تفسير سورة ص

الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية
تفسير سورة سورة ص من كتاب الفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية المعروف بـالفواتح الإلهية والمفاتح الغيبية .
لمؤلفه النخجواني . المتوفي سنة 920 هـ

وسلّم بمقتضى عموم أسمائه وصفاته فأرسله الى عموم البرايا وكافة الأمم وختم ببعثته امر التشريع والتكميل الرَّحْمنِ عليهم ببعثته صلّى الله عليه وسلّم وإرساله إليهم رحمة للعالمين الرَّحِيمِ عليه بإيجاده وخلقه على خلق عظيم
[الآيات]
ص ايها الصفي الصافي مشربه عن الأمور المنافية لتوحيد الحق وصرافة وحدته الذاتية الصدوق الصادق في ادعاء الرسالة والنبوة بمقتضى الوحى الإلهي والهامه الصبور الصابر على متاعب الدعوة والتبليغ وحمل أعباء الرسالة وَحق الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ والبيان وانواع الدلائل والبرهان المنزل من عندنا عليك يا أكمل الرسل لتبيين احكام دين الإسلام وتحقيق شعائر التوحيد والايمان والتنبيه على مراتب الإحسان المنتهى الى الكشف والعيان ما الكفار المنكرون بك وبكتابك ودينك مطلعون عليك بعيب ونقصان وما لهم حجة يتشبثون بها او دليل يستدلون به على ما يشينك فيتبعونها
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا واعرضوا عنا وعنك وعن كتابك لا سند لهم أصلا لا عقلا ولا نقلا بل هم في أنفسهم مغمورون مستغرقون فِي عِزَّةٍ كبر وخيلاء عند أنفسهم وَشِقاقٍ خلاف وجدال لنا ولك بعيد بمراحل عن توحيدنا وتصديقك وبعد ما قد سمعت يا أكمل الرسل حالهم لا تبال بهم وبخلافهم ومرائهم وكبرهم وخيلائهم أصلا اذكر
كَمْ اى كثيرا أَهْلَكْنا أمثالهم مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ اهل قَرْنٍ مغمورين في الكبر والخيلاء منهمكين في الخلاف والشقاق أمثالهم فَنادَوْا واستغاثوا متضرعين إلينا راجين منا عفونا إياهم حين أخذناهم بظلمهم بغتة وَلاتَ حِينَ مَناصٍ اى ليس حين الهلاك وقت تأخير ونجاة لهم وخلاص إياهم فلم نجبهم لذلك بمضى وقت الاختبارات والاعتبارات بل قد أهلكناهم واستأصلناهم ان في ذلك لعبرة لأولى الأبصار
وَمن شدة شقاقهم ونفاقهم قد عَجِبُوا بل تعجبوا اى اهل مكة من أَنْ جاءَهُمْ وأرسل إليهم رسول مُنْذِرٌ مِنْهُمْ ومن جنسهم وبنى نوعهم يعنى محمدا صلّى الله عليه وسلم وَقالَ الْكافِرُونَ من كمال تعجبهم وشدة انكارهم هذا ساحِرٌ اى محمد صلّى الله عليه وسلّم وليس جميع ما اتى به وما أظهره في صورة المعجزة الخارقة للعادة الا سحر يسميه معجزة تغريرا وتلبيسا وفيما قد نسبه الى الوحى والإنزال كَذَّابٌ مبالغ في الكذب مستغرق فيه ثم لما اسلم عمر بن الخطاب رضى الله عنه فشق ذلك على قريش وفرح المؤمنون فازدحم صناديدهم عند ابى طالب فقالوا له أنت شيخنا وسيدنا وقد علمت ما فعل هؤلاء فاتيناك لتقضى بيننا وبين ابن أخيك فأرسل ابو طالب الى النبي صلّى الله عليه وسلم فاحضره معهم فقال يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السؤال فلا تمل أنت كل الميل عن قومك فقال صلّى الله عليه وسلّم وماذا يسئلون قالوا له ارفض ذكر آلهتنا وندعك وإلهك وعلى هذا نتعاهد معك عند عمك فقال صلّى الله عليه وسلم أتطيعوني في كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال ابو جهل أنطيعكها وعشر أمثالها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم قولوا لا اله الا الله الواحد فنفروا من ذلك جميعا وقاموا قائلين على سبيل الإنكار والاستبعاد
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً فمتى يسع الا له الواحد للخلق الكثير إِنَّ هذا الذي يطلب هذا المدعى لَشَيْءٌ عُجابٌ اى عجيب بديع ابتدعه من تلقاء نفسه
وَبعد ما تنفروا من قوله وتعجبوا من طلبه انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ اى اشرافهم قائلين أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا اى اثبتوا وتمكنوا عَلى عبادة آلِهَتِكُمْ وتصالحوا معه إِنَّ هذا الذي قد حدث بيننا وابتدع فينا لَشَيْءٌ يُرادُ بنا من شؤم الزمان وريبه ومالنا الا الصبر والثبات الى ان يتجلى
الغياهب وترتفع النوائب مع انا
ما سَمِعْنا بِهذا اى بالتوحيد الذي يقوله هذا المدعى فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ التي هي النصرانية إذ النصارى يقولون بالأقانيم الثلاثة ولم ينقل منهم توحيد الإله ولا من الذين مضوا من ارباب الملل السالفة وبالجملة إِنْ هذا اى ما هذا التوحيد الذي ظهر به هذا المدعى إِلَّا اخْتِلاقٌ اى كذب قد اخترعه من تلقاء نفسه ونسبه الى الوحى افتراء ومراء قاصدا به التغرير والتلبيس على ضعفة الأنام
أَتعتقدون ايها العقلاء المتدربون بان أُنْزِلَ عَلَيْهِ اى على يتيم ابى طالب الذِّكْرُ اى الوحى والقرآن مِنْ بَيْنِنا مع انه مثلنا ومن بنى نوعنا بل هو أدون منا وأدنانا ونحن اشرف منه واكبر سنا واكثر أموالا واولادا وأكرم جاها وثروة وأعلى رئاسة وسيادة انما يقولون هذا على سبيل الإنكار والاستبعاد لا انهم معتقدون على الوحى والإنزال بل على وجه الفرض والمراء بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ وريب عظيم مِنْ ذِكْرِي ووحيي اليه والهامى إياه بل الى عموم المرسلين وانى هو بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ اى انما قالوا هذا وشكوا في الوحى وارتابوا فيه لأنهم لم يذوقوا عذابي ولو انهم ذا قوة لما قالوا فمن اين يحكمون هذا ويقولون ان الوحى لو نزل لنزل على رؤسائنا وساداتنا أهم يعلمون الغيب
أَمْ عِنْدَهُمْ اى عند أولئك البعداء المنهمكين في بحر الغفلة والضلال خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ يا أكمل الرسل ومقاليد نعمه ومفاتيح كرمه ليكون لهم الخيرة في امره سبحانه فيعطونها من يشاء ويمنعونها عن من يشاء فكيف يحكمون على الْعَزِيزِ الغالب على امره في تصرفات ملكه وملكوته بالاستقلال والاختيار الْوَهَّابِ على من شاء وأراد بلا مشاورة ومظاهرة
