوَامًا أَغْمَارًا «١» لَا عِلْمَ لَهُمْ بِالْحَرْبِ فَأَصَبْتَ فِيهِمْ فُرْصَةَ! وَاللَّهِ لَوْ قَاتَلْتَنَا لَعَرَفْتَ أَنَّا نَحْنُ النَّاسُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ" بِالتَّاءِ يَعْنِي الْيَهُودَ: أَيْ تُهْزَمُونَ" وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ" فِي الْآخِرَةِ. فَهَذِهِ رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ عَنْهُ أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا فَرِحُوا بِمَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ نَزَلَتْ. فَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا" سَيُغْلَبُونَ" بِالْيَاءِ، يَعْنِي قُرَيْشًا،" وَيُحْشَرُونَ" بِالْيَاءِ فِيهِمَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ نَافِعٍ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَبِئْسَ الْمِهادُ) يَعْنِي جَهَنَّمَ، هَذَا ظَاهِرُ الْآيَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْمَعْنَى بِئْسَ مَا مَهَّدُوا لِأَنْفُسِهِمْ، فَكَأَنَّ الْمَعْنَى: بِئْسَ فِعْلُهُمُ الَّذِي أَدَّاهُمْ إِلَى جهنم.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٣]
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) أَيْ عَلَامَةٌ. وَقَالَ" كانَ" وَلَمْ يَقُلْ" كَانَتْ" لِأَنَّ" آيَةً" تَأْنِيثُهَا غَيْرُ حَقِيقِيٍّ. وَقِيلَ: رَدَّهَا إِلَى الْبَيَانِ، أَيْ قَدْ كَانَ لَكُمْ بَيَانٌ، فَذَهَبَ إِلَى الْمَعْنَى وَتَرَكَ اللَّفْظَ، كَقَوْلِ امْرِئِ القيس:
(٢). راجع ج ٢ ص ٢٥٧، وص ٢٦٨.
(٣). الذي في نسخ: اوب وج: قلعته، والمثبت ما في المعاجم.
(٤). الذي في تفسير النيسابوري:" تروتهم بتاء الخطاب أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب الباقون بالياء".
(٢). راجع ج ١٦ ص ٣٥.
(٣). راجع ج ٨ ص ٢٢
بَرَهْرَهَةٌ رُؤْدَةٌ رَخْصَةٌ | كَخُرْعُوبَةِ البَانَةِ المُنفطِرْ١ |
قوله تعالى :" في فئتين التقتا " يعني المسلمين والمشركين يوم بدر " فئة " قرأ الجمهور " فئة " بالرفع، بمعنى إحداهما فئة. وقرأ الحسن ومجاهد " فئة " بالخفض " وأخرى كافرة " على البدل. وقرأ ابن أبي عبلة بالنصب فيهما. قال أحمد بن يحيى : ويجوز النصب على الحال، أي التقتا مختلفتين مؤمنة وكافرة. قال الزجاج : النصب بمعنى أعني. وسميت الجماعة من الناس فئة لأنها يفاء إليها، أي يرجع إليها في وقت الشدة. وقال الزجاج : الفئة الفرقة، مأخوذة من فَأَوْتُ رأسه بالسيف - ويقال : فأيته - إذا فلقته٣. ولا خلاف أن الإشارة بهاتين الفئتين هي إلى يوم بدر. واختلف من المخاطب بها، فقيل : يحتمل أن يخاطب بها المؤمنون، ويحتمل أن يخاطب بها جميع الكفار، ويحتمل أن يخاطب بها يهود المدينة، وبكل احتمال منها قد قال قوم. وفائدة الخطاب للمؤمنين تثبيت النفوس وتشجيعها حتى يقدموا على مثليهم وأمثالهم كما قد وقع.
قوله تعالى :" يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار " قال أبو علي الرؤية في هذه الآية رؤية عين ؛ ولذلك تعدت إلى مفعول واحد. قال مكي والمهدوي : يدل عليه " رَأْيَ العين ". وقرأ نافع " ترونهم " بالتاء والباقون بالياء٤. " مثليهم " نصب على الحال من الهاء والميم في " ترونهم ". والجمهور من الناس على أن الفاعل بترون هم المؤمنون، والضمير المتصل هو للكفار. وأنكر أبو عمرو أن يقرأ " ترونهم " بالتاء، قال : ولو كان كذلك لكان مثليكم. قال النحاس " وذا لا يلزم، ولكن يجوز أن يكون مثلي أصحابكم. قال مكي :" ترونهم " بالتاء جرى على الخطاب في " لكم " فيحسن أن يكون الخطاب للمسلمين، والهاء والميم للمشركين. وقد كان يلزم من قرأ بالتاء أن يقرأ مثليكم بالكاف، وذلك لا يجوز لمخالفة الخط، ولكن جرى الكلام على الخروج من الخطاب إلى الغيبة، كقوله تعالى :" حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم " ٥ [ يونس : ٢٢ ]، وقوله تعالى :" وما آتيتم من زكاة " ٦ [ الروم : ٣٩ ] فخاطب ثم قال :" فأولئك هم المضعفون " [ الروم : ٣٩ ] فرجع إلى الغيبة. فالهاء والميم في " مثليهم " يحتمل أن يكون للمشركين، أي ترون أيها المسلمون المشركين مثلي ما هم عليه من العدد ؛ وهو بعيد في المعنى ؛ لأن الله تعالى لم يكثر المشركين في أعين المسلمين بل أعلمنا أنه قللهم في أعين المؤمنين، فيكون المعنى ترون أيها المؤمنون المشركين مثليكم في العدد وقد كانوا ثلاثة أمثالهم، فقلل الله المشركين في أعين المسلمين فأراهم إياهم مثلي عدتهم لتقوى أنفسهم ويقع التجاسر، وقد كانوا أعلموا أن المائة منهم تغلب المائتين من الكفار، وقلل المسلمين في أعين المشركين ليجترئوا عليهم فينفذ حكم الله فيهم. ويحتمل أن يكون الضمير في " مثليهم " للمسلمين، أي ترون أيها المسلمون المسلمين مثلي ما أنتم عليه من العدد، أي ترون أنفسكم مثلي عددكم، فعل الله ذلك بهم لتقوى أنفسهم على لقاء المشركين. والتأويل الأول أولى، يدل عليه قوله تعالى :" إذ يريكهم الله في منامك قليلا " ٧ [ الأنفال : ٤٣ ] وقوله :" وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا " [ الأنفال : ٤٤ ] وروي عن ابن مسعود أنه قال : قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ قال : أظنهم مائة، فلما أخذنا الأسارى أخبرونا أنهم كانوا ألفا. وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا : بل كثر الله عدد المؤمنين في عيون الكافرين حتى كانوا عندهم ضعفين. وضعف الطبري هذا القول. قال ابن عطية : وكذلك هو مردود من جهات. بل قلل الله المشركين في أعين المؤمنين كما تقدم. وعلى هذا التأويل كان يكون " ترون " للكافرين، أي ترون أيها الكافرون المؤمنين مثليهم، ويحتمل مثليكم، على ما تقدم. وزعم الفراء أن المعنى ترونهم مثليهم ثلاثة أمثالهم. وهو بعيد غير معروف في اللغة. قال الزجاج : وهذا باب الغلط، فيه غلط في جميع المقاييس ؛ لأنا إنما نعقل مثل الشيء مساويا له، ونعقل مثله ما يساويه مرتين. قال ابن كيسان : وقد بين الفراء قوله بأن قال : كما تقول وعندك عبد : أحتاج إلى مثله، فأنت محتاج إليه وإلى مثله. وتقول : أحتاج إلى مثليه، فأنت محتاج إلى ثلاثة. والمعنى على خلاف ما قاله، واللغةُ. والذي أوقع الفراء في هذا أن المشركين كانوا ثلاثة أمثال المؤمنين يوم بدر، فتوهم أنه لا يجوز أن يكونوا يرونهم إلا على عدتهم، وهذا بعيد وليس المعنى عليه. وإنما أراهم الله على غير عدتهم لجهتين : إحداهما أنه رأى الصلاح في ذلك ؛ لأن المؤمنين تقوى قلوبهم بذلك. والأخرى أنه آية للنبي صلى الله عليه وسلم. وسيأتي ذكر وقعة بدر٨ إن شاء الله تعالى. وأما قراءة الياء فقال ابن كيسان : الهاء والميم في " يرونهم " عائدة على " وأخرى كافرة " والهاء والميم في " مثليهم " عائدة على " فئة تقاتل في سبيل الله " وهذا من الإضمار الذي يدل عليه سياق الكلام، وهو قوله :" يؤيد بنصره من يشاء ". فدل ذلك على أن الكافرين كانوا مثلي المسلمين في رأي العين وثلاثة أمثالهم في العدد. قال : والرؤية هنا لليهود. وقال مكي : الرؤية للفئة المقاتلة في سبيل الله، والمرئية الفئة الكافرة، أي ترى الفئة المقاتلة في سبيل الله الفئة الكافرة مثلي الفئة المؤمنة، وقد كانت الفئة الكافرة ثلاثة أمثال المؤمنة فقللهم الله في أعينهم على ما تقدم. والخطاب في " لكم " لليهود. وقرأ ابن عباس وطلحة " تُرونهم " بضم التاء، والسلمي بالتاء المضمومة على ما لم يسم فاعله. " والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار " تقدم معناه والحمد لله.
.
٢ - راجع جـ٢ ص ٢٥٧، وص ٢٦٨..
٣ - الذي في نسخ: أ و ب وجـ : قلعته، والمثبت ما في المعاجم..
٤ - الذي في تفسير النيسابوري: "ترونهم بتاء الخطاب أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب الباقون بالياء"..
٥ - راجع جـ١٨ ص ٣٢٤..
٦ - راجع جـ١٦ ص ٣٥..
٧ - راجع جـ٨ ص ٢٢..
٨ - في ص: ١٩٠ فما بعد من هذا الجزء..
[سورة آل عمران (٣): آية ١٤]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤)
(٢). هذه عبارة الصحاح الذي يعتمد عليه المؤلف كثيرا. وفى الأصول:" الشهوان للشيء".
(٣). الحزن (بفتح فسكون): المكان الغليظ الخشن. والربوة (بالضم والفتح): ما ارتفع من الأرض والسهوة: الأرض اللينة التربة.
(٢). ترب الرجل: افتقر، آي لصق بالتراب، وأترب إذا استغنى. وهذه الكلمة جارية على ألسنة العرب، لا يريدون بها الدعاء على المخاطب، وإنما يريدون الحث والتحريض.
(٣). خرماء: مقطوعة بعض الأنف ومثقوبة الاذن.
(٤). راجع ج ٩ ص ٤٥. [..... ]
كَقَنْطَرَةِ الرُّومِيِّ أَقْسَمَ رَبُّهَا | لَتُكْتَنَفَنْ حَتَّى تُشَادُ بِقَرْمَدِ «٣» |
(٢). راجع ج ٥ ص ٩٩.
(٣). القرمد الأجر والحجارة.
النَّارُ آخِرُ دِينَارٍ نَطَقْتَ بِهِ | وَالْهَمُّ آخِرُ هَذَا الدِّرْهَمِ الْجَارِي |
وَالْمَرْءُ بَيْنَهُمَا إِنْ كَانَ ذَا وَرَعٍ | مُعَذَّبُ الْقَلْبِ بَيْنَ الْهَمِّ وَالنَّارِ |
(٢). في الأصول: والذي في معجمات اللغة أن الذهب يجمع على إذهاب وذهوب وذهبان (بكسر أوله) كبرق وبرقان وذهبان (بضم أوله) كحمل وحملان. فلعل ما في الأصول محرف عن" ذهبان".
(٣). راجع ج ٨ ص ٣٥.
(٢). الأقرح: ما في جبهته قرحة، وهى بياض يسير في وجه الفرس دون الغرة. والأرثم، أبيض الأنف والشفة العليا. والمحجل: أن تكون قوائمه الأربع بيضا يبلغ منها ثلث الوظيف (مستدق الذراع والساق أو ما فوق الرسغ إلى الساق) أو نصفه أو ثلثيه بعد أن يتجاوز الأرساغ ولا يبلغ الركبتين والعرقوبين. وطلق اليمين: لا تحجيل فيها. والكميت: ما لونه بين السواد والحمرة. والشية: كل لون يخالف معظم لون الفرس وغيره.
(٣). زيادة عن سنن الترمذي.
(٤). زيادة عن مسند الدارمي.
(٥). في مسند الدارمي والأصول:" محجل".
(٦). راجع ج ٨ ص ٣٦ وج ١٠ ص ٧٣
مِثْلِ ابْنِ بِزْعَةَ «٣» أَوْ كَآخَرَ مِثْلِهِ | أَوْلَى لَكَ «٤» ابْنَ مُسِيمَةِ الْأَجْمَالِ |
وَضُمْرٍ كَالْقِدَاحِ مُسَوَّمَاتٍ | عَلَيْهَا مَعْشَرٌ أَشْبَاهُ جِنٍّ |
(٢). راجع ج ١٠ ص ٨٢.
(٣). كذا في ديوانه. ورواية الأغاني (ج ٨ ص ٣١٩ طبع دار الكتب المصرية):" كابن البزيعة... ". والذي في الأصول:" ظل ابن زرعة... ". ويعنى بابن بزعة: شداد بن المنذر أخا حصين الذهلي. وقوله" كآخر مثله" يعنى حوشب بن رويم.
(٤). أولى لك: ويل لك، فهي كلمة تقال في مقام التهديد والوعيد. وقال الْأَصْمَعِيُّ: مَعْنَاهُ قَارَبَهُ مَا يُهْلِكُهُ، أَيْ نَزَلَ به.
(٥). المورج (كمحدث): أبو فيد عمرو بن الحارث السدوسي النحوي البصري، أحد ائمة اللغة. والأدب
وَكَانَتْ لَا يَزَالُ بِهَا أَنِيسٌ | خِلَالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ |
(٢). السكة (بكسر السين وتشديد الكاف المفتوحة): الحديدة التي تحرث بها الأرض.
(٢). يقال: تمعدد الغلام إذا شب وغلظ. وقيل: أراد تشبهوا بعيش معد بن عدنان وكانوا أهل غلظ وقشف، أي كونوا مثلهم ودعوا التنعم وزي العجم.
(٣). في مسند الامام أحمد بن حنبل:" وألقوا الركب" جمع ركاب: هي الرواحل من الإبل، أو جمع ركوب وهى كل ما يركب من دابة.
(٤). الرساتيق: السواد والقرى واحدها رستاق، وفى ز: البساتين.
وَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الْآفَاقِ حَتَّى... رَضِيتُ مِنَ الْغَنِيمَةِ بِالْإِيَابِ
وقال آخر:
وكل ذى غيبة يؤوب... وغائب الموت لا يؤوب
وَأَصْلُ مَآبٍ مَأَوِبٌ، قُلِبَتْ حَرَكَةُ الْوَاوِ إِلَى الْهَمْزَةِ وَأُبْدِلَ مِنَ الْوَاوِ أَلِفٌ، مِثْلَ مَقَالٍ. وَمَعْنَى الْآيَةِ تَقْلِيلُ الدُّنْيَا وَتَحْقِيرُهَا وَالتَّرْغِيبُ فِي حُسْنِ الْمَرْجِعِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٥]
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥)
مُنْتَهَى الِاسْتِفْهَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ:" مِنْ ذلِكُمْ"،" لِلَّذِينَ اتَّقَوْا" خبر مقدم، و" جَنَّاتٌ" رفع بالابتداء. وقيل: منتهاه" عِنْدَ رَبِّهِمْ"، و" جَنَّاتٌ" عَلَى هَذَا رُفِعَ بِابْتِدَاءٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ ذَلِكَ جَنَّاتٌ. وَيَجُوزُ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ" جَنَّاتٌ" بِالْخَفْضِ بدلا من" بِخَيْرٍ" وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الْأَوَّلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ وَالَّتِي قَبْلَهَا نَظِيرُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ:" تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ لِمَالِهَا وَحَسَبِهَا وَجَمَالِهَا وَدِينِهَا فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ «٢» يَدَاكَ" خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ. فَقَوْلُهُ" فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ" مِثَالٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَمَا قَبْلُ مِثَالٌ لِلْأُولَى. فَذَكَرَ تَعَالَى هَذِهِ تَسْلِيَةً عَنِ الدُّنْيَا وَتَقْوِيَةً لِنُفُوسِ تَارِكِيهَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ مَعَانِي «٣» ألفاظ هذه الآية.
(٢). راجع هامشه ١ ص ٢٩ من هذا الجزء.
(٣). راجع ج ١ ص ٢٣٨ فما بعد.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٦ الى ١٧]
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧)
" الَّذِينَ" بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ" لِلَّذِينَ اتَّقَوْا" وَإِنْ شِئْتَ كَانَ رَفْعًا أَيْ هُمُ الَّذِينَ، أَوْ نَصْبًا عَلَى الْمَدْحِ. (رَبَّنا) أَيْ يَا رَبَّنَا. (إِنَّنا آمَنَّا) أَيْ صَدَّقْنَا. (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) دُعَاءٌ بِالْمَغْفِرَةِ. (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) تَقَدَّمَ فِي «١» الْبَقَرَةِ. (الصَّابِرِينَ) يَعْنِي عَنِ الْمَعَاصِي وَالشَّهَوَاتِ، وَقِيلَ: عَلَى الطَّاعَاتِ. (وَالصَّادِقِينَ) أَيْ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ (وَالْقانِتِينَ) الطَّائِعِينَ. (وَالْمُنْفِقِينَ) يَعْنِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي «٢» الْبَقَرَةِ هَذِهِ الْمَعَانِي عَلَى الْكَمَالِ. فَفَسَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَحْوَالَ الْمُتَّقِينَ الْمَوْعُودِينَ بِالْجَنَّاتِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ" فَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: هُمُ السَّائِلُونَ الْمَغْفِرَةَ. قَتَادَةُ: الْمُصَلُّونَ. قُلْتُ: وَلَا تَنَاقُضَ، فَإِنَّهُمْ يُصَلُّونَ وَيَسْتَغْفِرُونَ. وَخَصَّ السَّحَرَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُ مَظَانُّ الْقَبُولِ وَوَقْتُ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِبَنِيهِ:" سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي" «٣»:" إِنَّهُ أَخَّرَ ذَلِكَ إِلَى السَّحَرِ" خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَسَيَأْتِي. وَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِبْرِيلَ" أَيُّ اللَّيْلِ أَسْمَعُ"؟ فَقَالَ:" لَا أَدْرِي غَيْرَ أَنَّ الْعَرْشَ يَهْتَزُّ عِنْدَ السَّحَرِ". يُقَالُ سَحَرٌ وَسَحْرٌ، بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِهَا، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: السَّحَرُ مِنْ حِينِ يُدْبِرُ اللَّيْلُ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ الثَّانِي، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: السَّحَرُ هُوَ سدس الليل الأخر.
(٢). راجع ج ١ ص ١٧٨، ١٧٩، ٣٣ ٢، ٣٧١، وراجع المسألة الخامسة ج ٣ ص ٢١٣.
(٣). راجع ج ٩ ص ٢٦٢.
(٢). في نسخ الأصول: المستغفرين، عدا: ح، فمنها التصويب.
(٣). في ا: يقوم.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٨]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ الْأُولَى- قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ صَنَمًا، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ خَرَرْنَ سُجَّدًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا ظَهَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ قَدِمَ عَلَيْهِ
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٥.
(٢). بضم الخاء، وقيل بفتحها.
(٣). المعضل: ما سقط من إسناده اثنان فصاعدا.
(٤). في أ.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٩]
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ) الدِّينُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الطَّاعَةُ وَالْمِلَّةُ، وَالْإِسْلَامُ بِمَعْنَى الْإِيمَانِ والطاعات، قال أَبُو الْعَالِيَةِ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَالْأَصْلُ فِي مسمى الايمان
(٢). في ح: للحنيفية. [..... ]
(٣). راجع ج ١٠ ص ١١٤.
(٢). هو عبد القيس بن أقصى بن دعمي، أبو قبيلة، كانوا ينزلون البحرين وكان قدومهم عام الفتح وعلى رأسهم عبد الله بن عوف الأشجع. (راجع كتاب الطبقات الكبير ج أقسم ثان ص ٥٤ طبع أوربا، وشرح القسطلاني ج ١ ص ١٩٣ طبع بولاق).
(٣). في ب، وز، وا، ود.
(٤). في أ، ود: الكتاب.
[سورة آل عمران (٣): آية ٢٠]
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠)قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) أَيْ جَادَلُوكَ بِالْأَقَاوِيلِ الْمُزَوَّرَةِ وَالْمُغَالَطَاتِ، فَأَسْنِدْ أَمْرَكَ إِلَى مَا كُلِّفْتَ مِنَ الْإِيمَانِ وَالتَّبْلِيغِ وَعَلَى اللَّهِ نَصْرُكَ. وَقَوْلُهُ" وَجْهِيَ" بِمَعْنَى ذَاتِي، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ (سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ). وَقِيلَ: الْوَجْهُ هُنَا بِمَعْنَى الْقَصْدِ، كَمَا تَقُولُ: خَرَجَ فُلَانٌ فِي وَجْهِ كَذَا. وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْبَقَرَةِ مُسْتَوْفًى «١»، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَعَبَّرَ بِالْوَجْهِ عَنْ سَائِرِ الذَّاتِ إِذْ هُوَ أَشْرَفُ أَعْضَاءِ الشَّخْصِ وَأَجْمَعُهَا لِلْحَوَاسِّ. وَقَالَ:
أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِمَنْ أَسْلَمَتْ | لَهُ الْمُزْنُ تَحْمِلُ عَذْبًا زُلَالَا |
لَيْسَ تخفى يسارتى قدر يوم | ولقد تخف شِيمَتِي إِعْسَارِي |
(٢). راجع ج ١٧ ص ١٦٥.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٢١ الى ٢٢]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ" قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُبَرِّدُ: كَانَ نَاسٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَهُمُ النَّبِيُّونَ يَدْعُونَهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَتَلُوهُمْ، فَقَامَ أُنَاسٌ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَأَمَرُوهُمْ «١» بِالْإِسْلَامِ فَقَتَلُوهُمْ، فَفِيهِمْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَكَذَلِكَ قَالَ مَعْقِلُ بْنُ أَبِي مسكين: كانت الأنبياء صلوات الله عليهم تجئ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِغَيْرِ كِتَابٍ فَيَقْتُلُونَهُمْ، فَيَقُومُ قَوْمٌ مِمَّنِ اتَّبَعَهُمْ فَيَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ، أَيْ بِالْعَدْلِ، فَيُقْتَلُونَ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (بِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ، بِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ لَا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ، بِئْسَ الْقَوْمُ قَوْمٌ يَمْشِي الْمُؤْمِنُ بَيْنَهُمْ بِالتَّقِيَّةِ" وَرَوَى أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (قَتَلَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ ثَلَاثَةً وَأَرْبَعِينَ نَبِيًّا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَامَ مِائَةُ رَجُلٍ وَاثْنَا عَشَرَ رَجُلًا مِنْ عُبَّادِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ فَقُتِلُوا جَمِيعًا فِي آخِرِ النَّهَارِ مِنْ ذلك اليوم وهو الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ (. ذَكَرَهُ الْمَهْدَوِيُّ وَغَيْرُهُ. وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَقْتُلُ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ نَبِيًّا ثُمَّ تَقُومُ سُوقُ بَقْلِهِمْ مِنْ آخِرِ.
(٢). راجع ج ٨ ص ١٩٩ وص ٢٠٢.
(٣). راجع ج ١٢ ص ٧٢.
(٤). راجع ج ١ ص ٣٦٤.
(٥). ج ١٨ ص ٨١.
(٢). الغرر: الخطر. المصباح.
(٣). راجع ج ١٤ ص ٦٨.
[سورة آل عمران (٣): آية ٢٣]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
(٢). في ذ: القاتل.
(٣). بياض في أكثر الأصول. الزيادة من دوب: يعنى: لو فرضنا أن دفع الجاني أدى موته فأخذ فيه بالقود فلا عليه لأنه ناج عند الله. والله أعلم.
(٤). راجع ج ٦ ص ٢٥٣.
(٥). راجع ج ١ ص ٢٣٨ وج ٣ ص ٤٨.
(٢). في الأصول: عداوة بين المدعى والمدعى عليه، والتصويب من ز.
[سورة آل عمران (٣): آية ٢٤]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤)
إِشَارَةٌ إِلَى التَّوَلِّي وَالْإِعْرَاضِ، وَاغْتِرَارٌ مِنْهُمْ فِي قَوْلِهِمْ:" نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ" «٢» إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ. وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِمْ:" لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ" فِي البقرة «٣».
[سورة آل عمران (٣): آية ٢٥]
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٢٥)
خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ عَلَى جِهَةِ التَّوْقِيفِ وَالتَّعَجُّبِ، أَيْ فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهُمْ أَوْ كَيْفَ يَصْنَعُونَ إِذَا حُشِرُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاضْمَحَلَّتْ عَنْهُمْ تِلْكَ الزَّخَارِفُ الَّتِي ادَّعَوْهَا فِي الدُّنْيَا، وَجُوزُوا بِمَا اكْتَسَبُوهُ مِنْ كُفْرِهِمْ وَاجْتِرَائِهِمْ «٤» وَقَبِيحِ أَعْمَالِهِمْ. وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ" لِيَوْمٍ" بِمَعْنَى" فِي"، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ، وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: الْمَعْنَى لِحِسَابِ يَوْمٍ، الطَّبَرِيُّ: لِمَا يَحْدُثُ فِي يوم.
[سورة آل عمران (٣): آية ٢٦]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦)
(٢). راجع ج ٦ ص ١٢٠.
(٣). راجع ج ٢ ص ١٠.
(٤). في د: اجترمهم.
كَدَعْوَةٍ مِنْ أبي رباح | يسمعها اللهم «٢» الْكُبَارُ |
غَفَرْتَ أَوْ عَذَّبْتَ يَا اللَّهُمَّا
آخَرُ:
وَمَا عَلَيْكِ أَنْ تَقُولِي كُلَّمَا | سَبَّحْتِ أَوْ هللت يا اللهم ما «٣» |
ارْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخنَا مُسَلَّمَا | فَإِنَّنَا مِنْ خَيْرِهِ لن نعدما |
(٢). هكذا نسخ الأصل ومعاني القرآن للفراء، وفى اللسان: لاهم الكبار، بتخفيف الميم.
(٣). في اللسان: يا اللهما، وما في الأصول ومعاني القرآن ج ١ ص ٢٠٣ والخزانة ج ١ ص ٣٥٨ هو ما أثبتناه.
إِنِّي إِذَا مَا حَدَثٌ أَلَمَّا | أَقُولُ يَا اللَّهُمَّ يَا اللَّهُمَّا |
هُمَا نَفَثَا فِي فِيِّ من فمويهما | ما عَلَى النَّابِحِ الْعَاوِي أَشَدَّ رِجَامِ |
". قَالَ أَبُو عَلِيٍّ، هُوَ مذهب
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٦٥.
(٣). في الأصول، والزجاج بالواو وليس بشيء. لان الزجاج هو إبراهيم بن السرى بن سهل أبو إسحاق الزجاج.
أَلَا هَلْ لِهَذَا الدَّهْرِ مِنْ مُتَعَلَّلِ | عَلَى النَّاسِ مَهْمَا شَاءَ بِالنَّاسِ يَفْعَلِ «٢» |
بَطِيءٍ عَنِ الْجُلَّى سَرِيعٍ إِلَى الْخَنَا | ذَلِيلٍ بِأَجْمَاعِ الرِّجَالِ مُلَهَّدِ «٥» |
(٢). البيت للأسود بن يعفر النهشلي. يقول: إن هذا الدهر يذهب ببهجة الإنسان وشبابه، ويتعلل في فعله ذلك تعلل المتجني على غيره (عن شرح الشواهد).
(٣). راجع ج ١٥ ص ١٧٤.
(٤). من ب ود.
(٥). الجلى: الامر العظيم الذي يدعى له ذوو الرأى. والخنى: الفساد والفحش في المنطق. والذليل: المقصور، وهو ضد العزيز وأجماع. جمع جمع، وهو ظهر الكف إذا جمعت أصابعك. وضممتها. والملهد: المضروب، وهو المدفع. (عن شرح المعلقات).
(٦). راجع ج ١٠ ص ١٦٠.
(٧). الرس: البئر المطوية بالحجارة
قوله تعالى :" قل اللهم " اختلف النحويون في تركيب لفظة " اللهم " بعد إجماعهم أنها مضمومة الهاء مشددة الميم المفتوحة، وأنها منادى، وقد جاءت مخففة الميم في قول الأعشى :
كدعوة من أبي رباح *** يسمعها اللَّهُمَ٢ الكُبَار
قال الخليل وسيبويه وجميع البصريين : إن أصل اللهم يا الله، فلما استعملت الكلمة دون حرف النداء الذي هو " يا " جعلوا بدله هذه الميم المشددة، فجاؤوا بحرفين وهما الميمان عوضا من حرفين وهما الياء والألف، والضمة في الهاء هي ضمة الاسم المنادى المفرد. وذهب الفراء والكوفيون إلى أن الأصل في اللهم يا ألله أمنا بخير، فحذف وخلط الكلمتين، وإن الضمة التي في الهاء هي الضمة التي كانت في أمنا لما حذفت الهمزة انتقلت الحركة. قال النحاس : هذا عند البصريين من الخطأ العظيم، والقول في هذا ما قاله الخليل وسيبويه. قال الزجاج : محال أن يترك الضم الذي هو دليل على النداء المفرد، وأن يجعل في اسم الله ضمة أُمّ، هذا إلحاد في اسم الله تعالى. قال ابن عطية : وهذا غلو من الزجاج، وزعم أنه ما سمع قط يا ألله أُمّ، ولا تقول العرب يا اللهم. وقال الكوفيون : إنه قد يدخل حرف النداء على " اللهم " وأنشدوا على ذلك قول الراجز :
غفرتَ أو عذبتَ يا اللَّهُما
آخر :
وما عليك أن تقولي كلما *** سبّحتِ أو هللتِ يا اللهم٣ ما
اردد علينا شيخنا مسلَّما *** فإننا من خيره لن نُعْدَمَا
آخر :
إني إذا ما حدثٌ أَلَمَّا *** أقول يا اللهم يا اللهما
قالوا : فلو كان الميم عوضا من حرف النداء لما اجتمعا. قال الزجاج : وهذا شاذ ولا يعرف قائله، ولا يترك له ما كان في كتاب الله وفي جميع ديوان العرب، وقد ورد مثله في قوله٤ :
هما نَفَثَا في فِيّ من فَمَوْيْهِمَا *** على النابح العاوي أَشَدُّ رِجَامِ
قال الكوفيون : وإنما تزاد الميم مخففة في فم وابنم، وأما ميم مشددة فلا تزاد. وقال بعض النحويين : ما قاله الكوفيون خطأ ؛ لأنه لو كان كما قالوا كان يجب أن يقال :" اللهم " ويقتصر عليه لأنه معه دعاء. وأيضا فقد تقول : أنت اللهم الرزاق. فلو كان كما ادعوا لكنت قد فصلت بجملتين بين الابتداء والخبر. قال النضر بن شميل : من قال اللهم فقد دعا الله تعالى بجميع أسمائه كلها وقال الحسن : اللهم تجمع الدعاء.
قوله تعالى :" مالك الملك " قال قتادة : بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل الله عز وجل أن يعطي أمته ملك فارس، فأنزل الله هذه الآية. وقال مقاتل : سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله له ملك فارس والروم في أمته، فعلمه الله تعالى بأن يدعو بهذا الدعاء. وقد تقدم معناه. و " مالك " منصوب عند سيبويه على أنه نداء ثان، ومثله قوله تعالى :" قل اللهم فاطر السموات والأرض " ٥ [ الزمر : ٤٦ ] ولا يجوز عنده أن يوصف اللهم لأنه قد ضمت إليه الميم. وخالفه محمد بن يزيد وإبراهيم بن السري٦ الزجاج فقالا :" مالك " في الإعراب صفة لاسم الله تعالى، وكذلك " فاطر السموات والأرض ". قال أبو علي : هو مذهب أبي العباس المبرد، وما قاله سيبويه أصوب وأبين ؛ وذلك أنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد " اللهم " لأنه اسم مفرد ضم إليه صوت، والأصوات لا توصف، نحو غاق وما أشبهه. وكان حكم الاسم المفرد ألا يوصف وإن كانوا قد وصفوه في مواضع. فلما ضم هنا ما لا يوصف إلى ما كان قياسه ألا يوصف صار بمنزلة صوت ضم إلى صوت، نحو حيهل فلم يوصف. و " الملك " هنا النبوة. عن مجاهد. وقيل : الغلبة. وقيل : المال والعبيد. الزجاج : المعنى مالك العباد وما ملكوا. وقيل : المعنى مالك الدنيا والآخرة. ومعنى " تؤتي الملك " أي٧ الإيمان والإسلام. " من تشاء " أي من تشاء أن تؤتيه إياه، وكذلك ما بعده، ولا بد فيه من تقدير الحذف، أي وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه، ثم حذف هذا، وأنشد سيبويه :
ألا هل لهذا الدهر من مُتَعَلِّل *** على الناس مهما شاء بالناس يَفْعَلُ٨
قال الزجاج : مهما شاء أن يفعل بالناس يفعل. وقوله :" تعز من تشاء " يقال : عز إذا علا وقهر وغلب. ومنه " وعزني في الخطاب " ٩ [ ص : ٢٣ ]. " وتذل من تشاء " ذل يذل ذلا إذا غلب وعلا وقهر١٠. قال طرفة :
بطيءٍ عن الجُلَّى سريعٍ إلى الخَنَا *** ذليلٍ بأجْمَاعِ الرجال مُلَهَّدِ١١
" بيدك الخير " أي بيدك الخير والشر فحذف، كما قال :" سرابيل تقيكم الحر " ١٢ [ النحل : ٨١ ]. وقيل : خص الخير لأنه موضع دعاء ورغبة في فضله. قال النقاش : بيدك الخير، أي النصر والغنيمة. وقال أهل الإشارات : كان أبو جهل يملك المال الكثير، ووقع في الرس١٣ يوم بدر، والفقراء صهيب وبلال وخباب لم يكن لهم مال، وكان ملكهم الإيمان، " قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء " تقيم الرسول يتيم أبي طالب على رأس الرس حتى ينادي أبدانا قد انقلبت إلى القليب : يا عتبة، يا شيبة تعز من تشاء وتذل من تشاء. أي صهيب، أي١٤ بلال، لا تعتقدوا أنا منعناكم من١٥ الدنيا ببغضكم. بيدك الخير ما منعكم من عجز " إنك على كل شيء قدير " إنعام الحق عام يتولى من يشاء.
٢ - هكذا نسخ الأصل ومعاني القرآن للفراء، وفي اللسان: لا هم الكبار، بتخفيف الميم..
٣ - في اللسان: يا أللهما، وما في الأصول ومعاني القرآن جـ١ ص ٢٠٣ والخزانة جـ١ ص ٣٥٨ هو ما أثبتناه. .
٤ - القائل هو: الفرزدق، وصف شاعرين من قومه نزع في الشعر إليهما. وأراد بالنابج العاوي من هجاه، وجعل الهجاء كالمراجمة لجعله المهاجي كالكلب النابح، والرجام المراجمة، كذا عن شرح الشواهد. والرجام الحجارة..
٥ - راجع جـ١٥ ص ٢٦٥..
٦ - في الأصول، والزجاج بالواو وليس بشيء؛ لأن الزجاج هو إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق الزجاج..
٧ - في ز: توتي الإيمان..
٨ - البيت للأسود بن يعفر النهشلي. يقول: إن هذا الدهر يذهب بهجة الإنسان وشبابه، ويتعلل في فعله ذلك تعلل المتجني على غيره (عن شرح الشواهد)..
٩ - راجع جـ١٥ ص ١٧٤..
١٠ - من ب و د..
١١ - الجلى: الأمر العظيم الذي يدعى له ذوو الرأي. والخنا: الفساد والفحش في المنطق. والذليل: المقهور، وهو ضد العزيز. وأجماع: جمع جُمع، وهو ظهر الكف إذا جمعت أصابعك وضممتها. والملهد: المضروب، وهو المدفع. (عن شرح المعلقات)..
١٢ - راجع جـ١٠ ص ١٦٠..
١٣ - الرس: البئر المطوية بالحجارة..
١٤ - في ز: صهيبا وبلالا..
١٥ - في ز: منعناكم الدنيا، وفي د: إنما منعناكم..
[سورة آل عمران (٣): آية ٢٧]
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ" تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ" الْآيَةَ، أَيْ تُدْخِلُ مَا نَقَصَ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، حَتَّى يَصِيرَ النَّهَارُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً وَهُوَ أَطْوَلُ مَا يَكُونُ، وَاللَّيْلُ تِسْعَ سَاعَاتٍ وَهُوَ أَقْصَرُ مَا يَكُونُ. وَكَذَا (تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَتَحْتَمِلُ أَلْفَاظُ الْآيَةِ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا تَعَاقُبُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، كَأَنَّ زَوَالَ أَحَدِهِمَا وُلُوجٌ فِي الْآخَرِ. وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) فَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ تُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ. وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى نِسَائِهِ فَإِذَا بِامْرَأَةٍ حَسَنَةِ الْهَيْئَةِ قَالَ: (مَنْ هَذِهِ)؟ قُلْنَ إِحْدَى خَالَاتِكَ. قَالَ: (وَمَنْ هِيَ)؟ قُلْنَ: هِيَ خَالِدَةُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (سُبْحَانَ الَّذِي يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ). وَكَانَتِ امْرَأَةً صَالِحَةً وَكَانَ أَبُوهَا كَافِرًا. فَالْمُرَادُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مَوْتُ قَلْبِ الْكَافِرِ وَحَيَاةُ قَلْبِ الْمُؤْمِنِ، فَالْمَوْتُ وَالْحَيَاةُ مُسْتَعَارَانِ «٣». وَذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ فِي الْآيَةِ حَقِيقَتَانِ، فقال كرمة: هِيَ إِخْرَاجُ الدَّجَاجَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ مِنَ الْبَيْضَةِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ، وَإِخْرَاجُ الْبَيْضَةِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ مِنَ الدَّجَاجَةِ وَهِيَ حَيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هِيَ النُّطْفَةُ تَخْرُجُ مِنَ الرَّجُلِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ وَهُوَ حَيٌّ، وَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنْهَا حَيًّا وَهِيَ مَيِّتَةٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: هِيَ الْحَبَّةُ تَخْرُجُ مِنَ السُّنْبُلَةِ وَالسُّنْبُلَةُ تَخْرُجُ مِنَ الْحَبَّةِ، وَالنَّوَاةُ مِنَ النخلة والنخلة
(٢). في ز: صنعناكم الدنيا، وفى د: إنما منعناكم. [..... ]
(٣). في د، ب: يستعاران.
[سورة آل عمران (٣): آية ٢٨]
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُلَاطِفُوا الْكُفَّارَ فَيَتَّخِذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ، وَمَثَلُهُ" لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ «١» دُونِكُمْ" وَهُنَاكَ يَأْتِي بيان هذا المعنى. (فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ) أَيْ فَلَيْسَ مِنْ حِزْبِ اللَّهِ وَلَا مِنْ أَوْلِيَائِهِ فِي شي، مثل" وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ" «٢». وَحَكَى سِيبَوَيْهِ" هُوَ مِنِّي فَرْسَخَيْنِ" أَيْ مِنْ أَصْحَابِي وَمَعِي. ثُمَّ اسْتَثْنَى وَهِيَ: الثَّانِيَةُ- فَقَالَ: (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَمُجَاهِدٌ: كَانَتِ التَّقِيَّةُ فِي جِدَّةِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا الْيَوْمُ فَقَدْ أَعَزَّ اللَّهُ الْإِسْلَامَ أَنْ يَتَّقُوا مِنْ عَدُوِّهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ، وَلَا يُقْتَلُ وَلَا يَأْتِي مَأْثَمًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: التَّقِيَّةُ جَائِزَةٌ لِلْإِنْسَانِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا تَقِيَّةَ فِي الْقَتْلِ. وَقَرَأَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ:" إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً" وَقِيلَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ قَائِمًا بَيْنَ الْكُفَّارِ فَلَهُ أَنْ يُدَارِيَهُمْ «٣» بِاللِّسَانِ إِذَا كَانَ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَالتَّقِيَّةُ لَا تَحِلُّ إِلَّا مَعَ خَوْفِ الْقَتْلِ أَوِ الْقَطْعِ أَوِ الْإِيذَاءِ الْعَظِيمِ. وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْكُفْرِ فَالصَّحِيحُ أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَلَّبَ وَلَا يُجِيبَ «٤» إِلَى التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ، بَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" النَّحْلِ" «٥» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَأَمَالَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" تُقَاةً"، وَفَخَّمَ الْبَاقُونَ، وَأَصْلُ" تُقاةً" وُقَيَةٌ على وزن فعلة، مثل
(٢). راجع ج ٨ ص ٢٤٦.
(٣). في ز: أن يداهنهم.
(٤). في ب وز: ولا يجب التلفظ.
(٥). راجع ج ١٠ ص ١٨٠.
[سورة آل عمران (٣): آية ٢٩]
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩). فَهُوَ الْعَالِمُ بِخَفِيَّاتِ الصُّدُورِ وما اشتملت عليه، وبما في السموات وَالْأَرْضِ وَمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ، عَلَّامُ الْغُيُوبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ وَلَا يَغِيبُ عَنْهُ شي، سُبْحَانَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ.