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما اى أيدعون ان لهم التصرف في العلويات والسفليات والممتزجات وان ادعوا ذلك لأنفسهم فَلْيَرْتَقُوا وليصعدوا فِي عالم الْأَسْبابِ والسموات التي هي معارج الوصول الى منشأ الوحى والإلهام ومنبع النزول والإنزال فليأتوا بالوحي الى من أرادوا واختاروا وبالجملة من اين يتأتى لأولئك الكفرة الفجرة المقهورين الصاغرين الخيرة في امره سبحانه وحكمه بمقتضى قضائه حتى يتفوهوا عنه وعن أفعاله وأحكامه إذ لا يسع لاحد من أقوياء عباده ان يسأل عن فعله سبحانه مع ان أولئك الحمقى
جُنْدٌ ما شرذمة قليلة في غاية القلة هُنالِكَ اى في محل ومقام قد وضعوا ونصبوا أنفسهم بمعاداتك يا أكمل الرسل وصاروا متمكنين في ابعد الأمكنة وأعلى المرتبة على زعمهم مع انه هم في أنفسهم مَهْزُومٌ مغلوب مِنَ جميع الْأَحْزابِ إذ هم بالنسبة الى الكفرة الذين تحزبوا على رسل الله وأنبيائه في غاية القلة والضعف وهم مع كمال شدتهم وقوتهم ووفور شوكتهم وصولتهم قد انهزموا واستؤصلوا الى حيث لم يبق منهم احد على وجه الأرض فكيف هؤلاء اذكر يا أكمل الرسل وقت إذ
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ مع شدة قوتهم وقدرتهم أخاك نوحا عليه السلام فأغرقناهم أجمعين بالطوفان وَكذا كذبت عادٌ مع نهاية عتوهم وعنادهم أخاك هودا عليه السلام فأهلكناهم بالريح العقيم وَكذبت فِرْعَوْنُ اى هو وقومه مع انهم ذُو الْأَوْتادِ اى اصحاب الدولة الثابتة الراسخة التي قد ادعى فرعون بها الألوهية لنفسه أخاك موسى عليه السلام فأغرقناه وجنوده في اليم
وَايضا قد كذبت ثَمُودُ المتناهون في القوة والشدة أخاك صالحا عليه السلام فأهلكناهم بالصيحة الهائلة وَقَوْمُ لُوطٍ المتبالغون في الجحود والإنكار على الله وحدوده قد كذبوا أخاك لوطا عليه السلام فقلبنا عليهم ديارهم وأمطرنا عليهم حجارة فأهلكناهم بها وَكذبت أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أخاك شعيبا
فاستأصلناهم كذلك وبالجملة أُولئِكَ البعداء المنحرفون عن صوب السداد والصواب هم الْأَحْزابُ الذين قد كذبوا الرسل وتحزبوا عليهم وقاتلوا معهم مع كونهم أشداء أقوياء فانهزموا عنهم بنصرنا إياهم فغلبوا هنا لك وانقلبوا صاغرين وبالجملة
إِنْ كُلٌّ اى ما كل من الأمم السالفة الهالكة المذكورة إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ المذكورين فَحَقَّ اى لزم وثبت لذلك ولحق عليهم عِقابِ اى انواع عذابي ونكالي عاجلا وآجلا
وَبالجملة ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ المعاندون المنكرون لدينك المكذبون لرسالتك وكتابك إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ينفخها اسرافيل في الصور باذن منا فيسمع هؤلاء الضالون فيموتون على الفور بلا توقف إذ ما لَها اى لتلك الصيحة واهلاكها وافنائها السامعين مِنْ فَواقٍ قرار ووقوف مقدار خروج النفس ورجوعه وهذا كناية عن سرعة نفوذ قضاء الله حين حلول عذابه عليهم الى حيث لا يسع فيه تميز التقدم والتأخر أصلا بل ينزل بغتة
وَبعد ما سمع كفار مكة أوصاف اهوال يوم الجزاء وافتراق الناس فيها فرقا وأحزابا بعضهم اصحاب يمين وبعضهم اصحاب شمال فيعطى لكل فرد كتاب قد كتبت فيه أعمالهم الصالحة والفاسدة فيحاسب كل على اعماله فيجازى على وفقها قالُوا مستهزئين متهكمين يعنى اهل مكة بعد ما سمعوا اهوال يوم الجزاء وافزاعها رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا اى قسطنا وحظنا ونصيبنا من العذاب المترتب على أعمالنا المثبتة في صحيفتنا المكتوبة فيها قَبْلَ حلول يَوْمِ الْحِسابِ ونحن نرضى بها وبالعذاب المستتبعة لها بلا حساب وبعد ما قالوا كذلك واستهزؤا مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم وضحكوا من قوله ونسبوه الى الخبط والجنون امر سبحانه حبيبه بالتصبر على مقاساة ما جاءوا به مما لا يليق بشأنه فقال
اصْبِرْ يا أكمل الرسل عَلى ما يَقُولُونَ لك وفي شأنك أولئك الجاهلون عنادا ومكابرة ولا تلتفت الى هذياناتهم ولا تحزن من أباطيلهم المستهجنة فعليك يا أكمل الرسل ان توطن نفسك على الصبر المأمور ولا تتجاوز عن مقتضاه ولا تتعب نفسك بالقلق والاضطراب والمجادلة معهم والمخاصمة إياهم الى ان نكف عنك شرورهم ولا تلتفت الى هواجس نفسك حتى لا تقع في محل الخطاب والعتاب وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ وما جرى عليه من العتاب الإلهي من عدم حفظ نفسه عن مقتضياتها ومشتهياتها حتى ابتلاه الله سبحانه بما ابتلاه مع انه كان ذَا الْأَيْدِ اى صاحب القدرة والقوة التامة الكاملة في الإطاعة والعبادة وحفظ النفس عن محازم الله ومنهياته وكيف لا يكون كذلك إِنَّهُ أَوَّابٌ رجاع الى الله والى مرضاته سبحانه في جميع حالاته ومن كمال رجوعه إلينا وحفظه لمرضاتنا
إِنَّا من مقام عظيم جودنا إياه قد سَخَّرْنَا الْجِبالَ له وجعلناها تحت حكمه الى حيث سارت مَعَهُ حيث شاء يُسَبِّحْنَ بمتابعته وموافقته حين صبح ونزه بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ اى بالليل والنهار يعنى ما دام يميل ويتوجه الى ربه مالت الجبال معه ازديادا لثوابه وتكثيرا لفوائده
وَكذا سخرنا له الطَّيْرَ اى جنس الطيور يجتمعن حوله مَحْشُورَةً على فنائه مسخرة لحكمه على قراءة النصب والطير محشورة عنده محكومة لأمره يسبحن بمتابعته بالغدو والآصال كتسبيح الجبال على قراءة الرفع وبالجملة كُلٌّ اى كل واحد من داود وكذا من الجبال والطيور بمتابعته لَهُ أَوَّابٌ اى لأجله رجاع الى الله مسبح له سبحانه مقدس عما لا يليق بشأنه على سبيل الاستمرار والدوام
وَمن كمال لطفنا وجودنا معه قد شَدَدْنا له مُلْكَهُ الظاهر اى قوينا استيلاءه وسلطناه على الأنام وألقينا هيبته وابهته على قلوبهم الى حيث لم يقدروا ان يخرجوا
عن مقتضيات الحدود الإلهية الموضوعة في شرعه خوفا من اطلاعه وسبب هيبته انه تحاكم عنده رجلان فادعى أحدهما على الآخر بانه غصب منه بقرة عدوانا وظلما فأنكر الآخر ولم يكن للمدعى بينة فاريناه في منامه غاية مناه إياه وتأييدا ان يقتل المدعى عليه ويحكم بالبقرة للمدعى فلما استيقظ كذب حلمه واستغفر فنام فاريناه مثل ذلك واستيقظ فاستغفر ثانيا فنام فرأى ثالثا مثل ذلك فتيقن انه من الله فهم ان يقتله تنفيذا لما الهم اليه فقال المدعى عليه أتقتلني بلا بينة فقال عليه السلام نعم والله لأنفذن حكم الله فيك فلما تفطن الرجل منه الجزم في عزمه اضطر الى الاعتراف حيث قال لا تعجل يا نبي الله حتى أخبرك والله ما أخذتني بهذا الذنب ظلما وزورا ولكني قد قتلت والد هذا المدعى اغتيالا وخداعا فقتله عليه السلام حدا وعظمت هيبته في قلوب الناس حتى انزجروا عن مطلق المحرمات والمنهيات خوفا من اطلاعه وقالوا لا نعمل شيأ الا وقد علمه فيقضى علينا حسب علمه هذا تقويتنا وتأييدنا إياه بحسب الظاهر وبمقتضى السلطنة الصورية وَاما بحسب الباطن والحقيقة قد آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ البالغة المتقنة التي يتصرف بها في حقائق الأمور ويطلع على سرائرها بنور النبوة والولاية الموروثة له من اسلافه الكرام الموهوبة إياه من الحكيم العلام تأييدا له وتقوية لشأنه وَقد آتيناه ايضا فَصْلَ الْخِطابِ اى قطع الخصومات على التفصيل الذي قد وقع بين المتخاصمين بلا حيف وميل الى جانب احد على ما هو مقتضى العدل الإلهي بالخطاب المفصل الموضح الواضح المقتصد بلا اختصار مخل واطناب ممل وبالجملة بلا إغلاق يشتبه مضمونه على المتخاصمين
وَهَلْ أَتاكَ وقد حصل عندك يا أكمل الرسل نَبَأُ الْخَصْمِ اى حديث الملكين المصورين بصورة الخصمين اللذين جاءا للحكومة عند أخيك داود عليه السلام حين اعتكف في محرابه للعبادة معتزلا عن الناس على ما هو عادته من تقسيم أيامه ثلاثة اقسام يوم لعيش النساء ويوم للحكومة وقطع الخصومة بين الأنام ويوم للتوجه نحو الحق والمناجاة معه سبحانه في محرابه وقد كان يوما في محرابه والباب مغلق عليه والحراس على الباب فجاء الملكان على صورة رجلين متخاصمين على الباب فمنعهما البواب فأخذا مستعليين المحراب اذكر خبر وقت إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ اى صعدوا على حائط المحراب واستعلوا على سوره بقصد الدخول عليه ثم اذكر
إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ من غير الباب بان شق لهم الجدار فَفَزِعَ داود مِنْهُمْ واستوحش من دخولهم لا من الطريق المعهود وبعد ما تفرسوا منه الرعب والفزع قالُوا له تسلية وتسكينا لا تَخَفْ منا ولا تحزن عن إلمامنا إياك إذ نحن خَصْمانِ تحاكمنا إليك حتى تقضى بيننا قد بَغى اى ظلم وتعدى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ اى أحدنا على الآخر فَاحْكُمْ ايها الحاكم العادل العالم بَيْنَنا بِالْحَقِّ اى بالعدل السوى وَلا تُشْطِطْ اى لا تمل ولا تتجاوز عن مقتضى القسط الإلهي وَبالجملة اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ اى اعدل الطرق وأقوم السبل في سلوك طريق الحق ثم أخذا في تقرير المسألة وتحرير الدعوى فقال أحدهما
إِنَّ هذا أَخِي في الدين ورفيقي في سلوك طريق التوحيد واليقين لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وهي الأنثى من الضأن قد كنى بها العرب عن المرأة وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فقط فَقالَ لي عدوانا وظلما أَكْفِلْنِيها واجعلنى كافلا لها ومالكا إياها حتى تصير نعاجى مائة ولم تبق لك نعجة وَمع ذلك لم يقتصر على مجرد القول بل قد عَزَّنِي وغلب على فِي مضمون هذا الْخِطابِ المذكور بحجج لا اقدر على دفعه ولا اسع المقاومة معه وبعد ما سمع عليه السلام كلام المدعى وتأمل في تقريره قال
للمدعى عليه هل تصدقه فيما ادعاه عليك قال بلى ثم التفت عليه السلام نحو المدعى متعجبا مستبعدا عما جرى عليه من الظلم والعدوان حيث
قالَ تالله لَقَدْ ظَلَمَكَ هذا الظالم ظلما صريحا بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ هذه ليأخذها منك ويضيفها إِلى نِعاجِهِ ليكثرها بها ويخالطها معها حرصا منه الى تكميل مشتهيات نفسه الامارة بالسوء وَبالجملة لا تستبدع هذا الأمر ولا تستبعد منه هذا بل إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ الذين خلطوا أموالهم وتشاركوا فيها لَيَبْغِي اى يظلم ويتعدى بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ ظلما وزورا إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا بالله من الخلطاء واستقاموا على صراطه الموضوع من عنده على العدالة والاستقامة وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ المرضية عنده سبحانه سيما في الأمور المتعلقة لحقوق عباده وَلكن قَلِيلٌ ما هُمْ اى هم قليل في الدنيا في غاية القلة والندرة وما مزيدة زيد لتأكيد القلة والإبهام ثم التفت عليه السلام الى المدعى عليه فقال له بعد ما سمع منه اعترافه ان رمت وقلت هذا هكذا مرة اخرى قد ضربنا وقطعنا منك هذا وأشار الى طرف انفه فقال المدعى عليه أنت ايها الحاكم أحق بذلك الضرب فنظر عليه السلام ولم ير أحدا وَحينئذ ظَنَّ بل تيقن داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ وابتليناه بالذنب الذي صدر عنه فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ عما جرى عليه من افتتان الله إياه وَخَرَّ سقط ساجدا من خشية الله بعد ما كان راكِعاً مكسور الظهر منكوس الرأس عن ارتكاب الذنب وَأَنابَ إلينا على وجه الندم والخجل مستحييا عنا مستوحشا عن سخطنا وغضبنا إياه
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ الذنب بعد ما قد أخلص في الانابة والرجوع إلينا بل جميع ذنوبه التي صدرت عنه هفوة وَكيف لا نغفر إِنَّ لَهُ اى لداود عليه السلام عِنْدَنا وفي ساحة قربتنا وحضرة عزتنا لَزُلْفى لقربة ومنزلة رفيعة وَحُسْنَ مَآبٍ اى خير مرجع ومنقلب من مقامات القرب ودرجات الوصول ثم لما عاتب سبحانه داود عليه السلام بما عاتب وقبل توبته بعد ما استغفر وأثاب أراد سبحانه من كمال خلوصه في توبته ورجوعه نحو الحق عن صميم طويته ان يشرفه بخلعة الخلافة فقال مناديا له إظهارا لكمال اللطف والكرم معه