[سورة آل عمران (٣): آية ٣٠]
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠)" يَوْمَ" مَنْصُوبٌ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ:" وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ"." يَوْمَ تَجِدُ". وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ:" وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ."" يَوْمَ تَجِدُ". وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ:" وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ" وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا عَلَى إِضْمَارٍ اذْكُرْ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ:" إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ. يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ" «١» [إبراهيم: ٤٧، ٤٨] وَ" مُحْضَراً" حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ مِنْ صِلَةِ" مَا" تَقْدِيرُهُ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ، مَا عَمِلَتْهُ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا. هَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ" تَجِدُ" مِنْ وُجْدَانِ الضَّالَّةِ. وَ" مَا" مِنْ قَوْلِهِ" وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ" عَطْفٌ عَلَى" مَا" الْأُولَى. وَ" تَوَدُّ" فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ" مَا" الثَّانِيَةُ. وَإِنْ جُعِلَتْ" تَجِدُ" بِمَعْنَى تَعْلَمُ كَانَ" مُحْضَراً" الْمَفْعُولَ الثَّانِيَ، وَكَذَلِكَ تَكُونُ" تَوَدُّ" فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي، تَقْدِيرُهُ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسِ جَزَاءَ مَا عَمِلَتْ مُحْضَرًا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ" مَا" الثَّانِيَةُ رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ، وَ" تَوَدُّ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ الِابْتِدَاءِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ" مَا" بِمَعْنَى الْجَزَاءِ، لِأَنَّ" تَوَدُّ" مَرْفُوعٌ، وَلَوْ كَانَ مَاضِيًا لَجَازَ أَنْ يَكُونَ جَزَاءً، وَكَانَ يَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ وَدَّتْ لَوْ أَنَّ «٢» بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا، أَيْ كَمَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ. وَلَا يَكُونُ الْمُسْتَقْبَلُ إِذَا جُعِلَتْ" مَا" لِلشَّرْطِ إِلَّا مَجْزُومًا، إِلَّا أَنْ تَحْمِلَهُ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْفَاءِ، عَلَى تَقْدِيرِ: وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ فَهِيَ تَوَدُّ. أَبُو عَلِيٍّ: هُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الْفَرَّاءِ عِنْدِي، لِأَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ" «٣» [الانعام: ١٢١]: إِنَّهُ عَلَى حَذْفِ الْفَاءِ. وَالْأَمَدُ: الْغَايَةُ، وَجَمْعُهُ آمَادٌ. وَيُقَالُ: اسْتَوْلَى عَلَى الْأَمَدِ، أَيْ غَلَبَ سَابِقًا. قَالَ النَّابِغَةُ:
إِلَّا لِمِثْلِكَ أَوْ مَنْ أَنْتَ سَابِقُهُ | سَبْقَ الْجَوَادِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْأَمَدِ |
[سورة آل عمران (٣): آية ٣١]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١)
الْحُبُّ: الْمَحَبَّةُ، وَكَذَلِكَ الْحِبُّ بِالْكَسْرِ. وَالْحِبُّ أَيْضًا الْحَبِيبُ، مِثْلَ الْخِدْنِ وَالْخَدِينِ، يُقَالُ أَحَبَّهُ فَهُوَ مُحِبٌّ، وَحَبَّهُ يَحِبُّهُ (بِالْكَسْرِ) فَهُوَ مَحْبُوبٌ. قَالَ الجوهري: وهذا شاد، لأنه
(٢). في د: لو كان.
(٣). راجع ج ٧ ص ٧٧.
(٤). الزيادة من دوفى ب: أي غضب.
مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ «١»
وحكى أبو زيد: حببته أحبه. وأنشد:
فو الله لَوْلَا تَمْرُهُ مَا حَبَبْتُهُ | وَلَا كَانَ أَدْنَى مِنْ عُوَيْفٍ وَهَاشِمِ |
لَعَمْرُكَ إِنَّنِي وَطِلَابَ مِصْرٍ | لَكَالْمُزْدَادِ مِمَّا حَبَّ بُعْدَا |
ولقد نزلت فلا تظنى غيره.
(٢). في ب ود: إرادتها.
مني بمنزلةِ المحَبِّ المكرم١
وحكى أبو زيد : حببته أحبه. وأنشد :
فوالله لولا تَمْرُه ما حَبَبْتُه | ولا كان أدنَى من عُويْف وهاشم |
لعمرك إنني وطلابَ مِصْرٍ | لكَالْمُزْدَادِ ممّا حَبّ بُعْدَا |
*ولقد نزلت فلا تظني غيره*.
٢ - في ب و د: إرادتها..
٣ - راجع جـ١١ ص ١٦٠..
٤ - كذا في الأصول، راجع البحر جـ٣ ث ٤٣١، وفي الشواذ ص ٢٠: يحببكم بفتح الياء..
[سورة آل عمران (٣): آية ٣٢]
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" النِّسَاءِ" «٣»." فَإِنْ تَوَلَّوْا" شَرْطٌ، إِلَّا أَنَّهُ مَاضٍ لَا يُعْرَبُ. وَالتَّقْدِيرُ فَإِنْ تَوَلَّوْا عَلَى كُفْرِهِمْ وَأَعْرَضُوا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ (فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أَيْ لَا يَرْضَى فِعْلَهُمْ وَلَا يغفر لهم كما تقدم.
(٢). كذا في الأصول، راجع البحر ج ٣ ص ٤٣١، في الشواذ ص ٢٠: يحببكم بفتح الياء.
(٣). راجع ج ٥ ص ٢٥٨.
لا أرى الموت يسبق الموت شي | نغص الموت ذا الغني والفقيرا «١» |
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) اصْطَفَى اخْتَارَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «٢». وَتَقَدَّمَ فِيهَا اشْتِقَاقُ آدَمَ «٣» وَكُنْيَتُهُ، وَالتَّقْدِيرُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى دِينَهُمْ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: اخْتَارَهُمْ لِلنُّبُوَّةِ عَلَى عَالَمِي زَمَانِهِمْ." وَنُوحاً" قِيلَ إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ نَاحَ يَنُوحُ، وَهُوَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ إِلَّا أَنَّهُ انْصَرَفَ لِأَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْرُفٍ، وَهُوَ شَيْخُ الْمُرْسَلِينَ، وَأَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ بَعْدَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَحْرِيمِ الْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ وَسَائِرِ الْقَرَابَاتِ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ إِدْرِيسَ كَانَ قَبْلَهُ مِنَ الْمُؤَرِّخِينَ فَقَدْ وَهِمَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي" الْأَعْرَافِ" «٤» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ مَعْنَى الْآلِ وَعَلَى مَا يُطْلَقُ مُسْتَوْفًى «٥». وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ وَآلِ عِمْرَانَ وَآلِ يَاسِينَ وَآلِ مُحَمَّدٍ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:" إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ" [آل عمران: ٦٨] وَقِيلَ: آلُ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ وَإِسْحَاقُ وَيَعْقُوبُ وَالْأَسْبَاطُ، وَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ. وَقِيلَ: آلُ إِبْرَاهِيمَ نَفْسُهُ، وَكَذَا آلُ عِمْرَانَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ" [البقرة: ٢٤٨] «٦». وَفِي الْحَدِيثِ: (لَقَدْ أُعْطِيَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آل داود)، وقال الشاعر:
(٢). راجع ج ٢ ص ١٣٣.
(٣). راجع ج ١ ص ٢٧٩.
(٤). راجع ج ٧ ص ٢٣٢.
(٥). راجع ج ١ ص ٣٨١.
(٦). راجع ج ٣ ص ٢٤٧.
وَلَا تَبْكِ «١» مَيْتًا بَعْدَ مَيْتٍ أَحَبَّهُ | عَلِيٌّ وَعَبَّاسٌ وَآلُ أَبِي بَكْرِ |
يُلَاقِي مِنْ تَذَكُّرِ آلِ لَيْلَى | كَمَا يَلْقَى السَّلِيمُ مِنَ الْعِدَادِ «٢» |
(٢). العداد: اهتياج وجع اللديغ، وذلك إذا تمت له سنة مذ يوم لدغ هاج به الألم. وقيل: عداد السليم أن تعد له سبعة أيام فإن مضت رجوا له البرء، وما لم تمض قيل: هو في عداده.
(٣). في ب ود: حازت.
(٤). راجع ج ١١ ص ٣٥٠.
[سورة آل عمران (٣): آية ٣٤]
ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ مَعْنَى الذُّرِّيَّةِ واشتقاقها «٢». وهي نصب على الحال، قال الْأَخْفَشُ. أَيْ فِي حَالِ كَوْنِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، أَيْ ذُرِّيَّةٌ بَعْضُهَا مِنْ وَلَدِ بَعْضٍ. الْكُوفِيُّونَ: عَلَى الْقَطْعِ. الزَّجَّاجُ: بَدَلٌ، أَيِ اصْطَفَى ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَمَعْنَى بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، يَعْنِي فِي التَّنَاصُرِ فِي الدِّينِ، كَمَا قال:" الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ" [التوبة: ٦٧] «٣» يعني في الضلالة، قال الْحَسَنُ وقَتَادَةُ. وَقِيلَ: فِي الِاجْتِبَاءِ وَالِاصْطِفَاءِ وَالنُّبُوَّةِ. وقيل: المراد به التناسل، وهذا أضعفها.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٣٥ الى ٣٦]
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦)
(٢). راجع ج ٢ ص ١٠٧. [..... ]
(٣). راجع ج ٨ ص ١٩٩.
يَا دَيْرُ حَنَّةَ مِنْ ذَاتِ الْأُكَيْرَاحِ «٢» | مَنْ يَصْحُ عَنْكَ فَإِنِّي لَسْتُ بِالصَّاحِي |
(٢). الاكيراح (بالضم ثم الفتح وياء ساكنة وراء وألف وحاء): مواضع تخرج إليها النصارى في أعيادهم. (عن القاموس). وفى مسالك الأبصار: (أنها قباب صغار يسكنها رهبان يقال الواحد منها الكرح).
(٣). هي سبيعة بنت الحارث الأسلمية، كانت زوجة لسعد بن خولة فمات عنها بمكة فقال لها أبو السنابل حبة: إن أحلك أربعة أشهر وعشر، وقد كانت وضعت بعد وفاة زوجها بليال، قيل خمس وعشرون ليلة، وقيل أقل من ذلك، فلما قال لها أبو السنابل ذلك أتت ألى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرته فقال لها: (قد حللت فانكحي من شئت). روى عنها فقهاء أهل المدينة وفقهاء أهل الكوفة من التابعين حديثها هذا. وذكر ابن سعد أن أبا السنابل بن بعكك قد كان فيمن خطئها. وذكر ابن البرقي أنه تزوجها وأولدها ابنه سينابل. (راجع الاستيعاب وتهذيب التهذيب وابن سعد).
(٤). وفي المشتبه للذهبي: بالخاء المعجمة ونون.
(٥). الذي في المشتبه:" زوجة محمد".
(٦). راجع ج ٣ ص ٣٣٠.
(٢). في ب ود: غلاما.
وَالْقُرْطُ فِي حُرَّةِ الذِّفْرَى مُعَلَّقُهُ | تَبَاعَدَ الْحَبْلُ مِنْهُ فَهُوَ يَضْطَرِبُ «١» |
(٢). الزيادة من ب ود.
(٢). زيادة من صحيح مسلم.
(٣). كذا في ب ود بالفاء. [..... ]
(٤). راجع ج ١٠ ص ٢٨.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٣٧ الى ٣٨]
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨)قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ) الْمَعْنَى: سَلَكَ بِهَا طَرِيقَ السُّعَدَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَى التَّقَبُّلِ التَّكَفُّلُ فِي التَّرْبِيَةِ وَالْقِيَامُ بِشَأْنِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى التَّقَبُّلِ أَنَّهُ مَا عَذَّبَهَا سَاعَةً قَطُّ مِنْ لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ. (وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً) يَعْنِي سَوَّى خَلْقَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، فَكَانَتْ تَنْبُتُ فِي الْيَوْمِ مَا يَنْبُتُ الْمَوْلُودُ فِي عَامٍ وَاحِدٍ. وَالْقَبُولُ وَالنَّبَاتُ مَصْدَرَانِ عَلَى غَيْرِ الْمَصْدَرِ، وَالْأَصْلُ تَقَبُّلًا وَإِنْبَاتًا. قَالَ الشَّاعِرُ:
أَكُفْرًا بَعْدَ رَدِّ الْمَوْتِ عَنِّي | وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةَ الرِّتَاعَا |
فَصِرْنَا إِلَى الْحُسْنَى وَرَقَّ كَلَامُنَا | وَرُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَةً أَيَّ إِذْلَالِ |
وَقَدْ تَطَوَّيْتُ انْطِوَاءَ الْحِضْبِ «١»
[الْأَفْعَى] «٢» لِأَنَّ مَعْنًى تَطَوَّيْتُ وَانْطَوَيْتُ وَاحِدٌ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ الْقَطَامِيِّ:
وَخَيْرُ الْأَمْرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ | وَلَيْسَ بِأَنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعًا |
(٢). الزيادة في نسخ: ج، ب، د.
(٣). راجع ج ١٣ ص ٢٤.
رَبَّةُ مِحْرَابٍ إِذَا جِئْتُهَا | لَمْ أَلْقَهَا حَتَّى أَرْتَقِي سُلَّمًا |
(٢). في الأصول:" قال عدى بن زيد" والتصويب عن الأغاني ولسان العرب وشرح القاموس. وهذا البيت من قصيدة لوضاح اليمن أولها:
يا ابنة الواحد جودي فما | إن تصرمينى فبما أو لما |
أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ آبَكَ الطَّرَبُ | مِنْ حَيْثُ لَا صَبْوَةُ وَلَا رِيَبُ. |
أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى | وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ |
(٢). راجع المسألة التاسعة عشرة ج ٢ ص ١٠٧.
(٣). في ب: ومنه قوله.
(٤). راجع ج ٩ ص ٣٢٧.
(٢). كذا في ب، ود.
(٣). راجع ج ١٣ ص ١١٢ وص ٨٢.
(٤). راجع ج ١١ ص ٨١. [..... ]
[سورة آل عمران (٣): آية ٣٩]
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩)قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ) قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" فَنَادَاهُ" بِالْأَلِفِ عَلَى التَّذْكِيرِ، وَيُمِيلَانِهَا لِأَنَّ أَصْلَهَا الْيَاءُ، وَلِأَنَّهَا رَابِعَةٌ. وَبِالْأَلِفِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ. وَرُوِيَ عَنْ جَرِيرٍ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُذَكِّرُ الْمَلَائِكَةَ فِي [كُلِّ] «١» الْقُرْآنِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: نَرَاهُ اخْتَارَ ذَلِكَ خِلَافًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُمْ قَالُوا: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ. قَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا احْتِجَاجٌ لَا يَحْصُلُ مِنْهُ شي، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: قَالَتِ الرِّجَالُ، وَقَالَ الرِّجَالُ، وَكَذَا النِّسَاءُ، وَكَيْفَ يُحْتَجُّ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُحْتَجَّ عَلَيْهِمْ بِالْقُرْآنِ بِهَذَا لَجَازَ أَنْ يَحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ" وَلَكِنَّ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ" [الزخرف: ١٩] «٢» أَيْ فَلَمْ يُشَاهِدُوا، فَكَيْفَ يَقُولُونَ إِنَّهُمْ إِنَاثٌ فَقَدْ عُلِمَ أَنَّ هَذَا ظَنٌّ وَهَوًى. وَأَمَّا" فَنَادَاهُ" فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى تَذْكِيرِ الْجَمْعِ،" وَنَادَتْهُ" عَلَى تَأْنِيثِ الْجَمَاعَةِ. قَالَ مَكِّيٌّ: وَالْمَلَائِكَةُ مِمَّنْ يُعْقَلُ فِي التَّكْسِيرِ فَجَرَى فِي التَّأْنِيثِ مَجْرَى مَا لَا يَعْقِلُ، تَقُولُ: هِيَ الرِّجَالُ، وَهِيَ الْجُذُوعُ، وَهِيَ الْجِمَالُ، وَقَالَتِ الْأَعْرَابُ. وَيُقَوِّي ذَلِكَ قَوْلُهُ:" وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ" وَقَدْ ذَكَرَ فِي موضع آخر فقال:" وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ" [الانعام: ٩٣] «٣» وَهَذَا إِجْمَاعٌ. وَقَالَ تَعَالَى:" وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ" [الرعد: ٢٣] «٤» فَتَأْنِيثُ هَذَا الْجَمْعِ وَتَذْكِيرُهُ حَسَنَانِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَادَاهُ جِبْرِيلُ وَحْدَهُ، وَكَذَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَفِي التَّنْزِيلِ" يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ" «٥» يَعْنِي جِبْرِيلَ، وَالرُّوحُ الْوَحْيُ. وَجَائِزٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ أَنْ يُخْبَرَ عَنِ الْوَاحِدِ بِلَفْظِ الْجَمْعِ. وَجَاءَ فِي التَّنْزِيلِ" الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ" [آل عمران: ١٧٣] «٦» يَعْنِي نُعَيْمَ بْنَ مَسْعُودٍ، عَلَى مَا يَأْتِي. وَقِيلَ: نَادَاهُ جَمِيعُ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ. أَيْ جاء النداء من قبلهم.
(٢). راجع ج ١٦ ص ٧٣.
(٣). راجع ج ٧ ص ٣٩.
(٤). راجع ج ٩ ص ٣١٢.
(٥). راجع ج ١٠ ص ٦٧.
(٦). راجع ص ٢٧٩ من هذا الجزء.
بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رَأَيْتُ صَحِيفَةً | أَتَتْكَ مِنَ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا |
وَإِذَا رَأَيْتَ الْبَاهِشِينَ» إِلَى النَّدَى | غُبْرًا أَكُفُّهُمُ بِقَاعٍ مُمْحِلٍ |
فَأَعِنْهُمُ وَابْشَرْ بِمَا بَشِرُوا بِهِ | وَإِذَا هُمُ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فَانْزِلِ |
يَا أُمَّ عَمْرٍو أَبْشِرِي بِالْبُشْرَى | مَوْتٍ ذَرِيعٍ وَجَرَادٍ عَظْلَى «٨» |
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٤٣ وص ١١ وص ١١٢. وفى أكثر الأصول:" عبادي" بالياء وهو رسم ورش في مصاحب المغرب.
(٣). راجع ج ٩ ص ٦٩.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٣٥.
(٥). كذا في الأصول والبغوي. والذي في البحر وابن عطية:" وفى قراءة عبد الله بن مسعود يبشرك بضم الياء وتخفيف الشين المكسورة من أبشر، وهكذا قرأ في كل القرآن".
(٦). هو عطية بن زيد، وقال ابن برى هو لعبد القيس بن خفاف البرجمي. (عن اللسان).
(٧). قال أب عبيد: يقال للإنسان إذا نظر إلى شي فأعجبه واشتهاه فتناوله وأسرع نحوه وفرح به: بهش إليه.
(٨). جراد عاظلة وعظلى: لا تبرح. في اللسان:" أراد أن يقول: يا أم عامر فلم يستقيم له البيت فقال يا أم عمرو، وام عامر كنية الضج: ومن كلامهم للضبع: أبشري بجراد عظلى، وكم رجال قتلى". [..... ]
سَوَاءٌ عَلَيْهِ شَاةُ عَامٍ دَنَتْ لَهُ | لِيَذْبَحَهَا لِلضَّيْفِ أَمْ شَاةُ سَيِّدِ |
وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ | عَلَيْكَ وَلَا أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ |
وَشَارِبٍ مُرْبِحٍ بِالْكَأْسِ نَادَمَنِي | لَا بِالْحَصُورِ وَلَا فِيهَا بِسَوَّارِ «١» |
وَقُمَاقِمٍ «٣» غُلْبِ الرِّقَابِ كَأَنَّهُمْ | جِنٌّ لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ قِيَامٌ |
فِيهَا اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ حَلُوبَةً | سُودًا كَخَافِيَةِ الْغُرَابِ الْأَسْحَمِ «٤» |
ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِهَا | إِذَا عَدِمُوا زَادًا فَإِنَّكَ عَاقِرُ |
(٢). راجع ج ١٠ ص ٢٢٤.
(٣). القماقم من الرجال: السيد الكثير الخير الواسع الفضل. والقماقم العدد الكثير.
(٤). البيت لعنترة العبسي في معلقته. والخوافي: أواخر ريش الجناح مما يلي الظهر.
(٥). كذا في د. قلت: هذا هو اللائق بالعصمة النبوية.
(٦). البيت لابي طالب بن عبد المطلب. مدح رجلا بالكرم فيقول: يضرب بسيفه سوق السمان من الإبل للأضياف إذا عدموا الزاد ولم يظفروا بجواد لشدة الزمان وكلبه، وكانوا إذا أرادوا نحر الناقة ضربوا ساقها بالسيف فخرت ثم تحروها. (عن شرح الشواهد).
[سورة آل عمران (٣): آية ٤٠]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ (٤٠)
قِيلَ: الرَّبُّ هُنَا جِبْرِيلُ، أَيْ قَالَ لِجِبْرِيلَ: رَبِّ- أَيْ يَا سَيِّدِي- أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ؟ يَعْنِي وَلَدًا، وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَوْلُهُ" رَبِّ" يَعْنِي اللَّهَ تَعَالَى." أَنَّى" بِمَعْنَى كَيْفَ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِ. وَفِي مَعْنَى هَذَا الِاسْتِفْهَامِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ سَأَلَ هَلْ يَكُونُ لَهُ الْوَلَدُ وَهُوَ وَامْرَأَتُهُ عَلَى حَالَيْهِمَا أَوْ يُرَدَّانِ إِلَى حَالِ مَنْ يَلِدُ؟. الثَّانِي سَأَلَ هَلْ يُرْزَقُ الْوَلَدُ مِنِ امْرَأَتِهِ الْعَاقِرِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا. وَقِيلَ: الْمَعْنَى بِأَيِّ مَنْزِلَةٍ أَسْتَوْجِبُ هَذَا وَأَنَا وَامْرَأَتِي عَلَى هَذِهِ الْحَالِ، عَلَى وَجْهِ التَّوَاضُعِ. وَيُرْوَى أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ دُعَائِهِ وَالْوَقْتِ الَّذِي بُشِّرَ فِيهِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَكَانَ يَوْمَ بُشِّرَ ابْنَ تِسْعِينَ سَنَةً وَامْرَأَتُهُ قَرِيبَةَ السِّنِّ مِنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: كَانَ يَوْمَ بُشِّرَ ابْنَ عِشْرِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ وَكَانَتِ امْرَأَتُهُ بِنْتَ ثَمَانٍ وَتِسْعِينَ سَنَةَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ" وَامْرَأَتِي عاقِرٌ" أَيْ عَقِيمٌ لَا تَلِدُ. يُقَالُ: رَجُلٌ عَاقِرٌ وَامْرَأَةٌ عَاقِرٌ بَيِّنَةُ الْعُقْرِ. وَقَدْ عَقُرَتْ وَعَقُرَ (بِضَمِ الْقَافِ فِيهِمَا) تَعْقُرُ عُقْرًا صَارَتْ عَاقِرًا، مِثْلَ حَسُنَتْ تَحْسُنُ حُسْنًا، عَنْ أَبِي زَيْدٍ. وَعُقَارَةٌ أَيْضًا. وَأَسْمَاءُ الْفَاعِلِينَ مِنْ فَعُلَ فَعِيلَةٌ، يُقَالُ: عَظُمَتْ فَهِيَ عَظِيمَةٌ، وَظَرُفَتْ فَهِيَ ظَرِيفَةٌ. وَإِنَّمَا قِيلَ عَاقِرٌ لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهِ ذَاتُ عُقْرٍ عَلَى النَّسَبِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْفِعْلِ لَقَالَ: عَقُرَتْ فَهِيَ عَقِيرَةٌ كَأَنَّ بِهَا عُقْرًا، أَيْ كِبَرًا مِنَ السِّنِّ يَمْنَعُهَا مِنَ الْوَلَدِ. وَالْعَاقِرُ: الْعَظِيمُ مِنَ الرَّمْلِ لَا يُنْبِتُ شَيْئًا. وَالْعُقْرُ أَيْضًا مَهْرُ الْمَرْأَةِ إِذَا وُطِئَتْ عَلَى شُبْهَةٍ. وَبَيْضَةُ الْعُقْرِ: زَعَمُوا هِيَ بَيْضَةُ الدِّيكِ، لِأَنَّهُ يَبِيضُ فِي عُمْرِهِ بَيْضَةً واحدة إلى الطول. وعقر النار أيضا.
(٢). من د.
شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا | غُلَامٌ إِذَا هَزَّ الْقَنَاةَ سقاها |
[سورة آل عمران (٣): آية ٤١]
قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١)
فِيهِ ثلاث مسائل:
قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً" جَعَلَ" هُنَا بِمَعْنَى صَيَّرَ لِتَعَدِّيهِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ. وَ" لِي" فِي مَوْضِعِ الْمَفْعُولِ الثَّانِي. وَلَمَّا بُشِّرَ بِالْوَلَدِ وَلَمْ يَبْعُدْ عِنْدَهُ هَذَا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى طَلَبَ آيَةً- أَيْ عَلَامَةً- يَعْرِفُ بِهَا صِحَّةَ هَذَا الْأَمْرِ وَكَوْنَهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تَعَالَى، فَعَاقَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ أَصَابَهُ السُّكُوتُ عَنْ كَلَامِ النَّاسِ لِسُؤَالِ الْآيَةِ بعد مشافهة الملائكة إياه، قاله أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ إِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَرَضٍ خَرَسٌ أَوْ نَحْوُهُ فَفِيهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ عِقَابٌ مَا. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: إِنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا حَمَلَتْ زَوْجُهُ مِنْهُ بِيَحْيَى أَصْبَحَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُكَلِّمَ أَحَدًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقْرَأُ التَّوْرَاةَ وَيَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى، فَإِذَا أَرَادَ مُقَاوَلَةَ أَحَدٍ لَمْ يُطِقْهُ. الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا رَمْزاً) الرَّمْزُ فِي اللُّغَةِ الْإِيمَاءُ بِالشَّفَتَيْنِ، وَقَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِيمَاءِ بِالْحَاجِبَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ وَالْيَدَيْنِ، وَأَصْلُهُ الْحَرَكَةُ. وَقِيلَ: طَلَبَ، تِلْكَ الْآيَةُ زِيَادَةَ طُمَأْنِينَةٍ. الْمَعْنَى: تَمِّمِ النِّعْمَةَ بِأَنْ تَجْعَلَ لِي آيَةً، وَتَكُونُ تِلْكَ الْآيَةُ زِيَادَةَ نِعْمَةٍ وَكَرَامَةٍ، فَقِيلَ لَهُ:" آيَتُكَ
" أَيْ تُمْنَعُ مِنَ الْكَلَامِ ثَلَاثَ لَيَالٍ، دَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ بُشْرَى الْمَلَائِكَةِ لَهُ." وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً" [مريم: ٩] «١» أَيْ أَوْجَدْتُكَ بِقُدْرَتِي فَكَذَلِكَ أُوجِدُ لَكَ الْوَلَدَ. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ النَّحَّاسُ وَقَالَ: قَوْلُ قَتَادَةَ إِنَّ زَكَرِيَّا عُوقِبَ بِتَرْكِ الْكَلَامِ قَوْلٌ مَرْغُوبٌ عَنْهُ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يُخْبِرْنَا أَنَّهُ أَذْنَبَ وَلَا أَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ هَذَا، وَالْقَوْلُ فِيهِ أَنَّ الْمَعْنَى اجْعَلْ لِي عَلَامَةً تَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْوَلَدِ، إِذْ كَانَ ذَلِكَ مُغَيَّبًا عَنِّي. وَ" رَمْزاً" نُصِبَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ المنقطع، قال الأخفش. وقال الكسائي: رمز يرمز ويرمز. وقرى" إِلَّا رَمْزًا" بِفَتْحِ الْمِيمِ وَ" رُمُزًا" بِضَمِّهَا وَضَمِّ الرَّاءِ، الْوَاحِدَةُ رَمْزَةٌ. الثَّالِثَةُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ تَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْكَلَامِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي كَثِيرٍ مِنَ السُّنَّةِ، وَآكَدُ الْإِشَارَاتِ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِ السَّوْدَاءِ حِينَ قَالَ لَهَا: (أَيْنَ اللَّهُ)؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: (أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ). فَأَجَازَ الْإِسْلَامَ بِالْإِشَارَةِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الدِّيَانَةِ الَّذِي يُحْرِزُ الدَّمَ وَالْمَالَ وَتُسْتَحَقُّ بِهِ الْجَنَّةُ وَيُنَجَّى بِهِ مِنَ النَّارِ، وَحُكِمَ بِإِيمَانِهَا كَمَا يُحْكَمُ بِنُطْقِ مَنْ يَقُولُ ذَلِكَ، فَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ عَامِلَةً فِي سَائِرِ الدِّيَانَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ. وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْأَخْرَسَ إِذَا أَشَارَ بِالطَّلَاقِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الرَّجُلِ يَمْرَضُ فَيَخْتَلُّ لِسَانُهُ فَهُوَ كَالْأَخْرَسِ فِي الرَّجْعَةِ وَالطَّلَاقِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: ذَلِكَ جَائِزٌ إِذَا كَانَتْ إِشَارَتُهُ تُعْرَفُ، وَإِنْ شُكَّ فِيهَا فَهِيَ بَاطِلٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِقِيَاسٍ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّهُ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا تُعْقَلُ إِشَارَتُهُ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطَّالٍ: وَإِنَّمَا حمل أبا حنيفة. على قول هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمِ السُّنَنَ الَّتِي جَاءَتْ بِجَوَازِ الْإِشَارَاتِ فِي أَحْكَامٍ مُخْتَلِفَةٍ فِي «٢» الدِّيَانَةِ. وَلَعَلَّ الْبُخَارِيَّ حَاوَلَ بِتَرْجَمَتِهِ" بَابَ الْإِشَارَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْأُمُورِ" الرَّدَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ" أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ" صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَكَانُوا إِذَا صَامُوا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا رَمْزًا. وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ- قَالَ بَعْضُ مَنْ يُجِيزُ نَسْخَ الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ: إِنَّ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنَعَ الْكَلَامَ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (لَا صمت يوما إلى الليل) «٣». وأكثر
(٢). في د: من الديانة.
(٣). وفى البحر وابن عطية" لا صمت يوم". ورواية أبى داود" ولا صمات يوم إلى الليل" راجع الحديث في اللسان مادة صمت.
[سورة آل عمران (٣): آية ٤٢]
وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ) أَيِ اخْتَارَكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ «٥». (وَطَهَّرَكِ) أَيْ مِنَ الْكُفْرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ. الزَّجَّاجُ: مِنْ سَائِرِ الْأَدْنَاسِ مِنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَغَيْرِهِمَا، وَاصْطَفَاكِ لِوِلَادَةِ عِيسَى (عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) يَعْنِي عَالَمِي زَمَانِهَا، عَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِمَا. وَقِيلَ:" عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ" أَجْمَعَ إِلَى يَوْمِ الصُّورِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ، وَهُوَ قَوْلُ الزَّجَّاجِ وَغَيْرِهِ. وَكَرَّرَ الِاصْطِفَاءَ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَوَّلِ الِاصْطِفَاءُ لِعِبَادَتِهِ، وَمَعْنَى الثَّانِي لِوِلَادَةِ عِيسَى. وَرَوَى مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كمل
(٢). راجع ج ١ ص ٣٣١. [..... ]
(٣). راجع ج ٨ ص ٣٢.
(٤). راجع ج ٨ ص ٣٢.
(٥). راجع ج ٢ ص ١٣٣.
(٢). راجع ج ١٨ ص ٢٠٣.
[سورة آل عمران (٣): آية ٤٣]
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
أَيْ أَطِيلِي الْقِيَامَ فِي الصَّلَاةِ، عَنْ مُجَاهِدٍ. قَتَادَةُ: أَدِيمِي الطَّاعَةَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْقُنُوتِ «٤». قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَمَّا قَالَتْ لَهَا الْمَلَائِكَةُ ذَلِكَ قامت في الصلاة حتى ورمت
(٢). راجع ج ١٨ ص ٢٠٣.
(٣). راجع ج ١١ ص ٩١.
(٤). راجع ج ٢ ص ٨٦ وج ٢ ص ٢١٣.
[سورة آل عمران (٣): آية ٤٤]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أَيِ الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَمَرْيَمَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنْ أَخْبَارِ الْغَيْبِ. (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أُخْبِرَ عَنْ قِصَّةِ زَكَرِيَّا وَمَرْيَمَ وَلَمْ يَكُنْ قَرَأَ الْكُتُبَ، وَأَخْبَرَ عَنْ ذَلِكَ وَصَدَّقَهُ أَهْلُ الْكِتَابِ بذلك، فذلك قوله تعالى:" نُوحِيهِ إِلَيْكَ" فرة الكناية إلى" ذلك" فلذلك. وَالْإِيحَاءُ هُنَا الْإِرْسَالُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْوَحْيُ يَكُونُ إِلْهَامًا وَإِيمَاءً وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ إِعْلَامٌ فِي خَفَاءٍ، وَلِذَلِكَ صَارَ الْإِلْهَامُ يُسَمَّى وَحْيًا، وَمِنْهُ" وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ" [المائدة: ١١١] «٣» وقوله:" وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ" [النَّحْلِ: ٦٨] «٤» وَقِيلَ: مَعْنَى" أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ" أَمَرْتُهُمْ، يُقَالُ: وَحَى وَأَوْحَى، وَرَمَى وَأَرْمَى، بِمَعْنَاهُ. قَالَ الْعَجَّاجُ:
أَوْحَى لَهَا الْقَرَارَ فَاسْتَقَرَّتْ
أَيْ أَمَرَ الْأَرْضَ بِالْقَرَارِ. وَفِي الْحَدِيثِ: (الْوَحْيَ الْوَحْيَ) وَهُوَ السُّرْعَةُ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ تَوَحَّيْتُ تَوَحِّيًا. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْوَحْيُ الْإِشَارَةُ وَالْكِتَابَةُ وَالرِّسَالَةُ، وَكُلُّ مَا ألقيته إلى غيرك
(٢). راجع المسألة الخامسة وما بعدها ج ١ ص ٣٤٤.
(٣). راجع ج ٦ ص ٣٦٣.
(٤). راجع ج ١٠ ص ١٣٣.
أوحيت ميمونا لها «١» والأزراق
الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) أَيْ وَمَا كُنْتَ يَا مُحَمَّدُ لَدَيْهِمْ، أَيْ بِحَضْرَتِهِمْ وَعِنْدَهُمْ (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) جَمْعُ قَلَمٍ، مِنْ قَلَمَهُ إِذَا قَطَعَهُ. قِيلَ: قِدَاحُهُمْ وَسِهَامُهُمْ. وَقِيلَ: أَقْلَامُهُمُ الَّتِي كَانُوا يَكْتُبُونَ بِهَا التَّوْرَاةَ، وَهُوَ أَجْوَدُ، لِأَنَّ الْأَزْلَامَ قَدْ نَهَى اللَّهُ عَنْهَا فقال" ذلِكُمْ فِسْقٌ" [المائدة: ٣] «٢». إِلَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا فَعَلُوا ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْجِهَةِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهَا. (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أَيَّ يَحْضُنُهَا، فَقَالَ زَكَرِيَّا: أَنَا أَحَقُّ بِهَا، خَالَتُهَا عِنْدِي. وَكَانَتْ عِنْدَهُ أَشْيَعُ بِنْتُ فَاقُودَ أُخْتُ حَنَّةَ بِنْتِ فَاقُودَ أُمِّ مَرْيَمَ. وَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا، بِنْتُ عَالِمِنَا. فَاقْتَرَعُوا عَلَيْهَا وَجَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ بِقَلَمِهِ، وَاتَّفَقُوا أَنْ يَجْعَلُوا الْأَقْلَامَ فِي الْمَاءِ الْجَارِي فَمَنْ وَقَفَ قَلَمُهُ وَلَمْ يَجُرَّهُ الْمَاءُ فَهُوَ حَاضِنُهَا. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فَجَرَتِ الْأَقْلَامُ وَعَالَ قَلَمُ زَكَرِيَّا). وَكَانَتْ آيَةً لَهُ، لِأَنَّهُ نَبِيٌّ تَجْرِي الْآيَاتُ عَلَى يَدَيْهِ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا. وَ" أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ" ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالْفِعْلِ الْمُضْمَرِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ، التَّقْدِيرُ: يَنْظُرُونَ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ. وَلَا يَعْمَلُ الْفِعْلُ فِي لَفْظِ" أَيِّ" لِأَنَّهَا اسْتِفْهَامٌ. الثَّالِثَةُ- اسْتَدَلَّ بَعْضُ عُلَمَائِنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى إِثْبَاتِ الْقُرْعَةِ، وَهِيَ أَصْلٌ فِي شَرْعِنَا لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ الْعَدْلَ فِي الْقِسْمَةِ، وَهِيَ سُنَّةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ فِي الْمُسْتَوِيينَ فِي الْحُجَّةِ لِيَعْدِلَ بَيْنَهُمْ وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ وَتَرْتَفِعَ الظِّنَّةُ عَمَّنْ يَتَوَلَّى قِسْمَتَهُمْ، وَلَا يَفْضُلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى صَاحِبِهِ إِذَا كَانَ الْمَقْسُومُ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ اتِّبَاعًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَرَدَّ الْعَمَلَ بِالْقُرْعَةِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ، وَرَدُّوا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِيهَا، وَزَعَمُوا أَنَّهَا لَا مَعْنَى لَهَا وَأَنَّهَا تُشْبِهُ الْأَزْلَامَ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ جَوَّزَهَا وَقَالَ: الْقُرْعَةُ فِي الْقِيَاسِ لَا تَسْتَقِيمُ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي ذَلِكَ وَأَخَذْنَا بِالْآثَارِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَقَدْ عَمِلَ بِالْقُرْعَةِ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ: يُونُسُ وَزَكَرِيَّا وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ ابْنُ المنذر. واستعمال القرعة
(٢). راجع ج ٦ ص ٦٠.
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي سُورَةِ" الزُّخْرُفِ" «٣» أَيْضًا بِحَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَحَدِيثَ أُمِّ الْعَلَاءِ، وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ طَارَ لَهُمْ سَهْمُهُ فِي السُّكْنَى حِينَ اقْتَرَعَتِ الْأَنْصَارُ سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ، الْحَدِيثَ، وَحَدِيثَ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنْ مَالِكٍ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ مَرَّةً: يُقْرَعُ لِلْحَدِيثِ. وَقَالَ مَرَّةً: يُسَافِرُ بِأَوْفَقِهِنَّ لَهُ فِي السَّفَرِ. وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إِلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عليه لاستهموا). وَالْأَحَادِيثُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَكَيْفِيَّةُ الْقُرْعَةِ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَالْخِلَافِ. وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنْ قَالَ: إِنَّ الْقُرْعَةَ فِي شَأْنِ زَكَرِيَّا وَأَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ مِمَّا لَوْ تَرَاضَوْا عَلَيْهِ دُونَ قُرْعَةٍ لَجَازَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" وَهَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْقُرْعَةَ إِنَّمَا فَائِدَتُهَا اسْتِخْرَاجُ الْحُكْمِ الْخَفِيِّ عِنْدَ التَّشَاحِّ «٤»، فَأَمَّا مَا يُخْرِجُهُ التَّرَاضِي [فِيهِ] «٥» فَبَابٌ آخَرُ، وَلَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الْقُرْعَةَ تَجْرِي مَعَ مَوْضِعِ التَّرَاضِي، فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ أَبَدًا مَعَ التَّرَاضِي" وَإِنَّمَا تَكُونُ فِيمَا يَتَشَاحُّ النَّاسُ فِيهِ وَيُضَنُّ بِهِ. وَصِفَةُ الْقُرْعَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ قَالَ بِهَا: أَنْ تُقْطَعَ رِقَاعٌ صِغَارٌ مُسْتَوِيَةٌ فَيُكْتَبُ فِي كُلِّ رُقْعَةٍ اسْمُ ذِي السَّهْمِ ثُمَّ تُجْعَلُ فِي بَنَادِقِ طِينٍ مُسْتَوِيَةٍ لَا تَفَاوُتَ فِيهَا ثُمَّ تُجَفَّفُ قَلِيلًا ثُمَّ تُلْقَى فِي ثَوْبِ رَجُلٍ لَمْ يَحْضُرْ ذَلِكَ وَيُغَطِّي عَلَيْهَا ثَوْبَهُ ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ وَيُخْرِجُ، فَإِذَا أَخْرَجَ اسْمَ رَجُلٍ أُعْطِيَ الجزء الذي أقرع عليه.
(٢). راجع ج ٧ ص ٣٩٢.
(٣). راجع ج ١٦ ص ٨٦.
(٤). تشاح الخصمان: أراد كل أن يكون هو الغالب.
(٥). زيادة عن أحكام القرآن لابن العربي.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٤٥ الى ٤٦]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦)
دليل على نبوتها كما تقدم. و" إِذْ"" مُتَعَلِّقَةٌ بِ" يَخْتَصِمُونَ". وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ:" وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ". (بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّانِ" بِكَلِمَةٍ مِنْهُ"، وَقَدْ تَقَدَّمَ. (اسْمُهُ الْمَسِيحُ) وَلَمْ يَقُلِ اسْمُهَا لِأَنَّ مَعْنَى كَلِمَةٍ مَعْنَى وَلَدٍ. وَالْمَسِيحُ لَقَبٌ لِعِيسَى وَمَعْنَاهُ الصِّدِّيقُ، قَالَهُ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ. وَهُوَ فِيمَا يُقَالُ مُعَرَّبٌ وَأَصْلُهُ الشِّينُ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ. وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَالْمَسِيحُ الْعِرْقُ، وَالْمَسِيحُ الصِّدِّيقُ، وَالْمَسِيحُ الدِّرْهَمُ الْأَطْلَسُ «٢» لَا نَقْشَ فِيهِ وَالْمَسْحُ الْجِمَاعُ، يُقَالُ مَسَحَهَا «٣». وَالْأَمْسَحُ: الْمَكَانُ الْأَمْلَسُ. وَالْمَسْحَاءُ الْمَرْأَةُ الرَّسْحَاءُ الَّتِي لا إست لها. وبفلان مسحة من جمال. والمسائح قسي جياد، واحدتها مسيحة. قال:
(٢). كذا في بعض النسخ والمصباح، وفى اللسان: الطلس: المحو، والطلس كتاب قد محي ولم ينعم محوه، ثم قال: والأطلس الثوب الخلق. وفى ز: الدرهم الأملس لا نقش عليه.
(٣). الظاهر أن هنا سقطا كأن الأصل: يقال مسحها إذا جامعها.
لَهَا مَسَائِحُ زُورٌ فِي مَرَاكِضِهَا | لِينٌ وَلَيْسَ بِهَا وَهْنٌ وَلَا رَقَقُ «١» |
إن المسيح يقتل المسيحا
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ) الْحَدِيثَ. وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو (إِلَّا الْكَعْبَةَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ) ذَكَرَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّبَرِيُّ. وَزَادَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ (وَمَسْجِدَ الطُّورِ)، رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جندب عن النبي
(٢). في ز: التطهر في ب ود: التطهير.
(٣). في ز، د: مسيخا- بالمعجمة- وأنه ممسوخ إحدى العينين.
(٢). الجمان (بضم الجيم وتخفيف الميم): حبات من الفضة تصنع على هيئة اللؤلؤ الكبار. [..... ]
(٣). لد (بضم اللام وتشديد الدال): قرية في فلسطين قريبة من بيت المقدس.
(٤). راجع صحيح مسلم ج ٢ ص ٣٧٦ طبع بولاق.
(٥). راجع القرطبي ج ١٤ ص ٤٤.
(٦). راجع ج ١١ ص ١٠٢.
(٧). الزيادة عن البحر لابي حيان.
(٢). راجع ج ١٩ ص ٢٨٤.
[سورة آل عمران (٣): آية ٤٧]
قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَتْ رَبِّ) أَيْ يَا سَيِّدِي. تُخَاطِبُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَثَّلَ لَهَا قَالَ لَهَا: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِيَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا. فَلَمَّا سَمِعَتْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ اسْتَفْهَمَتْ عَنْ طَرِيقِ الْوَلَدِ فَقَالَتْ: أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؟ أَيْ بِنِكَاحٍ. [فِي سُورَتِهَا] «٢» " وَلَمْ أَكُ «٣» بَغِيًّا" [مريم: ٢٠] ذَكَرَتْ هَذَا تَأْكِيدًا، لِأَنَّ قَوْلَهَا" لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ" يَشْمَلُ الْحَرَامَ وَالْحَلَالَ. تَقُولُ: الْعَادَةُ الْجَارِيَةُ الَّتِي أَجْرَاهَا اللَّهُ فِي خَلْقِهِ أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ نِكَاحٍ أَوْ سِفَاحٍ. وَقِيلَ: مَا اسْتَبْعَدَتْ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا، وَلَكِنْ أَرَادَتْ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْوَلَدُ: أمن قبل زوج في المستقبل أم يحلقه اللَّهُ ابْتِدَاءً؟ فَرُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ قَالَ لَهَا:" كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ"" قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ" [مريم: ٩]. نَفَخَ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا وَكُمِّهَا، قَالَهُ ابْنُ جُرَيْجٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخَذَ جِبْرِيلُ رُدْنَ «٤» قَمِيصِهَا بِأُصْبُعِهِ فَنَفَخَ فِيهِ فَحَمَلَتْ مِنْ سَاعَتِهَا بِعِيسَى. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَتِهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَقَعَ نَفْخُ جِبْرِيلَ فِي رحمها فعلقت
(٢). الزيادة في نخ: ب. ود. أي في سورة مريم" وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا".
(٣). راجع ج ١١ ص ٩١.
(٤). الردن (بالضم) أصل أصل الكم.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْكِتَابُ الْكِتَابَةُ وَالْخَطُّ. وَقِيلَ: هُوَ كِتَابٌ غَيْرُ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَلَّمَهُ اللَّهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. (وَرَسُولًا) أَيْ وَنَجْعَلُهُ رَسُولًا. أَوْ يُكَلِّمُهُمْ رَسُولًا. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ" وَجِيهاً". وَقَالَ الْأَخْفَشُ: وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ" وَرَسُولًا" مُقْحَمَةً وَالرَّسُولَ حَالًا لِلْهَاءِ، تَقْدِيرُهُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ رَسُولًا. وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيلِ (وَأَوَّلُ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوسَى وَآخِرُهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ). (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ) أَيْ أُصَوِّرُ وَأُقَدِّرُ لَكُمْ. مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) قَرَأَ الْأَعْرَجُ وَأَبُو جَعْفَرٍ" كَهَيَّةِ" بِالتَّشْدِيدِ. الْبَاقُونَ بِالْهَمْزِ.
فَارْتَدَّ ارْتِدَادَ الْأَكْمَهِ
وَقَالَ ابْنُ فَارِسٍ: الْكَمَهُ الْعَمَى يُولَدُ بِهِ الْإِنْسَانُ وَقَدْ يَعْرِضُ. قَالَ سُوَيْدٌ:
كَمَهَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى ابْيَضَّتَا
مُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي يُبْصِرُ بِالنَّهَارِ وَلَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ. عِكْرِمَةُ: هُوَ الْأَعْمَشُ، وَلَكِنَّهُ فِي اللُّغَةِ الْعَمَى، يُقَالُ كَمِهَ يَكْمَهُ كَمَهًا وَكَمَّهْتُهَا أَنَا إِذَا أَعْمَيْتُهَا. وَالْبَرَصُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ بَيَاضٌ يَعْتَرِي الْجِلْدَ، وَالْأَبْرَصُ الْقَمَرُ، وَسَامُّ أَبْرَصَ مَعْرُوفٌ، وَيُجْمَعُ عَلَى الْأَبَارِصِ. وَخُصَّ هَذَانِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمَا عَيَاءَانِ. وَكَانَ الْغَالِبُ عَلَى زَمَنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الطِّبَّ فَأَرَاهُمُ الله المعجزة من جنس ذلك (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ) قِيلَ: أَحْيَا أَرْبَعَةَ أَنْفُسٍ: الْعَاذِرُ: وَكَانَ صَدِيقًا لَهُ، وَابْنُ الْعَجُوزِ
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٥٠ الى ٥١]
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)قَوْلُهُ تعالى: وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١) (وَمُصَدِّقاً) عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ:" وَرَسُولًا". وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَجِئْتُكُمْ مُصَدِّقًا. (لِما بَيْنَ يَدَيَّ) لِمَا قَبْلِي. (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) فيه حذف، أي ولا حل لَكُمْ جِئْتُكُمْ. (بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) يَعْنِي مِنَ الْأَطْعِمَةِ. قِيلَ: إِنَّمَا أَحَلَّ لَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ بِذُنُوبِهِمْ وَلَمْ يَكُنْ فِي التَّوْرَاةِ، نَحْوَ أَكْلِ الشُّحُومِ وَكُلِّ ذِي ظُفُرٍ. وَقِيلَ: إِنَّمَا أَحَلَّ لَهُمْ أَشْيَاءَ حَرَّمَتْهَا عَلَيْهِمُ الْأَحْبَارُ وَلَمْ تَكُنْ فِي التَّوْرَاةِ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِمْ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" بَعْضَ" بِمَعْنَى كُلٍّ، وَأَنْشَدَ لَبِيدٌ:
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا | أَوْ يَرْتَبِطْ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا |
أَبَا مُنْذِرٍ أَفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضنَا | حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أَهْوَنُ مِنْ بَعْضِ |
(٢). هو طرفة بن العبد، خاطب به عمرو بن هند الملك، وكنيته أبو منذر حين أمر بقتله.
(٣). في د: آياته.
[سورة آل عمران (٣): آية ٥٢]
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢)قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) أَيْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَحَسَّ مَعْنَاهُ عَلِمَ وَوَجَدَ قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَعْنَى" أَحَسَّ" عَرَفَ، وَأَصْلُ ذَلِكَ وُجُودُ الشَّيْءِ بِالْحَاسَّةِ. وَالْإِحْسَاسُ: الْعِلْمُ بِالشَّيْءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ" [مريم: ٩٨] «١» وَالْحَسُّ الْقَتْلُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ" [آل عمران: ١٥٢] «٢». وَمِنْهُ الْحَدِيثُ فِي الْجَرَادِ (إِذَا حَسَّهُ الْبَرْدُ). (مِنْهُمُ الْكُفْرَ) أَيِ الْكُفْرَ بِاللَّهِ. وَقِيلَ: سَمِعَ مِنْهُمْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَرَادُوا قَتْلَهُ. (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ) اسْتَنْصَرَ عَلَيْهِمْ. قَالَ السُّدِّيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُمَا: الْمَعْنَى مَعَ اللَّهِ، فَإِلَى بِمَعْنَى مَعَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:" وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ" [النساء: ٢] «٣» أَيْ مَعَ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْمَعْنَى مَنْ أَنْصَارِي فِي السَّبِيلِ إِلَى اللَّهِ، لِأَنَّهُ دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى مَنْ يَضُمُّ نُصْرَتَهُ إِلَى نُصْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. فَإِلَى عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى بَابِهَا، وَهُوَ الْجَيِّدُ. وَطَلَبُ النُّصْرَةِ لِيَحْتَمِيَ بِهَا مِنْ قَوْمِهِ وَيُظْهِرَ الدَّعْوَةَ، عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ. وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ. وَقَدْ قَالَ لُوطٌ:" لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ" [هود: ٨٠] «٤» أَيْ عَشِيرَةٍ وَأَصْحَابٍ يَنْصُرُونَنِي." قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ" أَيْ أَنْصَارُ نَبِيِّهِ وَدِينِهِ. وَالْحَوَارِيُّونَ أَصْحَابُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ وَأَبُو رَوْقٌ. وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهِمْ بِذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِبَيَاضِ ثِيَابِهِمْ، وَكَانُوا صَيَّادِينَ. ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ وَابْنُ أَرْطَاةَ: كَانُوا قَصَّارِينَ فَسُمُّوا بِذَلِكَ لِتَبْيِيضِهِمُ الثِّيَابَ. قَالَ عَطَاءٌ: أَسْلَمَتْ مَرْيَمُ عِيسَى إِلَى أَعْمَالٍ شَتَّى، وَآخِرُ مَا دَفَعَتْهُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ وَكَانُوا قَصَّارِينَ وَصَبَّاغِينَ، فَأَرَادَ مُعَلِّمُ عِيسَى السَّفَرَ، فَقَالَ لِعِيسَى: عِنْدِي ثِيَابٌ كَثِيرَةٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانِ وَقَدْ عَلَّمْتُكَ الصِّبْغَةَ فَاصْبُغْهَا. فَطَبَخَ عِيسَى حُبًّا»
وَاحِدًا وَأَدْخَلَهُ جَمِيعَ الثِّيَابِ وَقَالَ: كُونِي: بِإِذْنِ اللَّهِ عَلَى مَا أُرِيدُ مِنْكِ. فَقَدِمَ الْحَوَارِيُّ وَالثِّيَابُ كُلُّهَا فِي الْحُبِّ فَلَمَّا رَآهَا قَالَ: قد أفسدتها،
(٢). راجع ج ٤ ص ٢٣٥.
(٣). راجع ج ٥ ص ١٠.
(٤). راجع ج ٩ ص ٧٨.
(٥). الحب بالضم: الخابية.
فَقُلْ لِلْحَوَارِيَّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَنَا | وَلَا تَبْكِنَا إِلَّا الْكِلَابُ النَّوَابِحُ |
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) أَيْ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا. (بِما أَنْزَلْتَ) يَعْنِي فِي كِتَابِكَ وَمَا أَظْهَرْتَهُ مِنْ حُكْمِكَ. (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) يَعْنِي عِيسَى. (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) يَعْنِي أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْمَعْنَى أَثْبِتْ أَسْمَاءَنَا مَعَ أَسْمَائِهِمْ وَاجْعَلْنَا مِنْ جُمْلَتِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى فَاكْتُبْنَا مع الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق.
[سورة آل عمران (٣): آية ٥٤]
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَكَرُوا) يَعْنِي كُفَّارَ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أَحَسَّ مِنْهُمُ الْكُفْرَ، أَيْ قَتْلَهُ «٢». وَذَلِكَ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أَخْرَجَهُ قَوْمُهُ وَأُمَّهُ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ عَادَ إِلَيْهِمْ مَعَ الْحَوَارِيِّينَ وَصَاحَ فِيهِمْ بِالدَّعْوَةِ فَهَمُّوا بِقَتْلِهِ وَتَوَاطَئُوا عَلَى الْفَتْكِ بِهِ، فَذَلِكَ مَكْرُهُمْ. وَمَكْرُ اللَّهِ: اسْتِدْرَاجُهُ لِعِبَادِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، عَنِ الْفَرَّاءِ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلَّمَا أَحْدَثُوا خَطِيئَةً جَدَّدْنَا لَهُمْ نِعْمَةً. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَكْرُ اللَّهِ مُجَازَاتُهُمْ عَلَى مَكْرِهِمْ، فَسُمِّيَ الْجَزَاءُ بِاسْمِ الِابْتِدَاءِ، كقوله:
(٢). في ز: بقتله.
٢ - راجع جـ١ ص ٢٠١..
٣ - راجع جـ٥ ص ٤٢١..
٤ - في اللسان: حسن خدالة الساقين أي امتلاؤها واستدارتها..
" [النساء: ١٤٢] «٢». وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ. وَأَصْلُ الْمَكْرِ فِي اللُّغَةِ الِاحْتِيَالُ وَالْخِدَاعُ. وَالْمَكْرُ: خَدَالَةُ «٣» السَّاقِ. وَامْرَأَةٌ مَمْكُورَةُ السَّاقَيْنِ. وَالْمَكْرُ: ضَرْبٌ مِنَ الثِّيَابِ. وَيُقَالُ: بَلْ هُوَ الْمَغْرَةُ، حَكَاهُ ابْنُ فَارِسٍ. وَقِيلَ:" مَكَرَ اللَّهُ" إِلْقَاءُ شَبَهِ عِيسَى عَلَى غَيْرِهِ وَرَفْعُ عِيسَى إِلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا اجْتَمَعُوا عَلَى قَتْلِ عِيسَى دَخَلَ الْبَيْتَ هَارِبًا مِنْهُمْ فَرَفَعَهُ جِبْرِيلُ مِنَ الْكُوَّةِ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ مَلِكُهُمْ لِرَجُلٍ مِنْهُمْ خَبِيثٍ يُقَالُ لَهُ يَهُوذَا: ادْخُلْ عَلَيْهِ فَاقْتُلْهُ، فَدَخَلَ الْخَوْخَةَ فَلَمْ يَجِدْ هُنَاكَ عِيسَى وَأَلْقَى اللَّهُ عَلَيْهِ شَبَهَ عِيسَى، فَلَمَّا خَرَجَ رَأَوْهُ عَلَى شَبَهِ عِيسَى فَأَخَذُوهُ وَقَتَلُوهُ وَصَلَبُوهُ. ثُمَّ قَالُوا: وَجْهُهُ يُشْبِهُ وَجْهَ عِيسَى، وَبَدَنُهُ يُشْبِهُ بَدَنَ صَاحِبِنَا، فَإِنْ كَانَ هَذَا صَاحِبَنَا فَأَيْنَ عِيسَى! وَإِنْ كَانَ هَذَا عِيسَى فَأَيْنَ صَاحِبُنَا! فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ فَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ". وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا عَلَى مَا يَأْتِي. (وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) اسْمُ فَاعِلٍ مِنْ مَكَرَ يَمْكُرُ مَكْرًا. وَقَدْ عَدَّهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَيَقُولُ إِذَا دَعَا بِهِ: يَا خَيْرَ الْمَاكِرِينَ امْكُرْ لِي. وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ: (اللَّهُمَّ امْكُرْ لِي وَلَا تَمْكُرْ عَلَيَّ). وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي الْكِتَابِ الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى. والله أعلم.
[سورة آل عمران (٣): آية ٥٥]
إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى (إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) الْعَامِلُ فِي" إِذْ" مَكَرُوا، أَوْ فِعْلٌ مُضْمَرٌ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَعَانِي مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ وَالْفَرَّاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ" عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، لِأَنَّ الْوَاوَ لَا تُوجِبُ الرُّتْبَةَ. وَالْمَعْنَى: إِنَى رَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمُتَوَفِّيكَ بَعْدَ أَنْ تَنْزِلَ مِنَ السَّمَاءِ، كقوله:" وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى" [طه: ١٢٩] «٤»، وَالتَّقْدِيرُ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ وَأَجَلٌ مُسَمًّى لكان لزاما. قال الشاعر:
(٢). راجع ج ٥ ص ٤٢١.
(٣). في اللسان: حسن خدالة الساقين أي امتلئوها واستدارتها.
(٤). راجع ج ١١ ص ٢٦٠.
أَلَا يَا نَخْلَةً مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ | عَلَيْكِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ السَّلَامُ |
(٢). المدرعة (بالكسر): الدراعة وهى ثوب من كتان؟.
(٢). راجع ج ١٨ ص ٩٠.
(٣). القلاص (بالكسر): جمع قلوص وهى الناقة الشابة.
(٤). فج الروحاء: طريق بين مكة والمدينة، كان طريق رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بدر وإلى مكة عام الفتح وعام الحج. (عن معجم ياقوت).
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٥٦ الى ٥٨]
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) يَعْنِي بِالْقَتْلِ وَالصَّلْبِ وَالسَّبْيِ وَالْجِزْيَةِ، وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ. (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ) " ذلِكَ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ" نَتْلُوهُ". وَيَجُوزُ: الْأَمْرُ ذَلِكَ، على إضمار المبتدإ.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٥٩ الى ٦٠]
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْقِيَاسِ. وَالتَّشْبِيهُ وَاقِعٌ عَلَى أَنَّ عِيسَى خُلِقَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ كَآدَمَ، لَا عَلَى أَنَّهُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ. وَالشَّيْءُ قَدْ يُشَبَّهُ بِالشَّيْءِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ كَبِيرٌ بَعْدَ أَنْ يَجْتَمِعَا فِي وَصْفٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ آدَمَ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ وَلَمْ يُخْلَقْ عِيسَى مِنْ تُرَابٍ فَكَانَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ، وَلَكِنْ شَبَهُ مَا بَيْنَهُمَا أَنَّهُمَا خَلْقَهُمَا مِنْ غَيْرِ أَبٍ، وَلِأَنَّ أَصْلَ خِلْقَتِهِمَا كَانَ مِنْ تُرَابٍ لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يُخْلَقْ مِنْ نفس التراب،
[سورة آل عمران (٣): آية ٦١]
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١)
فِي كُهُولٍ سَادَةٍ مِنْ قَوْمِهِ | نَظَرَ الدَّهْرُ إِلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ |
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٦٢ الى ٦٣]
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ) الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ" إِنَّ هَذَا" إِلَى الْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْأَقَاصِيصِ، سُمِّيَتْ قَصَصًا لِأَنَّ الْمَعَانِيَ تَتَتَابَعُ فِيهَا، فَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ يَقُصُّ أَثَرَ فُلَانٍ، أَيْ يَتَّبِعُهُ. (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ) " مِنْ" زَائِدَةٌ لِلتَّوْكِيدِ، وَالْمَعْنَى وَمَا إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ (الْعَزِيزُ) أَيِ الَّذِي لَا يُغْلَبُ. (الْحَكِيمُ) ذُو الْحِكْمَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مثله والحمد لله.
[سورة آل عمران (٣): آية ٦٤]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ) الْخِطَابُ فِي قَوْلِ الْحَسَنِ وَابْنِ زَيْدٍ وَالسُّدِّيِّ لِأَهْلِ نَجْرَانَ. وَفِي قَوْلِ قَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَغَيْرِهِمَا لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ، خُوطِبُوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا أَحْبَارَهُمْ فِي الطَّاعَةِ لَهُمْ كَالْأَرْبَابِ. وَقِيلَ: هُوَ لِلْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا. وَفِي كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ- مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ سَلَامٌ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ] «٢» أسلم تسلم
(٢). زيادة عن صحيح مسلم.
أَرُونِي خُطَّةً لَا ضَيْمَ فِيهَا | يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ |
(٢). الأريسيين: الأكارون والفلاحون والخدم، والخول، كل ذلك وارد في معنى هذه الكلمة.
(٣). هو أبو السمان العدوى.
(٤). راجع ج ١١ ص ٢٣٦. [..... ]
(٥). راجع ج ٨ ص ١١٩.
الأولى : قوله تعالى :" قل يا أهل الكتاب " الخطاب في قول الحسن وابن زيد والسدي لأهل نجران. وفي قول قتادة وابن جريج وغيرهما ليهود المدينة، خوطبوا بذلك ؛ لأنهم جعلوا أحبارهم في الطاعة لهم كالأرباب. وقيل : هو لليهود والنصارى جميعا. وفي كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل " بسم الله الرحمن الرحيم - من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام١ أسلم تسلم وأسلم٢ يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين٣، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله - إلى قوله :" فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " ". لفظ مسلم.
والسواء : العدل والنصفة، قاله قتادة. وقال زهير :
أروني خطة لا ضَيْمَ فيها | يُسَوّي بيننا فيها السَّوَاءُ |
الثانية : قوله تعالى :" ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله " أي لا نتبعه في تحليل شيء أو تحريمه إلا فيما حلله الله تعالى. وهو نظير قوله تعالى :" اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله " ٦ [ التوبة : ٣١ ] معناه أنهم أنزلوهم منزلة ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله ولم يحله الله. وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد الذي لا يستند إلى دليل شرعي، قال الكيا الطبري : مثل استحسانات أبي حنيفة في التقديرات التي قدرها دون مستندات بينة. وفيه رد على الروافض الذين يقولون : يجب قبول قول الإمام دون إبانة مستند شرعي، وإنه يحل ما حرمه الله من غير أن يبين مستندا من الشريعة. وأرباب جمع رب. و " دون " هنا بمعنى غير.
الثالثة : قوله تعالى :" فإن تولوا " أي أعرضوا عما دعوا إليه. " فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون " أي متصفون بدين الإسلام منقادون لأحكامه معترفون بما لله علينا في ذلك من المنن والإنعام، غير متخذين أحدا ربا لا عيسى ولا عزيزا ولا الملائكة ؛ لأنهم بشر مثلنا محدث كحدوثنا، ولا نقبل من الرهبان شيئا بتحريمهم علينا ما لم يحرمه الله علينا، فنكون قد اتخذناهم أربابا. وقال عكرمة : معنى " يتخذ " يسجد. وقد تقدم أن السجود كان إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم معاذا لما أراد أن يسجد، كما مضى في البقرة٧ بيانه. وروى أنس بن مالك قال : قلنا يا رسول الله، أينحني بعضنا لبعض ؟ قال ( لا ) قلنا : أيعانق بعضنا بعضا ؟ قال ( لا، ولكن تصافحوا ) أخرجه ابن ماجه في سننه. وسيأتي لهذا المعنى زيادة ببان في سورة " يوسف " ٨ إن٩ شاء الله، وفي " الواقعة " ١٠ مس القرآن أو بعضه على غير طهارة إن شاء الله تعالى.
٢ - زيادة عن صحيح مسلم..
٣ - الأريسيين: الأكارون والفلاحون والخدام والخول، كل ذلك وارد في معنى هذه الكلمة..
٤ - هو أبو السمال العدوي..
٥ - راجع جـ١١ ص ٢٣٦..
٦ - راجع جـ٨ ص ١١٩..
٧ - راجع جـ١ ص ٢٩٣..
٨ - راجع جـ٩ ص ٢٦٥..
٩ - الزيادة من نسخ: ز، ب..
١٠ - إيراد هذه الجملة هنا غير واضح المناسبة..
[سورة آل عمران (٣): آية ٦٥]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) الْأَصْلُ" لِمَا" فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ فَرْقًا بَيْنَ الِاسْتِفْهَامِ وَالْخَبَرِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِسَبَبِ دَعْوَى كُلِّ فَرِيقٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ عَلَى دِينِهِ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنَّ الْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ إِنَّمَا كَانَتَا من بعده، فذلك قَوْلُهُ:" وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ". قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذِهِ الْآيَةُ أَبْيَنُ حُجَّةً عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، إِذِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ أُنْزِلَا مِنْ بَعْدِهِ وَلَيْسَ فِيهِمَا «٥» اسْمٌ لِوَاحِدٍ مِنَ الْأَدْيَانِ، وَاسْمُ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ كِتَابٍ. وَيُقَالُ: كَانَ بَيْنَ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى أَلْفُ سَنَةٍ، وَبَيْنَ مُوسَى وَعِيسَى أَيْضًا أَلْفُ سَنَةٍ. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) دحوض حجتكم وبطلان قولكم. والله أعلم.
(٢). راجع ج ٩ ص ٢٦٥.
(٣). الزيادة من نسخ: ز، ب.
(٤). إيراد هذه الجملة هنا غير واضح المناسبة.
(٥). في الأصول: فيها والمثبت في: د.
[سورة آل عمران (٣): آية ٦٦]
هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (٦٦)فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (هَا أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ) يَعْنِي فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْلَمُونَهُ فِيمَا يَجِدُونَ مِنْ نَعْتِهِ فِي كِتَابِهِمْ فَحَاجُّوا فِيهِ بِالْبَاطِلِ. (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) يَعْنِي دَعْوَاهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا. وَالْأَصْلُ فِي" هَا أَنْتُمْ" أَأَنْتُمْ فأبذل مِنَ الْهَمْزَةِ الْأُولَى هَاءً لِأَنَّهَا أُخْتُهَا، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ وَالْأَخْفَشِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ. وَقَرَأَ قُنْبُلٌ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ" هَأَنْتُمْ" مِثْلَ هَعَنْتُمْ. وَالْأَحْسَنُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْهَاءُ بَدَلًا مِنْ هَمْزَةٍ فَيَكُونُ أَصْلُهُ أَأَنْتُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَا لِلتَّنْبِيهِ دَخَلَتْ عَلَى" أَنْتُمْ" وَحُذِفَتِ الْأَلِفُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَفِي" هؤُلاءِ" لُغَتَانِ الْمَدُّ وَالْقَصْرُ وَمِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقْصُرُهَا. وَأَنْشَدَ أَبُو حَاتِمٍ:
لَعَمْرُكَ إِنَّا وَالْأَحَالِيفُ هَاؤَلَا | لَفِي مِحْنَةٍ أَظْفَارُهَا لَمْ تُقَلَّمِ |
(٢). راجع ج ١٠ ص ٢٠٠.
[سورة آل عمران (٣): آية ٦٧]
مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧)
نَزَّهَهُ تَعَالَى مِنْ دَعَاوِيهِمُ الْكَاذِبَةِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ عَلَى الْحَنِيفِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَلَمْ يَكُنْ مُشْرِكًا. وَالْحَنِيفُ: الَّذِي يُوَحِّدُ وَيَحُجُّ وَيُضَحِّي وَيَخْتَتِنُ وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ. وَقَدْ مَضَى فِي" الْبَقَرَةِ" اشْتِقَاقُهُ «٢». وَالْمُسْلِمُ فِي اللُّغَةِ: الْمُتَذَلِّلُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنْطَاعُ لَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" مَعْنَى الْإِسْلَامِ»
مستوفى والحمد لله.
[سورة آل عمران (٣): آية ٦٨]
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨)
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ: وَاللَّهِ يَا مُحَمَّدُ لَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّا أَوْلَى النَّاسِ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ مِنْكَ وَمِنْ غَيْرِكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَهُودِيًّا وَمَا بِكَ إِلَّا الْحَسَدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. (أَوْلَى) مَعْنَاهُ أَحَقُّ، قِيلَ: بِالْمَعُونَةِ وَالنُّصْرَةِ. وَقِيلَ بِالْحُجَّةِ. (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) عَلَى مِلَّتِهِ وَسُنَّتِهِ. (وَهذَا النَّبِيُّ) أَفْرَدَ ذِكْرَهُ تَعْظِيمًا لَهُ، كما قال" فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ" [الرحمن: ٦٨] «٤» وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" هَذَا الْمَعْنَى مُسْتَوْفًى. وَ" هذَا" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَطْفٌ عَلَى الَّذِينَ، وَ" النَّبِيُّ" نَعْتٌ لِهَذَا أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ، وَلَوْ نُصِبَ لَكَانَ جَائِزًا فِي الْكَلَامِ عَطْفًا عَلَى الْهَاءِ فِي" اتَّبَعُوهُ". وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ أَيْ نَاصِرُهُمْ. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال:
(٢). راجع ج ٢ ص ١٣٩.
(٣). راجع ج ٢ ص ١٣٤.
(٤). راجع ج ١٧ ص ١٨٥.
[سورة آل عمران (٣): آية ٦٩]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩)
نَزَلَتْ في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمن وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ حِينَ دَعَاهُمُ الْيَهُودُ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ وَبَنِي قَيْنُقَاعَ إِلَى دِينِهِمْ. وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً" [البقرة: ١٠٩] «١». وَ" مِنْ" عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لِلتَّبْعِيضِ. وَقِيلَ: جَمِيعُ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَتَكُونُ" مِنْ" لِبَيَانِ الْجِنْسِ. وَمَعْنَى" لَوْ يُضِلُّونَكُمْ" أَيْ يُكْسِبُونَكُمُ الْمَعْصِيَةَ بِالرُّجُوعِ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ وَالْمُخَالَفَةِ لَهُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:" يُضِلُّونَكُمْ" أَيْ يُهْلِكُونَكُمْ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَخْطَلِ:
كُنْتَ الْقَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْبِدٍ | قَذَفَ الْأَتِيُّ «٢» بِهِ فَضَلَّ ضَلَالًا |
[سورة آل عمران (٣): آية ٧٠]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠)
أَيْ بِصِحَّةِ الْآيَاتِ الَّتِي عِنْدَكُمْ فِي كُتُبِكُمْ، عَنْ قَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ بِمِثْلِهَا مِنْ آيَاتِ «٤» الْأَنْبِيَاءِ الَّتِي أنتم مقرون بها.
[سورة آل عمران (٣): آية ٧١]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١)
(٢). الأتي. كل سبع يأتي من حيث لا تعلم. [..... ]
(٣). ف ج: يقطعون.
(٤). في ز: من الآيات البينات التي إلخ.
[سورة آل عمران (٣): آية ٧٢]
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢)
نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الأشرف ومالك بن الصف وَغَيْرِهِمَا، قَالُوا لِلسِّفْلَةِ مِنْ قَوْمِهِمْ: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ، يَعْنِي أَوَّلَهُ. وَسُمِّيَ وَجْهًا لِأَنَّهُ أَحْسَنُهُ، وَأَوَّلُ مَا يُوَاجَهُ مِنْهُ أَوَّلُهُ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَتُضِيءُ فِي وَجْهِ النَّهَارِ مُنِيرَةٌ | كَجُمَانَةِ الْبَحْرِيِّ سُلَّ نِظَامُهَا «٣» |
مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مَالِكٍ | فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارٍ |
(٢). في ج: معنى تلك.
(٣). البيت للبيد. والجمانة: حبة تحمل من الفضة كالذرة، والذي في اللسان والتاج: وتضى في وجه الظلام.
[سورة آل عمران (٣): آية ٧٣]
وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) هَذَا نَهْيٌ، وَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْيَهُودِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، أَيْ قَالَ ذَلِكَ الرُّؤَسَاءُ لِلسِّفْلَةِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مِنْ قَوْلِ يَهُودِ خَيْبَرَ لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَشْكَلُ مَا فِي السُّورَةِ. فَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ، وَلَا تُؤْمِنُوا أَنْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ لِأَنَّهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فَإِنَّكُمْ أَصَحُّ مِنْهُمْ دِينًا. وَ" أَنْ" وَ" يُحاجُّوكُمْ" فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ، أَيْ بِأَنْ يُحَاجُّوكُمْ أَيْ بِاحْتِجَاجِهِمْ، أَيْ لَا تُصَدِّقُوهُمْ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ لَا حُجَّةَ لَهُمْ. (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ) مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْمَنِّ وَالسَّلْوَى وَفَرْقِ الْبَحْرِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالْفَضَائِلِ. فَيَكُونُ" أَنْ يُؤْتى " مُؤَخَّرًا بَعْدَ" أَوْ يُحاجُّوكُمْ"، وَقَوْلُهُ" إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ" اعْتِرَاضٌ بَيْنَ كَلَامَيْنِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: الْمَعْنَى وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ وَلَا تُؤْمِنُوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ وَلَا تُصَدِّقُوا أَنْ يُحَاجُّوكُمْ، يَذْهَبُ إِلَى أَنَّهُ مَعْطُوفٌ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، فَالْمَدُّ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ أَيْضًا تَأْكِيدٌ لِلْإِنْكَارِ الَّذِي قَالُوهُ أَنَّهُ لَا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتُوهُ، لِأَنَّ عُلَمَاءَ الْيَهُودِ قَالَتْ لَهُمْ: لَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، أَيْ لَا يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ، فَالْكَلَامُ عَلَى نَسَقِهِ. وَ" أَنْ" فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى قَوْلِ مَنْ رَفَعَ فِي قَوْلِكَ أَزَيْدٌ ضَرَبْتَهُ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ تُصَدِّقُونَ أَوْ تُقِرُّونَ، أي إيتاء موجود مصدق أو مقربة، أَيْ لَا تُصَدِّقُونَ بِذَلِكَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ" أَنْ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ، كَمَا جَازَ فِي قَوْلِكَ أَزَيْدًا ضَرَبْتَهُ، وَهَذَا أَقْوَى فِي الْعَرَبِيَّةِ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ بِالْفِعْلِ أَوْلَى، وَالتَّقْدِيرُ أَتُقِرُّونَ أَنْ يُؤْتَى، أَوْ أَتُشِيعُونَ ذَلِكَ، أَوْ أَتَذْكُرُونَ ذَلِكَ وَنَحْوَهُ. وَبِالْمَدِّ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ مُحَيْصِنٍ وَحُمَيْدٌ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ:" أَنْ" مَعْنَاهُ" أَلِأَنْ"، فَحُذِفَتْ لَامُ الْجَرِّ اسْتِخْفَافًا وَأُبْدِلَتْ مَدَّةً، كَقِرَاءَةِ مَنْ
فَقُلْتُ لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّمَا | نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا |
وَكُنْتُ إِذَا غَمَزْتُ قَنَاةَ قَوْمٍ | كَسَرْتُ كُعُوبَهَا أَوْ تَسْتَقِيمَا |
(٢). في الأصول: إحداهما موضع الأخرى.
(٣). راجع ج ٦ ص ٢٨.
(٤). هو زياد الأعجم.
أَأَنْ رَأَتْ رَجُلًا أغشى أَضَرَّ بِهِ | رَيْبُ الْمَنُونِ وَدَهْرٌ مُتْبِلٌ خَبِلُ «٣» |
(٢). من ب، د.
(٣). متبل: مسقم، وخبل: ملتو على أهله لا يرون فيه سرورا.
[سورة آل عمران (٣): آية ٧٤]
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤)
أَيْ بِنُبُوَّتِهِ وَهِدَايَتِهِ، عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا. ابْنُ جُرَيْجٍ: بِالْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ" مَنْ يَشاءُ". قَالَ أَبُو عُثْمَانَ: أَجْمَلَ الْقَوْلَ لِيَبْقَى مَعَهُ رَجَاءُ الرَّاجِي وَخَوْفُ الْخَائِفِ، (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ العظيم).
[سورة آل عمران (٣): آية ٧٥]
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥)
فِيهِ ثَمَانُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) مِثْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ. (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) وَهُوَ فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ الْيَهُودِيُّ، أَوْدَعَهُ رَجُلٌ دِينَارًا فَخَانَهُ. وَقِيلَ: كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابُهُ. وَقَرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَشْهَبُ الْعُقَيْلِيُّ" مَنْ إِنْ تِيْمَنْهُ" عَلَى لُغَةِ مَنْ قَرَأَ" نِسْتَعِينُ" وَهِيَ لُغَةُ بَكْرٍ وَتَمِيمٍ. وَفِي حَرْفِ عَبْدِ الله" مالك لَا تَيْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ" وَالْبَاقُونَ بِالْأَلِفِ. وَقَرَأَ نافع والكسائي" يؤدهي" بِيَاءٍ فِي الْإِدْرَاجِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَاتَّفَقَ أَبُو عَمْرٍو وَالْأَعْمَشُ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ فِي رِوَايَةِ أبي بكر
لَمَّا رَأَى أَلَّا دَعَهْ وَلَا شِبَعْ | مَالَ إِلَى أَرْطَاةِ حِقْفٍ «١» فَاضْطَجَعْ |
(٢). من د.
(٢). نخ: ب.
(٣). جنبة الوادي (بفتح النون): جانب وناحية. والجنبة (بسكون النون): الناحية، يقال: نزل فلان جنبة أي ناحية.
(٤). راجع ج ١ ص ١٨٨، وصحيح مسلم ج ١ ص ٥١ طبع بولاق.
الأولى : قوله تعالى :" ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك " مثل عبدالله بن سلام. " ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك " وهو فنحاص بن عازوراء اليهودي، أودعه رجل دينارا فخانه. وقيل : كعب بن الأشرف وأصحابه. وقرأ ابن وثاب والأشهب العقيلي " من إن تيمنه " على لغة من قرأ " نستعين " وهي لغة بكر وتميم. وفي حرف عبد الله " مالك لا تِيْمَنّا على يوسف " والباقون بالألف. وقرأ نافع والكسائي " يؤدهي " بياء في الإدراج. قال أبو عبيد : واتفق أبو عمرو والأعمش وعاصم وحمزة في رواية أبي بكر على وقف الهاء، فقرؤوا " يؤدّهْ إليك ". قال النحاس : بإسكان الهاء لا يجوز إلا في الشعر عند بعض النحويين، وبعضهم لا يجيزه البتة ويرى أنه غلط ممن قرأ به، وإنه توهم أن الجزم يقع على الهاء، وأبو عمرو أجل من أن يجوز عليه مثل هذا. والصحيح عنه أنه كان يكسر الهاء، وهي قراءة يزيد بن القعقاع. وقال الفراء : مذهب بعض العرب يجزمون الهاء إذا تحرك ما قبلها، يقولون : ضربته ضربا شديدا، كما يسكنون ميم أنتم وقمتم وأصلها الرفع، كما قال الشاعر :
لما رأى ألاّ دَعَهْ ولا شِبَعْ | مال إلى أرْطاة حِقْف١ فاضطّجع |
الثانية : أخبر تعالى أن في أهل الكتاب الخائن والأمين، والمؤمنون لا يميزون ذلك، فينبغي اجتناب جميعهم. وخص أهل الكتاب بالذكر وإن كان المؤمنون كذلك ؛ لأن الخيانة فيهم أكثر، فخرج الكلام على الغالب. والله أعلم. وقد مضى تفسير القنطار. وأما الدينار فأربعة وعشرون قيراطا والقيراط ثلاث حبات من وسط الشعير، فمجموعه اثنتان وسبعون حبة، وهو مجمع عليه. ومن حفظ الكثير وأداه فالقليل أولى، ومن خان في اليسير أو منعه فذلك في الكثير أكثر. وهذا أدل دليل على القول بمفهوم الخطاب. وفيه بين العلماء خلاف كثير٢ مذكور في أصول الفقه. وذكر تعالى قسمين : من يؤدّي ومن لا يؤدّي إلا بالملازمة عليه، وقد يكون من الناس من لا يؤدِّي وإن دمت عليه قائما. فذكر تعالى القسمين لأنه الغالب والمعتاد والثالث نادر، فخرج الكلام على الغالب. وقرأ طلحة بن مصرف وأبو عبد الرحمن السلمي وغيرهما " دمت " بكسر الدال وهما لغتان، والكسر لغة أزْد السَّراة، من " دِمْت تدام " مثل : خفت تخاف. وحكى الأخفش : دِمت تدوم، شاذا.
الثالثة : استدل أبو حنيفة على مذهبه في ملازمة الغريم بقوله تعالى :" إلا ما دمت عليه قائما " وأباه سائر العلماء، وقد تقدم في البقرة٣. وقد استدل بعض البغداديين من علمائنا٤ على حبس المِديان بقوله تعالى :" ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما " فإذا كان له ملازمته ومنعه من التصرف، جاز حبسه. وقيل : إن معنى " إلا ما دمت عليه قائما " أي بوجهك فيهابك ويستحي منك، فان الحياء في العينين ؛ ألا ترى إلى قول ابن عباس رضي الله عنه : لا تطلبوا من الأعمى حاجة فإن الحياء في العينين. وإذا طلبت من أخيك حاجة فانظر إليه بوجهك حتى يستحي فيقضيها. ويقال :" قائما " أي ملازما له ؛ فإن أنظرته أنكرك. وقيل : أراد بالقيام إدامة المطالبة لا عين القيام. والدينار أصله دِنّار فعوضت من إحدى النونين ياء طلبا للتخفيف لكثرة استعماله. يدل عليه أنه يجمع دنانير ويصغر دُنَيْنير.
الرابعة : الأمانة عظيمة القدر في الدين، ومن عظم قدرها أنها تقوم هي والرحم على جَنَبَتَي٥ الصراط، كما في صحيح مسلم. فلا يمكن من الجواز إلا من حفظهما. وروى مسلم عن حذيفة قال : حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن رفع الأمانة، قال :( ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه ) الحديث. وقد تقدم بكماله أول البقرة٦. وروى ابن ماجه حدثنا محمد بن المصفى حدثنا محمد بن حرب عن سعيد بن سنان عن أبي الزاهرية عن أبي شجرة كثير بن مرة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الله عز وجل إذا أراد أن يهلك عبدا نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتا ممقتا، فإذا لم تلقه إلا مقيتا ممقتا نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنا مخونا، فإذا لم تلقه إلا خائنا مخونا نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا رجيما ملعنا، فإذا لم تلقه إلا رجيما ملعنا نزعت منه رِبْقة الإسلام ). وقد مضى في البقرة معنى قوله عليه السلام :( أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك ). والله أعلم.
الخامسة : ليس في هذه الآية تعديل لأهل الكتاب ولا لبعضهم خلافا لمن ذهب إلى ذلك ؛ لأن فساق المسلمين يوجد فيهم من يؤدي الأمانة ويؤمن على المال الكثير ولا يكونون بذلك عدولا. فطريق العدالة والشهادة ليس يجزئ فيه أداء الأمانة في المال من جهة المعاملة والوديعة، ألا ترى قولهم :" ليس علينا في الأميين سبيل " [ آل عمران : ٧٥ ] فكيف يعدل من يعتقد استباحة أموالنا وحريمنا بغير حرج عليه، ولو كان ذلك كافيا في تعديلهم لسمعت شهادتهم على المسلمين.