يا داوُدُ المتأثر عن عتبنا التائب إلينا المنيب نحونا عن محض الندم والإخلاص إِنَّا بعد ما طهرناك عن لوث بشريتك وغفرنا لك ما طرأ عليك من لوازم هويتك ولو أحق ناسوتك قد جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ التي هي محل الكون والفساد وانواع الفتن والعناد فلك ان تستخلف عليها نيابة عنا فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ المستحكمين منك المترددين إليك في الوقائع والخطوب ملتبسا بِالْحَقِّ السوى بلا ميل الى كلا طرفي الإفراط والتفريط على الوجه الذي وصل إليك في كتابنا صريحا واستنبطت أنت منه ضمنا وقياسا وَعليك انه لا تَتَّبِعِ الْهَوى مطلقا في حكوماتك وقطعك للخصومات بين الأنام يعنى عليك ان تراجع في عموم الاحكام الى كتابنا ولا تميل في حال من الأحوال الى ما تهويه نفسك ويقتضيه رأيك ويشتهيه قلبك مما يخالف الكتاب وان اتبعت اليه بعد ما نهيناك فَيُضِلَّكَ اتباعك إياه عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الموصل الى توحيده المبنى على القسط الصرف والعدالة الخالصة الحقيقية الحقية وبالجملة إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الواحد الأحد الصمد الفرد الذي قد استوى وتمكن على عروش عموم ما لمعت عليه بروق تجلياته بالقسط والاستقامة لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ يوم يرجعون الى الله ويحشرون الى عرصات العرض عليه بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ اى بسبب نسيانهم فطرتهم الاصلية وعهدهم الذي عهدوا مع الله فيها وانكارهم على تنقيد الحق أعمالهم في يوم البعث والجزاء
وضلالهم عن الايمان به وبجميع ما فيه من الأمور الاخروية
وَكيف لا نبعث الأموات ولا نحاسبها أعمالهم التي أتوا بها في دار الاختبار إذ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وجميع من فيها وما فيها وَالْأَرْضَ وجميع من عليها وما عليها وَكذا ما بَيْنَهُما من الممتزجات الكائنة فوق الأرض وتحت السماء باطِلًا عبثا بلا طائل ولا مصلحة تقتضيها الحكمة الباعثة على إظهارها مع انا ما كنا من العابثين اللاعبين وما يليق بشأننا ان ينسب أفعالنا الى العبث والبطلان والخلو عن الحكمة وبالجملة ذلِكَ القول ببطلان أفعالنا وخلوها عن الفائدة وعرائها عن الحكمة والمصلحة ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بالحق العليم الحكيم واعرضوا عن الايمان به وأنكروا توحيده فاستحقوا بذلك الظن الفاسد أسوأ العذاب وأشد النكال فَوَيْلٌ عظيم وعذاب اليم لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ إذ هم في أوحش امكنة جهنم وأهولها واغورها
أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ المسرفين فِي الْأَرْضِ اى بل ظنوا وزعموا من غاية جهلهم وسخافة فطنتهم ورأيهم انا نسوى في الرتبة بين ارباب الهداية والايمان واصحاب الضلالة والطغيان أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ بل زعموا واعتقدوا مساواة اهل المغفرة والتقوى مع اصحاب الغفلة والهوى في اودية الضلالات بمتابعة اللذات والشهوات. ثم قال سبحانه مخاطبا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم على سبيل العظة والتذكير هذا
كِتابٌ جامع لفوائد الكتب السالفة مشتمل على زوائد خلت عنها تلك الكتب قد أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ ايها النبي الجامع لجميع مراتب الوجود من مقام عظيم جودنا معك ومع من تبعك من المؤمنين مُبارَكٌ كثير الخير والبركة على من امتثل بأوامره واجتنب عن نواهيه وانكشف بما فيه من الرموز والإشارات المنبهة الى التوحيد وإسقاط الإضافات والتخلق بصفات الحق وأخلاقه والاتصاف بمقتضيات أسمائه الحسنى وأوصافه العظمى انما أنزلناه لِيَدَّبَّرُوا اى ليتدبروا المتدبرون المتفكرون في أساليب آياتِهِ الكريمة واتساق تراكيبه البديعة واقتضائها المعاني العجيبة المنتشئة المترشحة من بحر الذات حسب شئون الأسماء والصفات الظاهرة آثارها على وفق التجليات الحبية وَلِيَتَذَكَّرَ ويتعظ بعد ما تأمل وتدبر أُولُوا الْأَلْبابِ المستكشفون عن حقائق الموجودات ولباب الكائنات والفاسدات معرضين عن قشورها مطلقا
وَبعد ما كرمنا بتشريف خلعة الخلافة قد وَهَبْنا لِداوُدَ ولدا خلفا عنه وارثا لملكه وخلافته محييا اسمه ومراسم دينه ومعالم ملته يعنى سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ سليمان إذ هو مقبول عندنا مقرب في حضرتنا مكرم لدينا وكيف لا يكون كذلك إِنَّهُ أَوَّابٌ رجاع إلينا ملتجئ نحونا في عموم الأوقات وشمول الحالات على وجه الخلوص والتفويض التام اذكر يا أكمل الرسل كمال رجوعه وإخلاصه فيه وقت
إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ وهو مشمر الى الغزو وعازم عليه مهيّأ لأسبابه متمكن على كرسيه بضبط العسكر وتهيئة آلات القتال الصَّافِناتُ من الخيل وهي التي تدور سريعا كالرحى على طرف حافر من حوافره ان أراد الراكب تدويره وهي من أجمل أوصاف الخيل وأكملها عند اصحاب القتال إذ المبارز كثيرا ما يحتاج الى تدوير فرسه يوم الوغا الْجِيادُ سريعة الجري والعدو وذلك انه قد جلس على كرسيه يوما بعد ما فرغ من ورده في الظهيرة لاعداد اسباب القتال الذي قصد الخروج اليه يومئذ وجمع عدده فأمر بعرض الخيول عليه فعرض فاشغله الالتفات والتوجه نحو الخيول عن ورد عصره فتذكر والشمس قد غربت فاغتم غما شديدا وتحزن حزنا بليغا بحيث لم يطرأ عليه مثله
فَقالَ من شدة أسفه وضجرته متأوها
لائما نفسه إِنِّي من غاية غفلتي عن ربي أَحْبَبْتُ الخيل حُبَّ الْخَيْرِ اى مثل حب الخير والتوجه المقرب نحو الحق لذلك الهانى الخيل عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ الشمس بِالْحِجابِ وفات عنى وردى الذي قد كنت عليه قبل غروب الشمس وبعد ما وقع من الغفلة ما وقع وفات ما فات من الورد تسارع الى التدارك والتلافي فأخذ يقطع عرق الباعث الى الإلهاء والاغفال فقال للشرطة
رُدُّوها اى الخيول الصافنات عَلَيَّ وكرّوها الىّ كرة اخرى فاعادوها عارضين ثانيا فَطَفِقَ وقرب سليمان عليه السلام وأخذ السيف الصارم بيده يمسح ويمضى مَسْحاً وإمضاء وملاصقا بِالسُّوقِ وهي جمع ساق وَالْأَعْناقِ يعنى أخذ بقطع قوائم الخيول ورؤسها ليزول حبها عن قلبه ويتصدق بها طلبا لمرضاة ربه وجبرا لما انكسر من ورده وعن المرتضى المجتبى كرم الله وجهه ان الضمير في ردوها راجع الى الشمس يعنى امر سليمان عليه السلام الموكلين على الشمس باذن الله ووحيه إياه ان يردوا بعد ما غربت ليأتى سليمان عليه السلام بورده فردوها واتى بما اتى وذلك من كمال كرم الله معه ولطفه إياه