السادسة : قوله تعالى :" ذلك بأنهم قالوا " يعني اليهود " ليس علينا في الأميين سبيل " قيل : إن اليهود كانوا إذا بايعوا المسلمين يقولون : ليس علينا في الأميين سبيل - أي حرج في ظلمهم - لمخالفتهم إيانا. وادعوا أن ذلك في كتابهم، فأكذبهم الله عز وجل ورد عليهم فقال :" بلى " أي بلى عليهم سبيل العذاب بكذبهم واستحلالهم أموال العرب. قال أبو إسحاق الزجاج : وتم الكلام. ثم قال :" من أوفى بعهده واتقى " [ آل عمران : ٧٦ ]. ويقال : إن اليهود كانوا قد استدانوا من الأعراب أموالا فلما أسلم أرباب الحقوق قالت اليهود : ليس لكم علينا شيء ؛ لأنكم تركتم دينكم فسقط عنا دَينكم. وادّعوا أنه حكم التوراة فقال الله تعالى :" بلى " ردا لقولهم " ليس علينا في الأميين سبيل ". أي ليس كما تقولون، ثم استأنف فقال :" من أوفى بعهده واتقى " الشرك فليس من الكاذبين بل يحبه الله ورسوله.
السابعة : قال رجل لابن عباس : إنا نصيب في العَمْد من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ونقول : ليس علينا في ذلك بأس. فقال له : هذا كما قال أهل الكتاب " ليس علينا في الأميين سبيل " إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا عن طيب أنفسهم، ذكره عبد الرازق عن معمر عن أبي إسحاق الهمداني عن صعصعة أن رجلا قال لابن عباس، فذكره.
الثامنة : قوله تعالى :" ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون " يدل على أن الكافر لا يُجعل أهلا لقبول شهادته ؛ لأن الله تعالى وصفه بأنه كذاب. وفيه رد عل الكفرة الذين يحرمون ويحللون غير تحريم الله وتحليله ويجعلون ذلك من الشرع. قال ابن العربي : ومن هذا يخرج الرد على من يحكم بالاستحسان من غير دليل، ولست أعلم أحدا من أهل القبلة قاله. وفي الخبر : لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى الله عليه وسلم :( ما شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدمي إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر ).
٢ - من د..
٣ - راجع جـ٣ ص ٣٧١..
٤ - نخ: ب..
٥ - جنبة الوادي (بفتح النون): جانبه وناحيته. والجنبة (بسكون النون): الناحية، يقال: نزل فلان جنبة أي ناحية..
٦ - راجع جـ١ ص ١٨٨، وصحيح مسلم جـ١ ص ٥١ طبع بولاق..
[سورة آل عمران (٣): آية ٧٦]
بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦)
" مَنْ" رُفِعَ بِالِابْتِدَاءِ وَهُوَ شَرْطٌ. وَ" أَوْفى " فِي مَوْضِعِ جَزْمٍ. وَ" اتَّقى " مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، أَيْ وَاتَّقَى اللَّهَ وَلَمْ يَكْذِبْ وَلَمْ يَسْتَحِلَّ مَا حُرِّمَ عَلَيْهِ. (فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) أَيْ يُحِبُّ أُولَئِكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى حُبِّ اللَّهِ لِأَوْلِيَائِهِ. وَالْهَاءُ فِي قَوْلِهِ" بِعَهْدِهِ" رَاجِعَةٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَدْ جَرَى ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ" وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ" وَيَجُوزُ أَنْ تَعُودَ عَلَى الْمُوَفِّي وَمُتَّقِي الْكُفْرِ وَالْخِيَانَةِ وَنَقْضِ الْعَهْدِ. وَالْعَهْدُ مصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول.
[سورة آل عمران (٣): آية ٧٧]
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- رَوَى الْأَئِمَّةُ عَنِ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ أَرْضٌ فَجَحَدَنِي فَقَدَّمْتُهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَلْ
الأولى : روى الأئمة عن الأشعث بن قيس قال : كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :( هل لك بينة ) ؟ قلت لا، قال لليهودي :( احلف ) قلت : إذاً يحلف فيذهب بمالي، فأنزل الله تعالى :" إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا " إلى آخر الآية. وروى الأئمة أيضا عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة ). فقال له رجل : وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله ؟ قال :( وإن كان قضيبا من أراك )١. وقد مضى في البقرة معنى " لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم " ٢.
الثانية : ودلت هذه الآية والأحاديث أن حكم الحاكم لا يحل المال في الباطن بقضاء الظاهر إذا علم المحكوم له بطلانه، وقد روى الأئمة عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة ). وهذا لا خلاف فيه بين الأئمة٣، وإنما ناقض أبو حنيفة وغلا وقال : إن حكم الحاكم المبني على الشهادة الباطلة يحل الفرج لمن كان محرما عليه ؛ كما تقدم في البقرة٤. وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما فإن فرجها يحل لمتزوجها ممن يعلم أن القضية باطل. وقد شُنّع عليه بإعراضه عن هذا الحديث الصحيح الصريح، وبأنه صان الأموال ولم ير استباحتها بالأحكام الفاسدة، ولم يصن الفروج عن ذلك، والفروج أحق أن يحتاط لها وتصان. وسيأتي بطلان قوله في آية اللعان٥ إن شاء الله تعالى.
٢ - جـ٢ ص ٢٣٤..
٣ - في د: بين الأمة..
٤ - راجع المسألة الثالثة جـ٢ ص ٣٣٨..
٥ -راجع جـ١٢ ص ١٨٢..
[سورة آل عمران (٣): آية ٧٨]
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨)
(٢). ج ٢ ص ٢٣٤.
(٣). في د: بين الامة.
(٤). راجع المسألة الثالثة ج ٢ ص ٣٣٨.
(٥). راجع ج ١٢ ص ١٨٢.
قَدْ كُنْتُ دَايَنْتُ بِهَا حَسَّانَا | مَخَافَةَ الْإِفْلَاسِ وَاللِّيَانَا |
وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ:
تُرِيدِينَ «٣» لِيَانِي وَأَنْتِ مَلِيَّةٌ | وَأَحْسَنُ يَا ذَاتِ الْوِشَاحِ التَّقَاضِيَا |
[سورة آل عمران (٣): آية ٧٩]
مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩)
" مَا كانَ" مَعْنَاهُ مَا يَنْبَغِي، كَمَا قَالَ:" وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً" [النساء: ٩٢] وَ" مَا كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ" [مريم: ٣٥] «٤». وَ" مَا يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا" [النور: ١٦]»
يَعْنِي مَا يَنْبَغِي. وَالْبَشَرُ يَقَعُ لِلْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَصْدَرِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا عِيسَى فِي قَوْلِ الضَّحَّاكِ وَالسُّدِّيِّ. وَالْكِتَابُ: الْقُرْآنُ. وَالْحُكْمُ: الْعِلْمُ وَالْفَهْمُ. وَقِيلَ أَيْضًا: الْأَحْكَامُ. أَيْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَصْطَفِي لِنُبُوَّتِهِ الْكَذَبَةَ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بَشَرٌ لَسَلَبَهُ اللَّهُ آيَاتِ النُّبُوَّةِ وَعَلَامَاتِهَا. وَنَصَبَ" ثُمَّ يَقُولَ" عَلَى الِاشْتِرَاكِ بَيْنَ" أَنْ يُؤْتِيَهُ" وَبَيْنَ" يَقُولَ" أَيْ لَا يَجْتَمِعُ لِنَبِيٍّ إِتْيَانُ النُّبُوَّةِ وَقَوْلُهُ:" كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ". (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) أَيْ وَلَكِنْ جائز أن يكون النبي يقول لهم
(٢). ج ٥ ص ٢٣٩ وص ٢٤٣ من هذا الجزء.
(٣). في ديوانه:" تعليلين".
(٤). راجع ج ١١ ص ١٠٧. [..... ]
(٥). راجع ج ١٢ ص ١٩٧
لَوْ كُنْتُ مُرْتَهَنًا فِي الْجَوِّ «٢» أَنْزَلَنِي | مِنْهُ الْحَدِيثُ وَرَبَّانِيُّ أَحْبَارِي |
(٢). في: زوا: في الحق.
[سورة آل عمران (٣): آية ٨٠]
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠)
قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى" أَنْ يُؤْتِيَهُ". وَيُقَوِّيهِ أَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتُرِيدُ أَنْ نَتَّخِذَكَ يَا مُحَمَّدُ رَبًّا؟ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ- إِلَى قَوْلِهِ: وَلا يَأْمُرَكُمْ". وَفِيهِ ضَمِيرُ الْبَشَرِ، أَيْ وَلَا يَأْمُرُكُمُ الْبَشَرُ يَعْنِي عِيسَى وعزيرا. وقرا والباقون بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ وَالْقَطْعِ مِنَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، وَفِيهِ ضَمِيرُ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، أَيْ وَلَا يَأْمُرُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَتَّخِذُوا. وَيُقَوِّي هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَنَّ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ" وَلَنْ يَأْمُرَكُمْ" فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَالضَّمِيرُ أَيْضًا لله عز وجل، ذكره مكي، وقاله سيبويه والزجاج. وقال ابن جريح وَجَمَاعَةٌ: وَلَا يَأْمُرُكُمْ مُحَمَّدٌ
[سورة آل عمران (٣): آية ٨١]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١)
قِيلَ: أَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى مِيثَاقَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَأْمُرَ بَعْضُهُمْ بِالْإِيمَانِ بَعْضًا، فَذَلِكَ مَعْنَى النُّصْرَةِ بِالتَّصْدِيقِ. وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَطَاوُسٍ وَالسُّدِّيِّ وَالْحَسَنِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ. قَالَ طَاوُسٌ: أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الْأَوَّلِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَنْ يُؤْمِنَ بِمَا جَاءَ بِهِ الْآخِرِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ" وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ" [آل عمران: ١٨٧]. قَالَ الْكِسَائِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ" وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ" بِمَعْنَى وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ مَعَ النَّبِيِّينَ. وَقَالَ الْبَصْرِيُّونَ: إِذَا أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ فَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَ الَّذِينَ مَعَهُمْ، لِأَنَّهُمْ قَدِ اتَّبَعُوهُمْ وَصَدَّقُوهُمْ. وَ" مَا" فِي قَوْلِهِ" لَما" بِمَعْنَى الَّذِي. قَالَ سيبويه: سألت الخليل ابن أَحْمَدَ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:" وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ" فَقَالَ: لَما بِمَعْنَى الَّذِي. قَالَ النَّحَّاسُ: التَّقْدِيرُ عَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ لَلَّذِي آتَيْتُكُمُوهُ، ثُمَّ حذف
(٢). الزيادة من د، ب.
(٢). كذا في ب، ود. وفى السمين: التقدر والله لأي شي أتيتكم من كذا وكذا لتؤمن به.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٣٢٥.
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا | لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامِ سَابِعُ |
" أَقْرَرْتُمْ" مِنَ الْإِقْرَارِ، وَالْإِصْرُ وَالْأَصْرُ لُغَتَانِ، وَهُوَ الْعَهْدُ. وَالْإِصْرُ فِي اللُّغَةِ الثِّقَلُ، فَسُمِّيَ الْعَهْدُ إِصْرًا لِأَنَّهُ مَنْعٌ وَتَشْدِيدٌ. (قالَ فَاشْهَدُوا) أَيِ اعْلَمُوا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الزَّجَّاجُ: بَيِّنُوا لِأَنَّ الشَّاهِدَ هُوَ الَّذِي يُصَحِّحُ دَعْوَى الْمُدَّعِي. وَقِيلَ: الْمَعْنَى اشْهَدُوا أَنْتُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَعَلَى أَتْبَاعِكُمْ. (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) عَلَيْكُمْ وَعَلَيْهِمْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمَلَائِكَةِ فَاشْهَدُوا عَلَيْهِمْ، فتكون كناية عن غير مذكور.
[سورة آل عمران (٣): آية ٨٢]
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢)
" فَمَنْ" شَرْطٌ. فَمَنْ تَوَلَّى مِنْ أُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ عَنِ الْإِيمَانِ بَعْدَ أَخْذِ الْمِيثَاقِ (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) أَيِ الْخَارِجُونَ عَنِ الْإِيمَانِ. وَالْفَاسِقُ الْخَارِجُ. وَقَدْ تقدم «١».
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٨٣ الى ٨٤]
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤)قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ) قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ وَأَصْحَابَهُ اخْتَصَمُوا مَعَ النَّصَارَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَيُّنَا أَحَقُّ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَلَا الفريقين برئ مِنْ دِينِهِ). فَقَالُوا: مَا نَرْضَى بِقَضَائِكَ وَلَا نَأْخُذُ بِدِينِكَ، فَنَزَلَ" أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ" يَعْنِي يَطْلُبُونَ. وَنُصِبَتْ" غَيْرُ" بِيَبْغُونَ، أَيْ يَبْغُونَ غَيْرَ دِينِ اللَّهِ. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ" يَبْغُونَ" بِالْيَاءِ عَلَى الْخَبَرِ" وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" بِالتَّاءِ عَلَى الْمُخَاطَبَةِ. قَالَ: لِأَنَّ الْأَوَّلَ خَاصٌّ وَالثَّانِيَ عَامٌّ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِافْتِرَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى. وَقَرَأَ حفص وغيره" يبغون، ويرجعون" بِالْيَاءِ فِيهِمَا، لِقَوْلِهِ:" فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ". وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا عَلَى الْخِطَابِ، لِقَوْلِهِ" لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ". وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَهُ أَسْلَمَ) أَيِ اسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ وَخَضَعَ وَذَلَّ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَهُوَ مُنْقَادٌ مُسْتَسْلِمٌ، لِأَنَّهُ مَجْبُولٌ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ. قَالَ قَتَادَةُ: أَسْلَمَ الْمُؤْمِنُ طَوْعًا وَالْكَافِرُ عِنْدَ مَوْتِهِ كَرْهًا وَلَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ، لِقَوْلِهِ:" فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا" [المؤمن: ٨٥] «١». قَالَ مُجَاهِدٌ: إِسْلَامُ الْكَافِرِ كَرْهًا بِسُجُودِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ وَسُجُودِ ظِلِّهِ لِلَّهِ،" أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ" [النحل: ٤٨] «٢»." وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ" [الرعد: ١٥] «٣». وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْهُمْ، فَمِنْهُمُ الْحَسَنُ وَالْقَبِيحُ وَالطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ وَالصَّحِيحُ وَالْمَرِيضُ وَكُلُّهُمْ مُنْقَادُونَ اضْطِرَارًا، فَالصَّحِيحُ مُنْقَادٌ طَائِعٌ مُحِبٌّ لِذَلِكَ، وَالْمَرِيضُ مُنْقَادٌ خَاضِعٌ وإن كان كارها. والطوع الانقياد
(٢). راجع ج ١٠ ص ١١١.
(٣). راجع ج ٩ ص ٣٠١.
[سورة آل عمران (٣): آية ٨٥]
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥)
" غَيْرَ" مَفْعُولٌ بِيَبْتَغِ،" دِيناً" مَنْصُوبٌ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ دِينًا بِيَبْتَغِ، وَيَنْتَصِبَ" غَيْرَ" عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ الدِّينِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: نزلت هذه الآية في الحارث ابن سويد أخو الحلاس بْنِ سُوَيْدٍ، وَكَانَ مِنَ الْأَنْصَارِ، ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ هُوَ وَاثْنَا عَشَرَ مَعَهُ وَلَحِقُوا بِمَكَّةَ كُفَّارًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَخِيهِ يَطْلُبُ التَّوْبَةَ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَسْلَمَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَاتِ. (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)
(٢). راجع ج ١٣ ص ٣٦١. [..... ]
(٣). شمست الدابة: شردت وجمحت ومنعت ظهرها.
[سورة آل عمران (٣): آية ٨٦]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ أَسْلَمَ ثُمَّ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالشِّرْكِ ثُمَّ نَدِمَ، فَأَرْسَلَ إِلَى قَوْمِهِ: سَلُوا لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَجَاءَ قَوْمُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَنَزَلَتْ" كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ" إِلَى قوله:" غَفُورٌ رَحِيمٌ" [آل عمران: ٨٩] فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأَسْلَمَ. أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ. وَفِي رِوَايَةٍ: أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ ارْتَدَّ فَلَحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ" كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا" إلى قوله:" إِلَّا الَّذِينَ تابُوا" [آل عمران: ٨٩] فَبَعَثَ بِهَا قَوْمُهُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا قُرِئَتْ عَلَيْهِ قَالَ: وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِي قَوْمِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا أَكْذَبْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللَّهِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَصْدَقُ الثَّلَاثَةِ، فَرَجَعَ تَائِبًا، فَقَبِلَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَرَكَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُبَشِّرُونَ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَلَمَّا بُعِثَ عَانَدُوا وَكَفَرُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" [آل عمران: ٨٧]. ثُمَّ قِيلَ:" كَيْفَ" لَفْظَةُ اسْتِفْهَامٍ وَمَعْنَاهُ الْجَحْدُ، أَيْ لَا يَهْدِي اللَّهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ:" كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ" [التوبة: ٧] «٢» أَيْ لَا يَكُونُ لَهُمْ عَهْدٌ، وَقَالَ الشَّاعِرُ:
كَيْفَ نَوْمِي عَلَى الْفِرَاشِ وَلَمَّا | يَشْمَلُ الْقَوْمَ غَارَةٌ شَعْوَاءُ |
(٢). راجع ج ٨ ص ٧٧.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٨٧ الى ٨٩]
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩)
أَيْ إِنْ دَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى لَعْنَةِ اللَّهِ وَالنَّاسِ فِي" الْبَقَرَةِ" «١» فَلَا مَعْنَى لِإِعَادَتِهِ. (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) أَيْ لا يؤخرون ولا يوجلون. ثم استثنى التائبين فَقَالَ: (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) هُوَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ كَمَا تَقَدَّمَ. وَيَدْخُلُ فِي الْآيَةِ بِالْمَعْنَى كل من راجع الإسلام وأخلص.
[سورة آل عمران (٣): آية ٩٠]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)
قَالَ قَتَادَةُ وَعَطَاءُ الْخُرَاسَانِيُّ وَالْحَسَنُ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ كَفَرُوا بِعِيسَى وَالْإِنْجِيلِ، ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ. وَقَالَ أبوا الْعَالِيَةِ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ بِنَعْتِهِ وَصِفَتِهِ" ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً" بِإِقَامَتِهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ. وَقِيلَ:" ازْدادُوا كُفْراً" بِالذُّنُوبِ الَّتِي اكْتَسَبُوهَا. وَهَذَا اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ، وَهِيَ عِنْدَهُ فِي الْيَهُودِ. (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) مُشْكِلٌ لِقَوْلِهِ:" وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ" [الشورى: ٢٥] «٢» (فَقِيلَ: الْمَعْنَى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ عِنْدَ الْمَوْتِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ:" وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ" [النساء: ١٨] «٣» وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ. وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ
(٢). راجع ج ١٦ ص ٢٥.
(٣). راجع ج ٥ ص ٩٠.
" ازدادوا كفرا " بالذنوب التي اكتسبوها. وهذا اختيار الطبري، وهي عنده في اليهود. " لن تقبل توبتهم " مشكل لقوله :" وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات " ١ [ الشورى : ٢٥ ] فقيل : المعنى لن تقبل توبتهم عند الموت. قال النحاس : وهذا قول حسن، كما قال عز وجل :" وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن " ٢ [ النساء : ١٨ ]. وروي عن الحسن وقتادة وعطاء. وقد قال صلى الله عليه وسلم :( إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر )٣. وسيأتي في " النساء " بيان هذا المعنى. وقيل :" لن تقبل توبتهم " التي كانوا عليها قبل أن يكفروا ؛ لأن الكفر قد أحبطها. وقيل :" لن تقبل توبتهم " إذا تابوا من كفرهم إلى كفر آخر، وإنما تقبل توبتهم إذا تابوا إلى الإسلام. وقال قطرب : هذه الآية نزلت في قوم من أهل مكة قالوا : نتربص بمحمد ريب المنون، فإن بدا لنا الرجعة رجعنا إلى قومنا. فأنزل الله تعالى :" إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرا لن تقبل توبتهم " أي لن تقبل توبتهم وهم مقيمون على الكفر، فسماها توبة غير مقبولة ؛ لأنه لم يصح من القوم عزم، والله عز وجل يقبل التوبة كلها إذا صح العزم.
٢ - راجع جـ٥ ص ٩٠..
٣ - أي ما لم تبلغ روحه حلقومه، فيكون بمنزلة الشيء الذي يتغرغر به المريض، راجع جـ٥ ص ٩٢..
[سورة آل عمران (٣): آية ٩١]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١)
الْمِلْءُ (بِالْكَسْرِ) مِقْدَارُ مَا يَمْلَأُ الشَّيْءَ، وَالْمَلْءُ (بِالْفَتْحِ) مصدر ملأت الشيء، ويقال: أعطني ملأه وملائه وثلاثة إملائه. والواو في" لَوِ افْتَدى بِهِ" قِيلَ: هِيَ مُقْحَمَةٌ زَائِدَةٌ، الْمَعْنَى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا لَوِ افْتَدَى بِهِ. وَقَالَ أَهْلُ النَّظَرِ مِنَ النَّحْوِيِّينَ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ مُقْحَمَةً لِأَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى مَعْنَى. وَمَعْنَى الْآيَةِ: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا تَبَرُّعًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ. وَ" ذَهَباً" نُصِبَ عَلَى التَّفْسِيرِ فِي قَوْلِ الْفَرَّاءِ. قَالَ الْمُفَضَّلُ: شَرْطُ التَّفْسِيرِ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ تَامًّا وَهُوَ مُبْهَمٌ، كَقَوْلِكَ عِنْدِي عِشْرُونَ، فَالْعَدَدُ مَعْلُومٌ وَالْمَعْدُودُ مُبْهَمٌ، فَإِذَا قُلْتُ دِرْهَمًا فَسَّرْتُ. وَإِنَّمَا نُصِبَ التَّمْيِيزُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مَا يَخْفِضُهُ وَلَا مَا يَرْفَعُهُ، وَكَانَ النَّصْبُ أَخَفَّ الْحَرَكَاتِ فَجُعِلَ لِكُلِّ مَا لَا عَامِلَ فِيهِ. وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: نُصِبَ عَلَى إِضْمَارِ مِنْ، أَيْ مِنْ ذَهَبٍ، كَقَوْلِهِ:" أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً" [المائدة: ٩٥] «٢» أَيْ مِنْ صِيَامٍ. وَفِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (يُجَاءُ بِالْكَافِرِ
(٢). راجع ج ٦ ص ٣١٦.
[سورة آل عمران (٣): آية ٩٢]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- رَوَى الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِلنَّسَائِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:" لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ" قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: إِنَّ رَبَّنَا لَيَسْأَلُنَا مِنْ أَمْوَالِنَا فَأُشْهِدُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي جَعَلْتُ أَرْضِي لِلَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اجْعَلْهَا فِي قَرَابَتِكَ فِي حسان ابن ثَابِتٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ). وَفِي الْمُوَطَّأِ" وَكَانَتْ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بِئْرُ حَاءٍ «١»، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ". وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ ظَاهِرِ الْخِطَابِ وَعُمُومِهِ، فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ لَمْ يَفْهَمُوا مِنْ فَحْوَى الْخِطَابِ حِينَ نَزَلَتِ الْآيَةُ غَيْرَ ذَلِكَ. أَلَا تَرَى أَبَا طَلْحَةَ حِينَ سَمِعَ" لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا" الْآيَةَ، لَمْ يَحْتَجْ أَنْ يَقِفَ حَتَّى يَرِدَ الْبَيَانُ الَّذِي يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُنْفِقَ مِنْهُ عِبَادُهُ بِآيَةٍ أُخْرَى أَوْ سُنَّةٍ مُبَيِّنَةٍ لِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً. وكذلك فعل زيد ابن حَارِثَةَ، عَمَدَ مِمَّا يُحِبُّ إِلَى فَرَسٍ يُقَالُ لَهُ (سَبَلٌ) وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لِي مَالٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ فَرَسِي هَذِهِ، فَجَاءَ بِهَا [إِلَى] «٢» النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَذَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَقَالَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ (اقْبِضْهُ). فَكَأَنَّ زَيْدًا وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ قَبِلَهَا مِنْكَ). ذَكَرَهُ أَسَدُ بْنُ مُوسَى. وَأَعْتَقُ ابْنُ عُمَرَ نَافِعًا مَوْلَاهُ، وَكَانَ أَعْطَاهُ فِيهِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ أَلْفَ دِينَارٍ. قالت صفية بنت أبي عبيد: أَظُنُّهُ تَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:" لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ". وروى شبل عن «٣» أبي نجيح
(٢). من د، وز.
(٣). في د: أبن أبى نجيح.
(٢). في ب: في قتال سعد.
(٣). في: ا، وب، وز تدركون. [..... ]
(٤). راجع ج ٢ ص ٢٤٣.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٩٣ الى ٩٤]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تعالى: (حِلًّا) " حِلًّا" أَيْ حَلَالًا، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: (إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) وَهُوَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ. فِي التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أخبرنا، ما حرم إسرائيل عل نَفْسِهِ؟ قَالَ: (كَانَ يَسْكُنُ الْبَدْوَ فَاشْتَكَى عِرْقَ «٣» النَّسَا فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا يُلَائِمُهُ إِلَّا لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا فَلِذَلِكَ حَرَّمَهَا). قَالُوا: صَدَقْتَ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَيُقَالُ: [إِنَّهُ]»
نَذَرَ إِنْ بَرَأَ «٥» مِنْهُ لَيَتْرُكَنَّ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَحَبُّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إِلَيْهِ لُحُومَ الْإِبِلِ وَأَلْبَانَهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: أَقْبَلَ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حَرَّانَ يُرِيدُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ حِينَ هَرَبَ مِنْ أَخِيهِ عِيصُو، وَكَانَ رَجُلًا بَطِشًا قَوِيًّا، فَلَقِيَهُ مَلَكٌ فَظَنَّ يَعْقُوبُ أَنَّهُ لِصٌّ فَعَالَجَهُ أَنْ يَصْرَعَهُ، فَغَمَزَ الْمَلَكُ فَخِذَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ صَعِدَ الْمَلَكُ إِلَى السَّمَاءِ وَيَعْقُوبُ يَنْظُرُ إِلَيْهِ فَهَاجَ عَلَيْهِ «٦» عِرْقُ النسا، ولقي من
(٢). راجع ج ١٩ ص ١٢٥.
(٣). النسا (بالفتح مقصور): عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذ.
(٤). كذا في ب ود.
(٥). برأ من المرض (بالفتح) لغة أهل الحجاز. وسائر العرب يقولون: برئت (بالكسر).
(٦). في ب ود: به.
قال الزجاج: في هذه الآية
(٢). في ب ود، وفى الأصول الأخرى: غمز الملك فخذه.
(٣). في د: أحدهم.
(٤). تسور: هجم.
(٥). راجع ج ١٨ ص ١٧٧.
[سورة آل عمران (٣): آية ٩٥]
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥)
(٢). راجع ج ٧ ص ١٢٧. [..... ]
(٣). زيادة عن سنن ابن ماجة.
(٤). الإهالة (بالكسر): الشحم المذاب، أو كل ما اؤتدم به من الادهان.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٩٦ الى ٩٧]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَوَّلِ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ). قُلْتُ: ثُمَّ أَيَّ؟ قَالَ: (الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى). قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: (أَرْبَعُونَ عَامًا ثُمَّ الْأَرْضُ لَكَ مَسْجِدٌ فَحَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلَاةُ فَصَلِّ). قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: لَمْ يُوضَعْ قَبْلَهُ بَيْتٌ. قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَانَ قَبْلَ الْبَيْتِ بُيُوتٌ كَثِيرَةٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ لِلْعِبَادَةِ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: تَفَاخَرَ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ فَقَالَتِ الْيَهُودُ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ وَأَعْظَمُ مِنَ الْكَعْبَةِ، لِأَنَّهُ مُهَاجَرُ «١» الْأَنْبِيَاءِ وَفِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: بَلِ الْكَعْبَةُ أَفْضَلُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَةِ «٢» بُنْيَانُ الْبَيْتِ وَأَوَّلُ مَنْ بَنَاهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: خَلَقَ اللَّهُ مَوْضِعَ هَذَا الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا مِنَ الْأَرْضِ بِأَلْفَيْ سَنَةٍ، وَأَنَّ قَوَاعِدَهُ لَفِي الْأَرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى. وَأَمَّا الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى فَبَنَاهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَمَا خَرَّجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ خِلَالًا ثَلَاثَةً [سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ] «٣» حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فأوتيه، وسأل الله عز وجل ملكا
(٢). راجع ج ٢ ص ١٢٠.
(٣). زيادة عن سنن النسائي.
مَكَّتْ فَلَمْ تُبْقِ فِي أَجْوَافِهَا دِرَرًا
وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَمُكُّ مَنْ ظَلَمَ فِيهَا، أَيْ تُهْلِكُهُ وَتُنْقِصُهُ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَمُكُّونَ وَيَضْحَكُونَ فِيهَا، مِنْ قَوْلِهِ:" وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً"
(٢). الوقص: الكسر والدق.
(٣). الزيادة في د.
(٢). في د: أن الحاج يتبع، والصواب ما أثبتناه من ز، وب.
(٣). في ز: على ما يراد منها ترمى.
(٤). راجع ج ٢ ص ١١٢.
لَهَا مَتَاعٌ وَأَعْوَانٌ غَدَوْنَ بِهِ | قِتْبٌ «١» وَغَرْبٌ إِذَا مَا أُفْرِغَ انْسَحَقَا |
إن العيون التي في طرفها مرض «٣»
أَيْ فِي أَطْرَافِهَا. وَيُقَوِّي هَذَا الْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ (الْحَجُّ [كُلُّهُ] «٤» مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ). الْخَامِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) قَالَ قَتَادَةُ: ذَلِكَ أَيْضًا مِنْ آيَاتِ الْحَرَمِ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ، لِأَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُتَخَطَّفُونَ مِنْ حَوَالَيْهِ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْهِ جَبَّارٌ، وَقَدْ وُصِلَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَخُرِّبَ، وَلَمْ يُوصَلْ إِلَى الْحَرَمِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ" [الْفِيلِ: ١] «٥». وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي: صُورَةُ الْآيَةِ خَبَرٌ وَمَعْنَاهَا أَمْرٌ، تَقْدِيرُهَا وَمَنْ دَخَلَهُ فَأَمِّنُوهُ، كَقَوْلِهِ:" فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ" [البقرة: ١٩٧] «٦» أَيْ لَا تَرْفُثُوا وَلَا تَفْسُقُوا وَلَا تَجَادَلُوا. وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ الْإِمَامُ السَّابِقُ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ: مَنِ اقْتَرَفَ ذَنْبًا وَاسْتَوْجَبَ بِهِ حَدًّا ثُمَّ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ عَصَمَهُ، [لِقَوْلِهِ تَعَالَى: [" وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً"، فَأَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَمْنَ لِمَنْ دَخَلَهُ. وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ مِنَ النَّاسِ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ:" وَكُلُّ مَنْ قَالَ هَذَا فَقَدْ وَهِمَ مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهَا خَبَرٌ عَمَّا مَضَى، وَلَمْ يَقْصِدْ بِهَا إِثْبَاتَ حُكْمٍ مُسْتَقْبَلٍ، الثَّانِي أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْنَ قَدْ ذَهَبَ وَأَنَّ الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ قَدْ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهَا، وَخَبَرُ اللَّهِ لَا يَقَعُ بِخِلَافِ مَخْبَرِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْمَاضِي هَذَا. وَقَدْ نَاقَضَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ، إِذَا لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُعَامَلُ وَلَا يُكَلَّمُ حَتَّى يَخْرُجَ، فَاضْطِرَارُهُ «٧» إِلَى الْخُرُوجِ لَيْسَ يَصِحُّ مَعَهُ أَمْنٌ. وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَقَعُ الْقِصَاصُ فِي الْأَطْرَافِ فِي الْحَرَمِ وَلَا أَمْنَ أَيْضًا مع هذا".
(٢). راجع ج ١ ص ١٨٥. [..... ]
(٣). البيت لجرير، والذي في الديوان: في طرفها حور.
(٤). في دوز وهـ. هذا من قول سعيد ابن جبير كما في تفسير ابن كثير وفية توجيه ج ٣ ص ١٩١.
(٥). ج ٢٠ ص ١٨٧.
(٦). ج ٢ ص ٤٠٧.
(٧). في دوز: فاضطره، وفى الأصول الأخرى: فاضطروه، والتصحيح من ابن العربي.
إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ قَتَادَةُ: وَمَنْ دَخَلَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ آمِنًا. وَهَذَا حَسَنٌ. وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَ الْمُلْحِدَةِ قَالَ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ: أَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ" وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً" فَقَدْ دَخَلْنَاهُ وَفَعَلْنَا كَذَا وَكَذَا فَلَمْ يَأْمَنْ مَنْ كَانَ فِيهِ! قَالَ لَهُ: أَلَسْتَ مِنَ الْعَرَبِ! مَا الَّذِي يُرِيدُ الْقَائِلَ مَنْ دَخَلَ دَارِي كَانَ «٥» آمِنًا؟ أَلَيْسَ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ أَطَاعَهُ: كُفَّ عَنْهُ فَقَدْ أَمَّنْتُهُ وَكَفَفْتُ عَنْهُ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ" وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً". وَقَالَ يَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ: مَعْنَى" وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً" يَعْنِي مِنَ النَّارِ. قُلْتُ: وَهَذَا لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ، لِأَنَّ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سعيد الخدري حديث الشفاعة الطويل (فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدَّ مُنَاشَدَةً لِلَّهِ فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي النَّارِ يَقُولُونَ رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ فَيُقَالُ لَهُمْ أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ) الْحَدِيثَ. وَإِنَّمَا يَكُونُ آمِنًا مِنَ النَّارِ مَنْ دَخَلَهُ لِقَضَاءِ النُّسُكِ مُعَظِّمًا لَهُ عَارِفًا بِحَقِّهِ مُتَقَرِّبًا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: مَنْ دَخَلَهُ على الصفاء
(٢). من دوز.
(٣). راجع ج ١٣ ص ٣٦٣.
(٤). راجع ج ٦ ص ٣٢٥.
(٥). في د: فهو آمن.
يَا كَعْبَةَ اللَّهِ دَعْوَةَ اللَّاجِي | دَعْوَةَ مُسْتَشْعِرٍ وَمُحْتَاجِ |
وَدَّعَ أَحْبَابَهُ وَمَسْكَنَهُ | فَجَاءَ مَا بَيْنَ خَائِفٍ رَاجِي «١» |
إِنْ يَقْبَلِ اللَّهُ سَعْيَهُ كَرَمًا | نَجَا، وَإِلَّا فَلَيْسَ بِالنَّاجِي |
وَأَنْتَ مِمَّنْ تُرْجَى شَفَاعَتُهُ | فَاعْطِفْ عَلَى وَافِدِ بْنِ حَجَّاجِ |
(٢). راجع ج ١٦ ص ٢٨٩.
(٣). راجع ج ١٢ ص ٢٩١.
(٤). في د وب وز وه. وفي أ: بأوك. [..... ]
(٥). في د وب: فرضيته.
(٦). في ب ود.
(٧). في د.
(٢). التبرر: الطاعة، وفى أ: نجيعها: طلب الكلا. في د: تحنفها.
(٣). الحمس جمع الأحمس، وهم قريش ومن ولدت قريش وكنانة وجديلة قيس، سموا حمسا لأنهم تحمّسوا في دينهم، أي تشددوا.
(٤). راجع ج ٢ ص ٣٤٥.
(٢). والصحيح أن سورة الحج مدنية بدليل آية الجهاد، سيأتي في ج ١٢ من هذا التفسير.
(٢). في دوب.
(٣). في دوب.
(٤). الهرف: شبه الهذيان من الإعجاب بالشيء. في دوب: لا يهرف، بالبناء للمجهول.
(٢). راجع ج ٣ ص ٣٩٨.
(٢). الشعث: متلبد الشعر. والتفل: الذي قد ترك استعمال الطيب.
(٣). في ب:" ابن عبدوس".
(٤). المعضوب: الزمن الذي لا حراك به.
(٢). راجع ج ١٢ ص ٣٧.
(٢). المائد: الذي يركب البحر فتعثي نفسه من نتن ماء البحر حتى يدار به ويكاد يغشى عليه.
(٣). الناض: الدراهم والدنانير.
عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَابْنِ رَاهْوَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَلْزَمُ الْحَجُّ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ بِحَالٍ. اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ سَأَلَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ قَالَ: (نَعَمْ). وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ. فِي رِوَايَةٍ: لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ
يَسْتَوِيَ عَلَى ظَهْرِ بَعِيرِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَحُجِّي عَنْهُ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَتَهُ (؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ:) فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ أَنْ يُقْضَى (. فَأَوْجَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ بِطَاعَةِ ابْنَتِهِ إِيَّاهُ وَبَذْلِهَا مِنْ نَفْسِهَا لَهُ بِأَنْ تَحُجَّ عَنْهُ، فَإِذَا وَجَبَ ذَلِكَ
(٢). في ب: عمر بن حفص.
(٣). في د.
: ١٠ - ٩] «٢». قَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ فِي تَفْسِيرِهِ: فَأُزَكِّي وَأَحُجُّ. وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا سأله عَنِ الْآيَةِ فَقَالَ: (مَنْ حَجَّ لَا يَرْجُو ثَوَابًا أَوْ جَلَسَ لَا يَخَافُ عِقَابًا فَقَدْ كَفَرَ بِهِ). وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَبْعَثَ رِجَالًا إِلَى الْأَمْصَارِ فَيَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَلَمْ يَحُجَّ فَيَضْرِبُونَ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ".
(٢). راجع ج ١٨ ص ١٢٩.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ٩٨ الى ٩٩]
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى مَا تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أَيْ تَصْرِفُونَ عَنْ دِينِ اللَّهِ (مَنْ آمَنَ). وَقَرَأَ الْحَسَنُ" تُصِدُّونَ" بِضَمِ التَّاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ وَهُمَا لُغَتَانِ: صَدَّ وَأَصَدَّ، مِثْلَ صَلَّ اللَّحْمُ وَأَصَلَّ إِذَا أَنْتَنَ، وَخَمَّ وَأَخَمَّ أَيْضًا إِذَا تَغَيَّرَ. (تَبْغُونَها عِوَجاً) تَطْلُبُونَ لَهَا، فحذف اللام، مثل" وَإِذا كالُوهُمْ" [المطففين: ٣] «١». يُقَالُ: بَغَيْتُ لَهُ كَذَا أَيْ طَلَبْتُهُ. وَأَبْغَيْتُهُ كَذَا أَيْ أَعَنْتُهُ. وَالْعِوَجُ: الْمَيْلُ وَالزَّيْغُ (بِكَسْرِ الْعَيْنِ) فِي الدِّينِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ وَمَا خَرَجَ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِوَاءِ. وَ (بِالْفَتْحِ) فِي الْحَائِطِ وَالْجِدَارِ وَكُلِّ شَخْصٍ قَائِمٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ وَغَيْرِهِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:" يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ «٢» لَهُ" [طه: ١٠٨] أَيْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَعْوَجُّوا عَنْ «٣» دُعَائِهِ. وَعَاجَ بِالْمَكَانِ وَعَوَّجَ أَقَامَ وَوَقَفَ. وَالْعَائِجُ الْوَاقِفُ، قَالَ الشَّاعِرُ:
هَلْ أَنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا «٤» | نَرَى الْعَرَصَاتِ «٥» أَوْ أَثَرَ الْخِيَامِ |
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٤٦.
(٣). في ح وا: لا يقدرون بألا يعوجوا عن مكانه.
(٤). لعنا: لغة في لعل.
(٥). العرصة: كل بقعة بين الدرر ليس فيها بناء. وعرصة الدار: وسطها.
(٦). التحنيف: احد يدأب في وظيفى الفرس أيضا.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٠٠]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠)
نَزَلَتْ فِي يَهُودِيٍّ أَرَادَ تَجْدِيدَ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْدَ انْقِطَاعِهَا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَلَسَ بَيْنَهُمْ وَأَنْشَدَهُمْ شِعْرًا قَالَهُ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ فِي حَرْبِهِمْ. فَقَالَ الْحَيُّ الْآخَرُ: قَدْ قَالَ شَاعِرُنَا فِي يَوْمٍ كَذَا وكذا، فكأنهم دخلهم من ذلك شي، فَقَالُوا: تَعَالَوْا نَرُدُّ الْحَرْبَ جَذْعَاءَ كَمَا كَانَتْ. فَنَادَى هَؤُلَاءِ: يَا آلَ أَوْسٍ. وَنَادَى هَؤُلَاءِ. يَا آلَ خَزْرَجٍ، فَاجْتَمَعُوا وَأَخَذُوا السِّلَاحَ وَاصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى وَقَفَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ فَقَرَأَهَا وَرَفَعَ صَوْتَهُ، فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ أَنْصَتُوا لَهُ وَجَعَلُوا يَسْتَمِعُونَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَلْقَوُا السِّلَاحَ وَعَانَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَجَعَلُوا يَبْكُونَ، عَنْ عِكْرِمَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَالَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ الْيَهُودِيُّ، دَسَّ عَلَى الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ مَنْ يُذَكِّرُهُمْ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْحُرُوبِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتاهم وذكرهم، فعرف القوم أنها نزعة مِنَ الشَّيْطَانِ، وَكَيْدٌ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَأَلْقَوُا السِّلَاحَ مِنْ أَيْدِيهِمْ وَبَكَوْا وَعَانَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)
يَعْنِي الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ. (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يَعْنِي شَاسًا وَأَصْحَابَهُ. (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: مَا كَانَ طَالِعٌ أَكْرَهَ إِلَيْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَوْمَأَ إِلَيْنَا بِيَدِهِ فَكَفَفْنَا وَأَصْلَحَ اللَّهُ تَعَالَى مَا بَيْنَنَا، فَمَا كَانَ شَخْصٌ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَا رَأَيْتُ يَوْمًا أَقْبَحَ وَلَا أَوْحَشَ أَوَّلًا وَأَحْسَنَ آخِرًا مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٠١]
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١)
أَنَا ابْنُ الْعَاصِمَيْنِ بَنِي تَمِيمٍ | إِذَا مَا أَعْظَمَ الْحَدَثَانِ نَابَا |
يَظَلُّ مِنْ خَوْفِهِ الْمَلَّاحَ مُعْتَصِمًا | بِالْخَيْزُرَانَةِ بَعْدَ الْأَيْنِ والنجد «٢» |
(٢). الخيزرانة: السكان، وهو ذنب السفينة. والابن: الفترة والإعياء، والنجد (بالتحريك): العرق من عمل أو كرب أو غيره.
أنا ابن العاصمينَ بني تميم | إذا ما أعظَمُ الحَدَثَان نَابَا |
يظل من خوفه الملاّح معتصما | بالخيزرانة بعد الأيْن والنَّجَدِ٢ |
فأشرطَ فيها نفسه وهو مُعصِمٌ | وألقى بأسباب له وتوكّلا |
فلا تلوميني ولومي جابراً | فجابرٌ كلفني الهواجرا |
أبو مالك يعتادني بالظهائر | يجيء فيُلقى رحله عند عامر |
٢ - الخيرزرانة: السكان، وهو ذنب السفينة، والأين: الفترة والإعياء، والنجد (بالتحريك): العرق من عمل أو كرب أو غيره..
٣ - هو أوس بن حجر. وفي الديوان: فأشرط فيه رأسه.. وألقى بأسبات....
٤ - من د. وفي جـ: عصمه..
فَأَشْرَطَ فِيهَا نَفْسَهُ وَهْوَ مُعْصِمٌ | وَأَلْقَى بِأَسْبَابٍ لَهُ وَتَوَكَّلَا |
فَلَا تَلُومِينِي وَلُومِي جَابِرًا | فَجَابِرٌ كَلَّفَنِي الْهَوَاجِرَا |
أَبُو مَالِكٍ يَعْتَادُنِي بِالظَّهَائِرِ | يَجِيءُ فَيُلْقِي رَحْلَهُ عِنْدَ عَامِرِ |
[سورة آل عمران (٣): آية ١٠٢]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢)
فِيهِ مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ: رَوَى الْبُخَارِيُّ «٣» عَنْ مُرَّةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (حَقَّ تُقَاتِهِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى وَأَنْ يُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى وَأَنْ يُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَلَّا يُعْصَى طَرْفَةَ عَيْنٍ. وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ يَقْوَى عَلَى هَذَا؟ وَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" [التغابن: ١٦] «٤» فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةَ، عَنْ قَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَابْنِ زَيْدٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: وَلَيْسَ فِي آلِ عِمْرَانَ من المنسوخ شي إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ. وَقِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ" فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ" بَيَانٌ لِهَذِهِ الْآيَةِ. وَالْمَعْنَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وَهَذَا أَصْوَبُ «٥»، لِأَنَّ النَّسْخَ إِنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْجَمْعِ وَالْجَمْعُ مُمْكِنٌ فَهُوَ أَوْلَى. وَقَدْ رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ" لَمْ تُنْسَخْ، وَلَكِنَّ" حَقَّ تُقاتِهِ" أَنْ يُجَاهَدَ فِي [سبيل] «٦»
الله حق
(٢). من د. وفى ج: عصمه.
(٣). في ز، وح: النحاس، عن مرة عن يحيى عن عبد الله.
(٤). راجع ج ١٨ ص ١٤٤. [..... ]
(٥). في ز: هذا ضرب أصوب.
(٦). في د.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٠٣]
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاعْتَصِمُوا) الْعِصْمَةُ الْمَنْعَةُ، وَمِنْهُ يقال للبدرقة: عِصْمَةٌ. وَالْبَذْرَقَةُ: الْخَفَارَةُ لِلْقَافِلَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُرْسِلَ مَعَهَا مَنْ يَحْمِيهَا مِمَّنْ يُؤْذِيهَا. قَالَ ابْنُ خالويه: البدرقة لَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةٍ وَإِنَّمَا هِيَ كَلِمَةٌ فَارِسِيَّةٌ عَرَّبَتْهَا الْعَرَبُ، يُقَالُ: بَعَثَ السُّلْطَانُ بَذْرَقَةً مَعَ الْقَافِلَةِ. وَالْحَبْلُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ السَّبَبُ الَّذِي يُوصَلُ بِهِ إِلَى الْبُغْيَةِ وَالْحَاجَةِ. وَالْحَبْلُ: حَبْلُ الْعَاتِقِ «٣». وَالْحَبْلُ: مُسْتَطِيلٌ مِنَ الرَّمْلِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «٤»: وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ حَبْلٍ إِلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ، وَالْحَبْلُ الرَّسَنِ. وَالْحَبْلُ الْعَهْدُ، قَالَ الْأَعْشَى:
وَإِذَا تُجَوِّزُهَا حبال قَبِيلَةٍ | أَخَذَتْ مِنَ الْأُخْرَى إِلَيْكَ حِبَالَهَا |
فَلَا تَعْجَلِي يَا عَزُّ أَنْ تَتَفَهَّمِي | بِنُصْحٍ أَتَى الْوَاشُونَ أم بحبول |
(٢). راجع ج ٢ ص ١٣٤.
(٣). حبل العاتق وصل ما بين العاتق والمنكب.
(٤). حديث عروة بن مضرص: أتيتك من جبلي طئ.
(٥). في الأصول:" لبيد". والتصويد عن اللسان وشرح القاموس مادة" حبل".
إِنَّ الْجَمَاعَةَ حَبْلُ اللَّهِ فَاعْتَصِمُوا | مِنْهُ بِعُرْوَتِهِ الْوُثْقَى لِمَنْ دَانَا |
(٢). الهجري: بهاء وجيم مفتوحتين، نسبة إلى هجر. وهو إبراهيم بن مسلم العبدي. (عن تهذيب التهذيب).
(٣). الزيادة في ب.
(٤). ود: فإن كتاب الله.
(٥). الزيادة في د.
(٦). في د: سبب لاستخراج.
(٧). في د: متواصلون. [..... ]
. أَخْرَجَهُ عَنْ نَصْرِ بْنِ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيِّ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ: فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ الْفِرَقُ مَعْرُوفَةٌ، فَالْجَوَابُ أَنَّا نَعْرِفُ الِافْتِرَاقَ وَأُصُولَ الْفِرَقِ وَأَنَّ كُلَّ طَائِفَةٍ مِنَ الْفِرَقِ انْقَسَمَتْ إِلَى فِرَقٍ، وَإِنْ لَمْ نُحِطْ بِأَسْمَاءِ تِلْكَ الْفِرَقِ وَمَذَاهِبِهَا، فَقَدْ ظَهَرَ لَنَا مِنْ أُصُولِ الْفِرَقِ الْحَرُورِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَالْجَهْمِيَّةُ وَالْمُرْجِئَةُ وَالرَّافِضَةُ وَالْجَبْرِيَّةُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَصْلُ الْفِرَقِ الضَّالَّةِ هَذِهِ الْفِرَقُ السِّتُّ، وَقَدِ انْقَسَمَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْهَا اثْنَتَيْ عشرة فرقة، فصارت اثنتين وسبعين فرقة.
(٢). راجع ج ٨ ص ٧٤ وص ٨٠.
(٣). راجع ج ٨ ص ٧٤ وص ٨٠.
(٢). الإباضية يقولون: من دان لله بما بلغ إليه من الإسلام وعم به، فهو ناج ما لم يهدم ركنا من الدين أو يرتطم في التخطئة، وليسوا حرورية.
(٣). في ج وا:" الكروية" براء وواو وفى ز: الكدرية.
(٤). في الأصول: لأنهم.
(٥). كذا في الأصل في الأصول: كلها وليس في غير القدرية معتزلة.
(٦). كذا في الأصل في الأصول: كلها وليس في غير القدرية معتزلة.
(٧). الزيادة في: ز.
(٨). في ب ودو و: الزبوندية.
(٩). في د وب ور: المتبرئة.
(٢). في ب، و، د:" الزيارتة". [..... ]
(٣). في ب، د، و:" العيرية".
(٤). في د: الشاكية.
(٥). في ب، و، ز" البيهسية" وفى د:" البيسمية؟ ".
(٦). كذا في الأصول، وفية سقط واضح لعله: قالوا لله بصر.
(٧). في ب: جعلوا.
(٢). كذا في، وفى الأصول الأخرى المضطربة.
(٣). كذا في د، وفى غيرها من الأصول: من شاء فليفعل ومن شاء لم يفعل.
(٤). في ب، هـ، د، و، وفي ز، ح، أ: الفكرية، وفى ج: النكرية. وفى د: أسقط. وفى سائر الأصول سقط.
نَحْنُ حَفَرْنَا لِلْحَجِيجِ سَجْلَهْ «٧» | نَابِتَةٌ فوق شفاها بقلة |
(٢). في ب وهـ ود وز:" المعبة" بالعين.
(٣). راجع: ج ٧ ص ١٤١.
(٤). سقط من النسخ:" وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم".
(٥). راجع ج ١٨ ص ٢٢٢. [..... ]
(٦). راجع ج ٨ ص ٢٦٤.
(٧). السجلة: الدلو الضخمة المملوءة ماء. والمراد هنا البئر. (.)
وَمَرْبَأٍ عَالٍ لِمَنْ تشرفا | أشرفته بلا شفى أو بشفى |
[سورة آل عمران (٣): آية ١٠٤]
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤)
قَدْ مَضَى الْقَوْلُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ «١». وَ" مِنْ" فِي قَوْلِهِ" مِنْكُمْ" لِلتَّبْعِيضِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْآمِرِينَ يَجِبُ أَنْ يَكُونُوا عُلَمَاءَ وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ عُلَمَاءَ. وَقِيلَ: لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَالْمَعْنَى لِتَكُونُوا كُلُّكُمْ كذلك. قُلْتُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ، وَقَدْ عَيَّنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ:" الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ" [الحج: ٤١] «٢» الْآيَةَ. وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ مُكِّنُوا. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ:" وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَسْتَعِينُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ" قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَفْسِيرٌ مِنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَكَلَامٌ مِنْ كَلَامِهِ غَلِطَ فِيهِ بَعْضُ النَّاقِلِينَ «٣» فَأَلْحَقَهُ بِأَلْفَاظِ الْقُرْآنِ، يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا أَصِفُ الْحَدِيثُ الَّذِي حَدَّثَنِيهِ أَبِي حَدَّثَنَا [حَسَنُ] «٤» بْنُ عَرَفَةَ حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ عَنْ أَبِي عَوْنٍ»
عَنْ صُبَيْحٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ يَقْرَأُ" وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَسْتَعِينُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ" فَمَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي أَنَّ عُثْمَانَ لَا يَعْتَقِدُ «٦»
(٢). راجع ج ١٢ ص ٧٢.
(٣). في هـ: الغافلين.
(٤). في ب، د، هـ وفيها: أبي عوف.
(٥). في ب، د، هـ وفيها: أبي عوف.
(٦). في ب، د، هـ: لا يعتد.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٠٥]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥)
يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمُ الْمُبْتَدِعَةُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: هُمُ الْحَرُورِيَّةُ، وَتَلَا الْآيَةَ. وقال جابر بن عبد الله: (" كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ" الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى." جَاءَهُمْ" مُذَكَّرٌ عَلَى الْجَمْعِ، وجاءتهم على الجماعة.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٠٦ الى ١٠٧]
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧)
فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ تَكُونُ وُجُوهُ الْمُؤْمِنِينَ مُبْيَضَّةً وَوُجُوهُ الْكَافِرِينَ مُسْوَدَّةً. وَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ، إذ قَرَأَ الْمُؤْمِنُ كِتَابَهُ فَرَأَى فِي كِتَابِهِ حَسَنَاتِهِ اسْتَبْشَرَ وَابْيَضَّ وَجْهُهُ، وَإِذَا قَرَأَ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ كِتَابَهُ فَرَأَى فِيهِ سَيِّئَاتِهِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ. وَيُقَالُ: إِنَّ ذَلِكَ عِنْدَ الْمِيزَانِ إِذَا رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ ابْيَضَّ وَجْهُهُ، وَإِذَا رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ اسْوَدَّ وَجْهُهُ. وَيُقَالُ: ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ" [يس: ٥٩] «١». وَيُقَالُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يُؤْمَرُ كُلُّ فَرِيقٍ بِأَنْ يَجْتَمِعَ إِلَى مَعْبُودِهِ، فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَيْهِ حَزِنُوا وَاسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ، فَيَبْقَى الْمُؤْمِنُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقُونَ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ:" مَنْ رَبُّكُمْ"؟ فَيَقُولُونَ: رَبُّنَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَيَقُولُ لَهُمْ:" أَتَعْرِفُونَهُ إِذَا رَأَيْتُمُوهُ". فَيَقُولُونَ: سُبْحَانَهُ! إِذَا اعترف عرفناه «٢». فيرونه كما شاء الله.
(٢). هذه عبارة ابن الأثير، أي إذا وصف نفسه بصفة تحققه بها عرفناه في ب: إذا عرفناه، وفى هـ: إذا عرفناه. وفى د: إذا رأيناه عرفناه.
(٢). في هـ ود: هؤلاء قوم.
(٣). في صحيح الترمذي:" على درج مسجد دمشق"، في د وهـ: على برج دمشق.
(٢). أبو حازم هو سلمة بن دينار، أحد رجال سند هذا الحديث.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٠٨ الى ١٠٩]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تِلْكَ آياتُ اللَّهِ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، يَعْنِي الْقُرْآنَ. (نَتْلُوها عَلَيْكَ) يَعْنِي نُنْزِلُ عَلَيْكَ جِبْرِيلَ فَيَقْرَؤُهَا عَلَيْكَ. (بِالْحَقِّ) أَيْ بِالصِّدْقِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ:" تِلْكَ آياتُ اللَّهِ" الْمَذْكُورَةُ حُجَجُ اللَّهِ وَدَلَائِلُهُ. وَقِيلَ:" تِلْكَ" بِمَعْنَى هَذِهِ وَلَكِنَّهَا لَمَّا انْقَضَتْ صَارَتْ كَأَنَّهَا بَعُدَتْ فَقِيلَ" تِلْكَ" وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ" آياتُ اللَّهِ" بَدَلًا مِنْ" تِلْكَ" وَلَا تَكُونُ نَعْتًا، لِأَنَّ الْمُبْهَمَ لَا يُنْعَتُ بِالْمُضَافِ. (وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُهُمْ بِغَيْرِ ذَنْبٍ. (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) قَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَجْهُ اتِّصَالِ هَذَا بِمَا قَبْلَهُ أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَحْوَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ، وَصَلَهُ بِذِكْرِ اتِّسَاعِ قُدْرَتِهِ وغناه عن الظلم لكون ما في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ [فِي قَبْضَتِهِ، وَقِيلَ: هُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ، بَيَّنَ لِعِبَادِهِ أَنَّ جَمِيعَ مَا في السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ] «٣» لَهُ حَتَّى يَسْأَلُوهُ وَيَعْبُدُوهُ ولا يعبدوا غيره.
(٢). في د وهـ وب: مع.
(٣). الزيادة من نسخ: د.
[سورة آل عمران (٣): آية ١١٠]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠)فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" قَالَ: (أَنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عِنْدَ اللَّهِ). وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَحْنُ خَيْرُ النَّاسِ لِلنَّاسِ نَسُوقُهُمْ بِالسَّلَاسِلِ إِلَى الْإِسْلَامِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَشَهِدُوا بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ كَانَ مِثْلَهُمْ. وَقِيلَ: هُمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي الصَّالِحِينَ مِنْهُمْ وَأَهْلَ الْفَضْلِ. وَهُمُ الشُّهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «١». وَقَالَ مُجَاهِدٌ:" كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ" عَلَى الشَّرَائِطِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ [كُنْتُمْ] «٢» فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقِيلَ: كُنْتُمْ مُذْ آمَنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ. وَقِيلَ: جَاءَ ذَلِكَ لِتَقَدُّمِ الْبِشَارَةِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ. فَالْمَعْنَى كُنْتُمْ عِنْدَ مَنْ تَقَدَّمَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُتُبِ خَيْرَ أُمَّةٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: يُرِيدُ أَهْلَ أُمَّةٍ، أَيْ خَيْرَ أَهْلِ دِينٍ، وَأَنْشَدَ:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً | وَهَلْ يَأْثَمَنَ ذُو أُمَّةٍ وَهْوَ طَائِعُ «٣» |
وَجِيرَانٍ لنا كانوا كرام «٤»
(٢). الزيادة في دوب.
(٣). البيت النابغة الذبياني. أمة بالضم. والكسر: ذو أمة: ذو دين واستقامة، والامة: النعمة.
(٤). هذا عجز بيت الفرزدق. وصدره:
فكيف إذا رأيت ديار قوم
(٢). راجع ج ٢ ص ٢٤٩، وص ٣٩٤.
(٣). الزيادة من هـ ود وب، في د وب: من كل من يأتي.
[سورة آل عمران (٣): آية ١١١]
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (١١١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) يَعْنِي كَذِبَهُمْ وَتَحْرِيفَهُمْ وَبُهْتَهُمْ، لَا أَنَّهُ تَكُونُ لَهُمُ الْغَلَبَةُ، عَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. فَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ، وَالْمَعْنَى لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا ضَرًّا يَسِيرًا، فَوَقَعَ الْأَذَى مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ. فَالْآيَةُ وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَا يَغْلِبُونَهُمْ وَأَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ عَلَيْهِمْ لَا يَنَالُهُمْ مِنْهُمُ اصْطِلَامٌ «٣» إلا إيذاء بالبهت
(٢). راجع ص ٤٦ من هذا الجزء. [..... ]
(٣). الاصطلام: الاستئصال.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١١٢ الى ١١٥]
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) يعنى اليهود. (أَيْنَما ثُقِفُوا) أَيْ وُجِدُوا وَلُقُوا، وَتَمَّ الْكَلَامُ. وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَةِ مَعْنَى ضَرْبِ الذِّلَّةِ عَلَيْهِمْ «١». (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ) اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لَيْسَ مِنَ الْأَوَّلِ. أَيْ لَكِنَّهُمْ يَعْتَصِمُونَ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ. (وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) يَعْنِي الذِّمَّةَ الَّتِي لَهُمْ. وَالنَّاسُ: مُحَمَّدٌ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤَدُّونَ إِلَيْهِمُ الْخَرَاجَ فيؤمنونهم. وفي الكلام
. ثُمَّ أَخْبَرَ لِمَ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ. فَقَالَ: (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) وَقَدْ مَضَى فِي الْبَقَرَةِ مستوفى «٢». ثم أخبر فقال: لَيْسُوا سَواءً) وتم الْكَلَامُ. وَالْمَعْنَى: لَيْسَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءً، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَيْسَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْكَافِرُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ سَوَاءً. وَذَكَرَ أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ زِرٍّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [لَيْلَةً] «٣» صَلَاةَ الْعِشَاءِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَإِذَا النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ فَقَالَ: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ أَحَدٌ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السَّاعَةِ غَيْرُكُمْ) قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ" لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ- إِلَى قَوْلِهِ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ" وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ مِثْلَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ" مَنْ آمَنَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْيَةَ «٤»، وَأُسَيْدُ «٥» بْنُ سُعَيَّةَ، وَأُسَيْدُ بْنُ عُبَيْدٍ، وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ يَهُودَ، فَآمَنُوا وَصَدَّقُوا وَرَغِبُوا فِي الْإِسْلَامِ وَرَسَخُوا «٦» فِيهِ، قَالَتْ أَحْبَارُ يَهُودَ وَأَهْلُ الْكُفْرِ مِنْهُمْ: مَا آمَنَ بِمُحَمَّدٍ وَلَا تَبِعَهُ إِلَّا شِرَارُنَا، وَلَوْ كَانُوا مِنْ خِيَارِنَا مَا تَرَكُوا دِينَ آبَائِهِمْ وَذَهَبُوا إِلَى غَيْرِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ:" لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. إِلَى قَوْلِهِ:" وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ". وَقَالَ الْأَخْفَشُ: التَّقْدِيرُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ذُو أُمَّةٍ، أَيْ ذُو طَرِيقَةٍ حسنة. وأنشد:
وهل يأتمن ذو أمة وهو طائع
(٢). راجع ج ١ ص ٤٣١.
(٣). الزيادة في د.
(٤). سعية: بالسين والعين المهملتين وياء باثنتين.
(٥). في الاستيعاب في ترجمة أسيد هذا:" رواء يونس ابن بكير عن ابن إسحاق (أسيد) بفتح الهمزة وكسر السين، وكذلك قال الواقدي. وفى رواية إبراهيم ابن سعد عن ابن إسحاق (أسيد) بالضم. والفتح عندهم أصح".
(٦). في د وب: نتجوا فيه.
عَصَانِي «١» إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّي لِأَمْرِهِ | مُطِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا |
(٢). راجع ج ٧ ص ٣٥٦.
(٣). راجع ج ١٣ ص ٦٤.
(٤). راجع ج ١٧ ص ١٢١.
(٥). انخذل: انفرد.
[سورة آل عمران (٣): آية ١١٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) اسْمُ إِنَّ، وَالْخَبَرُ (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً). قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ ذَكَرَ كُفَّارَهُمْ وَهُوَ قَوْلُهُ:" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا". وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: جَعَلَ هَذَا ابْتِدَاءً فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ كَثْرَةُ أَمْوَالِهِمْ وَلَا كَثْرَةُ أَوْلَادِهِمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا. وَخَصَّ الْأَوْلَادَ لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ أَنْسَابِهِمْ إِلَيْهِمْ. (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، وَكَذَا وَ (هُمْ فِيها خالِدُونَ). وَقَدْ تَقَدَّمَ جَمِيعُ هَذَا.
[سورة آل عمران (٣): آية ١١٧]
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧)
قوله تعالى: َثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ)
"ا
" تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، وَتَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الَّذِي وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ، أَيْ مَثَلُ مَا ينفقونه. ومعنى"مَثَلِ رِيحٍ
" كَمَثَلِ مَهَبِّ «٢» رِيحٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالصِّرُّ الْبَرْدُ الشَّدِيدُ. قِيلَ: أَصْلُهُ مِنَ الصَّرِيرِ
(٢). في ب ود وهـ: مهلك ريح.
٢ - راجع جـ٣ ص ٣١٩..
٣ - الصر في هذا الحديث: البرد..
٤ - في ب وهـ ود: عائدته..
بذلكَ- لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)
بِالْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ وَمَنْعِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَقِيلَ: ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنْ زَرَعُوا فِي غَيْرِ وَقْتِ الزِّرَاعَةِ أَوْ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا فَأَدَّبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، لِوَضْعِهِمُ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ موضعه، حكاه المهدوي.
[سورة آل عمران (٣): آية ١١٨]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى الزَّجْرَ عَنِ الرُّكُونِ إِلَى الْكُفَّارِ. وَهُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ:" إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ" [آل عمران: ١٠٠]. وَالْبِطَانَةُ مَصْدَرٌ، يُسَمَّى بِهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ. وَبِطَانَةُ الرَّجُلِ خَاصَّتُهُ الَّذِينَ يَسْتَبْطِنُونَ أَمْرَهُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْبَطْنِ الَّذِي هُوَ خِلَافُ الظَّهْرِ. وَبَطَنَ فُلَانٌ بِفُلَانٍ يَبْطُنُ بُطُونًا وَبِطَانَةً إِذَا كَانَ خَاصًّا بِهِ. قَالَ الشَّاعِرُ:
أُولَئِكَ خُلَصَائِي «٤» نَعَمْ وَبِطَانَتِي | وَهُمْ عَيْبَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ قَرِيبِ |
عَنِ الْمَرْءِ لَا تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ | فكل «٥» قرين بالمقارن يقتدي |
(٢). الصر في هذا الحديث: البرد.
(٣). في ب وهـ ود: عائدته.
(٤). ف هـ: خلصاني، عيبتي: خاصتي وموضع سرى.
(٥). في د: فكم من قرين، وفى هـ: فإن القرين.
(٢). في أ: الربا.
(٣). في ب ود وهـ: إذا اتخذ إلخ.
(٤). الحديث كما في النسخ الاميرية، وسائر الأصول: بالخير، بدل المعروف، وفى ج: تحثه عليه.
وَمَا الْمَرْءُ مَا دَامَتْ حُشَاشَةُ نَفْسِهِ | بِمُدْرِكِ أَطْرَافِ الْخُطُوبِ وَلَا آلِ |
أَبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمْ بِيَدٍ | إِلَّا يَدًا مَخْبُولَةَ «٣» الْعَضُدِ |
نَظَرَ ابْنُ سَعْدٍ نَظْرَةً وَبَّتْ «٤» بِهَا | كَانَتْ لصحبك والمطي خبالا |
(٢). راجع ج ١١ ص ٣٢٢.
(٣). الذي في ديوانه: إلا يدا ليست لها عضد
(٤). الوب: التهبؤ للحملة في الحرب. [..... ]
(٥). راجع ج ٣ ص ٦٦.
[سورة آل عمران (٣): آية ١١٩]
ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩)
قَوْلُهُ تعالى: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩) قَوْلُهُ تعالى: (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ) يعني المنافقين، دليله قوله تعالى:" وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا"، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلٌ. وَالْمَحَبَّةُ هُنَا بِمَعْنَى الْمُصَافَاةِ، أَيْ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ تُصَافُونَهُمْ وَلَا يُصَافُونَكُمْ لِنِفَاقِهِمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى تُرِيدُونَ لَهُمُ الْإِسْلَامَ وَهُمْ يُرِيدُونَ لَكُمُ الْكُفْرَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْيَهُودُ، قَالَهُ الْأَكْثَرُ. وَالْكِتَابُ اسم جنس، قال ابن عباس: يعني
(٢). راجع ج ١٦ ص ٣٣٤.
يَعَضُّونَ غَيْظًا خَلْفَنَا بِالْأَنَامِلِ
وَقَالَ آخَرُ:
إِذَا رَأَوْنِي أَطَالَ اللَّهُ غَيْظَهُمُ | عَضُّوا مِنَ الْغَيْظِ أَطْرَافَ الْأَبَاهِيمِ |
وَعَظُّ زَمَانٍ يَا ابْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ | مِنَ المال إلا مسحتا أو مجلف «٤» |
(٢). في ب وهـ وج: المنكر.
(٣). في ب ود وهـ: كعض اليد على اليد.
(٤). البيت للفرزدق. وفى النقائض:" وعض زمان" بالضاد وهذه الكلمة في هذا المعنى تقال بالضاد وبالظاء كما في القاموس. والمسحت: المستأصل. والمجلف: الذي بقيت منه بقية، ويروى: المجرف.
(٥). الإباضية بريئون من ذلك، وتفسير كلام الله ينزه عن مثل هذا التقول.
(٦). في ب وهـ ود: في أهل البدع من الناس.
وَيَتَمَنَّى «٢» فِي أَرُومَتِنَا | وَنَفْقَأُ عَيْنَ مَنْ حَسَدَا |
[سورة آل عمران (٣): آية ١٢٠]
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ" قَرَأَ السُّلَمِيُّ بِالْيَاءِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّاءِ. وَاللَّفْظُ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا يَحْسُنُ وَيَسُوءُ. وَمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنَ الْخِصْبِ وَالْجَدْبِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ وَدُخُولِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمْ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ أَمْثِلَةٌ وَلَيْسَ بِاخْتِلَافٍ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ كانت هذه صِفَتِهِ مِنْ شِدَّةِ الْعَدَاوَةِ وَالْحِقْدِ وَالْفَرَحِ بِنُزُولِ الشَّدَائِدِ عَلَى «٤» الْمُؤْمِنِينَ، لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِأَنْ يُتَّخَذَ بِطَانَةً، لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْأَمْرِ الْجَسِيمِ مِنَ الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ مِلَاكُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَقَدْ أَحْسَنَ الْقَائِلُ فِي قَوْلِهِ:
كُلُّ الْعَدَاوَةِ قَدْ تُرْجَى إِفَاقَتُهَا | إِلَّا عَدَاوَةَ مَنْ عَادَاكَ مِنْ حَسَدِ |
(٢). في هـ: ونتمى، وفى ابن عطية ونبني، وفى الأغاني: وزمزم من أرومتنا.
(٣). راجع ج ١٣ ص ٢١.
(٤). في دوب وهـ بالمؤمنين.
(٥). قراءة نافع. [..... ]
مَنْ يَفْعَلُ الْحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا
هَذَا قَوْلُ الْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ، أَوْ يَكُونُ مَرْفُوعًا على نية التقديم، وأنشد سيبويه:
إنك إِنْ يُصْرَعْ أَخُوكَ تُصْرَعُ «٥»
أَيْ لَا يَضُرُّكُمْ أَنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَجْزُومًا، وَضُمَّتِ الرَّاءُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ عَلَى إِتْبَاعِ الضَّمِّ. وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ فَتَحَ الرَّاءَ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ مَجْزُومٌ، وَفَتَحَ" يَضُرُّكُمْ" لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ لِخِفَّةِ الْفَتْحِ، رَوَاهُ أَبُو زَيْدٍ عَنِ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَاصِمٍ، حَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ. وَحَكَى النَّحَّاسُ: وَزَعَمَ الْمُفَضَّلُ الضَّبِّيُّ عَنْ عَاصِمٍ" لَا يَضُرِّكُمْ" بِكَسْرِ الرَّاءِ لالتقاء الساكنين.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٢١]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ) الْعَامِلُ فِي" إِذْ" فِعْلٌ مُضْمَرٌ تَقْدِيرُهُ: وَاذْكُرْ إِذْ غَدَوْتَ، يَعْنِي خَرَجْتَ بِالصَّبَاحِ. (مِنْ أَهْلِكَ) مِنْ مَنْزِلِكَ مِنْ عِنْدِ عَائِشَةَ. (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) هَذِهِ غَزْوَةُ أُحُدٍ وَفِيهَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: هِيَ غَزْوَةُ الْخَنْدَقِ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا يَوْمَ بَدْرٍ. وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا غَزْوَةُ أُحُدٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا" [آل عمران: ١٢٢] وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ قَصَدُوا الْمَدِينَةَ فِي ثَلَاثَةِ آلَافِ رَجُلٍ لِيَأْخُذُوا بثأرهم
(٢). في د ر هـ: يضور والتصحيح من البحر قال: بفك الإدغام وهى لغة أهل الحجاز.
(٣). الزيادة من ب ودرهم.
(٤). هو حسان بن ثابت رضى الله عنه. وتمامه: والشر بالشر عند الله سيان
(٥). هذا عجز بيت لجرير بن عبد الله. وصدره: يا أقرع بن حابس يا أقرع
[سورة آل عمران (٣): آية ١٢٢]
إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢)
الْعَامِلُ فِي إذ" تَبُوءَ" أَوْ" سَمِيعٌ عَلِيمٌ". وَالطَّائِفَتَانِ: بَنُو سَلِمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَبَنُو حَارِثَةَ مِنَ الْأَوْسِ، وَكَانَا جَنَاحَيِ الْعَسْكَرِ يَوْمَ أُحُدٍ. وَمَعْنَى (أَنْ تَفْشَلا) أَنْ تَجْبُنَا. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: فِينَا نَزَلَتْ (إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما" قَالَ: نَحْنُ الطَّائِفَتَانِ: بَنُو حَارِثَةَ وَبَنُو سَلِمَةَ، وَمَا نُحِبُّ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ، لِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ:" وَاللَّهُ وَلِيُّهُما". وَقِيلَ:
(٢). كذا في دوب وهـ وج.
(٣). من دوب وهـ.
(٤). البيضة: الخوذة، وهى زود ينسخ على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة، وفى ب ود وهـ، هشمت البيضة رأسه.
(٥). في ب ود وهـ: الثبت.
(٦). في د وهـ وب، وجني النبي.
نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بَدْرِ... وَالْحَرْبُ بَعْدَ الْحَرْبِ ذَاتُ سُعْرِ
مَا كَانَ عَنْ عُتْبَةَ لِي من صبر... ولا أخي وعمه بكري
(٢). زيادة عن مغازي الواقدي. [..... ]
(٣). في ب ود وهـ: رمى.
(٤). زيادة عن مغازي الواقدي.
(٥). في د: تشبت، وفى هـ: نشبت.
(٦). كذا في د، وفى ب وهـ وح: فسقط منها.
شَفَيْتُ نَفْسِي وَقَضَيْتُ نَذْرِي | شَفَيْتَ وَحْشِيُّ غَلِيلَ صَدْرِي |
فَشُكْرُ وَحْشِيٍّ عَلَيَّ عُمْرِي | حَتَّى تَرِمَّ أَعْظُمِي فِي قَبْرِي |
خَزِيتِ فِي بَدْرٍ وَبَعْدَ بَدْرِ | يَا بِنْتَ وَقَّاعٍ عَظِيمَ الْكُفْرِ |
صَبَّحَكِ اللَّهُ غَدَاةَ الْفَجْرِ | مِلْهَاشِمِيِّينَ الطِّوَالِ الزُّهْرِ |
بِكُلِّ قَطَّاعٍ حُسَامٍ يَفْرِي | حَمْزَةُ لَيْثِي وَعَلِيٌّ صَقْرِي |
إِذْ رَامَ شَيْبَ «١» وَأَبُوكِ غدى | فَخَضَبَا «٢» مِنْهُ ضَوَاحِيَ النَّحْرِ |
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ يَبْكِي حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
بَكَتْ عَيْنِي وَحُقَّ لَهَا بُكَاهَا | وَمَا يُغْنِي الْبُكَاءُ وَلَا الْعَوِيلُ |
عَلَى أَسَدِ الْإِلَهِ غَدَاةَ قَالُوا | أَحَمْزَةُ ذَاكُمُ الرَّجُلُ الْقَتِيلُ |
أُصِيبَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ جَمِيعًا | هُنَاكَ، وَقَدْ أُصِيبَ بِهِ الرَّسُولُ |
أَبَا يَعْلَى لَكَ الأركان هدت | وأنت الماجد البر الوصل |
عَلَيْكَ سَلَامُ رَبِّكِ فِي جِنَانٍ | مُخَالِطُهَا نَعِيمٌ لَا يَزُولُ |
أَلَا يَا هَاشِمَ الْأَخْيَارِ صَبْرًا | فَكُلُّ فِعَالِكُمْ حَسَنٌ جَمِيلُ |
رَسُولُ اللَّهِ مُصْطَبِرٌ كَرِيمُ | بِأَمْرِ اللَّهِ يَنْطِقُ إِذْ يَقُولُ |
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي لُؤَيًّا | فَبَعْدَ الْيَوْمِ دَائِلَةٌ تَدُولُ |
وَقَبْلَ الْيَوْمِ مَا عَرَفُوا وَذَاقُوا | وَقَائِعَنَا بِهَا يُشْفَى الْغَلِيلُ |
نَسِيتُمْ ضَرْبَنَا بِقَلِيبِ «٣» بَدْرٍ | غَدَاةً أَتَاكُمُ الْمَوْتُ الْعَجِيلُ |
غَدَاةَ ثَوَى أَبُو جَهْلٍ صَرِيعًا | عَلَيْهِ الطَّيْرُ حَائِمَةً تَجُولُ |
وَعُتْبَةُ وَابْنُهُ خَرَّا جَمِيعًا | وَشَيْبَةُ عَضَّهُ السَّيْفُ الصَّقِيلُ |
(٢). في د: مخضبا.
(٣). القليب (بفتح أوله وكسر ثانيه): البئر العادية القديمة التي لا يعلم لها رب ولا حافر تكون في البراري، يذكر ويؤنث.
وَمَتْرَكُنَا أُمَيَّةَ مُجْلَعِبًّا «١» | وَفِي حَيْزُومِهِ لَدْنٌ نَبِيلُ «٢» |
وهام بني ربيعة سائلوها | ففي أسيافها مِنْهَا فُلُولُ |
أَلَا يَا هِنْدُ لَا تُبْدِي شَمَاتًا | بِحَمْزَةَ إِنَّ عِزَّكُمُ ذَلِيلُ |
أَلَا يَا هِنْدُ فَابْكِي لَا تَمَلِّي | فَأَنْتِ الْوَالِهُ الْعَبْرَى الْهَبُولُ «٣» |
(٢). الحيزوم: وسط الصدر وما يضم عليه الحزام. واللدن: الرمح.
(٣). الهبول من النساء: الثكول.
(٤). في ب ود: غيرك وفى هـ: غيره.
(٥). راجع ج ٨ ص ٥١.
(٦). راجع ج ٧ ص ٣٧٧.
(٧). السرية: طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة سموا بذلك لأنهم تكون من خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السري: النفيس. [..... ]
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٢٣ الى ١٢٥]
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥)
فِيهِ سِتُّ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ) كَانَتْ بَدْرٌ يَوْمَ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ رَمَضَانَ، يَوْمَ جُمُعَةٍ لِثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ، وَبَدْرٌ مَاءٌ هُنَالِكَ وَبِهِ سُمِّيَ الْمَوْضِعُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: كَانَ ذَلِكَ الْمَاءُ لِرَجُلٍ مِنْ جُهَيْنَةَ يُسَمَّى بَدْرًا، وَبِهِ سُمِّيَ الْمَوْضِعُ. وَالْأَوَّلُ أَكْثَرُ. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وَغَيْرُهُ: بَدْرٌ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ غَيْرِ مَنْقُولٍ. وَسَيَأْتِي فِي قِصَّةِ بَدْرٍ فِي" الْأَنْفَالِ" «١» إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَ" أَذِلَّةٌ" مَعْنَاهَا قَلِيلُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ أَوْ أربعة عشر رجلا. وكان عدوهم ما بين التسعمائة إلى الالف. و" أَذِلَّةٌ" جَمْعُ ذَلِيلٍ. وَاسْمُ الذُّلِّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُسْتَعَارٌ، وَلَمْ يَكُونُوا فِي أَنْفُسِهِمْ إِلَّا أَعِزَّةً، وَلَكِنَّ نِسْبَتَهُمْ إِلَى عَدُوِّهِمْ وَإِلَى جَمِيعِ الْكُفَّارِ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ تَقْتَضِي عِنْدَ التَّأَمُّلِ ذِلَّتَهُمْ وَأَنَّهُمْ يُغْلَبُونَ. وَالنَّصْرُ الْعَوْنُ، فَنَصَرَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَتَلَ فِيهِ صَنَادِيدَ الْمُشْرِكِينَ، وَعَلَى ذَلِكَ الْيَوْمِ ابْتُنِيَ «٢» الْإِسْلَامُ، وَكَانَ أَوَّلَ قِتَالٍ قَاتَلَهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً، قَاتَلَ فِي ثَمَانٍ مِنْهُنَّ. وَفِيهِ عَنِ ابْنِ إسحاق قال: لقيت
(٢). في ب، ود: انبنى؟؟.
(٢). الغابة: موضع قرب المدينة من ناحية الشام.
(٣). ودان (بفتح الواو وشد المهملة): قرية جامعة من أمهات القرى من عمل الفرع. وقيل: واد في الطريق يقطعه المصعدون من حجاج المدينة. (عن شرح المواهب).
(٤). الموادعة: المصالحة.
(٥). بواط (بفتح الموحدة وقد تضم وتخفيف الواو وآخره طاء مهملة): جبل من جبال جهينة بقرب ينبع على أربعة برد من المدينة.
(٦). رضوى (بفتح الراء وسكون المعجمة مقصور): جبل بالمدينة، وهو على مسيرة يوم من ينبع وعلى سبع مراحل من المدينة.
(٢). الصور جماعة النخل الصغار، لا واحد له من لفظه. الدقعاء: التراب.
(٢). راجع ج ٧ ص ٣٧٠.
(٣). أبو زميل (بالتصغير) هو سماك بن الوليد. (تهذيب التهذيب).
(٤). حيزوم: اسم فرس من خيل الملائكة. [..... ]
(٥). زيادة عن صحيح مسلم، واخضر بأسود؟.
(٦). ج ٨ ص ٤٨.
(٧). متح: جذب الدلو من البئر مستقيما، والماتح: المستقى.
(٢). في د وهـ وب: والثواب للذين يقاتلون...
(٣). في هـ ود: إلا يوم بدر.
(٤). راجع ج ٧ ص ٣٧٠.
(٥). الردء: العون والناصر.
(٢). في ب وهـ: يوم أحد.
(٣). راجع ج ١٥ ص ٦٠.
(٤). راجع ج ١٤ ص ٢٤٧.
(٥). راجع ج ١ ص ٢٠٩.
تَفُورُ عَلَيْنَا قِدْرُهُمْ فَنُدِيمُهَا
الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (مُسَوِّمِينَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ اسْمُ مَفْعُولٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ عَامِرٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَنَافِعٍ. أَيْ مُعَلَّمِينَ بِعَلَامَاتٍ. وَ" مُسَوِّمِينَ" بِكَسْرِ الْوَاوِ اسْمُ فَاعِلٍ، وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي عَمْرٍو وَابْنِ كَثِيرٍ وَعَاصِمٍ، فَيَحْتَمِلُ مِنَ الْمَعْنَى مَا تَقَدَّمَ، أَيْ قَدْ أَعْلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِعَلَامَةٍ، وَأَعْلَمُوا خَيْلَهُمْ. وَرَجَّحَ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ. وَقَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: مُسَوِّمِينَ أَيْ مُرْسِلِينَ خَيْلَهُمْ، فِي الْغَارَةِ. وَذَكَرَ الْمَهْدَوِيُّ هَذَا الْمَعْنَى فِي" مُسَوِّمِينَ" بِفَتْحِ الْوَاوِ، أَيْ أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْكُفَّارِ. وَقَالَهُ ابْنُ فُورَكَ أَيْضًا. وَعَلَى الْقِرَاءَةِ الْأُولَى اخْتَلَفُوا فِي سِيمَا الْمَلَائِكَةِ، فَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ اعْتَمَّتْ بِعَمَائِمَ بِيضٍ قَدْ أَرْسَلُوهَا بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ، ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَكَاهُ الْمَهْدَوِيُّ عَنِ الزَّجَّاجِ. إِلَّا جِبْرِيلَ فَإِنَّهُ كَانَ بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ عَلَى مِثَالِ الزُّبَيْرِ بْنِ العوام، وقال ابْنُ إِسْحَاقَ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: كَانَتْ سِيمَاهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ. قُلْتُ: ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ يَوْمَ بَدْرٍ رِجَالًا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مُعَلَّمِينَ يَقْتُلُونَ وَيَأْسِرُونَ. فَقَوْلُهُ:" مُعَلَّمِينَ" دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخَيْلَ الْبُلْقَ لَيْسَتِ السِّيمَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتْ خَيْلُهُمْ مَجْزُوزَةَ الْأَذْنَابِ وَالْأَعْرَافِ مُعَلَّمَةَ النَّوَاصِي وَالْأَذْنَابِ بِالصُّوفِ وَالْعِهْنِ «٢». وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَسَوَّمَتِ الْمَلَائِكَةُ يَوْمَ بَدْرٍ بِالصُّوفِ الْأَبْيَضِ فِي نَوَاصِي الْخَيْلِ وَأَذْنَابِهَا. وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَهِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ وَالْكَلْبِيُّ: نَزَلَتِ الْمَلَائِكَةُ فِي سِيمَا الزُّبَيْرِ عَلَيْهِمْ عمائم صفر مرخاة عَلَى أَكْتَافِهِمْ. وَقَالَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ وَعُرْوَةُ ابْنَا الزُّبَيْرِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَانَتْ مُلَاءَةً صَفْرَاءَ اعْتَمَّ بِهَا الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قلت: ودلت الآية-
(٢). العهن: الصوف المصبوغ ألوانا.