وَمع كونه مقبولا عندنا ممدوحا لدينا لَقَدْ فَتَنَّا وابتلينا سُلَيْمانَ بفتنة عظيمة وَبعد ما فتناه بفتنة عظيمة أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ وأجلسنا بدله عليها جَسَداً تمثالا وصورة لا حقيقة لها ثُمَّ بعد ما ابتليناه بما ابتلينا قد أَنابَ وتاب إلينا مخلصا متضرعا فقبلنا توبته عناية منا إياه حيث
قالَ في مناجاته معنا وعرض حاجاته إلينا رَبِّ يا من ربيتني بمقتضى لطفك وجودك وأعطيتني من مواهبك ما لم تعط أحدا من خلقك اغْفِرْ لِي ذنبي فاعف عنى زلتى وارحمني بسعة رحمتك وجودك وَبعد ما غفرتنى ومحوت عنى معصيتي هَبْ لِي مُلْكاً كما وهبتني قبل هذا وخصصنى به بمقتضى جودك وإحسانك علىّ إذ لا يَنْبَغِي ولا يليق بشأنك وبمزيد لطفك وإحسانك ان تعطيه لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إذ لا راد لفضلك ولا مانع لعطائك إِنَّكَ أَنْتَ المحسن الْوَهَّابُ المنحصر المقصور على إعطاء عموم المواهب والكرامات بلا عوض ولا غرض إذ لا معطى سواك ولا مفضل غيرك وبعد ما توجه إلينا وتضرع نحونا على وجه الانابة والخضوع والتذلل والخشوع آتينا ملكه وأجرينا حكمه كما كان
فَسَخَّرْنا لَهُ بدل ما مسح من الصافنات الجياد لتعظيم أمرنا وقوة حكمنا الرِّيحَ بعد ما ابتليناه وقبلنا توبته وجعلناها مقهورة له محكومة بحكمه بحيث تَجْرِي بِأَمْرِهِ منقادة له رُخاءً لينة هينة بلا تضعضع وتزعزع يتعب منه الراكب حَيْثُ أَصابَ اى تجرى الريح بامره الى أىّ صوب أراد وجانب قصد
وَايضا قد سخرنا له الشَّياطِينَ وجعلناهم منقادين لحكمه كُلَّ بَنَّاءٍ منهم سيبنى له ابنية عجيبة وقصورا مشيدة منيعة وحصونا محكمة بحيث لا يسع للانس ان يعمل مثلها وَكذا كل غَوَّاصٍ منهم ليغوص لأجله في لجج البحار ويستخرج بخزانته من اللئالئ النفيسة ما لا يعد ولا يحصى
وَآخَرِينَ من الشياطين وهم المردة الممتنعون عن الإطاعة والانقياد قد جعلناهم مُقَرَّنِينَ مشدودين محبوسين فِي الْأَصْفادِ اى القيود والأغلال المضيقة بمقتضى امره وحكمه. ثم قال سبحانه امتنانا عليه وتنبيها على تعظيمه وتكريمه
هذا المذكور من الحكومة والخلافة والتسخيرات السالفة عَطاؤُنا عليك يا من اصطفيناك لوراثة النبوة والخلافة فَامْنُنْ منه لمن شئت واجعل حق المستحقين موضعه أَوْ أَمْسِكْ لنفسك
ولا تعط أحدا يعنى لك الخيار والاختيار في المنع والإعطاء بِغَيْرِ حِسابٍ منا عليك وسؤال عن فعلك إذ امره مفوض إليك
وَكيف لا إِنَّ لَهُ اى لسليمان عليه السلام عِنْدَنا وفي ساحة عز حضورنا لَزُلْفى قربة ودرجة قريبة من درجات الوصال وَحُسْنَ مَآبٍ اى خير مرجع ومنقلب من مراتب التمكن في التوحيد والتقرب في مقر القبول
وَاذْكُرْ يا أكمل الرسل عَبْدَنا أَيُّوبَ هو ابن عيص بن اسحق وامرأته ليا بنت يعقوب اضافه سبحانه الى نفسه لكمال رضاه منه ولطفه معه حيث صبر على عموم ما مضى عليه من بلائه وجرى عليه من قضائه وشكر على جميع نعمائه وآلائه ولم ينقص من إخلاصه حالتي السراء والضراء شيء واذكر يا أكمل الرسل كمال تصبر أخيك أيوب وإخلاصه في توجهه إلينا للمتذكرين المعتبرين من أمتك كي يتذكروا من قصته ويتخلقوا من تصبره وتمكنه في مقر التفويض والتسليم
إِذْ نادى رَبَّهُ الذي رباه بين الخوف والرجاء وانواع العناء والعطاء اختبارا لكمال اصطباره ووقاره بما جرى عليه من مقتضيات الإمكان حين اضطراره الى الالتجاء نحو ربه والتضرع اليه أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ اى قد نفخ اللعين في فىّ وأحاط ضرر نفخه جميع أجزاء بدني بحيث لم يبق منى عضو لم يلحقه ضرر من شؤم نفخه وعذاب شديد مؤلم مزعج وبالجملة قد اضطرني هجوم العناء ونزول انواع المحن والبلاء الى بث الشكوى نحوك يا مولاي فانا عبدك وعلى عهدك ما استطعت وما توفيقي الا بك وما ثقتي الا عليك فارحمني بسعة رحمتك إذ لا راحم سواك ولا مغيث غيرك وبعد ما استغاث بنا مخلصا مضطرا راجيا الاجابة والقبول قد أدركته العناية وشملته الرحمة والكرامة من لدنا حيث قلنا له ملهمين إياه
ارْكُضْ واضرب بِرِجْلِكَ على الأرض فركض امتثالا للأمر الوجوبي فنبعت عين جارية ثم قلنا له تعليما وتنبيها هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ يبرد ويبرئ ظاهر جسدك وجلدك من الحرارة العارضة لبدنك من شؤم نفث عدوك الذي خلق من عنصر النار وَشَرابٌ شاف لباطنك من الداء الذي عرض عليك من انحراف مزاجك بسبب خروج اخلاطك عن الاعتدال الفطري بشؤم نفخه وبعد ما سمع أيوب ما سمع اغتسل منه فشرب وبرئ من المرض ظاهرا وباطنا وَبعد ما قد حصل له الصحة والنظافة عناية منا إياه وسقط ساجدا نحونا حامدا لنا شاكرا لأنعمنا مناجيا معنا مخلصا متضرعا
وَهَبْنا لَهُ تتميما لكمال لطفنا إياه وعنايتنا معه أَهْلَهُ اى جميع من مات من أولاده بسقوط السقف وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ يعنى بل وهبنا له إحسانا عليه وامتنانا منا إياه مثل اهله مع اهله وانما فعلنا معه كذلك بعد ما قد ابتليناه واختبرناه ليكون رَحْمَةً مِنَّا إياه وعظة وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ الذين يتذكرون بقصته بعده ويتخلقون بأخلاقه ليفوزوا بما فاز به
وَبعد ما صححناه من الأسقام ووهبنا له اهله وماله وزدنا عليه مثله تفضلا منا إياه أمرناه ثانيا تعليما له بان يتدارك قسمه وحلفه الذي قد حلف في مرضه حين ذهبت امرأته ليا او رحمة بنت أفرائيم بن يوسف لحاجة لها فابطأت قائلا ان برئت عن مرضى لأضربنك مائة جلدة وقلنا له تعليما خُذْ بِيَدِكَ لتدارك حلفك ضِغْثاً حزمة مشتملة على مائة اغصان صغار فَاضْرِبْ بِهِ اى بالضغث امرأتك مرة بحيث وصل اثر جميع ما في الحزمة من الاغصان إليها وَلا تَحْنَثْ حينئذ في حلفك فحللنا يمينك بها عناية منا لك ولا مرأتك فصارت هذه رخصة شرعية باقية في شرائع الأديان الى الآن وكيف لا نزيل شكواء ولا نحسن اليه ولا نجزيه احسن الجزاء إِنَّا وَجَدْناهُ
اى أيوب عبدا صابِراً لجميع ما هجم عليه من انواع البلايا المتعلقة بماله وأولاده وبدنه وبالجملة نِعْمَ الْعَبْدُ عبدنا أيوب الصبور الصبار المسلم المفوض بلا جزع وتزعزع فكيف يجزع إِنَّهُ أَوَّابٌ رجاع إلينا متشمر نحونا في عموم أوقاته وحالاته طالب للفناء فينا والبقاء ببقائنا
وَاذْكُرْ يا أكمل الرسل عِبادَنا الذين هم أجدادك واسلافك إِبْراهِيمَ وَابنه إِسْحاقَ وَسبطه يَعْقُوبَ واذكر من شمائلهم الجميلة وخصائلهم الحميدة ليتعظ من سماعها ذوو العبرة والاعتبار من المؤمنين ويقتدون بمآثرهم لأنهم قد كانوا أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ اى ذوى القوة في الطاعة والبصيرة في مراسم الدين ومعالم التوحيد واليقين ولهم التمكن في مقر المعرفة والوصول الى درجات التجريد والتفريد ولا بد للذين يلونهم ان يقتدوا بهم ويسترشدوا من أخلاقهم وآثارهم ويتصفوا باوصافهم كي يفوزوا بمعارفهم وينكشفوا بمكاشفاتهم ومشاهداتهم لأنهم قدوة اصحاب التوحيد وزبدة ارباب الكشف والشهود وكيف لا
إِنَّا من مقام عظيم جودنا معهم أَخْلَصْناهُمْ وجعلناهم مخصوصين بِخالِصَةٍ اى بخصلة خالصة عن كدر التعلقات الناسوتية خالية عن شوب مقتضيات القوى البشرية العائقة عن التحقق بمرتبة اللاهوتية ألا وهي ذِكْرَى الدَّارِ الآخرة التي هي مقام التمكن في مقر التوحيد ومحل الانكشاف بسرائر الوحدة الذاتية وسريانها في ملابس الأسماء والصفات المقتضية للتعدد والتكثر
وَبالجملة إِنَّهُمْ اى أولئك الأنبياء العظام الساعين لطلب الخير في طريق الدين ورتبة اليقين عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ المختارين المنتخبين لحمل أعباء الرسالة الْأَخْيارِ المنتخبين الصالحين للاتصاف بسرائر التوحيد واليقين
وَاذْكُرْ ايضا يا أكمل الرسل جدك إِسْماعِيلَ ابن ابراهيم الخليل وتذكر تصبره ورسوخه في مقام التفويض والتسليم راضيا بما جرى عليه من مقتضيات حكم ربه مع انه لم يبلغ الحلم وَاذكر ايضا الْيَسَعَ هو ابن اليحطوب استخلفه الياس النبي عليه السلام على بنى إسرائيل ثم استنبئ وَذَا الْكِفْلِ هو ابن عم اليسع المذكور او بشر بن أيوب قيل انما لقب به لأنه فرّ اليه مائة نبي من بنى إسرائيل فآواهم وكفلهم وَكُلٌّ اى كل واحد من الأنبياء المذكورين معدود عندنا مِنَ الْأَخْيارِ الأبرار مثبت في حضرة علمنا ولوح قضائنا من زمرتهم
هذا الذي تلى عليك من الأمر بتذكير أولئك الثقات الكرام ذِكْرٌ جميل واثبات شريف وكمال لهم انما ذكرناهم وأمرنا بذكرهم يا أكمل الرسل تنبيها على جلالة قدرهم وعظم شأنهم وَبالجملة إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ المجتنبين عن محظوراتنا المتصفين بمأموراتنا الطالبين لمرضاتنا الهاربين عن مساخطنا وانتقاماتنا لَحُسْنَ مَآبٍ عندنا وخير منقلب ومتاب في كنف حفظنا وجوارنا وساحة عز قبولنا
جَنَّاتِ عَدْنٍ عطف بيان لحسن مآب وهي عبارة عن درجات القرب الى الوحدة الذاتية وتجددات التجليات الشهودية على ارباب الكشف والعيان ولكمال تحفظهم عن مقتضيات القوى ومشتهيات الهوى وخلوصهم في التوجه نحو المولى قد صارت الجنات المذكورة مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ مفتوحة الطرق واضحة السبل بالنسبة إليهم يدخلون فيها من كل باب بلا منع وحجاب وبعد دخولهم فيها وتحققهم دونها قد صاروا
مُتَّكِئِينَ فِيها متمكنين على ارائك القبول وسرر الإخلاص ولهم فيها ما تشتهي قلوبهم من المعارف المتجددة بتجدد التجليات الحبية المنبعثة من حضرة الرحموت إذ يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ من انواع ما يتفكهون ويتلذذون علما وعينا وحقا وَشَرابٍ يشربون من رحيق الحق وكأس التحقيق ولا يردون
وَ
يصور عِنْدَهُمْ من أعمالهم المقبولة وأحوالهم المرضية ومقاماتهم العلية في سلوك طريق التوحيد ازواج أبكار قاصِراتُ الطَّرْفِ عليهم بحيث لا ينظرن الى غيرهم أَتْرابٌ احداث كلهن مستويات في السن ليس فيهن تفاوت لصغر ولا كبر بل كلهن على كمال اللطافة والعدالة إذ كل ما فيها انما هو على كمال الاعتدال وبعد ما تمكنوا فيها وترفهوا بنعمها قيل لهم من قبل الحق امتنانا عليهم وتشويقا
هذا الذي بين أيديكم من النعم المقيمة واللذة الدائمة ما تُوعَدُونَ بألسنة الكتب والرسل لِيَوْمِ الْحِسابِ اى لأجله او فيه إذ لا وصول إليها الا بعد الحساب. ثم قال سبحانه إظهارا لكمال قدرته على عموم الانعام والانتقام
إِنَّ هذا المذكور لَرِزْقُنا المعد لخواص عبادنا المنجذبين إلينا بانخلاعهم عن لوازم هوياتهم الباطلة وعن مقتضيات تعيناتهم العاطلة من المآكل والمشارب والمناكح الفانية فنستبدل لهم بدلها رزقا معنويا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ اى لا انقطاع له أصلا خذ
هذا ايها المتشمر نحو الحق والراغب الى ما عنده من موائد الانعام والإفضال وكما تفضلنا على المطيعين بأنواع التعظيم والتنعيم وكرمناهم بأصناف الكرامة والتكريم قد انتقمنا ايضا عن العاصين الجاحدين وَبالجملة إِنَّ لِلطَّاغِينَ الذين طغوا علينا بالخروج عن مقتضيات حدودنا الموضوعة فيهم المنبهة الى مبدأهم ومعادهم لَشَرَّ مَآبٍ وأسوأ منقلب ومتاب على عكس المطيعين المتقين يعنى
جَهَنَّمَ البعد والخذلان وجحيم الطرد والحرمان يَصْلَوْنَها ويدخلون فيها بأنواع الحسرات والزفرات بين اصناف العقارب والحيات وانواع الهوام والحشرات المصورة لهم من سيئات أعمالهم التي قد أتوا بها في دار الاختبار ونشأة الاعتبار وبالجملة فَبِئْسَ الْمِهادُ والفراش مهد اصحاب الجحيم وفراشهم
هذا منقلبهم ومآبهم ثم لما دخلوا في النار قيل في حقهم من قبل الحق مخاطبا لخزنة جهنم فَلْيَذُوقُوهُ اى كل واحد واحد منهم نزلا لهم شرابا وهو حَمِيمٌ اى الماء الحار الذي يشوى وجوههم ويحرق أمعاءهم قد سخنه نيران شهواتهم التي أتوا بها على خلاف ما امر الله وحكم عليه وَغَسَّاقٌ اى الماء البارد الزمهريرى الذي ينجمد في فيهم بل في أجوافهم قد برده واجمده كمال بلادتهم وجهلهم بالله الحكيم العليم وغفلتهم عما وضع سبحانه من بينهم الحدود والاحكام الصادرة عن محض الحكمة المتقنة المتعلقة لإصلاح احوال عباده
وَآخَرُ مفردا ايضا مِنْ شَكْلِهِ اى من جنس الشراب المذوق ومثله او أخر جمعا من أنواعه واصنافه على القرائتين أَزْواجٌ اصناف وانواع بعضها أسوأ من بعض ليكون عذابا فوق عذاب ثم لما اقتحم القادة من اصحاب النار وادخلوا أنفسهم عليها خوفا من الموكلين الذين يسوقونهم نحوها بمقامع من حديد وازدحم عقيبهم اتباعهم على الفور فضيقوا على القادة مكانهم فصرخوا على الخزنة من تضييقهم قال الخزنة لهم بعد ما سمعوا صراخهم وصيحتهم
هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ معقبين مضيقين عليكم فالتفتوا أثرهم فقالوا هؤلاء اتباعنا لا مَرْحَباً بِهِمْ ولا يوسع عليهم إِنَّهُمْ ايضا صالُوا النَّارِ اى داخلوها أمثالنا ثم لما سمع الاتباع قول القادة والرؤساء هذا
قالُوا على سبيل المعارضة والمخاصمة بَلْ أَنْتُمْ ايها الضالون المضلون أحقاء ان يقال لكم لا مَرْحَباً بِكُمْ إذ أَنْتُمْ بشؤم اضلالكم واغرائكم قد قَدَّمْتُمُوهُ لَنا اى الكفر الذي هو سبب دخول النار وابدعتموه أنتم أولا بيننا ثم اغويتمونا أنتم بتغريركم وتضليلكم حتى كفرنا نحن مثلكم بسعيكم وابتلينا بها أمثالكم فَبِئْسَ الْقَرارُ اى بئس مقرنا ومقركم اليوم جهنم الطرد وسعير الحرمان وبعد ما بالغ الاتباع في تعيير القادة وتشنيعهم تضرعوا نحونا داعين على
رؤسهم حيث
قالُوا رَبَّنا يا من ربانا على فطرة التوحيد وأشركنا بك بشؤم هؤلاء المشركين المضلين نرجو اليوم من عدلك مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا ودلنا عليه بتغريره وتضليله فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً اى ضعف عذابنا فِي النَّارِ إذ نحن ضالون وهم الضالون المضلون
وَقالُوا اى الرؤساء القادة بعد ما قد توغلوا في انواع العذاب على سبيل التحسر والتقريع على أنفسهم ما لَنا أى شيء عرض لنا ولحق بأبصارنا حيث لا نَرى رِجالًا فقراء ارذالا أذلاء بيننا قد احاطتهم انواع الفاقة والعناء لذلك قد كُنَّا نَعُدُّهُمْ ونخصهم مِنَ جملة الْأَشْرارِ الأرذال الساقطين عن درجة الاعتبار وكنا قد بالغنا في طردهم وذبهم وزجرهم حيث (٢)
أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا واستهزأنا بهم تهكما وتقرعا وبالجملة لا نرى اليوم منهم أحدا في النار أهم ما يدخلون النار كما هو زعمهم ودعواهم أَمْ هم ايضا داخلون لكن قد زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ اى قد مالت عن رؤيتهم أبصارنا من شدة اهوالنا واحتجبوا منا يعنون فقراء المسلمين الذين قد استرذلوهم واستهزؤا بهم. ثم قال سبحانه على سبيل المبالغة والتأكيد
إِنَّ ذلِكَ الذي قد حكينا لك يا أكمل الرسل من اهل النار لَحَقٌّ صدق ثابت مطابق للواقع لا بد ان يتكلموا به حين دخولهم فيها وبالجملة ما هذا الذي سمعت الا تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ في النار على الوجه الذي ذكر ثم لما بالغ سبحانه في حقية ما حكى من اهل النار امر حبيبه صلّى الله عليه وسلّم بان بلغ للأنام التوحيد المبعد لهم عن النار والعذاب المؤبد فيها فقال
قُلْ يا أكمل الرسل للمشركين المستحقين لعذاب النار انقاذا لهم عنها ان قبلوا منك قولك إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ لكم باذن الله ووحيه عن أمثال ما ذكر من العذاب في النشأة الاخرى وَاعلموا انه ما مِنْ إِلهٍ يعبد بالحق ويرجع اليه في الخطوب ويلتجأ نحوه في النوائب والمصائب إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الأحد الفرد الصمد الحي القيوم الذي لا شريك له في الوجود ولا شيء غيره في الشهود الْقَهَّارُ للاغيار مطلقا إذ كل شيء هالك الا وجهه له الحكم واليه ترجعون رجوع الاظلال الى الشمس والأمواج الى البحر وكيف لا هو سبحانه بتوحده واستقلاله
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا اى مظهر كل ما في العلو والسفل وكذا ما في حشوهما والمحاط بهما إذ الكل منه بدأ واليه يعود وكيف لا وهو الْعَزِيزُ الغالب على امره في خلقه وحكمه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد الْغَفَّارُ الستار المحاء لهويات الأغيار وهياكل الاظلال الغير القار
قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما قد بينت لهم توحيد الحق واستقلاله في تصرفاته وتدبيراته هُوَ اى الذي قد بلغت لكم بوحي الله من احاطة الحق وشموله بجميع ما لمعت عليه بروق تجلياته نَبَأٌ عَظِيمٌ وخبر خطير قد أخبركم به الحق ونبهكم عليه من كمال أعطافه واشفاقه لينقذكم به عن عذابه المترتب على كفركم وشرككم أَنْتُمْ من كمال توغلكم في الجهل والضلال عَنْهُ مُعْرِضُونَ مع انه انفع لكم وأصلح بحالكم وهو سبحانه اعلم بشأنكم منكم وبمقتضى علمه بحالكم انزل كتابه عليكم ليرشدكم الى جهة معرفته ووجهة توحيده وما على الا تبليغ ما اوحى الى كسائر الرسل إذ
ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ اى ما حصل عندي وما ثبت لدى من علم متعلق منى بِالْمَلَإِ الْأَعْلى اى الملائكة السماويين سيما وقت إِذْ يَخْتَصِمُونَ في خلافة آدم ونبوته ونيابته بل قد الهمنى الله بوحيه عموم ما جرى بينهم من الحجج والمعارضات الواقعة في تلك الحالة وفي افحامهم بعد جدا لهم واصطفاء الله إياه وأمرهم بسجوده تعظيما له وتكريما وبالجملة
إِنْ يُوحى اى ما يوحى إِلَيَّ من عند ربي إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ
اى لانما انا منذر لكم من ان يفتنكم الشيطان وجنوده المرتكزة في هياكلكم فيضلونكم عن سبل السلامة وطرق الاستقامة الموصلة الى وحدة ذات الحق وكمال أسمائه وصفاته اذكر يا أكمل الرسل وقت
إِذْ قالَ رَبُّكَ الذي رباك على مقتضى الجمعية المنتهية الى الوحدة الذاتية التي قد جئت أنت لإظهارها وإيضاح منهجها لِلْمَلائِكَةِ المهيمين بمطالعة وجهه الكريم على سبيل المشورة معهم ليظهر كرامة آدم وجلالة قدره إِنِّي بمقتضى بدائع صنعتي وغرائب حكمتى وقدرتي خالِقٌ اى مظهر موجد بَشَراً اى جسدا متخذا مِنْ طِينٍ ليكون مرآة لي يتراءى عموم أوصافي وأسمائي
فَإِذا سَوَّيْتُهُ وعدلت قالبه على الوجه الذي جرى في حضرة علمي ولوح قضائي وَنَفَخْتُ فِيهِ بعد تسويته وتعديله مِنْ رُوحِي اى أفضت من حياتي ومن مقتضيات أسمائي وصفاتي ليستحق بخلافتى ونيابتي ويظهر فيه ومنه أسمائي وصفاتي فَقَعُوا لَهُ وخروا عنده أنتم ايها الملائكة تعظيما له وتكريما ساجِدِينَ متذللين له واضعين جباهكم على تراب المذلة والهوان دونه ثم لما سمع الملائكة منه سبحانه ما سمعوا
فَسَجَدَ له الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ امتثالا للأمر الوجوبي