(٢). الاعتجار بالعمامة: هو أن يلفها على رأسه ويرد طرفها على وجه ولا يعمل منها شيئا تحت ذقته، وفى ب: معتما.
(٣). ج ١٠ ص ١٥٤.
(٤). كذا في د وهـ وب. وفى أوح: النحاس.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٢٦ الى ١٢٧]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧)قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) الْهَاءُ لِلْمَدَدِ، وَهُوَ الْمَلَائِكَةُ أَوِ الْوَعْدُ أَوِ الْإِمْدَادُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ" يُمْدِدْكُمْ" أَوْ لِلتَّسْوِيمِ أَوْ لِلْإِنْزَالِ أَوِ الْعَدَدِ عَلَى الْمَعْنَى، لِأَنَّ خَمْسَةَ آلَافٍ عَدَدٌ. (وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) اللَّامُ لَامُ كَيْ، أَيْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ جَعَلَهُ، كَقَوْلِهِ:" وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً" [فصلت: ١٢] «١» أَيْ وَحِفْظًا لَهَا جَعَلَ ذَلِكَ. (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) يَعْنِي نَصْرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ نَصْرُ الْكَافِرِينَ، لِأَنَّ مَا وَقَعَ لَهُمْ مِنْ غَلَبَةٍ إِنَّمَا هُوَ إِمْلَاءٌ مَحْفُوفٌ بِخِذْلَانٍ وَسُوءِ عَاقِبَةٍ وَخُسْرَانٍ. (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أَيْ بِالْقَتْلِ. وَنَظْمُ الْآيَةِ: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ لِيَقْطَعَ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَقْطَعَ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِ" يُمْدِدْكُمْ"، أَيْ يُمْدِدُكُمْ لِيَقْطَعَ. وَالْمَعْنَى: مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ. السُّدِّيُّ: يَعْنِي بِهِ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانُوا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَمَعْنَى (يَكْبِتَهُمْ) يُحْزِنُهُمْ، وَالْمَكْبُوتُ الْمَحْزُونُ. وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ فَرَأَى ابْنَهُ مَكْبُوتًا فَقَالَ: (مَا شَأْنُهُ)؟. فَقِيلَ: مَاتَ بَعِيرُهُ. وَأَصْلُهُ فِيمَا ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ" يَكْبِدُهُمْ" أَيْ يُصِيبُهُمْ بِالْحُزْنِ وَالْغَيْظِ فِي أَكْبَادِهِمْ، فَأُبْدِلَتِ الدَّالُّ تَاءً، كَمَا قُلِبَتْ فِي سَبَتَ رَأْسَهُ وَسَبَدَهُ أَيْ حَلَقَهُ. كَبَتَ اللَّهُ الْعَدُوَّ كَبْتًا إِذَا «٢» صَرَفَهُ وَأَذَلَّهُ، كَبَدَهُ، أَصَابَهُ فِي كَبِدِهِ، يُقَالُ: قَدْ أَحْرَقَ الْحُزْنُ كَبِدَهُ، وَأَحْرَقَتِ الْعَدَاوَةُ كَبِدَهُ. وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِلْعَدُوِّ: أَسْوَدُ الْكَبِدِ، قَالَ الْأَعْشَى:
فَمَا أَجْشَمْتِ «٣» مِنْ إِتْيَانِ قَوْمٍ | هُمُ الْأَعْدَاءُ وَالْأَكْبَادُ سُودُ |
(٢). في ب: أي صرفه.
(٣). أجشمت: كلفت على مشقة.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٢٨ الى ١٢٩]
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩)فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي رَأْسِهِ، فجعل يسلب الدَّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: (كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا رَأْسَ نَبِيِّهِمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ). الضَّحَّاكُ: هَمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:" لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ". وَقِيلَ: اسْتَأْذَنَ فِي أَنْ يَدْعُوَ فِي اسْتِئْصَالِهِمْ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلِمَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ سَيُسْلِمُ وَقَدْ آمَنَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَغَيْرُهُمْ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابن عامر قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو عَلَى أَرْبَعَةِ نَفَرٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ" فَهَدَاهُمُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ. وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ صَحِيحٌ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ" قِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى" لِيَقْطَعَ طَرَفاً". وَالْمَعْنَى: لِيَقْتُلَ طَائِفَةً مِنْهُمْ، أَوْ يُحْزِنَهُمْ بِالْهَزِيمَةِ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ. وَقَدْ تَكُونُ" أَوْ" هَاهُنَا بِمَعْنَى" حَتَّى" وَ" إِلَّا أَنْ". قَالَ امْرُؤُ القيس:
... أو نموت فنعذرا
قال علماؤنا: قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجُّوا رَأْسَ نَبِيِّهِمْ) اسْتِبْعَادٌ لِتَوْفِيقِ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى:" لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ" تَقْرِيبٌ لِمَا اسْتَبْعَدَهُ وَإِطْمَاعٌ فِي إِسْلَامِهِمْ، وَلَمَّا أُطْمِعَ فِي ذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: (رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ
(٢). في نسخة: هـ وب ود، وفى غيرها: الامر.
(٢). الحقد (بفتح فسكون): الإسراع في العمل والخدمة.
(٣). الرواية بكسر الحاء أي من نزل به عذابك ألحقه بالكفار. وقيل: هو بمعنى لا حق، لغة في لحق. ويروى بفتح الحاء على المفعول، أي إن عذابك يلحق بالكفاء ويصابون به. (عن ابن الأثير).
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٣٠ الى ١٣٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢)قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً) هَذَا النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ الرِّبَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ أَثْنَاءِ قِصَّةِ أُحُدٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا أَحْفَظُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا مَرْوِيًّا. قُلْتُ: قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا يَبِيعُونَ الْبَيْعَ إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ زَادُوا فِي الثَّمَنِ عَلَى أَنْ يُؤَخِّرُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً". [قُلْتُ] «١» وَإِنَّمَا خَصَّ الرِّبَا مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْمَعَاصِي، لِأَنَّهُ الَّذِي أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ بِالْحَرْبِ فِي قَوْلِهِ:" فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" [البقرة: ٢٧٩] «٢» وَالْحَرْبُ يُؤْذِنُ بِالْقَتْلِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تَتَّقُوا الرِّبَا هُزِمْتُمْ وَقُتِلْتُمْ. فَأَمَرَهُمْ بِتَرْكِ الرِّبَا، لِأَنَّهُ كَانَ مَعْمُولًا بِهِ عِنْدَهُمْ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَ (أَضْعافاً) نُصِبَ عَلَى الْحَالِ وَ (مُضاعَفَةً) نعته. وقرى" مُضَعَّفَةً" وَمَعْنَاهُ: الرِّبَا الَّذِي كَانَتِ الْعَرَبُ تُضَعِّفُ فِيهِ الدَّيْنَ، فَكَانَ الطَّالِبُ يَقُولُ: أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي؟ كَمَا تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ". وَ (مُضاعَفَةً) إِشَارَةٌ إِلَى تَكْرَارِ التَّضْعِيفِ عَامًا بَعْدَ عَامٍ كَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ الْمُؤَكَّدَةُ عَلَى شُنْعَةِ فِعْلِهِمْ وَقُبْحِهِ، وَلِذَلِكَ ذُكِرَتْ حَالَةُ التَّضْعِيفِ خَاصَّةً. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ أَيْ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا فَلَا تَأْكُلُوهَا. ثُمَّ خَوَّفَهُمْ فقال:) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي قَالَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: وَهَذَا الْوَعِيدُ لِمَنِ اسْتَحَلَّ الرِّبَا، وَمَنِ اسْتَحَلَّ الرِّبَا فَإِنَّهُ يَكْفُرُ [وَيُكَفَّرُ] «٣». وَقِيلَ: مَعْنَاهُ اتَّقُوا الْعَمَلَ الَّذِي يَنْزِعُ مِنْكُمُ الْإِيمَانَ فَتَسْتَوْجِبُونَ النَّارَ، لِأَنَّ مِنَ الذُّنُوبِ مَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ صَاحِبُهُ نَزْعَ الْإِيمَانِ وَيُخَافُ عَلَيْهِ، مِنْ ذَلِكَ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ. وَقَدْ جَاءَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ عَاقًّا لِوَالِدَيْهِ يُقَالُ لَهُ عَلْقَمَةُ، فَقِيلَ لَهُ عَنْدَ الْمَوْتِ: قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى جَاءَتْهُ أُمُّهُ فَرَضِيَتْ عَنْهُ. وَمِنْ ذَلِكَ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَأَكْلُ الرِّبَا والخيانة
(٢). راجع ج ٣ ص ٢٥٦.
(٣). في د وه وفي ب: وبضر.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٣٣]
وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَسارِعُوا) قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ" سارِعُوا" بِغَيْرِ وَاوٍ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مَصَاحِفَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّامِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ" وَسارِعُوا". وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: كِلَا الْأَمْرَيْنِ شَائِعٌ «٣» مُسْتَقِيمٌ، فَمَنْ قَرَأَ بِالْوَاوِ فَلِأَنَّهُ عَطَفَ الْجُمْلَةَ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَمَنْ تَرَكَ الْوَاوَ فَلِأَنَّ الْجُمْلَةَ الثَّانِيَةَ مُلْتَبِسَةٌ بِالْأُولَى مُسْتَغْنِيَةٌ بِذَلِكَ عَنِ الْعَطْفِ بِالْوَاوِ. وَالْمُسَارَعَةُ الْمُبَادَرَةُ، وَهِيَ مُفَاعَلَةٌ. وَفِي الْآيَةِ حَذْفٌ. أَيْ سَارِعُوا إِلَى مَا يُوجِبُ الْمَغْفِرَةَ وهي الطاعة. قال أنس ابن مَالِكٍ وَمَكْحُولٌ فِي تَفْسِيرِ (سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ): مَعْنَاهُ إِلَى تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: إِلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ. عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: إِلَى الْإِخْلَاصِ. الْكَلْبِيُّ: إِلَى التَّوْبَةِ مِنَ الرِّبَا. وَقِيلَ: إِلَى الثَّبَاتِ فِي الْقِتَالِ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا. وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي الجميع، ومعناها معني"اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
" [البقرة: ١٤٨] وَقَدْ تَقَدَّمَ «٤». الثَّانِيَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) تَقْدِيرُهُ كَعَرْضِ فَحَذَفَ الْمُضَافَ، كَقَوْلِهِ:" مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ" [لقمان: ٢٨] «٥» أَيْ إِلَّا كَخَلْقِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَبَعْثِهَا. قَالَ الشاعر:
(٢). راجع ج ١ ص ٢٢٧.
(٣). في هـ: سائغ.
(٤). راجع ج ٢ ص ١٦٥.
(٥). راجع ج ١٤ ص ٧٨.
حَسِبْتَ بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا | وَمَا هِيَ وَيْبَ غَيْرِكَ بِالْعَنَاقِ «١» |
(٢). راجع ج ١٧ ص ٢٥٤.
(٣). في هـ: من حديد.
(٤). نزعت بما في التوراة. جئت بما يشبهها.
كَأَنَّ بِلَادَ اللَّهِ وَهْيَ عَرِيضَةٌ | عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ «٢» |
(٢). الكفة (بالكسر): ما يصاد به الظباء، يجعل كالطوق.
(٣). في د وهـ: ولكنه يراد. [..... ]
(٤). في د وب وهـ: لمقدوراته.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٣٤]
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤)فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) هَذَا مِنْ صِفَةِ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ أُعِدَّتْ لَهُمُ الْجَنَّةُ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّهَا مَدْحٌ بِفِعْلِ الْمَنْدُوبِ إليه. و (السَّرَّاءِ) الْيُسْرُ (وَالضَّرَّاءِ) الْعُسْرُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: السَّرَّاءُ وَالضَّرَّاءُ الرَّخَاءُ وَالشِّدَّةُ. وَيُقَالُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ. وَقِيلَ: فِي السَّرَّاءِ فِي الْحَيَاةِ، وَفِي الضَّرَّاءِ يَعْنِي يُوصِي بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: فِي السَّرَّاءِ فِي الْعُرْسِ وَالْوَلَائِمِ، وَفِي الضَّرَّاءِ فِي النَّوَائِبِ وَالْمَآتِمِ. وَقِيلَ: فِي السَّرَّاءِ النَّفَقَةُ الَّتِي تَسُرُّكُمْ، مِثْلَ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالْقَرَابَاتِ، وَالضَّرَّاءِ عَلَى الْأَعْدَاءِ. وَيُقَالُ: فِي السَّرَّاءِ مَا يُضِيفُ بِهِ الْفَتَى «١» وَيُهْدَى إِلَيْهِ. وَالضَّرَّاءِ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى أَهْلِ الضُّرِّ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَيْهِمْ. قُلْتُ:- وَالْآيَةُ تَعُمُّ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ: الثَّانِيَةُ- وَكَظْمُ الْغَيْظِ رَدُّهُ فِي الْجَوْفِ، يُقَالُ: كَظَمَ غَيْظَهُ أَيْ سَكَتَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُظْهِرْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى إِيقَاعِهِ بعدوه، وكظمت السقاء أي ملائه وَسَدَدْتُ عَلَيْهِ، وَالْكِظَامَةُ مَا يُسَدُّ بِهِ مَجْرَى الْمَاءِ، وَمِنْهُ الْكِظَامُ لِلسَّيْرِ الَّذِي يُسَدُّ بِهِ فَمُ الزِّقِّ وَالْقِرْبَةِ. وَكَظَمَ الْبَعِيرُ جِرَّتَهُ «٢» إِذَا رَدَّهَا فِي جَوْفِهِ، وَقَدْ يُقَالُ لِحَبْسِهِ الْجِرَّةُ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَهَا إِلَى فِيهِ: كَظَمَ، حَكَاهُ الزَّجَّاجُ. يُقَالُ: كَظَمَ الْبَعِيرُ وَالنَّاقَةُ إِذَا لَمْ يَجْتَرَّا، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاعِي:
فَأَفَضْنَ بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بِجِرَّةٍ | مِنْ ذِي الأبارق «٣» إذ رَعَيْنَ حَقِيلَا |
قَدْ تَكْظِمُ الْبُزْلَ «٤» مِنْهُ حِينَ تُبْصِرُهُ | حَتَّى تَقَطَّعَ فِي أجوافها الجرر |
(٢). الجرة (بالكسر): ما يخرجه البعير من بطنه ليمضغه ثم يبلعه.
(٣). في ب وهـ ود: ذى الأباطح.
(٤). ليزل (بضم فسكون): جمع بازل، وهى البعير الذي كملت قوته ودخل في التاسعة وفطر نابه.
(٢). في د: جاز.
(٣). في هـ: عمن ظلمهم وأساء إليهم.
(٤). راجع ج ١٦ ص ٣٥.
وَإِذَا غَضِبْتَ فَكُنْ وَقُورًا كَاظِمًا | لِلْغَيْظِ تُبْصِرُ مَا تَقُولُ وَتَسْمَعُ |
فَكَفَى بِهِ شَرَفًا تَبَصُّرُ سَاعَةٍ | يَرْضَى بِهَا عَنْكَ الْإِلَهُ وَتُرْفَعُ |
لَنْ يَبْلُغَ الْمَجْدَ أَقْوَامٌ وَإِنْ شَرُفُوا | حَتَّى يُذَلُّوا وَإِنْ عَزُّوا لِأَقْوَامِ |
وَيُشْتَمُوا فَتَرَى الْأَلْوَانَ مُشْرِقَةً | لَا عَفْوَ ذُلٍّ وَلَكِنْ عَفْوَ إِكْرَامِ |
بَادِرْ بِخَيْرٍ إِذَا مَا كُنْتَ مُقْتَدِرًا | فَلَيْسَ فِي كُلِّ وَقْتٍ أَنْتَ مُقْتَدِرُ |
لَيْسَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَأَوَانِ | تَتَهَيَّأْ صَنَائِعُ الْإِحْسَانِ |
وَإِذَا أَمْكَنْتَ فَبَادِرْ إِلَيْهَا | حَذَرًا مِنْ تَعَذُّرِ الْإِمْكَانِ |
[سورة آل عمران (٣): آية ١٣٥]
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ صِنْفًا، هُمْ دُونَ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ فَأَلْحَقَهُمْ بِهِ «٢» بِرَحْمَتِهِ وَمَنِّهِ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ التَّوَّابُونَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي نَبْهَانَ التَّمَّارِ- وَكُنْيَتُهُ أَبُو مُقْبِلٍ- أَتَتْهُ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ بَاعَ مِنْهَا تَمْرًا، فَضَمَّهَا إِلَى نَفْسِهِ وَقَبَّلَهَا فَنَدِمَ «٣» عَلَى ذَلِكَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ له، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَذَكَرَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ- وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَا مِنْ عَبْدٍ يُذْنِبُ ذَنْبًا ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ إِلَّا غُفِرَ لَهُ- ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ-" وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ" الْآيَةَ، وَالْآيَةَ الْأُخْرَى- وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نفسه [النساء: ١١٠] «٤». وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَهَذَا عَامٌّ. وَقَدْ تَنْزِلُ الْآيَةُ بِسَبَبٍ خَاصٍّ ثُمَّ تَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ. وقد قيل: إن سبب نزولها أن ثقفيا خَرَجَ فِي غَزَاةٍ وَخَلَّفَ صَاحِبًا لَهُ أَنْصَارِيًّا على أهله، فخانه فيها بأن
(٢). في ابن عطية: بهم.
(٣). في ب ود وهـ: ثم.
(٤). راجع ج ٥ ص ٣٨٠. [..... ]
(٢). كذا في ابن عطية، وهى الرواية.
(٣). راجع ص ٣٨.
عَوَابِسُ بِالشُّعْثِ الْكُمَاةِ إِذَا ابْتَغَوْا | عُلَالَتَهَا بِالْمُحْصَدَاتِ «٢» أَصَرَّتِ |
يُصِرُّ بِاللَّيْلِ مَا تُخْفِي شَوَاكِلُهُ «٣» | يَا وَيْحَ كُلِّ مُصِرِّ الْقَلْبِ خَتَّارِ «٤» |
(٢). العلالة (بالضم): بقية جرى الفرس، والمحصدات: السباط المفتولة.
(٣). الشواكل: الطرق المنشعبة عن الطريق الأعظم.
(٤). الختر: شبيه بالغدر والخديعة. وقيل: هو أسوأ الغدر وأقبحه، و" اخْتارَ" للبالغة
(٥). في ب ود.
" وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا | " راجع ج ٨ ص ٢٨١، وسيرة ابن هشام ص ٨٩٣ طبع أوربا. |
يَسْتَوْجِبُ الْعَفْوَ الْفَتَى إِذَا اعْتَرَفْ | بِمَا جَنَى مِنَ الذُّنُوبِ وَاقْتَرَفْ |
أَقْرِرْ بِذَنْبِكَ ثُمَّ اطْلُبْ تَجَاوُزَهُ | إِنَّ الْجُحُودَ جُحُودَ الذَّنْبِ ذَنْبَانِ |
(٢). في ب ود وهـ: انضاف.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٣٢، وج ١٧ ص ٢١.
(٤). في أوح: أخبر. [..... ]
(٥). راجع ج ١٣ ص ٧٧.
(٢). راجع ج ٥ ص ٩٠ وج ١١ ص ٢٣١، وج ٢٣١ وج ١٣ ص ٢٣٨.
. فَعُوقِبُوا قَبْلَ فِعْلِهِمْ بِعَزْمِهِمْ وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ. وَفِي البخاري (إذا التقى المسلمان بسيفهما فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: (إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ). فَعَلَّقَ الْوَعِيدَ عَلَى الْحِرْصِ وَهُوَ الْعَزْمُ وَأَلْغَى إِظْهَارَ السِّلَاحِ، وَأَنَصُّ مِنْ هَذَا مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي كَبْشَةٍ الْأَنْمَارِيِّ وَصَحَّحَهُ مَرْفُوعًا (إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ رَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فيه رحمه ويعلم الله فيه حقا فهذا أفضل الْمَنَازِلِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالًا فَهُوَ [صَادِقُ النِّيَّةِ] «٤» يَقُولُ لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ نيته فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا وَلَمْ يؤته علما فهو [يخبط في مال بِغَيْرِ عِلْمٍ] «٥» لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلَا يَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ، وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ اللَّهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ لَوْ أن مالا لعملت فيه بعمل فلان فهو نيته فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ (. وَهَذَا الَّذِي صَارَ إِلَيْهِ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَامَّةُ السَّلَفِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى خِلَافِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ مَا يَهُمُّ الْإِنْسَانُ بِهِ وَإِنْ وَطَّنَ عَلَيْهِ «٦» لَا يُؤَاخَذُ بِهِ. ولا حجة [له] «٧» في قول عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً) لِأَنَّ مَعْنًى (فَلَمْ يَعْمَلْهَا) فَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى عَمَلِهَا بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا، وَمَعْنَى (فَإِنْ عَمِلَهَا) أَيْ أَظْهَرَهَا أَوْ عَزَمَ عَلَيْهَا بِدَلِيلِ ما وصفنا. وبالله توفيقنا.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٣٦]
أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦)
رَتَّبَ تَعَالَى بِفَضْلِهِ وَكَرَمِهِ غُفْرَانَ الذُّنُوبِ لِمَنْ أَخْلَصَ فِي تَوْبَتِهِ وَلَمْ يُصِرَّ عَلَى ذنبه. ويكن أَنْ يَتَّصِلَ هَذَا بِقِصَّةِ أُحُدٍ، أَيْ مَنْ فَرَّ ثُمَّ تَابَ وَلَمْ يُصِرَّ فَلَهُ مَغْفِرَةُ الله.
(٢). راجع ج ١٢ ص ٣٤.
(٣). راجع ج ١٨ ص ٢٤١.
(٤). زيادة عن سنن الترمذي.
(٥). زيادة عن سنن الترمذي.
(٦). المعمول محذوف في كل الأصول، وتقديره في قوله القاضي السابق.
(٧). في هـ.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٣٧]
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧)هَذَا تَسْلِيَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ، وَالسُّنَنُ جَمْعُ سُنَّةٍ وَهِيَ الطَّرِيقُ الْمُسْتَقِيمُ. وَفُلَانٌ عَلَى السُّنَّةِ أَيْ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِوَاءِ لَا يَمِيلُ إِلَى شي مِنَ الْأَهْوَاءِ، قَالَ الْهُذَلِيُّ:
فَلَا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أَنْتَ سِرْتَهَا | فَأَوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا |
مِنْ مَعْشَرٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ | وَلِكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَإِمَامُهَا |
مَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ فَضْلٍ كَفَضْلِهِمُ | وَلَا رَأَوْا مِثْلَهُمْ فِي سَالِفِ السُّنَنِ |
[سورة آل عمران (٣): آية ١٣٨]
هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨)
يَعْنِي الْقُرْآنَ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ:" قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ". والموعظة الوعظ. وقد تقدم.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٣٩]
وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩)
عَزَّاهُمْ وَسَلَّاهُمْ بِمَا نَالَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجِرَاحِ، وَحَثَّهُمْ عَلَى قِتَالِ عَدُوِّهِمْ وَنَهَاهُمْ عَنِ الْعَجْزِ وَالْفَشَلِ فَقَالَ (وَلا تَهِنُوا) أَيْ لَا تَضْعُفُوا وَلَا تَجْبُنُوا يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ عَنْ جِهَادِ أَعْدَائِكُمْ لِمَا أَصَابَكُمْ.
٢ - راجع جـ١١ ص ٢٢٣..
[سورة آل عمران (٣): آية ١٤٠]
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) الْقَرْحُ الْجُرْحُ. وَالضَّمُّ وَالْفَتْحُ فِيهِ لُغَتَانِ عَنِ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ، مِثْلُ عُقْرٍ «٣» وَعَقْرٍ. الْفَرَّاءُ: هُوَ بِالْفَتْحِ الْجُرْحُ، وَبِالضَّمِّ أَلَمُهُ. وَالْمَعْنَى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ يَوْمَ أُحُدٍ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ يَوْمَ بَدْرٍ قَرْحٌ مِثْلُهُ. وَقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ السميقع" قرح" بفتح
(٢). راجع ج ١١ ص ٢٢٣.
(٣). في الأصول:" قفر وقفر" وهو تحريف.
فَيَوْمٌ لَنَا وَيَوْمٌ علينا... ويوم نساء ويوم نسر
قوله تعالى: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) مَعْنَاهُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَاوَلَةُ لِيُرَى الْمُؤْمِنَ مِنَ الْمُنَافِقِ فَيُمَيَّزَ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ، كَمَا قَالَ:" وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ. وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا" [آل عمران: ١٦٧ - ١٦٦] «١». وَقِيلَ: لِيَعْلَمَ صَبْرَ الْمُؤْمِنِينَ، الْعِلْمَ الَّذِي يَقَعُ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ كَمَا عَلِمَهُ غَيْبًا قَبْلَ أَنْ كَلَّفَهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" «٢» هَذَا الْمَعْنَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) فِيهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ" أَيْ يُكْرِمُكُمْ بِالشَّهَادَةِ، أَيْ لِيُقْتَلَ قَوْمٌ فَيَكُونُوا شهدا عَلَى النَّاسِ بِأَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: لِهَذَا قِيلَ شَهِيدٌ: وَقِيلَ: سُمِّيَ شَهِيدًا لِأَنَّهُ مَشْهُودٌ لَهُ بِالْجَنَّةِ وَقِيلَ: سُمِّيَ شَهِيدًا لِأَنَّ أَرْوَاحَهُمُ احْتَضَرَتْ «٣» دَارَ السَّلَامِ، لِأَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَأَرْوَاحُ غَيْرِهِمْ لَا تَصِلُ إِلَى الْجَنَّةِ، فَالشَّهِيدُ بِمَعْنَى الشَّاهِدِ أَيِ الْحَاضِرِ لِلْجَنَّةِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ عَلَى مَا يَأْتِي وَالشَّهَادَةُ فَضْلُهَا عَظِيمٌ، وَيَكْفِيكَ فِي فضلها قول تَعَالَى:" إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ" [التوبة: ١١١] «٤» الْآيَةَ." يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ. تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ" إلى قوله:" ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" [الصف: ١١٢ ١٠١] «٥». وَفِي صَحِيحِ الْبُسْتِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مِنَ الْقَتْلِ إِلَّا كَمَا يَجِدُ أَحَدَكُمْ مِنَ الْقُرْحَةِ). وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إِلَّا الشَّهِيدَ؟ قَالَ: (كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً). وَفِي الْبُخَارِيِّ:" من قتل من المسلمين
(٢). راجع ج ٢ ص ١٥٦.
(٣). في ب، د، آه: أحضرت.
(٤). راجع ج ٨ ص ٢٦٦.
(٥). راجع ج ١٨ ص ٨٦.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٤١]
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١)
(٢). راجع ج ٨ ص ١٥٦.
(٣). في ب ود وهـ: روى على.
(٤). في هـ ود: أدال.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٤٢]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢)
" أَمْ" بِمَعْنَى بَلْ. وَقِيلَ: الْمِيمُ زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى أَحَسِبْتُمْ يأمن انْهَزَمَ يَوْمَ أُحُدٍ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ كَمَا دَخَلَ الَّذِينَ قُتِلُوا وَصَبَرُوا عَلَى أَلَمِ الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْلُكُوا طَرِيقَهُمْ وَتَصْبِرُوا صَبْرَهُمْ لَا، حَتَّى (يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) أَيْ عِلْمَ شَهَادَةٍ حَتَّى يَقَعَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ. وَالْمَعْنَى: وَلَمْ تُجَاهِدُوا فَيَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْكُمْ، فَلَمَّا بِمَعْنَى لَمْ. وَفَرَّقَ سِيبَوَيْهِ بَيْنَ" لَمْ" وَ" لَمَّا" فَزَعَمَ أَنَّ" لَمْ يَفْعَلْ" نَفْيُ فعل، وأن" لم يَفْعَلْ". نَفْيُ قَدْ فَعَلَ. (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ أَنْ، عَنِ الْخَلِيلِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ" يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ" بِالْجَزْمِ عَلَى النَّسَقِ. وقرى بِالرَّفْعِ عَلَى الْقَطْعِ، أَيْ وَهُوَ يَعْلَمُ. وَرَوَى هَذِهِ الْقِرَاءَةَ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْوَاوُ هُنَا بِمَعْنَى حَتَّى، أَيْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ حَتَّى يعلم صبرهم كما تقدم آنفا.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٤٣]
وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) " أَيِ الشَّهَادَةَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ" مِنْ قَبْلِ أَنْ تُلَاقُوهُ" أَيْ مِنْ قَبْلِ الْقَتْلِ. وَقِيلَ: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْا أَسْبَابَ الْمَوْتِ وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِمَّنْ لَمْ يَحْضُرُوا بَدْرًا كَانُوا يتمنون يوما يكون فيه قتال،
قوله تعالى :" وأنتم تنظرون " قال الأخفش : هو تكرير بمعنى التأكد لقوله :" فقد رأيتموه " مثل " ولا طائر يطير بجناحيه " ٢[ الأنعام : ٣٨ ]. وقيل : معناه وأنتم بصراء ليس في أعينكم علل، كما٣ تقول : قد رأيت كذا وكذا وليس في عينيك علة، أي فقد رأيته رؤية حقيقية، وهذا راجع إلى معنى التوكيد. وقال بعضهم :" وأنتم تنظرون " إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وفي الآية إضمار، أي فقد رأيتموه وأنتم تنظرون فلم انهزمتم ؟.
٢ - راجع جـ٦ ص ٤١٩..
٣ - في ب و د وهـ..
[سورة آل عمران (٣): آية ١٤٤]
وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤)
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ بِسَبَبِ انْهِزَامِ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ صَاحَ الشَّيْطَانُ: قَدْ قُتِلَ مُحَمَّدٌ. قَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: قَدْ أُصِيبَ مُحَمَّدٌ فَأَعْطُوهُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَإِنَّمَا هُمْ إِخْوَانُكُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ قَدْ أُصِيبَ أَلَا تَمْضُونَ عَلَى مَا مضى عليه نبيكم حتى
(٢). راجع ج ٦ ص ٤١٩.
(٣). في ب ود وهـ.
إِلَى الْمَاجِدِ الْقَرْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ «٢»
وَقَدْ مَضَى هَذَا فِي الْفَاتِحَةِ «٣». وَقَالَ عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:
يَا خَاتِمَ النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ | بِالْخَيْرِ كُلُّ هُدَى السَّبِيلِ هُدَاكَا |
إِنَّ الْإِلَهَ بَنَى «٤» عَلَيْكَ مَحَبَّةً | فِي خَلْقِهِ وَمُحَمَّدًا سَمَّاكَا |
(٢). هذا عجز بيت للأعشى، وصدره:
إليك أبيت اللعن كان كلالها
والذي في الديوان: الماجد الفرع. كذا في ب ود وهـ. وفرع كل شي: أعلاه. [..... ]
(٣). راجع ج ١ ص ١٣٣.
(٤). في د، واللسان: ثنى ولم يعرف هذا في اللغة. والأصول بنى.
(٥). راجع ج ٢ ص ١٧٦.
(٦). السنح (بضم أوله وسكون النون وقد تضم): موضع بعوالي المدينة، وهى منازل بنى الحارث بن الخزرج، بينهما وبين منزل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ميل.
(٢). راجع ج ١٥ ص ٢٥٤.
أَلَا يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتَ رَجَاءَنَا | وَكُنْتَ بِنَا بَرًّا وَلَمْ تَكُ جَافِيَا |
وَكُنْتَ رَحِيمًا هَادِيًا وَمُعَلِّمًا | لِيَبْكِ عَلَيْكَ الْيَوْمَ مَنْ كَانَ بَاكِيَا |
لَعَمْرُكَ مَا أَبْكِي النَّبِيَّ لِفَقْدِهِ | وَلَكِنْ لِمَا أَخْشَى مِنَ الْهَرْجِ آتِيَا |
كَأَنَّ عَلَى قَلْبِي لِذِكْرِ مُحَمَّدٍ | وَمَا خِفْتُ مِنْ بَعْدِ النَّبِيِّ الْمَكَاوِيَا |
أَفَاطِمَ صَلَّى اللَّهُ رَبُّ مُحَمَّدٍ | عَلَى جَدَثٍ أَمْسَى بِيَثْرِبَ ثَاوِيَا |
فِدًى لِرَسُولِ اللَّهِ أُمِّي وَخَالَتِي | وَعَمِّي وَآبَائِي وَنَفْسِي وَمَالِيَا |
صدقت وبلغت الرسالة صادقا | ومت صليت الْعُودِ أَبْلَجَ صَافِيَا |
فَلَوْ أَنَّ رَبَّ النَّاسِ أَبْقَى نَبِيَّنَا | سَعِدْنَا، وَلَكِنْ أَمْرُهُ كَانَ مَاضِيَا |
عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ السَّلَامُ تَحِيَّةً | وَأُدْخِلْتَ جَنَّاتٍ من عدن رَاضِيَا |
أَرَى حَسَنًا أَيْتَمْتَهُ وَتَرَكْتَهُ | يُبَكِّي وَيَدْعُو جَدَّهُ الْيَوْمَ نَاعِيَا «١» |
(٢). يريد به أبا بكر رضى الله عنه.
(٣). في هـ: استوسقت.
(٢). زيادة عن ابن ماجة.
(٣). زيادة عن ابن ماجة.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٤٥]
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا) هَذَا حَضٌّ عَلَى الْجِهَادِ، وَإِعْلَامٌ أَنَّ الموت لأبد مِنْهُ وَأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مَقْتُولٍ أَوْ غَيْرِ مَقْتُولٍ مَيِّتٌ إِذَا بَلَغَ أَجَلَهُ الْمَكْتُوبَ لَهُ، لِأَنَّ مَعْنَى" مُؤَجَّلًا" إِلَى أَجَلٍ. وَمَعْنَى" بِإِذْنِ اللَّهِ" بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ. وَ" كِتاباً" نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ كَتَبَ اللَّهُ كِتَابًا مُؤَجَّلًا. وأجل الموت هو الوقت الذي
(٢). في هـ ود: ولا يتضرر بالمعصية. [..... ]
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٤٦ الى ١٤٧]
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧)
(٢). راجع ج ٧ ص ٢٠٢.
(٣). راجع ج ١١ ص ٢٠٥ فما بعد.
(٤). راجع ج ١٠ ص ٢٣٥.
(٥). في د وج: بهذا.
وَكَائِنْ بِالْأَبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ | يَرَانِي لَوْ أُصِبْتُ هُوَ الْمُصَابَا |
وَكَائِنْ رَدَدْنَا عَنْكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ | يَجِيءُ أَمَامَ الرَّكْبِ يَرْدِي «٤» مُقَنَّعَا |
وَكَائِنْ فِي الْمَعَاشِرِ «٥» مِنْ أُنَاسٍ | أَخُوهُمْ فَوْقَهُمْ وَهُمُ كرام |
كَأَيِّنْ مِنْ أُنَاسٍ لم يزالوا | أخوهم فوقهم وهم كرام |
(٢). في اوح: فلغت.
(٣). القلب في ذلك على لغة من يقلب حرف العلة الساكن المفتوح ما قبله ألفا، وهى لغة بلحارث بن كعب وخثعم وزبيد وقبائل من اليمن، كما ذكره الواحدي في وسيطه في تفسير قوله تعالى:" إِنْ هذانِ لَساحِرانِ".
(٤). يردى: يمشى الرديان (بالتحريك) وهو ضرب من المشي فيه تبختر. والمقنع: الذي تقنع بالسلاح، كالبيضة والمغفر.
(٥). في البحر: المعاسر.
كَأَيِّنْ أَبَدْنَا مِنْ عَدُوٍّ بِعِزِّنَا | وَكَائِنْ أَجَرْنَا مِنْ ضَعِيفٍ وَخَائِفِ |
وَكَائِنْ ذَعَرْنَا مِنْ مَهَاةٍ وَرَامِحٍ | بِلَادُ الْعِدَا «١» لَيْسَتْ لَهُ بِبِلَادِ |
وَإِذَا معشر تجافوا عن الح... ق حملنا عليهم ربيا
وقال الزجاج: ها هنا قراءتان" رِبِّيُّونَ" بضم الراء- و" رِبِّيُّونَ" بِكَسْرِ الرَّاءِ، أَمَّا الرُّبِّيُّونَ (بِالضَّمِّ): الْجَمَاعَاتُ الْكَثِيرَةُ. وَيُقَالُ: عَشْرَةُ آلَافٍ. قُلْتُ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ" رِبِّيُّونَ" بِفَتْحِ الرَّاءِ مَنْسُوبٌ إِلَى الرَّبِّ. قَالَ الْخَلِيلُ: الرِّبِّيُّ الْوَاحِدُ مِنَ الْعُبَّادِ الَّذِينَ صَبَرُوا مَعَ الْأَنْبِيَاءِ. وَهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ نُسِبُوا إِلَى التَّأَلُّهِ وَالْعِبَادَةِ وَمَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) " وَهَنُوا" أَيْ ضَعُفُوا، وَقَدْ تَقَدَّمَ وَالْوَهْنُ: انْكِسَارُ الْجِدِّ «١» بِالْخَوْفِ. وَقَرَأَ الحسن وأبو الْحَسَنُ وَأَبُو السَّمَّالِ" وَهَنُوا" بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّهَا، لُغَتَانِ عَنْ أَبِي زَيْدٍ. وَهَنَ الشَّيْءُ يَهِنُ وَهْنًا. وَأَوْهَنْتُهُ أَنَا وَوَهَّنْتُهُ ضَعَّفْتُهُ. وَالْوَاهِنَةُ: أَسْفَلُ الْأَضْلَاعِ وَقِصَارُهَا «٢». وَالْوَهَنُ مِنَ الْإِبِلِ: الْكَثِيفُ. وَالْوَهْنُ: سَاعَةٌ تَمْضِي مِنَ اللَّيْلِ، وَكَذَلِكَ الْمَوْهِنُ. وَأَوْهَنَّا صِرْنَا «٣» فِي تِلْكَ السَّاعَةِ، أَيْ مَا وَهَنُوا لِقَتْلِ نَبِيِّهِمْ، أَوْ لِقَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، أَيْ مَا وَهَنَ بَاقِيهُمْ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ. (وَما ضَعُفُوا) أَيْ عَنْ عَدُوِّهِمْ. (وَمَا اسْتَكانُوا) أَيْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي الْجِهَادِ. وَالِاسْتِكَانَةُ: الذِّلَّةُ وَالْخُضُوعُ، وَأَصْلُهَا" اسْتَكَنُوا" عَلَى افْتَعَلُوا، فَأُشْبِعَتْ فَتْحَةُ الْكَافِ فَتَوَلَّدَتْ مِنْهَا أَلِفٌ. وَمَنْ جَعَلَهَا مِنَ الْكَوْنِ فهي استفعلوا، والأول
(٢). الواهنة: القصيري وهى أسفل الأضلاع.
(٣). كذا في دو اللسان، وفى هـ وأ وح: ضربنا. [..... ]
[سورة آل عمران (٣): آية ١٤٨]
فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَآتاهُمُ اللَّهُ) أَيْ أَعْطَاهُمْ (ثَوابَ الدُّنْيا)، يَعْنِي النَّصْرَ وَالظَّفَرَ عَلَى عَدُوِّهِمْ. (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) يَعْنِي الْجَنَّةَ. وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ" فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ" مِنَ الثَّوَابِ. (وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) " تقدم.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٤٩ الى ١٥٠]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠)لَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالِاقْتِدَاءِ بِمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَنْصَارِ الْأَنْبِيَاءِ حَذَّرَ طَاعَةَ الْكَافِرِينَ، يَعْنِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ: أَبَا سُفْيَانَ وَأَصْحَابَهُ وَقِيلَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ لِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ الْهَزِيمَةِ: ارْجِعُوا إِلَى دِينِ آبَائِكُمْ. (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) أَيْ إِلَى الْكُفْرِ. (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) أَيْ فَتَرْجِعُوا مَغْبُونِينَ. ثُمَّ قَالَ: (بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ) أَيْ مُتَوَلِّي نَصْرَكُمْ وَحِفْظَكُمْ إن أطعتموه. وقرى" بَلِ اللَّهُ" بِالنَّصْبِ، عَلَى تَقْدِيرِ بَلْ وَأَطِيعُوا الله مولاكم.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٥١]
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١)
نَظِيرُهُ" وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ" «١». وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ" الرُّعُبَ" بِضَمِ الْعَيْنِ، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَالرُّعْبُ: الْخَوْفُ، يُقَالُ: رَعَبْتُهُ رُعْبًا وَرُعُبًا، فَهُوَ مَرْعُوبٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرُّعْبُ مَصْدَرًا، وَالرُّعْبُ الِاسْمُ. وَأَصْلُهُ مِنَ الْمَلْءِ، يُقَالُ: سَيْلٌ رَاعِبٌ يَمْلَأُ الْوَادِيَ. وَرَعَبْتُ الْحَوْضَ مَلَأْتُهُ. وَالْمَعْنَى: سَنَمْلَأُ قُلُوبَ الْمُشْرِكِينَ «٢» خَوْفًا وَفَزَعًا. وَقَرَأَ السِّخْتِيَانِيُّ" سَيُلْقِي" بِالْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِنُونِ الْعَظَمَةِ. قَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ: لَمَّا ارْتَحَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَالْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ مُتَوَجِّهِينَ إِلَى مَكَّةَ انْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ نَدِمُوا وَقَالُوا: بِئْسَ مَا صَنَعْنَا! قَتَلْنَاهُمْ حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الشَّرِيدُ «٣» تَرَكْنَاهُمْ، ارْجِعُوا فَاسْتَأْصِلُوهُمْ، فَلَمَّا عَزَمُوا عَلَى ذَلِكَ أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ حَتَّى رَجَعُوا عَمَّا هَمُّوا بِهِ. وَالْإِلْقَاءُ يُسْتَعْمَلُ حَقِيقَةً فِي الْأَجْسَامِ، قال الله تعالى:" وَأَلْقَى الْأَلْواحَ" [الأعراف: ١٥٠] «٤» " فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ" [الشعراء: ٤٤] " فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ" [الأعراف: ١٠٧]. قَالَ الشَّاعِرُ: فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى
(٢). في د وج وهـ: الكافرين.
(٣). في د: الشديد.
(٤). راجع ج ٧ ص ٢٨٨ و٢٥٦ وج ١٣ ص ٩٧.
فألقت عصاها واستقرَّ بها النَّوَى
ثم قد يستعمل مجازا كما في هذه الآية، وقوله :" وألقيت عليك محبة مني " ٥ [ طه : ٣٩ ]. وألقى عليك مسألة.
قوله تعالى :" بما أشركوا بالله " تعليل، أي كان سبب إلقاء الرعب في قلوبهم إشراكهم ؛ فما للمصدر. وبقال أشرك به أي عدل به غيره ليجعله شريكا. " ما لم ينزل به سلطانا " حجة وبيانا، وعذرا وبرهانا، ومن هذا قيل للوالي سلطان ؛ لأنه حجة الله عز وجل في الأرض. ويقال : إنه مأخوذ من السليط وهو ما يضاء به السراج، وهو دهن السمسم، قال امرؤ القيس :
أمال٦ السَّليطَ بالذُّبالِ المُفَتَّلِ
فالسلطان يستضاء به في إظهار الحق وقمع الباطل. وقيل السليط الحديد. والسلاطة الحدة. والسلاطة من التسليط وهو القهر، والسلطان من ذلك، فالنون زائدة. فأصل السلطان القوة، فإنه يقهر بها كما يقهر بالسلطان. والسليطة المرأة الصخابة. والسليط الرجل الفصيح اللسان. ومعنى هذا أنه لم تثبت عبادة الأوثان في شيء من الِملل. ولم يدل عقل على جواز ذلك. ثم أخبر الله تعالى عن مصيرهم ومرجعهم فقال :" ومأواهم النار " ثم ذمه فقال :" وبئس مثوى الظالمين " والمثوى : المكان الذي يقام فيه ؛ يقال : ثَوَى يَثْوي ثَواء. والمأوى : كل مكان يرجع إليه شيء ليلا أو نهارا.
٢ - في د و جـ وهـ: الكافرين..
٣ - في د: الشديد..
٤ - راجع جـ٧ ص ٢٨٨و ٢٥٦ وجـ ١٣ ص ٩٧..
٥ - راجع جـ١١ ص ١٩٦..
٦ - في الأصول: أهان: والذي أثبتناه هو ما في الديوان وكتب اللغة..
أَمَالَ «٢» السَّلِيطَ بِالذُّبَالِ الْمُفَتَّلِ
فَالسُّلْطَانُ يُسْتَضَاءُ بِهِ فِي إِظْهَارِ الْحَقِّ وَقَمْعِ الْبَاطِلِ. وَقِيلَ السَّلِيطُ الْحَدِيدُ. وَالسَّلَاطَةُ الْحِدَّةُ. وَالسَّلَاطَةُ مِنَ التَّسْلِيطِ وَهُوَ الْقَهْرُ، وَالسُّلْطَانُ مِنْ ذَلِكَ، فَالنُّونُ زَائِدَةٌ. فَأَصْلُ السُّلْطَانِ الْقُوَّةُ، فَإِنَّهُ يُقْهَرُ بِهَا كَمَا يُقْهَرُ بِالسُّلْطَانِ. وَالسَّلِيطَةُ الْمَرْأَةُ الصخابة. وَالسَّلِيطُ الرَّجُلُ الْفَصِيحُ اللِّسَانِ. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ لم تثبت عبادة الأوثان في شي مِنَ الْمِلَلِ. وَلَمْ يَدُّلُ عَقْلٌ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ. ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَصِيرِهِمْ وَمَرْجِعِهِمْ فَقَالَ: (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) ثُمَّ ذَمَّهُ فَقَالَ: (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) وَالْمَثْوَى: الْمَكَانُ الَّذِي يُقَامُ فِيهِ، يُقَالُ: ثَوَى يَثْوِي ثَوَاءً. وَالْمَأْوَى: كُلُّ مكان يرجع إليه شي ليلا أو نهارا.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٥٢]
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢)
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ أُحُدٍ وَقَدْ أُصِيبُوا قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مِنْ أَيْنَ أَصَابَنَا هَذَا وَقَدْ وَعَدَنَا اللَّهُ النَّصْرَ! فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَتَلُوا صَاحِبَ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ وَسَبْعَةَ نَفَرٍ مِنْهُمْ بَعْدَهُ عَلَى اللواء، وكان
(٢). في الأصول: أهان: والذي أثبتناه هو ما في الديوان وكتب اللغة.
(٢). أي يسرعن المشي.
(٣). في ج وهـ ود.
(٤). أي أظهر دينك، أو رد علوا، أو ليرتفع أمرك ويعز دينك فقد غلبت.
(٥). العزى: اسم صنم لقريش.
فَلَوْلَا لِوَاءُ الْحَارِثِيَّةِ أَصْبَحُوا | يُبَاعُونَ فِي الْأَسْوَاقِ بَيْعَ الْجَلَائِبِ |
حَسَسْنَاهُمُ بِالسَّيْفِ حَسًّا فَأَصْبَحَتْ | بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا |
تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى | حَرِيقُ النَّارِ فِي الْأَجَمِ الْحَصِيدِ |
إِذَا شَكَوْنَا سَنَةً حَسُوسَا | تَأْكُلُ بعد الأخضر «٢» اليبيسا" |
(٢). في اللسان: الخضرة.
فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الْحَيِّ وَانْتَحَى
أَيِ انْتَحَى. وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ يَجُوزُ إِقْحَامُ الْوَاوِ مِنْ" وَعَصَيْتُمْ". أَيْ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ عَصَيْتُمْ. وَعَلَى هَذَا فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، أَيْ حَتَّى إِذَا تَنَازَعْتُمْ وَعَصَيْتُمْ وفشلتم. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ" صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ"،" ثُمَّ" زَائِدَةٌ، وَالتَّقْدِيرُ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ وَعَصَيْتُمْ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ. وَقَدْ أَنْشَدَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ في زيادتها قوله الشاعر:
أراني إذا ما بِتُّ عَلَى هَوًى | فَثُمَّ إِذَا أَصْبَحْتُ أَصْبَحْتُ عَادِيًا |
(٢). راجع ج ١٥ ص ٩٩.
(٣). راجع ج ٨ ص ٢٨١.
(٤). الحووس: شدة الاختلاط ومداركة الضرب. أي بالغوا النكاية فيهم، في هـ ود: جاسوا.
(٥). أي نحوهم عنها وأزالوهم.
(٦). في د: مفلولة.
(٢). راجع ج ١ ص ٣٩٧.
(٢). كذا في الأصول. والذي في الدر المنثور، والمستدرك للحاكم:"... الغاب" بالباء بدل الراء.
(٣). المهراس: ماء بجبل أحد.
(٤). السعدان: سعد بن معاذ وسعد بن عبادة.
(٥). التكفؤ: التمايل إلى قدام كما تتكفأ السفينة في جريها.
(٦). في د وهـ وج: وجه رسوله.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٥٣]
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا مَا أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣)" إِذْ" مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ:" وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ". وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" تُصْعِدُونَ" بِضَمِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالْعَيْنِ، يَعْنِي تَصْعَدُونَ الْجَبَلَ. وَقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ وَشِبْلٌ" إِذْ يَصْعَدُونَ وَلَا يَلْوُونَ" بِالْيَاءِ فِيهِمَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ" تَلُونَ" بِوَاوٍ وَاحِدَةٍ. وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَاصِمٍ" وَلَا تُلْوُونَ" بِضَمِ التَّاءِ، وَهِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ ذَكَرَهَا النَّحَّاسُ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: أَصْعَدْتُ إِذَا مَضَيْتُ حِيَالَ وَجْهِكَ، وَصَعِدْتُ إِذَا ارْتَقَيْتُ فِي جَبَلٍ أَوْ غَيْرِهِ. فَالْإِصْعَادُ: السَّيْرُ فِي مُسْتَوٍ مِنَ الْأَرْضِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ. وَالصُّعُودُ: الِارْتِفَاعُ عَلَى الْجِبَالِ وَالسُّطُوحِ وَالسَّلَالِيمِ وَالدَّرَجِ. فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ صُعُودُهُمْ فِي الْجَبَلِ بَعْدَ إِصْعَادِهِمْ فِي الْوَادِي، فَيَصِحُّ الْمَعْنَى عَلَى قِرَاءَةِ" تُصْعِدُونَ" وَ" تَصْعَدُونَ". قَالَ قَتَادَةُ وَالرَّبِيعُ: أَصَعَدُوا يَوْمَ أُحُدٍ فِي الْوَادِي. وَقِرَاءَةُ أُبَيٍّ" إِذْ تُصْعِدُونَ فِي الْوَادِي". قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَعِدُوا فِي أُحُدٍ فِرَارًا. فَكِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ صَوَابٌ، كَانَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُنْهَزِمِينَ مُصْعَدٌ وَصَاعِدٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْقُتَبِيُّ وَالْمُبَرِّدُ: أَصْعَدَ إِذَا أَبْعَدَ فِي الذَّهَابِ وَأَمْعَنَ فِيهِ، فَكَأَنَّ الْإِصْعَادَ إِبْعَادٌ فِي الْأَرْضِ كَإِبْعَادِ الِارْتِفَاعِ، قَالَ الشَّاعِرُ «١»:
أَلَا أَيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ أُصْعِدَتْ «٢» | فَإِنَّ لَهَا مِنْ بَطْنِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا |
قَدْ كُنْتِ تَبْكِينَ عَلَى الْإِصْعَادِ | فاليوم سرحت وصاح الحادي |
(٢). الذي في ديوان الأعشى وسيرة ابن هشام ص ٢٥٥ طبع أوربا:" أين يمت". والبيت من قصيدة يمدح بها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومطلعها:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا | وعادك ما عاد السليم المسهدا |
فوا حسرتى لَمْ أَقْضِ مِنْهَا لُبَانَتِي | وَلَمْ أَتَمَتَّعْ بِالْجِوَارِ وَبِالْقُرْبِ |
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٥٧ الى ١٥٨]
وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨)
جَوَابُ الْجَزَاءِ مَحْذُوفٌ، اسْتُغْنِيَ عَنْهُ بِجَوَابِ الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ: (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ) وَكَانَ الِاسْتِغْنَاءُ بِجَوَابِ الْقَسَمِ أَوْلَى، لِأَنَّ لَهُ صَدْرَ الْكَلَامِ، وَمَعْنَاهُ لَيَغْفِرَنَّ لَكُمْ. وَأَهْلُ الْحِجَازِ يَقُولُونَ: مِتُّمْ، بِكَسْرِ الْمِيمِ مِثْلَ نِمْتُمْ، مِنْ مَاتَ يُمَاتُ مِثْلَ خِفْتُ يُخَافُ. وَسُفْلَى مُضَرَ يَقُولُونَ: مُتُّمْ، بِضَمِ الْمِيمِ مِثْلَ صُمْتُمْ، مِنْ مَاتَ يَمُوتُ. كَقَوْلِكَ كَانَ يَكُونُ، وَقَالَ يَقُولُ. هَذَا قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ وَهُوَ حَسَنٌ. وَقَوْلُهُ: (لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ) وَعْظٌ. وَعَظَهُمُ اللَّهُ بِهَذَا الْقَوْلِ، أَيْ لَا تَفِرُّوا مِنَ الْقِتَالِ وَمِمَّا أَمَرَكُمْ بِهِ، بَلْ فِرُّوا مِنْ عِقَابِهِ وَأَلِيمِ عَذَابِهِ، فَإِنَّ مَرَدَّكُمْ إِلَيْهِ لَا يَمْلِكُ لَكُمْ أَحَدٌ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا غَيْرُهُ. وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٥٩]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩)" فَبِما" صِلَةٌ فِيهَا مَعْنَى التَّأْكِيدِ، أَيْ فَبِرَحْمَةٍ، كَقَوْلِهِ:" عَمَّا قَلِيلٍ" [المؤمنون: ٤٠] «١» " فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ" [النساء: ١٥٥] «٢» " جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ" [ص: ١١] «٣». وَلَيْسَتْ بِزَائِدَةٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَيْهَا سِيبَوَيْهِ مَعْنَى الزِّيَادَةِ مِنْ حَيْثُ زَالَ عَمَلُهَا. ابن كيسان:" فَبِما" نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِالْبَاءِ (ورَحْمَةٍ) بَدَلٌ مِنْهَا. وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا رَفَقَ بِمَنْ تَوَلَّى يَوْمَ أُحُدٍ وَلَمْ يُعَنِّفْهُمْ بَيَّنَ الرَّبُّ تَعَالَى أَنَّهُ إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بتوفيق الله تعالى إياه. وقيل:" فَبِما" اسْتِفْهَامٌ. وَالْمَعْنَى: فَبِأَيِّ رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ، فَهُوَ تَعْجِيبٌ. وَفِيهِ بُعْدٌ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ" فَبِمَ" بِغَيْرِ أَلِفٍ. (لِنْتَ) مِنْ لَانَ يَلِينُ لِينًا وَلَيَانًا بِالْفَتْحِ. وَالْفَظُّ الْغَلِيظُ الْجَافِي. فَظِظْتَ تَفِظُّ فَظَاظَةً وَفَظَاظًا فَأَنْتَ فَظٌّ. وَالْأُنْثَى فَظَّةٌ وَالْجَمْعُ أَفْظَاظٌ. وَفِي صِفَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ وَأَنْشَدَ الْمُفَضَّلُ فِي الْمُذَكَّرِ:
وَلَيْسَ بِفَظٍّ فِي الْأَدَانِيِّ وَالْأُولَى | يَؤُمُّونَ جَدْوَاهُ وَلَكِنَّهُ سَهْلُ |
وَفَظٌّ عَلَى أَعْدَائِهِ يَحْذَرُونَهُ | فَسَطْوَتُهُ حَتْفٌ وَنَائِلُهُ جَزْلٌ |
أَمُوتُ مِنَ الضُّرِّ فِي مَنْزِلِي | وَغَيْرِي يَمُوتُ مِنَ الْكِظَّهْ «٤» |
وَدُنْيَا تَجُودُ عَلَى الْجَاهِلِي | نَ وَهْيَ عَلَى ذِي النُّهَى فَظَّهْ |
يُبْكَى عَلَيْنَا وَلَا نَبْكِي عَلَى أحد؟ | لنحن أغلظ أكبادا من الإبل |
(٢). راجع ج ٦ ص ٢١١.
(٣). راجع ١٥ ص ١٥١.
(٤). الكظة: البطنة.
مُسْتَعْجِلَاتُ الْقَيْضِ «١» غَيْرُ جُرْدٍ «٢» | يَنْفَضُّ عَنْهُنَّ الْحَصَى بِالصَّمْدِ «٣» |
فِي سَمَاعٍ يَأْذَنُ الشَّيْخُ لَهُ | وَحَدِيثٍ مِثْلِ مَاذِيٍّ مُشَارِ «٤» |
(٢). كذا في الأصول بالمعجمة، ولعله" حرد" بالحاء المهملة، والحرد في البعير أن تنقطع عصبة ذراعه فتسترخي يده فلا يزال يخفق بها أبدا.
(٣). الصمد: المكان الغيظ المرتفع من الأرض لا يبلغ أن يكون جبلا.
(٤). يأذن: يستمع. والماذي: العسل الأبيض والمشار: المجتنى.
(٥). راجع ج ١٦ ص ٣٦.
شَاوِرْ صَدِيقَكَ فِي الْخَفِيِّ الْمُشْكِلِ | وَاقْبَلْ نَصِيحَةَ نَاصِحٍ مُتَفَضِّلِ |
شَاوِرْ صَدِيقَكَ فِي الْخَفِيِّ الْمُشْكِلِ
وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَقَالَ آخَرُ:
وَإِنْ بَابُ أَمْرٍ عَلَيْكَ الْتَوَى... فَشَاوِرْ لَبِيبًا وَلَا تَعْصِهِ
فِي أَبْيَاتٍ «١». وَالشُّورَى بَرَكَةٌ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: (مَا نَدِمَ مَنِ اسْتَشَارَ وَلَا خَابَ مَنِ اسْتَخَارَ). وَرَوَى سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ السَّاعِدِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ما شَقِيَ قَطُّ عَبْدٌ بِمَشُورَةٍ وَمَا سَعِدَ بِاسْتِغْنَاءِ رَأْيٍ). وَقَالَ بَعْضُهُمْ: شَاوِرْ مَنْ جَرَّبَ الْأُمُورَ، فَإِنَّهُ يُعْطِيكَ مِنْ رَأْيِهِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ غَالِيًا وَأَنْتَ تَأْخُذُهُ مَجَّانًا. وَقَدْ جَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْخِلَافَةَ- وَهِيَ أَعْظَمُ النَّوَازِلِ- شُورَى. قَالَ الْبُخَارِيُّ: وَكَانَتِ الْأَئِمَّةُ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشِيرُونَ الْأُمَنَاءَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي الْأُمُورِ الْمُبَاحَةِ لِيَأْخُذُوا بِأَسْهَلِهَا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: لِيَكُنْ أَهْلُ مَشُورَتِكَ أَهْلَ التَّقْوَى وَالْأَمَانَةِ، وَمَنْ يَخْشَى اللَّهَ تَعَالَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا تَشَاوَرَ قَوْمٌ بَيْنَهُمْ إِلَّا هَدَاهُمْ لِأَفْضَلِ مَا يَحْضُرُ «٢» بِهِمْ. وَرُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ قَوْمٍ كَانَتْ لَهُمْ مَشُورَةٌ فَحَضَرَ مَعَهُمْ مَنِ اسْمُهُ أَحْمَدُ أَوْ مُحَمَّدٌ فَأَدْخَلُوهُ فِي مَشُورَتِهِمْ إِلَّا خِيرَ لهم).
إذا كنت في حاجة مرسلا... فأرسل حكيما ولا توصه
وبعده:
ونص الحديث إلى أهله... فإن الوثيقة في نصه
إذا المرء أضمر خوف الإل... هـ تبين ذلك في شخصه
(٢). في ب وج: ما بحضرتهم.
إِذَا هَمَّ أَلْقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَزْمَهُ | وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ الْعَوَاقِبِ جَانِبَا |
وَلَمْ يَسْتَشِرْ فِي رَأْيِهِ غَيْرَ نَفْسِهِ | وَلَمْ يَرْضَ إِلَّا قَائِمَ السَّيْفِ صَاحِبَا |
(٢). يقول: أعرف وجه الحزم، فإن عزمت فأمضيت الرأى فأنا حازم، وإن تركت الصواب وأنا أراه وضيعت العزم لم ينفعني حزمى. (عن الكامل للمبرد).
(٣). راجع ج ٧ ص ٣٨٤. [..... ]
(٤). اللامة: الدرع، وقيل: السلاح. ولامة الحرب: أداتها. وقد يترك الهمز تخفيفا.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٦٠]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠)
(٢). راجع ص ١٨٩ من هذا الجزء.
(٣). راجع ج ١١ ص ٢٠١ و٢٢١.
(٤). راجع ج ١١ ص ٢٠١ و٢٢١.
(٥). راجع ج ٩ ص ٦٢.
خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَبًا بِخَمِيلَةٍ | تَنَاوَلُ أَطْرَافَ الْبَرِيرِ وَتَرْتَدِي «١» |
نَظَرَتْ إِلَيْكِ بِعَيْنٍ جَارِيَةٍ | خَذَلَتْ صَوَاحِبَهَا عَلَى طِفْلِ |
وَخَذُولِ الرِّجْلِ مِنْ غَيْرِ كَسْحِ
«٢» وَرَجُلٌ خُذَلَةٌ للذي لا يزال يخذل. والله أعلم.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٦١]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (١٦١)
فِيهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَسْأَلَةً: الْأُولَى- لَمَّا أَخَلَّ الرُّمَاةُ يَوْمَ أُحُدٍ بِمَرَاكِزِهِمْ- عَلَى مَا تَقَدَّمَ- خَوْفًا مِنْ أَنْ يَسْتَوْلِيَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْغَنِيمَةِ فلا يصرف إليهم شي، بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجُورُ فِي الْقِسْمَةِ، فَمَا كَانَ مِنْ حَقِّكُمْ أَنْ تَتَّهِمُوهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بَلِ السَّبَبُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ طَلَائِعَ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ ثُمَّ غَنِمَ قَبْلَ مَجِيئِهِمْ، فَقَسَمَ لِلنَّاسِ وَلَمْ يَقْسِمْ لِلطَّلَائِعِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ عِتَابًا:" وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ" أَيْ يَقْسِمُ لِبَعْضٍ وَيَتْرُكُ بَعْضًا. وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا الْقَوْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أيضا وعكرمة وابن جبير وغيرهم:
(٢). هذا عجز بيت للأعشى وصدره: كل وضاح كريم جده.
جَزَى اللَّهُ عَنَّا حَمْزَةَ «٤» ابْنَةَ نَوْفَلٍ | جَزَاءَ مُغِلٍّ بِالْأَمَانَةِ كَاذِبِ |
(٢). زيادة عن الصحاح واللسان.
(٣). زيادة عن كتب اللغة.
(٤). كذا في الأصول واللسان، وفى الصحاح للجوهري" جمرة" بالجيم المعجمة والراء.
(٥). أي بفتح الياء.
(٦). زيادة عن كتب اللغة. [..... ]
لَعِبَ السُّيُولُ بِهِ فَأَصْبَحَ مَاؤُهُ | غَلَلًا يُقَطِّعُ فِي أُصُولِ الْخِرْوَعِ |
أَسُمَيَّ وَيْحَكِ هَلْ سَمِعْتِ بِغَدْرَةٍ | رُفِعَ اللِّوَاءُ لَنَا بِهَا في المجمع |
(٢). البيت للحويدرة، كما في اللسان.
(٣). في ب ود: الساج.
(٢). الرقاع (بالكسر جمع رقعة بالضم) وهى التي تكتب. وأراد بها ما عليها من الحقوق المكتوبة. وخفوقها: حركتها.
(٣). الصامت: الذهب والفضة، خلاف الناطق وهو الحيوان.
(٤). في سنن أبى داود:" عن عبد الله بن عمرو"، وكذا في مسند الامام أحمد بن حنبل.
(٥). في سنن أبى داود" كن أنت تجئ به".
(٦). راجع ج ٦ ص ٣١٤.
(٢). الخياط هاهنا الخيط. والمخيط بالكسر: الإبرة.
(٣). في هـ ود وج وب: الطعام، وكلها: أرض العدو، الأب: أرض الغزو.
(٤). أنحاء: جمع نحى بالكسر وهو زق السمن. وقيل مطلقا.
(٢). صاحب الخرزات: رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لم يسمه أبو داود في سننه) توفى يوم خيبر، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال:" صلوا على صاحبكم" فتغيرت وجوه الناس لذلك، فقال (إن صاحبكم غل في سبيل الله" ففتشنا متاعه فوجدنا خرزا من خرز يهود لا يساوى درهمين (عن سنن أبى داود).
(٢). هذه الزيادة في صلب: ج وهـ ود، وابن السرح هو أحمد بن عمرو الأموي أبو الطاهر المصري.
(٣). اليعار (بضم الياء): صوت الغنم والمعزى. يعرف بفتح العين تيعر بالكسر والفتح يعارا بالضم.
(٤). العفرة (بضم فسكون): بياض ليس بالناصح الشديد، ولكن كلون عفر الأرض وهو وجهها.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٦٢ الى ١٦٣]
أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ) يُرِيدُ بِتَرْكِ الْغُلُولِ وَالصَّبْرِ عَلَى الْجِهَادِ. (كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ) يُرِيدُ بِكُفْرٍ أَوْ غُلُولٍ أَوْ تَوَلٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَرْبِ. (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ) أَيْ مَثْوَاهُ النار، أي إن لم يتب أو يعفو الله عنه. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي المرجع. وقرى
(٢). في د وهـ وب: يسار. هو أبو عبد الله المروزي الخرساني، وابن بشار هو ابن عثمان بن داود بن كيسان العبدى البصري.
(٣). راجع ج ٣ ص ٣٧٥.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٦٤]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)
بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى عَظِيمَ مِنَّتِهِ عَلَيْهِمْ بِبَعْثِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمَعْنَى فِي الْمِنَّةِ فِيهِ أَقْوَالٌ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَعْنَى (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) أَيْ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ. فَلَمَّا أَظْهَرَ الْبَرَاهِينَ وَهُوَ بَشَرٌ مِثْلُهُمْ عُلِمَ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ:" مِنْ أَنْفُسِهِمْ" مِنْهُمْ. فَشَرُفُوا بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَتْ تِلْكَ الْمِنَّةُ. وَقِيلَ:" مِنْ أَنْفُسِهِمْ" لِيَعْرِفُوا حَالَهُ وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِمْ طَرِيقَتُهُ. وَإِذَا كَانَ مَحَلُّهُ فِيهِمْ هَذَا كَانُوا أَحَقَّ بِأَنْ يُقَاتِلُوا عَنْهُ وَلَا ينهزموا دونه. وقرى فِي الشَّوَاذِّ «٤» " مِنْ أَنْفَسِهِمْ" (بِفَتْحِ الْفَاءِ) يَعْنِي مِنْ أَشْرَفِهِمْ، لِأَنَّهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَبَنُو هَاشِمٍ أَفْضَلُ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ أَفْضَلُ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْعَرَبُ أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِمْ. ثُمَّ قِيلَ: لفظ المؤمنين عام ومعناه خاص
(٢). الضحضاح: مارق من الماء على وجه الأرض ولا يبلغ الكعبين، فاستعارة للنار.
(٣). راجع ج ٥ ص ١٢٤.
(٤). هذه قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفاطمة وابن عباس رضى الله عنهما.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٦٥]
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥)
الْأَلِفُ لِلِاسْتِفْهَامِ، وَالْوَاوُ لِلْعَطْفِ. (مُصِيبَةٌ) أَيْ غَلَبَةٌ. (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) يَوْمَ بَدْرٍ بِأَنْ قَتَلْتُمْ مِنْهُمْ سَبْعِينَ وَأَسَرْتُمْ سَبْعِينَ. وَالْأَسِيرُ فِي حُكْمِ الْمَقْتُولِ، لِأَنَّ الْآسِرَ يَقْتُلُ أَسِيرَهُ إِنْ أَرَادَ. أَيْ فَهَزَمْتُمُوهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَيَوْمَ أُحُدٍ أَيْضًا فِي الابتداء، وقتلتم فيه قريبا من
(٢). في ب وهـ ود: المصري.
(٣). راجع ج ٨ ص ٣٠١.
(٤). راجع ج ٢ ص ١٣٠.
(٥). راجع ج ٢ ص ٤٢٧.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٦٦ الى ١٦٧]
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧)
يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْقَتْلِ وَالْجَرْحِ وَالْهَزِيمَةِ. (فَبِإِذْنِ اللَّهِ) أَيْ بِعِلْمِهِ. وَقِيلَ: بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهُ. قَالَ الْقَفَّالُ: أَيْ فَبِتَخْلِيَتِهِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، لَا أَنَّهُ أَرَادَ ذَلِكَ. وَهَذَا تَأْوِيلُ الْمُعْتَزِلَةِ. وَدَخَلَتِ الْفَاءُ فِي" فَبِإِذْنِ اللَّهِ" لِأَنَّ" مَا" بِمَعْنَى الَّذِي. أَيْ وَالَّذِي أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ، فَأَشْبَهَ الْكَلَامُ مَعْنَى الشَّرْطَ، كَمَا قال سيبويه: الذي قام فله درهم.
(٢). الزيادة من ابن عطية.
(٣). الزيادة من ابن عطية.
(٤). الزيادة من ب ود وج.
(٥). هو قزمان بن الحارث العبسي المنافق الَّذِي قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر).
[سورة آل عمران (٣): آية ١٦٨]
الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ) مَعْنَاهُ لِأَجْلِ «٥» إِخْوَانِهِمْ، وَهُمُ الشُّهَدَاءُ الْمَقْتُولُونَ مِنَ الْخَزْرَجِ، وَهُمْ إِخْوَةُ نَسَبٍ وَمُجَاوَرَةٍ، لَا إِخْوَةُ الدِّينِ. أَيْ قَالُوا لِهَؤُلَاءِ الشُّهَدَاءِ: لَوْ قَعَدُوا، أَيْ بِالْمَدِينَةِ مَا قُتِلُوا. وَقِيلَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ لِإِخْوَانِهِمْ، أَيْ لِأَشْكَالِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: لَوْ أَطَاعُونَا، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قُتِلُوا، لَمَا قُتِلُوا. وَقَوْلُهُ (لَوْ أَطاعُونا) يُرِيدُ فِي أَلَّا يَخْرُجُوا إِلَى قُرَيْشٍ. وَقَوْلُهُ: (وَقَعَدُوا) أَيْ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ وَقَعَدُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنِ الْجِهَادِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بقوله: (قُلْ فَادْرَؤُا) أَيْ قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ: إِنْ صَدَقْتُمْ فَادْفَعُوا الْمَوْتَ عَنْ أَنْفُسِكُمْ. وَالدَّرْءُ الدَّفْعُ. بَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْحَذَرَ لَا يَنْفَعُ مِنَ الْقَدَرِ، وَأَنَّ الْمَقْتُولَ يُقْتَلُ بِأَجَلِهِ، وَمَا عَلِمَ اللَّهُ وَأَخْبَرَ بِهِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ. وَقِيلَ: مَاتَ يَوْمَ قِيلَ هَذَا، سَبْعُونَ مُنَافِقًا. وَقَالَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: سَمِعْتُ بَعْضَ الْمُفَسِّرِينَ بِسَمَرْقَنْدَ يَقُولُ: لما نزلت الآية" قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ" مَاتَ يَوْمَئِذٍ سَبْعُونَ نَفْسًا من المنافقين.
(٢). قناة: واد بالمدينة، وهى أحد أوديتها الثلاثة، عليه حرث ومال. قال المدائني: وقناة يأتي من الطائف ويصيب في الارحضية وقرقرة الكدر، ثم يأتي بئر معونة، ثم يمر على طرف القدوم في أصل قبور الشهداء بأحد. (عن معجم البلدان).
(٣). قيلة: أم الأوس والخزرج، هي قيلة بنت كاهل بن عذرة، قضاعية. ويقال: بنت جفنة، غسانية. (عن شرح القاموس).
(٤). راجع ج ٦ ص ٤١٩. [..... ]
(٥). في ب: لأهل.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٦٩ الى ١٧٠]
وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠)فيه ثمان مسائل: الْأُولَى- لَمَّا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَا جَرَى يَوْمَ أُحُدٍ كَانَ امْتِحَانًا يُمَيِّزُ الْمُنَافِقَ مِنَ الصَّادِقِ، بَيَّنَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَنْهَزِمْ فَقُتِلَ لَهُ الْكَرَامَةُ وَالْحَيَاةُ عِنْدَهُ. وَالْآيَةُ فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي شُهَدَاءِ بِئْرِ مَعُونَةَ. وَقِيلَ: بَلْ هِيَ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الشُّهَدَاءِ. وَفِي مُصَنَّفِ أَبِي دَاوُدَ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَمَقِيلِهِمْ قَالُوا مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا عَنَّا أَنَّا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلَا يَنْكَلُوا عِنْدَ الْحَرْبِ فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ (- قَالَ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً... ) إِلَى آخِرِ الْآيَاتِ. وَرَوَى بَقِيُّ «١» بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (يَا جَابِرُ مالي أَرَاكَ مُنَكِّسًا مُهْتَمًّا)؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اسْتُشْهِدَ أَبِي وَتَرَكَ عِيَالًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ، فَقَالَ: (أَلَا أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِيَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ أَبَاكَ)؟ قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ أَحْيَا أَبَاكَ وَكَلَّمَهُ كِفَاحًا «٢» وَمَا كُلِّمَ أَحَدٌ قَطُّ إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ فَقَالَ لَهُ يَا عَبْدِي تَمَنَّ أُعْطِكَ قَالَ يَا رَبُّ فَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيَةً فَقَالَ الرَّبُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ [إِلَيْهَا] «٣» لَا يُرْجَعُونَ قَالَ يَا رَبُّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي) فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ" الْآيَةَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ سَالِمِ بْنِ الْأَفْطَسِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ" وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ"
(٢). كفاحا (بكسر الكاف) أي مواجهة ليس بينهما حجاب ولا رسول.
(٣). زيادة عن سنن الترمذي وابن ماجة.
مَوْتُ التَّقِيِّ حَيَاةٌ لَا فَنَاءَ لَهَا | قَدْ مَاتَ قَوْمٌ وَهُمْ فِي النَّاسِ أَحْيَاءُ |
(٢). راجع سيرة ابن هشام ص ٦٤ طبع أوربا.
(٢). الغرل (بضم فسكون): جمع الأغرل، وهو الأقلف.
(٣). في ط وهـ وب: ما بهما؟.
(٤). في ج: أمامة. والصحيح ما أثبت كما في التمهيد.
(٢). المائد: الذي تدور رأسه من ريح البحر، واضطراب السفينة بالأمواج.
(٣). تشحط المقتول في دمه تخبط في واضطراب وتمرغ.
(٤). الضياع: (بفتح أوله): العيال.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٧١]
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١)
أَيْ بِجَنَّةٍ مِنَ اللَّهِ. وَيُقَالُ: بِمَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ. (وَفَضْلٍ) هَذَا لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ. وَالْفَضْلُ دَاخِلٌ فِي النِّعْمَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى اتِّسَاعِهَا، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ كَنِعَمِ الدُّنْيَا. وَقِيلَ: جَاءَ الْفَضْلُ بَعْدَ النِّعْمَةِ عَلَى وَجْهِ التأكيد، روى الترمذي عن المقدام بن معديكرب قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ- كَذَا في الترمذي وابن ماجة" ست"،
[سورة آل عمران (٣): آية ١٧٢]
الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢)
(٢). دفعة: قال الدميري: ضبطناه في جامع الترمذي بضم الدال، وكذلك قال أهل اللغة: الدفعة بالضم ما دفع من إناء أو سقاء فانصب بمرة، وكذلك الدفعة من المطر وغيره مثل الدفقة بالقاف. وأما الدفعة بالفتح فهي المرة الواحدة فلا يصلح هاهنا".
فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ «٢»
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَتْ لِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَانَ أَبُوكَ مِنَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدَ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ. لَفْظُ مُسْلِمٍ. وعنه عَائِشَةَ: يَا ابْنَ أُخْتِي كَانَ أَبَوَاكَ- تَعْنِي الزُّبَيْرَ وَأَبَا بَكْرٍ- مِنَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدَ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ. وَقَالَتْ: لَمَّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أُحُدٍ وَأَصَابَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا فَقَالَ: (مَنْ يَنْتَدِبُ لِهَؤُلَاءِ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ بِنَا قُوَّةً) قَالَ فَانْتَدَبَ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ فِي سَبْعِينَ، فَخَرَجُوا فِي آثَارِ الْقَوْمِ، فَسَمِعُوا بِهِمْ وَانْصَرَفُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ. وَأَشَارَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِلَى مَا جَرَى فِي غَزْوَةِ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، وَهِيَ عَلَى نَحْوِ ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي يَوْمِ الْأَحَدِ، وَهُوَ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ، نَادَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاسِ بِاتِّبَاعِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَالَ: (لَا يَخْرُجُ مَعَنَا إِلَّا مَنْ شَهِدَهَا بِالْأَمْسِ) فَنَهَضَ مَعَهُ مِائَتَا رَجُلٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فِي الْبُخَارِيِّ فَقَالَ: (مَنْ يَذْهَبُ فِي إِثْرِهِمْ) فَانْتَدَبَ مِنْهُمْ سَبْعُونَ رَجُلًا. قَالَ: كَانَ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، حَتَّى بَلَغَ حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، مُرْهِبًا لِلْعَدُوِّ، فَرُبَّمَا كَانَ فِيهِمُ الْمُثْقَلُ بِالْجِرَاحِ لَا يَسْتَطِيعُ الْمَشْيَ وَلَا يَجِدُ مَرْكُوبًا، فَرُبَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَعْنَاقِ، وَكُلُّ ذَلِكَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَغْبَةٌ فِي الْجِهَادِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ كَانَا مُثْخَنَيْنِ بِالْجِرَاحِ، يَتَوَكَّأُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ، وَخَرَجَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا وَصَلُوا حَمْرَاءَ الْأَسَدِ، لَقِيَهُمْ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ أَبَا سفيان ابن حَرْبٍ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ قُرَيْشٍ قَدْ جَمَعُوا جُمُوعَهُمْ، وَأَجْمَعُوا رَأْيَهُمْ عَلَى أَنْ يَأْتُوا «٣» إِلَى المدينة
(٢). هذا عجز بيت لكعب بن سعد الغنوي يرثى أخاه أبا المغوار، وصدره:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النِّدَى
(٣). في ج وهـ وط: يرجعوا.
كَادَتْ تُهَدُّ مِنَ الْأَصْوَاتِ رَاحِلَتِي | إِذْ سَالَتِ الْأَرْضُ بِالْجُرْدِ الْأَبَابِيلِ «٢» |
تُرْدِي بِأُسْدٍ كِرَامٍ لَا تَنَابِلَةٍ | عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا مِيلٍ مَعَازِيلِ «٣» |
فَظَلْتُ عَدْوًا أَظُنُّ الْأَرْضَ مَائِلَةً | لَمَّا سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ |
فَقُلْتُ وَيْلَ ابْنِ حَرْبٍ مِنْ لِقَائِكُمُ | إِذَا تَغَطْمَطَتِ الْبَطْحَاءُ بِالْخَيْلِ «٤» |
إِنِّي نَذِيرٌ لِأَهْلِ الْبَسْلِ ضَاحِيَةً | لِكُلِّ ذِي إِرْبَةٍ مِنْهُمْ وَمَعْقُولِ |
مِنْ جَيْشِ أَحْمَدَ لَا وَخْشٌ قَنَابِلُهُ | وَلَيْسَ يُوصَفُ مَا أَنْذَرْتُ بِالْقِيلِ «٥» |
(٢). الجرد: خيل قصيرة شعر الجلد. أبابيل: فرقا.
(٣). ردت الخيل رديا ورديانا: رجمت الأرض بحوافرها في سيرها وعدوها. والتنابلة: القصار، واحدهم تنبال. والأميل: الذي يميل على السرج ولا يستوي عليه. وقيل: هو الكسل الذي لا يحسن الركوب والفروسية. والمعازيل: القوم ليس معهم سلاح، واحدهم معزال.
(٤). في الروض الأنف:" تغطمطت البطحاء، لفظ مستعار عن الغطمطة، وهو صوت غليان القدر. قوله (الخيل) وفى هـ وابن هشام ط أوربا: الجيل. والأول فيه سناد. ولعله: الخيل جمع أخيل فلا سناد.
(٥). الوخش: رذال الناس. والقنابل: الطائفة من الناس ومن الخيل، وفى ج وز والسيرة ط مصر مع الروض: تنابلة. وفى ط وى وهـ: تناتلة: تنتل الرجل إذا الرجل إذا تقذر بعد التنظف. [..... ]
[سورة آل عمران (٣): آية ١٧٣]
الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣)
اختلف فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ وَعِكْرِمَةُ وَالْكَلْبِيُّ: هُوَ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ الْأَشْجَعِيُّ. وَاللَّفْظُ عَامٌّ وَمَعْنَاهُ خَاصٌّ، كقوله:" أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ" [النساء: ٥٤] «٢» يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. السُّدِّيُّ: هُوَ أَعْرَابِيٌّ جُعِلَ لَهُ جُعْلٌ عَلَى ذَلِكَ. وقال ابن إسحاق وجماعة: يريد الناس رَكْبَ عَبْدِ الْقَيْسِ، مَرُّوا بِأَبِي سُفْيَانَ فَدَسَّهُمْ إِلَى الْمُسْلِمِينَ لِيُثَبِّطُوهُمْ. وَقِيلَ: النَّاسُ هُنَا الْمُنَافِقُونَ. قَالَ السُّدِّيُّ: لَمَّا تَجَهَّزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ لِلْمَسِيرِ إِلَى بَدْرٍ الصُّغْرَى لِمِيعَادِ أَبِي سُفْيَانَ أَتَاهُمُ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: نَحْنُ أصحابكم الذين
(٢). راجع ج ٥ ص ٢٥٠.
إِنَّمَا هِيَ بِنُزُولِ الْفَرَائِضِ وَالْأَخْبَارِ فِي مُدَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي المعرفة بها بعد الجهل غابر الدهر.
(٢). في ز: يتركب. ()
فَتَمْلَأُ بَيْتَنَا إِقْطًا «١» وَسَمْنًا | وَحَسْبُكَ مِنْ غِنًى شِبَعٌ وَرِيٌ |
[سورة آل عمران (٣): آية ١٧٤]
فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤)
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَمَّا فَوَّضُوا أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ، وَاعْتَمَدُوا بِقُلُوبِهِمْ عَلَيْهِ، أَعْطَاهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ أَرْبَعَةَ مَعَانٍ: النِّعْمَةُ، وَالْفَضْلُ، وَصَرْفُ السُّوءِ، وَاتِّبَاعُ الرِّضَا. فرضاهم عنه، ورضي عنهم.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٧٥]
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الْمَعْنَى يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاءَهُ، أَيْ بِأَوْلِيَائِهِ، أَوْ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ وَوَصَلَ الْفِعْلَ إِلَى الِاسْمِ فَنَصَبَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى:" لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً" [الكهف: ٢] «٢» أَيْ لِيُنْذِرَكُمْ بِبَأْسٍ شَدِيدٍ، أَيْ يُخَوِّفُ الْمُؤْمِنَ بِالْكَافِرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: الْمَعْنَى يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ الْمُنَافِقِينَ، لِيَقْعُدُوا عَنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ. فَأَمَّا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ لَا يَخَافُونَهُ إِذَا خَوَّفَهُمْ. وَقَدْ
(٢). راجع ج ١٠ ص ٢٤٦.
(٢). كذا في الأصول. وفى اللسان: والخافة: خريطة.