إِلَّا إِبْلِيسَ المعدود من عدادهم المنخرط في سلكهم قد اسْتَكْبَرَ عن سجوده وتعظيمه وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ بترك الانقياد للأمر الوجوبي الإلهي ثم لما امتنع إبليس عن اطاعة آدم وتعظيمه مع ورود الأمر الوجوبي من قبل الحق
قالَ سبحانه معاتبا عليه مناديا له سائلا عن سبب امتناعه يا إِبْلِيسُ المستكبر المتخلف عن أمرنا ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ اى أى شيء منعك عن السجود المأمور به لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ وصورته بقدرتي وبمقتضى حكمتى وبكمال حولي وقوتي ليكون مرآتى ويليق بخلافتى وخلتي أَسْتَكْبَرْتَ أنت عن اطاعة حكمنا وامتثال أمرنا أَمْ كُنْتَ أنت قد احتسبت نفسك مِنَ الْعالِينَ المعتوقين المتفوقين عليه بحيث لا تجوز لنفسك ان تذلل عنده وتنقاد له وبعد ما سمع اللعين منه سبحانه ما سمع من الخطاب الهائل المشتمل على انواع العتاب
قالَ اللعين بعد ما اختار الشق الثاني من الترديد أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ صورة ومادة إذ قد خَلَقْتَنِي أنت بكمال قدرتك مِنْ نارٍ هي أعلى العناصر وارفعها قدرا ومكانا وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ هو أسفل العناصر وارذلها قدرا وأدناها مكانا والأمر بسجود الأفضل الأعلى للارذل الأدنى غير موافق ومطابق لحكمتك المتقنة يا ربي ثم لما قد خرج إبليس عن ربقة الإطاعة التعبدية واتى بالحجة الاقناعية الجدلية
قالَ سبحانه مغاضبا عليه من كمال غيرته وقهره من اين يطيق احد من مظاهره ومصنوعاته ان يخالف امره ويحتج عليه اذله الحجة البالغة فَاخْرُجْ مِنْها من رتبة الملكية وأعلى مرتبة العبودية فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مرجوم مطرود عن سعة رحمتنا وشرف عز حضرتنا
وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي اى طردي وتبعيدى عن ساحة عز قربتي مستمرة عليك إِلى يَوْمِ الدِّينِ وبعد ذلك عذابك مؤبد في النار وأنت مخلد فيها ابد الآبدين ثم لما قنط إبليس عن روح الله ومن سعة رحمته
قالَ بعد ما ايس مناجيا رَبِّ يا من رباني على فطرة الإطاعة والانقياد فعصيت أمرك بشؤم عجبي ونخوتى فَأَنْظِرْنِي وأمهل على بعد ما قد بعدتنى عن كنف قربك وجوارك وطردتني عن محل كرامتك وجودك إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
قالَ سبحانه فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو وقت النفخة الاولى وبعد ما انظره سبحانه وأنجح مسئوله
قالَ إبليس مقسما مبالغا في التهديد لبنى آدم فَبِعِزَّتِكَ وجلالك لَأُغْوِيَنَّهُمْ اى لأضلن بنى آدم عن جادة التوحيد وصراط العدالة
أَجْمَعِينَ إذ لا يسع لهم وليس في وسعهم ان يسدوا سنن مداخلى فيهم وطرق مخادعتي إياهم
إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ألا وهم المؤمنون الموقنون المخلصون الذين قد أخلصوا في عموم أعمالهم وأحوالهم معك واعتصموا بحبل توفيقك راجين من رحمتك ورضوانك هاربين مرعوبين عن مقتضى سخطك وغضبك بلا ميل لهم الى ما يلهيهم ويشغلهم عنه
قالَ سبحانه في جوابه اظهار الكمال الاستغناء والقدرة فَالْحَقُّ الثابت المثبت ما قلت لك في هذه النشأة يا ملعون من الطرد والتبعيد وانظارك فيما بينهم للاختبار والاعتبار وَالْحَقَّ أَقُولُ اى أقول الحق ايضا فيما يترتب على اغرائك واغوائك إياهم واتباعهم لك في هذه النشأة وكذا ما يترتب على متابعتهم إياك في النشأة الاخرى والكل هو هذا والله بمقتضى عزتي وجلالي
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ المعدة لأصحاب الشقاوة الازلية من المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية الضالين عن الصراط السوى مِنْكَ اى من جنسك الذي هو الجن وَايضا مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ اى من جنس الانس أَجْمَعِينَ تابعا ومتبوعا ضالا ومضلا
قُلْ يا أكمل الرسل بعد ما بلغت ما يوحى إليك من الحق الصريح على وجهه بلا خبط وخلط وبلا زيادة ونقصان كلاما ناشئا عن محض الحكمة والعدالة ما أَسْئَلُكُمْ ولا اطلب وأطمع منكم ايها المكلفون عَلَيْهِ اى على تبليغى إياكم ما أمرت بتبليغه من ربي مِنْ أَجْرٍ اى جعل ومال على عادة اصحاب التلبيس من المتشيخة الذين هم من اعونة إبليس وانصاره وَما أَنَا ايضا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ المتصنعين بخصائل ليس في أمثالهم على سبيل التلبيس والتدليس بل
إِنْ هُوَ اى ما هو اى القرآن المنزل على إِلَّا ذِكْرٌ اى عظة وتذكير لِلْعالَمِينَ من الثقلين المجبولين على فطرة الدراية والإيقان المكلفين بطرق الهداية والايمان وسبل التوحيد والعرفان
وَلَتَعْلَمُنَّ أنتم أيها المتذكرون الوحى والقرآن العظيم والمعرضون عنه نَبَأَهُ اى صدق اخباره وحقية مواعيده ووعيداته وما يترتب عليها وعلى قصصه المذكورة وأحكامه الموردة فيه وكذا ما ينكشف عندكم ولاح لديكم من حكمه ورموزه وإشاراته ومعارفه وحقائقه بَعْدَ حِينٍ اى بعد انخلاعكم من لوازم ناسوتكم بالمرة واتصافكم بخلعة اللاهوت في النشأة الاخرى حين تبلى السرائر وتكشف الضمائر وارتفعت الحجب والأستار فاعتبروا الآن يا اولى الأبصار وذوى الاعتبار بما فيه من السرائر والأسرار
خاتمة سورة ص
عليك ايها السالك المتدبر في رموزات القرآن والمتأمل المتدرب في درك إشاراته الخفية تحت أستار ألفاظه وأحكامه المتعلقة لتهذيب الظاهر والباطن وتصفية السر عن التوجه نحو الغير مطلقا ان تعرف أولا ما في نفسك من اعونة الشيطان وجنوده الامارة بالسوء المزعجة لك الى قبول مأموراتها المقتضية للبعد عن جادة العدالة التوحيدية الإلهية التي هي صراط الله الا قوم وتجاهد معها مهما أمكنك واعانك الحق ومكنك ووفقك لتسخيرها الى ان صارت مغلوبة لك مقهورة تحت قهرك حسب ما يسر الله ووفقك على غلبتك إياها ثم بعد ذلك نبع من صدرك ينابيع الحكم المترشحة من بحر الوحدة الذاتية وجرى على لسانك ما أراد الله وشاءه بعد ما افناك عنك وابقاك ببقائه وصار سبحانه قلبك وسمعك وبصرك وجميع قواك وحينئذ قد اجتمع الفرق وارتبق الفلق واتحد الظهور والبطون وانطوى الأزل والأبد واتصل الاول والآخر والظاهر والباطن وبالجملة هو بكل شيء عليم ليس كمثله شيء ولا معه حي وهو الحي القيوم وحده وهو السميع العليم لا غير معه
Icon