(٣). الكير: كير الحداد، وهو زق أو جلد غليظ ذو خافات، وهو المعروف ألان بالمنفاخ. وأما الكور فهو المبني من الطين.
(٤). عن ج ود.
قوله تعالى :" وخافون " أي خافوني في ترك أمري إن كنتم مصدقين بوعدي. والخوف في كلام العرب الذعر. وخاوفني فلان فخفته، أي كنت أشد خوفا منه. والخوفاء٢ المفازة لا ماء بها. ويقال : ناقة خوفاء وهي الجرباء. والخافة كالخريطة٣ من الأدم يشتار فيها العسل. قال سهل بن عبدالله : اجتمع بعض الصديقين إلى إبراهيم الخليل فقالوا : ما الخوف ؟ فقال : لا تأمن حتى تبلغ المأمن. قال سهل : وكان الربيع بن خيثم إذا مر بكير٤ يغشى عليه، فقيل لعلي بن أبي طالب ذلك، فقال : إذا أصابه ذلك فأعلموني. فأصابه فأعلموه، فجاءه فأدخل يده في قميصه فوجد حركته عالية فقال : أشهد أن هذا أخوف أهل٥ زمانكم. فالخائف من الله تعالى هو أن يخاف أن يعاقبه إما في الدنيا وإما في الآخرة، ولهذا قيل : ليس الخائف الذي يبكي ويمسح عينيه، بل الخائف الذي يترك ما يخاف أن يعذب عليه. ففرض الله تعالى على العباد أن يخافوه فقال : وقال :" وإياي فارهبون ". ومدح المؤمنين بالخوف فقال :" يخافون ربهم من فوقهم " [ النحل : ٥٠ ]. ولأرباب الإشارات في الخوف عبارات مرجعها إلى ما ذكرنا. قال الأستاذ أبو علي الدقاق : دخلت على أبي بكر بن فورك رحمه الله عائدا، فلما رآني دمعت عيناه، فقلت له : إن الله يعافيك ويشفيك. فقال لي : أترى أني أخاف من الموت ؟ إنما أخاف مما وراء الموت. وفي سنن ابن ماجه عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( إني أرى ما لا ترون وأسمع ما لا تسمعون أطت٦ السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك واضع جبهته ساجدا لله والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وما تلذذتم بالنساء على الفرشات ولخرجتم إلى الصعدات٧ تجأرون٨ إلى الله والله لوددت أني كنت شجرة تعضد ". خرجه الترمذي وقال : حديث حسن غريب. ويروى من غير هذا الوجه أن أبا ذر قال :( لوددت أني كنت شجرة تعضد٩ ). والله أعلم.
٢ - يقال مفازة خوقاء (بالقاف لا بالفاء) أي واسعة الجوف أو لا ماء بها، كما يقال ناقة خوفاء (بالقاف كذلك) أي جرباء (انظر اللسان مادة خوق) وليس فيه ولا في كتاب آخر من كتب اللغة هذان المعنيان في مادة "خوف" بالفاء..
٣ - كذا في الأصول. وفي اللسان: والخافة: خريطة..
٤ - الكير: كير الحداد، وهو زق أو جلد غليظ ذو حافات، وهو المعروف الآن بالمنفاخ. وأما الكور فهو المبني من الطين..
٥ - عن جـ ود..
٦ - الأطيط: صوت الأقتاب، وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها. أي إن كثرة ما في السماء من الملائكة قد أثقلها حتى أطت. وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة وإن لم يكن ثم أطيط، وإنما هو كلام تقريب أريد به تقرير عظمة الله عز وجل (عن ابن الأثير)..
٧ - الصعدات: الطرق، وهي جمع صعد، كطرق وطرقات. وقيل: جمع صعدة، كظلمة وهي فناء باب الدار، وممر الناس بين يديه..
٨ - جأر القوم جؤارا: رفعوا أصواتهم بالدعاء متضرعين..
٩ - تعضد: تقطع بالمعضد، والمعضد والمعضاد مثل المنجل يقطع به الشجر..
[سورة آل عمران (٣): آية ١٧٦]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) هَؤُلَاءِ قَوْمٌ أَسْلَمُوا ثُمَّ ارْتَدُّوا خَوْفًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَاغْتَمَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:" وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ". وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي بِهِ الْمُنَافِقِينَ وَرُؤَسَاءَ الْيَهُودِ، كَتَمُوا صِفَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَابِ فَنَزَلَتْ. وَيُقَالُ: إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ لَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا شَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِمْ وَيَقُولُونَ إِنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ، فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ حَقًّا لَاتَّبَعُوهُ، فَنَزَلَتْ" وَلا يَحْزُنْكَ". قِرَاءَةُ نَافِعٍ بِضَمِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الزَّايِ حَيْثُ وَقَعَ إِلَّا فِي- الْأَنْبِيَاءِ-" لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ" «٥» فَإِنَّهُ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَبِضَمِ الزَّايِ. وَضِدَّهُ أَبُو جَعْفَرٍ. وقرا ابن محيصن كلها بضم الياء و [كسر] «٦» الزَّايِ. وَالْبَاقُونَ كُلَّهَا بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الزَّايِ.
(٢). الصعدات: الطرق، وهى جمع صعد، كطرق وطرقات. وقيل: جمع صعدة، كظلمة وهى فناء باب الدار، وممر الناس بين يديه.
(٣). جأر القوم جؤارا: رفعوا أصواتهم بالدعاء متضرعين.
(٤). تعضد: تقطع بالمعضد، والمعضد، والمعضاد مثل المنجل يقطع به الشجر. [..... ]
(٥). راجع ج ١١ ص ٣٤٦.
(٦). الأصول كلها: بضم الياء والزاي. والصواب ما أثبتناه. راجع ص ٣٤٦ ج ١١.
مَضَى صَحْبِي وَأَحْزَنَنِي الدِّيَارُ
وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ" يُسارِعُونَ". وَقَرَأَ طَلْحَةُ" يُسْرِعُونَ فِي الْكُفْرِ". قَالَ الضَّحَّاكُ: هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ. وَقِيلَ: هُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلُ. وَقِيلَ: هُوَ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْكُفَّارِ. وَمُسَارَعَتُهُمْ فِي الْكُفْرِ الْمُظَاهَرَةُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَالْحُزْنُ عَلَى كُفْرِ الْكَافِرِ طَاعَةٌ، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُفْرِطُ فِي الْحُزْنِ عَلَى كُفْرِ قَوْمِهِ، فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ، كَمَا قَالَ:" فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ" [فاطر: ٨] «٢» وَقَالَ:" فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً" [الكهف: ٦] «٣». إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا) أَيْ لَا يَنْقُصُونَ مِنْ مُلْكِ اللَّهِ وَسُلْطَانِهِ شَيْئًا، يَعْنِي لَا يَنْقُصُ بِكُفْرِهِمْ. وَكَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إِلَّا مَنْ هَدَيْتُهُ فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلَّا مَنْ أَطْعَمْتُهُ فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمُكُمْ. يَا عِبَادِي كُلُّكُمْ عَارٍ إِلَّا مَنْ كَسَوْتُهُ فَاسْتَكْسُونِي أَكْسِكُمْ. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا. يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ. يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ (. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ وَالتِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ حَدِيثٌ عَظِيمٌ فِيهِ طُولٌ
(٢). راجع ج ١٤ ص ٣٢٤.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٣٥٣.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٧٧]
إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) تَقَدَّمَ فِي الْبَقَرَةِ «٢». (لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً) كُرِّرَ لِلتَّأْكِيدِ. وَقِيلَ: أَيْ مِنْ سُوءِ تَدْبِيرِهِ اسْتِبْدَالُ الْإِيمَانِ بِالْكُفْرِ وَبَيْعُهُ بِهِ، فَلَا يَخَافُ جَانِبَهُ وَلَا تَدْبِيرَهُ. وَانْتَصَبَ" شَيْئاً" فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ الْمَصْدَرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ ضَرَرًا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا. وَيَجُوزُ انْتِصَابُهُ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْبَاءِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ بشيء.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٧٨]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) الْإِمْلَاءُ طُولُ الْعُمْرِ وَرَغَدُ الْعَيْشِ. وَالْمَعْنَى: لَا يَحَسَبَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُخَوِّفُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ اللَّهَ قادر
(٢). راجع ج ١ ص ٢١٠.
قلت : وهذا ليس بشيء، لما تقدم بيانه من الإعراب، ولصحة القراءة وثبوتها نقلا. وقرأ يحيى بن وثاب " إنما نملي لهم " بكسر إن فيهما جميعا. قال أبو جعفر : وقراءة يحيي حسنة. كما تقول : حسبت عمرا أبوه خالد. قال أبو حاتم وسمعت الأخفش يذكر كسر " إن " يحتج به لأهل القدر ؛ لأنه كان منهم. ويجعل على التقديم والتأخير " ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم ". قال : ورأيت في مصحف في المسجد الجامع قد زادوا فيه حرفا فصار " إنما نملي لهم إيمانا " فنظر إليه يعقوب القارئ فتبين اللحن فحكه. والآية نص في بطلان مذهب القدرية ؛ لأنه أخبر أنه يطيل أعمارهم ليزدادوا الكفر بعمل المعاصي، وتوالي أمثاله على القلب. كما تقدم بيانه في ضده وهو الإيمان. وعن ابن عباس قال : ما من بر ولا فاجر إلا والموت خير له ثم تلا " إنما نملي لهم ليزدادوا لهم إثما " وتلا " وما عند الله خير للأبرار " أخرجه رزين.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٧٩]
مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩)
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سَأَلَ الْمُؤْمِنُونَ أَنْ يُعْطَوْا عَلَامَةً يُفَرِّقُونَ بِهَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِ وَالْمُنَافِقِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ) الْآيَةَ. وَاخْتَلَفُوا مَنِ الْمُخَاطَبُ بِالْآيَةِ عَلَى أَقْوَالٍ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ. أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَعَدَاوَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ قُرَيْشًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الرَّجُلُ مِنَّا تَزْعُمُ أَنَّهُ فِي النَّارِ، وَأَنَّهُ إِذَا تَرَكَ دِينَنَا وَاتَّبَعَ دِينَكَ قُلْتَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ! فَأَخْبِرْنَا عَنْ هَذَا مِنْ أَيْنَ هُوَ؟ وَأَخْبِرْنَا مَنْ يَأْتِيكَ مِنَّا؟ وَمَنْ لَمْ يَأْتِكَ؟. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ" مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ
" مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ." حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ". وَقِيلَ: هُوَ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ. وَالْمُرَادُ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ:" لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ" مَنْ فِي الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ مِمَّنْ يُؤْمِنُ. أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ أَوْلَادَكُمُ الَّذِينَ حَكَمَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ، حَتَّى يُفَرِّقَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ، وَعَلَى هَذَا (وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ) كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقِيلَ: الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ. أَيْ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ اخْتِلَاطِ الْمُؤْمِنِ بِالْمُنَافِقِ، حَتَّى يُمَيِّزَ بَيْنَكُمْ بِالْمِحْنَةِ وَالتَّكْلِيفِ، فَتَعْرِفُوا الْمُنَافِقَ الْخَبِيثَ، وَالْمُؤْمِنَ الطَّيِّبَ. وَقَدْ مَيَّزَ يَوْمُ أُحُدٍ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ الْمَعَانِي. (وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ. أَيْ مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَيِّنَ لَكُمُ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى تَعْرِفُوهُمْ، وَلَكِنْ يَظْهَرُ ذَلِكَ لَكُمْ بِالتَّكْلِيفِ وَالْمِحْنَةِ، وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ أُحُدٍ، فَإِنَّ الْمُنَافِقِينَ تَخَلَّفُوا وَأَظْهَرُوا الشَّمَاتَةَ، فَمَا كُنْتُمْ تَعْرِفُونَ هَذَا الْغَيْبَ قَبْلَ هَذَا، فَالْآنَ قَدْ أَطْلَعَ اللَّهُ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَصَحْبَهُ عَلَى ذَلِكَ. وَقِيلَ: مَعْنَى" لِيُطْلِعَكُمْ" أَيْ وَمَا كَانَ [اللَّهُ] «١» لِيُعْلِمَكُمْ مَا يَكُونُ مِنْهُمْ. فَقَوْلُهُ:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ [عَلَى الْغَيْبِ] «٢» " عَلَى هَذَا مُتَّصِلٌ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مُنْقَطِعٌ. وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا قَالُوا: لِمَ لَمْ يُوحَ إِلَيْنَا؟ قَالَ:" وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ" أَيْ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ النُّبُوَّةَ، حَتَّى يَكُونَ الْوَحْيُ بِاخْتِيَارِكُمْ. (وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي) أَيْ يَخْتَارُ (مِنْ رُسُلِهِ) لِإِطْلَاعِ غَيْبِهِ (مَنْ يَشاءُ) يُقَالُ: طَلَعْتُ عَلَى كَذَا وَاطَّلَعْتُ [عَلَيْهِ] «٣»، وَأَطْلَعْتُ عَلَيْهِ غيري، فهو لازم ومتعد. وقرى" حَتَّى يَمِيزَ" بِالتَّشْدِيدِ مِنْ مَيَّزَ، وَكَذَا فِي" الْأَنْفَالِ" «٤» وَهِيَ قِرَاءَةُ حَمْزَةَ. وَالْبَاقُونَ" يَمِيزَ" بِالتَّخْفِيفِ مِنْ مَازَ يَمِيزُ. يُقَالُ: مِزْتُ الشَّيْءَ بَعْضَهُ مِنْ بَعْضٍ أَمِيزُهُ مَيْزًا، وَمَيَّزْتُهُ تَمْيِيزًا. قَالَ أَبُو مُعَاذٍ: مِزْتُ الشَّيْءَ أَمِيزُهُ مَيْزًا إِذَا فَرَّقْتُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ. فَإِنْ كَانَتْ أَشْيَاءً قُلْتُ: مَيَّزْتُهَا تَمْيِيزًا. وَمِثْلُهُ إِذَا جَعَلَتُ الْوَاحِدَ شَيْئَيْنِ قُلْتُ: فَرَّقْتُ بَيْنَهُمَا، مُخَفَّفًا، وَمِنْهُ فَرَّقَ الشَّعْرَ. فَإِنْ جَعَلْتُهُ أَشْيَاءً قُلْتُ: فَرَّقْتُهُ تَفْرِيقًا. قُلْتُ: وَمِنْهُ امْتَازَ الْقَوْمُ، تَمَيَّزَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ. وَيَكَادُ يَتَمَيَّزُ: يَتَقَطَّعُ، وَبِهَذَا فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى:" تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ" [الملك: ٨] «٥» وَفِي الْخَبَرِ (مَنْ مَازَ أَذًى عَنِ الطَّرِيقِ فهو له صدقة).
(٢). وز وهـ وج.
(٣). وز وهـ وج.
(٤). راجع ج ٧ ص ٤٠٠.
(٥). راجع ج ١٨ ص ٢١٨.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٨٠]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠)
فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ) " الَّذِينَ" «٣» فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ. قَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ وَالْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى الْبُخْلُ خَيْرًا لَهُمْ، أَيْ لَا يَحَسَبَنَّ الْبَاخِلُونَ الْبُخْلَ خَيْرًا لَهُمْ. وَإِنَّمَا حُذِفَ لِدَلَالَةِ يَبْخَلُونَ عَلَى الْبُخْلِ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ: مَنْ صدق كان خيرا له. أي كان الصِّدْقُ خَيْرًا لَهُ. وَمِنْ هَذَا قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إِلَيْهِ | وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِ |
(٢). راجع ج ٧ ص ١ فما بعد.
(٣). في ط وج.
(٢). الأقرع: هو الذي تمرط جلد رأسه، لكثرة سمه وطول عمره.
(٣). الزبيتان: النكتنان السوداوان فوق عينيه، وهو أوحش ما يكون من الحيات وأخبثه. وقيل: هما زيدتان في شدقي الحية.
(٤). اللهزمتان: شدقاه. وقيل:: هما عظمان ناتئان في اللحيين تحت الأذنين.
(٥). هذه رواية البخاري عن أبى هريرة ولفظه. أما ما خرجه النسائي فبلفظ آخر عن ابن مسعود. راجع صحيح البخاري وسنن النسائي في باب الزكاة.
(٦). تلظت الحية: أخرجت لسانها كتلمظ الأكل.
أَبْلِغْ أَبَا سُفْيَانَ عَنْ أَمْرٍ عَوَاقِبُهُ نَدَامَهْ
دَارَ «٣» ابْنِ عَمِّكَ بِعْتَهَا | تقتضي بِهَا عَنْكَ الْغَرَامَهْ |
وَحَلِيفُكُمْ بِاللَّهِ رَبِّ | النَّاسِ مُجْتَهِدُ الْقَسَامَهْ |
اذْهَبْ بِهَا اذْهَبْ بِهَا | طُوِّقْتَهَا طَوْقَ الْحَمَامَهْ |
(٢). راجع ج ١٠ ص ٢٢٩.
(٣). لما هاجر بنو جحش من مكة إلى المدينة تركوا دورهم هجرة مغلقة، ليس فيها ساكن، فباعها أبو سفيان من عمرو بن علقمة. فقال عبد الله لابي سفيان هذه الا بيان بعد فتح مكة. (راجع سيرة ابن هشام ص ٣٣٩ طبع أوربا).
(٤). أي أي عيب أقبح منه.
(٢). في الأصول: الميراث. والصواب ما ذكر. [..... ]
(٣). راجع ج ١١ ص ١٠٥.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٨١ الى ١٨٢]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢)قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) ذَكَرَ تَعَالَى قَبِيحَ قَوْلِ الْكُفَّارِ لا سِيَّمَا الْيَهُودُ. وَقَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ" مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً" [البقرة: ٢٤٥] «١» قَالَ قَوْمٌ مِنَ الْيَهُودِ- مِنْهُمْ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، فِي قَوْلِ الْحَسَنِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ: هُوَ فِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ- إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ يَقْتَرِضُ مِنَّا. وَإِنَّمَا قَالُوا هَذَا تَمْوِيهًا عَلَى ضُعَفَائِهِمْ، لَا أَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ هَذَا، لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ. وَلَكِنَّهُمْ كَفَرُوا بِهَذَا الْقَوْلِ، لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا تَشْكِيكَ الضُّعَفَاءِ مِنْهُمْ وَمِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَتَكْذِيبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَيْ إِنَّهُ فَقِيرٌ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ اقْتَرَضَ مِنَّا. (سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا سَنُجَازِيهِمْ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: سَنَكْتُبُهُ فِي صَحَائِفِ أَعْمَالِهِمْ، أَيْ نَأْمُرُ الْحَفَظَةَ بِإِثْبَاتِ قَوْلِهِمْ حَتَّى يَقْرَءُوهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي كُتُبِهِمُ الَّتِي يُؤْتَوْنَهَا، حَتَّى يَكُونَ أَوْكَدَ لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ:" وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ" [الأنبياء: ٩٤] «٢». وَقِيلَ: مَقْصُودُ الْكِتَابَةِ الْحِفْظُ، أَيْ سَنَحْفَظُ مَا قالوا لنجازيهم. و" ما" فِي قَوْلِهِ" مَا قالُوا" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ ب سَنَكْتُبُ". وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ" سَيَكْتُبُ" بِالْيَاءِ، فَيَكُونُ" مَا" اسْمَ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَاعْتَبَرَ حَمْزَةُ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ:" وَيُقَالُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ". قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي ونكتب قتلهم الأنبياء، أي رضاهم بِالْقَتْلِ. وَالْمُرَادُ قَتْلُ أَسْلَافِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ، لَكِنْ لَمَّا رَضُوا بِذَلِكَ صَحَّتِ الْإِضَافَةُ إِلَيْهِمْ. وَحَسَّنَ رَجُلٌ عِنْدَ الشَّعْبِيِّ، قَتْلَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ الشَّعْبِيُّ: شَرِكْتَ فِي دَمِهِ. فَجَعَلَ الرضا بالقتل قتلا، رضي الله عنه.
(٢). راجع ج ١٢ ص ٣٣٩.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٨٣ الى ١٨٤]
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ) فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ بَدَلًا مِنَ" الَّذِينَ" فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ" لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا" أَوْ نَعْتٌ" لِلْعَبِيدِ" أَوْ خَبَرُ ابتداء، أي هم الذين قالوا. وقال الكلب وَغَيْرُهُ. نَزَلَتْ فِي كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، وَمَالِكِ بْنِ الصَّيْفِ، وَوَهْبِ بْنِ يَهُوذَا، وَفِنْحَاصُ بْنُ عَازُورَاءَ وَجَمَاعَةٍ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا لَهُ: أَتَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَكَ إِلَيْنَا، وَإِنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْنَا كِتَابًا عَهِدَ إِلَيْنَا فِيهِ أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ، فإن جئتنا بِهِ صَدَّقْنَاكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. فَقِيلَ: كَانَ هَذَا فِي التَّوْرَاةِ، وَلَكِنْ كَانَ تَمَامُ الْكَلَامِ: حَتَّى يَأْتِيَكُمُ الْمَسِيحُ وَمُحَمَّدٌ فَإِذَا أَتَيَاكُمْ فآمنوا بهما من غير قربان.
(٢). راجع ج ١٣ ص ٢٤٧.
(٢). العسيب: سعف النخل الذي جرد عنه خوصة، وهى الجريدة.
(٣). في ط وب: في الحرفين.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٨٥]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥)
فِيهِ سَبْعُ «١» مَسَائِلَ: الْأُولَى- لَمَّا أَخْبَرَ جَلَّ وَتَعَالَى عَنِ الْبَاخِلِينَ وَكُفْرِهِمْ فِي قَوْلِهِمْ:" إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ" وَأَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِالصَّبْرِ عَلَى أَذَاهُمْ فِي قَوْلِهِ:" لَتُبْلَوُنَّ" [آل عمران: ١٨٦] الْآيَةَ- بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْقَضِي وَلَا يَدُومُ، فَإِنَّ أَمَدَ الدُّنْيَا قَرِيبٌ، وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمُ الْجَزَاءِ. (ذائِقَةُ الْمَوْتِ) مِنَ الذَّوْقِ، وَهَذَا مِمَّا لَا مَحِيصَ عَنْهُ لِلْإِنْسَانٍ، وَلَا مَحِيدَ عَنْهُ لِحَيَوَانٍ. وَقَدْ قَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:
مَنْ لَمْ يَمُتْ عَبْطَةً «٢» يَمُتْ هَرَمًا | للموت كأس والمرء ذَائِقُهَا |
الْمَوْتُ بَابٌ وَكُلُّ النَّاسِ دَاخِلُهُ | فَلَيْتَ شَعْرِيَ بَعْدَ الْبَابِ مَا الدَّارُ |
الْحَافِظُو عورة العشيرة لا | يأتيهم من ورائهم وكف «٣» |
(٢). مات عبطة: أي شابا صحيحا.
(٣). الوكف: العيب: والبيت لعمرو بن امرئ القيس، ويقال لقيس بن الخطيم. (عن اللسان).
سَلِّ الْهُمُومَ بِكُلِّ مُعْطِي رَأْسِهِ | نَاجٍ مُخَالِطِ صُهْبَةٍ مُتَعَيِّسِ «١» |
مُغْتَالِ أَحْبُلِهِ مُبِينٍ عُنْقُهُ | فِي مَنْكِبٍ زَبَنَ الْمَطِيَّ عَرَنْدَسِ «٢» |
(٢). وصف بعيرا بعظم الجوف، فإذا شد رحله عليه اغتال أحبله (جمع حبل) واستوفاها لعظم جوفه. والاغتيال: الذهاب بالشيء. والمبين: البين الطويل. وزبن: زاحم ودفع. والعرندس: الشديد. ويروى: متين عنقه. (عن شرح الشواهد للشنتمري).
(٣). الزيادة من ج وط ود وهـ. [..... ]
(٢). النمرة (بفتح فكسر): شملة فيما خطوط بيض وسود، أو بردة من صوف تلبسها الاعراب.
(٢). قوله: سحولية، يروى بفتح السين وضمهما، فالفتح منسوب إلى السحول، وهو الإقصار لأنه يسحلها أي يغسلها، أو إلى سحول وهى قرية باليمن. وأما الضم فهو جمع سحل، وهو الثوب الأبيض النقي: ولا يكون إلا من قطن. والكرسف كعصفر: القطن.
(٣). راجع ج ٧ ص ١١٠.
(٤). المهلة (مثلثة الميم): القيح والصديد الذي يذوب فيسيل من الجسد.
(٥). المربد كمنبر: موضع قرب المدينة.
(٢). راجع ج ٦ ص ١٤١.
(٣). راجع ج ١٠ ص ٣٧٨.
هِيَ الدَّارُ دَارُ الْأَذَى وَالْقَذَى | وَدَارُ الْفِنَاءِ وَدَارُ الْغِيَرْ «١» |
فَلَوْ نِلْتَهَا بِحَذَافِيرِهَا | لَمُتَّ وَلَمْ تَقْضِ مِنْهَا الْوَطَرْ |
أَيَا مَنْ يُؤَمِّلُ طُولَ الْخُلُودْ | وَطُولُ الْخُلُودِ عَلَيْهِ ضَرَرْ |
إِذَا أَنْتَ شِبْتَ وَبَانَ الشَّبَابْ | فَلَا خَيْرَ فِي الْعَيْشِ بَعْدَ الْكِبَرْ |
[سورة آل عمران (٣): آية ١٨٦]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦)هَذَا الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمَّتِهِ وَالْمَعْنَى: لَتُخْتَبَرُنَّ وَلَتُمْتَحَنُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ بِالْمَصَائِبِ وَالْأَرْزَاءِ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَسَائِرِ تَكَالِيفِ الشَّرْعِ. وَالِابْتِلَاءُ فِي الْأَنْفُسِ بِالْمَوْتِ وَالْأَمْرَاضِ وَفَقْدِ الْأَحْبَابِ. وَبَدَأَ بِذِكْرِ الْأَمْوَالِ لِكَثْرَةِ الْمَصَائِبِ بِهَا. (وَلَتَسْمَعُنَّ) إِنْ قِيلَ: لَمَ ثَبَتَتِ الْوَاوُ فِي" لَتُبْلَوُنَّ" وَحُذِفَتْ مِنْ" وَلَتَسْمَعُنَّ"، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَاوَ فِي" لَتُبْلَوُنَّ" قَبْلَهَا فَتْحَةٌ فَحُرِّكَتْ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَخُصَّتْ بِالضَّمَّةِ لِأَنَّهَا وَاوُ الْجَمْعِ، وَلَمْ يَجُزْ حَذْفُهَا لِأَنَّهَا لَيْسَ قَبْلَهَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا، وَحُذِفَتْ مِنْ" وَلَتَسْمَعُنَّ" لِأَنَّ قَبْلَهَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا. وَلَا يَجُوزُ هَمْزُ الْوَاوِ فِي" لَتُبْلَوُنَّ" لِأَنَّ حَرَكَتَهَا عَارِضَةٌ، قَالَهُ النَّحَّاسُ وَغَيْرُهُ. وَيُقَالُ لِلْوَاحِدِ مِنَ الْمُذَكَّرِ: لَتُبْلَيَنَّ يَا رَجُلُ. وَلِلِاثْنَيْنِ: لَتُبْلَيَانِّ يَا رَجُلَانِ. وَلِجَمَاعَةِ الرِّجَالِ: لَتُبْلَوُنَّ. وَنَزَلَتْ بِسَبَبِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ يَهُودِيًّا يَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ. رَدًّا عَلَى الْقُرْآنِ وَاسْتِخْفَافًا بِهِ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ" مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً" [البقرة: ٢٤٥] فَلَطَمَهُ، فَشَكَاهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ. قِيلَ: إِنَّ قَائِلَهَا فِنْحَاصٌّ الْيَهُودِيُّ، عَنْ عِكْرِمَةَ. الزُّهْرِيُّ: هُوَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ نَزَلَتْ بِسَبَبِهِ، وَكَانَ شَاعِرًا، وَكَانَ يَهْجُو النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ، وَيُؤَلِّبُ عَلَيْهِ كُفَّارَ قُرَيْشٍ، وَيُشَبِّبُ بِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى بَعَثَ [إِلَيْهِ] «١» رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ وَأَصْحَابَهُ فَقَتَلَهُ الْقِتْلَةَ الْمَشْهُورَةَ «٢» فِي السِّيَرِ وَصَحِيحِ الْخَبَرِ. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَانَ بِهَا الْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ، فَكَانَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَسْمَعُونَ أَذًى كَثِيرًا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَرَّ بِابْنِ أُبَيِّ وَهُوَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى حِمَارٍ فَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ ابْنُ أُبَيِّ: إِنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقًّا فَلَا تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا! ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ، فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ. وَقَبَضَ عَلَى أَنْفِهِ لِئَلَّا يُصِيبَهُ غُبَارُ الْحِمَارِ، فَقَالَ
(٢). راجع سيرة ابن هشام ص ٥٤٨ طبع أوربا.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٨٧]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (١٨٧)
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) هَذَا مُتَّصِلٌ بِذِكْرِ الْيَهُودِ، فَإِنَّهُمْ أُمِرُوا بِالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَيَانِ أَمْرِهِ، فَكَتَمُوا نَعْتَهُ «٤». فَالْآيَةُ تَوْبِيخٌ لَهُمْ، ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ هُوَ خَبَرٌ عَامٌّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ. قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هِيَ فِي كل من أوتي علم شي مِنَ الْكِتَابِ. فَمَنْ عَلِمَ شَيْئًا فَلْيُعَلِّمْهُ، وَإِيَّاكُمْ وَكِتْمَانَ الْعِلْمِ فَإِنَّهُ هَلَكَةٌ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَا يَحِلُّ لِعَالِمٍ أَنْ يَسْكُتَ عَلَى عِلْمِهِ، وَلَا لِلْجَاهِلِ أَنْ يَسْكُتَ عَلَى جَهْلِهِ، قال الله تعالى:
(٢). في ج وهـ وز وى: سدها وصلاحها. من السداد.
(٣). راجع ج ٣ ص ١١٠.
(٤). في ج: أمره. وفى ز: بعثه.
[سورة آل عمران (٣): آية ١٨٨]
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨)
(٢). كذا في ج ود وهـ وز وب، وفى أوح: لأنه غيب.
(٣). الذي في الطبري أنها قراءة عبد الله، وسيأتي.
(٤). راجع ج ٢ ص ٤٠.
(٥). راجع ج ٢ ص ٤٠.
(٦). راجع ج ١ ص ٣٣٤.
(٧). راجع ج ٢ ص ٢٧.
بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ آيَةٍ «١» | تَرَى حُبَّهُمْ عَارًا عَلَيَّ وَتَحْسَبُ |
وَمَا خِلْتُ أَبْقَى بيننا من مودة | عراض المذاكي المسنفات القلائصا |
أَرْجُو وَآمُلُ أَنْ تَدْنُوَ مَوَدَّتُهَا | وما إخال لدنيا مِنْكِ تَنْوِيلُ |
[سورة آل عمران (٣): آية ١٨٩]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩)
هَذَا احْتِجَاجٌ عَلَى الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ، وَتَكْذِيبٌ لَهُمْ. وقيل: المعنى لا تظن الْفَرِحِينَ يَنْجُونَ مِنَ الْعَذَابِ، فَإِنَّ لِلَّهِ كُلَّ شي، وَهُمْ فِي قَبْضَةِ الْقَدِيرِ، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى، الْكَلَامِ الْأَوَّلِ، أَيْ إِنَّهُمْ لَا يَنْجُونَ مِنْ عَذَابِهِ، يَأْخُذُهُمْ مَتَى شَاءَ. (وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) أَيْ مُمْكِنٍ (قَدِيرٌ) وَقَدْ مَضَى فِي" البقرة" «٣».
(٢). كذا في الأصول. وهو اختصار من كعب بن زهير إلخ. [..... ]
(٣). راجع ج ١ ص ٤٢٢.
[سورة آل عمران (٣): الآيات ١٩٠ الى ٢٠٠]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤)فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
(٢). راجع ص ٢ من هذا الجزء.
(٢). راجع ج ١٩ ص ٢٤٥.
(٣). راجع ج ١٤ ص ١٩٧.
(٤). راجع ج ٢ ص ١٧١.
(٥). راجع ج ١٠ ص ٣٩٥.
(٦). راجع ج ٨ ص ٣١٧.
(٧). راجع ج ٥ ص ٣٧٣.
(٢). الحفري (بفتح المهملة والفاء) نسبة إلى موضع بالكوفة واسمه عمر بن سعد بن عبيد.
(٣). في ى: المذهب. وذلك في الهامش تصحيحا.
(٤). في هـ. [..... ]
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ | تَدُلُّ على أنه واحد |
(٢). كذا في هـ وب ود وج وى. وفى أوح: نبه، وفى ز: ثبت.
مُسَجَّى الْجِسْمِ غَائِبٌ حَاضِرْ | مُنْتَبِهُ الْقَلْبِ صَامِتٌ ذَاكِرْ |
مُنْقَبِضٌ فِي الْغُيُوبِ مُنْبَسِطْ | كَذَاكَ مَنْ كَانَ عَارِفًا ذَاكِرْ |
يَبِيتُ فِي لَيْلِهِ أَخَا فِكَرْ | فَهْوَ مدى الليل نائم ماهر |
أَلَا كل شي ما خلا الله باطل
(٢). مسجد الاقدام: مسجد كان بجهة مصر العتيقة قريبا من سقاية ابن طولون. راجع المقريزي ج ٢ ص ٤٤٥ طبع بولاق.
أَخْزَى الْإِلَهُ مِنَ الصَّلِيبِ عَبِيدَهُ | وَاللَّابِسِينَ قَلَانِسَ الرُّهْبَانِ |
خِزَايَةٌ أَدْرَكَتْهُ عِنْدَ «٤» جَوْلَتِهِ | مِنْ جَانِبِ الْحَبْلِ مَخْلُوطًا بِهَا الْغَضَبُ |
(٢). راجع ج ٢ ص ٤٣٣.
(٣). راجع ج ١٨ ص ٧٩١.
(٤). في الديوان: بعد.
(٢). من هـ وج وط.
(٣). راجع ج ١٧ ص ٢٩٠.
(٤). راجع ج ٢٠ ص ١٤٠.
(٥). راجع ج ٧ ص ٨٠٢. [..... ]
(٦). راجع ج ٩ ص ٢٤٥.
وَلَا يَرْهَبُ ابْنُ الْعَمِّ مَا عِشْتُ صَوْلَتِي | وَلَا أَخْتَفِي «٣» مِنْ خَشْيَةِ الْمُتَهَدِّدِ |
وَإِنِّي مَتَى «٤» أَوْعَدْتُهُ أَوْ وَعَدْتُهُ | لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي |
(٢). هو عامر بن الطفيل، كما في اللسان.
(٣). في هـ وى: أختبي.
(٤). كذا في جميع الأصول، والذي في اللسان: وإني إن، وفى التاج: وإني وإن.
(٥). حزبه الامر: إذا نزل به مهم أو أصابه غم.
تَصَابَى وَأَمْسَى عَلَاهُ الْكِبَرْ
أَيْ وَقَدْ عَلَاهُ الْكِبَرُ. وَقِيلَ: أَيْ وَقَدْ قَاتَلَ مَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ، تَقُولُ الْعَرَبُ: قَتَلْنَا بَنِي تَمِيمٍ، وَإِنَّمَا قُتِلَ بَعْضُهُمْ. وَقَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَإِنْ تُقَاتِلُونَا نُقَتِّلْكُمُ
وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ:" وَقَتَلُوا وَقُتِلُوا" خَفِيفَةً بِغَيْرِ أَلِفٍ. (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أَيْ لَأَسْتُرَنَّهَا عَلَيْهِمْ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا أُوَبِّخُهُمْ بِهَا وَلَا أُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهَا. (ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ)
مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، لِأَنَّ مَعْنَى" لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ" لَأُثِيبَنَّهُمْ ثَوَابًا. الْكِسَائِيُّ: انْتَصَبَ عَلَى الْقَطْعِ. الْفَرَّاءُ: عَلَى التَّفْسِيرِ. (وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) أَيْ حُسْنُ الْجَزَاءِ، وَهُوَ مَا يَرْجِعُ عَلَى الْعَامِلِ مِنْ «٢» جَرَّاءِ عَمَلِهِ، مِنْ ثَابَ يَثُوبُ. السَّابِعَةَ عَشْرَةَ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ) قِيلَ: الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ الْأُمَّةُ. وَقِيلَ: لِلْجَمِيعِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَالُوا: هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ لَهُمْ تَجَائِرُ وَأَمْوَالٌ وَاضْطِرَابٌ فِي الْبِلَادِ، وَقَدْ هَلَكْنَا نَحْنُ مِنَ الْجُوعِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. أَيْ لَا يَغُرَّنَّكُمْ سَلَامَتُهُمْ بِتَقَلُّبِهِمْ فِي أَسْفَارِهِمْ. (مَتاعٌ قَلِيلٌ) أَيْ تَقَلُّبُهُمْ مَتَاعٌ قَلِيلٌ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ" يَغُرَّنْكَ" سَاكِنَةَ النُّونِ، وَأَنْشَدَ:
لَا يَغُرَّنْكَ عِشَاءُ سَاكِنٍ | قَدْ يوافي بالمنيات السحر |
(٢). في ز وهـ ود وج: جزاء.
(٢). راجع ص ٢٨٦ من هذا الجزء.
(٣). راجع ج ٧ ص ٣٢٩ وص ٢٣٧.
(٤). راجع ج ١٢ ص ١٣٠.
(٥). راجع ج ٧ ص ٣٢٩ وص ٢٣٧.
(٦). راجع ج ١٦ ص ١٣٨. [..... ]
(٧). راجع ج ٧ ص ٣٢٩ وص ٢٣٧.
(٨). راجع ج ٢ ص ٢١٥.
(٩). راجع ج ١٣ ص ٣١٤.
(١٠). راجع ج ١٠ ص ١٩٣ وص ١٦٦.
(١١) راجع ج ١٠ ص ١٩٣ وص ١٦٦.
(١٢) راجع ج ١٤ ص ٣٢١.
(٢). في ج وا: كثير.
(٣). النزل. بضم فسكون وبالتحريك.
(٤). من ج وهـ وى ود. وفي ب وا: من حديث.
(٢). راجع ج ٢ ص ٨١.
(٣). راجع ج ٢ ص ١٧٤.
فَلَمْ أَرَ حَيًّا صَابَرُوا مِثْلَ صَبْرِنَا | وَلَا كافحوا مثل الذين نكافح |
(٢). من ب وج وهـ وط.
(٣). في ب: المسلمين.
(٤). في ب: هكذا.
(٥). الصرعة بضم ففتح المبالغ في الصراع الذي لا يغلب.
(٢). كذا في ز وب وج ود وهـ وى وط وابن عطية وفى اوح وداود.
(٣). الفتان: الشيطان. ويروى بفتح الفاء وضمها. فمن رواه بالفتح فهو واحد، لأنه يفتن الناس عن الدين. ومن رواه بالضم فهو جمع فاتن، أي يعاون أحدهما الأخر على الذين يضلون الناس عن الحق ويفتنونهم.
. وَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ رِبَاطَ يَوْمٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ يُحَصِّلُ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ الدَّائِمِ وَإِنْ لَمْ يَمُتْ مُرَابِطًا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (حَرْسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِ رَجُلٍ وَقِيَامِهِ فِي أَهْلِهِ أَلْفَ سَنَةٍ السَّنَةُ ثَلَاثُمِائَةِ يَوْمٍ [وَسِتُّونَ «٢» يَوْمًا] وَالْيَوْمُ كَأَلْفِ سَنَةٍ). قُلْتُ: وَجَاءَ فِي انْتِظَارِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَنَّهُ رِبَاطٌ، فَقَدْ يَحْصُلُ لِمُنْتَظِرِ الصَّلَوَاتِ ذَلِكَ الْفَضْلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ رَوَى أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ قَالَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ قَالَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ ح «٣» وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَزْدِيِّ عَنْ نَوْفٍ الْبِكَالِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ الْمَغْرِبَ فَصَلَّيْنَا مَعَهُ فَعَقَّبَ مَنْ عَقَّبَ وَرَجَعَ مَنْ رَجَعَ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَثُوبَ «٤» النَّاسُ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَجَاءَ وَقَدْ حَضَرَهُ النَّاسُ رَافِعًا أُصْبُعَهُ وَقَدْ عَقَدَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ يُشِيرُ بِالسَّبَّابَةِ إِلَى السَّمَاءِ فَحَسَرَ ثَوْبَهُ عَنْ رُكْبَتَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: (أَبْشِرُوا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ هَذَا رَبُّكُمْ قَدْ فَتَحَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ السَّمَاءِ يُبَاهِي بِكُمُ الْمَلَائِكَةَ يَقُولُ يَا مَلَائِكَتِي انْظُرُوا إِلَى عِبَادِي هَؤُلَاءِ قَضَوْا فَرِيضَةً وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ أُخْرَى (. وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عبد الله: أن نوفا
(٢). في ج.
(٣). جرت عادة المحدثين أنه إذا كان للحديث إسنادان أو أكثر، كتبوا عند الانتقال من إسناد إلى إسناد" ح" وهى حاء مهملة مفردة. والمختار أنها مأخوذة من التحول لتحوله من إسناد إلى إسناد، وأنه يقول القارئ إذا انتهى إليها:" ح" ويستمر في قراءة ما بعدها. وقيل: إنها من حال بين الشيئين إذا حجز، لكونها حالت بين الإسنادين، وأنه لا يلفظ عند الانتهاء إليها بشيء، وليست من الرواية. وقيل: إنها رمز إلى قوله: الحديث. وأن أهل المغرب كلهم يقولون إذا وصلوا إليها: الحديث. ثم هذه الحاء توجد في كتب المتأخرين كثيرا وهى كثيرة في صحيح مسلم قليلة في صحيح البخاري. (راجع مقدمة النوري على صحيح مسلم).
(٤). في ج: يتوجه.
نُجِزَ تَفْسِيرُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ مِنْ (جَامِعِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ) بحمد الله وعونه.
صححه أبو إسحاق إبراهيم الطفيش
تَمَّ الْجُزْءُ الرَّابِعُ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ يَتْلُوهُ إن شاء تعالى الجزء الخامس، وأقوله:" سورة النساء بعون الله وجميل توفيقه قد تم طبع الجزء الرابع من كتاب (الجامع لأحكام القرآن) للقرطبي